المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قتيل الأمل



الضيف حمراوي
07/03/2008, 01:53 PM
قتيل الأمل


قيل أنه مات بسكتة قلبية ، وقيل بجلطة دماغية ، وقال آخرون إنه مات نتيجة لإكثاره من تناول أدوية مهدئة للآلام، وهناك من قال أنه انتحر بتناوله لمسحوق سام من أزهار الدفلة بعد عودته من العاصمة مباشرة...
كانت جثته ممددة بقرب النبع ، تحت الأشجار التي بدأت أغصانها تفتر عن وريقات طرية في أولى أيامها ،كانت مغطاة إلى حد كبير بغلالة من أزهار اللوز المتساقط ،وكان وجهه يبدو عليه حزن كثيف كأنه عاد من رحلة طويلة شاقة إلى أزمنة سحيقة في عوالم غائرة عميقة.
كان سعيد سعيدا، رغم فراغ الجيب واليد، ورغم الحاجة وجفاف المحيط.
كان سعيد سعيدا لأنه غرس شجيرات لوز بالقرب من نبع الماء يوم مولد آمال وحيدته منذ سنوات ، وقد كبرت آمال وأثمرت شجيرات اللوز التي صارت شجرات يانعات باع من ثمرها بمبالغ مكنته من شراء تنورات لآمال وأحذية وسراويل و معاطف فرو ومحفظة جلدية.
ضحك سعيد، بل قهقه يومها ، كان يجلس متكئا إلى السور الترابي ، يسترجع طيف آمال تتهادى نحو ثانويتها سنا يشع ، تكتحل به أهداب الشروق،وقال : عندما يراها الناس في الشارع بعيدا عن هذا الكوخ سيجزمون غير حانثين أن والدها من أغنياء البلدة،ولو قيل لهم إنها ابنتي ووليدة هذا الكوخ لضحكوا وقهقهوا تماما مثلما أفعل أنا الآن.
آمال ، واللوزات وصحتي، تكفي لإسعاد جبل المرصاف بصخوره، لو قيض لجبل المرصاف أن يرزق بمثل ما رزقت به لرأيت صخوره تتناطح راقصات ، ولرأيت لها قلوبا نابضات، نشوى ضاحكات.
آمال يا ابنتي ،قبل أن تأتي كنت أشعر بنفسي غريبا عن هذه الأرض غربة الرياح العابرات اختار لها القدر مسارها فسالت تسعى لا مستقر لها ؛ ولما جئت صار المكان الذي فيه تلعبين وتمرحين وتنتشين هو الوطن والمقر وصار ثباتي به مصدا للرياح العاتيات.
جئت مندفعا كعاصفة تدور في شكل لولبي حول نفسها،تزدرد ولا ترد إلا الهشيم، وفي هذا المكان توقفت أسترد النفس لأعاود الرحيل، بنيت كوخا من قش وطين فثارت البلدية وثار الخواص استُنفِر الأمن والقضاء والقانون، يهددون،ويتوعدون كل بما يملك وبما لا يملك،بأني إذا لم أرحل فإني حتما سأسجن أو سأدفن، وكانوا كأغبياء يريدون دفع العاصفة للرحيل والرحيل طبعها لأنها تعرف أن كل الأرض لها وأنها إذا سكنت ماتت.
وجئت أنت يا آمال ، فتغيرت طباعي ،كَسرتُ أجنحتي وأنزلتُ أشرعتي،وشعرت أنني انس يمكن أن يأنس ويؤنس ،وألقيت لي في هذه التربة جذرا وبذرة ، صار لي جذر، وموقع،صارت هذه البعقة هي المآب والمرجع.فحفرت نبع الماء،وغرست أشجار اللوز فأزهرت وأثمرت ،وكبرت أنت ، وبك وبالكوخ صرت أنا مواطنا،بل صرت وطنيا،أحب هذا البلد الذي صار أجمل ،لأن لي فيه بنتا وبيتا تضاحكهما كل ربيع أشجار اللوز.فقير نعم ،مريض نعم ،لم أعد عاصفة، صرت خربة، صرت مقصفا للذكريات ،نعملكن لي آمال، وسأمتد في المستقبل، في الآتي أجيالا تتلوها أجيال، ستحملني أليها كما حملتها أنا من قبل آمالوقد صارت الآن في الجامعة،نشيطة مجدة معتزة بذاتها، قوية يافعة.
نهض، ضرب كفا بأخر يريد أن يسحق الكسل بينهما بلطمة واحدة مباغتة، وحمل فأسه انطلق صوب شجيرات اللوز ليقلب التربة حول جذورها وهو يردد : سأجمع كل ما استطعت من جوعي ، من عرقي ، من ألمي من جهدي، ومن جهد المحسنين وسأرسل إليك المال لتحققي ما تشتهين.
غابت آمال في الجامعة أشهرا ، خالها سنين،وهزه الشوق ، وضعضع أركانه الحنين، لصوتها "أبي"يزرع في خريف أيامه غيمات ،ويفتح أمامه شرفة ترمم نسماتها في جسمه هنات، ليتني أغمض وافتح فألقاك بحضني يا أمالي لكن هيهات.
لم يستطع سعيد أن يحتمل أكثر، فتش جيوبه،تلفت ، استدار ، استخرج ما وفر ، استعار و جمع مبلغا من المال .
أعرف أن الدراسة شاقة، وأن الجهد كثيف، وأن انعدام الفراغ منعها من زيارتي، وأنا لا شغل لي ، والمواصلات متوفرة ولم يبق إلا أن أفاجئها .
استدعى بقية من عاصفة فيه ،تحدى بها المرض و آلام المفاصل ، ونهض ذات صباح، والمبلغ في جيبه بالقرب من قلبه ، وضع برنوسه على كتفيه، وتأكد من متانة عكازه،وتوكل على الله.
وصل سعيد إلى الجامعة، سأل عن أمال قيل له:إنها في المكتبة .
قال : أعرف ذلك ولكني أريد أن أراها ، أنا والدها.
قالوا له أنهم سيرسلون في طلبها ، لكن المرسل عاد وهو يقول إنها غير موجودة وربما تكون قد خرجت وبإمكانه أن ينتظرها حتى تعود.
انتظر سعيد برهة ، مرت بجانبه طالبات في مثل سنها ، صاح يا بناتي ، عفوا ، ألا تعرفن آمال ابنتي وذكر لقبها.
قلن له هي في المكتبة، فتوسل إليهن أن يخبرنها بأن أباها قد جاء لزيارتها ؛ وأنه في انتظارها.
صعدن جاريات وعدنا مسرعات وقلن له: يا أبي الشيخ هل أنت متأكد من أنك والد آمال؟ قال نعم لماذا هذا السؤال؟
قلن له: يا أبي الشيخ أمال تقول أن أباها قد مات منذ زمن..
قال سعيد : إذن هي ليست آمال ابنتي ، ولكن صفنها لي أرجوكن.
فوصفنها له ، وكانت الأوصاف متطابقة ، اضطرب وتردد ، وهبت بداخله بقية من عاصفة ، فقال قدنني إليها يا بناتي لأتأكد.
وهو يصعد أدراج عمارة المكتبة، رآها تمرق هاربة تجري، رأته بهيئته القروية الريفية وهيكله المتهالك،و رآها بهيئة المسخ و الجحود والعدم ، ومنذئذ جف النبع ونام سعيد بين أحضان اللوزات .



الضيف حمراوي 7/03/2008