المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القادم من المنفى



ابومحمدالسوداني
06/03/2008, 07:18 PM
مثلما تأتي الطيور المهاجرة ، السابحة في ظلمة الليل وسكونه 00لتستقر في واحات الدفء والأمان 00تجد مكامنها في الفجر السافر بين ألأعشاب وأعواد القصب والبردي 0
يأتي الصباح بكل جديد 00بكل غريب , وفي أحضان ألأهل والأحبة بعد عناء الغربة وكلل الترحال 00تضع رحالها 0
الفجر يأتي 0، ويأتي نكرة 00يحمل انباء00بعضها أتراحا وأخرى مسرات 00انه ينبثق من المجهول 00من خلف ألأسوار ونهايات العالم المجهول 00لم يكن في الحسبان 00يفاجئك بالحضور 0
الخروج في الصباح الباكر 00الى طرقات المدينة الناعسة ، وأطيافها الحالمة 00تنبئك بمفاجئات00لم تكن في يوم على البال00
أعمدة النور الغافية تواً ، ومناقل الشاي التي بدأ دخانها يتصاعد ، ورشقات الماء من صانع المقهى لترطيب الجادة ، وعلى الرصيف شيخ ملتحف بالسواد 00راسه الحاسر ،وشعره
ألأبيض الذي يشبه نتف القطن ، وحاجباه الراقدتان على جفنيه لتستريح من تعب الغربة ، وتضاريس وجهه تعلمك بان الدهر قد ترك بصماته بوضوح0
ـ مددت يدي في جيبي لأستخرج قطعة نقود ـ حسبته محتاجا ـ وقبل أن اخرج القطعة أشار لي بالرفض 00وضع يده على صدره علامة الشكر وأشار لي بسبابته إلى السماء 00عرفت انه محتاج لله لا لغيره 00نظرت في وجهه وتمليت فيه ، لاح لي وميض من بريق عينيه00اني اعرفه لاشك في ذلك ، مضيت إلى عملي وأنا أفكر فيه 0
ـ إنني اعرفه 00نعم انه قابع في زاوية من زوايا الذاكرة 00في ركن مجهول من أركانها 00حفزتها كثيراً لكني لم افلح 00قلت لعلي على خطأ ، أو شبه لي فيه0
عدت إلى البيت منهكاً بعد إنهاء عملي 00جلست على أريكة الخشب القديمة ، خلعت حذائي واستلقيت عليها وأنا سارح أفكر برجل الرصيف 0
ـ قالت أمي : أراك متعباً , هائما ، هذا اليوم !
ـ قلت : نعم 00اني أحاول أن أتذكر ذلك الرجل الذي صادفته صباحا وأنا خارج للعمل 00 أعتقد أني شاهدته سابقاً 0
ـ قالت : لعلك تقصد ( العم نعمة ) ؟
قفزت من على الأريكة وأنا أردد : العم نعمة ؟!00 العم نعمة ؟!
ـ قالت وهي تبتسم :
ـ نعم لقد عاد من المنفى 0
فترة من الصمت 00ثم بدأت ذاكرتي تنشط وتخرج ما اكتنزته في السنين القاحلة00 من وجهه الممتلئ بالدم ، ونظراته الحادة ، وضحكته المدوية التي كانت تملأ الشارع 0
وأنا صغير ، وحينما كنت أعود من المدرسة ، أمر أمام دكانه وهو واقف في الحفرة المربعة ، والى جانبه الكورة الحجرية ، ومنفاخ الجلد ( الكير ) ومن خلفه كومة الحديد ، وأمامه كتلة ضخمة من الحديد يدعونها ( السندان ) ، ويقف قباله ابنه الذي كان يخلع قميصه أثناء العمل فتظهر عضلاته المفتولة 0
كنت أتسلى حينما انظر إليه وهو يدس حفنة من الفحم الحجري في الكورة المشتعلة ثم يداعبها بدفقات من الهواء الذي ينفثه منفاخ الجلد ( الكير ) وهو يضغط عليه ؛ ثم يدس قطعا صغيرة من الحديد في الكورة 00يخرج واحدة منها وهي تتلظى ، صفراء تتوهج ، تكاد تضيء المكان 00يضعها على السندان ، ويبدآن الضرب عليها بصورة متتالية ، فيحدث ذلك إيقاع منظما تطرب إليه نفسي فأبقى منصت اليه منسجما مع لحنه ، ثم يعيدها في الكورة ويخرج غيرها ، وبين الحين والآخر يأخذ
استراحة قصيرة ليحتسي قدح الشاي الذي كان ينتظره 0
سمعت الكثير عن ابنه البكر , ذلك البطل الذي كنت أتصوره وكأنه عملاق أسطوري ، عرفت عن بطولاته الكثير ، وعن السنين الطويلة التي قضاها في السجون ليس لشيء سوى انه كان (من المعارضة)0
في المساء كان يجتمع عنده عدد من الفلاحين من المزارع القريبة ومن بينهم أبي يشترون المناجل ، وسكاكين التكريب ، والفدادين ، وكانوا يتبادلون الأحاديث والقصص الشعبية ، ويضحكون 0
أغلق دكان العم نعمة ، ولم أكن اعرف سبب ذلك 00بقيت أراقبه أيام طويلة وهو مغلق وهكذا بقي حتى غاب في عالم النسيان ورقد بين طيات الذاكرة 0
في اليوم التالي ،وجدته كما كان في ألأمس جالسا على الرصيف0
سلمت عليه وسألته :
هل تعرفني يا عم ؟ رفع رأسه ونظر في عيني وقال :
كلا00من تكون ؟
قلت أنا احمد ، وأبي ( العراف ) 0
استبشر الرجل وقال :
رحم الله أباك كان صديقي، وأنا أول ما وضعت قدمي على
ارض الوطن ، سالت عنه 0
بادرته : وأين كنت يا عم ؟
قال : خمس وعشرون سنة في المنفى 00غائبون عن ألأهل ولأحبه 00كانوا يخافون منا أن تفسد الناس بأفكارنا !!
ـ وماذا ستفعل ألان ؟
ـ سأفتح محلي واعمل فيه 0
ـ حقاً !! أولك قوة على ذلك ؟ !
ـ نعم00ولدي وأحفادي 0
ـ آه ومن سيشتري منك ؟
ـ أصدقائي القدامى 0
ـ كلهم ماتوا0
ـ حتى أبنائهم وأحفادهم ؟
غمرتني نشوة من الفرح والأمل الآتي وأنا أودعه