المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حيرة يعقوب



ابومحمدالسوداني
06/03/2008, 07:06 PM
تقع قرية الشامات على بقعة من ألأرض الزراعية تزرع بالخضار وفيها بعض من الأجمات وشجيرات النخيل ، وهي تتألف من بيوتات مبنية بالطين أو القصب ، يسكنها رجال انحدروا من ظهر واحد ، تبعد عن الطريق العام بمسافة ليست قليلة ، وأن الممر الوحيد للوصول أليها يمر بمحاذاة حدود سياج المعسكر الجنوبي المحاط بأسلاك شائكة والذي أنشأ حديثا لتجثو فيه الطائرات السمتية المقاتلة بسبب قرب المنطقة من جبهات القتال الدائرة مع العدو 0
ترفد القرية بالدعة والأمان ، وتنعم بالشمس الدافئة والهواء العذب وتنام على أحلام متواضعة لا تتعدى أن تعيش بهدوء وتسعد بقضاء يوم في مركز المدينة للتبضع وتناول وجبة من كباب السوق والعودة بسعادة يغمرها الفرح والطمأنينة 0
تستيقظ نساء القرية في الصباح الباكر على صيحات الديكة لتوقد
التنور وتصنع الخبز الشهي الذي تفوح رائحته فتفتح النفس وتطلق الشهية وعلى بيوض الدجاج العربي وقيمر البقرة الأسترالية تنعم العائلة بوجبة إفطار شهية يتفرقون بعدها كل إلى
عمله 00 الأطفال إلى المدرسة والرجال إلى الحقل أو إلى معامل
الطابوق القريبة من القرية أو إلى المدينة للعمل هناك وتبقى النساء في البيوت لتنظيفها وتنظيمها ، ثم يخرجن جماعات لجلب الماء من النهر حاملات الأواني وملابس الغسيل مرورا بسياج المعسكر الجنوبي 0
الحاج ( محيبس )من رجال القرية ، يعمل حارسا في المدرسة التي تتطرف البيوت وبيته ملاصق لها وهو شخصية محبوبة من قبل الطلاب والمعلمين وأبناء القرية ، تعيش معه أمه وزوجته وأبنته ( نوفه ) وهي في دور البلوغ وأبنه الصغير الطالب في الابتدائية 0
على غير عادتها ذهبت نوفه عصرا لجلب الماء من النهر بعد أن وجدت الماء قد شح في البيت لأنها كانت في الصباح مع أبيها في سوق المدينة ، ذهبا للتبضع وشراء الملابس لها ولجدتها وأمها وكان يوما جميلا بالنسبة لها لتمتع عينيها بالمارة والسلع المعلقة على واجهات المحلات والإضاءة المبهرة وعادت مغمورة بالفرح والغبطة 0
ترجت من بعض صويحباتها مرافقتها للنهر لكنهن رفضن ذلك لأنهن ملأن الماء صباحا وأن الوقت عصرا ، حزمت أمرها وتناولت إناء الماء ومضت لوحدها 00 أوصتها أمها بأن تتعجل
وتحث السير ولا تتأخر لأن الوقت يزف 00ذهبت مسرعة ، وأخذت الأم تراقبها حتى ابتعدت وغابت بين الشجيرات 00 مضى وقت طويل والأم تنتظر عودتها00 انتظرت كثيرا لكنها لم تعود ولما نزلت الشمس من برجها العاجي وانحدرت خلف قوس الأفق إلى عشها ومضجعها الدافئ ، أخذ اليأس ينسغ في لب الأم مما دعاها إلى إخبار زوجها الذي كان في باحة المدرسة جالسا 00 نظر الرجل إلى الأفق البعيد إلى الطريق الذي تسلكه آملا بأن تلوح له وهي قادمة من بعيد 00 دخل البيت وأخذ عصاه وتبعها بخطوات سريعة لعله يصادفها في الطريق إلا أنه أنهى الطريق ووصل إلى النهر ولم يجدها 00 تناشد عنها هناك لكن لا أحد شاهدها 00 عاد إلى الطريق وتفحصه ، نظر إلى المساحات في جميع الاتجاهات لكن لا شيء 00 لا شيء وكأن الأرض ابتلعتها 00 أمست الشمس تتوارى خلف التلال البعيدة وأخذت الحيرة تراود الرجل 00 ماذا يفعل ؟00 ماذا يصنع ؟ ماذا يقول ؟
عاد إلى البيت ولما علمت الأم كادت أن تصرخ إلا أنه أدركها وكتم أنفاسها وأمرها بالصبر فالصباح رباح ، ولعلنا نهتدي إلى خبرها
وأن لا تتعجل المصائب 00 ظلوا مستيقظين تلك الليلة لم يناموا وهو يصبر حاله بتدخين السكائر وبين الحين والآخر يقوم فينظر في محيط الدار فيتراءى له شبحها واقفة أمامه يعيد النظر بتركيز
مرة أخرى فيتلاشى عنه ، في الوقت الذي بقيت الأم تأن بصمت
حتى ذهب ثلثا الليل يأسوا منها 00 عاد إلى الموقد وهي لا تغيب عن تفكيره 00 ويتساءل في نفسه : ترى أين أنت الآن يا نوفة ؟ لقد نام القطا ، وهدأ الحمام في أعشاشه ، وأنت أين ؟ في بطون الماء ؟ أم في طيات التراب ؟ أين ؟! 00 أين ؟! 000
لاحت نجمة الصباح وهو يترقب ظهورها وما أن لمعت تتبع أثر ابنته 00وصل إلى النهر وأنحدر مع جاريه حتى وصل السدة جلس هناك برهة ثم عاد أدراجه ، سأل عنها هناك وطلب من صيادي الأسماك البحث عنها في شباكهم ، وكانوا يعتقدون أن الغريق يطفو بعد ثلاثة أيام ، مضت الأيام الثلاثة ولم يظهر لها أي أثر ، بقي على هذا الحال لم يهدأ له بال ، عاد في اليوم الثالث واليأس يمزقه ، وفي طريقه إلى البيت مساءا لاحظ تغييرا في الحشائش وشجيرات العاقول ، آثار سحق وقطع وآثار أقدام كثيرة قد نفشت في المكان وغيرت فيه تتبع الأثر ودقق فيه عرف أنها ليست آثار حيوانات وإنما هي أقدام إنسان ثم تقدم أكثر فوجد آثار أرجل تسحب حتى وصل إلى سياج المعسكر وجد فردة من
حذاء يعرفه ألتقط الحذاء وفكر مليا ثم لفه بخرقة وطفق عائدا إلى البيت وهو يحمل في رأسه عدة احتمالات 0
بقي في بيته أياما لا يخرج إلى مضيف القرية ولا يلتقي برجالها، يتحاشى مواجهتهم ويتجنب عيونهم 00أخذت الأفواه تتقول عنه
وعن أبنته 00 ضاقت به المزرعة والمدرسة وقريته الحبيبة 00
ترك داره وذهب حيث ذهب وهو يحمل في رأسه تفسيرا واحدا لاختفاء نوفة إلا أنه لا يستطيع البوح به لأحد !! 0
اختفى الحاج محيبس وتكاثرت الإشاعات وتشعبت الآراء عن ‘اختفاءه ، منهم من يقول أنه رحل إلى مدن بعيدة ـ مدن الديار المقدسة ـ ، وقال آخرون أنه هاجر إلى المدينة وهو يعمل بائع متجول ويذهب إلى أكثر من ذلك فيقول أحدهم : إني صادفته مرة وهو متلثم نظر في عيني وكدت أن أسلم عليه لولا أنه ذهب مسرعا ، وقال بعضهم أنه ترك زوجته ومضى إلى بلاد الغربة ويؤكد بأنها الآن مع ولدها عند أهلها ، وقال قسما منهم أنه تأثر بخطيئة أبنته فأصيب بعقله وهام يتسول ، وقالوا 00 وقالوا حتى انقطعوا عن حديثه وتناسوه 0
هذا اليوم هو اليوم المشهود في تأريخ المدينة انتظره الناس منذ أمد طويل 00 انتظروه بفارغ الصبر 00 يوم انقشاع الوباء الذي أصاب المدينة و لم يترك أحدا إلا وخلف بصماته عليه 00 فرق الجماعات وجعلهم
أشتاتا 00 أعدادا يذبحون وآخرون في السجون ، وغيرهم في
المنفى ، أما الباقون فلقد تحملوا أنواعا من الذل والخوف 00 طغاة جبارين ألقوا بالفقراء في أودية الهلاك 00 تعب الناس من انتظار الفرج ويأسوا من نزول الرحمة 00 في ذلك اليوم فتحت
السماء أبوابها لتجترئ الجبروت يجرون أذيال الخيبة والذل ، مخلفين الدمار وأشلاء تملأ الساحات ومقابر جماعية لا حصر لها0
هب أبناء القرية ليشاركوا القادمين من بعيد الذين يبحثون عن أبنائهم المفقودين 00 دهشوا وهم يشاهدون الحاج محيبس وهو يتقدم الحفارين والمنقبين عن الموتى 00 وكانوا يحملون المعاول والفؤوس ويساعدهم في الحفر آلة حفر ( شفل ) 00 صراخ وصيحات من كل جانب 00 رفات وهياكل معصوبة الرؤوس موثوقة الأيدي 00 تعرفوا على الكثير منها أما الباقي فكانوا يضعونها في صناديق من خشب وينقلونها إلى مستشفى المدينة الرئيسي 0
هذه المقبرة الجماعية الثالثة ، نزلت مجموعة من الرجال من بينهم الحاج محيبس00 بعد أن ظهرت بعض العظام والخرق أخذوا يزيحون التراب عنها ويخرجون بعضها 00 وبينما هم كذلك حضن الحاج محيبس أحد الهياكل وصعد من الحفرة إلى
سطح الأرض وعاد مرة أخرى وأخرج إناء الماء وصاح بصوت عالي وحزين :
هذه أبنتي 00هذه نوفه 00 أنظروا أيها الناس ، أنها ابنتي وهذه فردة حذائها ورفعها عاليا وهذا إناءنا الذي أخذته لملء الماء وهذا ثوبها الذي اشتريته لها في العيد 00 أنها لم تخطئ فليشهد الجميع ، أنها لم تخطئ ، بل قتلها الأوغاد ظلما بغير ذنب أو جنحة
لماذا ؟ 00 لماذا وهو يلطم على صدره والألم يعتصره 00
أجابه صوت من بين الجموع : ( كانت الشاهد على جريمتهم وهم يقبرون الأبرياء وهم أحياء فأرادوا أن يستغشوا جريمتهم بجريمة أفظع 0
التفت إلى جهة الصوت وتفحص في العيون لعله يتعرف على القائل، ولكن دون جدوى فالجمع كثير والصراخ عال 0



الشاهد(2)


أنا شاهد عيان على جريمة ( نوفه ) وأنا الذي أجبت الحاج عن سؤاله حينما عثر عليها وسأروي لكم قصتها :
استدعاني آمر الوحدة بالحضور إلى مقر الوحدة فورا 00 أخذت ملابسي الرسمية بسرعة وعدلت هندامي وخرجت مسرعا إليه،
وبعد وصولي وإلقاء التحية إليه رأيت في ضيافته ضابط لم أتعرف عليه سابقا 00 أمرني بمرافقة هذا الضابط وأكون في إمرته ، خرجت خلف الضابط لأجد ثلاثة من الجنود لا أعرفهم بانتظارنا ، ركبنا سيارة الواز العسكرية وكان الضابط يقود السيارة وأنا إلى جانبه وخلفنا الجنود 0
سرنا داخل المعسكر مسافة كبيرة حتى وصلنا إلى مكان يبعد عن السياج بمسافة 00 أوقف الضابط السيارة وأمرنا بالنزول منها بسرعة ، وكان بانتظارنا هناك ( شفل ) قد أتم حفر حفرة عميقة وسيارة ( كوستر ) حجبت نوافذها بالستائر 00 أمر سائق السيارة بفتح بابها وأمرنا بالإسراع بإنزال ما فيها 00 صعدت إلى المركبة فوجدت فيها مجموعة من الشباب قد ربطت أيديهم من الخلف وعصبت عيونهم 00 أمرنا بإنزالهم في الحفرة ففعلنا وكان صارما بنبرته وحركته ، ثم أشار بعصاه إلى صاحب الشفل وكان رجل ملثم الوجه لا يظهر منه سوى عينيه أن يلقي بالتراب فوقهم وبنفس الوقت أشار إليه بالتوقف وسألنا مشيرا بعصاه إلى البعيد وقال :
ما تلك ؟
نظرنا إلى الجهة التي أشار إليها وإذا بها امرأة تحمل إناء 0 قلنا إنها امرأة سيدي 0 فقال: علي بها 0 ذهب الجنود باتجاهها،
ولما شعرت بهم وهم متجهون نحوها غيرت مسارها وحثت في
سيرها 00 نادوا عليها غير أنها ركضت مسرعة إلى الجهة الأخرى 00 لحقوا بها وأدركوها 00 قاومتهم بشدة حتى تعبت 00 تمكنوا منها وجروها وهي لا تزال تمسك إنائها ، ومن خلال فتحة في السياج أدخلوها وأحضروها أمام الضابط 0
كانت فتاة بمتقبل العمر ، فرس أصيل وقفت أمامه بجرأة العربيات الأصيلات قائلة : ماذا تريدون مني فأنا ذاهبة لأجلب الماء إلى أهلي ، دعوني أعود ، قلت سيدي وقبل أن أكمل عبارتي أشار لي بالسكوت ـ وضع سبابته على فيه ـ وأشار لي على الحفرة 00 سكت وتراجعت إلى الخلف قليلا ، ثم نظر بشزر وقال : لا وقت لدينا 00 شدوا وثاقها وألقوها مع الآخرين 00 دفعوها في الحفرة وركل الإناء خلفها وكان السجناء يتصايحون ويلعنون الطاغوت 00 سمعت أحدهم ينادي الصبية : تشجعي يا أختاه فأنها الشهادة 00 ألقي التراب فوقهم وانتهى كل شيء بلحظات وعدنا كل إلى موضعه 0
أصوات وصراخ وكوابيس تحتدم في رأسي 00 أشباح ووجوه بأشكال العفاريت والجان ، ودماء تسيل فوق رأسي وثيابي 00 نساء لاطمات وأخر صائحات وفزع يمضي ويعود طيلة تلك الليلة ،لم أذق النوم سهدت وأرقت وامتلأ فمي علقما مرا وأجهضت
أمعائي حتى التقيؤ 00 صورهم لا تفارق ذاكرتي وخاصة صورة
الفتاة التي قادتها أرجلها إلى مصيرها المجهول 0
بعد أيام صدرت الأوامر بنقلي إلى الخطوط الأمامية في جبهات القتال وبعدها ألقيت في السجن بدون تهمة وبقيت على هذا الحال سنين طويلة 00 شملني العفو العام عن السجناء قبل سقوط العاصمة بأشهر 00 عدت إلى مدينتي فوجدتها يتوشح السواد شوارعها ويعتصر الألم والحزن أبنائها 0
أرشدت مجلس المدينة بعد السقوط عن موضع المقبرة الجماعية وعثروا هناك على مقابر أخرى قريبة منها 00 ولعلي قد أرضيت ضميري وخاصة حينما شاهدت الحاج محيبس وهو ينتشل أشلاء نوفه 0