المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التغيير



عبد السميع
13/02/2008, 04:49 PM
التغيير

عرفت "عبد الكريم " صديقا طيبا ، آية في الاستقامة و مثالا للتواضع ، و شهما بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. كثيرا ما كنت أتردد على منزله لأستمتع بأحاديث الأدب الشائقة .. وقد يتناول بعض أوراقه ليتلو على مسامعي محاولاته في الشعر ، التي كانت تنتزع مني أصدق عبارات الثناء و الإعجاب ... كما أن نصائحه كادت تنسيني التقارب الذي بيننا في السن ...
خلاصة القول ، فعبد الكريم كان بالنسبة لنا – كطلبة في الجامعة – أسوة حسنة لمن يبتغي السعادة و الهناء في حياته ...
شيء واحد أصبح يثير استغرابنا ، و يجعلنا نسبح في دوامة من الحيرة و العجب ... !
فرغم إعجابنا الكامل به ، و الاحترام الذي نكنه له ، و الذي لا تشوبه مثقال ذرة نفاق .. فقد كان يوثر علينا " طارق " . و ما يجعلنا مستغربين هو كون طارق لم يلتحق بركب أصدقائه إلا مؤخرا ... و في الحقيقة .. لم يكن هذا بالضبط سبب حيرتنا ...
إن " طارق " لا يكاد يشبه عبد الكريم في شيء .. فبداية بمظهره الذي لا يوحي بالهبة و لا يبعث على الاحترام .. فهو يجيد تبادل الشتائم و السباب أكثر من التحايا ...
و الأدهى من ذلك أن روائح الكحول التي تنبعث من فيه ، أضحت جزء لا يتجزأ من صورته في أذهاننا ، كلما ذكر اسمه ... وأخوف ما كنا نخاف منه ، أن تطال إحدى هذه الرذائل صورة صديقنا عبد الكريم السامية ...
و قد لا نخفي تعبيرنا عن الغموض الذي يكتنف هذه العلاقة ، بل كثيرا ما يتجسد تخوفنا في عبارات القلق التي تتقاطر تباعا في مجالسنا ... لكن ما نلبث أن نهدئ من روعنا ، مطمئنين أنفسنا :
- انه عبد الكريم و الأجر على الله !
- هذه طريقته في النصح و التغيير .. أليس كل شيء قابل للتغيير ؟!
- بلى !
- عبقري و رب العزة !
و انقضت سنوات الدراسة .. لتوزعنا الأقدار على مصائرنا ...
اليوم ، وأنا أتجه إلى العيادة التي أشتغل بها .. إذا بصوت ينبعث من إحدى المقاهي ، التي اصطفت تحت العمائر القائمة على جانبي الشارع ... التفت جهة الصوت ، لأجد شخصا يرفع يده مشيرا إلى جهتي . نظرت إليه في شبه ازدراء ، موقنا أن صاحبنا ، إما أخطأ العنوان، أو لست الشخص المعني بالأمر ... لم أكد أفرغ من احتمالاتي ، حتى أعاد الرجل نداءه ، وهذه المرة سمعته يلفظ اسمي كاملا ، و هو يشير بسبابته مؤكدا أنني أنا المقصود ...
اقتربت منه ...
تفرست في وجهه مليا ...
خيل لي لأول وهلة أنني أراه لأول مرة في حياتي ، ثم خيل إلي مرة أخرى أنني سبق أن لمحت هدا الجبين البارز و الحاجبين الغزيرين و الفكين القويين .. ولكن أين و متى ؟
قلت مداريا حيرتي :
- نعم سيدي ؟!
عرت ابتسامته ، التي بدت هي الأخرى غير غريبة علي ، أسنانا متكائلة يعلوها الاصفرار ...
- سامحك الله يا فريد ! هكذا تنسى أيام الدراسة .. وتنسى صديقك عبد الكريم الخلفي ؟!
تهاوت عبارته الأخيرة على مسامعي ، كما تتهاوى صخرة كبيرة على صفحة بركة ماء صافية ... ماذا يقول هذا الرجل ؟؟
فتحنا أذرعنا متعانقين .. و أنا أغرق دهشة و استغرابا ...
- عبد الكريم ؟! إيه يا زمن ! أ تصدق ؟ والله لو لم تذكر اسمك لما تبينتك ! لقد تغيرت كليا !


و لولا غوصه في تفاصيل الذكريات أثناء حديثنا الطويل .. لجزمت قطعا أن مخاطبي ليس بعبد الكريم .. فهذا الذي يجلس بجانبي لا تبدو عليه آثار الإنسان المثقف الذي عرفته .. كما أن حديثه أضحى ثرثرة تكاد تفتقد إلى معنى ... والصحافي الذي كنت أترقب مطالعة اسمه في إحدى الصحف أو المجلات المشهورة .. استحال سكيرا ، من أبرز رواد السجون ..
و حين قمت من مجلسنا مودعا ، و أنا في غاية الدهشة ، رأيته يضع عقب سيجارة بين شفتيه المسودتين ، وهو يلوح بيده :
- لا تنسنا يا دكتور ! تذكر : براريك العمراوي .. الباب الأزرق .. قرب الحمام !
و أنا أخطو خارجا .. خيل إلي أنني أحلم ، و صدى عبارة – كنت قد سمعتها – يتردد في ذهني :
-" أليس كل شيء قابل للتغيير ؟! "