المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التحليل النفسي والأدب (5)



أسعد فخري
04/02/2008, 10:35 AM
التحليل النفسي والأدب
(5)
: أسعد فخري

ثم لا ينفك عن تأكيد ذلك التصور وتحدد أبعاده الاشكالية بوضوح أكبر إذ ( ليس المؤلف لغوياً أكثر من لحظة الكتابة تماماً مثلما أ ن ( ضمير المتكلم ): أنا أ و نحن ، ليس شيئاً آخر غير لحظة قـول
( أنا ) اللغة تعرف (فاعلاً) لا " شخصاً " وهذا الفاعل مجرد فراغ خارج لحظة اللفظ الذي يحدده ) (47) .
كذلك نجد في مساءلة ( فوكو ) الكبرى عن موت المؤلف إرهاصاً جديداً للتفكر / Intellection / بماهية البعد الآخر الذي يهب الغياب والحضور للمؤلف بحد ذاته قائلاً : ( يعتقد الرجال أن لغتهم هي خادمتهم ولا يدركون أنهم يخضعون هم أنفسهم لأسرها )(48).
ربما تكون تلك هي أهم القضايا الإشكالية التي ظل منهج التحليل النفسي يعاني من إرهاصاتها وتقلباتها , لكن السؤال الخالد الذي بقي في ذهن المتفكر المتأمل لماهية ذلك المنهج وأبعاد منا جزته للإبداع والفن ، سؤال الحيرة والتباس الغموض وسراب الأجوبة في عماء من إشكالية الفنان الخالق والذي بات من المفيد الرضوخ والاستسلام أمام وصايا الفرويدية في حدودها القصوى عن عجز التحليل النفسي عن إدارك فحوى / Import / الغامض في مسألة الفنان وصورة المؤلف / Contradictioin,adjecto / المخلّق بالرغم من الحضور اليونغي ( للخافية ) ومرجعيتها المنطقية الأكثر اقناعاً وعلمية .
فقد صار من الممكن والأكثر حضوراً أن نتساءل مع ( جان بليمان نويل ) السؤال الأكثر مناجزة ( هل يمكن قراءة مادة أدبية بالاستناد إلى فرويد بدون أخذ المؤلف بعين الاعتبار ونسيانه )(49).
ثمة دعوة واضحة يريدها ( بليمان ) وذلك بالعودة بنا إلى المربع الفرويدي الأول مربع ( الهذيان والأحلام ) والذي كان نقطة جدّ هامة في البحث عن معادل متوازن يلقى فيه النص الأدبي أو الفني أهمية بالغة في إطار خصوصيته التي تنبعث من مكوناته / Compenent / هو كنص له فضا ئه / Lichtung / ووعيه الخاص ولا وعيه الجمعي بعيداً عن الدخول في المتاهة المغلقة للمؤلف الخالق .
( فكل خطاب هو لغز لما تترابط فيه من عمليات ومعان لاواعية وواعية )(50).
لقد صار من المفيد الآن البحث عن مفاتيح مختلفة حين الاشتغال على النص الأدبي بغية تلمس معادله , وكذلك امتثالاً موضوعياً للاقتراب من حدود وحقائق تكوينه الآوالي كنص له هيئته الخاصة وأدوات تمايزه المختلفة التي تذهب عميقاً في إجلاء الصورة البدئية لدوافعة اللاواعية ، وتأمل تحولاته من نص سؤول إلى نص شكوك / Scepticism / الإجابة , يحمل في طياته كلية الشك وجزئية اليقين المفتوح عبر نظام أقنعته الخاصة وسياق تبادل أدوار قيادة لعبته الغامضة تمكيناً للدلالات من نصب أشراك معانيها عبر شبكة من التآويل وتعدد أوجه / Polysemous,meaning / تلمســها كحقائق نصية لها متعاليتها وآفاقها وكما يقول هيراقليت / السيد الذي يهبط وحيّه في دْلف لا يتكلم ولا يخفي ،أنه يدل/ (51).
ما من شك أن لكل نص دالاته ونظام علامات / Marks,order / ينتجها هو ( أي النص ) بعيداً عن المسبق ، بمعنى أن لكل نص خصوصيته ومرجعيته المفارقة لمؤلفه لذا فإن معادلة البحث في كم هائل من
العلامات الصامتة والحبلى بدلالات لامتناهية مسألة شائكة ومعقدة وذلك من جراء مرجعيتها الخلافية والنظرة المتنوعة لمناهجية التعرض لها عبر المدارس النقدية المختلفة .
لكننا نؤثر هنا الاشتغال على مقاربة لها لأهمية بالغة بما يخص اشكالية استبعاد المؤلف كمرجعية لنصه والإبقاء على النص ذاته كمثار للتساؤل والإجابة عن ذاته بذاته وفق جدليته الخاصة عملاً بمعايير يخلّقها هو ووفق نظم إشارية وتأويلية / Interpretation / تحدد الإطار العام لمرجعيته البسكولوجية والتي تُنْطِقُ لغة حراك / Mobility / الشخصيات النصية وعمارة معناها المنفتح على فضاء النص بذاته كونها مرجعية النص السيرية وملامح بنيته / structure / الخافوية .
لذا فإننا نجد في معادلة ( النص المؤلف ) مثنوية في إطارها البراني أما فيما يتعلق ببنية العلاقة القائمة بينهما فإنهما بالضرورة سوف يكونان في وضع التقابل للتميز في ( الدور والماهية ).
فاالمؤلف هو ( الأنا ) التي تميز نفسها بالأدوات والتي تستطيع من خلالها تحديد الآخر (الماهية ) بهواماته التي تنظم فضاءً يشكل ( النص ) , حيث صورة / Image / التقابل بينهما من أجل الانفصال مسألة ضرورية إذ تم من خلالها تميز الوظيفة عن الأصل ولأن ( المؤلف ) محدد لكتلة / Mass / الماهية فإنه تابعاً لها وليس أصلاً سابقاً .
من هنا نلمس مسألة التخارج الذي يحدد أبعاده شكل العلا قة الخا صة بين الؤلف ونصه , تلك العلا قة المفترضة في كليّة ماهياتها وتفصيلاتها الدقيقة .
ولتفحص فحوى العلا قة بين المؤلف ونصه لابد من تأمل التخارج والإ ستقالة التين أبداهما( جوتة ) حين ذهب إلى اعتبار أن قصائده هي من أنشأته قائلاً :
( إنها هي التي أنشأتني ولست أنا الذي أنشاتها )(52).
مؤكداً بذلك الرأي الذي أبداه كارك يونغ , فيما يخص علم النفس التحليلي/ Analytical, psy chology / والأدب وإشكالية العلاقة بين المؤلف ونصه وبكثير من الدقة يقول ( ليس جوته هو الذي يبدع فاوست بل إن فاوست هو الذي يبدع جوته ، ثم من هو فاوست ؟ إنه أساساً رمز ولا أعني بهذا أنه تعبير مجازي عن شيء مألوف تماماً ولكنه تعبير عن شيء حي في أعماق كل ألماني ساعد جوته على إظهاره للوجود )(53).
أما المسألة اللافتة والأكثر إيضاحاً فهي الاحتجاج الغاضب الذي أبداه ( همنغواي ) بشأن تتبع سيرته الذاتية/ Autob,ography / فيما كتب وانعكاسها على نصوصه ومؤلفاته صارخاً ( في أي شيء تعهم العقد النفسية الموجودة لدي؟إن عملي فقط هو الذي ينبغي ان يوضع في الإعتبار أنني كشخص غير هام )(54).
ثمة اشكالية كبرى تتعرض لها مسألة استبعاد المؤلف من بعض المناهج النقدية والتحليلية المختلفة لكن تحيد المؤلف واستبعاده أو ( تبعيده ) / Distanciation / عن نصه يلاقي قبولاً مدهشاً عند عدد كبير من رواد الأدب العالمي العربي أيضاً فمسألة استبعاد المؤلف تجد مكاناً بارزاً لها عند روائي كبير مثل جيمس جويس حين يقول: ( الروائي أو المؤلف إله محايد ينظف أظافره بصمت )(55).
والمحايدة هنا تأخذ الشكل الآخر والمختلف من نسـق / System / القول الذي يؤكـد عمـلية
( التبعيد ) كمسأ لة هامة تشير إلى أبعاد الخلق / Textuality / والحياد في الأن ذاته بمعنى أنه الموْجد للنص دون أن يكون أصله لذا فإن حيادية ( جويس ) بالمعنى الذي ذهب إلى تأكيدها تعني الحيا د ية التي فيها شكل التخلي عن النص ومنحه استقلاليته وخصوصيته / Singularism / .
أما ( أن تكون صورة الكاتب Contradi ctioinadjecto// قابلة للإنفصال عن صورة شخصياته فهذا أكد طبعاً ، ينبغي أن هذه الأخيرة تصدر عن الكاتب وهي بفضل ذلك ثنائية القيمة
أ يضاً ، إننا نستبد ل غالباً الشخصيات بما يشبه الكائنات الحية )(56).
لذا فإننا نجد في التأكيد اللافت الذي أبداه ( جورج طرابيشي) والمتعلق بحيوية الشخصية الروائية وحيواتها ككائن له وجوده وحضوره بدءً بالاسم وانتهاءً بالحيوات والسلوك / Behaviour / فيقول:
( أنا عندما أفتح قاموس ( لاروس ) الخاص بأسماء الأعلام أجد اسم راسكولينكوف كما أجد اسم نابليون . وراسكولينكوف بطل روائي ومع ذلك فهو موجود وكأنه اسم علم خاص كأنه موجود حقيقي قائم بذاته )(57).
لا بل أن كثيراً من الروائيين قد ذهبوا إلى أبعد من ذلك . البعض يقول أنه قد رأى شخصيات أعماله في الحلم وتحد ث إليها كما يؤكد على ذلك ( رينه ويلك ـ أوسـتن ورا ين ) في كتابهــما ( نظرية الأدب ) أن ( بعض الروائيين من أمثال ديكنيز قد تحدثوا عن رؤية شخصياتهم وسماعها بشكل حـي وتحد ثوا مرة أخرى عن الشخصيات وهي تأخذ زمام القصة وتصوغ لها نهاية تختلف عن النهاية الأولية التي صممها لهاالروائي )(58).
أما مسألة إشكالية السيرة الذاتية / Autob,ography / وعلاقتها بالمؤلف ، فإن روائياً كعبد الرحمن منيف يأخذ شكل العلائق إلى أبعاد مختلفة حيث يقول : ( السيرة الذاتية بحد ذاتها مطلوبة وضرورية ولكن الروائي يفشل عندما يريد أن يضع تجربته الشخصية في عمله الروائي )(59).
ثم يؤكد من جديد على حقيقة العلاقة مع شخصياته الروائية وتمردها عليه في كثير من الأحيان فيقول : (أما حول شخصيات رواياتي فإنني أرى بعضهم في المنام ولا أملُّ من الحد يث معهم , ولسنا دائماً على وفاق إذ كثيراً ما يتحرر( الأ بطال ) ويشقو ن عصا الطاعة ثم يستقلون , وتكون لهم أيضاً حيا تهم الخاصة وصدف أكثر من أن مدّ بعض ( الأ بطال) ألسنتهم هزءاً بعد أ ن اختا روا طريقهم الخا ص وحددوا مصا ئرهم بأنفسهم )(60).
لكن التسائل الأكثر إدها شاً والذي جا ء على لسا نروائي انكليزي من القرن الثا من عشر وهو
( وليم ثاكري ـ 1811 ـ 1863) حيث كتب قا ئلاً :
(أ صا بتني الدهشة للملا حظات التي أ بدتها بعض شخصيا تي ويبدو كأن قوة خفية كا نت تحرك القلم فا لشخصية تتصرف وتقول شيئاً ما, وأني لأ تساءل كيف تأ تي لها بحق الشيطانأ ن تفكر في ذلك )(61 ).
من هنا تأ تي أهمية ما يقول المبدع أو المؤلف عن علا قته بمكونات / Compenent / النص وحياته وسيرة ظهوراته .
لذا فإننا نجد أن الجوهري في تلك العلاقة يخضع لمعايير مُحَدِدَّة لأسبقية الأصل واشارية/ Index / تابعه من منظار الصيرورة والأوالية , فما هو متعدد في معناه لا يقوله إلا النص .
فأهمية ( الميزان الدال ) في الكتابة والذي يتم من خلاله تحديد شكل العلاقة بين ( النص والمؤلف ) كعلاقة تؤسس للتخارج والإنفصال،هوما أعطى بعدهما التاريخي أفقاً من الأثيرية في مدلولاتها المرجعية وأيقظ الإحساس بالاشتغال على تحليل الثوابت الكلاسيكية لعمارة الأنوات / Egoism / الفرويدية وخلخلة الموروث الرومانتيكي لتأليه المؤلف الذي ظل يقبض على صولجانه ردحاً من الزمن محتكراً للمعنى / Reference / والقصد ومحتلاً لمكانة الأصل ( النص ) بدعوى أنه خالقة .
وهو في حقيقة الأمر ( ناسخ يعتمد على مخزون هائل من اللغة الموروثة فلا بد أن يتنازل للكتابة أو النص عن العرش الذي يتربع عليه لمدة قرنين من الزمن )(62).

يتبع القسم السادس .....

( الهوامش والمراجع)

(47) ـ دليل الناقد الأدبي ـ مرجع سابق ـ ص154 .
(48) ـ دليل الناقد الأدبي ـ مرجع سابق ـ ص154 .
(49) ـ النقد الأدبي في القرن العشرين ـ مرجع سابق ص216 .
(50) ـ عالم الفكر ـ العدد 221 ـ 1997 ـ ص72 ـ مارسيل ماريني .
(51) ـ في التفسير ـ بول ريكور ـ مرجع سابق ص26 .
(52) ـ العبقرية ـ عالم المعرفة الكويتية ـ العدد208 ـ 1996 ـ ص295 .
(53) ـ المصدر السابق ـ ص304 .
(54) ـ مجلة عالم الفكر ـ العدد 3+4 ـ 1995 ـ ص212 .
(55) ـ عالم المعرفة ـ في نظرية الرواية ـ العدد 240 ـ 1998 ـ ص14 .
(56) ـ الفكر المعاصر ـ مسألة النص ـ ص47 ـ العدد 36 ـ 1985 .
(57) ـ الإبداع الروائي ـ دار الحوار 1994 ـ مجموعة من الكتاب ـ ط1 ـ ص106 .
(58) ـ نظرية الأدب ـ رينه ويلك وأوستن وارين ـ ط2 ـ ترجمة محي الدين صبحي ـ
المؤسسة العربية للطباعة والنشر ـ 1981 ـ ص85 .
(59) ـ الكاتب والمنفى ـ دار الفكر ـ عبد الرحمن منيف ـ ط1 ـ 1992 ـ ص158 .
(60) ـ بين السياسة والثقافة ـ عبد الرحمن منيف ـ ط1998 ـ المركز الثقافي العربي ـ
ص239
(61) ـ عالم المعرفة ـ العبقرية ـ العدد 208 ـ ص 315 ـ 1996 .
(62) ـ دليل الناقد ـ مرجع سابق ـ ص ( 152 + 153 ) .