المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النص الكامل لمجموعة «أحلام البنت الحلوة» لحسين علي محمد



د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:36 AM
النص الكامل لمجموعة «أحلام البنت الحلوة» لحسين علي محمد
.....................
صدرت المجموعة في طبعتين:
*الأولى عن دار الوفاء لدميا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
*والثانية عن دار الإسلام للطباعة،المنصورة 2001م.
....

الإهْــداء


إلى الروائي محمد جبريل
أستاذاً
وصديقاً

حسين علي محمد

(1)
*المســافر*
...................

لأول مرة يخرج من بيته مسافراً إلى الخليج دون أن ينظر في عيون أبنائه الستة، فيقولوا له:
ـ لا إله إلا الله.
فيرد في حماس، وهو يرمق الشفقة في عيون أبنائه وزوجته:
ـ محمد رسول الله.
قبل أن يشهق، وهو يجتاز الممر الطويل المؤدِّي إلى مقعده في الصفوف الأخيرة في الطائرة، قال له المضيف حينما لا حظ لحيته البيضاء .. كأنه قالها مستغرباً:
ـ هل تُدخِّن؟
ـ لا.
وكأن عينيه استفهمتا عن مغزى السؤال، فقد ركب الطائرة أكثر من ستين مرة في هذه السنوات العشر. كان يأتي في إجازة رمضان، وفي إجازة عيد الأضحى، ثم الإجازة الصيفية، وأحياناً يأتي في زيارة سريعة تستغرق عدة أيام.
قال المضيف مبتسماً في آلية:
ـ لأنك ستجلس في مقاعد المدخنين.
أحس بصدمة، فقد قال له طبيبه الذي يُعالجه من السكر:
ـ احذر التدخين.
ـ أنا لا أدخن.
ـ لا يكفي أن تكون غير مدخن!، احذر من مجالسة المدخنين.
أشارت المضيفة ـ في مدخل الطائرة ـ دون أن تتكلم إلى الطريق الذي سيسلكه حتى يصل إلى مقعده في مؤخرة الطائرة، وهو يقول لها ( 65 c).
وصل مكدوداً، ووجد الركاب في مقاعدهم، ولاحظ أن بعض الركاب يدخنون.
أحس بدوار، غابت المرئيات .. قبل أن يشهق، ويخرج من شفتيه زبد أبيض، ويتعاون البعض على حمله لإنزاله من الطائرة، بعد أن فشلوا في حضور طبيب معالج. واستطاعت أذنه أن تميز بعض الألفاظ، منها أنه من المنصورة، كما سمع من بعض العجائز "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" تتردّد خافتة مُشفقة!
كان منذ ثلاث ساعات قد دخل المسجد الذي اعتاد فيه صلاة الجمعة، جلس في مكانه المفضل بالصف الثالث ـ رغم أنه كانت هناك أماكن خالية كثيرة في الصفين الأول والثاني، وجلس في مكان قريب من الباب حتى يكون من أوائل الخارجين من المسجد بعد أداء الصلاة، ليجلس مع أولاده ساعة قبل أن يتوجّه إلى المطار.
السنة الأولى التي سافر إلى الخليج فيها ـ تلك السنة التي اشتعلت فيها حرب تحرير الكويت ـ جرّت وراءها السنة الثانية فالثالثة … فالعاشرة.
لماذا لا تتوقف السنون عن الجري؟ كان يعد الأيام لعودته منذ وصوله:
ـ باق 120 يوماً، وأعود إلى مصر في إجازة رمضان.
ـ باق ثلاث جمع نصليها، ونعود في إجازة عيد الأضحى.
ـ باق أسبوعان في الامتحانات، ونعود إلى مصر الحبيبة.
حينما حصل على الدكتوراه ـ من الخارج ـ فشل في الحصول على وظيفة جامعية في مصر. كان يقرأ الإعلان، ويذهب سعيداً لتقديم نسخ رسالته مع الأوراق المطلوبة، وتتبخّر الآمال يوماً فيوماً، ثم يُفاجأ بأن الذي قد عُين في الوظيفة المطلوبة غيره.
قال له عميد كلية ساحلية:
ـ أنت أحسن المتقدمين للوظيفة، ولكنك تحتاج "زقة".
وحينما سأل صديقه محمد لطفي عن هذه "الزقة"، قال: "دفعة للأمام يا محترم"، حتى تنال شرف التعيين في الكلية.
ـ هل يُريد ـ مثلاً ـ توصية من عضو مجلس الشعب؟
ضحك محمد لطفي واصفاً صديقه بالتخلف عن فهم آليات المجتمع المعاصر في عصر "البيزنس" وتداول النقود!!
حينما قرأ إعلان هذه الجامعة الخليجية التي يعمل فيها من عشرة أعوام قدّم أوراقه، وأجرت لجنة التعاقد مقابلة معه، وبعد عدة أيام وصلته برقية تستعجله إنهاء إجراءات السفر.
بعد أن وصل إلى الخليج، وجد أنه يتقاضى راتباً عشرة أضعاف أساتذة الجامعة في مصر، وأربعين ضعفاً لما كان يتقاضاه في وزارة التربية والتعليم قبل أن يجيء إلى الخليج، فحمد الله كثيراً.
ظل يعمل في هذه الجامعة معزيا نفسه أنه لم يجد له وظيفة أستاذ جامعي في جامعات مصر الكثيرة (لأنه لم يجد "الزقة" المطلوبة!)، وأنه يعمل في جامعة عريقة لها اسمها، وأنه في الأعوام العشرة التي أمضاها بنى بيتاً يتسع لـه ولأبنائه، بعد أن ظل منذ تزوّج يعيش في شقة صغيرة لا تتجاوز سبعين متراً، وأن زوجته تواصل الرحلة مع الأبناء بنشاط وهمة حتى التحقوا جميعاً بكليات القمة.
لكن زوجته التي ظلت معه سبعة وعشرين عاماً ماتت في هذا الصيف، وفكّر أن يبقى مع الأولاد، ويعود إلى وظيفته السابقة موجهاً بالتربية والتعليم أو مديراً لمدرسة ثانوية أو خبيراً بالكتب والمناهج، ليتابع أولاده في دراساتهم الجامعية، لكنه بعد تفكير ومُراجعة قرّر أن يذهب هذا العام إلى الخليج لآخر مرة، ليُنهي بعض الأمور المتعلقة بالعمل، ويحضر كتبه وحاسوبه، ويعود إلى مصر الحبيبة، وربما يُنهي السنة الكاملة لا يقول فيها:
ـ باق 120 يوماً، وأعود إلى مصر في إجازة رمضان.
ـ باق ثلاث جمع نصليها، ونعود في إجازة عيد الأضحى.
ـ باق أسبوعان في الامتحانات، ونعود إلى مصر الحبيبة.
.. وفتح عينيه بعد جهد جهيد ليجد نفسه نائماً على سرير أبيض، مغطى بملاءة بيضاء، ومصل الأنبوب المعلق يتصل بوريده، وأولاده جميعا حوله يقولون في فرح حقيقي:
حمداً لله على السلامة.

الرياض 22/8/1999

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:39 AM
(2)
*ثرثـــرة في المــدرّج*
................................

استقبلها الزحام حين خطت خطواتها الأولى داخل الجامعة، اتجهت يميناً فقد كانت تعرف أن هذه هي كلية الآداب. سألت واحدة من الواقفات عن المدرج (78)، فأشارت بيدها قائلة ـ كأنها تُرحب بها ـ تعالي معي!
كادت أن تُدير ظهرها، وتترك الكلية خارجةً إلى فضاء الشارع، حينما رأت عشرات من الطالبات والقليل من الطلبة يتحدثون في حلقات، كل حلقة تتكون من طالب وعدة طالبات، ولكن استوقفها صوت أحمد ـ كأن الأرض انشقت عنه ـ:
ـ أهلا سميرة.
مالت بوجهها، كأنها تعاتبه:
ـ غبت أسبوعين، قلت أسأل عنك أنا.
أشار لها قائلا:
ـ الأستاذ غائب اليوم، تعالي نجلس ونتكلم.
قالت مذعورة:
ـ أين نجلس؟ في المدرج؟!
لحقت به، وكان قد سبقها بعدة خطوات:
ـ أقول فلنذهب معاً إلى حديقة الحيوان، أو حديقة الأورمان.
قال في صوت، اجتهد أن يحمل نبراته التي تعرفها:
ـ فلننتظر خمس دقائق، إني أنتظر مذكرة علم الاجتماع للدكتور الخشاب، سيحضرها صديق استعارها أمس.
مشت وراءه صامتة كأنها تمشي في جنازة حبها. أشار إلى الكرسي الأخير في الصف السادس من المدرج الذي يكاد يخلو من الطلاب، وقال:
ـ اشتقت لك يا سميرة.
قالت:
ـ لو اشتقت لنا لسألت علينا.
ـ أمي مريضة.
ـ ألف لا بأس عليها.
هل من الممكن أن تمرض هذه الحرباء؟. إنها هي التي حرضته على البعد عنها. قالت له ـ كما نُقِل عنها ـ أخوك مستشار وزوجته طبيبة، وأختك محاسبة وزوجها طيار، وأنت تتزوج واحدة تعمل على آلة كاتبة، وحاصلة على دبلوم تجارة، وأبوها محصِّل في أتوبيس الورّاق؟
قال في حزن شديد:
ـ مصابة بالمرارة، وحالتها متأخرة.
كادت تُزغرد، ولكنها قالت:
ـ لازم نزورها الليلة، ماما ستحزن إذا عرفت أنها مريضة!
هل ستحزن أُمي حقا؟!! .. لقد كانت تخدمها منذ خمس وعشرين سنة، قبل أن تتزوج أبي بعام أو عامين، وربما كانت خدمتها لها هي التي جعلتها تقف في وجه أحمد وتقول له: أنت الأول على قسم الاجتماع، وإن شاء الله ستكون دكتوراً في الجامعة، فهل تكون حماتك خادمتنا القديمة؟!
أخذ أحمد المذكرة من زميله، وتنبّه إلى وجود سميرة معه، وأنه لم يُحيِّها التحية اللائقة بها، قال لها: يمكننا أن نجلس ساعة معاً قبل المحاضرة التالية في كافتيريا الكلية، أو جزيرة الشاي في حديقة الحيوان، أو حديقة الأورمان.
أحست بحنين جارف إلى حديقة الأورمان التي شهدت بداية حبهما منذ عامين، وكيف كانت تترك المدرسة وهي في الدبلوم، وتجيء له من حيِّ الدرَّاسة البعيد إلى الجيزة، ولكنها شعرت أن اللقاء محكوم بساعة واحدة، قالت:
ـ نبقى في المدرَّج أحسن.
تركها، وبحث عن "عم حسن" عامل "بوفيه" القسم، ليحضر لهما كوبين من عصير الليمون.
*
جلس على بعد متر منها، وقال في صوت خالته كتغريد العصافير:
ـ طلبت لك عصير ليمون.
ـ كنت أفضل الشاي في هذا الجو البارد.
فاجأها:
ـ نحن في أبريل يا سميرة!!
أحست حزناً في نبرات صوته، قالت:
ـ لماذا تهرب مني؟
قال وهو لا يرفع عينيه عن الأرض:
ـ قلت لك أمي مريضة.
قالت ـ وهي تحس أنها تستدعي صوتها من بئر عميقة:
ـ ولماذا لم تهاتفني منذ فترة؟
ـ نحن مشغولون، الامتحانات على الأبواب.
نظر إلى وجهها الممتلئ بالحيرة، وقال:
ـ ولماذا لا تطلبيني أنت؟
ـ هل نسيت؟ لقد قلت لي لا تطلبيني في البيت.
ـ كنت أداعبِك!
ـ بل كنت تخشى غضب أمك.
امتلأت أساريره بالشفقة على أمه، وأضاف في صوت واهن:
ـ أمي في لحظاتها الأخيرة. ادعي لها بالشفاء!
قالت بسرعة، كأنها تريد أن تتخلص من عبء الكلمات:
ـ ربنا يشفيها.
غالبت تردَّدها، وسألته:
ـ سمية صاحبتي تقول إن أمك ستخطب لك سناء أخت الطيار، التي تعمل مضيفة أرضية بمطار القاهرة.
أجاب، وهو يحاول أن يُنهي الحديث:
ـ هذا كلام سابق لأوانه، يشغلنا الآن: مرض أُمي، وحصولي على الليسانس!
*
لا يدري إن كانت سميرة قد غضبت حين قال لها إنه لا يُفكر الآن إلا في مرض أمه، وحصوله على الليسانس، لكنه متأكد أنها لم تشرب الليمون، وأن عصفوراً أحمر على إيشاربها كان يُحاول الطيران، ولكن الدماء كانت تسيل من جناحه المهيض!

القاهرة 5/8/1969

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:40 AM
(3)
*أحـــلام البنــت الحـــلوة*
.......................................

الأضواء الخافتة تتلألأ كنجوم أعياها السهر وأضناها، وهناك في مقهى صغير أكثر من شاب حول مائدة صغيرة متسخة يلعبون "الورق" .. وفي الركن صبية صغيرة نائمة. وارتفع صوت عامر الدُّكش:
ـ بنت يا سنية!
ولمّا لم يجد ردًّا على ندائه عاد ينادي بصوته الأجش من جديد:
ـ بنت يا مقصوفة الرّقبة ..
ولكن البنت لم تسمع، فقد دهمها سلطان النوم، وراحت تضطرب في سكراته .. وقامت سنية بعد أن هوى "قلم" على صدغها، قامت تبكي، بينما الرجل الثقيل الظل يطاردها بصوته المُزعج:
ـ روحي يا بنت هاتي صفيحة الجاز بسرعة من البيت!
وغمغمت سنية وهي تقول:
ـ حاضر !!
منذ سنتين وسنية تعيش في هذه النار، نار جهنم، مع المعلم عامر الدُّكش، زوج أمها، البدين، ذي الصوت الأجش، والشارب المفتول الذي يستطيع أن يقف على فردتيه: غُرابان!، وهي لا تدري لماذا يحبه روَّاد "قهوة الناصية"، ولماذا يُطلقون عليه ألقابا لا يستحقها، مثل: "حبيب الكُل"، و"السُّكَّر"، و"الرجل الجدع".وإذا كان كما يقولون فلماذا إذن هو خشن الألفاظ، جاف الطباع مع سنية؟، وسنية بالذات؟
لقد كان أبوها "العسكري سيد" هو "السكر" بحق وحقيق، ولكنه توفي منذ ثلاث سنوات، وهي في الثانية عشرة، وكانت وقتها في الصف السادس الابتدائي .. كانت لا تعرف في المدرسة ـ أو الدنيا ـ شيئاً، وكان والدها ـ عسكري المرور ـ يعود عصر كل يوم ويداه مليئتان بالفاكهة، فتستقبله مهللة مغردة كطيور حديقة المأمور المجاورة لبيتهم الطيني المتهدِّم:
ـ أبي جاء .. أبي جاء ...
فيقبلها، ويرفعها بين يديه ـ فقد كان جسمها صغيراً بعد، ليس كجسم أمها المكتنز بالشحم واللحم ـ ويقول لها:
ـ هل تحبيني يا سنية ؟
فتضحك الصغيرة قائلة له بلثغتها المُحببة:
ـ مثل الدنيا كلها.
وتتحرك يدها الصغيرة نصف دائرة، قبل أن تُحِّوطَ أباها، وتلثمُهُ.
ولكنه مات!
وتزوّجت أمها من المعلم "عامر"، ذي الأربعين عاماً، والوجه النحاسي الذي تترقرقُ عليه دائماً قطرات العرق حتى في عزِّ الشتاء!! تزوّجت أمها من المعلم "عامر الدُّكش" الذي يقسو عليها، ويُعاملها كطفلة في السادسة مع أنها عروسٌ في الخامسة عشرة.
في أول الأمر ـ حينما تزوج عامر أمها ـ لم يكن يقسو عليها، بل كان يرجو أم سنية:
ـ أنا وحدي، خلِّي البنت تساعدني في القهوة.
وكلما قالت له: "البنت مازالت صغيرة"، ضحك وقال متودِّداً:
ـ ماذا ستعمل؟ .. ستحمل لي صفيحة الجاز، أو تملا لي صفيحة ماء من الصنبور الذي بجانب محل المائدة .. هذه كلّ الحكاية.
ولكن الحكاية لم تقتصر على ما قاله لأمها؛ فقد صارت تفتح "قهوة الناصية"، وتكنسها، وترش الماء في الشارع أمامها، وتستقبل الزبائن الذين يأتون مبكرين ـ قبل أن يستيقظ عامر في العاشرة صباحاً، وتظل تخدمه في القهوة وتساعده في توصيل الطلبات للزبائن حتى يؤذن العصر.
ولكنه في الأيام الأخيرة أخذ يطلب من أم سنية أن تبقى البنت معه حتى يُغلق القهوة!
وأفاقت سنية من خلجاتها بعد أن عثرت أقدامها في كرسي منكفئ على الأرض!
لطالما داعبها الشبان قائلين:
ـ متى ستكبرين يا حلوة؟
نعم إنها جميلة، أجمل من بنت المأمور والله، ولكن "يعطي الحلق للتي بلا آذان"!!.
وتخيَّلت سنية نفسها في فستان محزّق، جميلة، رائعة، مثل "آيات" ابنة المأمور، لا .. لا، فهي أجمل منها، وأكثر من شاب يغازلها:
ـ ما هذا الجمال يا سنية؟ .. ما شاء الله ..يا أرض احفظي ما عليك.. ما هذا الجمال كله يا بنت؟
وأفاقت سنية على صوت المعلم عامر الدكش:
ـ لماذا تأخَّرتِ يا مقصوفة الرقبة؟ خذي هذه الصفيحة املأيها قبل أن تروّحي لأمك.
وبينما كانت سنية تملأ الصفيحة بالمياه أخذت تسأل نفسها: منذ متى لم تسمع كلمة جميلة من رواد المقهى الشبان؟ .. يوم؟ .. يومان؟ .. لا .. أربعة أيام كاملة!
وجاءها صوت "مغاوري" النقاش رقيقاً، حالماً، كأنه كان يعلم ما تفكر فيه، ويستجيب لما يدور في خلدها:
ـ ما هذه الحلاوة يا سنية!. والله كبرت وبقيت عروسة!
وكاد قلبها يسقط من صدرها وهي نقترب منه وتسمعه يردف في صوت دافئ مملوء بالحب:
ـ تتزوّجيني يا بنت ..؟!

التعاون ـ 4/4/1967.

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:41 AM
(4)
*الحــــارس*
...................

بعد عناء المحاولة في هذا القيظ .. عَدلتَ عن كتابة القصيدة، وصمّمت على أن تسهر مع أغنية أم كلثوم "أغار من نسمة الجنوبِ"!
الإذاعة مشغولة بمتابعة رحلة الرئيس السادات إلى القدس، وأبوك مضطر إلى أن يسهر الليلة لحراسة حديد البناء بعد أن ذاعت شائعات كثيرة عن وجود عصابات من الشباب العاطل تخصصت في سرقة مؤن البناء!
ماذا تصنع الآن؟ على فوّهة البركان جلست أنت والبنّاء (عبد الرحمن) تحرسان الغيم، وتنسجان الشباك للأحلام ..
"سناء" الحاصدة الأولى تعبر في منتصف الظهيرة .. تتوَكَّأ على عصا، فرجلها مكسورة منذ هبوطها ـ منذ عدة ليال ـ سلم بيتكم الطينيِّ في أطراف القرية.
أمشي في دروب صاعدة .. رائحة الروث تملأ المكان .. وسط فِخاخ سأتحرَّك .. عينا "إيمان" شقيقتي الصغرى ترانا من خلف الشيش .. عيناها تعكسان سرًّا صامتاً لا تُريد أن تبوحَ به.
يسرق "عبد الرحمن" الحديد، ويمضي، وأنت تستقبل أربع عيون لعصفورتين مائيتين (سناء، وإيمان). تُغادرك "إيمان" .. تُحدِّق في عيني سناء الممتنّتين .. وتمضي.
عيونكما الأربع تتحرّك في رعب بطيء.
يُطلُّ أبوك خارجاً من باب المسجد المقابل مرتدياً قميصه الكتانيَّ المزهَّر بالنيلة الزرقاء. ينظر إليكما عابساً، بينما سراديب الدهشة واللذة تُغلق أبوابها.

المساء 20/12/1997م.

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:42 AM
(5)
*التجـــربـة*
...................

ما أحلى الأيام الأولى لمجيء "سعيد". خفَّف عني عبء مساعدة والدي في الحقل، فأصبحت الأيام تمر بنا مثل مرور الطيف. أسحب الجاموسة إلى الحقل أحياناً، وأساعده في تحميل نقلة سباخ فينهرني أبي:
ـ ذاكر دروسك أحسن، إنه هو الذي يعمل لا أنت.
ـ سعيد طيب كالأطفال، ووديع كحمل، ذو صوتٍ حانٍ واهن كصوت أمي!
قال لي قبيل المغرب:
ـ أحضر الفأس من كوخي.
طرقت، لم يُجب أحد. دفعت الباب، قالت لي عروسه:
ـ ادخل!
كانت الزنبقة قد ألقت أحمالها، وتفتحت خمائلها، وانتشر عبيرها. غمغمت لحظة، بوغتُّ، هممتُ بالخروج، فقالت:
ـ تعال …!
وربتت علي كتفي، فشعرت بحرارة غريبة تغزو مفاصلي! كدت أقع على الأرض وأنا شغوف باستداراتها وملاستها…
أأحمل أقدامي.. أجرجرها للخارج؟ أم أعود أدراجي لها باكياً على اللبن المسكوب؟
رذاذ الماء يرش وجهي النحيل، فأتوقف وأفكر في رائحة الغرف المغلقة!

المساء 20/12/1997م.

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:43 AM
(6)
*لــــــن*
..............

لن أُسميك أحمد!
ولن أجعلك قرويا تحب السواقي التي تدور في الليل لتروي الأرض المشتاقة إلى الري، تدور فيها الأبقار معصوبة العينين منذ عهد خوفو.
ولن أجعلك تكتب في مذكراتك أنك أحببت "هيام"، أخت صاحبك فوزي، واحتضنتها وسجلت في سويداء القلب القبلة الأولى!
لن أجعلك تُلقي شباكك في الليل لتصطاد القمر الأخضر والنجمات الساهرة، وفي الصباح تُغازل الشمس حتى تخفف من نارها المحرقة وأنت تجمع الدودة من شجيرات القطن، أو توزِّع شتلات الأرز في أنحاء اللوحة المائية!
لن أرسلك مُعاراً إلى قطر لتعاقر أحزانك كل ليلة صارخا في دفتر أحوالك: لماذا تركت الوردة؟ ولماذا هجرت الخضراء؟
لن أجعلك مدرساً للحساب والعلوم، ولكني سأجعلك مدرساً للنصوص، وهاوياً للتاريخ والجغرافيا.
لن أذكر حكاياتك الغريبة معي كتأليبك أخواتي الأربع عليَّ بإغداقك عليهن، ليبدو كرمك عملاقاً في مواجهة شُحِّي وبُخلي!
لن أجعلك تموت في قطر وأنت تهاتف زوجتك في طنطا لأنها أخبرتك أن حريقاً شبَّ في بعض بيوت قريتك!
هأنذا أرى الغيم ينعقد على جبينك، والمزالق تعبرها واحداً واحداً، ولا تقع في فخاخ الصحراء، وأنت تقول لابنك الصغير:
ـ سامحني يا "مغاوري"!

المساء 20/12/1997م.

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:44 AM
(7)
*يا عينـي عـلى العاشـقين*
.........................................

(1)
.. ولأنه يقيم مع والده في مدينة السنبلاوين، ويدرس الطب في كلية الطب بمدينة المنصورة، كان عليه أن يركب القطار مرتين يومياً.
في محطة السكة الحديد بالمنصورة تعرف على "صفاء"، تسافر معه من السنبلاوين إلى المنصورة يوميا: بيضاء، ناعمة الشعر، لها خصلة شعر تتمايل على جبينها. أهم ما يميزها غمازتان في خديها، يتألقان حينما تضحك ـ من قلبها مُقهقهةً ـ أو تبتسم.
لم يبدأ الحب بينهما بالطريقة التقليدية: نظرة، فابتسامة، فموعد، فلقاء!. بل بدأ بعد نزولهما ـ من القطار ـ ذات صباحٍ مشمس، تتردّد فيه ـ من قاعة التشهيلات بالمحطة ـ أغنية أم كلثوم المُتحدِّية: "الحب كده".
ونما الحب، وترعرع داخل قطار الصباح الذي يغادر السنبلاوين إلى المنصورة في السابعة إلا عشر دقائق.
(2)
قالت له: أحبَّك، ونفسي أعيش معك .. بعيد .. عن الدنيا.. عن كل العيون، على رأي حليم!.
قال في صوت خفيض، حتى لا تسمع زميلتها البدينة، ذات الشعر الأشقر التي تتلصص عليهما منذ اكتشفت حرارة الأحاديث بينهما، وكانت قد حاولت أن تُنشئ علاقة مع طالب الطب ففشلت:
ـ قريباً يا صفاء .. بعد سنتين أو ثلاثة .. نتزوج، ونعيش في تبات ونبات .. ويكون لنا صبيان وبنات كما تقول حكاية الشاطر حسن!.
غضبت صفاء، وحينما تغضب صفاء فإن الشموس تهجر مداراتها، والعصافيرَ تُغادر أعشاشها، والبيوت تسقط على أرؤس ساكنيها. قالت:
ـ أنت تخدعني .. ولا تحبني.
وفكّت يدها من ذراعه، ولما أبصرت الشماتة في عيني زميلتها ذات الشعر الأشقر أعادت يديها الاثنتين إلى قبضة هشام، وظلت ـ رغم أنوف كل المتربصين والمتربصات ـ تغني لهشام أغنيات أم كلثوم، وعبد الحليم، وليلى مراد!
لكنه كان يحب أن يسمع منها أغنيات فيروز!.
(3)
لاحظ أبو هشام أن ابنه أصبح يتأخر عن مواعيده التي درج عليها في السنوات الأربع الماضية، ولاحظ أنه يسرح دائماً، ولأن طالب الطب ينجح طوال حياته بامتياز، فقد لفتَ أبوه نظره إلى أنه يجب عليه أن يذاكر، وأنه باقٍ على الامتحان شهران .. خصوصاً أنه أصبح ينام مبكراً كل ليلة، ويقرأ روايات ألبرتو مورافيا، وإحسان عبد القدوس، وخليل حنا تادرس، كما وجد عنده بعض أعداد من مجلة "الشبكة" التي لا يحبها أبوه، مدير الوعظ .. ولفت نظره إلى أنه يجب عليه أن يخلع صور الشياطين ألفيس بريسلي .. ونجوى فؤاد .. وسعاد حسني التي أصبحت تملأ حجرته، ولا تليق بابن الواعظ الذي تعوَّد أن يُصلي الفجر مع أبيه، وهو في السابعة.
(4)
5 مارس 1970 ليلة الجمعة:
أم كلثوم تُغني أغنيتها الجديدة "ودارت الأيام"، الولد مع البنت يستمعان إلى الأغنية في بيت البنت التي تشجعها أمها على الحب، لتجربة مريرة خاضتها في حب مُحامٍ من جيرانها لم تُكلل بالظفر، بل آبت بالزواج من المرحوم أبي صفاء الذي كان يعمل أميناً للشونة في قرية صغيرة، ويقترب عمره ـ رحمه الله وأحسن في الجنة مثواه ـ من ثلاثة أضعاف عمرها!
هشام وصفاء يستمعان في حجرة عتيقة إلى الأغنية التي جاءت على وجيعتهما برداً وسلاماً، يتشنجان وأم كلثوم تُردِّد: عيني .. يا عيني .. يا عيني!..
وبعد أن انتهت الوصلة قالت له إن هناك من أتى لطلب يدها، ولكنها ترفض لأنها مرتبطة بحبيب الروح هشام، الذي سيكون طبيباً قد الدنيا، وإن عليك إن كنت تحبني حقا يا هشام أن تُحضر أباك الواعظ ليتقدّم إلى أُمي لطلب يدي، وأنت تعرف أن أمي تحبك، وتُبارك هذا الحب، وسترحّب بقدوم أبيك!
(5)
ويعود الابن، حيث يسأله الأب: أين كنت حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ولكنه لم يُجب، ويدخل إلى حجرته، وتدخل أمه وراءه، وتقول له:
ـ يا بني أبوك يلومني كثيراً بسببك ..يقول لي: أنت السبب .. أنت اللي دلّعت هشام .. وفتّحت عينيه، وكنت تقولين له دائماً تتجوز بنت خالك علي أم بنت عمك عبد المقصود؟
ولكن الابن لا يرد. وتعود الأم في ضراعة:
ـ يا ابني .. مستقبلك يا حبيبي!
ويظل صامتاً.
(6)
في اليوم التالي (6 مارس)، وكان يوم جمعة، وفيه ساعة إجابة، قال الولد لأبيه في خجل شديد إنه يريد أن يتزوج، قال له والده كيف تتزوج قبل أُختيك اللتين تخرجتا من كلية الآداب، وأخيك المُهندس؟ قال هشام ـ وهو لا يكاد يرفع وجهه عن الأرض ـ على الأقل أخطب!
قال أبوه في غضب:
ـ ماذا تقول؟
ـ أقول أخطبها بس .. يعني أحجزها.
قال أبوه غاضباً:
ـ إنك مراهق، لا تعرف مستقبلك!
قال هشام، وكأنه يصرخ بكل ما اُوتي من قوة: إنها مستقبلي. فرد أبوه بعنف:
ـ لست ابني .. الله يعوِّض عليّ فيك.
ولم يكتف بهذا بل بصق ـ وهو يدير وجهه ـ بصقة كبيرة، وخلع فردة حذائه اليسرى وهوى بها في عنف ـ مرات كثيرة ـ فوق وجه زوجته التي لم تُحسن تربية هشام!!
أخذ الولد يبكي، وبعد قليلٍ غادر الولد الشقة ـ التي غادرتها بعد قليل أمه، وهي تسدل طرحةً كثيفةً سوداء على وجهها ـ وأمام بيت صفاء التقت عينا هشام الدامعتان، بعيني أمه المقرحتين، وارتفعت من خلف الباب زغرودة آملة .. مستبشرة.

المساء ـ 13/4/1970

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:45 AM
( 8 )
*الزواج في عربة الدرجة الثالثة*
..........................................

كنت في طريقي من الزقازيق إلى القاهرة في عربة قطار الدرجة الثالثة، وجلس بجواري معيدان بجامعة الزقازيق، أحسست بالزهو، فلست وحدي من يركب قطار الدرجة الثالثة.
قدّم لي أحدهما سيجارة:
ـ تفضَّل.
شكرته، فأنا لا أُدخِّن.
ـ نحن مازلنا في الزقازيق، والطريق طويل، فلابد أن تدخن معنا.
قال الثاني متبسطاً:
ـ أنت تعرف الكرم الشرقاوي .. يعني .. لازم تدخن!
فكرّرت اعتذاري.
القطار يتحرّك، جلست بجواري فتاة يبدو أنها طالبة بالجامعة، تضع حقيبتها على ركبتيها وتجتهد أن تُخفي بها ما ظهر من ركبتيها الممتلئتين.
سألها المعيد ذو الشارب الكث:
ـ هل تعملين في الزقازيق؟
أجابت في اقتضاب:
ـ أنا مازلتُ طالبة.
ـ في أية كلية؟
ـ في كلية التجارة.
وأخرجت مجلة نسائية، مليئة بالصور الملونة، وأخذت تُحدِّق في صفحات الموضة.
*
المعيدان ينتقلان من حديث إلى حديث.
قال أحدثهما سنا:
ـ أريد أن أتزوج! .. أفكر فيه.
قال الآخر ذو الشارب الكث:
ـ تزوّج .. هل يمنعك أحد؟!
يبدو المعيد الآخر أصغر منه بعدة سنوات. أضاف:
ـ ضع يدك في جيبك، وأخرج ما فيه، وتزوِّج!
قال المعيد الصغير، الضعيف، منتفضاً كعصفور بلّله القطر:
ـ الجيب ليس فيه شيء! .. أما ترى ما نصرفه كل يوم؟ أنا أصرف حوالي أربعين قرشاً في اليوم .. مصاريف فقط! والزواج يطلب كيس نقود!
أغلقت البنت المجلة، وأخذت تُتابع الحديث:
سألتها:
ـ أنت في أية سنة؟
ـ السنة الثانية.
ـ من القاهرة؟
ـ لا .. من بلبيس؟
ـ ما مهنة والدك؟
ـ تاجر أخشاب.
قال المعيد النحيف مشتركاً في حوارنا:
ـ هل أنتِ بنت الحاج محمد عوض الله؟
ـ نعم.
وهزت رأسها متسائلة في تشوق:
ـ حضرتك تعرفه؟
قال مقلداً صوت نجيب الريحاني، وكاشفاً عن قدرة تمثيلية باهرة:
ـ ومن في بلبيس لا يعرف الحاج محمد عوض الله؟!
*
يعود حديث المعيدين إلى انطلاقته، يقول المعيد الضعيف:
ـ العيشة غالية صحيح، لكن لازم الواحد يتزوج، ماذا نعمل؟
وينظر إلى البنت التي تضحك في عبها، ويقول ناظراً إلى عينيها العسليتين، ووجهها المدوّر كالقمر:
ـ والله لولا أمي ما كنت أقدر أعيش، أستلف منها يا حسرة، حتى بعد أن توظفت، فـ .. قل لي يا بك كيف نتزوج؟ وهل تعمل السبعة عشر جنيهاً شيئاً؟
قال البدين:
ـ طيب .. مادمت تعرف ذلك .. انتظر الفلوس اللي تعمل شيئاً .. كلها خمس سنين وتكون خلصت الماجستير والدكتوراه!
وينظر المعيد النحيف أبو سوالف لبنت الحاج محمد عوض الله، ويقول:
ـ أو أنتظر لمَّا أجيب مرسيدس مثل الدكاترة أساتذتنا، ما من أحد غيرنا أنا وأنت يركب الأتوبيس 11 .
يضحك البدين، ويُخاطبني:
ـ يقصد أنه يمشي ..يركب رجليه، (ويضحك) وأنا مثله!.
ويسأل النحيف:
ـ ما اسم الكريمة بلدياتنا؟
ـ فاتن ..
ـ المشكلة يا فاتن ليست مشكلة عربية مرسيدس، المشكلة أن مظهرنا يتطلّب منا ما يفوق السبعة عشر جنيهاً التي نقبضها .. المجتمع ينظر لنا نظرة ثانية .. إننا أساتذة جامعة، مظهرنا يتطلب فلوساً، والمراجع والكتب الضرورية بالنسبة لنا تحتاج إلى فلوس ..
وتهز فاتن رأسها، ويرد عليه البدين:
ـ كلامك مضبوط.
*
تدخل فاتن المجلة النسائية في حقيبتها .. تنشغل بصحيفة استعارتها من راكب أمامنا، يتوجه النحيل للبدين:
ـ الذي أنا أستغربه .. كيف تزوجت؟
ـ أنا متزوج وأنا طالب.
ـ طيب.. أنت محظوظ ياعم، لكن هل يكفيك مرتبك؟
ـ لا .. أنا أعطي لطلاب الثانوية العامة دروساً في الكيمياء والأحياء.
ـ جميل .. حل جميل .. بدل أن يجلس الواحد منا في المقهى، يعطي دروساً لطلاب الإعدادية، والثانوية العامة. (وهز رأسه، وهو يضيف) فكرة جميلة .. والله!
أكمل البدين:
ـ ثم أنا ساكن في شقة بثلاثة جنيه ونصف في حي السيدة زينب.
ـ معقول؟!
ـ نعم معقول .. بيرم التونسي كان يكسب مئات الجنيهات من أزجاله وأغانيه، وكان يسكن في سطوح الناصرية.
ـ متزوج زميلة لك؟
يبدو أن البدين لم يسمع، فأعاد عليه السؤال مبتسماً:
ـ لا مؤاخذة يا دكتور صلاح، زوجتك موظفة ولاّ ست بيت؟
ـ ست بيت .. هذا أوفر وأحسن .. لما أرجع من الشغل وأجد الأكل ساخنا أحسن من أن أرجع متعباً وأعمل الأكل لنفسي! ..
كانت معالم بلبيس قد اتضحت في الأفق، وبدأ القطار يُقلِّل من سرعته. ونهضت فاتن متجهة إلى باب القطار قائلة في صوت خفيض:
ـ السلام عليكم.
وقال صلاح لزميله النحيف:
ـ ولماذا تبحث عن عروس وفاتن موجودة؟، ربنا أرسل لك العروسة لغاية عندك، بنت ناس مبسوطين، وعارف أصلهم وفصلهم، ولما تتخرّج تكون حصلت على الماجستير. مع السلامة يا درش.
ابتسم مصطفى، وأشرقت عيناه في بهجة، وكاد يقع على الأرض، فقد توقف قطار الدرجة الثالثة فجأة أمام رصيف المحطة. أخذ يشد على أيدينا، وهو يقول بكرم شرقاوي، تفضلوا معنا.. تفضلوا.
ناداه صلاح:
ـ مصطفى .. ماذا قلت في العروسة؟
ـ قل يا رب.
كان القطار قد توقف نهائياً في المحطة، ورأيت فاتن ومصطفى يسيران معاً، يتحدثان، ويبتسمان. وعندما أصبحا قبالتنا، نظرا إلينا مُحيييْن، وأخرج صلاح كتاباً ضخماً باللغة الإنجليزية ليقرأ فيه، وقبل أن يبدأ القراءة بادهني قائلا:
ـ أترى أن السنارة قد غَمَزَتْ؟!

المساء ـ 10/4/1970

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:46 AM
(9)
* الطريق الطويـــل*
..........................................

كانت فرحة "شفيق" مقطوعة الذراع، لم تطُلْ، فهذا الصباح كمْ ترقَّب مجيئه، وكم كان يود أن يكون جميلاً، ولكنه جاء ـ ويا للأسف ـ وشمسُه غائبة خلف أسراب من الغيوم التي تزاحمت في الأفق البعيد.
وبحنين ولوعة ضمّ "شفيق" العددين اللذين ابتاعهما من الجريدة إلى صدره وفي قلبه حسرة، والطريق أمامه طويل .. طويل .. لا يعرف أين ينتهي، بل لعله لم يبصر بدايته بعد!
إلى أين يذهب؟ أيذهب إلى دار الجريدة؟ ولو ذهب! ماذا يقول لسيادة الناقد الكبير الدكتور مُحرر الملحق الأدبي الذي أتحفه بالأمس القريب بكلامه المعسول، وقال له: أنت واحدٌ من أفضل كتاب القصة القصيرة الآن؟!
قال لنفسه: فلتسكت، وليقدر الله ما شاء، فسيادة الدكتور مثلك الأعلى، ولربما جاءت عفواً، وسيتداركها في قابل الأيام، ولا تكسب عداوة أحد وأنت في أول الطريق!
التقى "شفيق" بمثله الأعلى (سيادة الدكتور: الناقد دائماً، القاص أحياناً)، في مكتبه بالجريدة، وبعد أن أخبره شفيق بتحليق الملحق، ونشره لروايات وإبداعات متميزة لجيل الرواد بلع ريقه، وأخبر الدكتور أنه يكتب القصة القصيرة، وأن له فيها بعض التجارب. ثم تشجع وقال: وفد أحضرت لك قصة تتحدث عن تجربة غريبة .. تجربة لقاء حبيبين بعد افتراقٍ طال عشرين عاما.
كان "شفيق" يتحدث بصدق، فهو لا يعرف النفاق، ولابد أن حرارة كلماته وصلت إلى شِغاف قلب الكاتب الكبير (المحرر الأدبي للجريدة، والأستاذ بالجامعة، والقاص أحياناً) فطلب كوب شاي لشفيق، وطلب منه أن يقرأ قصته.
وقرأ "شفيق" القصة وهو يرجو أن تكون مولوده الأول على صفحات الجريدة.
ابتسم الناقد الكبير وهو يقول لشفيق:
ـ بداية رائعة، فيها صدق في المُعالجة، وممتازة حقا، لابد أن تنشر في العدد الأسبوعي المقبل يوم الثلاثاء، فتشجيع الموهوبين من أمثالك مهمتنا، واكتشاف أديب متميز لا يقل عن اكتشاف بئر بترول!
وبلع الناقد الكبير ريقه، وهو يقول في مودة حقيقية:
ـ بداية رائعة يا شفيق!
قال شفيق في تواضع جم:
ـ إنها ليست بداية يا أستاذي؛ فأنا أُعالج كتابة القصة منذ وقت طويل، ولكن الظروف حجبت إنتاجي عن النشر! لعل أهمها بُعدي عن العاصمة!
وأخبر الأستاذَ أنه كان يفوزُ بالجائزة الأولى لمسابقة القصة القصيرة على مستوى جامعة القاهرة أيام أن كان طالباً في كلية الهندسة، ولكنه لم يحاول أن يتصل ـ من قبل ـ بأية صحيفة أو مجلة أدبية.
ومرت اللحظات بعد ذلك سريعة، تكلما فيها عن كُتب الأستاذ التي قرأها شفيق من قبل، وناقش قضاياها مع مؤلفها، فقد كان يريد أن يختلف معه حول مفهومه عن الفن للفن، وكان شفيق يرى أن الفنان الحقيقي لابد أن يكون ملتزماً.
خرج شفيق مسروراً، فغداً تنشر القصة في عدد الجريدة الأسبوعي الذي يوزع مئات الآلاف، ويكون اسمه مكتوباً بالبنط الأسود الكبير تحت "قصة العدد": اللقاء الأخير: شفيق مصباح! يالها من فرحة، ويالها من شُهرة كبيرة تهبط عليك يا شفيق فجأة وأنت في السابعة والثلاثين!
أين كنت يا حظي العاثر الذي ألقيتني مهندساً صغيراً في مجلس مدينة الزقازيق؟ فلتبتسم في وجهي مرة واحدة، ثم لتظل باسِماً إلى الأبد! فعندما تُنشر القصة الأولى في أكبر جريدة ستعجب الكتاب الكبار، وستصبح حديث المحافل الأدبية في القاهرة العجوز ـ التي يحسنُ كتابها الدعاية ولا يُحسنون الإبداع! ـ لأسابيع طويلة. فالناقد الكبير أعجب بها! هل سمعته وهو يقول إنها ممتازة، وستنشر في العدد التالي؟. سيكتب النقاد عنها بالطبع، وسأبلغ القمة، وذلك الناقد الثرثار الذي يتكلم في الصحف كثيراً عن موت القصة القصيرة سيتراجع عن دعواه لأن قصتي ستخرج لسانها له قائلة: القصة القصيرة لم تمُتْ يا أستاذ!، فيُعيد كاتبا شهادة ميلاد لهذا الفن المراوغ عل يديّ. ستحتل صورتي مكانها ـ الذي ينبغي أن تكون فيه ـ في الصفحات الأدبية، وسوف يستدعيني رئيس التحرير طالبًا مني قصصي الأُخرى، وستمنحني الجريدة مكافأة لا تقل عن عشرين جنيهاً أي أكبر من نصف مرتبي الذي آخذه عن شهر كامل من الخطط والرسوم والاجتماعات والصراخ والفكاهات الماسخة من رئيس مجلس المدينة، وحل الكلمات المتقاطعة.
ربما تعجب قصتي أحد المخرجين فيُحولها إلى مسلسل في هذا الساحر الجديد (التليفزيون)، يشاهدُه الملايين.أو ربما تتحول إلى (فيلم) يعطوني آلاف الجنيهات ثمناً لقصته، وليت مُعد السيناريو والحوار يلتزم بالقصة ففيها كل عوامل النجاح.
على أي حال لا مجال للعودة إلى منطقة الظل التي عشت فيها سبعةًً وثلاثين عاماً!، ولن يسخر مني زملائي المهندسون في مجلس المدينة حين أقول لهم: إني كاتبٌ للقصة، وسيقبلون نقدي الذي أمحضهم إياه ـ لوجه الله ـ عن مسلسلات التليفزيون التافهة! ولن يسخروا من مقدرتي النقدية حين أقول لهم: يجب على كتاب المسلسلات عدم المبالغة في الأحداث، والتزام الواقعية في رسم الأشخاص.
لا أيها الزملاء إن قصصي ليست على مستوى النشر فحسب، ولكنها ممتازة. هكذا قال لي الدكتور محرر صحة الأدب في أكثر الجرائد شعبية وانتشاراً.
وعاد شفيق، وهو يمني نفسه بأحلى الأمنيات، ويقول لزوجته التي تهوى القصص التافهة لكتاب غير مشهورين يعتمدون على صفحات الأحداث في الصحف، ليكتبوا قصصهم الفاجعة في تلك المجلة النسائية العجوز التي تكاد تحفظ ما يُنشر فيها من قصص، ولا تلتفت لأقاصيصه التي تملأ ثلاثة كشاكيل ضخمة!:
ـ غداً ستقرأين قصتي، ومع نشرها ينتهي اتهامك لي بعدم القدرة على كتابة القصة الناجحة.
وقال في نفسه: فلينتهِ هذا اليوم الذي أضع فيه حدًّا لعزلتي، وليجئ الغد، ومع مجيئه .. يسطع نجمي، وتُلعلع أفراحي وشهرتي إلى الأبد!
نام ليلةً جميلة مليئة بالأحلام، قام قبل الفجر، ربما لأول مرة يُصلي الفجر جماعة ويشعر بنشوةٍ غريبة لم يألفها من قبل! وكان عليه أن يتجه "لعم مصطفى" الذي يبيع الصحف أمام محطة القطار. لم يجد أحداً غير بعض الجنود الذين تبدو على محيَّاهم اللهفة والانتظار. لعلهم في انتظار سيارات الأجرة للتوجُّه إلى القاهرة.
كان عليه أن ينتظر بضع دقائق ثقيلة الخطى، قبل أن يصيبه اليأس من مجيء "عم مصطفى"، عليه إذن أن يتجه لبائع صحف نشِط، ليشتري عددين من الجريدة التي ستحمل ابنته الأولى إلى القرّاء.
ابتاع عددين.
فتح الصفحة، وانفرجت أساريره.
يا لشهرتك التي ستملأ الآفاق يا شفيق. ها هي قصتك. ها هي قصتك، ها هو عنوانها "اللقاء الأخير"، … وفجأة ..
وكأنما صُبَّ عليه "طست ماء بارد في زمهرير طوبة"! لقد بحث عن الاسم فلم يجده؟ كيف حدث هذا؟ .. قصتي بدون اسمي .. ابنتي لقيطة؟ ماذا سيقول لزوجته؟ ماذا سيقول لأصدقائه الذين أخبرهم بأن الجريدة ستنشر له قصة في نفس المكان الذي تنشر فيه لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ؟ لماذا رفض أن يقرأ لهم القصة وآثر أن يقرأوها هم صباح الثلاثاء؟
أيقول لهم إنها قصته؟ وهل سيُصدقونه؟ هل يقول لهم : انتظروا الأسبوع المقبل حتى تستدرك الجريدة سهوها، وتنشر تحت "سقط سهوا": كانت قصة "اللقاء الأخير" المنشورة في عدد الثلاثاء الماضي للقاص شفيق مصباح".
أيقول لهم إنها قصته؟ وكيف يُصدقونه اليوم؟!
من الأفضل ألا يذهب لمجلس المدينة اليوم، يأخذ إجازة عارضة! هل من الممكن أن يعتذر عن الاجتماع الشهري لرؤساء القطاعات؟
هاهو رئيس مجلس المدينة يرفض الاعتذار، ويتخلى عن صوته الودود، ويكاد يصرخ في الهاتف:
ـ يا رجل، أمن أجل وعكة صحية بسيطة تعتذر عن حضور اجتماع يُشرِّفُنا فيه السيد الوزير المُحافظ؟
لا .. لن أذهب، ستلسع النكات أُذنيَّ من جديد: فها هو الطبل الأجوف، لم تُنشر قصًّتُه.
ومسح دمعته، مغلقا باب شقته، الحمد لله .. مازالت زوجه نائمة، ونزل الدرج يبحث عن معالم الطريق الذي لا تبدو له بداية!

المساء ـ 20/4/1970م.

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:47 AM
( 10 )
*عرس هنادي*
......................

ضحك الكهل سائق السيارة "البيجو"، وهو يخبرني أن هنادي تزوجت، وأن عليه أن يسرع حتى يلحق وليمة عقد القران.
كنا بعد صلاة الظهر بقليل، وكنت في طريقي عائدا من المطار إلى القرية في رحلة سريعة من السعودية حيث أعمل محاسبا في شركة كبيرة للمقاولات بالرياض. أصرّ الكفيل أن أعود في خمسة عشر يوما.
قال الكهل:
ـ أهذه أول زيارة لك بعد العمل في الرياض؟
ـ لم أسافر إلا من خمسة أشهر فقط!
ساد الصمت بيننا، فقطعه بصوت مباغت:
ـ هل تعرف هنادي؟
ـ ومن لا يعرفها؟!
ـ إنها تعمل محاسبة في الإدارة البيطرية!
ـ أعرف.
ـ مسكينة! ماتت أمها، ومات أبوها، وكانت مقطوعةً من شجرة رغم أنها ذات عشرة أخوة يسدون عين الشمس، منهم وكيل النيابة، والمهندس، ومحصل الأتوبيس، وسارق كيزان الذرة ليشتري علبة سجائر من دكان الحاج "محمود المنيسي"!
كنا في الصف الثالث الثانوي، وكانت مصر تخوض حرب 1967 حينما دخلت عليّ صارخة:
ـ أخي شوقي يريد أن يزوجني من "عبد الفتاح بك"؟
نظرت بفجيعة لها!
كان أخوها الذي حصل على ليسانس الحقوق قبل عام، وأجبره أبوه على أن يطلّق الأرملة التي تزوجها في القاهرة ـ والتي قيل إن عمرها في عمر المرحومة والدته، وإن لها أولادها بشوارب يقف عليها الصقور ـ قيل إن هذا الأخ المحروس، يريد أن يزوجها لتاجر الأقطان، وعضو مجلس الشعب الأرمل ذي الستين عاما حتى يسعى لتعيينه وكيلا للنيابة!
كانت زوجة أبيها البيضاء، الجميلة، ذات الشعر الأصفر الطويل تدّعي عليها أقاويل كثيرة: فقد جعلتها في حكاياتها تُضبط مع محمود المخزنجي في القصب، وتسرق "جَمْعة البامية" وتبيعها لتهديها للولد محسن السرسي ـ زميلها القديم في مدرسة التجارة والذي رسب ثلاثة أعوام في الدبلوم ـ وادّعت الجميلة، البيضاء، ذات الشعر الأصفر ـ أن هنادي سرقت ملابس المحروسة لتعطيها لخالتها "فاطمة" التي تربي أولادها اليتامى من الخدمة في البيوت، والسحت، والتعديد على الميتين، وسرقة الحقول التي تنام نواطيرها!
كنا هناك عند السنطة العجوز نلعب، وكنت أصنع أفراسا من الطين، بينما كانت "هنادي" تعمل عروسا لها ضفيرتان طويلتان وكراسة صغيرة وقلما رفيعا من البوص تجتهد أن تلصقه فوق كتلة الطين.
كنت أعمل للفرس عُرفا، وكانت تصنع للعروس نهدين صغيرين ينزل منهما اللبن شهيا كما لم أذقه من قبل من "******" جاموستنا العفية!
سكت الكهل متعبا، وجدني أُغمضُ عينيَّ، وأنام، وصوت "أم كلثوم" الأثير من إذاعة القاهرة يُردد أغنية "سيرة الحب" التي أحتفظ لها ـ مع وطفاء، أين هي الآن؟ ـ بأجمل الذكريات!
كنت ألعب مع هنادي، جارتنا، بعد الخروج من الدرس عصرا، ولا أذهب للبيت للنوم إلا بعد أن تنام.
كانت قطة بيضاء صغيرة، وأنا كنت أحب القطط والكلاب الصغيرة، وأجعلها تنام في أحضاني!
في الصباحية ذهبت إلى "هنادي"، لأعطيها النقطة عشرة جنيهات، قالت لي ـ وبقايا لون أحمر رخيص على شفتيها الباهتتين ـ:
ـ أما زلت تذكر أفراس الطين؟
كنت الأول دائما، وكانت بين بين!
جاءتني مذعورة حينما علمت أن "وطفاء" ـ ابنة ضابط النقطة الذي يعمل الجميع له حسابا ـ تهتم بي في الدرس، وتريد إغوائي، وأهدتني منديلا أحمر، وأنا خارج من المسجد بعد صلاة التراويح!
قلت لهنادي (من وراء قلبي، فأنا لا أحب أن تزعل): أخاف من بنات الضباط، فأنا فلاح أهوى القطط البيضاء، والكلاب السوداء الصغيرة، وأحضان أمي! وأخاف من المرور على نقطة الشرطة التي تمتلئ بالعفاريت!
بكت "هنادي"، فقد ماتت أمها صغيرة، وزوجة أبيها ذات الشعر الأصفر الطويل الذي يغطي فخذيها ليس في أحضانها مكان متسع لهنادي، فهي تنجب كل تسعة شهور ثلاثة أولاد!
قلت، وأنا أتطلع إلى ذلك الزمن الجميل البعيد:
ـ أمي مريضة يا هنادي، وقد جئت من السعودية لأراها، والحمد لله أن حصلتها …
ـ وكيف حالها الآن؟
ـ متأخرة .. لم تعرفني .. ربنا يسهل عليها!
قالت لي: إن عرائسها ـ من الطين والحلوى ـ في الشباك تنتظر أفراسي لتُزفَّ عليها!
صمتُّ، فقد كنت ذا حلم كبير؛ أن أحصل على الدكتوراه في المحاسبة! وأن أتزوّج "وطفاء" بنت المأمور، وأن أسكن المدينة، وأترك الريف الذي يمتلئ بالذباب والبعوض والحفاء!.
قالت لي: إنها ستشوه وجهها بالنار إذا اقترب منها أحد غيري، وستشوِّه وجه "وطفاء" إذا اقتربتُ منها، لكنها لم تجرؤ على تهديدي بسكين أو خلافه، ولم تصرخ في وجهي!.
كانت تهدِّد كأنها تحلم!
كنت بدأت أترك الشعر والأحلام، وأبحر في قارب الأرقام، فتخليت عن الوردة البيضاء ذات دبلوم التجارة، وحلمت بفاتنات ـ منهن "وطفاء" ـ يسكن في قصور المدينة الكبيرة، ويركبن السيارات التي لم تدخل قريتنا أبدا، وجوههن بيضاء مربربة، وخدودهن حمراء كورود حديقة صديقي منصور، أو كبيض شم النسيم، وصدورهن صغيرة كحبات البرتقال اليوسفي، ليست كصدور بعضهن المنتفخة العارية على أغلفة المجلات الخليعة!
سمعت ذات مساء زغاريد خطبة "هنادي" إلى "عبد الفتاح بك"، عضو مجلس الشعب، وقابلتهما في ميدان "رمسيس" بالقاهرة يتجاذبان الحديث الضاحك، في ود حقيقي!
وذات صباح، لا أدري لونه، مات عضو مجلس الشعب (عبد الفتاح بك) بعد أن صار أخو هنادي وكيلا للنيابة، وارتدت "هنادي" السواد، وأضربت عن الزواج!
لمحت دموعا سوداء تلمع في عينيها، لكنها أدارت وجهها لتمسحها، وغيرت مجرى الحديث:
ـ وهل ستعود ثانيةً إلى السعودية؟
ـ العمل يحتاجني.
شهقت:
ـ وأحضان أمك؟
لم أجب، فقالت بود ووجهها يمتلئ بمساحات للفرح:
ـ أما زلت تذكر الأفراس الطينية، وأشجار السنط، والاستحمام في الترعة، وقططك وكلابك الصغيرة؟!
كانت آخر أضواء الصباح تنسحب من الغرفة، وكنت أمسح دمعة كبيرة من العين:
ـ ذلك كان زمان اللعب، والدروس، والسنطة العجوز … يا هنادي! .. ذهب وأخلى مكانه للحزن والبعاد!
توقف الكلام بيننا، فقد سمعت اللغط في بيتنا المجاور، وصراخ شقيقاتي اللائي جئن من القاهرة يبكين أمي التي لن أراها مرة ثانية!

الرياض 23/12/1997

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:48 AM
( 11 )
*انتـــــــظار*
..................

أشرقت الشمس بنورها الفضي، وملأت القرية دفئاً وبهجة، وفرحاً واستبشاراً . وتدفقت جموع القرية على محطة السكة الحديد في انتظار القطار الذي سيحمل إليهم الجنود العائدين من الحرب في اليمن ، فقد ذهبوا إلى اليمن الشقيق لمؤازرته ، و"لإنقاذه من جهل العصور الوسطى ، وحكم أسرة حميد الدين" ، وهاهم اليوم يعودون بعد أن سجل التاريخ بطولاتهم "بحروف من نور في صفحات من ذهب" .
وبدأ القطار يظهر في الأفق ، واتضحت معالمه شيئاً فشيئا .. هاهو القطار الذي يحمل حُماة الحرية .. وناصري الحق !
وتوقف القطار وانطلقت الزغاريد ..
وكانت هناك ـ بجوار المحطة ـ خالتي "مباركة" ، وهي امرأة صغيرة الحجم ، عيناها غائرتان باهتتان ، خاصمتا الكحل من وقت طويل .
مشت بجاموستها الهزيلة إلى الحقل الذي تتأجر منه ثلاثة قراريط، ووضعت أمامها وأمام جديين صغيرين شقيين حزمتين صغيرتين من البرسيم.
كانت تعانق الخيال، وتتمنى أن ترى ابنها هو الآخر، وتبحث عنه بين جموع العائدين الذين شُغلوا عنها بالفرحة والزغاريد ودموع اللقاء.
قالوا لها ـ منذ شهرين ـ إن ابنك مات.
ابني قد استشهد.
جاءت إلى المحطة تنتظر، إنها تعرف أن ابنها في زمرة الأحياء، سيبقى خالداً في سجل الخلود.
الأمهات فرحات بأبنائهن العائدين، والأبطال تبدو عليهم فرحة غامرة (كأنهم لا يصدقون أنهم عادوا إلى أرض الوطن). ابنها أيضاً "بطل".. وهي التي صنعت هذا البطل ..ابنها الذي استشهد في جبال بعيدة .. وفي أرض غريبة .
مات أبوه وهو مازال في بطنها ، كانت ابنة أربعة وعشرين عاما، مات لها ثلاثة أولاد وبنتان قبله .. ترملت من أجله، وحتى يتربى أحسن تربية رفضت أن تتزوَّج. صحيح أنها ليست جميلة، ولكن جاء لها أرملان يعرضان عليها الزواج : محمد أبو سليم، وصابر الملاّحي.
بطل؟ إنها هي التي صنعت هذا البطل .. تاهت الكلمات، وارتطمت بمخيلتها .. وهي ترى كل أم تعانق ابنها. ليته يعود ليقوم بشأن الجاموسة والجديين والقراريط الثلاثة، لم أعد أتحمَّل يا محمود .. فهل عدت معهم؟
الزغاريد انطلقت تشق أجواز الفضاء .
حاولت أن تُزغرد ، أن تفرح مثل الناس . ولكن ابنها "محموداً" الشهيد الغائب كان قد ملك عليها روحها.
انفضت جموع القرية ، نزلت من الرصيف إلى حقلها المجاور ، كانت الجاموسة تحرك ذيلها بشدة تبعد عنها ذبابة كبيرة سوداء تضايقها ، والجديان الصغيران يمرحان ويجريان.
إن ابنها حي ، لم يمت ، هكذا قال إمام المسجد ـ الشيخ عبد الفتاح ـ .. سيعود يوماً، ولهذا فهي تنتظر.

التعاون ـ 1967

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:49 AM
(13 )
*يا فرحــــة .. ما تمت!*
(أصوات ومشاهد)
..............................

*صوت أول:
كان الغناء يتصاعد شجيا، وكانت جوقة المنشدين تهتز يمنة ويسرة، وكان الشيخ "محجوب" ذا وجه مضيء كالبدر وصوته يتصاعد بالنداء الروحي الجليل، فيهفو إليه اليمام والعصافير والعنادل التي طلقت الغناء منذ وقت طويل!
وكانت زوجته "باتعة" تطفئ الأنوار، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتذكر كيف حاول "محيي" (أخو زوجها الأصغر) إغواءها، فدفعته في صدره، وقالت له في نبرة لا تخلو من عتاب:
ـ أنا أمك يا محيي، لقد تزوجت أخاك وأنت في السابعة!
قال في وقاحة:
ـ ولكنه مشغول عنك بأذكاره ومواجيده!
*مشهد أول:
قال الراوي:
قريتي العصايد، مركز ديرب نجم، محافظة الشرقية (ومهم أن نذكر اسمها هنا) قرية من خمسة آلاف قرية مصرية، تضم نحو ستة آلاف نسمة، وهي قرية أم لمجلس قروي العصايد الذي يضم معها سبعة بلاد أخرى.
أُنشئت في قريتي عام 1962 وحدة مجمّعة تضم مستشفى، ومكتب بريد، وسنترال تليفونات، ومدرسة ابتدائية، ومكاتب لمقر المجلس القروي.
وبالطبع، كمبنى أي وحدة أنشأتها الإدارة المحلية أنشئت في المبنى قاعة مسرح كبيرة لم تشهد إلا خمسة اجتماعات جماهيرية حضرها رئيس مجلس المدينة (مصطفى بيه الجندي) وأمين منظمة الشباب (بدر بدير)، وكان الشيخ أحمد أبو سليمان يقود هتافات الجماهير التي تزلزل البلاد السبعة للمجلس القروي:
ـ يحيا جمال عبد الناصر. يحيا مصطفي بيه الجندي!
وكانت هذه الهتافات تتخلل اللقاء بمعدّل هتاف كل خمس دقائق، وأحياناً بعد دقيقة أو دقيقتين إذا حدث طارئ وذُكِر اسم الزعيم الخالد!
وقد كف الشيخ أحمد أبو سليمان عن الهتاف بحياة "مصطفى الجندي" ـ مؤخرا ـ بعد أن نبّه عليه رجل مهم بأن عليه ألا يذكر مع اسم الزعيم (جمال عبد الناصر) اسم أي شخص آخر!
**
*صوت ثان:
قال أبوها (الشيخ محجوب):
ـ البنت لم تعد منذ يومين إلى البيت يا باتعة!
قالت أمها:
ـ إنها تتأخر في فصول الاتحاد الاشتراكي، فتبيت عند خالها في ديرب نجم!
ـ ولكن خالها له أولاد في مثل عمرها، وعلى "وش جواز"!
ضحكت، وربتت على فخذه وهي تقول:
ـ بنتك مؤدبة يا حاج "محجوب"، ليست من بنات هذه الأيام! وأشرف وأحمد ابنا سليم أخي مؤدبان، وحييَّان كالبنات، ولا يفعلان العيب!
*مشهد ثان:
وقفت باتعة على حافة الموج، كانت الرياح عاصفة .. أحست بالشمس تقترب من رأسها، كانت ملتهبة، ويد خبيثة تدفعها تجاه البحر، هوت رجلها ولكنها تعلّقت بفرع شجرة صفصاف، وحينما خرجت إلى الشاطئ ناجية وجدت فراشا أحمر، فوقه بعض الكراسي .. وناس كثيرون يشكلون نصف دائرة، تستمع بشغف إلى خطيب أو مغن أو ما شابه. تمشت، فوجدت أختها "سامية" جالسة تأكل عنبا أبيض، فمدت وأخذت عنقودا قبل أن تعزم عليها أختها!
وصحت من النوم، وهي تحس بطعم العنب في فمها!
ونادت عل ابنتها "حنان" لكي تأتي لها بكوب ليمون يبل ريقها الناشف، فلم تجدها!
**
*صوت ثالث:
ترك الشيخ "محجوب" الدراسة وهو في السنة الثالثة بكلية الحقوق ـ كلية الوزراء ـ التي ألحقه بها أبوه ـ شيخ الطريقة ـ قبل أن يموت!
خلع البذلة، وارتدى الجلباب، ولبس العمامة والطربوش!
أصبح الكبار والصغار من مريديه لا يتركون بابه، ويتكلمون في حضرته بصوت خفيض! ويتمنى أحدهم لو يطلب منه "لبن العصفور" ليحضره أسرع من جن سليمان عليه السلام!
لم يكن يتعس الشيخ "محجوب" إلا مرأى أخيه محيي ذي الشعر المشعث المغبر، والذي صار في الخامسة والأربعين، ويرفض الزواج، وسلوكه ليس فوق مستوى الشبهات!
*مشهد ثالث:
قال أشرف ـ وهو ينظر في صفحات كتاب ضخم من كتب الجامعة ـ لحنان:
ـ لماذا لم يتزوج عمك الأستاذ محيي؟
ضحكت:
ـ يقول إنه مازال صغيرا على الزواج!
قال ـ وهو يخفي وجهه في الكتاب ـ:
ـ الناس يتحدثون عنه حديثا …
قاطعته:
ـ الناس لا يتركون أحدا في حاله!
**
*صوت رابع:
كان أشرف يكبر حنان بخمسة أعوام، هو في السنة النهائية بكلية التجارة بالقاهرة، وهي بالفرقة الثانية بمدرسة التجارة الثانوية بديرب نجم.
يصحو في الفجر، يصلي في المسجد، ويفطر ، ويركب أول حافلة للزقازيق في الخامسة والنصف صباحا ليلحق أول قطار متجه إلى القاهرة في السادسة والربع.
وما بين الرابعة والسابعة مساء يعود!
يقرأ دروسه ساعتين أو ثلاثا كل يوم، وينام قبل العاشرة والنصف، وأحيانا بعد صلاة العشاء مباشرة.
*مشهد رابع:
قال الراوي:
… وكأي "وحدة مُجمَّعة" جاء لوحدتنا جهاز تليفزيون، منذ متى؟ الله وحده يعلم! .. المهم أننا أردنا أن نعمل حفلاً بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة 23 يوليو، ووافقت الجهات المعنية على ذلك، واخترنا مسرحية وطنية لسعد الدين وهبة، ومسرحية إسلامية لمحمد محمود شعبان، وبدأ عامر علي عامر يُعدُّ لإخراج الحفل.
**
*صوت خامس:
ضحكت حنان، وأشرف يقرصها في خدِّها الذي احمرّ بلون التفاح الأمريكاني الذي يراه محمد معروضا في محلات الزمالك حينما يذهب لزيارة خالته "وداد"، زوجة المستشار التي لم تنجب، وتعده ابنا لها، وتقول له:
ـ سأزوجك بنت الباشا!
ـ هل مازال هناك باشوات يا خالة؟
ـ نعم! الزمالك كلها باشوات
قالت حنان:
ـ سأقول لعمتك باتعة أنك تعاكسني!
رفع يديه إلى فوق علامة التسليم، وكأنه بقول: أنا لا أقدر على أمك يا حنان!
وأضاف في استسلام:
ـ عمتي باتعة صعبة!
*مشهد خامس:
قال لنا الأستاذ محيي ـ حينما زارنا ليطّلع على بروفات المسرحية الإسلامية ـ وهو ناظر المدرسة الابتدائية بالقرية، وأكبر متحدث في السياسة والأدب والمجلات الخليعة التي تصدرها "بلاد برة" ولا يطلع عليها أحد في مصر، وأخو الشيخ محجوب شيخ الطريقة الصوفية في إقليمنا:
ـ بدل الحفلة .. خلوا التليفزيون يشتغل؟
ـ أي تليفزيون يا أستاذ محيي؟
ـ التليفزيون المرمي في مخازن المجلس.
ـ ولماذا لا يطلع من المخازن ويشتغل؟
ـ لأن فيه عطلا فنيا ياسيدي؟
(ولا ندري كيف يكون هناك "عُطل فني" وهو لم يُستعمل على الإطلاق! اللهم إلا إذا كان السيد أمين المخزن يدير الجهاز في المخزن، ويشاهده مع كافة محتويات مخزنه: من الأكياس، والكراسي، والأوراق، وصفائح العسل، والفئران التي تستطيع أن تأتي على مزروعات عزبة صغيرة ـ مثل عزبة الدكتور عبد الوهاب مورو المجاورة ـ في ليلة واحدة!)
**
*صوت سادس:
ضحكت حنان وأحمد يشد يديها، ويتحسس شعرها، وينظر بشهوة من فتحة الفستان ليرى منابت ثدييها:
ـ سأقول لأشرف أخيك!
قال في صوت واهن:
ـ أشرف مشغول ببنت الباشا التي ستزوجها خالتي له!
وشد يدها مرة ثانية، ولواها ـ وهي تقول ـ:
ـ لن أجيء إلى بيتكم مرة ثانية!
*مشهد سادس:
… بدأنا حملةً لتمويل الحفلة التي سندعو إليها المحافظ، ورئيس مجلس المدينة، وأمين منظمة الشباب، واقترحتُ أن نأخذ من كل أسرة ـ بإيصال ـ خمسة قروش.
وحينما بدأنا عملية تمويل الحفل، قال لنا الفلاحون والطلاب والموظفون والنساء والأولاد الذين لم يخرجوا من البيضة بعد ـ في نَفَسٍ واحد ـ:
ـ خلوا التليفزيون يشتغل.
وقال لنا طلاب المعهد الديني بالزقازيق:
ـ كل القرى المجاورة للزقازيق تليفزيوناتها تشتغل، والناس يشوفون النشرة، وحلقات المسلسلات، ومصارعة محمد علي كلاي، وخطب جمال عبد الناصر، ورقصات نجوى فؤاد!
وقال لنا الأهالي والمسؤولون ـ وكأنهم على اتفاق ـ:
ـ متى سيشتغل التليفزيون؟ ..
وعملنا اجتماعاً مع رئيس المجلس القروي، ووكيلته، وحمل رئيس المجلس التليفزيون في سيارة المجلس إلى ديرب نجم، وعاد في آخر النهار ليُفاجئنا بالخبر المثير: إن إصلاح الجهاز سيتكلف عشرين جنيهاً.
**
*صوت سابع:
أحمد متوهج المشاعر، يحب كل شيء في حنان. صوته يجلجل في أذنيها دائما، ويقول حكايا لا نسمعها لنكتبها هنا، وأشرف بعيد .. بعيد عند خالته "سامية" التي ستزوجه بنت الباشا في الزمالك ..
حنان تستجيب لأحمد، وأحمد صغير "على قدِّها".
قالت باتعة للشيخ محجوب:
ـ أشرف طار منا إلى قصور الزمالك.
ـ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين!
ـ أحمد ولد حبُّوب!
ـ ربنا يحفظه بفضله وكرمه..
صمتت برهة، ثم قالت بصوت خافت:
ـ أحمد فيه البركة .. أشرف ابن أمه!
أفاقت على صوت الشيخ محجوب:
ـ ماذا تقولين؟
قالت وهي تقوم، وتنفض ثوبها من بعض الغبار الذي علق به:
ـ خالة أشرف ـ زوجة المستشار العاقر ـ تقول إنها ستزوجه بنت السلطان!
*مشهد سابع:
أحست حنان ـ مع أحمد ـ أنها تخطّت الزمان، والمكان .. أصبحت نجمة تحلق في الشفق البعيد، أو نسمة حرة تنطلق في ملكوت الله، وكانت تعود بعد العشاء فلا يسألها أبوها: لماذا تأخرت؟
**
صوت أخير:
كنا قد جمعنا من الأهالي خمسة عشر جنيها، وقال لنا الأستاذ محيي:
ـ الحفلة ليست مهمة يا أساتذة. الأفضل إصلاح التليفزيون!
ورددت القرية ما قاله الأستاذ محيي:
ـ الأفضل أن التليفزيون يتصلّح!
وتطوع بعض الزملاء لجمع خمسة قروش من كل طالب إعدادي، أو ثانوي، أو جامعي، ويقال إن بعض الفلاحين دفعوا عشرة قروش، وبعضهم أقسم بالله ألا يدفع، وألا يُشارك في منكر، واعتبرناها حجة لعدم الدفع بالتي هي أحسن!.
*مشهد أخير:
ابتسم المصور رافعا قبعته، فبدت رأسه الصلعاء كبيرة، وبيضاء، ولامعة، وهتف أحمد أبو سليمان بحرارة "يحيا مصطفى بيه الجندي"، وأظهر الشيخ محيي مجلة مليئة بالصور العارية التي تظهر فيها ****************** والأرداف بدون ورقة التوت، وتوقفت حنان عن الكلام المباح، فلن تسعفها الكلمات لتصف كيف أحست وقع أول قبلة من أحمد في فمها، كان صوت أبيها ينشد مواجيده التي تترقرق عذبةً في الفضاء العالي، وكانت تحس أنها تحتوي العالم كله في صدرها، وكان خدر غريب يسري في أطراف جسمها، وكان جمال عبد الناصر يقول إن اليهود وصلوا إلى قناة السويس، وإنه سيتنحّى لمن يقدر على إدارة الصراع في هذه الفترة، وخطب الشيخ إبراهيم حمزة (الإخواني القديم) قائلاً: إن اللعنة تطاردنا لأنا ابتعدنا عن منهج الله!، وادّعى (الأخوة المسيحيون) أن العذراء تظهر في الزيتون، وظهرت في قرية مجاورة واحدة قيل إنها حملت بدون زواج وقالت إن هتلر أتاها وبشرها بالنصر على اليهود، وأنها ستلد طفله! وكان التليفزيون يعرض رقصة مجنونة لواحدة تفتح ما بين ساقيها حتى أقسم الشيخ عبد المقصود أن هذا إفك قديم، وأنها تُظهر مالا يحق لأحد غير زوجها ـ إن كانت متزوجة ـ أن يراه، وولدت "معزة" عبد الجواد صاعد خمسة توائم، قيل إن أحدها يحمل رأس إنسان، وادّعى خليل أبو مبروك أن "أم محسن" التي ماتت وهي تلد في الحرام على يدي حلاق القرية أنها قالت إنها حملت من جني نصراني كان متلبسا بها! وكان طلق ناري يخترق الظلام!
وحمامة بيضاء تسقط في الظلال الباهتة مضرّجة بالدماء!
وجهاز التليفزيون ينفجر، كأنه قنبلة، ويعم الظلام كل شيء.

المساء ـ 23/9/1970

د. حسين علي محمد
25/01/2008, 11:54 AM
(14 )
*الأتوبيس .. والركوبة الملاَّكي!*
..............................................

حينما وصل إلى القاهرة بمفرده ـ ليُقدِّم أوراقه إلى الجامعة تذكّر قول أبيه له:
ـ "خذ بالك من السيارات العامة في مصر، حذارِ أن تُسرق، أو تُضَيِّع نقودَك".
أنزلته سيارة الأجرة التي ركبها من ديرب نجم في ميدان "أحمد حلمي"، هاله الزحام الذي رآه، وأخافته كثرةُ السيارات.
ولأن هذه هي المرة الأولى التي يجيء بمفرده فيها إلى "أم الدنيا" فقد كان حذِراً؛ صحيح أنه جاء إلى القاهرة مرات قليلة مع والده لزيارة آل البيت ـ رضي الله عنهم ـ سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة. وصحيح ـ أيضا ـ أنه جاء منذ أربعة أعوام ليكشف عند طبيب مشهور عن علة أصابته، وأرّقت أُمه يومها لدرجة أنها قالت لأبيه: إنها مُستعدة لبيع قيراط أرض (من قيراطيها اليتيمين .. رحمها الله) لتُعالج ابنها الوحيد! ولكن الصحيح (قُل الواقع الذي لا مفر منه) أن أباه تزوّج، ومشغول بالغندورة الصغيرة، وتركه لأول مرة يُسافر بمُفرده! هل هذه مقدمة لأيام الجامعة بنكدها وغُربتِها؟
قالوا له في ميدان رمسيس ـ بعد أن عبر نفقاً مُظلما تحت القطارات التي تنقل البشر من أرجاء مصر المحروسة إلى القاهرة:
ـ لابد أن تركب الأتوبيس رقم (9) أو (9) بِشرطة لأنه هو الذي يمر على شارع المساحة بالدُّقي حيث يوجد "مكتب التنسيق"، وعليه أن يسحب الأوراق قبل الظهر، ثم يُعبِّؤها باختياراته ويقدِّمُها للمكتب مرة ثانية في الخامسة مساءً، ويركب قطار الخامسة والنصف إلى الزقازيق، أو الحافلة المتوجهة إلى دمياط في السادسة حتى تُوصِّلُه إلى ديرب نجم.
ولأنه يخاف على أوراق الثانوية العامة التي حصل عليها بتسع وثمانين في المائة، ويخاف على الورقة بخمسة جنيهات (كاملة) التي أعطاها له أبوه بعد أن حاسب سيارة الأجرة التي تُقلُّه إلى ميدان أحمد حلمي، فقد وقف ساعة كاملة ينتظر حافلةً فيها مكان لقدميه. تبين بعد أن مرَّ به أكثر من عشرين حافلة تحمل الرقم (9) أو(9) بشرطة. تيقَّن أنه ينتظر المستحيل!!
قال لنفسه: "فلتحاول أن تركب مثل خلق الله" ، ورغم الزحمة والصيف الخانق في العاشر من يوليو فقد استطاع أن يجد مكاناً في الحافلة المليئة بالشباب، والشيوخ، والنسوة، والبنات المنزويات وسط هذا التلاحم الخانق! بيده اليسرى ملف أوراق الثانوية العامة، وبيده اليمنى يتحسس على جيب بنطلونه!
ووصل أخيراً إلى محطة المساحة، وكان قد طلب من عجوز تجلس بجوار الشباك أن تنبهه عندما تجيء المحطة. يبدو أنها قد نبهته مُتأخرة فلم يستطع الوصول إلى الباب إلا بعد محطة كاملة، ولعل هذا كان من تصاريف القدَر الجميلة التي يحمدُها، فقد أعطته فرصة لتحريك أقدامه التي ظن أنها قد أصابها العطب في زحام الحافلة، وكانت فرصة ليُعيد هندمة ملابسه التي ضاع أثرُ المكواةِ عنها، وأن يُدخلَ قميصه في البنطلون، وأن يحمد الله على أنه نزل من الحافلة سالماً، لم يفقد يدا أو رجلا!
وفكَّر كيف كان حماره الحصاوي المُطهَّم" يقطع المسافة من العصايد إلى ديرب نجم في ساعة زمن ـ في البرد أو الحر لا يهم ، فحكايات زميله الأثير خليل تدخل قلبه دون استئذان، ويمر الطريق كأنه خطوات معدودة!
كانت حكايات خليل تسبر أجواء تشبه حكايا ألف ليلة وليلة التي قرأها في كتاب أبيه القديم الذي يُخبِّؤه تحت مرتبةِ السرير! كان في الأعوام الستة الماضية ـ على امتداد سنوات الدراسة في المدرستين الإعدادية والثانوية بديرب نجم يحلم حلماً مجنوناً لم يحققه الله إلا في الشهر الأخير من السنة السادسة، وهو أن ينفق حماره حتى يركب الحافلة الخالية من الركاب التي تتنقل بين السنبلاوين ـ العصايد ـ ديرب نجم ـ ميت غمر ، ولا تجد من يركبها!
لكنِّه بعد أن مر بتجربة هذا الصباح في الحافلة ذات الرقم (9) بِشرطة، وبعد أن رأى كيف يمتهن الجسم الآدمي (ملحوظة: لا أستطيع أن أصف في هذه المذكرات كل ما رآه صاحبنا في الزحام على امتداد نصف ساعة من امتهان للآدمية حيث الأجسام متداخلة، ورائحة العرق البشعة مختلطة بالعطر الرخيص، وأجسام البنات مُنتهَكة في خصوصياتها) (ملحوظة ثانية: لا أستطيع أن أكتب أكثر من هذا، فقد يقرأ أبي هذه المذكرات، فيظن أنها قد حصلت لي فيحلف بالطلاق أني جننت).
جلس في حديقة قسم الجغرافيا لا يُغادرها، على حشائشها كتب رغباته، وفي الخامسة مساء كان أول الواقفين أمام الشبابيك لتقديم أوراقه. وبعد أن قدَّم أوراقه لم يُفكِّر في تنفيذ برنامجه الذي كان قد عقد العزم بينه وبين نفسه على تنفيذه: المبيت عند قريبه صابر مخلوف زوج عايدة ابنة خالته في شُبرا، وأن يزور غدا صباحاً المتحف المصري والقلعة، ويُصلي الظهر في الأزهر، ثم يزور أولياء الله الكرام:الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة "شي الله يا أهل البيت!"، ثم يعود مساءً في حافلة السادسة مساء المنطلقة إلى دمياط، حيثُ ينزل في ديرب نجم، ويعود ـ ولو ماشياً ـ إلى العصايد.
بعد أن قدَّم أوراقه لم يفكر في أن يُنفِّذ البرنامج! لم يركب حافلةً أو سيارة أُجرة، مشى على قدميه، سأل، والذي يسأل في مصر لا يتوه، عبر كوبري الجامعة، فالمنيل، فشارع القصر العيني، فميدان التحرير، فشارع الجلاء، ووصل بعد ما يقرب من ساعتين إلى ميدان أحمد حلمي، وركب سيارة أجرة ـ صاحبها من بلدهم ـ إلى ديرب نجم، وطوال الطريق كانت فكرة مجنونة تُداعبُ خياله:
لو كان معه حمار (كحماره الحصاوي المأسوف على رحيله ـ أو شبابه ـ منذ شهرين ونصف!) الحمار الذي عرف قيمته اليوم، واليوم فحسب..!
لو كان ـ و"لو" هذه من عمل الشيطان ـ لكان نفذ برنامجه، وزار أولياء الله واحداً واحداً، والمتحف المصري، والقلعة، وحديقة الحيوان، و..، و..
لاشك أنه سيكون بطيئاً، ولكنه سيكون مريحاً ومُحترماً في مدينة يفتقر الإنسان فيها إلى الراحة والاحترام في مواصلاته.

النقل البري ـ 1970

(يتبع)

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:14 AM
( 15 )
*الشـاطئ الأخـير*
............................

في المساء الأخير رقدت "ناعسة" على السرير الذي يتسع لها بالكاد. الدفء يتسرب من الفرن الذي سوّت فيه ابنتها قبل الإفطار "صينية" من البطاطس باللحم وأُخرى من القطايف!
هل هلالك شهر مبارك ..
ها نحن في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك. المذياع المفتوح في الغرفة المجاورة ينقل خطبة لشيخ عن الشهر الميمون!
هاهي منذ أعوام طويلة ـ لا تعرف عددها ـ تقضي رمضان وحدها؛ فقد تفرق الأولاد في أنحاء الأرض!
أحمد في البرازيل، وسامي في السعودية، وزاهر في الإمارات، وسليمان في سنغافورة. ولم تبق بجوارها غير هانم التي حصلت على ليسانس في الحقوق منذ خمسة عشر عاما، وتعمل بالشؤون القانونية بالإدارة التعليمية، وأنجبت خمسة مثل أمها. تترك أكبرهم ـ وهو في الصف الخامس الابتدائي ـ ينام مع "سته" ليأخذ "حسها".
ـ والله فيها خير. لم تكن تحب خلفة البنات، ولكن هاهي البنت هي التي تقف بجانبها في الكهولة، بينما الأولاد بعيدون!
منذ ثلاثة أعوام أصر أحمد على أن يركب خطا هاتفيا لأمه حتى يستطيع أن يهاتفها يوما بعد يوم. وأرسل لزوج هانم عدة آلاف حتى يستطيع أن يركب لها هاتفا فوريا.
أحمد ابنها "البكر" قال لها في مكالمته الهاتفية أمس الأول إنه سيجيء لها ـ مع زوجته البرازيلية، صاحبة مصنع النسيج وابنيه ـ ليقضي شهر رمضان في البلد، وينعم بجوار الأقارب ودفء الأصدقاء!
إنها تحس بمغص يكاد يفتك بها! فهل تموت قبل أن ترى البكر العزيز وزوجته وولديه؟
هاهو طائر الموت يحوِّم في الغرفة .. يحاصرها بأجنحته السوداء الضخمة الثقيلة. حدّقت في عينيه رأت وهجا ناريا ينطلق كالسكين ليصيب الأحشاء. قاومت .. أحست به يٌقيِّد رجليها!
قشعريرة باردة تصعد من أسفل الجسم إلى أعلاه. حاولت أن تقوم فلم تستطع. لاحقت عيناها الأجنحة السوداء التي تملأ فضاء الحجرة، فرأت من خلل الجناحين أبناءها الأربعة صبية صغارا منزوين في الدهليز يبكون، وعلى حجرها وجه أبيهم الشاحب يمسك بيده المعروقة مروحة من سعف النخيل، يهف بها على وجه "ناعسة". .. بينما "ناعسة" تبتسم ابتسامة كبيرة، ولا تريد أن تُغمض عينيها.

المجلة العربية ـ أغسطس 1998

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:14 AM
( 16 )
*حفــل عيد الميلاد*
..............................

(1)
قال الرجل النحيف ، الرث ، ذو الستين عاما ، الذي يلوك في فمه قطعة صغيرة من الأفيون اشتراها بعشرة قروش سرقها من ابنته الجميلة ذات الشعر الذهبي المسترسل على الكتفين:
ـ هذا حل مرفوض.
ردّ ابنه ثائراً:
ـ لا حل عندي غير ذلك.
أراد الرجل أن يتكلم، لكن الابن أدار ظهره ودخل الحجرة المجاورة. ماذا يريد هذا الرجل بالضبط؟ إنه أبي صحيح. ولكن هل يصبح شعارنا: لا أسمع، لا أبصر، لا أتكلم، والبطن ينبعج، والفضيحة ستنشرها الريح في أرجاء مدينتنا الصغيرة، وستنطلق الألسنة من عقالها. وكل فم يضيف إلى الحكاية كلمة جديدة حتى تتحول الريح إلى عاصفة عاتية تقتلع ورقتها الذابلة من شجرة الحياة.
دخل أبوه وراءه حجرته، أمسك سعيد زمام الكلمات، لم يطلقها دفعة واحدة في وجه أبيه:
ـ أبي .. أعتقد أنه قد حان الوقت.
ـ لكتابة طلب نقل، وللسفر إلى القاهرة.
ـ لا، لقتل هذه الكلبة.
نامت عينا أبيه وما زالت الكلبة خارج البيت.
ازدادت ضربات قلبه عنفاً، صراع حاد يوشك أن يفجر رأسه، البطن ينبعج ويكبر، وألسنة الناس طويلة لا ترحم في هذه المدينة الصغيرة النائمة في شمال الدلتا.
من أين تجيء الريح؟ بل من أين يجيء الحزن؟
(2)
البطن يكبر ويكبر، وتأكد سعيد أنه يضم ثمرة محرمة، أصبحت في شهرها السابع أو الثامن. لا، لا، لن يجيء هذا المولود، لابد أن يموت، وتموت معه هذه الكلبة .. زجاجات الخمر فوق المائدة ـ في المطبخ !! ـ لم يذق الخمر في حياته. أنغام صاخبة تتصاعد من "المسجِّل" المُلقى على الأرض. لابد أن يقتلها، فالملعونة ستجلب له العار في هذه المدينة التي يحترمه فيها الجميع
زوجها المهندس "فتحي" تركها منذ أحد عشر شهرا وذهب إلى ألمانيا في مهمة تدريبية. اختاره رؤساؤه في هذه المهمة لكفايته. وكان عليها أن تعود للمدينة الصغيرة التي شهدت طفولتها، وصباها، وقصص حبها المرسومة ـ في قلوب يخترقها السهم ـ على الحوائط العتيقة والأشجار المعمِّرة!
يعمل سعيد مدرسا للعلوم في المدرسة الثانوية، ورغم أنه محبوب من الجميع فقد أصبح يكره هذه المدينة لأنها تضم أخته معه!
فتحت الباب، ودخلت يفوح منها رائحة الخمر:
ـ نهى! أين كنت حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟
أجابت بلا اكتراث:
ـ كنت عند "الدكتور ثروت".
ـ ماذا تفعلين عنده؟
ـ لم أكن وحدي، كنت مدعوة للاحتفال بعيد ميلاد طفلته "جيهان".
قال في صوت بين الهمس والجهر، اجتهد ألا يحمل نبرات غضبه:
ـ قلت لك ألف مرة لا تخرجي من البيت مساء إلا وأنا معك .,
ـ هل جئتُ إلى هنا لتحرسني، وتحبس حريتي؟
ودفعت باب حجرة نومها، وأوصدته خلفها.
حرية؟؟ آه المجنونة! سأريها معنى الحرية .. لابد أن أقتلها، بطنها يرتفع.. منظره منفِّر جدا. لابد أن الناس في كل مكان من البلد سيُشيرون إلى بطنها بأصابع الاتهام. سأضع حلا لهذه المشكلة. ألا تعلم هذه الخاطئة أن هناك شيئا اسمه الشرف؟
(3)
في صباح هذا اليوم الأسود (والنهار الأسود يطل سواده مع مطلع شمسه)، ارتدت فستانها الوردي، ووضعت "إيشاربا" أحمر حول عنقها، وبدت ـ في عيني سعيد ـ كامرأة داعرة، سألها:
ـ إلى أين ذاهبة؟
أشارت إلى بطنها، وقالت:
ـ عندي انتفاخ دائم، وأريد أن أسأل الطبيب في هذا الأمر.
سكت، وتظاهر بعدم الفهم، أتحسبه من المجانين حتى تتحدث معه بهذه الطريقة الغبية؟! أم تظنه لا يفهم؟
عادت في الثانية عشرة ظهرا وهي عصبية، وحينما سألها سعيد قالت إن الطبيب أخبرها أن الانتفاخ سيستمر فترة قصيرة، ثم يعود البطن إلى حالته المعتادة!
الطبيب ـ فيما يبدو ـ رفض أن يخلِّصها من الجنين!
(3)
نظر سعيد من الثقب فوجد الجسد المخمور ملقى على السرير، بعد فترة ارتفع شخيرها. لشدَّ ما كانت متعبة من حفلة عيد الميلاد!
نظر إلى صورة والده على الحائط:
ـ هذه هي النتيجة!
قال أبوه في صوت واهن:
ـ ماذا تعني؟
ـ الفضيحة .. الفضيحة .. الفضيحة!
ـ أنت لم تعرك الحياة! لا تعرف إلا المسجد، والتلاميذ في المدرسة..
ـ أخلى ذاكرته من الحب والسكينة، وقال:
ـ لماذا لا تؤدب هذه الكلبة؟
ـ أنت لم تعرك هذه الحياة!
ـ وهل هذه الأمور تحتاج إلى خبرة؟
ـ بلا شك!
ـ إذن قل لي ماذا نفعل؟
ـ نحبسها حتى تلد، ونُلقي بالطفل إلى أقرب شارع، وبذا نتقي الفضيحة وخراب البيوت.
ساءه هذا الحل، وهمّ بأن يحطِّم صورته! لكنه لم يفعل، فقد كان في ذهنه حل آخر رفض أن يُحدث أباه فيه!

صوت الشرقية ـ نوفمبر 1977

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:15 AM
( 17 )
*مهاتفة صباحية*
...........................

يا ربة البيتِ أين أنت ؟
لم ينظر إلى حجرة الاستقبال، التي تتصاعد منها بعض الأصوات النسائية الخافتة.
دخل حجرة مكتبه وترك الباب موارباً.
مهاتفة صباحية، وحر يوليو يشعل الرأس والوجه والأيدي.
شهد اليوم ما تبغيه فائزة من عراك وصياح. رغم أنها مريضة بعد موت وليدها السابع في تسعة أعوام.
ها هو يُقلب صفحات الصحف. اختلط الضحك بالبكاء. وهو يتذكّر كيف قال الجميع للمطرب الأخرس: أحسنت يا عندليبَ الغناء!
جرى في خافقه خاطر غريب:
لماذا لا يطلق السياسة ويكتب في يومياته عن شيء آخر؟ ذكرياته وهو طالب في الجامعة في أواخر الستينيات ـ أيام حرب الاستنزاف ـ وأغاني الشيخ إمام؟ عدنا للسياسة مرة أخرى.
لم لا يكتب عن نفسه هو حينما كان في السابعة عشرة من عمره عام 1967فهوى سكين الهزيمة على العنق الغض وأسال دماء قانية؟!. ألم يلتحق بقسم التاريخ في العام التالي للهزيمة ليعصم نفسه من السقوط في وهدة اليأس حينما تكلم فلاسفة الهزيمة عن شراسة العدو وكأنهم يكرسون الهزيمة من أبناء القردة؟!
لا .. لا ..
دعنا من السياسة التي سلخ في كتابتها ستا وعشرين سنة من عمره، وأبعدته عن مستقبل كان ينتظره في كتابة الشعر.
فلأكتب عن رباب التي ظلت تنتظرني، وطال انتظارها لي حتى تزوّجت بعد زواجي بخمسة أعوام!
لا .. لا.
فلأكتب عن قصائد شعر .. تتفتح لزخات المطرِ؟ يكتبها الأدباء الطالعون .. يغنون فيها للذي لا يجيء؟
تنزلقين يا "رباب" على ضباب الذاكرة في صباح القاهرة الساخن .. الذي يتداخل فيه زحام الحافلات بضجيج المقاهي، والهمس من وراء شيش الشبابيك بأغاني سوقة الزمن الأخير، وغناء سيارات الأجرة في ثرثرته الغبية التي تذكّرني بحكايات حلاّقنا القديم في قريتنا النائمة في أحضان الخضرة والسكينة.
وحدة، وقلق، ومراجعة لما كان ينبغي فعله من زمن طويل. الرغبة تُفصح عن نفسها، ها أنت يا رباب تتعثرين في فستانك الأخضر الذي تخشاه فائزة بعد أن أنجبت سبعة بنين ماتوا جميعاً قبل أن يبلغوا عامهم الأول!
هاهي تنتظره في صالة الانتظار في الصحيفة الكبرى، وهو يجيء من الشارع لا من المصعد.
لماذا حدّثت فائزة عن رباب؟
ما أكثر أخطائك يا عبد التوّاب!
مهما تألقت التنهدات في حلقك يا رباب، واكتست عيناك بألق الحب القديم .. فستدحرج الخيبةُ والقنوطُ أصداءَ كلماتِنا العفوية كلما نلتقي مصادفة، وبلا تخطيط!
ـ أهلا يا رباب …
ـ كيف حالك يا عبد التواب؟
قالت له فائزة في الصباح: لماذا لا تعترف بالفضل لأهل الفضل؟ .. أنا الذي صنعت منك هذا التمثال الجميل، وأنا الذي سأحطمه إذا رأيت هذه الرباب!.
يتصاعد الرذاذ من فمها المحشو بالبارود والمتفجرات، فيلجأ إلى كتبه وأقلامه، وأوراقه.
ها هو قد عبر الخمسين ولم يصل إلى أية وظيفة قيادية في صحيفته، حصل على الماجستير وهو في الأربعين، وترك الدكتوراه بعد أن أنجز أكثر من نصفها. ما فائدة أن تدرس التاريخ ثم تُدرّسه بعد ذلك في الجامعة وتؤلف فيه لطلابك وهم يُشوهون التاريخ في صحيفتك ـ هذه التي تجلس في بهوها مع رباب ـ كل صباح؟
ظهر زوج رباب فجأة، ثم اختفى فجأة.
في مهاتفة صباحية قالت رباب لعبد التواب إنها تحتاج نقوداً. يعرف عمق العلاقة، لم تطلب من أختها الأستاذة بمركز البحوث، ولا من أختها الموجهة بالتربية والتعليم، ولا من ابن عمها.
ليس لها أخوة ذكور.
رغم أنها لم تتزوّجه، فمازالت تحس نحوه بشيء ما لا يستطيع تحديد اسمه، لعلها تعتبره بمثابة أخ لها، تستشيره في أدق خصوصياتها.
قالت له: إن زوجها ترك وظيفة مدير عام للتسويق، وعمل في عدة مشاريع آب منها بالخيبة والخسران، وهرب وظهر، وهرب!
أخرج لها ألف جنيه وقال:
ـ حينما هاتفتِني في الصحيفة خرجت وأحضرت هذا الألف من حسابي بالبنك.
قالت وهي تنظر في الأفق البعيد في اللوحة المقابلة التي رسمها فنان مشهور:
ـ سآخذ خمسمائة جنيه فقط، وأردها لك على شهرين.
لم يسألها:
ـ أنا أعرف أن معك نقوداً .. فهل أخذها زوجك قبل اختفائه الأخير؟
يصاحبها ألق الجمال الذي عرفه في الحب الذي وئد قديماً، تتعثر حروفها ـ بين ثلوج الثامنة والأربعين ـ في شفتيها المخضوبتين بالجرأةِ الغائبة، وذكريات الجامعة، والمظاهرات، ومحاضرات شوقي ضيف، والنعمان القاضي، وحكايات أبي الفرج الأصفهاني المسلية، وألف ليلة وليلة، ونداءات الرحيل!
أخلى لضحكة صافية مكاناً بين جراح قلبه:
ـ كنت أحضر دروسك في قسم اللغة العربية أكثر مما أحضر في قسم التاريخ.
اعترتها هزة جاهدت في إخفائها .. فوّتت الملاحظة .. وقالت:
ولذلك أنت من الكتاب المتميزين.
كتّاب؟ .. صحفي على قدّ حالي يا رباب.
أما زلتِ تُحسنين الظنَّ بي .. وأنا الذي قلتِ لكِ ذات مساء مكفهر: تزوّجي يا رباب .. فليس عندي لصحرائك ماء!
ومع ذلك لم تتزوّجي إلا حينما عرفتِ بزواجي من فائزة في البحرين. ذهبت لأعمل في صحيفة هناك فوجدتها تعمل في تدريس اللغة العربية مثلك، إنها تُشبهك كثيراً.
هل ذكّرتني بك .. فتزوّجتها هي؟!
***
خرجا من الصحيفة بعدما شربا كوبين باردين من العصير .
الظهيرة تبصقهما بجوار المستشفى الجامعي، يتحسس سحابة الجهامة .. كل المشاوير خاطئة في فم فائزة المحشو بالكراهية والنفور. فكيف تكونين يا رباب ضفة مشتهاة، وأنتِ ثمرة محرمة في يد الهارب البعيد؟!
استقلت سيارة أجرة ومضت.
الكلمات مفلسة.
ها أنتِ بنظرتك الساهمة القديمة يا رباب لا تنتقدين تصرفي، ولا تلعنين كتاباتي التي اختفى منها الوهج القديم. وتبتسمين ..كما كنت دائماً. لعلك لا تُتابعين كتاباتي السياسية الميتة عن القارة العجوز أفريقيا، وجنرالاتها الذين لا يهرمون، وحروبها الدائمة!
أضاعت هذه الصحيفة الشمطاء تألق كتاباتي فصرت واحداً من جثثها المحنطة، أكتب الكتابات المعلبة التي لا تستثير أحداً.
أيتها الفراشة الخضراء، بين جفنيك ترقد عذاباتي، وتبحث آهاتي المتعبة عن قلبٍ حانٍ لا يسلقني بلسان كالمبرد.
أين مني سحابة الوعد التي تمطرني بالحنان والعطف؟
وأنت يا فائزة وردة قصية قصية.
كم أود خلع ذاك القميص الثقيل، فالجو خانق. وأنت تتكلمّين بالعقل الذي يؤطِّر بستانك، ويُبعد الصهيل عن مفازات السكوت!
***
مشت رباب، وابتعدت، لم تنظر إلى الخلف.
قبل أن أفكِّر في صعود الدرج للطابق الخامس ـ في نفس العمارة التي أسكن في الدور الثاني فيها ـ لمحادثة صديقي "حلمي أحمد"، كي يمنحني فسحة من الوقت ، لتأجيل خيباتي:
خيبة قديمة .. خيبة جديدة .. خيبة مقبلة. في زمن تضرّج بالسواد والحداد!
لا ..
فلأعد إلى البيت، ففائزة حزينة، ومريضة منذ أسبوع.
لأجلسْ معها وأحدّثها في حنان حتى لو لدغتني بلسانها الذي يشبه العقرب!
هذه فائزة تجلس مع صديقاتها اللائي جئن يعزينها في وليدها الأخير. الحديث مزيج من المجاملات، والأكاذيب، وكل حرف يُباعد بين غدنا الذي لا يجيء وأمنياتنا الموءودة .. وأفراحنا المؤجلة.
***
أدرت وجهي للجهة الأخرى، وفي عيني حزن رباب، وصوت فائزة ينبعث واهناً ضعيفاً، كأنه آتٍ من جب بعيد!
متى ـ يا رب ـ … لا أفعل الذي كان يجب ألا أفعله ؟
أحضرت القلم لأكتب مقالة أخرى ـ طلبها مني رئيس التحرير ـ عن راهن أفريقيا الملبَّد بالحروب وغياب الديمقراطية.
الرياض 2/7/1998

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:16 AM
( 18 )
*ليلة الجمعة*
.....................

مع مجيء العاشرة من مساء ليلة الجمعة الأخيرة من يناير لذلك العام، وكانت تُوافق الليلة الثانية من شهر رمضان المعظم، بدأت عيون القرية تغفو، وأخذت شوارعها الضيقة المبتلة برذاذ المطر تخلو من الحركة، بدت شبه مقفرة إلا من ضوء هناك ينبعث من مقهى فيه زبون ثقيل الدم، يُردِّد خلف المذياع بصوتٍ قبيح ـ أغنية عبد المطلب «أهلاً رمضان»، أو سيارة تركن على جنب، أو عدة كلاب سود تمشي الهوينى، وكأنها ضلت طريقها، فدخلت الشارع المطل على الترعة ـ التي تخترق القرية ـ عن غير قصد، فأخذت تبحث عن مخرج.
كان شتاءً بارداً بلا أمطار تُذكر، اللهم إلا تلك الأمطار المتقطعة التي نزلت على القرية مع سحور الليلة الأولى من رمضان، وها هي القرية تنوء تحت برد يناير الثقيل، وتتعايش مع هذا البرد السمج، كأثقل برد شهدته القرية في السنوات العشر السابقة.
ورغم أن هذه القرية الصغيرة لم تكن بعيدة عن عاصمة المحافظة إلا بعدة مئات من الأمتار، فإنها ظلّت بمنأى عن التحديث والتحضر الذي أصاب العاصمة منذ أن افتُتِحت فيها جامعة إقليمية منذ عشرة أعوام، وما تبع ذلك من إنشاء مدن جامعية للطلاب، ومستشفيات، ومكتبات، ومجيء طلاب من جميع أنحاء الدولة للدراسة في الجامعة.
ها هي القرية توشك أن تُصبح حيا ـ قليل التحضر ـ على أطراف العاصمة، وها هم بعض الأثرياء من أبناء القرية يُقيمون عمائر سكنية للطلاب العرب والأفارقة بعد أن ضاقت المدن الجامعية عن استيعابهم، وها هو المقهى الوحيد «مقهى ومائدة الشامي» يستقبل زبائنه من الطلاب حتى الثانية بعد منتصف الليل، وصاحبه «محمد الشامي» يُديره طوال النهار حتى العاشرة مساءً، وتسهر ابنته «منال» وابنه «وليد» حتى الثانية صباحاً، ليبيعا للزبائن الواقفين ـ من الطلاب الوافدين ـ السجائر، والجبن، والمعلبات، بعد أن كاد المقهى يتحول إلى «مائدة» بسبب مطاردة الشرطة للمقهى، ومخافتها من أن يتحوّل مكاناً لاجتماعات الشباب من أفراد الجماعات الإسلامية المتشددة.
غادر «محيي الدين» و«محسن» السكن الذي هو عبارة عن «فيلا» صغيرة في الطرف الجنوبي الشرقي من القرية، والذي يتكوّن من طابقيْن، ويمتلكه أستاذ جامعي يُقيم في القاهرة من أبناء تلك القرية.
مشيا في طريق يعرفان بيوته وأشجاره.
قال «محسن» وقد شعر برذاذ يُصيب وجهه، مشيرا بسبابته إلى السماء:
ـ الله يبعث الخير ..!
انتفض «محيي الدين» كأن عقرباً لدغه:
ـ من أين سيأتي هذا الخير؟!
كانا يسيران في الشارع المترب الطويل الشرقي الذي يمتد مستقيماً حتى بداية القرية من ناحية العاصمة التي تحتضن الجامعة المتاخمة.
الرذاذ الذي ذكّر «محسن» بالخير انقطع الآن، والريح الخفيفة الباردة التي لفحت وجهه ذكْرته «بمنال» التي مازالت ساهرة في المقهى، كي تستلّ النقود القليلة من جيوب الطلاب المغتربين، لأبيها الذي يصرف معظمها على «كيفه» الذي يسعد به طوال السنة، بينما أسرته الصغيرة لم يتبدّل حالها، ولم تصعد مع من صعد ـ ممّن ذهبوا إلى ليبيا والعراق ـ إلى أعلى!
تلك الليلة الباردة ذكّرت «محيي الدين» بالأهل في السودان، ولا يدري لماذا لم يسكن في شقة في العاصمة، وجاء إلى هذه القرية التي لا يعرف فيها أحداً إلا وجه «منال» الليلي بعد العاشرة.
حاول أن يدرس في بريطانيا، ولكنه لم يُوفَّق.
كان يريد أن يدرس الأدب الإنجليزي، ولكن أقداره انتهت به إلى كلية الزراعة بالزقازيق.
ثرثرة صديقه العراقي «محسن» لم تعطه فرصة استعادة تفاصيل وجهها القمحي المُغرَق بالتوتر ـ بعد أن تآمر عليها والدها، ولم يُعطها فرصة الدراسة بالجامعة، بعد أن حصلت على الدبلوم بدرجات تُؤهلها للالتحاق بها، وقال لها في برودة يُجيد التحدث بها:
ـ أنتِ تُديرين المقهى والمائدة، ويكفيك هذا القدر من التعليم.
ـ لكن صديقتي شيماء التي حصلت على أقل من درجاتي ستذهب إلى شبين الكوم لتُكمل تعليمها الجامعي.
قال في جفوة:
ـ احمدي ربنا على أنك تعلّمت، وحصلت على الدبلوم.
وأضاف وهو يبتلع ريقه في هدوء:
ـ أنت تستطيعين القراءة بالإنجليزية، وأمك لا تفك الخط.
قالت وهي توشك أن تصرخ:
وما علاقة أمي بدراستي؟! .. هي من جيل وأنا من جيل آخر!
سؤال صديقه الذي قطع ذكرياته فاجأه قليلاً، وقد خُيِّل إليه أنه كان يقرأ أفكاره:
ـ هل يعرف والدها حكايتك؟
أجاب من فوره:
ـ نعم، بل سألني مرة: هل ستأخذها معك إلى الخرطوم، أم ستعيشان في بيت عمتك بالقاهرة؟
ـ وبم أجبته؟
استدرك قائلاً:
ـ ليس الزواج قريباً كما تظن، سأتخرج بعد أربعة أشهر، لكن الحياة هناك قاسية!
كانا قد اقتربا من المقهى. قال «محيي الدين»:
ـ ها هي منال التي تستحق أن أمنحها حياتي جميعاً.
ماذا نقول نحن هنا؟ هل نجد في حياتنا أشياء صغيرة أو كبيرة تستحق التعلق بها؟ وما بالك بالذكريات المورقة .. وهل تورق الذكريات بلا مطر؟ ؟ .. وهل يأتي الربيع إلى بلاد لا تحب الربيع لأنه مجرد ربيع آخر في سلسلة فصول الأحزان المتشابهة التي لا تنتهي؟
أخذت الريح الباردة تشتد قليلاً، تلفح وجهيهما ممعنة في التحدّي، وكأنها تعترض على هذا المسير البطيء مع بداية الليلة الثانية من رمضان في قرية تعوّدت النوم بعد صلاة التراويح، لتصحوَ من السحر إلى خيوط الصبح الأولى هرباً من استمرار حوادث الشكوى المتكررة، وأخطاء الحديث الذي قد يقود إلى ليل لا يعقبه نهار.
قال «محسن» وقد توقف قليلاً تاركاً صديقه يسبقه بخطوات:
ـ هل نعود؟ .. لقد خرجنا من حدود القرية، وأوشكنا أن ندخل المدينة.
رفع «محيي الدين» صوته:
ـ لا .. تعال! .. قلت لك إنني سأحكي لك الليلة شيئاً مختلفاً!
ـ لقد أتعبتني دون أن تقول لي شيئاً!
وأضاف:
ـ منذ خرجنا من العمارة وأنت تقول لي إنك ستحدثني عن شيء جديد مختلف .. ما هو ذلك الشيء المختلف؟
ـ امش .. لا تدع هذه النسمة الباردة اللئيمة تتغلب عليك، فتخترق ثيابك وجسمك إلى أفكارك .. صدقني، لن تُصدق أذناك ما تسمعانه مني هذه الليلة!
أجاب «محسن» على الفور:
ـ لا شك أنك ستُعيد عليّ القول أن «منالا» غاضبة من أبيها!
ـ لا شيء من هذا القبيل .. فأنا أعتقد أن مصيبةً أخرى تُحاصرني أنا ومنال.
ـ المصائب تُطاردنا يا صديقي .. تُطاردنا من حيث لا نحتسب (وضحك) ربما تُقابلنا مصيبة الآن، أو تختفي لنا خلف هذه الأشجار ...
وأدار «محسن» خطواته إلى الخلف، وسحب يد «محيي الدين»، فأصبحت أضواء المدينة والجامعة من خلفهما، وتلألأت أضواء المقهى حيث تقف «منال» في الأفق الشرقي البعيد.
قال «محيي الدين»:
خلال غيابك في اليومين الماضيين تغيّرت أمور كثيرة في حياتي أيها الصديق .. ولم أذهب للجامعة في الأيام الثلاثة الأخيرة. لقد هاتفني والدي يوم الأحد، وأخبرني أنه اصطلح على عمتي «أمينة»، بعد خصام دام عشرين عاماً، وأنه سيجيء إلى القاهرة في عيد الفطر .. ليخطب لي ابنتها «سلوى».
ـ هل رآها والدك فأعجبته؟
قال ساخراً:
ـ لا، بل رأى عمتي التي تُناصبه العداء من عشرين سنة، فقد ذهبت للعزاء في عمي «عوض». ويبدو أن أهل الخير تدخّلوا، فاصطلحت على أبي ـ التي كانت تتهمه بأنه لم يعطه ميراثها!
ضحك «محسن»:
ـ ولأنها اصطلحت على أبيك، فعليك دفع الثمن والزواج من ليلى؟!
(وبلع ريقه وأضاف):
ـ هل لحظت «منال» شيئاً؟!
ـ لم تلحظ مني تغيرا يلفت الانتباه.
ـ وماذا أنت فاعل؟
ـ بل يفعل الله كلَّ خير.
ـ هل تُحب ابنة عمتك؟
ـ رأيتُها أكثر من مرة، وهي أكبر مني بثلاثة أعوام، ولا أحس تجاهها بأيِّ عاطفة.
سار «محسن» إلى جانب صديقه صامتاً، ولم يعقب على كلماته. خلف ستار الظلام أخفى ابتسامة حزينة ارتسمت على وجهه وهو يسترجع ذكريات «محيي الدين» مع «منال».
مرّا على المقهى، «وليد» شبه نائم، وبجانبه كتاب الجغرافيا للصف الثاني الإعدادي، ومذكّرة في اللغة الإنجليزية، وصحيفة «أهرام الجمعة» مفتوحة على صفحة «بريد الجمعة». يبدو أن «منالاً» كانت تُطالع إحدى قصص المعذبات ـ أو المعذبين ـ في الأرض.
جلس «محيي الدين» قبالة «منال» صامتاً، يتأمّل وجهها، وقد تلألأت عيناها بالدموع دون أن تسقط على وجنتيها، وهي تنظر إليه، كأنما تقول له: أي كلام يُقال سيبدو تافهاً سطحيا، لا ينسجم مع هذا الكم الهائل من الحزن الذي يجثم عليَّ لموقف أبي، وهو يقول في نفسه: ماذا ستقولين في هذه الليلة الحزينة إذا عرفتِ ما يُدبِّره لي أبي لحبنا؟!
استأذنا بعد شراء ما يلزمهما. قالت كأنّها تتوسّل إلى «محيي الدين»:
ـ لا تذهب أريدك في أمر!
مسّت توسّلاتها أحاسيسه، لكنه لم يتجاوب مع رجائها، وكأنه يريد إعادة النظر في رأي أبيه، الذي لا يُريد لأبنائه إلا السعادة في جنة الطاعة:
ـ لستُ ذاهباً، إنما سأوصّل محسن إلى السكن، وأعود.
دمدمت وهي تبتلع عبراتها، وتهز رأسها إيجاباً!
ـ لا تكذب، أعرف أنك لن تعود!
أثار كلامها في ذهنه أكثر من خاطر، لكنه أرجأ فتح باب الحوار لخواطره، وكأنه يسمع صوتاً كصوته هو، يربت على ظهر «منال»، بينما هي تبكي في تشنج:
هل من الممكن أن تجلسي في هدوء قليلاً لأشرح لك الأمر؟!!
الرياض 16/5/2001م.

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:17 AM
( 19 )
*صبــاح امــرأة*
.......................

ارتفع صوتي سائلاً عمّا يحدث في صباح الجمعةِ، والناسُ نيام، حين تناهى إلى أذنيَّ صوتٌ أنثوي رقيق.
دعوتُ الله ألا يكون حقيقة، وأن يكون هذا الصوت حلماً من الأحلام التي لا تكف عن زيارتنا في غربتنا التي لا تريد أن تنتهي!
اطمأننت إلى أنني صاح، لا أحلم.
أزحت البطانيات الثلاث التي لففت بها جسمي المتجمد برداً، عقب أداء صلاة الفجر، وصرخت:
ـ ماذا جرى يا عبد الغني؟
ـ امرأة يمانية.
ـ ماذا تريد؟
أجاب في اقتضاب:
ـ تسألني ..
البرد قارس، شددت الجورب من فوق المنضدة المجاورة، ودسستُ رجلي فيه، ووضعت رجلي في الشبشب "الشمبلا"، ورفعت صوتي الذي يملؤه البلغم:
ـ هل تسألك في مسألة رياضية؟
ـ يا أخي بلا مزاح .. تسألني في فتوى.
ـ وهل أنت مفتي الديار اليمانية؟!
***
المدرسة الثانوية التي نعمل بها تبعد عن القرية بمسافة ملائمة، وحينما نهبط إلى القرية ـ في الشعاب الممتدة بين الجبال ـ ثم نصعد، تتقطّع منا الأنفاس.
قاطعنا القرية خوفاً، وقاطعتْنا شكا، منذ سمعنا منذ شهر ونصف أن قرية مجاورة في محافظة صنعاء أحرقت مدرساً مصريا!
حكى لنا عبد الله عثمان أن هذا المدرس التعيس كان يسهر عند المرأة في "المقهاية" بين الجبل والوادي كل ليلة، بينما زوجها مسافر إلى السعودية للعمل في شيشة( ) في تبوك، ولكنه يستطيع أن يعود مرة كل ستة أشهر، حينما يسافر زميله اليماني الآخر عبد القوي ليديرها.
وحينما يعود اليماني حمود ـ وهذا اسمه ـ يجد زوجته تدير المقهاية، و"المصري" / الفلاح يُدرِّس لتلاميذ القرية صباحاً، ويحرث الأرض التي صارت بوراً منذ سافر صاحبها إلى تبوك مساءً.
تعرّف المصريُّ على اليماني في إجازة من إجازاته، وأحبَّ كلٌّ منهما الآخر وأَنِسَ إليه، لكنه حين جاء من تبوك ذات يوم، وكان قد غاب خمسة أشهر، قالت له زوجته:
ـ إن المصري يحرث الأرض، ويضع فيها البذور.
قال قلقاً:
ـ ومتى تُثمر؟
فأجابت في نقاء سريرة وهي تُربِّت على بطنها:
ـ بعد ستة أشهر.
وأخذَ المصريُّ اليمانيَّ ـ في صباح الجمعة ـ إلى الوادي ليُطلعه على النباتات الجديدة التي استجلبها من مصر، وزرعها في عمق الوادي، وطعّم بها التربة اليمانية.
أطلق اليماني على المصري الرصاص، وسكب عليه البترول وأشعل فيه النار، ويُحكى أنه عاد مذهول العقل إلى زوجته، فسألته لماذا أنت مصفرّ الوجه، فأطلق عليها الرصاص، وسكب عليها البترول أيضاً وأشعل فيها النار!
***
دخلت المرأة اليمانية حجرتنا المتواضعة، التي تُجاور السحاب، والتي تضم سريرين صغيرين متقابلين، وبينهما منضدتان صغيرتان.
فوق كل سرير مرتبتان من الإسفنج، وبعض البطاطين، ووسادة تحتها رسائل الزوجة التي تصلنا في الغربة، ونتلوها أكثر من مرة، حتى تأتي رسالة جديدة ـ بعد أسبوع أو عشرة أيام ـ فنضعها مكانها تحت الوسادة، وتُزاح الرسالة السابقة مع أخواتها لتوضع في الحقيبة الجلدية أسفل السرير!
***
دخلت المرأة حجرتنا التي لم تدخلها امرأة من قبل، راعني أنها سافرة وجميلة، فنحن لا نرى من اليمنيات إلا عينين تبرقان من خلف الشراشف.
قلت لها:
ـ أنا مدرس الدين ماذا تُريدين؟
قالت وهي تضع جسدها الرخص على السرير المقابل:
ـ أريد أن أسألك في فتوى يا أستاذ!
بدا الخوف على سيمائي وأنا أستعجلها:
ـ اسألي يا ستي.
أصرّت على أن تحكي لي حكاية طويلة عن زوجها صاحب الطاحونة المجاورة للمدرسة، الذي تزوّجها وهي صغيرة في الثانية عشرة من عمرها، بينما كان هو في الثالثة والخمسين وكان يذهب للعمل في السعودية فهو صاحب شيشة هناك، ويعود كل سنتين من تبوك عدة شهور يقضيها في اليمن، ثم يُعاود الرحيل. هاهي في العشرين، وهو في الستين، يتركني في القرية وحيدة، ويذهب إلى تعز ليتزوّج فتاة صغيرة يقضي معها الشهرين، قبل أن يعود إلى السعودية من جديد.
ماذا تريد المرأة؟ لم أستطع أن أخمِّن "الفتوى" التي تُريدها.
بدت المسألة شائكة وهي تسأل:
ـ أليس لي عليه حق الزوجة؟
ـ بلى يا سيدتي.
فاجأني سؤالها:
ـ … فماذا أفعل؟
كان عبد الغني قد أقبل بالشاي، وناولها كوباً فأزاحته بعيداً بيدها السمراء الرقيقة المخضبة، وبدت عيناها تتألّقان بوهج غريب، وأخذ صوتها ينساب برقة متناهية، وعطرها الغريب يتسلل إلى أعماق روحي، فيسري الدفء في عروقي .. أنا الذي لم أر وجه امرأة منذ سبعة أشهر!
ـ القرية المجاورة أحرقت مدرساً.
وها هي اليمانية ـ التي لا أعرف لها اسماً ـ تفتح صدرها، لتخرج صورةً لزوجها الواقف أمام بيته يحمل "البندقية الآلية" على كتفه، والخنجر المائل معلَّق في "الجنبية"، وبعض أشجار اللوف والعنب تبدو خضراء ـ داكنة الخضرة ـ في خلفية الصورة.
ويبدو زوجها فتيا كما لو كان في الخامسة والثلاثين.
أعرف هذا البيت جيدا، بين الجبل والوادي، أراه كل جمعة وأنا في طريقي إلى المسجد الجامع، إنه مجاور لبيت "الشيخ علي" خطيب المسجد، الذي يُسامرنا كثيراً في هذه الحجرة التي تُجالسنا فيها اليمانية الحسناء، ويشرح لي فيها أحياناً ما يستعصي عليَّ فهمُه من "فقه الشافعية"، وهو الزيدي المتسامح الذي يُذكِّرني بعلماء القرون الهجرية الأولى، في فقهه، وسعة صدره، وصبره علينا، وملبسه.
ماذا يقول الشيخ علي إذا رأى هذه اليمانية خارجةً من عندنا في هذا الصباح الباكر؟!
أغلق عبد الغني الباب بعد هبة ريح مُفاجئة.
واقتربت خطواته مرتعشة حذرة، ووضع يده على كتفها، وهو يطلب منها التجمل والصبر، كان يبدو متأثِّراً لحكايتها. ويبدو أنها شعرت بخدر لذيذ فأغمضت عينيها.
صرختُ:
ـ افتح الباب يا عبد الغني!
أنزل عبد الغني يده وهو يحس بالحرج.
نظرت إليَّ المرأة شزراً نظرات لبؤة شرسة، وقالت:
ـ لم تُجبني بعدُ .. يا مدرس الدين!
أغمضت عينيَّ، فقالت في تحدٍّ:
ـ أخرجُ إذنْ؟
قلتُ في صلابة:
ـ نعم، الوقت ـ كما ترين ـ ليس ملائماً للفتوى.
وأضفت وصوتي لا يكادُ يُغادر حلقي:
ـ هل تعرفين فقيه القرية .. "الشيخ علي"؟
ـ نعم .. هو جارنا..
وكأنِّي أتخلَّص من عبءٍ باهظ:
ـ ولماذا لم تسأليه؟
ـ إنه مسافرٌ إلى صنعاء من أسبوعين.
انطفأ البريقُ في عينيها، أخليتُ للقلق مكاناً في تعبيراتي:
ـ إذا رآك أحدٌ في هذا الوقت، يشكُّ فينا وفيك.
خرجت غير عابئة بما أقول، وهي تهز رأسها مستنكرةً لما تسمع، وعبد الغني يطلب منها أن تجيء في منتصف النهار، بعد صلاة الجمعة إذا لم يعُد الشيخ علي من صنعاء!
***
خرجت المرأة منكسرة الخاطر، تحمل نعشها على كتفيْها، لتنطفئ النار التي كانت تنتظرنا في الوادي، حينما تعود إلى طاحونتها مزهوة بإجابة الفتوى، وتربت على بطنها بكفَّيْها ..!!

ديرب نجم 26/10/1990

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:17 AM
( 20 )
*اليوم الأول*
..................

الخميس 19 من سبتمبر 1985م:
وصلتُ أثناء خروج التلاميذ من المدرسة، في الثانية عشرة ظهراً.
كان مدير المدرسة على وشك إغلاق مكتبه، بينما كان العامل يستحثه على الإسراع بالإغلاق حتى يلحقا صلاة الظهر في المسجد القريب.
فوجئ المدير بالسيارة التي تدخل المدرسة وأنزل منها.
رحب بي .. لاحظت أنه يلبس جلباباً متسخاً، به بقعة حبر كبيرة على جيبه، ويلبس معطفاً داكناً فوقه. قال لي في ابتسامة عذبة، وهو يفتح دفتراً كبيراً أمامه:
ـ اسمك؟
ـ محمد رضوان.
ـ وظيفتك؟
ـ مدرس لغة عربية.
ـ مصري بالتأكيد؟
ـ نعم.
كتب بقلمه الجاف ما أمليته عليه من معلومات، وقال مبتسماً، وهو يُعيد السلام عليَّ:
ـ محمد بن محمد الرقيمي الأهدل مدير المدرسة، وحاصل على الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. عدتُ من السعودية منذ خمسة أيام فقط، حيث ناقشت رسالتي.
ـ في اللغة العربية؟
ـ لا .. في الشريعة.
أحضر لي أحد الطلاب زجاجة مشروب غازي من البقالة المواجهة للمدرسة، فشربتها على عجل، وأنا أقول له:
ـ أين المدرسون المصريون الذين يعملون هنا، والذين حدثني بأمرهم الأستاذ بركات ـ موجه اللغة العربية ـ في ذمار؟
المدرسة ملحق بها شقة صغيرة من حجرة واسعة خمسة أمتار في أربعة، وصالة ضيقة متر في ثلاثة أمتار. ودورة مياه صغيرة، متر في متر.
أخذني الرقيمي إلى زملائي الذين وصلوا قبلي، وتسلموا عملهم منذ ثلاثة أسابيع، وقال مستبشراً:
ـ قالوا لنا في الإدارة حينما هاتفناهم صباح أمس إن المدرس الجديد سيكون سوريا. وقال لنا الأستاذ بركات إنه في الطريق إليكم.
.. وعرّفوني أنفسهم:
ـ عاطف من منيا القمح.
ـ حماد من المنصورة.
ـ صدقي من كفر الشيخ.
ـ محمد الرديني من الفيوم.
صافحوني بعدم اكتراث، وفوجئت بثالثهم يقول لي:
ـ اسمك؟
ـ محمد رضوان.
ـ بصراحة يا أستاذ محمد الحجرة قي هذه الشقة لا تحتمل أكثر من أربعة، ونحن أربعة.
قال عاطف:
ـ يمكن أن نستضيفك حتى يأتي زميلاك يوم السبت!
قال حماد في براءة يُحسد عليها:
ـ ولماذا نستضيفه يومين، ثم ينفصل عنا بعد ذلك مع زميليه؟
قال الرديني في عصبية:
ـ تأخرنا يا جماعة عن أصحابنا في "الثلوث"، وهم ينتظروننا الآن؟
قال عاطف:
ـ ألا تذهب معنا يا أستاذ محمد؟
أجبتُ في قرف:
ـ أنا مسافر منذ أسبوع، وأريد أن أنام!
قالوا في صوت واحد:
ـ هيا بنا.
قال لي عاطف:
ـ معذرة يا أستاذ محمد أنت بلدياتي .. لكني لا أستطيع أن أفعل شيئاً للمجموعة. ربما بعد عودتي من "الثلوث" أنتقل للسكنى معك، وأتركهم.
أحسستُ أنه يداعبهم أكثر مما يقول الحقيقة.
قال الرديني لعاطف وهو يضربه على ظهره:
ـ لن نسمح لك بتركنا!
أخرج أصغرهم سنا "حماد" مفتاحاً وأغلق باب الشقة، وقالوا في صوت واحد:
ـ لا تقلق علينا إذا تأخّرنا، ربما نبيت عند أصحابنا في «الثلوث»، ولا نحضر إلا مغرب الغد، أو بعد صلاة الجمعة!
لم يعلق الرقيمي رغم وضوح الغضب على ملامحه.
أعطاني مفتاح حجرته. فيها مكتب، وسرير، وتركني، وهو يدعو لي بطيب الإقامة، قائلاً:
ـ أقم في حجرتي حتى يوم السبت، وعندما يحضر زميلاك نبحث لكم جميعاً عن حجرة أخرى تُقيمون فيها.
وقال في ود:
ـ هل تريد مني شيئاً، فإني من قرية أخرى، ولن أجيء هنا إلا صباح السبت؟.
وجد أنني لم أُعلِّق، فأضاف:
ـ ربما أمرُّ عليك غداً قبلَ صلاة الجمعة، أوْ بعدها بقليل.
هززتُ رأسي، محاولاً أن أبتسم.
.. وأعطاني مفتاح الغرفة، وترك باب المدرسة مفتوحاً وخرج.
بعد صلاة الظهر، عاد ليقول:
ـ نسيت أن أنبهك .. أمام باب المدرسة بقالة بها شيخ طيب اسمه "قايد"، يمكن أن تشتري منه كل شيء بالأجل .. وسيحاسبك حينما يجيء راتبك.
ـ آخر الشهر؟
ـ الرواتب لا تجيء شهريا (ضحك) .. تجيء حسب التساهيل كل أربعة شهور .. مرة!
***
تطلّعتُ ـ عبر النافذة الجنوبية ـ إلى الجبال المحيطة بقرية "بني علي"، فوجدتُ منحدراً خلف دورة المياه. بينما الجبال تحيط بالمدرسة من ثلاثة أنحاء. شيء رائع أن أبصر الفلاحين منطلقين إلى مزارعهم الصغيرة، والنساء هابطات إلى البئر يملأن جرارهن. هاأنذا أرى منظر الجبال الشاهقة في ثباتها ودكنتها بتمعن للمرة الأولى. صحيح أنني رأيتُها في الكتب، ومررتُ بها في طريقي من صنعاء إلى ذمار، ومن ذمار إلى الحديدة ـ مروراً بإب وتعز والجرّاحي. لكنني انتهى بي المطاف إلى هذه القرية النائية من قرى الوصاب السافل.
القرية مبنية على مجموعة من التلال المتجاورة، والمدرسة في أسفلها .. العصر يؤذن الآن .. لا حركة .. لا حياة .. منظر الجبال الشاهقة يخنقني .. هاأنذا أجلس وحدي .. نظرتُ في الحجرة لم أجد فيها إلا ذلك الدفتر الكبير الذي كتب الأهدل فيه بياناتي، ونسخة أثرية من كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي .. قرأتُ ذلك الكتاب عدة مرّات من قبل. لكن ليس أمامي غيره.
باب المدرسة مفتوح، وباب حجرتي مفتوح .. أُطالع ما أرى، وأفكر في خمسة أيام مرت ثقيلة، طويلة عليَّ منذ تركتُ الأسرة في «مطار القاهرة».
فناء المدرسة فيه طفلان يلعبان في حيوية ونشاط، ذكراني بولديَّ الصغيرين.
فلأخرج لصلاة العصر جماعة، بعدها أشتري خبزاً ومعلبات من الشيخ قايد، ولأحاول أن يؤنس "المستطرف" وحدتي حتى يعود زملائي المدرسون غداً، فأسترشد بهم في التدريس، والطهو، وكيفية إرسال الخطابات ـ وتلقيها ـ في هذه القرية المنسية في مجاهيل اليمن.

الرياض 7/6/2000

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:18 AM
( 21 )
*ثلاثة أصوات*
....................

1-صبري فرج:
أخيراً وصلتُ إلى مقعدي في الطائرة المتجهة إلى جدة، في ظهر الخامس من يونيو 2000. وجدتُ راكبةُ خليجية بجواري، استأذنتني أن تجلس بجوار الشباك، فهي قد تعوّدت على أن تُسلي نفسها برؤية الحياة من نافذة طائرة.
تمسك في يديها كتاب الجاحظ "البيان والتبيين"، ربما تعد رسالة جامعية في الأدب عن الجاحظ، ربما لاحظت استغرابي من وجود الجاحظ معها على الطائرة، ففتحت حقيبة يدها ـ الكبيرة نوعاً ما، والتي تشبه منفاخاً ـ .. همت بوضع الكتاب في الحقيبة، فسقطت بطاقة من الكتاب بين رجليها.
حاولت أن تحضر البطاقة فلم تستطع.
فكّرتُ أن أساعدها، ولكن الكتاب بين ساقيها، وقد يُعرِّضني إحضار البطاقة إلى شيء محرج!
كان عليها أن تفك الحزام، والطائرة لما تُقلع بعد، وتستنقذ البطاقة.
نظرتُ إلى أسفل، وهي ترفع البطاقة. كان مكتوباً فيها بالقلم الجاف، بخط كبير:
البيان والتبيين ج: 1، ص: 149:
وقال بشار:
أنس غرائر ما هممن بريبــةٍ
كظباء مكة صيدهن حَـرامُ
يحسبن من أنس الحديث زوانيا
ويصدهن عن الخنا الإسْـلامُ
قلتُ لها، وأنا أتوقّع ألا تردَّ عليَّ:
ـ بيتان جميلان لبشار بن برد، يعدلان ديواناً من شعر هذه الأيام.
ـ أشكرك.
قلتُ ـ وأنا أطمع أن تُشاركني الحوار حتى نقطع الطريق ما بين القاهرة وجدة ـ بصوتٍ خفيض، حرصتُ على أن يصل إلى أذنيْها:
ـ كنتُ أحبُّ الشعر وأنا طالب في المرحلة الثانوية، ولما التحقتُ بكلية التجارة قرأتُ ديوانه في مكتبة الجامعة.
أشارت برأسها دون أن تنبس!
قلتُ لنفسي:
ـ ربما لا تُريد الكلام .. بعض الناس يعدون رحلة الطائرة فترة للتأمل، والاستعداد لأعباء ما بعد الوصول.
لكني لا أدري أي خاطر مجنون دعاني، فأصررتُ على أن أُحاورها:
ـ سعودية؟
ـ لا .. كويتية.
ـ لماذا إذن متجهة إلى جدة؟
ـ سأقابل أمي هناك حيث نؤدي العمرة، ثم نعود معاً إلى الكويت.
ـ لماذا في هذا الحر؟
ـ نسيت أننا خليجيون، تشرّبت مسامنا الحر والرطوبة!
استدركتُ وكأني نسيتُ شيئا:
ـ لماذا الجاحظ؟ .. هل تعدين رسالة جامعية عنه؟
ـ أنا طبيبة نفسية .. كنتُ أزور أخوالي في مصر، وقد تعودتُ أن آخذ كتاباً معي للجاحظ كلما سافرت.
صمتُّ فأضافت:
ـ أخوالي من المنوفية .. من تلا ..
قلتُ مجاملاً:
ـ أحسن ناس!
أخرجت الكتاب من حقيبتها، وكأنها تبحث عن صفحة بعينها.. استغرقت في التأمل، بينما استغرقتُ في تأمل وجوه المسافرين وقراءة صحيفة يومية وزّعتها المضيفة على الركاب، تحمل أخباراً سمعتها مراراً وتكراراً في القنوات الفضائية في اليومين الفائتين .. عن الحرب بين أثيوبيا وأريتريا .. وزيارة أولبرايت للشرق الأوسط .. واحتفالات حزب الله بانسحاب إسرائيل من الشريط اللبناني الجنوبي المحتل .. واحتفال اليمن بمرور عشرة أعوام على الوحدة بين شطري الوطن .. و .. و ..لم أعد أقرأ الصحف، فقد أجهد عينيَّ الحرُّ والحاسوب!
أقلعت الطائرة.
نظرتُ إلى جارتي قمحية اللون، وقد أغلقت عينيها، ووضعت ذراعيها على صدرها المكتنز الصغير، وانسدل شعرها الناعم الطويل على كتفيها. فتخيَّلتُها زوجتي!
لماذا هي خليجية؟ كان يمكن أن تولد في أي مكان آخر .. ولكنها هناك بلا اختيار ولدت .. تعرف ذلك بالطبع. عرفتُ أنّ اسمها "عمشاء" ـ لا أدري كيف وافقت أمُّها المصرية على هذا الاسم؟ ـ، مع أن عينيها سوداوان واسعتان ساحرتان.
قالت لي إنها كانت دائماً تحلم وهي صغيرة، أنها جالسة على ضفة نهر النيل .. (لماذا نهر النيل بالذات؟!) تحت شجرة جميز ضخمة، مع فتيات فاتنات ضامرات، وأنها كانت تتسلق أشجار الجميز والتوت، وتجري ـ في الحلم ـ حتى تنهد قواها وتنام في حجر أمها.
هل حكت لها أمُّها ذلك وهي طفلة؟
هاهي تعود إلى مدينتها الصحراوية.
مدينة عمياء إلا إذا عكس الماء صورتها .. حينئذ تشاطر الماء صفاءه وتدفقه!
لا أدري لماذا تصورتُها عارية .. أخرجت ثديين ناضجين من تحت بلوزتها .. وبدا جسمها كالنغم السماوي، وأمها وراءها ـ بجوار شباك مقابل ـ تنظر إليها بإعجاب وشغف .. فقد أخرجت الشيطانة تفاحتين من حديقة الرخام ..!
عندما يغدو كل ما فيك جسداً .. وعند ما يهدر الدم في عروقك .. وتتحرق أجفانك وأنت تطالع اللوحة ثلاثية الأبعاد .. وتنتظر لحظات السعادة أن تلقي سحابات حزنك تحت رجليك .. أو خلف ظهرك .. لن تكفيك ليلة أرق واحدة.
تقززتُ مما فكرتُ فيه .. الآلام كثيرة .. فكيف حدّثتني الشياطين بحديث الإفك؟ زوجتي مريضة، وصبري ـ الذي يحمل اسمي، وابني الوحيد ـ رسب العام الماضي في كلية التجارة الخاصة، ومطلوب مني أن أدفع هذا العام أيضاً أربعة آلاف من الجنيهات (مرتب شهرين في السعودية)، ويحتاج جهاز "ميرال" أخته إلى عشرة آلاف أخرى حتى تتزوّج في الصيف المقبل من ابن شقيقتي المهندس "منصور"، وأختي "الست" "الغنية، الطمّاعة" لا تُريد أن تسهم في جهاز ابنها بمليم واحد!.
لا بد أن "أم عمشاء" جميلة .. فلماذا باعت نفسها؟ أو بالأحرى لماذا باعتها أسرتُها؟ .. هل هو الفقر؟ ولماذا وافقت النعجةُ أن تسير إلى الجزّار، بدون أدنى مُقاومة؟ .. ولماذا أضطر للعمل محاسباً فترتين بمبلغ لا يزيد كثيراً على ضعف راتبي في مصر؟ .. ولماذا أترك عملي محاسباً أول بشركة مقاولات شهيرة لأعمل لدى كفيل متجهم في البلد الحرام، لا يفتح عينيه في الصباح إلا على عيوبنا، وتنبيهنا إلى النقص الذي يتصوره فينا.
فتحتُ عيني، وجدتُ المضيفة تعطيني منديلاً معطراً.
أخرجتُ رواية "الأسرى يقيمون المتاريس" لفؤاد حجازي ـ التي أحضرتها معي من مصر ـ لأقرأ صفحة من صفحات الحزن في الذكرى الثالثة والثلاثين لهزيمة يونيو ..
هل تكفي قصة واحدة لإطفاء جذوة الحزن الذي يشتعل في صدورنا بعد ما شاهدناه في التلفاز وقرأناه في الصحف عما فعلته إسرائيل بأسرانا في 56 و67؟!
المضيفة تعلن عن وصول الطائرة إلى مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة.
هرج .. ومرج .. وتدافع إلى باب الطائرة.
ها نحن قد نزلنا من الطائرة ..
نظرتُ إلى المسافرين فوجدتهم تشغلهم أشياؤهم الصغيرة .. مثل تأخُّر حقيبة .. أو محاولة طمأنة الأهل في الهاتف الجوّال.
كانت الراكبة التي أمامي تحاول ـ في عصبية ـ أن تتصل بالأسرة، ربما! ، أو بقريب .. بينما كانت "عمشاء" رابطة الجأش، وغير متعجلة! .. لله درها .. على أي شيء تتعجّل؟!!
خارج المطار وجدتُ نفسي في سيارة أجرة واحدة مع "عمشاء"، أركب بجوار السائق، الذي ما إن غادرنا جدة وضمنا الطريق المؤدي إلى مكة، حتى استأذننا في فتح المسجل، ليُرافقنا صوت فريد الأطرش بصوته الحزين يغني "أحبابنا يا عين"، مما جعلني أسأل السائق، وكنت أظنه باكستانيا:
ـ أنت مصري؟!
-لا .. تونسي.
كانت "عمشاء" تسألني عن تلا، وهل أعرف أحداً فيها، ولماذا يُزوّج المصريون بناتهم للغرباء، وأنا أهز رأسي وأحاول أن أتكلم، لكنها تسألني ـ مرة ثانية ـ عن رأيي في أبيات بشار! وتأخذ عنواني في مكة، ورقم هاتفي، فربما تتصل بي، وتزورني هي وأمها إن اتسع الوقت .. ألستُ خالها؟
كنتُ أتثاءب في تثاقل، وأشعر أن قدميَّ لن تحملاني إلي الطابق الثاني وأنا أهبط من السيارة أمام البيت، وأمشي أولى خطواتي في هذا الحر الخانق المشبع بالرطوبة، رغم أن الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف مساءً!

2-عمشاء الناصر:
إلي كرسي بجوار النّافذة ـ في الطائرة التي تُغادر القاهرة متجهة إلى جدة ـ انتهى بي المطاف، بعد أن انتهت زيارتي لأخوالي في تلا .. هذه الزيارة التي تتكرر مرتين ـ على الأقل ـ في السنة.
دهشتي كانت كبيرةً لأن أحداً من أخوالي أو أبناء أخوالي لم يُصاحبني إلى مطار القاهرة الدولي. استأجروا لي سيّارة أجرة، نقدتُ سائقها مائة جنيه، ثم أعطيته عشرين جنيهاً أخرى حينما نزلتُ من السيارة أمام باب الدخول.
منذ عشرة أيام، فضّلت أمي أن تتجه إلى مكة، وتبقى فيها حتى أعود من مصر، فنؤدّي العمرة معاً، ثم نعود إلى الكويت.
لا أدري لماذا لم تصحبني إلى مصر لترى إخوتها الثلاثة؟
بعد وفاة "سليمان" أخي، لم تعد تنعم بسعادة حقيقية، أو أُنس بأهل أو أصحاب!
لم تر أشقّاءها منذ ثلاثة أعوام. وتقول إنها غاضبة منهم لأنهم لا يهاتفونها في عيد أو مناسبة، ولا يسألون عنها، ونسوْا أن لهم أختاً في الكويت!.
جلستُ بجوار رجل طيب ـ يبدو في عمر والدتي .. على مشارف الخمسين ـ .. طلبتُ منه أن يُعيرني مقعده بجوار النافذة فلم يُمانع. استغرب كثيراً أن تحمل فتاةٌ معها كتاباً للجاحظ، لا أدري لماذا كذبتُ عليه وقلتُ إنني طبيبة نفسية، بينما أنا محاضرة بكلية الآداب جامعة الكويت، وأعد دراسة عن "الملامح السردية في أدب الجاحظ" .. ربما كان يطلب مني شرح العنوان، فتجنبت السير معه في هذا الطريق، ونحّيتُ الكتاب جانباً.
حينما علم أن أمي مصرية استغرب كثيراً، لعله شك أن والدي كان من الأثرياء العرب المعمرين، فجاء إلى مصر واشترى عروساً جميلة منها ـ كما فعل بعض العرب في بلدي وبلاد أخرى ـ ولم أشأ أن أحدثه أن أبي كان قائداً للوحدة الكويتية التي شاركت في حرب 1973م، وأنه أحب أمي وهو يتعلم في الكلية الحربية في مصر، وتزوجها منذ ثلاثين سنة، ورزقه الله منها ولدين: سليمان، وعمشاء.
يتعجّب من اسمي، وأنا أراه اسماً جميلاً أحبه أبي، لأنه كان اسم والدته!
لم أقل له إن أمي دكتورة في علم الاجتماع، وأنها أستاذة مصرية مرموقة، مازالت تحتفظ بجنسيتها. سافرت إلى كثير من البلاد الأوربية، وألقت فيها محاضرات، وشاركت في ندوات وحلقات بحث.
لم أقل له إن سليمان أخي ـ الطبيب النفسي ـ مات في حادثة طائرة شراعية منذ سنتين، فلحقه أبي منذ عام ونصف، وارتدت أمي السواد، ومعظم وقتها تقضيه معتمرة وزائرة بين مكة والمدينة، وأنها تعيش في المدينة أوقاتاً أكثر من تلك التي تُمضيها في الكويت!
رغم أنه في الخمسين حاول أن يحتك بي .. ترك ساقه تلتصق بساقي، فأبعدتُ ساقي عنه، دون أن أُشعره بحرج. وجهه فيه ملامح كثيرة من وجه أبي، ولاحظتُ حينما نزلتُ من الطائرة، أنه يمشي مندفعاً إلى الأمام مع انحناءة صغيرة تُشبه انحناءة المرحوم سليمان.
سألته:
إلى أين أنت ذاهب؟
أجاب:
ـ العزيزية، في مكة المكرمة.
قلتُ له:
ـ يمكنك أن تأتي معي في سيارة الأجرة، ضيفاً عليَّ، فأنا متجهة إلى الفندق الذي تقيم فيه والدتي بمكة.
وأركبتُه بجوار السائق، وركبتُ في المقعد الخلفي، وأغمضتُ عينيَّ!

3-فاطمة القرشي:
عادت "عمشاء" من القاهرة، ولم تشف غليلي!
مازال أخوتي الثلاثة يطمعون فيما أرسله، ويتركون ابنتي ـ الوحيدة ـ تذهب وحدها إلى مطار القاهرة، وكأن أمها مقطوعة من شجرة، وليست من "عائلة محترمة" يسد عدد أفرادها عين الشمس!
حدثتني عن رجل جاء معها من القاهرة، اسمه صبري فرج، يسكن في العزيزية، بملامح أبيها "محمد الناصر"، وخُطا أخيها سليمان الناصر!
هل يسعدني الزمن فأراه غداً وأنا أستريحُ من العمرة ـ كعادتي ـ خلف مقام إبراهيم قبل أن أعود إلى الكويت لأجتر أحزاني في فيافي وحدتي المهلكة؟!
الرياض 5/6/2000م

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:20 AM
( 22 )
*الحصار*
.............

(1)
يبحث «مجدي» عن نسمة نقية لرئته التي حاصرها دخان السجائر، يبحث وهو واقف في مدخل مطار القاهرة عن نوافذ لم يلوثها غاز العوادم، ينظر خلفه إلى مسافات مترعة بالشوق، ومساحات في قلبه مترعة بالحزن، وذكريات ملؤها لوعة الحنين. كان على الطريق يلحظ أن الغازات تنشر أجنحتها الضبابية فوق المزارع والطرق، والقرى .. طفرت دمعة من عينيه، إذ تذكّر أن الجو مليء بعوادم السيارات، وعوادم الخطب السياسية الملتهبة المنبعثة في موسم انتخابات مجلس الشعب الجديد.
ها قد عثرت على حفرة هادئة، محاطة بالخضرة وزهرات النرجس الأصفر، وستدفن فيها نفسك .. أو تدفن أحزانك .. سيان! .. لماذا لا تكف عن الشكوى؟ ماذا تريد بهذا الصراخ؟ لم يعد الفرق مثيراً إلا للنفوس المجبولة على الصراخ والكذب، من السادة الكبار الجالسين على الكراسي الوثيرة إلى الفلاحين والبنائين الذين يشيدون الزرائب للحيوانات الهزيلة في الأرض المليئة بالطحالب، والجثث المسكونة بهاجس الخوف، وانتظار الموت!
يذكر آخر لقاء له مع أبي خديجة .. «مصطفى مبروك» المتشبث بأوتاد الكلمات الضالة والرؤى القديمة لمحدث نعمة:
ـ ماذا تريد مني يا سيدي؟
كأنه يتجاهل ما أريده .. أو لا يعرفني:
ـ أريد خطبة خديجة!
ـ ابن بيتك أولاً، ثم تعال واخطب خديجة!
ـ إنني أملك شقة ورثتها عن أبي في «بيت القاضي».
ـ هذا بيت تستوطنه العفاريت، ثم إن ابنتي لن تقيم في القاهرة .. لن تُقيم إلا في العصايد.
هذا رجل مخرف يسير خلف الأوهام، وبنته ليست «ديانا» أميرة ويلز؟. مستحيل أن أسير خلفك أيها المرابي القديم الذي تأكل مال الله!
(2)
قلت:
سأسير خلف خديجة في الطرق التي تتبعها، سأظل ساكناً الطرق التي تسير فيها إلى المصرف الذي تعمل فيه. حين أتأمل الطرق التي تسلكها لا أجد من البنات الأبكار من تشبهها. بحثت عن بقعة مشمسة، وهواء طلق، فلم أجدهما إلا تحت سماء خديجة.
هو ذا قدر الإنسان أن تفسد خطواته حين يصمم على أن يفعل «معروفاً» في ابنة خالته. عاجز طوال عمري عن عمل شيء مثمر. يا أيها الأوغاد حاصرتموني حتى الملال!
ها هم أقرباؤك جميعاً عاجزون عن أن يمنحوك شيئاً.
ـ أرشدني يا خليل .. عفواً، ماذا قال لك «أبو المال الحرام»؟
ـ لقد رأيته أمس يفرش حصيراً أمام البيت، ويجلس مع الصيدلي «عدنان» .. رميت عليهم السلام، فرد «عدنان» من طرف أنفه، ولم يرد «أبو المال الحرام»؟!
ـ لماذا؟
ـ يعرف أنك أخي، وحبيبي، وصديقي، وابن خالتي .. (يبلع ريقه) خديجة أيضاً بنت خالتنا، لكني لا أكلمها ولا أراها إلا من خلف حجابها، عبر زجاج النافذة العريضة ـ في الدور الثاني ـ كلما خرجت من البيت متوجهاً إلى المدرسة.
ـ إذن فمشكلتي لن تُحل؟!
ـ أبوها غليظ .. جاف يا عزيزي. كيف أذهب إليه وهو يكره كل أقارب المرحومة «عنايات» خالتنا الراحلة.
ـ أستطيع أن آخذها إلى بيت القاضي في القاهرة، وأتزوجها.
ـ لن تستطيع أن تدخل «العصايد» مرة ثانية!
ـ لا أريد أن أدخل هذه القرية!
ـ وماذا تفعل بأخيك العاجز وأولاده الثلاثة؟
ـ يتكفَّل بهم خالقهم.
كانا قد وصلا إلى مفترق الطريق. أخرج سيجارة أجنبية من جيبه وأشعلها .. أضاف خليل في آلية، وكأنه يتخلص من الكلمات:
ـ لا تحزن يا مجدي .. ستكون خديجة من نصيبك .. إنها ابنة خالتك «عنايات».
ـ أنت أيضاً يا عزيزي خليل لا تُشاركني مأساتي، وكم شاركتُك أفراحك أيها الجبان، وسيكون من نصيبك أن تفرح بي عندما أتزوّج.
سأذهب لأبيها الليلة.
سأقول له: «لا أريد مالك أيها المرابي .. سآخذها وأذهب إلى «بيت القاضي». وابق أنت أيها الجرذ الأصفر الحقير مع زوجتك البيضاء الجافة على مقاعدكم المهترئة إلى الأبد، وانعما بكراهيتكما لي».
لم أر وجه خديجة منذ ثلاثة أهلة .. ذهبت إلى بور سعيد أعمل في أعمال الحفر والبناء ـ وأنا الحاصل على بكالوريوس التجارة ـ وأولاد الأفاعي يعملون، وزمانهم يقبل وزماني يموت.
أولاد أخيك يصهل حبهم في داخلك بعد أن تتنفّس هواء الشارع الثقيل، ثم تكبح جماح غضبك على «أبو المال الحرام»!
لماذا لا يُتابع خليل مساعيه، إذ ما جدوى الشتائم وقلبُ أبيها كالزجاج الغليظ الذي لا تنفذ منه الرصاصة .. رصاصة حبك الصادق؟ .. ماذا ينفع الغضب، وأنت تطلب البسمة النقية من المرابي الذي يجلس على تل من مال حرام؟!
قالت لك أختك «سناء» إن النظرة في عيني خديجة مثقلة بالحزن، وإن زهورها تذبل، وصوتها يخفت ـ لكأنها مريضة ـ كالقمر تغيب ثم تظهر، يكاد شعاعها الأخير ينطفئ، وهي تلوذ بالنوافذ والجدران هرباً من دفقات الغاز الأسود في البيت، تطلقه زوجة أبيها، كما تطلقه في الشارع عوادم سيارة أبيها البالية، التي ينطلق بها إلى الزقازيق مرتين أسبوعيا بسرعة عشرة أميال في الساعة.
لم تستطع «سناء» أن تمنحني بصيصاً من ضوء.
«أبو المال الحرام» يركض بكلية تالفة وأخرى سليمة، ويأخذ زوجته الصفراء في حضنه، وهما يعبران البحار والمحيطات لا يعبآن بالسابح الصغير.
كم ساعده أبي في بداية حياته ـ حينما كانت خالتي موجودة ـ لماذا لم أعد أسمع الكلمات العذبة تصوغها الألسن الصادقة، حتى من أمي «خالة خديجة»؟!
(3)
تساءلت موظفة الاستقبال ببسمة مصطنعة (أو قل ببسمة متهكمة):
ـ هل أنت متخصص في إدارة الأعمال؟
ـ نعم.
ـ تقديرك؟
ـ جيد جدا.
ـ لماذا لم تُعيَّن معيداً؟
ـ الكليات لم تعد تعين معيدين.
ـ ترتيبك على الكلية؟
ـ السادس على دفعة 1982 من «تجارة عين شمس».
ـ ولماذا لم تعمل في مصر طوال خمسة عشر عاماً؟
ـ الفرص ضيقة .. أشبه بثقب الإبرة!
ـ هل تُجيد اللغة الإنجليزية؟
ـ نعم.
(أعطته استبانة ليعبئها)
(منظر تكرر خمسين مرة في البحث عن فرصة عمل بالبلاد العربية).
(4)
في استراليا يستطيع أن يبدأ من جديد .. الهدوء في المكتب يبعث على الضيق.
سأل:
ـ هل سيتأخّر المدير؟
أشارت موظفة الاستقبال إلى الحجرة البعيدة في آخر الممشى، قالت:
ـ إنه يُجري بعض المقابلات مع مهندسين زراعيين يريدون السفر إلى استراليا.
قال بصوت هادئ مثقل بالحزن:
ـ أريد استراليا! .. بعيداً .. حيث أنسى خديجة!
قالت الموظفة:
ـ جئت بعد الأوان!
أحس بالحزن يُثقلُ صدره، لكنَّ الأمل عاوده من جديد، حين رآها تكلم شخصاً آخر.
خليط من رجال صامتين ومكتئبين، وجوههم مهمومة في تأمل وحيرة، الإعلانات التي تمثلها فاتنات التليفزيون في الجهاز الضخم ذي الثلاثين بوصة لا يشد أعينهم، ولا ضجيجه يستهوي آذانهم .. عجوز روسية جدائلها بيضاء تبحث في بقايا صناديق القمامة عن غذاء .. وزعيم عربي يصرخ «بضرورة الحل السلمي مع إسرائيل، وعبثية الحرب في عصر الهيمنة الأمريكية» .. وخبير يتكلم عن «التحضر واللا عنف» .. والدخان يتصاعد من جدائل الراقصات ليضلل المصابيح في شوارع القاهرة!
(5)
قال خليل وهو يضع مرفقيه على القائم الحديدي في مدخل مطار القاهرة: أنا أعرف حقيقة سفرك، وما فعله فيك «أبو المال الحرام» بشكلٍ خاص (بلع ريقه) .. أنت تهرب يا عزيزي!
وقال له الأستاذ عبد الغفور مدرس الفلسفة ـ وهو يُصافحه في هذا الصباح المعتم:
«سيكون جيلكم من اليهود الجدد .. لستم مثلنا .. نحن عشنا في عهد هادئ رغم حروبه المتعددة وهزائمه الكثيرة .. خروجكم متعب لنا .. ممزق لمشاعرنا .. وكلامي لن يفيدك ـ الآن ـ بشيء، فقد حزمت حقائبك! .. ولن تحل مشكلتك بالسفر أو الهروب!».
ـ لم يعد هناك من أمل يا أستاذ عبد الغفور!

كانت أمه تتشنج، وتطلب منه أن يرسل خطاباً حينما يصل إلى استراليا، وأولاد أخيه الصغار تركوا ألعابهم، ووزير الداخلية يُلقي بياناً عن نتائج الجولة الثانية من انتخابات مجلس الشعب التي أدارها القضاء في حيدة وفي نزاهة .. وكان خليل يقول إنه لن يستطيع أن ينعم بالحياة و«مجدي» يعيش بعيداً في قارة أخرى!
«يعيش؟!!».
أود أن أعيش معك يا خليل .. لكن كل كلماتك الطيبة لن تبني لي بيتاً في قريتي، ولن تُعيد لي خديجة الضائعة الساكتة!
وأنا لا أذهب لأستراليا لأبني لي بيتاً في «العصايد»، وإنما لأكون مواطناً استراليا!

الرياض 28/10/2000م

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:21 AM
( 23)
*صباح العيد*

(1)
خرجتُ من حجرتي التي تقبع في ممر طويل مظلم، مُلحق بتلك المدرسة النائية في جبل «النخلة الحمراء» .. أمام الباب مطلع وعر، تمرُّ منه السيارات القادمة من صنعاء، والمتجهة إلى مدينة «الأحد».
الوقتُ أمامي قصير لألحق صلاة العيد .. لماذا تأخرتُ في النوم؟ .. لم أنم إلا قبيل الفجر بنصف ساعة أو أقل قليلاً .. باق عشرُ دقائق على الصلاة .. عليَّ أن أصل إلى الساحة التي سيصلون فيها صلاة العيد.
نظرتُ أمامي فوجدت الأستاذ «سيد ريحان» المدرس بالمدرسة الابتدائية المُجاورة يمشي مُصطحباً ابنه الأكبر «مصطفى» ذا الأعوام التسعة .. أما حلمي ذو الأعوام الخمسة فيبدو أنه مازال نائماً .. فعل خيراً فالدنيا برد، ودرجة الحرارة تنخفض عن عشر درجات!
تلفت «سيد ريحان» إلى الخلف فأبصرني، فانتظر لألحقه .. شدَّ على يدي مهنئاً بالعيد السعيد، راجياً أن يُطيل الله عمرينا لنكون العام المقبل «على جبل عرفات معا» .. وعانقني، فشممتُ عطراً رخيصاً يفوح من طيات ثيابه.
ثياب ريحان مكوية، وشعره لامع، وفرحة العيد ترقص في عيني طفله «مصطفى».
لاحظت سيد ريحان وهو يُحملق في وجوه اليمانيين، ويهمس لي:
ـ رباه! .. كم هم مختلفون اليوم عن الأيام السابقة!
مشينا صامتين ـ أنا وسيد ـ والولد يقفز وكأنه عصفور!

جلستُ بجوار سيد ريحان على حشيش أخضر، في أرض مستوية، تتخللها بعض أشجار الخوخ .. تأكّدت أني أيضاً ألبس بنطلوناً وقميصاً جديدين، اشتريتهما منذ أسبوع من «صنعاء»، لكن بلا مكواة تمر عليهما .. فأين أجد الكوّاء في هذا المكان النائي؟!!
(2)
هاأنذا أجلس مطرقاً في مصلّى العيد، بكل مشاعري أستمع إلى «الشيخ محمد الأعرج»، وهو يُلقي خطبة العيد، عن معنى التضحية والفداء. والشيخ محمد مدير المدرسة الابتدائية المجاورة، وقد أخبرني منذ عدة أسابيع أنه درس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالسعودية ـ وإن كان لم يُتم دراسته الجامعية ـ ولذا فهو يفهم الفقه السني فهماً جيداً، وإن كان يُخطئ في اللغة ـ في كل خطبة ـ في كلمات قليلة!
(3)
هاهم اليمانيون يتعانقون في مودّة وفي حرارة بعد انتهاء الإمام من خطبته القصيرة .. وضحكات الإمام الصافية العالية تحتوي المكان.
نظرت إلى اليمانيين وهم يسلمون عليَّ بإعزاز، فوضعتُ على فمي ابتسامة عريضة، لكن لم يقل لي «سيد ريحان» هل كانت حقيقية أم باهتة، كما اعتاد أن يصف ضحكاتي فيما سلف من أيام؟
عانقني بعضُ طلابي، وعانقني بعضُ من لهم أولاد يدرسون عندنا في المدرسة الثانوية .. في حرارة حقيقية.
(4)
في المدرسة الثانوية ثلاثة أساتذة فقط:
عبد الغني حسنين: مدرس اللغة العربية والتربية الإسلامية، وقد ذهب ليلة الأمس إلى قرية «الخرابة» المُجاورة ليقضي يومين من أيام العيد مع ابن قريته «فريد»، وقد ألحَّ على أن أذهب معه (فزوجة «فريد» ابنة خالته، وليست غريبة عليه) .. ولكنني لم أستجب!!
وعلي عوض الكريم: سوداني، يدرس اللغة الإنجليزية والمواد الاجتماعية، وقد ذهب منذ يوم الخميس ـ من ثلاثة أيام ـ إلى «صنعاء» ليُمضي العيد مع أبناء بلده، (وكان قد قضى عيد الفطر في ذمار) وعرضَ عليَّ أن أذهب معه إلى صنعاء، ولكني قلتُ له:
ـ أنت ستذهب إلى أقاربك وأصدقائك .. وأنا ماذا سأفعل؟!
ضحك ضحكة عذبةً أنارت وجهه الأسمر:
ـ أنت أيضاً قريب وصديق.
ولكنني لم أستجب!!
وأنا .. مدرس الرياضيات والعلوم!

أما المدرسة الابتدائية المُجاورة لمدرستنا فلها مدرس واحد هو «سيد ريحان»، وقد أعدّت له القرية سكناً مؤثثاً، مكونا من حجرة واحدة، يسكنُ فيه هو وزوجته الجميلة النحيفة البيضاء وولداه مصطفى وحلمي.
اليمنيات يزرن زوجته عصر كل يوم، فلا يجد مفرا من أن يصطحب ابنه الكبير «مصطفى»، ويأتي ليجلس معنا، ويُخفف عنا وحدتنا بأحاديثه الجميلة، وقصصه المسلية!
هل يعود من المُصلَّى ليجلس معي، ويُخفف عني وحدتي، ويذكرني بأيّام الأعياد في مصر!
(5)
صحبني «سيد ريحان» وابنه في طريق العودة. وقبل خطوات من البيت استأذن مني .. في سرعة ولهوجة .. لأنه مدعو عند شيخ القرية ـ هو وزوجته وطفلاه ـ ورجعتُ إلى حجرتي عابراً الصالة المُظلمة.
أوارب الشباك قليلاً .. لأسمع ضحكات الأطفال .. وصياحهم .. وصفاراتهم.
أخرجتُ بعض الحلوى التي اشتريتُها أمسِ من البقال الوحيد في القرية .. ليست جيدة، لكنها خير من لا شيء!
تذكّرتُ أبنائي وزوجتي وأخواتي الأربع (فأنا الأخ الوحيد الذي يدخل عليهن في العيد) فأحسستُ بغصة في حلقي! .. مددتُ يدي لأشرب كوب الشاي البارد الذي عملتُه قبيل الفجر ونمتُ، ولم أشربه!
أُحسُّ ألماً شديداً في ساقي اليُسرى.
البردُ شديد .. فلأغلق الشباك، ولأتمدد على سريري، ولألبس جورباً سميكاً عساهُ يخفف عن ساقي بعضَ ألمها.
.. يبدو أنني لن أخرج من البيت ـ اليوم أو غداً ـ حتى يعود عبد الغني من «الخرابة»!
حسناً .. لقد اشتريت أمس من البقالة ما يكفيني يومين!
الرياض 23/1/2001م.

(انتهت المجموعة)