المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النوارس تعود مجدداً " قصة قصيرة "



محمد عبده العباسي
19/01/2008, 04:36 AM
النوارس تعود مجدداُ " قصة قصيرة"

في زمن هبت فيه ريـاح صفراء علي المدينة الآمنة ، زمــن تغــــــيرت فيه الملامح ، ورسمت علي جدرانها وارتفعت في شوارعــها التي ضاقت علي الرغم من رحابتها إعلانات عن سلع استهلاكية غريبة ، ومحت شعارات مقاومة جيوش العدوان الثلاثـــي 1956 وأحلام أخفقت في يونيــــو 1967 وانتشاء بالنصر المــــؤزر في أكتوبر 1973 ..

كان علي "الأستاذ " ألا يقف ساكناً ، كــان يبث حلو حديثه علي تلاميذه كل صباح عبر ميكروفون الإذاعة المدرسيةوهو يحثهم علي حسن الخلق والسلوك القويم ومواصلـــــة الدرس والعمل بجد لمواجهة تلك الهجمة الشرسة ..
لم تلن له قناة ، ولم تضعف له عزيمة وهو يدافع بضراوة ليدحض الافتراءات التي كانت تكال للمدينة عبر مقالات يدبجها بما عرف عنه من حسن البيان ومهارة في الكتابة الأدبية في الصحف شارحاً للآخرين ما تعرضت لــه المدينة من محن في سبيل الدفاع عن الوطن :
ــ إنها مدينة الكفاح ، وأهلها يعملون بالتجارة ، ليست مدينة التهريب كما يدعي البعض ، إنها مدينــــة البطولات الفريــدة والانتصارات العظيمة التي دحرت قوي البغي والعدوان ..
*** ***
نافذة قاعة الدرس تطل مباشرة علي المتوسط ، ثمــة رياح هبت فجأة ، صفعت وجه"الأستاذ" في قسوة ، ازدادت عتواً فكادت أن تقتلعه ،وبدأت الأرض وكـأنها تميد من تحت قدميه شعر بما يشبه الإعياء ، تراب إثر تراب هب ، اختنق وضاق عليه تنفسه ، أضحي مثــــــل ورقة جافة سقطت تحت سنابك خيل خريف مختلف لا يرحم ..

بدت قاعة الدرس أمام عينيه شبــه خاوية تماماً من تلاميذ غرقوا تباعاً بين تلال رمال تكونت وسطها ، حاول إنقــاذهم ولكن محاولاتها راحت سدي :
ــ أين راحوا ؟ سأل نفسه ...
جاء صوت من بعيد :
ــ هجروا الدراسة ، ربما سعياً وراء الكسب السريع ...
ــ لكنهم كانوا هنا ، كانوا أمامي ..
راح يناديــهم واحداً بعد الآخر ، ينقب عنهم في زوايا قاعة الدرس التي بدت مثل منطقــة جليدية تارة ، وصحراء جرداء وعرة تارة أخري ، حتى السبورة الســوداء سقط من عليهــا الطلاء ، وتبعثر زجاج النوافذ ، تشققت الجدران ، طــــــاشت من أمامه الأوراق وطارت الكراسات ، أمـــا وسائل الإيضاح فقد راحت تترنح مثل نســـوة عجائز حط الدهر علي كاهلهن بهمومه وسأمه ،أو سفن تصارع للنجاة وسط بحر لجي ..
*** ***
اشتد به الحزن وترقرق من عينيه الدمع :
ــ يا الله ..
قالها مستغيثاً برحمته من وعثاء طريق يراها ــ من بعيد ـ وكأنها تبدو عن كثب ..
سمع بعض العابرين يرددون اسمه في شبه همس :
ــ من لا يعرفه ، ليس من أهل هذه المدينة ..
ضحك في نفسه واستأنف السير..
*** ***
ثلاثة عقود من الزمان وتزيد ، أمضاها معلمــاً ، عرفتــــه أجيال وأجيال ، قضي منها عاماً واحداً معاراً في الخليـــــج ، مدير المدرسة العربي قال له وهو يودعه :
ــ أتمني لو تقضي العمر معنا ، هذا بلدك الثاني ..
ــ لكن لي أطفال ينتظرون عودتي ..
ــ نستقدمهم للإقامة معك..
ــ ثمة أمور أخري ..
ابتسم الرجل وأخرج من جيبه بطاقة بها أرقــام هواتفه، ربت علي كتفه وضمه إلي صدره :
ــ ما من صيف يمر إلا وأزور القاهرة ..
ــ علي الرحب والسعة ..
ــ سنفتقدك ..
ــ في أمان الله ..

كانـت المدينة أماً لأطفاله ، بعد أن اختطف الموت زوجته ، أمه العجوز تحملت في فدائية نادرة مسئولية الأبنــــاء حتى عاد من غيبته ..
*** ***
في لهفة المشتاق ولج قاعة الدرس ، كتب علي السبورة عنوان الدرس وراح يقرأ:
أعد ذكر مصر إن قلبي مولع
بمصر ومن لي أن تري مقلتي مصراً
نظر من حوله ، وجد التلاميذ لا يأبهون لدرسه ، هم شبه نيام ، جف حلقه وهو يحاول إيقاظهم ، تعب في عيونهم من أثر السهر ، تفصد العرق فوق جبينه من فرط الدهشة ، ثقل وزن رأسه ، ألم حاد في صدره لم يترفق به ، موج البحر تناثـــــر هادراً ليجتاز النافذة ، أيقظه الرذاذ :
ــ ترقية للأستاذ ، مديراً لأكبر مدرسة بالمدينة ..

ــ أرفض ، سأظل معلماً طوال حياتي ، تلك هي رسالتي ..
ــ فرصة سانحة يا أستاذ لترتقي السلم الوظيفي وتصبح ــ بعدئذ ــ مديــــراً عاماً ..
ــ ولو ...
**** ***
الأصاغر تسنموا ُربي الوظائف ، نظروا إليه من علٍ ، جاء أحدهم ممتطياً صهوة جواد غروره ، أعلن علي الملأ :
ــ الأستاذ في حاجة لدورة تدريبية ..
تفحصه جيداً ، تذكره تماماً ، كان ممن لا يفقهون حديثاً ، لكنه عبر الدهاليز المعتمة في مهارة ، ومشي في الطرق الملتوية ، ابتسم الأستاذ في عجب ، شعـــر الآخر بمهانة ، فتوعده ..
كان ثالث ثلاثة جاءوا لمتابعة سير الدراسة ، هابهـــــم البعض ، واجتــرأ البعض علي جورهم ..
ــ سنرفع الأمر للوزير ..
كان فظاً غليظ القول ، انمحــــت من علي لســــانه اللغة الرصينة ..
ــ من منا يحتاج لدورة تدريبية ، زمن ..
قال الأستاذ ..
تكهرب الجو ، ازدادت النار اشتعالاً ، تدخل رئيس اللجنة لحزم الأمر ، كان يتمتع بلباقة وكياســــــة ، احتوي الأمر وهدأ من روع الأستاذ ودعاه علي فنجان من القهوة في الخارج :
ــ هون من الأمر يا أستاذ ، فهم ضيوفك..
ــ علي الضيف أن يراعي حرمة المكان ..
عاد قصير القامة للتهديد ، اشتعل الموقف ، أقسم يميناً مغلظة برفع الأمر للوزير مباشرة :
ــ لقد اجتاز الأمر كل الخطوط الحمراء ..
*** ***
راح يشعل سيجارة رغم تعليمات الحظر المثبتة علي الجدار من خلفه احتج لفيف من الطلاب احتشدوا لمعرفـــــــة الأمر ، طالبوا بالمثل ، وأنشدوا :
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً
فشيمة أهل البيت كلهم .......
ثبت نظارتيه ليعي ما حوله ، داس علي سيجارته بحذاء بالٍ ، ازدرد ريقه في مرارة ووجه متجهم ، ولم يعبأ به أحد حتى انصرف يجرجر خطوه مهزوماً وهو يصرخ :
ــ الأستاذ يؤلب الطلاب ضدنا ، إنه يشيع الفوضي ، لابد من تحويله للتحقيق ..
هدد الطلاب بالاعتصام وأعلنوا عن تأييدهم لمعلمــهم إن أصابه سوء ..
تهاوي الأستاذ علي مقعده وقد اسقط في بيده ..
*** ***
" يتم إخلاء طرف السيد / ............
وينقل إلي خارج المحافظة علي وجه السرعة ، ونفــــــاد بتنفيذ الأمر .
مكتب الوزير
*** ***
مثل رصاصة الرحمة التي تطلق علي خيل الحكومة بعد أن تشيخ وتعتل وجد الأستاذ نفسه محاطاً بالزبانية :
ــ وقع بالعلم والتنفيذ ..

لم يأبه رغم إصابتــــــه بداء " السكري " ثبت في مكانه ، ومشي في اتجاه البحر ، راحوا يهرولون من خلفه وينادون :
ــ ارجع ..
لكنه لم يرجع ..
*** ***
حدثتني النوارس بعدئذ :
ــ لقد أصبح طيراً ..
قلت مهنئاً نفسي بلقائه :
ــ كيف حدث ذلك ؟
قال النورس الجميل :
ــ حين تصبح مثله ستعرف ..
ــ قل لي بربك كيف ؟
ــ حين تنبت لك أجنحة الحرية ..
*** ***
مرت عدة سنوات ، لقيته وقد اشتعل الرأس شيباً ، لم تنحن قامته التي امتدت سامقة ، كان يصطحب أحفاده وهو يظللهم بوارف ظله كشجرة تحدب عليهم وحين اقتربت منه أومأ لي برأسه ، خذلني ولم ينطق بحرف واحد ..
راح ينشر جناحيه ويضرب بهما الهواء ، طار الصغار من حوله بعيداً حتى آوتهم سحب بيضاء كندف الثلج في سماء بديعة ..
*** ***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد عبده العباسي
بورسعيد / مصر

عاشت بلادي
22/01/2008, 07:00 AM
يبدو انك قاص مميز و ذو خيال خصب
أبدعت في السرد
وفي أسلوب التشويق الذى أعترى كلماتك
فهنياّ لمنتدى المربد بقلمك الرائع و أسلوبك المميز
أخي الفاضل / محمد عبده العباسي
أحترامنا و تقديرنا لك

محمد عبده العباسي
22/01/2008, 09:21 AM
الصديق العزيز
لك تحياتي علي متابعتك وقراءة أعمالي في " المربد"
لك جزيل الشكر
ـــــــــــــــــــ
محمد عبده العباسي
بورسعيد / مصر