المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القرامطة



طارق شفيق حقي
11/01/2008, 04:34 PM
اخترت لكم من كتاب فنون الأدب للنويري وهذه الموسوعة جديرة بالاقتناء لما تحوي من فنون وآداب وتاريخ وثقافة


وننقل تاريخ القرامطة الذي عاثوا في الأرض خراباً , وفي هذه المقبوس ذكر لحال أرض العراق حيث تكاثرت الفتن

فمن الخوارج للزنج للقرامطة الذين احتلوا الكوفة والبصرة حتى كان هلاكهم على يد رجل يدعى الأصفر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة

لنقرأ تاريخ القرامطة وكيف تدثروا بالدين وادعى داعيتهم أنه المهدي وانه رسول الله

ولنتذكر قرامطة العصر كيف تدثروا بلباس الدين وأهلكوا الحرث والنسل وباعوا البلاد لأمريكا

ودعوتهم تشابهم دعوة القرامطة وصور كبارهم في الملاهي والبارات تسجل وتذاع وتوزع علناً

ربما الوحي قد أباح لهم ذلك

كما أباح للقرامطة

القرامطة

وحكى عز الدين بن الأثير الجزري رحمه الله تعالى في تاريخه الكامل - عند ذكره لأخبار
القرامطة قال:

وكان فيما يحكى عن مذهبهم أنهم جاءوا بكتاب فيه - يقول الفرج بن عثمان - وهو من
قرية يقال لها نصرانة، وهو داعية المسيح وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو
أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل، وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان وقال:
إنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الناقة، وإنك الدابة، وإنك يحيى بن زكريا، وإنك روح
القدس، وعرفه أن الصلاة أربع ركعات - ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها،
وأن الأذان في كل صلاة أن يقول: الله أكبر، أربع مرات وأشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد
أن آدم رسول الله، وأشهد أن نوحاً رسول الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أشهد أن
موسى رسول الله، أشهد أن عيسى رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن
أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله، وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح، وهو من المنزل على
أحمد بن محمد بن الحنفية، والقبلة إلى بيت القدس، والجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء،
والسورة التي يقرأها: الحمد لله بكلمته وتعالى باسمه، والمنجد لأوليائه بأوليائه، قل إن الأهلة
مواقيت للناس ظاهرها، ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها، أوليائي
الذين عرفوا عبادي، سبيلى: اتقوني يا أولي الألباب، وأنا الذي لا أسأل عما أفعل، وأنا
العليم الحكيم، وأنا الذي أبلوا عبادي وأمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي ومحنتي
واختباري أدخلته في جنتي وأخلدته في نعيمي، ومن زال عن أمري وكذب رسلي أخلدته
مهاناً في عذابي، وأتممت أجلي وأظهرت أمري على ألسنة رسلي، وأنا الذي لم يعل على
جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته، وليس الذي أصر على أمره ودام على جهالته، وقال:
أن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين، أولئك هم الكافرون، ثم يركع ويقول في ركوعه: سبحان
ربي ورب العزة، وتعالى عما يقول الظالمون يقولها مرتين، فإذا سجد قال: الله أعلى مرتين،
الله أعظم مرتين.
ومن شرائعه أن يصوم يومين في السنة، وهما للمهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام، والخمر
حلال، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأن من حاربه واجب قتله، ومن لم
يحاربه ممن خالفه أخذ منه الجزية، ولا يؤكل كل ذي ناب ولا ذي مخلب.
وقد أخذ هذا الفصل حقه من الإطالة والإسهاب، فلنذكر مبدأ هذه الدعوة.
ابتداء دعوة القرامطة
قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: كان مبدأ هذه الدعوة الخبيثة إلى محمد بن
إسماعيل بن جعفر، وزعموا أنه الإمام المهدي الذي يظهر في آخر الزمان ويقيم الحق وأن
البيعة له، وأن الداعي إنما يأخذها على الناس له، وأن ما يجمع من الأموال مخزون له إلى أن
يظهر، ولم تزل هذه الدعوة إلى محمد بن إسماعيل إلى أن هرب سعيد المسمى بعبيد الله من
سلمية إلى المغرب، وتلقب بالمهدي فصار هو الإمام، وانتسب إلى أنه من ولد إسماعيل بن
جعفر، فنقلوا الدعوة إليه، وكان القول في المبدأ: أن محمد بن إسماعيل حي لم يمت، وأنه
يظهر في آخر الزمان وأنه مهدي الأمة.
قال: ولم يكن هذا المحتال أن يرفع محمد بن إسماعيل، ولا يأخذ له بيعة، إنما جعله باباً
يستغل به عقل من يدخل فيه ويتبين له أنه قد تمكن من خديعته وبلغ المراد منه، شيعيا كان
أو سنياً. قال: ولما أظهر اللعين ما أظهر من هذه الأقوال كلها، بعد تعلقه بذكر الأئمة
والرسل والحجة والإمام، وأنه المعول والقصد والمراد، وبه اتسقت هذه الأمور ولولا هو لهلك
الحق وعدم الهدى والعلم، وظهر في كثير منهم الفجور، وبسط بعضهم أيديهم بسفك
الدماء، وقتل جماعة ممن أظهر خلافاً لهم، فخافهم الناس جداً واستوحشوا من ظهور
السلاح بينهم، فأظهر موافقتهم كثير من مجاوريهم، مقاربة لهم وجزعاً منهم.
ثم إن الدعاة اجتمعوا واتفقوا على أن يجعلوا لهم موضعاً، يكون وطناً ودار هجرة
يهاجرون إليها ويجتمعون بها، فاختاروا من سواد الكوفة في طسوج الفرات - من ضياع
السلطان المعروفة بالقاسميات، قرية تعرف بمهيماباد، فنقلوا إليها صخراً عظيماً، وبنوا
حولها سوراً منيعاً عرضه ثمانية أذرع، وجعلوا من ورائه خندقاً عظيماً، وفرغوا من ذلك
في أسرع وقت، وبنوا فيها البنيان العظيم، وانتقل إليها الرجال والنساء من كل مكان،
وسميت دار الهجرة وذلك في سنة سبع وسبعين ومائتين.
فلم يبق بعد هذا أحد إلا خافهم، ولا بقي أحد يخافونه لقوتهم وتمكنهم في البلاد، وكان
الذي أعانهم على ذلك تشاغل السلطان ببقية الخوارج وصاحب الزنج بالبصرة، وقصر يد
السلطان وخراب العراق وركوب الأعراب واللصوص وتلف الرجال وفساد البلدان وقلة
رغبة من يلي الأعمال من ذوي الإصلاح والأمانة من العمال وأصحاب الحروب، فتمكن
هؤلاء الدعاة ومن تبعهم بهذا السبب، وبسطوا أيديهم في البلاد وعلت كلمتهم، فغلبوا على
ذلك سنين.

طارق شفيق حقي
11/01/2008, 04:37 PM
انتفاض الدعوة
عن حالتها الأولى ومقتل عبدان وما كان من أمر زكرويه بعده
قال الشريف: وكان قرمط يكاتب من بسلمية من الطواغيت فلما توفي من كان في وقته
وجلس ابنه من بعده كتب إلى حمدان قرمط كتاباً، فلما ورد عليه الكتاب وقرأه أنكر ما
فيه، وتبين فيه ومنه ألفاظاً قد تغيرت، وشيئاً ليس هو على النظام الأول، فاستراب به
وفطن أن حادثة حدثت، فأمر قرمط ابن مليح - وكان داعياً من دعاته - أن يخرج
فيتعرف الخبر، فامتنع عليه واعتذر، فأنفذ من أحضر عبدان الداعية من عمله، فلما
حضر أنفذه ليتعرف ما حدث من هذا الأمر، ويكشف عن سبب تغيره، فسار عبدان
لذلك، فلما وصل عرف بموت الطاغية الذي كانوا يكاتبونه، فاجتمع بابنه وسأله عن الحجة
ومن الإمام بعده، الذي يدعو إليه، فقال الابن: ومن الإمام؟ قال عبدان: محمد بن إسماعيل
بن جعفر صاحب الزمان الذي كان أبوك يدعو إليه، وكان حجته، فأنكر ذلك عليه وقال:
محمد بن إسماعيل لا أصل له، ولم يكن الإمام غير أبى وهو من ولد ميمون بن ديصان، وأنا
أقوم مقامه، فعرف عبدان القصة واستقصى الخبر وعلم أن محمد بن إسماعيل ليس له في
هذا الأمر حقيقة، وإنما هو شيء يحتالون به على الناس، وأنه ليس من ولد عقيل بن أبي
طالب، فرجع عبدان إلى قرمط فعرفه الخبر، فأمره قرمط أن يجمع الدعاة ويعرفهم صورة
الأمر وما تبين منه، ويقطع الدعوة، ففعل عبدان ذلك وقطعت الدعوة من ديارهم، ولم
يمكنهم قطعها من غير ديارهم، لأنها كانت قد امتدت في سائر الأقطار وامتد شرها،
وقطعت الدعاة مكاتبة أصحابهم الذين بسلمية.
وكان رجل من أولاد القداح قد نفد إلى الطالقان يبث الدعاة، ونزل بقرمط وهو بسواد
الكوفة عند عبوره إلى الطالقان، وكانت الدعاة يكاتبونه، فلما انقطعت المكاتبة عن جميع
أولاد القداح قطعت عن هذا الذي بالطالقان، فطال انتظاره، فشخص عن الطالقان ليقصد
قرمط، وكان قرمط قد سار إلى كلواذى، فلما وصل إلى كلواذى سأل عن قرمط، فعرف
أنه انتقل فلا يدري أين مضى وما عرف لقرمط بعد ذلك خبر، ولا علمت وفاته ولا ما اتفق
له، فقصد ابن القداح سواد الكوفة، فنزل على عبدان، فعتب عليه وعلى جميع الدعاة في
انقطاع كتبهم عنه، فعرفه عبدان أنهم قطعوا الدعوة وأنهم لا يعودون فيها وأن أباه كان قد
غرهم وادعى نسبه من عقيل بن أبي طالب كذباً ودعا إلى المهدي، فكنا نعمل على ذلك،
فلما تبينا أنه لا أصل لذلك، وعرفا أن أباك من ولد ميمون بن ديصان وأنه صاحب الأمر،
تبنا إلى الله تعالى مما تحملناه، وحسبنا ما كفرنا أبوك فتريد أن تردنا كفاراً؟ ! انصرف
عنا إلى موضعك.
قال: وكان عبدان قد تاب من هذه الدعوة حقيقية، فلما أيس منه صار إلى زكرويه بن
مهرويه، فعرفه خبر عبدان ومارد عليه، فلقيه زكرويه بكل ما يحب، وقدر أنه ينصبه داعياً
مقام أبيه، فيستقيم له أخذ الأموال وجمع الرجال، وواطأة على ذلك، وقال له: إن هذا الأمر
لا يتم مع عبدان، لأنه داعي البلد كله، والدعاة من قبله والناس من تحت يده، وأنه لا يجيبه
إلا أهل دعوته خاصة. وشرعا في إعمال الحيلة على قتل عبدان، واتفقا على ذلك، ثم
وجه زكرويه إلى رجل من بني تمم بن كليب وأخ له كانا من أهل دعوته، وأحضر جماعة من
قراباته وثقاته فأظهرهم على ابن اللعين، وعرفهم أنه ابن الحجة، وأن الحجة توفى وأن ابنه
هذا يقوم مقامه، فأجلوه وأعظموه وقالوا له: مرنا بأمرك، فأمرهم بقتل عبدان، وعرفهم أنه
نافق وعصى وخرج عن المللة، فساروا إليه من ليلتهم وبيتوه فقتلوه، وكان زكرويه هذا من
تحت يد عبدان، وعبدان هو الذي أقامه داعية فلما شاع في الناس أن زكرويه قتل عبدان
طلبه الدعاة والقرامطة ليقتلوه فاستتر، وخالفه القوم بأسرهم إلا أهل دعوته، وخاف على
نفسه ولم يتم له أمره الذي دبره، فقال لابن اللعين: قد ترى ما حدث، ولا آمن عليك وعلى
نفسي، فارجع إلى بلدك ودعني، فإني أرجو أن يتغير الأمر، فأتمكن من الناس وأدعوهم
إليك، فإذا تمكنت من ذلك أرسلت إليك لتصير إلي، فانصرف إلى الطالقان واستتر زكرويه
وتنقل في القرى، وذلك سنة ست وثمانين ومائتين، والقرامطة تطلبه وأصحابه عبدان
يرصدونه، وكان قد اتخذ مطمورة تحت الأرض على بابها صخرة، فإذا دخل قوم إلى القرية
في طلبة قامت امرأة في الدار التي هو فيها إلى تنور ينقل، فوضعته بقرب الصخرة ثم أشعلت
النار، وأرت أنها تريد أن تخبز، فيخفي أمره على من يطلبه، فمكث كذلك سنة ست
وسنة سبع وثمانين ومائتين فلما رأى انحراف أهل السواد عنه إلا أهل دعوته وطال أمره،
أنفذ ابنه الحسن في سنة ثمان وثمانين ومائتين إلى الشام، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله
تعالى بعد ذكرنا لأخبار أبي سعد الجنابي.
أخبار أبي سعيد الجنابي
وظهوره بالبحرين
هو أبو سعيد بن برام من أهل جنابة، وأصله من الفرس وكان يعمل الفراء، وسبب دخوله
في هذه الدعوة وظهوره، أنه سافر إلى سواد الكوفة، فذكر أنه تزوج بقرية من سواد الكوفة،
إلى قوم يقال لهم بنو القصار، وكانوا أصولا في هذه الدعوة الخبيثة فأخذها عنهم، وقيل بل
أخذ الدعوة عن نفسه، وقد وقيل أنه تلقاها عن حمدان قرمط، وسار داعية من قبله فنزل
القطيف، وهي حينئذ مدينة عظيمة، فجلس بها يبيع الدقيق ولزم الوفاء والصدق، ودعا
الناس، فكان أول من أجابه الحسين وعلى حمدان بنو سنبر، وقوم ضعفاء ما بين قصاب
وحمال وأمثال هؤلاء.
قال الشريف أبو الحسين: فلما دعا بتلك الناحية وقويت يده واستجاب له الناس وجد
بناحيته داعيا يقال له أبو زكريا الصمامي كان عبدان الداعي أنفذه قبل أبي سعيد إلى
القطيف وما والاه، فلما تبين أمره أبو سعيد الجنابي عظم عليه أن يكون داع غيره، فقبض
عليه وحبسه في بيت حتى مات هزلا. قال: وقد ذكر أن هذا الداعي أخذ على بني
سنبر قبل أبي سعيد، وكان في أنفسهم حقد عليه لقتله أبا زكريا.
وحكى ابن الأثير الجزري في تاريخه الكامل ابتداء أمر القرامطة بناحية البحرين: أن رجلا
يعرف بيحيى بن المهدي قصد القطيف، ونزل على رجل يعرف بعلي بن المعلى بن حمدان،
وكان متغاليا في التشيع، فأظهر له يحيى أنه رسول المهدي، وذلك في سنة إحدى وثمانين
ومائتين، وذكر أنه خرج إلى شيعته يدعوهم لأمره، وأن خروجه قد قرب، فجمع على بن
المعلى الشيعة من أهل القطيف، وأوقفهم على الكتاب الذي أحضره يحيى بن المهدي من
المهدي إليهم، فأجابوه: إنهم خارجون معه إذا ظهر أمره، وأجاب سائر قرى البحرين بمثل
ذلك، فكان فيمن أجابه أبو سعيد الجنابي، ثم غاب يحيى بن المهدي مدة، ورجع بكتاب
يزعم أنه من المهدي إلى شيعته، وفيه: قد عرفني رسول يحيى بن المهدي مسارعتكم إلى
أمري، فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلثي دينار، ففعلوا ذلك ثم غاب وعاد
بكتاب، فيه ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم، فدفعوا إليه الخمس.
قال: وحكى يحيى بن المهدي جاء إلى منزل أبي سعيد الجنائي فأكل طعاماً، وخرج أبو
سعيد من البيت وأمر امرأته أن تدخل إلى يحيى، وأن لا تمنعه إذا أرادها، فانتهى الخبر إلى
الوالي فضرب يحيى حلق رأسه ولحيته، وهرب أبو سعيد إلى جنابه، وصار يحيى إلى بني
كلاب وعقيل والحريش، فاجتمعوا معه ومع أبي سعيد فعظم أمر أبي سعيد، واشتدت
وطأته وظهر أمره، قال: وكان ظهوره بالبحرين في سنة ست وثمانين ومائتين.
استيلاء أبي سعيد الجنابي على هجر
وما كان من خلال ذلك من حروبه ووقائعه
قال الشريف أبو الحسين: كان من الاتفاق لأبي سعيد أن البلد الذي قصده بلد واسع كثير
الناس، ولهم عادة بالحروب، ورجال شداد جهال غفل القلوب، بعيدون من علم شريعة
الإسلام ومعرفة نبوة أو حلال أو حرام، فظفر بدعوته في تلك الناحية، ولم يناوئه مناويء،
فقاتل بمن أطاعه من عصاه حتى اشتدت شوكته جداً، وكان لا يظفر بكريه إلا قتل أهلها
ونهبها، فهابه الناس وأجابه كثير منهم طلباً للسلم، ورحل من البلد خلق كثير إلى نواحي
مختلفة وبلدان شتى، خوفاً من شره، ولم يمتنع عليه إلا هجر، وهي مدينة البحرين ومنزل
سلطانها والتجار والوجوه، فنازلها شهوراً يقاتل أهلها، فلما طال عليه أمرها وكل بها جل
أصحابه من أهل النجدة، ثم ارتفع الأحساء وبينها وبين هجر ميلان، فابتنى بها داراً
وجعلها منزلاً، وتقدم في زراعة الأرض وعمارتها، وكان يركب في الأيام إلى هجر هو ومن
يحاصرها، ويعقب من أصحابه في كل أيام قوما، ثم دعا العرب فأجابه أول الناس، بنو
الأضبط من كلاب، لأن عشيرتهم كانوا أصابوا فيهم دماً، فساروا إليه بحرمهم وأموالهم
فنزلوا الأحساء، وأطمعوه من بني كلاب وسائر من يقرب منه من العرب، وطلبوا منه أن
يضم إليهم رجالاً ففعل ذلك، فلقوا بهم عشيرتهم فاقتتلوا فهزمتهم القرامطة فأكثروا فيهم
القتل، وأقبلوا بالحريم والأموال والأمتعة نحو الأحساء، فاضطر المغلوبين إلى أن دخلوا في
طاعته وصاروا تحت أمره، ثم وجه أبو سعيد بجيش آخر إلى بني عقيل فظفر بهم،
فقصدوه ودخلوا في طاعته، فملك تلك الفلاة، وتجنب قتاله كل أحد إلا بني ضبة، فإنها
ناصبته الحرب، فلما اجتمع إليه من اجتمع من العرب وغيرهم خوفهم ومناهم ملك الأرض
كلها، فاستجاب بعضهم إلى دعوته فرد إليهم ما أخذ منهم أهل وولد، وأجاب آخرون
رغبة في دعوته، ولم يرد على أحد إبلاء ولا عبداً ولا أمة وأنزل الجميع معه الأحساء، وأبي
قوم دعوته عليهم حرمهم ومن لم يبلغ من أولادهم أربع سنين وشيئاً من الإبل يحملون عليه،
وحبس ما سوى ذلك كله، وجمع الصبيان في دور وأقام عليهم قواما، وأجرى عليهم ما
يحتاجون إليه، ووسم جميعهم على الخدود لئلا يختلطوا بغيرهم، وعرف عليهم عرفاء،
وعلم من صلح لركوب الخيل والطعان فنشأوا لا يعرفون غيره، وصارت دعوته طبعاً لهم،
وقبض كل مال من البلد والثمار والحنطة والشعير، وأنفذ الرعاة في الإبل والغنم، وقوماً
للنزول معها لحفظها والتنقل معها على نوب معروفة، وأجرى على أصحابه جرايات فلم يكن
يصل أحد إلى غير ما يطمعه، وهو لا يغفل مع ذلك عن هجر، فلما أضجروه وطال أمرهم
وقد كان بلغ منهم الحصار كل غاية، وأكلوا السنانير والكلاب وكان حصارهم يزيد عل
عشرين شهراً، ثم جمع أصحابه وحشد لهم وعمل الدبابات، ومشى بها الرجال إلى السور،
فاقتتلوا أشد قتال لم يقتتلوا مثله قبل ذلك، ودام القتال عامة النهار، وكل منتصف من الآخر،
وكثرت بينهم القتلى، ثم رجع إلى الأحساء، ثم باكرهم فناوشوه فانصرف، فلما قرب من
الأحساء أمر الرجالة ومن جرح أن ينصرف، وعادوا في خيل فدار حول هجر، وفكر فيما
يكيدهم به، وإذا لهجر عين عظيمة كثيرة الماء، يخرج من نشز من الأرض غير بعيد منها،
ثم يجتمع ماؤها في نهر ويقتسم حتى بجانب هجر ملاصقاً، ثم ينزل إلى النخيل فيسقيها،
فكانوا لا يفقدون الماء في حصارهم، فلما تبين له أمر العين انصرف إلى الأحساء، وثم غدا
فأوقف على باب المدينة عسكراً، ثم رجع إلى الأحساء وجمع الناس كلهم وسار في آخر
الليل فورد العين بكرة بالمعاول والرمل وأوقار الثياب الخلقان ووبر وصوف وأمر قوماً بجمع
الحجارة وآخرين ينفذون بها إلى العين، وأعد الرمل والحصى والتراب، فلما اجتمع أمر أن
يطرح الوبر والصوف وأوقار الثياب في العين، وأن يطرح فوقها الرمل والحصى والتراب
والحجارة ففعل ذلك، فقذفته العين ولم يغن ما فعلوه شيئاً، فانصرف إلى الأحساء هو ومن
معه، وغدا في خيل فضرب في البر، وسأل عن منتهى العين فقبل له إنها تتصل بساحل
البحر، وأنها تنخفض كلما نزلت، فرد جميع من كان معه وانحدر على النهر نحوا من ميلين
ثم أمر بحفر نهر هناك، ثم أقبل هو وجمعه يأتون في كل يوم، والعمال يعملون حتى حفره إلى
السباخ، ومضى الماء كله عنهم فصب في البحر، فلما تم له ذلك نزل على هجر وقد انقطع
الماء عمن بها، فأيقنوا بالهلاك فهرب بعضهم نحو البحر، فركبوه إلى جزيرة أدالي وسيراف
وغيرهما، ودخل قوم منهم في دعوته، وخرجوا إليه فنقلهم إلى الأحساء، وبقيت طائفة لم
يقدروا على الهرب ولم يدخلوا في دعوته، فقتلهم وأخذ ما في المدينة ثم أخربها، وصارت
الأحساء مدينة البحرين.
الحرب بين القرامطة أصحاب أبي سعيد وأهل عمان
قال: ولما استولى على هجر وخربها أنفذ سرية من أصحابه ستمائة فارس إلى عمان،
فوردت على غفلة فقتلوا ونهبوا وأسروا في عمل عمان وأنفذ أهل عمان سرية إليهم في
ستمائة رجل من أهل النجدة فأدركوهم فجعلت القرامطة ما غنموه وراء ظهورهم، وأقبلوا
نحو أهل عمان فاقتتلوا، حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف وتعانقوا، وتكادموا
وتراضخوا بالحجارة، فلم تغرب الشمس حتى تفانوا، فبقي من أهل عمان خمسة نفر لا
حراك بهم، ومن القرامطة ستة نفر مجرحين إلا أنهم أحسن حالاً من العمانية، فركب
القرامطة ست رواحل وعادوا إلى أبي سعيد، فأخبروه الخبر واعتذروا إليه، فلم يقبل
عذرهم وأمر بهم فقتلوا، فأنزلت بهم ما كانوا له أهلاً، وتطير بهلاك السرية وأمسك عن
أهل عمان.
الحرب بين القرامطة والمعتضد
وانتصار القرامطة
قال: ولما كان أمر أبي سعيد الجنابي ما كان، اتصلت أخباره بالمعتضد بالله، وكتب إليه
أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي - وهو إذ ذاك يتولى البصرة - يعلمه خبر أبي سعيد، وأنه
اتصل به أنه يريد الهجوم على البصرة، فأمره المعتضد بالله أن يعمل على البصرة سوراً
فعمله، فكان مبلغ ما صرف عليه أربعة عشر ألف دينار، ثم كتب الواثقي إلى المعتضد
بالله العباس بن عمرو الغنوى في ألفي رجل، وأقطعه اليمامة والبحرين وأمر بمحاربة
القرامطة - وكان يتولى بلاد فارس - فسار إلى البصرة فوردها وذلك في سنة سبع وثمانين
ومائتين، وخرج منها نحو هجر وبينهما بضع عشرة ليلة في فلاة مقفرة، وتبعه من مطوعة
البصرة نحو من ثلاثمائة رجل من بني ضبة وغيرهم، وعرف أبو سعيد خبرهم فسار
نحوهم وقدم أمامه مقدمة، فلما عاينهم العباس بن عمرو خلف سواده وسار إليهم فيمن
خف من أهل العسكر وأدرك أبو سعيد مقدمته في باقي أصحابه، فتناشوا القتال فكانت
بينهم حملات، ثم حجز الليل بينهم فانصرفوا على السواء فلما جاء الليل انصرفت مطوعة
البصرة ومن معهم بني ضبة فكسر ذلك الجيش وفت في أعضادهم، وأصبح العباس بن
عمرو فعبى أصحابه للقتال والتقوا، فجعل بدرا غلام أحمد بن عيسى بن الشيخ في نحو مائة
من أصحابه على ميمنة أبي سعيد، فأوغل فيهم فلم يرجع منهم أحد، وحمل أبو العباس
وأصحابه فانهزموا، وأسر العباس بن عمرو ومعه نحو من سبعمائة رجل من أصحابه،
واحتوى القرامطة على عسكره، وقتل أبو سعيد من غديومه جميع الأسرى ثم أحرقهم،
وترك العباس بن عمرو ومضى المنهزمون فتاه كثير منهم في البر وتلف كثير منهم عطشاً،
وورد قوم منهم البصرة فارتاع الناس لهم، حتى أخذوا في الانتقال عن البصرة فمنعهم
الواثقي.
قال: ولما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد الجنابي العباس ابن عمرو، وقال له: أتحب
أن أطلقك؟ قال: نعم قال: على أن تبلغ عني صاحبك ما أقول، قال: أفعل، قال: تقول الذي
أنزل بجيشك ما أنزل بغتك، هذا بلد كان خارجاً عن بلدك غلبت عليه وأقمت به وكان في
من الفضل ما آخذ غيره، فما عرضت لما كان في يدك ولا هممت به، ولا أخفت لك
سبيلاً، ولا نلت أحداً من رعيتك بسوء، فتوجيهك إلى الجيوش لأي سبب؟ ! اعلم إني
لا أبرح عن هذا البلد ولا يوصل إليه وفي، وفي هذه العصابة التي معي روح، فاكفني نفسك
ولا تتعرض لما ليس لك فيه فائدة، ولا تصل إلى مرادك منه إلا ببلوغ القلوب الحناجر،
وأطلقه وأرسل معه من يرده إلى مأمنه، فأوردوه بعض السواحل فصادف مركباً فركب فيه
إلى الأباة، ووصل إلى بغداد في شهر رمضان من السنة. قال: وقد كان الناس يعظمون أمر
العباس ويكثرون ذكره ويسمونه قائد الشهداء، فلما وصل إلى المعتضد بالله عاتبه على تركه
الاستظهار والتحرز وأنبه، فاعتذر بهرب بني ضبة ومن كان معهم من المطوعة وهرب
أصحابه عنه، وأنه لو أراد الهرب لأمكنه، فلم يبرح حتى رضي عنه وزال همه، ثم سأله
عن خبره فعرفه جميعه، ووصف له أحوال القرامطة وما قاله أبو سعيد بعد أن استأذنه في
ذلك فأذن له، فقال: صدق ما أخذ شيئاً كان في أيدينا، وأطرق مفكراً ثم رفع رأسه، فقال:
كذب عدو الله الكافر، المسلمون رعيتي حيث كانوا من بلاد الله، والله لئن طال بي عمر
لأشخصن بنفسي إلى البصرة وجميع غلماني، ولأوجهن إليه جيشاً كثيفاً فإن هزمه وجهت
جيشاً، فإن هزمه خرجت في جميع قوادي وجيشي إليه، حتى يحكم الله بيني وبينه،
وشغله بعد ذلك أمر وصيف غلام ابن أبي الساج وأحفزه، فخرج في طلبه وهو عليل،
وذلك في شوال من هذه السنة، فأخذه وعاد إلى بغداد فدامت علته واستمر وجعه
ومات.
قال القاسم بن عبيد الله: ما زال أمير المؤمنين المعتضد بالله يذكر أمر أبي سعيد في مرضه
ويتلهف، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: حسرة في نفسي كنت أحب أن أبلغها قبل
موتي، والله لقد كنت وضعت في نفسي أن أركب، ثم أخرج إلى باب البصرة متوجهاً نحو
البحرين، ثم لا ألقي أحداً أطول من سيفي إلا ضربت عنقه، وإني أخاف أن يكون من
هناك حوادث عظيمة.
قال: وأقبل أبو سعيد بعد إطلاق العباس على جمع الخيل وإعدا السلاح واتخاذ الإبل
وإصلاح الرجل ونسج الدروع والمغافر ونظم والجواشن وضرب السيوف والأسنة وإتخاذ
الروايا والمزاد والقرب وتعليم الصبيان الفروسية، وطرد الأعراب عن قربه وسد الوجوه إلى
يتعرف منا أمر بلده وأحواله بالرجال وإصلاح أراضي المزارع وأصول النخل وعمارته،
وإصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها. ونصب الأمناء على ذلك، وإقامة العرفاء على الرجال،
والاحتياط على ذلك كله، حتى بلغ من تفقده واحتياطه أن الشاة كانت تذبح فيسلم اللحم
إلى العرفاء، ليفرقوه على من يرسم لهم، ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء،
ويجز الصوف والشعر من الغنم ويفرقه على من يغزله، ثم يدفع إلى من ينسجه عبياً وأكسبة
وغرائر وجوالقات ويفتل منه حبال، ويسلم الجلد إلى الدباغ، فإذا خرج من الدباغ سلم إلى
خرازي القرب والروايا والمزاد، وما كان من الجلود يصلح نعالاً وخفافا عمل منه، ثم يجمع
ذلك كله في خزائن، فكان ذلك دابه لا يغفل عنه، ويوجه في كل مديدة بخيل إلى ناحية
البصرة، فتأخذ من وجدت فتصير بهم إليه فيستعيدهم، فزادت بلاده وعظمت هيبته في
صدور الناس.
قال الشريف أبو الحسين: وقد كان واقع بني ضبة عند طرده لهم عن قرب بلده، فأصاب
منهم وأصابوا منه، ولم يتباعدوا عنه بعيداً، فلما شخص مع العباس بن عمرو منهم
شخص - في وقت مسيرة لقتاله - ازداد بذلك حنقاً عليهم، فواقعهم وقائع مشهورة بالشدة
والعظم، ثم ظفر بهم فأخذ منهم خلقاً، وبنى لهم حبساً عظيماً وجمعهم فيه وسدد
عليهم، ومنعهم الطعام والشراب فصاحوا وضجوا فلم يغثهم، فمكنوا على ذلك شهراً ثم
فتح عليهم، فوجد الأكثر منهم موتى، ووجد نفراً يسيراً قد بقوا على حال الموتى، وقد
تغذوا بلحوم الموتى، فخصاهم وخلاهم فمات أكثرهم.
مقتل أبي سعيد الجنابي
كان مقتله في سنة إحدى وثلاثمائة بعد أن استولى على سائر بلاد البحرين، وكان سبب
مقتله أنه لما هزم جيش العباس بن عمرو كما تقدم واستولى على عسكره، أخذ من
عسكره خادماً له صقلبيا، فاستخدمه وجعله على طعامه وشرابه، فمكث كذلك مدة
طويلة لا يرى أبا سعيد فيها مصلياً لله عز وجل صلاة واحدة، ولا يصوم في شهر رمضان
ولا في غيره يوماً واحداً، فأضمر الخادم لذلك قتله، فدخل معه الحمام يوماً - وكان الحمام في
داره، فأخذ الخادم معه خنجراً ماضياً - ولم يكن معه في الحمام غيره، فلما تمكن منه
أضجعه فذبحه، ثم خرج فقال: السيد يستدعي فلاناً لبعض بني سنبر فأحضر فقال: ادخل
فدخل، فبادره فقبض عليه وذبحه، ولم يزل يستدعي من رؤساء القرامطة واحدأ واحداً
حتى قتل جماعة من رؤساء الوجوه، إلى أن استدعى بعضهم فنظر عند دخوله إلى باب
البيت الأول دماً جارياً، فاستراب بذلك وخرج مبادراً فلم يدركه الخادم وأعلم الناس،
وعدم الخادم إلى الباب فأغلقه وكان وثيقاً، فاجتمع الناس ونقبوا نقوباً إلى أن وصلوا إليه،
فأخذه ابنه سعيد فأمر بشده بالحبال، ثم قرض لحمه بالمقاريض حتى مات رحمه الله
تعالى.
وخلف أبو سعيد من الأولاد: أبا القاسم سعيداً، وأبا طاهر سليمان، وأبا منصور أحمد،
وأبا العباس إبراهيم، والعباس محمد، وأبا يعقوب يوسف، وكان أبو سعيد قد جمع رؤساء
دولته وبني زرقان، وكان أحدهم زوج ابنته، وبني سنبر، وكان متزوجاً إليهم، وهم أخوال
أولاده وبهم قامت دولته وقوى أمره، فأوصى إليهم إن حدث به موت أن يكون بأمرهم ابنه
سعيداً إلى أن يكبر أبو طاهر، وكان سعيد أكبر من أبي طاهر سناً، فإذا كبر أبو طاهر
كان المدبر لهم، فلما قتل جرى الأمر على ما وصاهم به، وكان قد أخبرهم أن الفتوح يكون
لأبي طاهر، فجلس سعيد يدبر الأمر بعد مقتل أبيه إلى سنة خمس وثلاثمائة، ثم سلم الأمر
لأخيه أبي طاهر، فدبره وعمل أشياء موه بها على عقول أصحابه فقبلوها وعظموا أمره،
وكان من أخباره ما نذكره إن شاء الله تعالى، وكانت مدة تغلب أبي سعيد على البحرين
وما والاها نحوا من ستة عشر سنة.

طارق شفيق حقي
11/01/2008, 04:44 PM
أخبار الصناديقي ببلاد اليمن
وفي سنة ست وثمانين ومائتين استولى أبو القاسم النجار المعروف بالصناديقي على اليمن،
وكان ابن أبي الفوارس داعي عبدان قد أنفذه داعياً إلى اليمن، وكان هذا الصناديقي من
موضع يعرف بالنرس، وكان يعمل فيه الثياب النرسية، وقيل إنه كان يعمل في الكتان، فلما
صار إلى اليمن أجابه رجل من الجند يعرف بابن الفضل، فقوى أمره على إقامة الدعوة
الخبيثة، فدخل فيها خلق كثير، فجعلهم من الإسلام، وأظهر العظائم، وقتل الأطفال وسبى
النساء، وتسمى برب العزة وكان يكاتب بذلك، وأظهر شتم النبي صلى الله عليه وسلم
وسائر الأنبياء، واتخذ داراً سماها دار الصفوة، وكان يأمر الناس بجمع نسائهم من أزواجهم
وبناتهم وأخوانهم، ويأمرهم بالاختلاط بهن ليلاً ووطئهن، ويحتفظ بمن تحبل منهن في تلك
الليلة وبمن تلد من بعد ذلك، ويتخذهم لنفسه خولا ويسميهم أولاد الصفوة، وعظمت فتنته
باليمن، وأجلى أكثر أهله عنه وأجلى السلطان، وقاتل القاسم بن أحمد بن يحيى بن
الحسين بن القاسم بن إبراهيم الحسنى الهادي وقلعه عن عمله بصعدة، وألجأه إلى أن هرب
عياله إلى الرس حذراً منه لقوته عليه، ثم إن الله عز وجل رزقه الظفر فهزمه، وكان ذلك
بلطف من ألطاف الله تبارك وتعالى، وهو أن ألقى على عسكره وقد بايته برداً وثلجاً، وقتل
أكثر أصحابه في ليلة واحدة، وقل ما يعرف مثل هذا من البرد والثلج في ذلك البلد، ولما
طغى قتله الله بالأكلة وأنزل بالبلدان التي غلب عليها بثرا قاتلاً، كان يخرج على كتف الرجل
منهم بثرة فيموت في سرعة، فسمى ذلك البثر حبة القرمطي، وأخرب الله تعالى أكثر تلك
البلاد التي ملكها، وأفنى أهلها بموت ذريع، واعتصم ابنه بعده بالجبال والقلاع، ولم يزل بها
مقيماً يكاتب أهل ملته، ويعنون كتبه، من ابن رب العزة، ثم أهلكه الله عز وجل وبقيت
منهم بقية، فاستأمنوا إلى القاسم بن أحمد الهادي، ولم يبق للنجار بقية ولا لمن كان على
مذهبه.
ولنرجع إلى أخبار زكرويه بن مهرويه وخبر من أرسله إلى الشام.
ظهور القرامطة بالشام
وما كان من أمرهم وحروبهم
قد قدمنا من أخبار زكرويه بن مهرويه واختفائه وحرص أصحاب عبدان على قتله، وأنه
لما طال عليه الأمر أرسل ابنه الحسن إلى الشام وذلك في سنة ثمان وثمانين ومائتين.
قال الشريف أبو الحسين محمد بن علي الحسيني رحمه الله: ولما أرسل زكرويه بن مهرويه
ابنه إلى الشام أرسل معه رجلاً من القرامطة من أهل نهر ملحانا، يقال له الحسن بن أحمد
ويكنى بأبي الحسين، وأمره أن يقصد بني كلب وينتسب لهم محمد بن إسماعيل بن جعفر،
ويدعوهم إلى الإمام من ولده، فاستجاب له فخد من بني العليص بن ضمضم بن عدي بن
جناب بن كلب بن وبرة ومواليهم وانضاف إليه طائفة من بني الأصبع من كلب، ويسمى
هؤلاء بالفاطميين وبايعوه، وكان الخبيث لما رجع إلى الطالقان يكتب إلى زكرويه يستأذنه في
القدوم عليه، فيجيب بالتوقف، فخرج نحو العراق، فلما وصل إلى السواد وجد زكرويه
مختفياً، فلم يزل حتى توصل إلى المكان الذي هو فيه، فلم يظهر له لوماً على قدومه وبعث
إليه بخبر من استجاب له بالشام، فقال: أنا أخرج حتى أظهر فيهم هناك، فوجه إليه نعم ما
رأيت، فضم إليه ابن أخته عيسى بن مهرويه، ويسمى بالمدثر لقباً وبعبد الله اسماً، وغلاماً
من بني مهرويه فتلقب بالمطوق وكان سياقاً، وأنفذهم إلى الشام، وكتب إلى ابنه الحسن
يعرفه أنه ابن الحجة، ويأمره له بالسمع والطاعة، فسار حتى نزل في بني كلب، فلقيه الحسن
بن زكرويه وسروا به، وجمع له الجمع وقال: هذا صاحب الإمام فامتثلوا أمره، وسروا به
وقالوا له: مرنا بأمرك وبما أحببت، فقال لهم: استعدوا للحرب فقد أظلكم النصر، ففعلوا
ذلك، واتصلت أخبارهم بشبل الديلمي مولى المعتضد، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائتين
فقصدهم فقتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه، وكانت الوقعة بالرصافة من غربي الفرات،
ودخلوا الرصافة واحرقوا مسجدها ونهبوها، وأصعدوا نحو الشام، واعترضوا الناس
بالقتل والتحريق ونهب القرى، إلى أن وردوا أطراف دمشق، وكان هارون بن خماروية بن
أحمد بن طولون رد أمر دمشق إلى طغج بن جف الفرغاني، فلقيتهم عساكره فانهزمت ولم
تثبت، وقتل كثير منهم وأخذوا منهم ما قدروا عليه.
قال: ولما هزم طغج نزل على دمشق وقاتل أهل البلد، وكان يحضر الحرب على ناقة ويقول
لأصحابه: لا تسيروا من مصافكم حتى تنبعث بين أيديكم، فإذا سارت فاحملوا فإنه لا ترد
لكم دابة إذ كانت مأمورة، فسمى بذلك صاحب الناقة، وحصر طغج بدمشق سبعة
أشهر، فكتب إلى طغج إلى مصر بخبر من قتل من أصحابه، وأنه محصور وقد فني أكثر
الناس وخرب البلد، فأنفذوا إليه بدراً الكبير غلام ابن طولون - وهو المعروف بالحمامي -
فسار حتى قرب من دمشق وخرج إليه طغج واجتمعوا على محاربة القرامطة، والتقوا
واقتتلوا بقرب دمشق، فأصاب رئيس القرامطة - ابن القداح - سهم فقتله، ويقال أصابه
الزراقون بمزراق فيه نفط فاحترق، وحمى أصحابه فقاتلوا عسكر بدر الحمامي وطغج حتى
انحازوا عنهم وانصرفت القرامطة وكان صاب الناقة هذا المقتول قد ضرب دنانير ودراهم،
وكتب على السكة على أحد الوجهين: قل جاء الحق وزهق الباطل، وعلى الوجه الآخر:
لا إله إلا الله، قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى. قال: فلما انصرفت القرامطة
عن دمشق بعد قتل الطاغية بايعوا:
الحسن بن زكرويه
بن مهرويه
فسمى نفسه أحمد وتكنى بأبي العباس وهو صاحب الشامة.
قال ابن الأثير: ولما بايعه القرامطة دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادي وغيرهم،
فاشتدت شوكته وأظهر شامة في وجهه، وزعم أنها آيته.
قال الشريف أبو الحسين وسياقه أتم: ولما بايعوه ثار حتى افتتح عدة مدن من الشام، وظهر
على جند حمص، وقتل خلقاً كثيراً من جند المصريين، وتسمى بأمير المؤمنين على المنابر
وفي كتبه، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائتين وبعض سنة تسعين ومائتين، ثم سار بمن معه
إلى نحو الرقة، فخرج إليهم مولى الخليفة المكتفي بالله وكان عليها، فواقعهم فهزموه، وقتلوه
واستباحوا عسكره ورجعوا يريدون دمشق، وجعلوا ينهبون جميع ما يمرون به القرى،
ويقتلون ويسبون ويخربون، فلما يسبون ويخربون، فلما قربوا من دمشق أخرج إليهم طغج
جيشاً كثيفاً أمر عليه غلامه بشيراً، فهزم القرامطة الجيش وقتل بشير في خلق من
أصحابه، فلما اتصل بالمكتفي قتل غلامه الذي كان على الرقة وخبر قتل بشير ندب أبا
الأعزب السلمي، وضم إليه عشرة آلاف من الجند والموالى والأعراب، وخلع عليه لثلاث
عشرة ليلة بقيت من سهر ربيع الآخر سنة تسعين ومائتين وأنفذه، فسار حتى نزل حلب ثم
خرج فنزل وادي بطنان، فتفرق الناس ودخل قوم منهم الماء يتبردون فيه وذلك في القيظ،
ووافاهم القرامطة يقدمهم المطوق، فكان كل إنسان يحذر على نفسه وينجوا بها، وركب أبو
الأعز فرسه وصاح بالناس، فسار إليهم جماعة لقي بها أوائل القوم، فلم يلبث إلا اليسير
حتى انهزم، وركبت القرامطة أكتاف الناس يقتلون وينهبون حتى حجز الليل بينهم، وقد
أتوا على عامة العسكر وسلم منهم قليل، ولحق أبو الأعز في جمعية معه بحلب، ثم تلاحق
به قوم حتى حصل في نحو ألف رجل، ووافت القرامطة فنازلوا أهل حلب فحاربهم أبو
الأعز، فلم يقدروا منه على شيء فانصرفوا، وجمع الحسين بن زكرويه أصحابه، وكانت قد
اتصل به خلق كثير من اللصوص ومن بني كلب، فسار حتى نزل أطراف حمص فخطب له
على منابرها، ثم نهض إليها فأعطاه أهلها الطاعة، وفتحوا له البلد فدخلها، ثم سار إلى
حماة ومعرة النعمان وغيرهما فقتل الرجل والنساء والأطفال، ثم رجع إلى بعلبك فقتل عامة
أهلها، ثم صار إلى سلمية فحاربه أهلها وامتنعوا منه، فأعطاهم الأمان ففتحوا له، فبدأ
بمن كان فيها من بني هاشم، وكان بها جماعة كثيرة، فقتلهم أجمعين، ثم كر على أهلها
فأفناهم أجمعين وخرّبها، وخرج عنها وما بها عين تطرف، وكان مع ذلك لا يمر بقرية فيدع
فيها أحداً، حتى أخرب البلاد وسبى الذراري وقتل الأنفس من المسلمين وغيرهم، ولم يقم
له أحد.
وقال الشريف: ووردت كتب التجار وسائر الناس من دمشق وغيرها بصورة الأمر وغلظه،
وأن طغج قد فنيت رجاله وبقي في عدة يسيرة، وأن القرمطة تقصد دمشق في أوقات فلا
يقاتلهم إلا العامة وقد أشرف الناس على الهلكة وكثر الضجيج بمدينة السلام، واجتمعت
العامة إلى يوسف بن يعقوب القاضي وسألوه إنهاء أخبار الناس إلى الخليفة، فوعدهم
بذلك، ووردت كتب المصريين على المكتفى بالله يعرفونه ما قتل من عسكرهم الذي خرج
إلى الشام، وأن القرمطة أفنتهم وأنهم قد أخربوا الشام، فأمر المكتفى الجيش بالاستعداد
وإخراج المضارب إلى باب الشماسية، وخرج إلى مضربة في القواد والجند، ورحل لإثنتي
عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة تسعين ومائتين، وسلك طريق الموصل ومضى نحو
الرقة بالجيوش حتى نزلها وانبثت جيوشه من حلب وحمص، وقلد محمد بن سليمان حرب
الحسين بن زكرويه، واختار له جيشاً كثيفاً، وكان محمد بن سليمان صاحب ديوان العطاء
وعارض الجيش، فسار نحو القرامطة بجيشه.
حربهم مع محمد بن سليمان
وانهزام القرامطة والظفر بالحسن بن زكرويه صاحب الشام وأصحابه وقتلهم
قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: ولما دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين كتب
القاسم بن عبيد الله وهو وزير المكتفى بالله إلى محمد بن سليمان الكاتب يأمره بمناهضة
القرامطة، فسار إليهم والتقى الجمعان يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم من هذه السنة،
بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلاً، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى حجز الليل بينهم، وقتل
عامة رجالهم، وورد كتاب محمد بن سليمان الكاتب إلى القاسم بن عبيد الله الوزير، يخبره
بكيفية المصاف والقتال ومن كان في الميمنة والميسرة والقلب والجناحين من قواد عسكره،
وأن القرامطة اجتععوا ستة كراديس، وأن ميسرتهم كان فيها ألف وخمسمائة فارس،
وكمنوا خلفها ألف فارس وأربعمائة فارس، وفي ميمنتهم ألف فارس وأربعمائة فارس وكمنوا
خلفها مائتي فارس، وذكر كيف كانت حملاتهم وقتالهم، وكيف كانت هزيمتهم، في كلام
مطول تركناه اختصارا لطوله، إلا أن ملخصه أن القرامطة قتلوا قتلاً ذريعاً، وذكر أن
الكردوس الذي كان في ميسرة القرامطة قصده الحسين بن حمدان، وكان في جناح ميمنة
عسكر الخليفة، واقتتلوا أشد قتال حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف فصرع من
القرامطة ستمائة في أول دفعة، وأخذ أصحاب الحسين منهم خمسمائة فرس وأربعمائة طوق
فضة، وأن القرامطة ولوا مدبرين فاتبعهم الحسين بن حمدان، فرجعوا عليه فلم يزل يحمل
حمله بعد حمله - وهم من خلال ذلك يصرعون منهم الجماعة بعد الجماعة - حتى أفناهم
الله تعالى، فلم يفلت منهم إلا أقل من مائتي رجل. قال: وحمل الكردوس الذي كان في
ميمنتهم على القاسم بن سهل ويمن الخادم، فاستقبلوهم بالرماح فكسروها في صدورهم
وعانق بعضهم بعضاً، فقتلوا من الكفرة جماعة كبيرة. قال: وأخذ بنو شيبان منهم ثلاثمائة
فرس ومائة طوق فضة، وأخذ أصحاب خليفة بن المبارك منهم مثل ذلك، وذكر في كتابه أنه
حمل هو عليهم في القلب، فما زال أصحابه يقتلون القرامطة - فرسانهم ورجالتهم - أكثر
من خمسة أميال، وذكر في كتابه أن الحسن بن زكرويه لم يشهد هذا المصاف وأنه يشخص
إليه إلى سلمية. قال الشريف رحمه الله: وكان الحسن ابن زكرويه - لما أحس بقرب
الجيوش - عرض أصحابه، وأخرج الأقوياء منهم عن الضعفة والسواد، وأنفذ الجيش
وتخلف هو في السواد والضعفة، فلما انهزم أصحابه ارتاع لذلك ورحل لوقته وسار خوفاً
من الطلب، وتلاحق به من أفلت من أصحابه، فخاطبهم بأنهم أتوا من قبل أنفسهم وذنوبهم
وأنهم لم يصدقوا الله، وحرضهم على المعاودة إلى الحرب فلم يجبه منهم أحد إلى ذلك،
واعتلوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم، فلما أيس منهم قال لهم: قد كاتبني خلق من أهل
بغداد بالبيعة لي، ودعاتي بها ينتظرون أمري، وقد خلت من السلطان الآن، وأنا شاخص
نحوها لأظهر بها، ومستخلف عليكم أنا الحسين القاسم بن أحمد صاحبي، وكتبي ترد عليه
بما يعمل به فاسمعوا له وأطيعوا أمره فضمنوا له ذلك، وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت
مهرويه المسمى بالمدثر وصاحبه المطوق وغلام له رومي، وأخذ دليلاً يرشدهم إلى الطريق
وساروا يريدون سواد الكوفة، وسلك البر وتجنب المدن والقرى، حتى صار قريباً من
الدالية نفذ زاده، فأمر الدليل فمال بهم إليها، ونزل بالقرب منها خلف رابية، ووجه بعض
من كان معه لابتياع ما يصلحه، فلما دخلها أنكر زيه بعض أهلها وساء له عن أمره فورى
وتلجلج، فاستراب به وقبض عليه وأتى به وإليها، وكان يعرف بأبي خبزة يخلف أحمد بن
كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات، وقال: والدالية قرية من عمل الفرات، قال: فسأله أبو
خبزة عن خبره ورهب عليه، فعرفه أن القرمطى الذي خرج أمير المؤمنين المكتفي بالله في
طلبه، خاف رابية أشار إليها، فسار أبو خبزة إلى ذلك الموضع ومعه جماعة بالسلاح حتى
أشرف عليهم، فأخذهم وشدهم وثاقاً وتوجه بهم إلى صاحبه ابن كشمرد، فسار بهم إلى
المكتفي وهو يومئذ بالرقة، فأمر أن يشهروا بها ففعل بهم ذلك، وألبس الحسن بن زكروية
دراعة ديباج وبرنس من حرير وهو على بختي، والمدثر والمطوق على جملين عليهما دراعتا
ديباج وبرانس حرير، وهم بين يديه، وذلك في يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم سنة إحدى
وتسعين ومائتين.
قال: وقدم محمد بن سليمان الكاتب الرقة والجيوش معه، بعد أن تتبعوا ما بقي من
القرامطة فأسروا وقتلوا، فخلف المكتفى بالله عساكره مع محمد بن سليمان بالرقة،
وشخص في خاصته وغلمانه وتبعه وزيره القاسم بن عبيد الله إلى بغداد، وحمل القرمطي
وأصحابه معه ومن أسر في الوقعة، وذلك في أول يوم من صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين،
فلما صار إلى بغداد عمل له دميانه غلام يا زمان كرسيا سمكه ذراعان ونصف، وأركبه
على فيل وركبه عليه ودخل المكتفى بالله وهو بين يديه مع أصحابه الأسرى، عليهم دراريع
الديباج والبرانس والمطوق في وسط الأسرى على جمل، وهو غلام حدث قد جعل في فيه
خشبة مخروطة قد شدت إلى قفاه كاللجام، وذلك أنهم في وقت دخولهم الرقة أكثر الناس
الدعاء عليهم، فكان هو يشتم الناس الذين يدعون عليهم ويبصق عليهم، وكان دخولهم
كذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول من هذه السنة.
قال: فلما وصل المكتفي إلى داره حبسهم ووكل بهم، ووصل محمد بن سليمان بعد ذلك
على طريق الفرات في الجيش، وقد تلقط بقايا القرامطة من كل وجه، فنزل بباب الأنبار في
ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من السنة، فأمر المكتفي
وأصحاب القواد وأصحاب الشرط بتلقيه والدخول معه، فدخل محمد بن سليمان في زي
حسن ومعه بين يديه نيف وسبعون أسيراً، وخلع الخليفة علي بن سليمان وطوقه بطوق من
ذهب، وسوره بسوار من ذهب، وخلع علي جميع القواد وطوقوا وسوروا، وحبس
الأسرى وكان المكتفي بالله وقت دخوله أمر أن تبنى له دكة في المصلى العتيق من الجانب
الشرقي، مربعة ذرعها عشرون ذراعاً في مثلها وارتفاعها عشرة أذرع يصعد إليها بدرج،
فلما كان يوم الاثنين لأربع بقين من الشهر ربيع الأول أمر المكتفي القواد وجميع الغلمان
وصاحب جيشه وصاحب شرطته أن يحضروا هذه الدكة، فحضروها وصعد الوجوه
ووقف الباقون على دوابهم، وخرج التجار والعامة للنظر وحملوا الأسرى كلهم مع خلق
كثير منهم كانوا بالكوفة وحملوا إلى بغداد وغيرهم ممن حمل ممن كان على مذهبهم، فأحضر
جميعهم على الجمال وقتلوا جميعاً وعدتهم ثلاث مائة وستون وقيل ثلاثمائة ونيف وعشرون،
وقدم الحسن بن زكرويه عيسى ابن أخت مهرويه، وهما زميلان، على بغل في عمارية، وقد
أرسل عليهما أغشية، فأصعدا إلى الدكة وأقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنساناً من الأسرى
من وجوه القرامطة، ممن عرف بالنكاية والعداوة للإسلام والكلب على سفك الدماء
واستباحة النساء وقتل الأطفال، وكان كل واحد منهم يبطح على وجهه فتقطع يده اليمنى
ويرمى بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يده اليسرى، ثم رجله
اليمنى ويرمى بها إلى أسفل ثم تضرب عنقه ويرمى به إلى أسفل، فلما فرغ منهم قدم المدثر
ففعل به مثل ذلك ثم كوى ليعذب ثم ضربت عنقه، ثم قدم الحسن بن زكرويه فضرب مائتي
سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى وضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة، وحملت
الرؤوس فصلبت على الجسر، وصلب بدن الحسن فمكث مصلوباً نحو من سنة، ثم سقط
عليه حائط، ودفنت أجساد الأسرى عند الدكة، وهدمت بعد أيام.
قال الشريف: ومن كتب اللعين الحسن بن زكروية إلى بعض عماله:
"بسم الله الرحمن الرحيم"، ومن عبد الله المهدي المنصور الناصر لدين الله، القائم بأمر
الله، الداعي إلى كتاب الله، الذاب عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين
وإمام المسلمين، ومذل المنافقين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك
المفسدين، وسراج المنتصرين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنة المرسلين، وولد خير الوصيين
صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين وسلم - كتاب إلى جعفر بن حميد الكردي، سلام
عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد جدي رسول؛
أما بعد: فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك
من الظلم والعبث والفساد في الأرض فأعظمنا ذلك، ورأينا أن ننفذ إلى هناك من جيوشنا
من ينتقم الله به، من أعدائنا الظالمين الذين يسعون في الأرض فساداً فأنفذنا جماعة من
المؤمنين إلى مدينة حمص ونحن في أثرهم، وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك، لطلب
أعداء الله كانوا ونحن نرجو أن يجزينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم،
فينبغي أن يكون قلبك وقلوب ممن اتبعك من أوليائنا، وتثق بالله وبصره الذي لم يزل يعودنا
في كل من مرق من الطاعة وانحرف عن الأيمان، وتبادر إلينا بأخبار الناحية وما يحدث
فيها، ولا تخف عنا شيئاً من أمرها.
سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله
على جدي رسوله وعلى أهل بيته وسلم كثيراً.
وكان عماله يكاتبونه بمثل هذا الصدر، قال ابن الأثير: وكان قد نجا من أعيان القرامطة
رجل من بني العليص يسمى إسماعيل ابن النعمان في جماعة معه، فكاتبه المكتفى بالله
وبذل له الأمان، فحضر في نيف وستين نفساً، فأحسن الخليفة إليهم وسيرهم إلى رحبة
مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، فأقاموا معه مدة وعزموا على إنشاء فتنة بالرحبة،
وكان قد انضم إليهم جماعة كثيرة، فشعر بهم القاسم فقتلهم فارتدع من كان قد بقي من
موالي بني العليص، وذلوا ولزموا السماوة حتى جاءهم كتاب من زكرويه بن مهرويه، يذكر
لهم أن مما أوحى إليه أن صاحب الشامة وأخاه يقتلان، وأن إمامه، الذي هو حي، يظهر
بعدهما ويظفر.
خبر قتل زكروية
بن مهرويه محمد بن عبد الله إلى الشام وما كان من أمره إلى أن قتل
كان الحسن بن زكرويه قد خلف القاسم بن أحمد المكني بأبي الحسين خليفة على من
بسلمية من أصحابه كما قدمنا، فقدم سواد الكوفة إلى زكرويه فأخبره بخبر القوم، الذين
استخلفه عليهم ابنه الحسن أنهم اضطربوا عليه، وأنه خافهم وتركهم وانصرف، فلامه
زكرويه على قدومه لوماً كثيراً، وقال له: ألا كاتبتني قبل انصرافك إلي، ووجده على ما به
تحت خوف شديد من طلب السلطان من وجه وطلب أصحاب عبدان الذي كان قد
تسبب في قتله من وجه آخر ثم إن زكرويه أعرض عن القاسم وأنفذ رجلاً من أصحابه،
وكان يعلم الصبيان بالزابوقة يقال له محمد بن عبد الله بن سعيد المكني أبا غانم في سنة
ثلاث وتسعين ومائتين فتسمى نصراً، وأمه أن يتوجه إلى أحياء كلب ويدعوهم، فدار أحياء
كلب ودعاهم فلم يقبله إلا رجل من بني زياد يعرف بمقدام بن الكيال، ثم استجاب له
طوائف من الأصبعيين الذين يعرفون بالفواطم، وقوم من بني العليص وصعاليك من بني
كلب، فسار بهم نحو الشام، وعامل المكتفى بالله يومئذ على دمشق والأردن أحمد بن
كيغلغ، وهم بنواحي مصر على حرب إبراهيم الخليجي، وكان قد خالف كما قدمنا ذكر
ذلك، فاغتم محمد بن عبد الله بن سعيد غيبته فصار إلى مدينتي بصرى وأذرعات فحارب
أهلها ثم أمنهم فلما استسلموا قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأخذ جميع أموالهم، وسار نحو
دمشق فخرج إليه صالح بن الفضل خليفة ابن كيغلغ فيمن معه، فأثخنوا فيهم وظفروا
عليهم ثم غروهم ببذل الأمان، فقتلوا صالحاً وعسكره وقصدوا دخول دمشق فدفعهم
عنها أهلها فانصرفوا إلى طبرية، ولحق بهم جماعة من الجند ممن سلم بدمشق، فواقعهم
يوسف بن إبراهيم، عامل ابن كيغلغ على الأردن، فهزموه، وبذلوا له الأمان ثم غدروا به
فقتلوه ونهبوا طبرية وقتلوا وسبوا النساء، فأنفذ المكتفي الحسين بن حمدان في طلبهم مع
وجوه من القواد، فدخل دمشق وهم بطبرية، فلما علموا بذلك عطفوا نحو السماوة،
وأتبعهم الحسين بن حمدان في البرية، فأقبلوا ينتقلون من ماء إلى ماء يغورون ما يرتحلون عنه
من الماء ، فلم يزالوا على ذلك حتى وردوا الماء ين المعروفين بالدمعانة والحالة، فانقطع عنهم
لعدم الماء فمال نحو رحبة مالك بن طوق، وأسرى عدو الله حتى وافى هيت غارون وذلك
لتسع بقين من شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين، طلوع الشمس، فنهب ربض هيت
والسفن التي في الفرات وقتل نحو مائتي إنسان، وأقام هناك يومين والقوم متحصنون، ثم رحل
بما أخذه وبمائتي كرحنطة إلى نحو الماء ين وبقية أصحابه هناك، فلما اتصل الخبر بالمكتفى
أرسل إلى هيت محمد بن إسحاق بن كنداجيق ومعه جماعة من القواد في جيش كثيف،
فوجدهم أتبعه بمؤنس الخادم، فنهض محمد بن إسحاق نحوهم فوجدهم قد غاروا المياه،
فأنفذ إليه من بغداد بالروايا والقرب والمزاد، وكتب إلى الحسين بن حمدان بالنفوذ إليهم من
الرحبة، فلما أحسوا بذلك إئتمروا بصاحبهم نصر، فوثب عليه رجل من أصحابه يقال له
الذيب بن القائم فقتله، وشخص إلى بغداد متقرباً بذلك ومستأمناً، فأسنيت له الجائزة وكف
عن طلب قومه بقتل محمد هذا، فمكث أياماً ببغداد وهرب، ثم إن طلائع محمد بن
كنداجيق ظفرت برأس محمد المقتول هذا، فحمل إلى بغداد.
قال: ثم إن قوماً من بني كلاب أنكروا ما فعله الذيب من قتل محمد، ورضيه آخرون
فتحزبوا أحزاباً، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى بينهم ثم افترقوا، فصارت الفرقة
التي رضيت قتله إلى ناحية عين التمر، وتخلف من كره قتله على الماء الذي كانوا ينزلون
عليه، واتصل الخبر بكروية بن مهرويه فرد القاسم إليهم.
إرسال زكرويه بن مهرويه القاسم بن أحمد ودخوله الكوفة وما كان من أمره
قال: ولما اتصل الخبر بزكرويه كان القاسم بن أحمد عنده، فرده إليهم لمعرفتهم به، ورد
عليهم جمعهم ووعظهم، وقال: أنا رسول وليكم وهو غائب عليكم فيما أقدم عليه الذيب
بن القائم، وأنكم قد ارتدتم عن الدين، فاعتذروا وحلفوا ما كان ذلك بمحبتهم، وذكروا ما
جرى بينهم وبين أهلهم من الخلف والقتل والبعد بهذا السبب، فقال لهم: قد جئتكم الآن
بما لم يأتكم به أحد تقدمني، وليكم يقول لكم: قد حضر أمركم وقرب ظهوركم، وقد بايع له
من أهل الكوفة أربعون ألفا ومن أهل سوداها أكثر، وموعدكم اليوم الذي ذكره الله، يوم
الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فأجمعوا أمركم وسيرو إلى الكوفة، فإنه لا دافع لكم عنها،
ومنجز وعدي الذي جاءتكم به رسلي، قسروا بذلك سروراً كثيراً وارتحلوا نحو الكوفة،
فلما وردوا إلى القطقطانة، وهي قرية خراب في البر، بينها وبين الكوفة ستة وثلاثون ميلاً،
وذلك يوم الأربعاء قبل يوم عرفة بيوم من سنة ثلاث وتسعين ومائتين، خلفوا بها الخدم
والأموال أمرهم أن يلحقوا به عن الرحبة ستة أميال لها ألف وسيلة ثم شاور الوجوه من
أصحابه في أي وقت يأتي الكوفة؟ فقال قائل ليلاً فلا يتحرك أحد إلا قتلناه، ويخرج إلينا
وإليها في قلة فنأخذه ونقتله، وقال آخر: نمهل أن ندخلها عشاء في يوم العيد، والجند
سكارى والبلد خال، فنقصد باب إسحاق وهو غافل فنأخذه ونقف على بابه، فلا يأتينا
أحد إلا قتلناه، فإنهم لا يأتونا إلا نفر بعد نفر، وكانت شحنة الكوفة يومئذ سبعة آلاف
رجل، إلا أن المقيم بالكوفة يومئذ أربعة آلاف من الدميانية والمصريين وغيرهم، والناس فيها
أحياء والبلد على غاية الاجتماع والحسن وكثرة الناسٍ، وقال آخرون: نسير ليلتنا ثم نكمن
في النجف في شعابه فنزيح الخيل والإبل وننام، ونركب عمود الصبح فنشنها غارة على أهل
المصلى، وقد نزل الجند للصلاة وركب غلمانهم الدواب، ونضع السيف وجل أهل البلد
هناك، فقال اللعين: هذا هو الرأي، فركبوا وساروا حتى حصلوا في بعض المواضع فناموا،
فلم يوقظهم إلا مس الشمس يوم العيد، لطفاً من الله تعالى بالناس، قال: وقد كان أحد ما
شغلهم أنهم اجتازوا بقوم من اليهود يدفنون ميتاً لهم بالنخيلة، فشغلهم قتلهم فلم يصلوا إلى
الكوفة إلا وقد صلى إسحاق بن عمران بالناس العيد، وانصرف والناس متبددون في ظاهر
الكوفة ومنهم من قد انصرف، ولإسحاق بن عمران طلائع تتفقد، وكان ذلك لأمور قد
أرجف الناس بها في البلد، من فتن تحدث من غير جهة القرامطة، وقيل كانت عدتهم
ثمانمائة فارس وأربعمائة راجل: وهم يقاتلون على طمع وشبهة، فأقبلوا يقدمهم هذا المكنى
بأبي الحسين. قال: وكان أحد الألطاف أن إسحاق بن عمران قد أحدث مصلى بالقرب
من طرف البلد فصلى فيه، وكان الرجوع منه إلى البلد سهلاً، فقصدت القرامطة المصلى
العتيق، على ما كانوا يقدرون من اجتماع الناس فيه، فلم يصادف فيه أحد، فأقبلت خيل
منهم من تلك الجهة، فدخلوا الكوفة من يمينها، فوضعوا السيف حتى وصلوا إلى حبسها
ففتحوه وقتلوا كثيراً من الناس وأخرجوا خلقاً، فارتجت الكوفة وخرج الناس بالسلاح،
وتكاثر الناس على من دخل الكوفة من القرامطة، فقذفوهم بالحجارة فقتل منهم جماعة،
وأقبل جل القوم نحو الخندق فقتلوا ناساً، وناوشهم طوائف من الجند تخلفوا بالصحراء
وبعض ما كان أنفذ إسحاق بن عمران طليعة، فقتلوا بعضهم وأفلت إلى البلد، وكان
إسحاق بن عمران قد انصرف في أحسن زي وأجمله، فلما صار قرب داره تفرق الجيش
عنه إلا خواصاً، كان قد عمل لهم سماطاً في داره، فلما سار في بعض الطريق لحقه فارس
من بني أسد على فرس له بلقاء، قد طعنت في عنقها ودمها سائل ودمها على كتفها إلى
الحافر، فشق الجند وزاحم غلمانه وجاوز إسحاق بن عمران، ثم قلب رأس فرسه إليه
فوقف له، فقال: جاءتنا أيها الأمير خيل من الأعراب، فقتلت وسلبت وخرجت إلى
الصحراء، فلما رددناهم طعنت فرسي، فقلب إسحاق بن عمران فرسه راجعاً، وأمر
بإخراج الجند نحو الخندق، وبين يدي إسحاق بن عمران نحو من ستين راجلاً، ومعه غلمانه
ونفر يسير من الجند، حتى صار عند قصر عيسى بن موسى ومعه أبو عيسى صالح بن
علي بن يحيى الهاشمي يسايره فالتفت إليه، وقال: خذ هؤلاء الرجالة وامض إلى قنطرة بني
عبد الوهاب - وهي إحدى قناطر الخندق - فاكشفها، فأخذهم ومضى، وتقدم إلى عبد
الله الحسين بن عمر العلوي أن يدور في البلد ويسكن الناس، فدار وعليه السواد فسكن
الناس، وخرج كثير من الناس بالسلاح، وتفرق من دخل الكوفة من القرامطة لما رماهم
أهلها، وقتل بعض القصابين رجلاً منهم بساطور، وكان فيمن تفرق منهم رجل من كلب
يعرف بالمقلقل، وهو أحد رجالهم وشجعانهم في جمع معه، فأفضى به الطريق إلى دار
عيسى بن علي، فلقيهم أحد الفرسان من الجند يعرف بالورداني، قد ركب لما سمع
الصيحة، فلم يشك أنهم من الجند لما رأى من كثرة الجواشن عليهم والدروع، فقال لهم:
سيروا يا أصحابنا، فأمسكوا عنه حتى توسطهم ثم عطفوا عليه بالسيوف فقتلوه،
وأخذوا دابته وساروا نحو الخندق للقاء أصحابهم، فلما صاروا بالصحراء من الكوفة نظر
إليهم أبو عيسى، فلم يشك أنهم من أصحاب السلطان، ثم نظر إليهم وقد لقوا جماعة من
العامة، فأقبلوا يسبلونهم، فتبين أمرهم فحمل عليهم فعدلوا عن سلب أولئك، وحمل
فارسهم المقلقل - وكان رجلاً عظيماً جسيماً - وفي يده سيف عريض، فالتقى هو وأبو
عيسى فطعنه أبو عيسى تحت ثندوته فصرعه، فحذفه المقلقل بالسيف فأصاب جحفله
فرسه فعقره، وأمر أبو عيسى بعض الرجالة فاختز رأسه ووجه به إلى إسحاق بن عمران،
وقد رفع رأسه، فكان ذلك أحد ما كسرهم؛ قال: واجتمعت الخيل والرجالة فقاتلهم
إسحاق بمن معه - وليسوا بالكثيرين - قتالاً شديداً، في يوم صائف شديد الحر طويل إلى
الزوال، وخرج الناس من العامة فانصرف القرامطة مكدودين فنزلوا العدير على ميلين من
الكوفة وارتحلوا عشياً نحو سوادهم، واجتازوا بالقادسية، وقد وصل إليهم رسول إسحاق
بن عمران، فحذرهم أمرهم يعني حذر أهل القادسية، وعرف يومئذ صبر إسحاق ابن
عمران على حملاتهم وتشجيعه لأصحابه.
قال: وأخرج إسحاق بن عمران مضاربة بظاهر الكوفة، وخرج إليه أصحابه فعسكر،
وبات الناس بالكوفة على غاية الجزع والتحارس ونصب الحجارة على الأسطحة؛ قال: ولم
وصلت القرامطة إلى عين الرحبة وكانوا قد خلفوا سوادهم هناك، فرحلوا ثم وساروا بهم
فنزلوا عيناً بسرة العذيب تعرف بعين عبد الله، ثم رحلوا فنزلوا قرية تعرف بالصوان على
نهر هد من سواد الكوفة، ثم مضى أبو الحين إلى قرية تعرف بالدرنة على نهر زياد من
سواد الكوفة، فخرج إليه بها زكرويه وكان من أمره ما نذكره.
زكرويه بن مهرويه وقتاله
عساكر الخليفة وأخذه الحاج وما كان من أمره إلى أن قتل
كان ظهور زكرويه بن مهرويه في سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وذلك أنه لما وصل القاسم بن
أحمد إلى الدرنة خرج زكرويه إليه منها وكان بها مستتراً كما ذكرنا فيما تقدم، فقال القاسم
للعسكر: هذا صاحبكم وسيدكم ووليكم الذي تنتظرونه، فترجلوا بأجمعهم وألصقوا
خدودهم بالأرض، وضرب لزكرويه مضرب عظيم وطافوا به وسروا سروراً عظيماً،
واجتمع إليه أهل دعوته من أهل السواد فعظم جيشه جداً، وكان إسحاق بن عمران قد
كتب إلى العباس بن الحسن وزير المكتفى - يخبره خبر القرامطة ومهاجمتهم على الكوفة
وما كان من خبرهم، وأثنى على من عنده من الجند وذكر حسن بلائهم، فلما وصل إليه
الكتاب قلق له، وشاور بعض أصحابه في لقاء الخليفة المكتفى بالله بذلك، فأشار عليه
بتعجيله بذلك، فقال الوزير: كيف ألقاه بهذا مع ما يحتاج إليه من الأموال ولعهدي به، وقد
ناظرني منذ يومين في دينار واحد، ذكر أنه فضل بقية نفقة رفعت إليه، فقال له صاحبه: أيها
الوزير إن أسعفك وإلا ففي خدمك وأسبابك فضل فوظفها علينا، وتنفق فيها، فقال:
فرجت، والله - عني، ثم لبس ثيابه وأتى إلى المكتفي بالله فدخل عليه في غير وقت
الدخول فعرفه الخبر، فقال له المكتفى: كأنك يا عباس قد قلت: كيف أخبر أمير المؤمنين
بمثل هذا وقد ناظرني في دينار فضل نفقة! فقال: قد كان ذاك يا أمير المؤمنين، قال: إنما
جرى ذلك لمثل هذا، فلا تبخل بمال في مثل هذا، وأباحه الأموال والإنفاق في الرجال ليلاً
ونهاراً، فأنفذ الوزير جنى الصعفراني ومباركاً القمى وتحرير العمري ورائقاً وطائفة من
الغلمان الحجرية وجماعة من القواد في جيش عظيم، فوصل أوائلهم في اليوم السادس من يوم
النحر، فركب إليهم إسحاق بن عمران وذكر لهم قوة من لقي من القرامطة، وأنه قد
مارسهم، وحذرهم أن يغيروا بهم، وقال لهم: سيروا إلى القادسية فإن بينكم وبينها
مرحلة، وإذا صرتم بها فأريحوا واستريحوا وتجمعوا، ثم سيروا إليهم وطاولوهم ونازلوهم
فإن الظفر برجي بذلك فيهم عندي، ولا ترموا بأنفسكم عليهم صبر غير أنكال، فقال له
بشر الأفشيني: إن رأيناهم كفيناك القول يا أبا يعقوب، إنما نخشى أن يهربوا، فدعا لهم
بالنصر ورحلوا نحو القادسية، فتابوا بها ليلة ورحلوا في آخرها إلى الصوان، وبين الموضعين
نحو العشرة أميال، ورحلوا بالأثقال والفهود والبزاة وهم على غير تعبئة مستخففين بهم،
فأسرعوا السير ووصلوا وقد تعب ظهرهم وقل نشاطهم وقد عمد القرامطة فضربوا بيوتهم
إلى جانب جرف عظيم لنهر هناك وأثقالهم مما يلي البيوت، والرجالة في أيديهم السيوف،
وقتالهم من وجه واحد صفا واحداً قدام البيوت بقدر نصف غلوة، والفرسان جلوس
خلف الرجالة، فلما تراءى الفريقان ركب الفرسان وافترقوا فصاروا جناحين للرجالة،
وحملوا على الناس فصدقوهم الحملة فانكفأوا راجعين، وتلاقى الرجالة من الفريقين، فأتت
رجالة العسكر على رجالة القرامطة وألجأوهم إلى البيوت، وأقبلت الفرسان فنظروا إلى
الرجالة ينهبون بيوتهم، فترحلوا وحملوا خيلهم الأمتعة، وكانت القرامطة في مجنبات الناس
لما رأوا من صدق القتال، فلما رأوا الناس قد حملوا الدواب والجمازات وتشاغلوا حملوا
على الجمازات والبغال بالرماح، فأقبلت لا يردها شيء عن الناس تخطبهم، فانهزم الناس
ووضع السيف فيهم، وقتل الأكثر وتبع الأقل نحو القادسية وفيهم مبارك القمى، فأقاموا ثلاثاً
يجمعون السلب والأسرى، وجمع زكرويه الآلة والمتاع والأثاث والجمازات، فقبل إنه أخذ
ثلاثمائة جمل وخمسمائة بغل مما كان للسلطان سوى ما أخذ للقواد، وقيل إنه قتل ألفاً
وخمسمائة رجل، فقوى أصحابه جداً، ودخل الكوفة فلول الجيش عراة.
ورحل زكرويه يريد الحاج وبعث دعاته إلى السواد، فلم يلحق به فيما قيل إلا النساء
والصبيان، قال: ولما وقف الخليفة على صورة الأمر عظم عليه وعلى الناس وخافوا على
الحجاج، فانفذ المكتفى بالله محمد بن إسحاق بن كنداج لحفظ الحاج وطلب زكرويه، وضم
إليه خلقاً عظيماً وجماعة من القواد ونحو ألفي رجل من بني شيبان واليمن وغيرهم، وكان
زكرويه قد نزل على عين الزبيدية، ثم نزل على أربعة أميال من واقصة، فوافت القافلة لست
أو سبع خلت من المحرم من سنة أربع وتسعين ومائتين، فأنذرهم أهل المنزل بالقرامطة فلم
ينزلوا وطووا، فنجاهم الله عز وجل، وكان معهم من أصحاب السلطان الحسن بن موسى
وسما الإبراهيمي، فلما وافى زكرويه واقصة تعرف الخبر فعرف أنهم قد حذروهم، فقتل
جماعة من أهل المنزل ونهب وأحرق الحشيش وتحصن الباقون منه، ورحل فلقيه
الخراسانية من الحجاج على الأرض البسيطة التي تخرج منها حجارة النار، يوم الأحد
لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم، وليس معهم أحد من أصحاب السلطان، فرشقوا
القرامطة بالنشاب وقد أحاطوا بهم فانحازوا عنهم، ثم تقدم إلى الحاج جماعة منهم
فسألوهم: هل فيكم سلطان، فأنا لا نريدكم؟ فقالوا لهم: لا، إنما نحن قوم حجاج، فقال لهم
زكرويه: امضوا، فرحلوا وأملهم حتى ساروا ثم قصدهم، يبعج الجمال بالرماح حتى كسر
بعضها بعضا واختلطت، ووضع السيف فقتل خلقاً عظيماً واستولى على الأموال.
وقدم محمد بن إسحاق بن كنداج الكوفة ثم رحل إلى القادسية فلما وقف على خبر
مسيرهم نحو راقصة أنفذ علان بن كشمرد في خيل جريدة، حتى لقي فل الخراسانية
فأشاروا عليه أن يلحق الحاج فإن القافلة الثانية تنزل العقبة الليلة أو من غد، فحث حتى
تسبق إليها فتجتمع أنت ومن فيها على قتال الكفرة، الله الله في الناس أدركهم، فرحل
راجعاً نحو القادسية وقال: لا أغرر برجال السلطان للقتل، فلقي بعد ذلك من المكتفي
شراً؛ وورد زكرويه العقبة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم وفي القافلة مبارك
القمى وأحمد ابن نصر الديلمي وأحمد بن علي الهمذاني، وقد كانت كتب المكتفي اتصلت
إلى أمراء القافلة الثانية والثالثة مع رسله، يأمرهم أن يتجنبوا الطريق ويرجعوا إلى المدينة،
ويأخذوا على طريق البصرة أو غيرها فلم يفعلوا ذلك، ولما التقوا قتالاً شديداً فكانت الغلبة
لأصحاب السلطان حتى لم يشكوا في ذلك، ثم خرج اللعين زكرويه إلى آخر القافلة وقد رأى
خللاً هناك، فعمل في الجمال كما عمل في جمال الخراسانية، وقتل سائر الناس إلا يسيراً
استبعدهم أو شريداً، ثم أنفذ خيلاً فلحقت من أفلت من أوائل القوم حتى ردوهم إليه،
فقتلهم وأخذ النساء وجميع ما في القافلة، وقتل مباركاً القمى ومظفراً ابنه وأسر أبا
العشائر، فقطع يديه ورجليه وضرب عنقه، وأطلق من النساء ما لا حاجة له فيها، ووقع
بعض الجرحى بين القتلى حتى تخلصوا ليلاً، ومات كثير من الناس جوعاً وعطشاً، وورد
من قدم من الناس يخبرون أن نساء القرامطة كن يطفن بين القتلى فيقلن: عزيز علينا، من يرد
ماء نسقيه، فإن كلمهن جريح مطروح أجهزن عليه، قال: ويقال إن جميع القتلى كانوا نحوا
من عشرين ألفاً، وأخذ من الأموال ما لا يحصى كثرة.
قال: ولما اتصل خبر القافلتين بمدينة السلام جاء الناس من ذلك ما شغلهم، وتقدم السلطان
بإخراج المال وإزاحة العلل، وأخرج العباس بن الحسن ومحمد بن داود الجراح الكاتب
المتولي دواوين الخراج والضياع بالمسير إلى الكوفة لإنقاذ الجيش منها، وحمل معه أموالاً
عظيمة، وقال: كلما قرب نفاذ ما معك كاتبني لأمدك بالأموال، وخرج إليها يوم الثلاثاء
لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم، وقدم خزانة سلاح جعلها بالكوفة فما زالت بقاياها
هناك إلى أن أخذها الهجري. قال: ثم رحل زكرويه يريد القافلة الثالثة فلم يدع ماء في
طريقه إلا طرح فيه جيف الموتى، ونزل زبالة فقتل من بها من التجار، ونهب الحصن وبث
الطلائع خوفاً من لحوق عسكر السلطان به، فلما أبطأت القافلة عليه فنزل الشقوق ثم نزل في
رمل يقال له الهبير والطليح، وأقام ينتظر القافلة وفيها من القواد نفيس المولدي، وعلى ساقتها
صالح الأسود ومعه الشمسة، وكان المعتضد جعل فيها جواهر نفيساً ومعه الخرانة، وكان
في القافلة من الوجوه إبراهيم بن أبي الأشعث، ومعه كاتبه المنذر بن إبراهيم وميمون ابن
إبراهيم الكاتب وكان إليه ديوان الخراج، والفرات بن أحمد ابن محمد بن الفرات، والحسن
بن إسماعيل قرابة العباس بن الحسن، وعلي بن العباس النهيكي وغيرهم من الرؤساء،
وخلق من مياسير التجار وفيها من المتاجر والرقيق ما يخرج عن الوصف، وفيها جماعة
من الأشراف منهم أبو عبد الله أحمد بن موسى بن جعفر وجماعة من أهله، فأصاب
بعضهم جراحات وأسر بقيتهم، فعرفهم بعض المولدين من وجوه عسكره فأخبره بهم،
فخلى لأبي عبد الله أحمد بن موسى وأهله الطريق، ومكنهم من جمال تحملوا عليها، وكان
أحمد بن موسى أحد من دخل بغداد وخبر السلطان بأمرهم وجلالة حالهم؛ وأقاموا بفيد
وقد اتصل بهم أنهم ينتظرون مدداً من السلطان ففعل ابن كشمرد ما فعل من رجوعه إلى
القادسية ولم ينجدهم، فلما طال مقامهم نفذ ما في المنزل وغلا السعر جداً، وجلوا عن
الأجفر والخزيمية ثم الثعلبية ثم الهبير، فلم يستتم نزولهم حتى ناهضهم زكرويه فقاتلهم يومهم
كله، ثم باتوا على السواء، ثم باكرهم فقاتلهم فبينما هم كذلك إذ أقبلت قافلة العمرة،
وكان المتمرون يتخلفون للعمرة بعد خروج الحاج إذ دخل المحرم، وينفردون قافلة واحدة
وانقطع ذلك من تلك السنة، فاجتمع الناس وقاتلوهم يومهم، ونفذ الماء وعطشوا ولا ماء
لهم هناك، وباتوا وزكرويه مستظهر عليهم، ثم عاودهم القتال حتى ملك القافلة، فقتل الناس
وأخذ ما فيها من حريم ومال وغير ذلك، وأفلت ناس قليل قتل الناس وأخذ ما فيها من
حريم ومال وغير ذلك، وأفلت ناس قليل قتل أكثرهم العطش، ثم سار مصعداً نحو فيد
فتحصن منه أهلها، فطاولهم فصبروا عليه ونزل منهم ثمانية عشر رجلاً بالحبال من رأس
الحصن، فقاتلوا رجالتهم قتالاً شديداً وقد أسندوا ظهورهم بسور الحصن، ورمى أهل
الحصن بالحجارة؛ قال: سمعت داود بن عتاب الفيدي - وكان نبيلاً صدوقاً - قال: نزلنا
إليهم نحو أربعين رجلاً متزرين بالسراويلات، وقد كان لحقهم - لا أدري - عطش قال أو
جوع، قال: فطردناهم فمالوا إلى حصن يقرب منا، وقد كان بيننا وبين أهله عداوة قديمة،
أخذوا منهم الأمان ونزلوا ليفتحوا لهم، فقال بعضنا لبعض: إن ظفروا به أخذوا منه ما
يحتاجون إليه، وعادوا إليكم، قال: فطرحنا أنفسنا عليهم وأحس بذلك أهل الحصن
فقويت قلوبهم، وخرجوا فكشفناهم، وتبعهم جماعة منا فسلبوا منهم جمالاً، وكان ذلك
سبب صلاحنا مع أصحاب الحصن.
قال الشريف: ولم يبق دار بالكوفة وبغداد والعراق إلا وفيها مصيبة وعبرة سابلة وضجيج
وعويل، حتى قيل إن المكتفي اعتزل النساء هماً وغماً، قال: وخفي أمر زكرويه، لا يعلم أين
توجه، وقد كان أخذ ناحية مطلع الشمس، فتقدم المكتفي يتتبع أحواله وإشجان البلدان -
التي يخاف مصيره إليها - بالرجال، وأنفذ وصيف ابن صوارتكين ولجيم بن الهضيم
والقاسم بن سيما في جيش عظيم بالميرة والزاد والمال والجمال، لاستقبال الناس وإزاحة
عللهم، وتقدم يطلب زكرويه حيث كان، إلى أن وردت كتب أهل فيد بخبره، فكوتب عند
ذلك إسحاق بن كنداج بأن يلزم القادسية ونواحي الكوفة بجيشه، وكوتب لجيم بالمسير إلى
خفان ومعارضة زكرويه حيث كان، وأن ينفذ الطلائع والأعراب ويرغبوا في تتبع حاله حتى
يعرف، فجاءت الأخبار بما غلب على ظنهم، أنه لم يخط ناحية البصرة وأنه يقصد
الاجتماع مع أبي سعيد الجنابي وهو المقدم ذكره، فاجتمع القواد وتشاوروا واستقبلوا طريقاً
يقال له الطريق الشامي، ويقال له طريق الطف وهو بين الكوفة والبصرة، وعملوا على المقام
هناك ليكونوا بين الكوفة وواسط والبصرة، فساروا مستدبري القبلة مستقبلي البصرة
يرتجلون من ماء إلى آخر، حتى نزلوا يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع
وتسعين ومائتين ركباً فيه ماء بقرية خراب يقال لها صماخ، كان يسكنها على قديم الدهر
قوم من ربيعة يقال لهم بنو عنزة، وبين هذا الموضع وبين البصرة ثلاثة أيام، فلقيهم قوم من
الأعراب فخبروهم أن القرامطة بالثنى، وهو موضع من ذي قار الذي كانت فيه وقعة العرب
مع العجم في أيام كسرى، وهو واد كثير الماء العذب وبينه وبين صماغ عشرة أميال، فبات
الجيش بصماغ وتراءت الطلائع في عشي يومئذ، ورحل زكرويه من غد وهو طامع بالظفر،
فالتقوا بقرية خراب يقال لها إرم، بينها وبين الثنى ثلاثة أميال، وذلك يوم الأحد لسبع بقين من
شهر ربيع الأول، فاقتتلوا قتالاً شديداً صبر فيه الفريقان جميعاً، ثم انهزم كروية فقتل الجيش
أكثر من معه، وأسر خلق كثير منهم وأفلت صعاليك من العرب على الخيل مجردين،
ووصل إلى زكروية - وهو في القبة - في أوائل السواد، فظنوا أنه في الخيل التي انهزمت،
فقذف رجل بنار فوقعت في قبته فخرج من ظهرها فألقى نفسه من مؤخرها، ولحقه بعض
الرجالة - وهو لا يعرفه - فضربه على رأسه ضربة أثخنته فسقط إلى الأرض فأدركه
صاحب للجيم كله يعرفه فأخذه وصار به إليه، فأخذه لجيم وأركب الذي جاءه به نجيباً
فارهاً، وقال له: طر - إن أمكنك - حتى تأتي بغداد، وعرف العباس بن الحسن الوزير
أنك رسولي إليه، واشرح له ما شاهدت وسلم إليه الخاتم، فسار حتى دخل بغداد وأعلمه
بالخبر.
قال: ومضى لجيم إلى وصيف والقاسم بن سيما فعرفهما خبر زكروية واجتمعوا جميعاً
وكتبوا كتاب الفتح، ونهب الجيش عسكر القرامطة وأخذوا زوج زكروية واسمها مؤمنة
وأخذ خليفته وجماعة من خاصته وأقربائه وكاتبه، وانصرف العسكر نحو الكوفة فمات
زكروية بخفان من جراحات أصابته، صبر وكفن وحمل على جمل إلى بغداد، وأدخلت
جئته وزوجته وحرم أصحابه وأولادهم والأسرى ورؤوس من قتل بين يديه وخلفه نساؤه
من الجوالقات.
قال ابن الأثير: وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم أصحاب الحسين بن
حمدان فقتلوا عن آخرهم، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكروية يعرف أحدهما
بالحداد والآخر بالمنتقم وهو أخو امرأة زكروية، كانا قد توجها إليهم يدعوانهم إلى الخروج
إلى صاحبهم، فسيروهما إلى بغداد، وتتبع الخليفة القرامطة بالعراق فقتل بعضهم وحبس
بعضهم، وبادت هذه الطائفة منهم بالعراق مدة.
أخبار من ظهر من القرامطة بعد مقتل زكرويه بن مهرويه
قال الشريف أبو الحسين: ولما قتل زكروية سكن أمر القرامطة وانقطعت حركاتهم وذكر
دعوتهم، فلما دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين خرج رجل من السواد من الزط يعرف
بأبي حاتم، فقصد أصحاب البوراني خاصة، وكان هذا البوراني داعياً وأصحابه يعرفون
بالبورانية، فلما ظهر أبو حاتم حرم عليهم الثوم والكراث والفجل، وحرم عليهم إراقة الدم
من جميع الحيوان، وأمرهم بأشياء لا يقبلها إلا الأحمق السخيف من ترك الشرائع، وهذه
الطائفة من القرامطة تعرف بالبقلية.
وأقام أبو حاتم هذا نحو سنة ثم زال، ثم اختلفوا بعده وكانوا أهل قرى بسواد الكوفة،
فقالت طائفة منهم زكرويه بن مهرويه حي، وإنما شبه على الناس به، وقالت فرقة منهم
الحجة لله محمد ابن إسماعيل.
ثم خرج رجل من بني عجل قرمطي يقال له:
محمد بن قطبة
فاجتمع له نحو من مائة رجل، فمضى بهم إلى نحو الجامدة من واسط، فنهب وأفسد
فخرج إليهم أمير الناحية فقتلهم وأسرهم.
سليمان بن الحسن
بن بهرام الجنابي
قد قدمنا أخبار أبيه أبي سعيد وحروبه وما استولى عليه، وذكرنا خبر مقتله وولاية ابنه
سعيد، وأنه سلم الأمر إلى أخيه أبي طاهر سليمان، هذا في سنة خمس وثلاثمائة، وقد
قيل بل عجز سعيد عن الأمر فغلبه عليه أخوه أبو طاهر سليمان. قال: وكان شهماً
شجاعاً، وكان الخليفة المقتدر بالله قد كتب إلى أبي سعيد كتابا لينا في معنى من عنده من
أسرى المسلمين، وناظره وأقام الدليل على فساد مذهبه، فلما وصلت الرسل إلى البصرة
بلغهم موته، فكتبوا بذلك إلى الخليفة فأمرهم بالمسير إلى ابنه، فأتوا أبا طاهر بالكتاب
فأكرم الرسل وأطلق الأسرى وأجاب عن الكتاب، ثم تحرك أبو طاهر بعد ذلك في سنة
عشر وثلاثمائة، وعمل على أخذ البصرة فعمل سلاليم عراضاً، يصعد على كل مرقاة اثنان
بزرافين - إذا احتيج إلى نصبها وتخلع إذا أريد حملها، ورحل بهذه السلالم المزرقنة يريد
البصرة فلما قرب منها أمهل إلى أن جن الليل، وأمر بإخراج الأسنة وقد كانت وضعت في
رمل كيلا تصدأ فركبت على الرماح، وفرق الجنن على أصحابه، وحشيت الغرائز بالرمل
وحملت على الجمال وحملت أشياء من حديد قد أعدت لما يحتاج إليه، ثم سار بأصحابه
إلى السور قبل الفجر، فوضعوا السلالم وصعد عليها قوم من جلداء أصحابه، وتقدم إليهم
من يتكلم من الموكلين بالأبواب، ودفع للآخرين ما أعده لكسر الأقفال، وقد كان التواني وقع
في أرزاق الموكلين على الأبواب، فتفرقوا للمعاش إلا بقية من المشايخ القدماء فإن أرزاقهم
كانت جارية عليهم، فصادفوا بعضهم هناك تلك الليلة فتسوروا ونزلوا ووضعوا السيف
عليهم، وجاء الآخرون فكسروا الأقفال ودخل القرامطة، فأول ما عملوا أن طرحوا الرمل
المحمول معهم في الأبواب نحو ذراع، ليمنعوا غلقها إلا بتعب، وساروا ونذل بهم قوم فبادروا
سبكاً المفلحي وهو يومئذ الأمير فأعلموه، فركب وقد طلع الفجر ومعه بعض غلمانه فتلقوه
وقتلوه، وفزع الناس وركبت الخيل فقتل من تسرع منهم، وكانت العامة قد منعها السلطان
أن تحمل سلاحاً، فاجتمعوا بغير سلاح ومعهم الآجر، وحضر سبك واجتمعت الجند
ووقعت الحرب، فأصابت القرامطة جراحات والقتل في العامة كثير، واستمر ذلك إلى آخر
النهار واختلاط الظلام، ثم خرج القرامطة وقد قتلوا من الناس مقتلة عظيمة إلى خارج
البلد فباتوا خارج الدرب، وخرج الناس بعيالاتهم فركبوا السفن، وباكر أبو طاهر البلد
فنزل دار عبد السلام الهاشمي، وتفرق أصحابه في البلد يقتلون من وجدوا وينهبون ما
يجدون في المنازل، ويحمل ذلك إلى موضع قد أمر بجمعه فيه.
وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل: أن دخولهم البصرة كان في شهر ربيع الآخر سنة
إحدى عشرة وثلاثمائة، وأنه وصل إليها في ألف وسبعمائة رجل، وأقام بها سبعة عشر يوماً
يحمل منها ما يقدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان، وعاد إلى بلده.
قال الشريف: وتراجع الناس فاشتغلوا بدفن من قتل، ولم يرد كثير منهم حريمه خوفاً من
عود القرامطة، قال: ولما اتصل خبر هذه الحادثة بالسلطان أنفذ ابن نفيس في عدة وعدة
فسكن الناس، وولى البلد فشحن السور بالرجالة، وتحرز الناس وأعدوا السلاح؛ قال:
وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان قد قلد أعمال الكوفة وقصر ابن هبيرة والسواد
وطريق مكة، فجرى بينه وبين البوراني وقائع عظيمة حتى ردهم عن عمله بشجاعته
وإقدامه، فعمرت البلاد وأمن الناس وصلحت الطرق واستقام عز السلطان، فوقف القرمطي
من ذلك على ما هاله، وكانت جواسيس أبي طاهر لا تنقطع عن العراق في صور مختلفة،
واتصل به أن أبا الهيجاء يهون أمره ويتمنى أن ينتدب لحربه، فخاف ذلك ولم يأمنه.
أخذ أبي طاهر الحاج
وأسره ابن حمدان وما كان من أمره في إطلاقه
كانت هذه الحادثة في سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة، وذلك أن أبا طاهر بن أبي سعيد الجنابي
القرمطي أنفذ رجلاً من جواسيسه إلى مكة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقد خرجت
قوافل الحاج مع أبي الهيجاء بن حمدان في تلك السنة، فكان الجاسوس يقوم على المحجة
فيقول: يا معشر الناس ادعوا على القرمطي عدو الله وعدو الإسلام، ويسأل عن أمير الحاج
وفي كم هو وكم أرزقهم، ويسأل عمن خرج من التجار وما معهم من الأموال، فكان ذلك
دأبه حتى قضى الحج، ثم خرج في أول النفر فأسرع إلى سواد باهلة، ثم إلى اليمامة وصار
إلى الأحساء في أيام يسيرة، فأخبر سليمان القرمطي بصورة الأمر، فوجه سليمان من يثل
الآبار بينه وبين لبنه وبعض آبار لبنه ويسوى حياضها، وورد بعض الأعراب إلى أبي
الهيجاء - وهو بعيد ينتظر رجوع الحاج وذلك في آخر ذي الحجة من السنة - فأخبره أن
آبار لبنه قد ثلت فاستراب بذلك، وجاء بعض الأعراب بجلة فيها قطعة من تمر هجر فتيقن
أمر القرامطة، فشغل ذلك قلبه، وجاءه ما لم يقدره ولا ظنه فاضطرب من ذلك اضطراباً
شديداً، وورد حاتم الخراساني بقافلة الحاج من مكة ثاني ذلك اليوم، ومعه قافلة عظيمة،
فزاد ذلك في شغل قلب لأبي الهيجاء لخوفه عليه، ولم يظهر ذلك لحاتم ولا لغيره ثم ارتحل فلم
يعترض عليه، فلما صار حاتم بالثعلبية أنهى إليه شيء من أخبار القرامطة وأنهم بلبنه،
وكان القرمطي رحل من بلده في ستمائة فارس وألف راجل، وسار حاتم فاجتاز بالهبير ليلاً
فلم ينزله، وسار حتى نزل الشقوق، وأغذ السير وسلمه الله ومن معه، ونزلت بفيد قافلة
أخرى من غد رحيل حاتم من الخراسانية، ثم ساروا عنها حتى إذا كانوا بالهبير ظهر لهم
أبو طاهر سليمان القرمطي، فقتل بعضهم وأفلت البعض حتى وردوا الكوفة، فاشتد خوف
الناس بالكوفة على الحاج واضطربوا، إلا أن نفوسهم قوية بمقام أبي الهيجاء بفيد، وكان أبو
الهيجاء قد أنفذ رجلاً طائياً يعرف له أخبار القرامطة، يقال له مسبع بن العيدروس من بني
سنبس - وكان خبيراً بالبر، وتقدم إليه أن يسرع إليه بالخبر ويعدل عن الطريق، ومعه
جماعة قد أزاح عللهم في الرزق والمحمل، فساروا حتى قربوا من لبنه فنزل إليهم فارسان،
فركبوا خيولهم وتلقوهما فتطاردوا، وقصرا في الركض وهبطا وادياً خلفهما وخرجا منه،
ولحقتهم الخيل فساروا على أرض جدب، فدفع عليهم نحو سبعين فارساً، فلم ينته حتى
طعنت فيهم وضربت، فرجع القوم على خيل مطرودة وخيول القرامطة مستريحة، فبالغوا في
دفعهم بكل جهد فلم تك إلا ساعة حتى قتلوا جميعاً، وأسروا مسبعاً دليل القوم فحملوه
إلى لبنه، فسأله القرمطي وقال: إن صدقتني أطلقتك، فلما أخبره أمر بحفظه، قال: ولم يمض
لأبي الهيجاء يومان بعد إرسال الطليعة حتى وردت قوافل الحاج وأصحاب السلطان معها،
وفيها من الوجوه أحمد بن بدر، عم السيدة أم المقتدر بالله، وشفيع الخادم، وفلفل الأسود
صاحب خزانة السلطان، وإسحاق بن عبد الملك الهاشمي صاحب الموسم وغيرهم،
فأعلمهم أبو الهيجاء الخبر فأجالوا الرأي، فقال لهم: قد أنفذت رجالاً أثق بهم طليعة،
وأخذت عليهم ألا يرجعوا حتى يشربوا من لبنه والصواب التوقف عن الرحيل لننظر ما
يأتون به، فعملوا على ذلك وأقاموا بفيد ستة أيام، ونزلت القافلة الوسطى فيد وكثر الناس
وغلت الأسعار، ولم يقدروا على حشيش للعلف ولا خبز، فضج الناس وأجمعوا على
الرحيل فرحلوا عن فيد يوم الأحد، وخلف أبو الهيجاء ابن أخيه علي بن الحسين بن
حمدان بفيد، في خيل ينتظرون الحاج الذي مع قافلة الشمسة؛ قال: وكان الحاج قبل ذلك
يسيرون قافلة بعد قافلة لكثرتهم، ومن أراد أن يسير بعد الحاج سار، ومن أراد أن يتخلف
ليعتمر في الحرم تخلف، وكان الأمر يحملهم على ذلك فيسيرون قافلة بعد قافلة؛ قال: ثم
وردت قافلة الشمسة فيد، فجاءهم بعض التجار بخبر ما اتصل بأبي الهيجاء، وكان في
القافلة أبو عيسى صالح ابن علي الهاشمي، وجماعة من العباسيين، وأبو محمد بن الحسن
ابن الحسين العلوي وعمر بن يحيى العلوي وغيرهما من الطالبيين وتجار الكوفة، فتجلت
حقيقة الأخبار من أمر القرامطة، فاجتمعوا في مضرب أبو عيسى وتشاوروا، فاجتمع رأيهم
على المقام بفيد إلى أن ترتحل القافلة، ثم ينظروا لأنفسهم في عرب يخرجون معهم إلى
الكوفة، فأقام الناس بفيد يومهم ثم رحلوا بكرة، فلما جاوزوا المنزل افتقد على ابن الحسين
بن حمدان من تخلف من القافلة، فسأل عنهم فأخبر بتخلفهم فرجع إلى فيد ومعه بعض
أصحابه فاجتمع بهم، وسألهم عن تخلفهم فقالوا بأجمعهم لا تحب سلوك هذه الطرق،
ودافعوا عن الأخبار بسبب تخلفهم، وقالوا له: أنت وعمك بريان منا، قال: اكتبوا إلى
خطوطكم بذلك، ففعلوا، وانصرف فسار بالناس فلما وصل إلى عمه أبي الهيجاء عرفه
ذلك، فلامه عليه وقال: وددت أن جميع من ترى كان معهم، قال: ولما سارت القافلة مع
علي بن الحسين بن حمدان أحضر هؤلاء الذين تخلفوا بفيد ابن نزار وابن توبة تاجرين من
أهلها، فعرفوهم حاجتهم إلى من يسلك بهم إلى الكوفة على غير طريق الحاج، فجمعوا لهم
جماعة من سنبس وتوصلوا بهم إلى بني زبيد من الطائيين، ثم أخذوا ينزلون على العرب
يقاتلون من قاتلهم، ويصلون من استرفدهم ويبرون ويخلعون، فسلمهم الله حتى وردوا
الكوفة، وذلك بعد شدائد عظيمة وقتال في مواضع، ولم يسلم من الحاج غيرهم والقافلة
الأولى التي كانت مع حاتم.
قال: ولما وصل علي بن الحسين بن حمدان إلى عمه أبي الهيجاء اجتمعت القوافل، وكثر
الناس، وتجلى لهم خبر القرامطة وصح، فسار أبو الهيجاء بالناس إلى الخزيمية ثم إلى
الثعلبية، ثم ساروا يريدون البطان، واجتمع الناس من أصحاب السلطان والرؤساء
فتشاوروا، فلم يدع الأمير أبو الهيجاء الاستعاثة بالقوم يقول: ارجعوا ودعوني ألقي القرامطة
في أصحابي، فإن أصبت فمعكم من تسيرون معه، وإلا فامضوا إلى وادي القرى أو المدينة
أو غير ذلك، وإن ظفرت وجهت إليكم فعدتم وقد زال المحذور ، ولم يزل يردد عليهم هذا
القول من الأجفر إلى الثعلبية، فمنهم من أجاب ومنهم من أبى ذلك وقال: لا نفترق، وكان
أحمد بن بدر عم السيدة ممن أبى ذلك وصمم على الملازمة، فعمل ابن حمدان بما أرادوه
دون رأيه، وبات الناس على أميال بقيت من البطان والأحمال على ظهور الجمال، وذلك ليلة
الأحد لأيام خلت من صفر، فلما أضاء لهم الفجر ارتحلوا، وقدم أبو الهيجاء ستمائة راجل
من الأولياء، كان السلطان أبعدهم لكثرة شغبهم ببغداد فكانوا بين يدي القوافل، وقارب بين
القطر ودخل بعض الناس في بعض، وتقدم نزار بن محمد الضبي فكان في أول القافلة في
أصحابه خلف الرجالة، وسار أبو الهيجاء في التغالبة والعجم في ميمنة القافلة، وألزم الساقة
وميسرة القافلة جماعة من الأولياء مع بعض الأمراء، واحتاط بكل ما أمكن، وسار فلما
أضحى النهار أقبلت عليهم خيل القرامطة، والقافلة في نهاية العظم جداً، فكان أول من
لقيهم رجالة أبي الهيجاء، فحملت القرامطة عليهم فخالطوهم فقتلوا جميعاً إلا نحواً من
عشرين رجلاً، وحمل نزار في جيشه فضارب بعض خيل القرامطة بالسيوف ساعة، فلحقته
ضربة فهوى إلى الأرض واعتنق فرسه، ومضى نحو المشرق وتبعه بقية أصحابه، فاستقاموا
حتى وصلوا إلى زبالة وساروا إلى الكوفة، فلما سمع الأمير أبو الهيجاء الصوت وعرف
الخبر وكان في آخر القافلة أسرع في خيله نحو أول القافلة، فوجد الأمر قد فاته بقتل من كان
أمامها، وقويت القرامطة على حربه ووجد الحاج قد أخذوا يمنة ويسرة، فحمل على
القرامطة فاستقبلوه فقتل جماعة من أهل بيته صبروا معه، وانهزم وضرب على رأسه ضربة
لم تضره إلا أنه قد نزف منها، وأخذ أسيراً ونزل أبو طاهر القرمطي على غلوتين من القافلة،
ورجالته نحو من ستمائة على المطى فأنفذهم وفرساناً من فرسانه فأحاطوا بالقافلة، ومنعوا
الناس من الهرب، وكان قد هرب خلق منهم في وقت القتال، فتلف كثير منهم في الطريق
عطشاً وأخذ بعضهم الأعراب فسلبوهم، وسلم قوم منهم إلى زبالة وساروا إلى الكوفة،
وأتى بأبي الهيجاء إلى سليمان فلما نظر إليه تضاحك، وقال: قد جئناك عبد الله ولم
نكلفك قصدنا، فتلطف له أبو الهيجاء بفضل عقله ودهائه وسعة حيلته وقوة نفسه، وألان
له القول حتى أنس به، فاستأمنه على نفسه فأمنه فخلص بذلك ناساً كثيراً، وعمل في
سلامة كثير من الحاج عملاً كثيراً، ثم أمر القرمطي بتمييز الحاج وإخراجهم من القوافل،
وعزل الجمالين والصناع ناحية فظنوا أنه إنما أخرجهم للقتل فارتاعوا لذلك، وكانوا قد
عطشوا عطشاً شديداً، فلما جنهم الليل ضجر الموكلون منهم، فأخذوا ما معهم وخلوهم،
فورد من ورد منهم الكوفة بشر حال متورمي الأقدام في صور الموتى، ورحل أبو طاهر من
الغد بعد أن أخذ من أبي الهيجاء وحده نحوا من عشرين ألف دينار من الأموال التي لا
تحصى كثرة، وقدم كثير من الناس بخبر أبي الهيجاء، وأنه راكب مع القرامطة يدور معهم
ويسأل في خلاص أسري كانوا معه، منهم أحمد بن بدر عم السيدة وفلفل الأسود وأحمد بن
كشمرد وتحرير الخادم صاحب الشمسة وبدر الطائي وأخوه وغيرهم.
قال: وزادت غلبة أبي طاهر لأصحابه فتنة، وعظموا أمره وسلب عقولهم حتى قالوا فيه
أقوالاً مختلفة بحسب جهلهم، قال: ولما مضى لأبي الهيجاء شهور وهو عندهم أخذ يحتال
في الخلاص، فمرة يعرض به ومرة يفصح به حتى أنس القرمطي بذلك وأجابه إليه، فسأله في
ابن كشمرد وقال: هو ضعيف لكبره وعلته، وهذا الخادم الأسود ممن لا يضر السلطان فقده
ولا ينفعه إطلاقه، وكلمه في أحمد بن بدر فامتنع عليه، فضمن له عشرين ألف دينار وبزاة
وفهوداً وعبداناً وثيابا، فاستحلفه وضمنه، وتخلص منه ناس كثير من الحاج، وأطلقه،
وصار إلى بغداد فتباشر الناس بذلك وابتهجوا به.
دخول أبي طاهر الكوفة
والعراق ورجوعه
كان أبو طاهر قد كتب إلى الخليفة المقتدر بالله - بعد إطلاق أبي الهيجاء بن حمدان -
يطلب منه البصرة والأهواز، فلم يجبه إلى ذلك، فسار من هجر في سنة ثنتى عشرة
وثلاثمائة يريد الحاج عند توجههم إلى الحجاز، وكان جعفر بن ورقاء الشيباني يتقلد أعمال
الكوفة وطريق مكة، فسار مع الحاج خوفاً عليهم من أبي طاهر، ومعه ألف رجل من بني
شيبان، وسار مع الحجاج من أصحاب السلطان ثمل صاحب البحر وغيره في ستة آلاف
رجل، فلقي أبو طاهر الجيش فانهزموا منه، وردت القافلة الأولى هم وعسكر الخليفة بعد
أن انحدروا من العقبة، وتبعهم أبو طاهر إلى باب الكوفة وبها يومئذ جنى الصفواني، كان
الخليفة قد أنفذه في جيش عظيم إلى الكوفة، وبها أيضاً ثمل في جيش عظيم، وأقبل أبو
طاهر حتى نزل بظاهر الكوفة في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي العقدة، وأقبل
جنى إلى خندق الكوفة في عشية هذا اليوم، وأهل البلد والعامة منتشرون على الخندق،
وجعفر بن ورقاء في بني شيبان نازل على القنطرة التي على الخندق مما يلي دور بني العباس،
ونمل على القنطرة التي تليها، وجنى مما يلي ذلك من ناحية يمنة الكوفة، فناوشه الناس،
وخرج أبو محمد الحسن بن يحيى بن عمر العلوي فطارد بعض فرسانه، وانكفأ أبو طاهر
راجعاً، وبات الناس على تلك الحال وقد قوى الطمع فيه، فلما كان الليل ورد كتاب
السلطان يخاطب أبا محمد بن ورقاء في تدبير الجيش، فعمل على لقاء جنى الخادم ليعرفه
ذلك، فأشير عليه ألا يفعل فأبى ذلك، ثم ركب يعرف جنياً ما كتب به إليه، فأنف جنى أن
يكون تابعاً وأسر ذلك في نفسه، وباكرهم القرمطي بالقتال بعد أن أضحى النهار، فدخلت
الرجالة وراء الفرسان بجيش خرس عن الكلام صمت وحركات خفية، والبارقة فيهم
ظاهرة في ضوء الشمس، وهم يزفون عسكرهم زفاً، حتى إذا وصلوا إلى عسكر السلطان
مالوا على جيش ابن ورقاء وهو في مسيرة الناس، فما تمهل بنو شيبان حتى انهزموا
راجعين، فعبروا القنطرة التي على الخندق إلى جانب الكوفة وتبعوهم، فصاروا من وراء
جنى وثمل فوضعوا السيف في الناس، وجنى جالس قبل ذلك على كرسي حديد يبين أنه
لا يقاتل وكأنه يريد قتاله بعد الناس فأسروه، وقاتله ثمل وقاومه وهو منهزم على محاملة
ومدافعة، إلى أن تخلص وسلم جعفر بن ورقاء وكثير من أصحابه، وقتل كثير من العامة
وغيرهم في الطرقات، ووصل أبو طاهر إلى البلد فرفع السيف ونهب منازل الناس، وأقام
بالكوفة ستة أيام بظاهرها يدخل البلد نهارا ويقيم بجامعها إلى الليل، ثم يخرج فيبيت
بعسكره، وحمل منها ما قدر على حمله، ودخل المنهزمون بغداد ولم يحجوا في هذه السنة،
وخاف أهل بغداد وانتقل الناس إلى الجانب الشرقي.
قال: ورحل أبو طاهر عن الكوفة في يوم الاثنين لعشر بقين من ذي العقدة وقتل يوم دخوله
أبو موسى العباسي صاحب صلاة الكوفة ورحل مؤنس المظفر من بغداد بجيش السلطان
عند اتصال الأخبار ببغداد، فسار منهم حتى دخل الكوفة، فكان وصوله إليها بعد رحيل
القرامطة عنها، فأقام بها ثلاثة أيام ثم رحل عنها، ثم عاد القرمطي في سنة خمس عشرة.

طارق شفيق حقي
11/01/2008, 04:45 PM
دخول أبي طاهر القرمطي إلى العراق

وقتل يوسف بن أبي الساج

قال:و في سنة خمس عشرة وثلاثمائة سار أبو طاهر من هجر إلى الكوفة، وكان المقتدر

بالله قد استعمل يوسف بن أبي الساج على حرب القرامطة، فاستصعب ابن أبي الساج

المسير إلى بلد القرامطة، ثقل مسيره في أرض قفر لكثرة من معه من العساكر، فاحتال على

أبي طاهر وكتب إليه وأطمعه في بغداد، وأظهر له الموطأة والتزم بمعاضدته فغزه بذلك،

حتى رحل بعيال وحشم واتباع وصبية، وجيشه على أقوى عدة تمكنه، وأقبل يريد

الكوفة وعميت أخباره عن أهلها، إنما هي أراجيف، ورحل يوسف بن أبي الساج بجيشه

من واسط يريد الكوفة، فسبقه أبو طاهر إليها ودخلها في يوم الخميس لسبع خلون من

شوال من هذه السنة، وأخذ ما يحتاج إليه ونزل عسكره خارج الكوفة ما بين الحيرة إلى

نهاية الخورنق، وأقبلت جيوش ابن أبي الساج تسيل من كل وجه على غير تعبئة، وأقبل هو

في جيشه ورجاله حتى نزل في غربي الفرات، وعقد عليه جسراً محاذياً لأبي طاهر، وعبر

إليه مستهيناً بأمره مستحقراً له لا يرى أنه يقوم به، وذلك في يوم الجمعة، فأرسل إلى أبي

طاهر يدعوه إلى طاعة الخليفة المقتدر بالله أو الحرب في يوم الأحد، فقال: لا طاعة إلا لله

والحرب غداً، فلما كان في يوم السبت لتسع خلون من شوال سنة خمس عشرة التقوا

واقتتلوا قتالاً شديداً عامة النهار، وكثير من عسكر ابن أبي الساج لم يستتم نزوله، وهو

جيش يضيق عنه موضعه ولا يملك تدبيره، وقد تفرق عنه عسكره تفرقاً منتشراً في فراسخ

كثيرة، وركبوا من نهب القرى وأذى الناس وإظهار الفجور ما تمنى كثير من الناس

هلاكهم. قال الشريف أبو الحسين: ولما لقيه بظهر الكوفة ما بين الحيرة والخورنق والنهرين من

الفرات اتفق له تلول وأنهار وموضع يضيق عن جيشه ولا يتمكن معه الإشراف عليه، فقدم

بين يديه رجالة بالرماح والتراس مع قائد يعرف بابن الزرنيخى، فأقبل القرمطي نحوه في أربعة

آلاف فقاومته الرجالة طويلاً، ثم دخلتها الخيل وتعطفت عليها واضطرب الناس فوضع فيهم

السيف؛ قال الشريف: وأخبرني بعض الجند قال: كنت والله قبل الهزيمة أريد أن أضرب

دابتي بالسوط فلا يمكنني ذلك لضيق الموضع، ووصل كثير من عسكر القرمطي إلى ابن

أبي الساج في مصافة على أتم عدة، فلما التقوا اقتتلوا كأعظم قتال شوهد، وكثرت القتلى

والجراح في القرامطة جداً وقتل رجاله ابن الساج، وخلص إليه فانهزم الناس وقتلوا قتلاً

ذريعاً، حتى صاروا في بساط واحد نحو فرسخين أو أرجح، فلما كان عند غروب

الشمس انهزم أصحاب ابن أبي الساج بعد صبر عظيم، وأسر هو وجماعة كثيرة من

أصحابه، وذلك في وقت المغرب من يوم السبت، فوكل به أبو طاهر طبيباً يعالج جراحه،

واحتوى القرامطة على عسكر ابن أبي الساج، ولم تكن فيهم قوة على جمع ما فيه لضعفهم

وكل من قتل منهم، فمكث أهل السواد من الأكرة وغيرهم ينهبون القتلى نحو أربعين يوماً،

ووصل المنهزمون إلى بغداد بأسوأ حال، فخاف الخاص والعام ببغداد من القرامطة، وكان

أبو طاهر القرمطي يظن أن مؤنساً المظفر لا يتأخر عن حربه، وكان على وجل منه، فلما لم

يخرج إليه اشتد طمعه وظن أنه لا يلقاه أحد ولا يقاومه، وأن ما كان قد خدع به من أن

ببغداد من يظاهره على أمره، وينتظر وصوله إليه من الرؤساء - حق، فخرج يريد بغداد،

فلما قرب من نواحي الأنبار وقصر ابن هبيرة ونزل بسواده وكل بهم جنداً ليست بالكثير،

وركب في جيشه فوافى الأنبار واحتال إلى أن عبر الفرات وصار من الجانب الغربي، وتوجه

بين الفرات ودجلة يريد مدينة السلام، وعرف الناس ذلك فكثر اضطرابهم وجزعهم، فبرز

مؤنس المظفر الخادم من بغداد للمسير إلى الكوفة، فبلغه أن القرامطة قد ساروا إلى عين

التمر، فأرسل من بغداد خمسمائة سمارية فيها المقاتلة لتمنع من عبور الفرات، وسير جماعة

من الجيش لحفظ الأنبار، وقصد القرامطة الأنبار فقطع أهلها الجسور، فنزلوا غرب الفرات

وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة، فأتوه بسفن فعبر فيها ثلاثمائة من القرامطة ، فقاتلوا

عسكر الخليفة وقتلوا منهم جماعة واستولوا على الأنبار؛ قال: ولما ورد الخبر بذلك إلى

بغداد خرج نصر الحاجب في عسكر جرار، ولحق بمؤنس المظفر فاجتمعا في نيف وأربعين

ألفاً سوى الغلمان ومن يريد النهب، وكان في العسكر أبو الهيجاء بن حمدان وأخوته

وأصحابهم، فلما أشرف القرامطة على عسكر الخليفة هرب منه خلق كثير إلى بغداد من

غير قتال؛ قال ابن الأثير: كان عسكر القرامطة ألف فارس وسبعمائة فارس وثمانمائة راجل؛

قال: وقيل كانوا ألفين وسبعمائة فارس.

قال الشريف: وسار مؤنس المظفر حتى نازل القرامطة على قنطرة نهر زبارا، على نحو

ثلاثة فراسخ من بغداد، وشحن الموضع بالجيش، وأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع

القنطرة خوفاً من عبور القرمطي، وإن اتفق أدنى جولة مع امتلاء صدور الجيش من

القرامطة فلا يملك البلد لشدة اضطرابه وكثرة أهله، ففعل مؤنس ذلك وقطعها وقاتل عليها

نفر من القرامطة قتالاً شديداً، لا يمنعهم كثرة النشاب ولا غيره، وشحن مؤنس الفرات ما بين

بغداد إلى الأنبار بسماريات، فيها رماة ناشبة تمنع أحداً من القرامطة من شرب الماء إلا

بجهد، فضلاً عن تمكن من العبور، وكان أحد من نصب لذلك إسحاق بن إبراهيم بن

ورقاء، وكان شيخاً ذا دين وبصيرة ونية في الخير، فأقام على حصاره لأبي طاهر وكان لا

يقدر على مذهب لا إلى وجهه ولا إلى جوانبه، ومتى دنا من الماء أخذته السهام؛ قال

الشريف: فحدثني من حصر يومئذ وقد ورد كتاب المقتدر بالله، يأمر مؤنساً بمعاجلته القتال

ويذكر ما لزم من الأموال إلى وقت وصوله، فكتب مؤنس كتاباً ظاهراً - جواب كتاب

الخليفة - يمليه على كاتبه والناس يسمعون، يقول: إن في مقامنا، أطال الله بقاء مولانا نفقة

المال، وفي لقائنا نفقة الرجال، ونحن اخترنا نفقة المال على نفقة الرجال، قال: ثم أنفذ المظفر

مؤنس رسولاً إلى القرمطي يقول: ويلك! تظن أنني كمن لقيك، أبرز لك رجالي والله ما

يسرني أن أظفر بقتل بك رجل مسلم من أصحابي، ولكنني أطاولك وأمنعك مأكولاً

ومشروباً حتى آخذك أخذا بيدي إن شاء الله؛ قال: وأنفذ المظفر حاجيه يلبق في ستة

آلاف مقاتل إلى القرامطة، الذين بقصر ابن هبيرة مع سواده، ليوقعوا بهم ويخلصوا يوسف

بن أبي الساج، فعلم أبو طاهر بذلك فاضطرب واجتهد في عبور الفرات فعجز. ثم اتفق له

طوف حطب فعبر عليه في نفر يسير، وصار إلى سواده الذي خلفه، وجاءه يلبق فواقعه أبو

طاهر في نفر يسير، فكر يلبق راجعاً منهزماً وسلم السواد وذلك بعد قتال شديد.

ونظر أبو طاهر إلى ابن أبي الساج - وقد خرج من الخيمة، ينظر ويرجو الخلاص، وقد

ناداه أصحابه: أبشر بالفرج، فلما تمت الهزيمة أحضره أبو طاهر وقتله وقتل من معه من

الأسرى، وقصد القرامطة مدينة هيت وكان المقتدر قد سير إليها سعيد بن حمدان

وهارون بن غريب، فسبقوا القرامطة إليها وقاتلوهم عند السور، فقتل من القرامطة جماعة

فعادوا عنها، فرجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو طاهر إلى الدالية من طريق الفرات، فقتل من

أهلها جماعة ثم سار إلى الرحبة فدخلها في ثامن عشر المحرم سنة ست عشرة وثلاثمائة،

بعد أن حاربه أهلها فظفر بهم ووضع السيف فيهم، فراسله أهل قرقيسيا يطلبون الأمان

فأمنهم على ألا يظهر أحد منهم بالنهار، فأجابوا إلى ذلك، وخافه الأعراب وهربوا من بين

يديه، فقرر عليهم أتاوة عن كل رأس دينار يحملونه إلى هجر، ثم صعد من الرحبة إلى الرقة

فدخل أصحابه إلى نصيبين، وقتلوا بها ثلاثين رجلاً وقتل من القرامطة جماعة، وقاتلوا ثلاثة

أيام ثم انصرفوا في آخر ربيع الأول، وساروا إلى سنجار ونهبوا فطلب أهل سنجار الأمان

فأمنهم، ثم عاد إلى الرحبة، ووصل مؤنس إلى الرقة بعد انصراف القرامطة عنها، فاحتال

مؤنس في إرسال زواريق فيها فاكهة قد جعل فيها سموما قاتلة، فكانت القرامطة يلقونها

فيأخذونها، فمات كثير منهم وضعفت أبدان بعضهم، وجهدوا وكثر فيهم الذرب فكروا

راجعين وهم قليلو الظهر مرضى، فلما بلغوا هيت قاتلهم أهلها من وراء السور، فقتلوا

منهم رئيساً كبيراً وانصرفوا عنها مفلولين.

ثم رحل أبو طاهر فدخل قصر ابن هبيرة فنهب وقتل، ثم دخل الكوفة على حال ضعف

وعلل وجراحات، وأصحابه على ظهور حمر أهل السواد، وكان دخوله إليها يوم الجمعة

لثلاث ليال خلت من شهر رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة، فأقام بها إلى مستهل ذي

الحجة من السنة، ولم يقتل في البلد ولا نهب، وساس أهل الكوفة أمرهم مع القرامطة،

ورحل أبو طاهر عن الكوفة في ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة.

من ظهر منهم بسواد العراق

في أثناء وقائع أبي طاهر الجنابي

قال ابن الأثير والشريف أبو الحسين - وقد لخصت من روايتيهما ما أورده، ودخل خبر

بعضهم في خبر بعض - ولما كان من أمر أبي طاهر في سنة ست عشرة وثلاثمائة ما

قدمناه، اجتمع بالسواد ممن يعتقد مذهت القرامطة وكان يكتمه خوفاً فظهروا واجتمع منهم

بسواد واسط أكثر من عشرة آلاف، وولوا عليهم رجلاً يسمى حريث بن مسعود، فخرج

إليه الأمير بواسط فنام عسكره في بعض المواضع، فكسبه القرامطة فقتلوا منهم خلقاً،

واستولوا على سائر ما حواه العسكر من السلاح وغيره فقوى أمرهم؛ واجتمعت طائفة

أخرى بعين التمر في جمع كثير، فولوا عليهم رجلاً يسمى عيسى ابن موسى، وكانوا يدعون

إلى المهدي، فسار عيسى بن موسى إلى الكوفة ونزل بظاهرها، وجيىّ الخراج وصرف

العمال عن السواد وكان والي الكوفة قد هرب منها قبل دخولهم، ووجهوا إلى جميع السواد

من يطالبهم بالرحيل إليهم، فخرج إليهم من بين راغب وراهب، ففرقوا العمال في

الطساسيج، وولوا المعاون لقوم من وجوه عشائرهم، وولوا ابن أبي البوادي الكوفي خراج

الكوفة، ونصبوا بعض بني ربيعة والياً لحربها، وأقاموا في البلد أياماً وراحوا إلى الجمعة

بأجمعهم، وأقاموا أبا العيث بن عبدة خطيباً، وأحدثوا في الأذان ما لم يكن فيه، فركب

إليهم أبو علي عمر بن يحيى العلوي وعيسى ابن موسى نازل على شط الفرات في بعض

الأيام، فأظهروا الاستطالة على أبي علي بن يحيى وانقصوا رتبته، وأقيم وحجب أوقاتاً

طويلة، فخرج أبو علي إلى السلطان وذكر له صورة أمر القوم، وقرر في نفسه أخذهم، فأنفذ

السلطان معه صافي النصرى في جيش وضمن أبو علي معاونته، وكان هؤلاء قد خرجوا

من الكوفة وخلفوا واليهم عليها وصاحب خراجهم، وقصدوا موضعاً يعرف بالجامع وما

يليه فنهبوا واستباحوا، ووثب أهل الكوفة بعد خروجهم على من خلفوه عندهم، فقتلوا

منهم جماعة وأخرجوا من بقي، واتصل الخبر بالقرامطة فأنكفأوا راجعين يريدون الكوفة

ليقاتلوا أهلها، فاجتمع الناس وحملوا السلاح وحفظوا البلد وطافوا به ليلاً ونهاراً مدة أيام،

وجاءت القرامطة فنزلوا على الكوفة ولم يكن لهم فيها مطمع فساروا إلى سوراً، وقدم أبو

علي العلوي وصافي النصرى من بغداد، فواقعوهم على نهر بقرب اجهاباذ يعرف بنهر

المجوس، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى هزمهم الله تعالى، فقتل منهم ما لا يحصى وغرق

منهم قوم وهرب الباقون، وتفرقوا وأسر عيسى بن موسى وخلق كثير معه وأعمى كان من

دعاتهم كان يقول الشعر يعرف بأبي الحسن الخصيبي، ودار أبو علي في السواد فتلقط منهم

قوماً، فسكن البلد وتفرق ذلك الجمع ولم يبق بقية قائمة، وحملت الأسرى والرؤوس إلى

بغداد فقتل الأسرى بباب الكناسة وصلبوا هناك، وحبس عيسى بن موسى ثم تخلص

بغفلة السلطان وحدوث ما حدث من اضطراب الجيش وكثرة الفتن في آخر أيام المقتدر،

فأقام ببغداد يدعو ويتوصل إلى ناس استغرهم، ويعمل كتباً فيها ما يأخذه من كتب يشتريها

من الوراقين، يمخرق فيها بذكر أمور ينسخها ويوهم أن له بذلك علماً، ورتب كتباً ينسبها

إلى عبدان الداعي، ليوهم أن عبدان كان أحد العلماء بكل فلسفة وغيرها، وأنه يعلم ما

يكون قبل كونه، ومخرق بجهده على جهال فصاروا له أتباعاً، وأفسد فساداً عظيماً، قال

الشريف: وادعى خلافته من مخرق بعده إلى الآن.

وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل: أن الخليفة المقتدر بالله أرسل إلى حريث بن مسعود،

هارون بن غريب وإلى عيسى بن موسى صافي النصرى، فأوقعوا بهم وانهزمت القرامطة

وقتل أكثرهم وأسروا وأخذت أعلامهم وكانت بيضاء وعليها مكتوب ونريد أن نمن على

الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين فدخلت بغداد منكوسة،

وأضمحل أمر القرامطة بالسواد.

نعود إلى أخبار أبي طاهر.

مسير أبي طاهر إلى مكة

ونهبها وأخذ الحجر الأسود وإعادته وما كان من أخباره في خلال ذلك

وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة حج بالناس منصور الديلمي، وسلموا في مسيرهم حتى أتوا

مكة، فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، وهو يوم الاثنين لثمان خلون من ذي

الحجة، فنهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام والبيت، وقلعوا

الحجر الأسود وأنفذوه إلى هجر، وأخذوا كسوة الكعبة وباب البيت، وطلع رجل منهم

ليقلع الميزاب فسقط فمات، وخرج لأمير مكة ابن مجلب في جماعة من الأشراف إلى أبي

طاهر، وسألوه في أموالهم فلم يشفعهم فقاتلوه فقتلهم جميعاً وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن

الناس في المسجد الحرام حيث قتلوا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة على أحد منهم،

ونهب دور أهل مكة، قال الشريف أبو الحسين: ولما نهب القرامطة مكة ورجع أبو طاهر

إلى بلده لحقه كد شديد عند خروجه من مكة، وحاصرته هذيل فأشرف على الهلكة إلى

أن عدل به دليل من الطريق المعروف إلى غيره، فوصل إلى بلده بعد ذلك في المحرم سنة ثماني

عشرة وثلاثمائة، فأقام به ثم سار إلى الكوفة فدخلها في شهر رمضان سنة تسع عشرة

وثلاثمائة، فاشتروا منها أمتعة وأسروا خلقاً من السواد، وعاثوا ورجعوا بعد خمسين يوماً

إلى بلدهم، فأقاموا به.

وأنفذ أبوطاهر سرية إلى جنابه وسينيز ومهروبان في البحر، فيها وجوه أصحابه في نحو

أربعين مركباً، فوافت ساحل سينيز فصعدوا من المراكب، فحملوا على أهلها حملة واحدة

فانكشف الناس عنهم، فوضعوا فيهم السيف فما لقوا أحداً إلا قتلوه من رجل وامرأة، فما

نجا إلا من لحق بالجبال وسبوا النساء، فترك الناس الديار وخرجوا يريدون الهرب، فنادى

أبو بكر الطرازي في الناس: لا بهرب أحد، فإنا نقاتل من ورد إلينا، وضرب بالبوق ووجه

من حبس الناس عن سلوك الطرقات وردهم إلى البلد، وجمع الناس بالمسجد الجامع

ورغبهم في الجهاد وأسعفهم بماله، ورغبت المتطوعة في الاجتماع فقويت قلوب الناس، وأنفذ

أبو بكر سرية من وقته من خاصة غلمانه في نحو ثلاثمائة رجل في البحر، ووجه سرية أخرى

في البر، وأنفذ إلى مهروبان يخبر أنه على لقاء العدو، وسألهم الإنجاد في المراكب لمعاونة أهل

جنابه على قتال القرامطة، فساروا والتقى الفريقان في البر والبحر من أهل جنابه وسينيز،

ووافت قوارب مهروبان فأشعلوا النيران في القوارب، فأحرقوا بعضها وتخلص منهم نحو

عشرين قارباً، وانتشبت الحرب فقتل الله منهم خلقاً كثيراً، وأسر جماعة ولحق بعضهم

بالجبال، وورد على أبي بكر الطرازي من أخبره بذلك، فجمع الناس وغدا نحو الجبال،

وأرسل فارساً إلى من بسينيز من أصحابه أن يلحقوا به، وأنفذ إلى جنابه ألا يتخلف عنه

من فيه حراك، لتكون الوقعة بهم من كل وجه، فوافوا المنهزمين من القرامطة في بعض كهوف

الجبال، وذلك في يوم الأربعاء فلما رأوا الناس قد أقبلوا نحوهم كسروا جفون سيوفهم،

وحملوا عليهم فثبتوا لهم، ولم نزل الحرب قائمة بينهم يوم الأربعاء والخميس إلى نصف النهار،

ثم نادى أبو بكر الطرازى، من جاء برأس فله خمسون درهماً، فتنادى الناس بالشهادة

وجدوا ونشطوا، وقتلوا خلقاً كثيراً وأخذوا جميع من بقي أسرى، وحملوا مشهرين والناس

يكثرون حمد الله عز وجل والثناء عليه، ولم يفلت منهم أحد.

وكتب الناس محضراً أنفذوه إلى بغداد، وحملت الأسرى والرؤوس معه، قال الشريف:

ونسخه المحضر:

"بسم الله الرحمن الرحيم" - حضر من وقع بخطه وشهادته آخر هذا الكتاب المحضر،

وقد حضر عندهم ثلاثة من القرامطة - لعنهم الله - ذكر أحدهم أنه يقال له - سيار بن

عمر بن سيار، والآخر ذكر أنه يقال له - علي بن محمد بن عمر، والآخر ذكر أنه يعرف

بأحمد ابن غالب بن جعفر الأحساوى، فذكروا أنهم متى نفذ رسولهم إلى صاحبهم

سليمان بن الحسن القرمطي رد الحجر والشمسة وكسوة البيت وأطلق الأسارى الذين في

قبضته، وهادن السلطان وارتدع عن السعي بالفساد والقطع على الحاج، ولم يحفزهم ولم

يعترض عليهم، ويقول هؤلاء النفر من جملة الأسرى الذين في يد محمد بن علي الطرازى -

وهم الذين ظفر الله بهم - فمتى ما وفي سليمان بن الحسن القرمطي بما بذلوه عنه أفرج

السلطان عنهم وردهم إليه، وذلك في يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة

إحدى وعشرين وثلاثمائة، وأسفل ذلك خطوط أهل البلد بالشهادة.

وأحضر سيار بن عمر بن سيار وعلي بن محمد بن عمر المعروف بأبي الهذيل بن المهلب

وأحمد العيار، وهم من جملة الأسرى في الوقعتين بسينيز وجنابه، فعرض عليهم رؤوس

أصحابهم ممن قتل من القرامطة، ليعرفوا بأسمائهم وأنسابهم فذكروا نحو المائة رأس، ومن

الأسرى نحوهم، وحملوا إلى بغداد فحبسوا وأجري عليهم، ويقال إنه قد كان فيهم من

اخوة سليمان بن الحسن من كتم أمره.

وحدثني ابن حمدان أنهم كانوا بعد خلاصهم ومصيرهم إلى أبي طاهر يتحدثون: أن كثيراً

من الكبراء وغيرهم كانوا يرسلون إليهم ما يتقربون به إلى قلوبهم، وذكروا أنهم كانوا يكثرون

الخشوع وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإقامة الصلاة، قال: ويضحكون من

فعلهم هذا وخديعتهم الناس، قال: ويضحك أبو طاهر واخوته مما يتحدثون به، قال: وكان

سبب تخلص هؤلاء الأسرى أن أبا بكر بن ياقوت كتب في المهادنة، وجرى بينهم خطوب في

المراسلة إلى أن وافقهم أن يردوا الحجر الأسود ويخلوا الأسرى ولا يعرضوا للحاج، فجرى

الأمر على ذلك.

قال الشريف: وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة دخل القرمطي الكوفة، واستقبل لؤلؤاً الأمير

خارجاً بالحاج في ذي القعدة، فرجع بهم لؤلؤ إلى الكوفة وتفرقوا فيها، بعد أن واقعته

الخراسانية فلم يقدر على مقاومتهم وامتنعوا منه، إلا أن الناس تسربوا وافترقوا، فظفر بمن

ظفر منهم فلم يكثر القتل وأخذ ما وجد، وأشار بعض أهل الكوفة على بعض أصحابه في

هذه السنة - عند نزولهم بالكوفة - أن يسار في الحاج بغير ما يجري فيهم، فقال الرجل:

الذي من أصحاب القرمطي: والله ما ندري ما عند سيدنا أبي طاهر، من تمزيق هؤلاء

الذين من شرق الأرض وغربها، واتخاذهم ومن وراءهم أعداء، وما يفوز بأكثر أموالهم إلا

الأعراب والشراد من الناس، قال الكوفي: فلو أنه حين يظفر بهم دعائهم أن يؤدي كل رجل

ديناراً وأطلقهم وأمنهم لم يكره أحد منهم ذلك وخف علهيهم وسهل، وحج الناس من كل

بلد لأنهم ظماء إلى ذلك جداً، ولم يبق ملك إلا كاتبه وهاداه واحتاج إليه في حفظ أهل

بلده وخاصته، فجبي في كل سنة ما لا يصبر إلى سلطان مثله من الخراج، واستولى على

الأرض وانقاد له الناس، وإن منع من ذلك السلطان اكتسب المذمة، وصار عند الناس هو

المانع من الحج، فاستصوب رأيه وفرج عنه، لأن أصحاب أبي طاهر كان قد ظهر منهم

اضطراب عليه وقلت طاعتهم له، قال: حتى لقد سمعت بعضهم وقد لحقه فارس من

العرفاء يركض ويدور في الكوفة ويقول: ارجع إلى العسكر فإن السيد يأمرك بذلك، فذكر أمه

بقبيح من الشتيمة بعد أن كانوا يعبدونه، قال: ولما سمع رئيس القرامطة كلام الكوفي وما

أشار به من أمر الحاج وما جرى من الكلام في ذلك دخل إلى أبي طاهر فعرفه ما جرى،

فبادر من وقته ونادى في الناس بالأمان، وأحضر الخراسانية وقرر معهم أنهم يحجون ويؤدون

إليه المال في كل سنة، ويكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم فلم يأمنوا له، فسلم سياسة

أمرهم إلى أبي علي عمر بن يحيى العلوي، واستقر للقرامطة ضريبة ورسم على سفر

الحاج.

قال الشريف: ولما كان في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة كبس أبو طاهر الكوفة عشية،

وفيها شفيع اللؤلؤي أمير، فهرب من مجلسه والناس عنده، ورمى بنفسه من سطحه واستتر

عند امرأة ضعيفة، وظهر الجند من الطرقات فقاوموا من لحقهم من جيشه، وامتنع أكثرهم

منه وخرجوا سالمين إلا نفراً منهم أصيبوا، ووجه أبو طاهر إلى شفيع اللؤلؤي فأمنه

وأحضره، فحضر إليه وقدم إليه طعاماً يأكله، وطلبت مائدة يأكل عليها، فقيل ما يحضر إلا

مائدة نهبت من داره، فقال أبو طاهر: قبيح أن يراها فافرشوها بالرقاق لكي لا يعرفها،

ففعلوا ذلك وقدمت إليه، وكان يحمل إلى أبي طاهر صحفة صحفة مما يقدم إليه، فينظر

إليها أولاً وينفذها إليه وكان ذلك لدناءته ومهانته، وتفرق أصحابه عنه وقلت طاعتهم له

فاحتاج إلى المداراة، فوجه إلى شفيع من يخاطبه في أن يمضي إلى السلطان، ويعرفه أنهم

صعاليك لا بد لهم من أموال، وأنه إن أعطاهم مالاً لم يفسدوا عليه شيئاً وخدموه فيما

يلتمسه، وإن أبى ذلك لم يجدوا بدا من أن يأكلوا بأسيافهم وسيره أبو طاهر ووصله، وخرج

شفيع إلى السلطان فقدم إلى القرمطي أبو بكر بن مقاتل من قبل السلطان يناظره، ففت في

عضده وملا صدره من السلطان وأتباعه، فزاده ذلك انكساراً وذلة وسار عن الكوفة.

وفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة فسدت رجال القرامطة وقتل بعضهم بعضا، وسبب ذلك



أنه كان منهم رجل يقال له ابن سنبر، وهو من خواص أبي سعيد الجنابي المطلعين على

سره، وكان له عدو من القرامطة اسمه أبو حفص الشريك، فعمد ابن سنبر إلى رجل من

أصفهان، وقال له: إذا ملكتك أمر القرامطة نقتل عدوى، فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه،

فأطلعه على أسرار أبي سعيد وعلامات كان يذكرها في صاحبهم الذي يدعو إليه، فحضر

إليه أولاد أبي سعيد فذكر لهم العلامات، فقال أبو طاهر: هذا هو الذي ندعو إليه،

فأطاعوه ودانوا له حتى كان يأمر الرجل منهم بقتل أخيه فيقتله، وكان إذا كره رجل منهم

يقول إنه مريض - يعني قد شك في دينه ويأمر بقتله، وبلغ أبو طاهر أن الأصفهاني يريد قتله

لينفرد بالأمر، فقال لاخوته: قد أخطأنا في هذا الرجل وسأكشف حاله، فقال له: إن لنا

مريضاً فانظر إليه ليبرأ، وأضجعوا والدتهم وغطوها بإزار، فلما رآها قال: إن هذا المريض

لا يبرأ فاقتلوه، فقالوا: كذبت، هذه والدتنا ثم قتلوه، وذلك بعد أن أفنى أكثر أكابرهم

بالقتل.

وفاة أبي طاهر

بن أبي سعيد الجنابي وأخيه وقيام أخويهما بعده

قال: وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة هلك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد وأخوه أبو

منصور بجدري أصابهما، وملك التدبير بعده أخواه أبو القاسم سعيد وهو أكبرهم، وأبو

العباس، وكانا يتفقان معه على تدبير الأمر، وكان لهم أخ آخر لا يختلط بهم لاشتغاله

بالشرب واللهو، قال: وشركهما في تدبير الأمر ابن سنبر.

إعادة الحجر الأسود إلى الكعبة

شرفها الله تعالى

قال: وفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة أراد القرامطة أن يستميلوا أهل الإسلام، فحملوا الحجر

الأسود وأتوا به الكوفة، فنصبوه في المسجد الجامع على الأسطوانة السابعة في القبلة مما يلي

صحن المسجد حتى يراه الناس ثم حملوه إلى مكة شرفها الله تعالى، وقالوا: أخذناه بأمر

ورددناه بأمر.

قال ابن الأثير وكان بجكم الرايقي قد بذل لهم فيه خمسين ألف دينار، فلم يردوه وردوه الآن

بغير شيء، وذلك في ذي القعدة من السنة، فكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا

أياما، وحكى ابن الأثير في سبب رده: أن عبيد الله المنعوت بالمهدي القائم ببلاد المغرب

والمستولى عليها كتب إلى القرمطي ينكر فعله ويلومه ويلعنه، ويقول أخفقت علينا سعينا

وأشهرت دولتنا بالكفر والإلحاد بما فعلت، ومتى لم ترد على أهل مكة ما أخذته وتعيد

الحجر الأسود إلى مكانه وتعيد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة، فلما وصل

هذا الكتاب أعيد الحجر إلى مكة شرفها الله تعالى.

ملك القرامطة دمشق

وسيرهم إلى الديار المصرية ومحاصرة من بها ورجوعهم عنها

قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: وفي سنة ستين وثلاثمائة سار الحسن بن أحمد بن

أبي سعيد الجنابي، وهو الذي انتهى إليه أمر القرامطة، من بلده إلى الكوفة، وعزم على

قصد الشام وسبب ذلك أنه كان قد تقرر للقرامطة في الدولة الأخشيدية من مال دمشق في

كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، فلما ملك المعز لدين الله العبيدي الديار المصرية، واستولى

جعفر بن فلاح على الشام، علموا أن ذلك يفوتهم، فسار الحسن بن أحمد إلى الكوفة،

وراسل بختيار الديلمي أحد ملوك الدولة البويهية، في طلب السلاح والمساعدة، فأنفذ إليه

خزانة سلاح من بغداد وسبب له على أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان بأربعمائة ألف

درهم، فرحل الحسن من الكوفة حتى أتى الرحبة وعليها أبو تغلب بن حمدان، فحمل إليه

المال المسبب له به عليه وحمل إليه العلوفة، وأرسل إليه يقول: هذا شيء كنت أردت أن

أسير أنا فيه بنفسي، وأنت تقوم مقامي فيه، وأنا مقيم في هذا الموضع إلى أن يرد على

خبرك، فإن احتجت إلى مسيري سرت إليك ونادى في عسكره: من أراد المسير من الجند

الإخشيدية وغيرهم إلى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض عليه، فقد أذنا له في المسير

والعسكران واحد، فخرج إلى عسكر القرمطي جماعة من عسكر أبي تغلب، وكان فيه

كثير من الإخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين، صاروا إليه لما انهزموا من المغاربة عند

ملكهم الديار المصرية بعد الدولة الإخشيدية؛ قال: وسبب مظاهرة ابن حمدان للقرمطي أنه

كان قد وقع بينه وبين جعفر بن فلاح مراسلات، أغلظ جعفر فيها على أبي تغلب وتهدده

بالمسير إليه، فلما أرسل ابن جعفر إلى الحسن ابن أحمد هذه الرسالة ومكن الجند من

المسير معه سره ذلك وزاد قوة، وسار عن الرحبة وقرب من أرض دمشق ووصل إلى

ضياع المرج فظفرت خيله برجل مغربي يقال له علي بن مولاه، فقتلوه وقتلوا معه جماعة من

المغاربة فوقعت الذلة على المغاربة، وكان ظالم بن موهوب العقيلى على مقدمة القرامطة في

جمع من بني عقيل وبني كلاب، فلقي المغاربة في صحراء المزة وأقبل شبل بن معروف

العقيلي معينا لظالم، ولم يزل القتال بينهم إلى أن أقبل الحسن بن أحمد القرمطي فقوى

العقيليون، وتشمرت المغاربة ولم يزل القتال إلى العصر، ثم حمل ومن معه فانهزمت المغاربة

وأخذهم السيف وتفرقوا، وقتل جعفر بن فلاح ولم يعرف، واشتغلت العرب بنهب العسكر،

وكانت هذه الوقعة في يوم الخميس لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، فلما كان

بعد الوقعة عثر بجعفر بن فلاح من عرفة وهو مقتول مطروح على الطريق، فاشتهر خبره في

الناس، ثم نزل الحسن بن أحمد بعد الوقعة على ظاهر المزة فجنى مالاً من البلد وسار يريد

الرملة، وكان جوهر القائد قد أنفذ من مصر رجلاً من المغاربة يقال له سعادة بن حيان ذكر

أنه في أحد ألفاً، فلما بلغ ابن حيان أن ابن فلاح قد قتل وجاءه بعد ذلك قوم من المنهزمين

فأخبروه بخبر الواقعة، تحير وتقطعت به الأسباب، فلم تكن له جهة غير الدخول إلى يافا،

ولم يكن له بها عدة ولا دار، فلما دخل إليها جاءه الحسن بن أحمد فنزل عليها، واجتمعت

عرب الشام فنازلها وناصبها بالقتال، حتى اشتد الحصار وقل ما بها جداً، وكان يدخل

إليها شيء من الطعام يريد الخول به إلى يافا ضربت عنقه، فلما طال بهم الأمر أكلوا دوابهم

وجميع ما عندهم من الحيوان، ثم هلك أكثرهم من الجوع، وكان الحسن بن أحمد قد سار

عن يافا نحو مصر، وخلف على حصارها أبا المنجى وظالما العقيلي ونزل على مصر يوم

الجمعة مستهل شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاثمائة، فقاتل المغاربة على الخندق

الذي لمدينتهم، وقتل كثيراً منهم خارج الخندق وحاصرهم شهوراً، ثم رحل عنها إلى

الأحساء ولم يعلم الناس ما كان السبب في ذلك، فلما تيقنت المغاربة أنه قد رحل إلى بلده

أنفذ جوهر القائد ابن أخته نحو يافا، وبلغ من عليها يحاصرها أن الحسن بن أحمد رحل

عن مصر، وأن إبراهيم ابن أخت جوهر خارج يريد يافا، فساروا القوم عنها وتوجهوا نحو

دمشق، فنزلوا بعسكرهم على ظاهرها، فجرى بين ظالم وأبي المنجي كلام وخلاف ذكر

أنه بسبب أخذ الخراج، وكان كل واحد منهما يريد أخذه للنفقة في رجاله، وكان أبو المنجي

كبيراً عند القرمطي يستخلفه على تدبير أحواله.

قال: ولما رحل القوم عن يافا إلى دمشق جاءها إبراهيم ابن أخت جوهر القائد، فأخرج

من كان بها وسار بهم إلى مصر، ورجع الحسن ابن أحمد فنزل الرملة، ولقيه أبو المنجي

وظالم فذكر أبو المنجي للحسن ابن أحمد ما جرى من ظالم وما تكلم به، فقبض عليه ولم

يزل محبوساً حتى ضمنه شبل بن معروف فخلى سبيله، فهر إلى شط الفرات إلى حصن

كان له في منزل بني زياد، ثم إن الحسن بن أحمد طرح مراكب في البحر وجعل فيها رجالاً

مقاتلة، وجمع كل من قدر عليه من العرب وغيرهم وتأهب للمسير إلى مصر، وكان الجوهر

يكتب إلى المعتز لدين الله إلى القيروان بما جرى على عسكره، من القتل والحصار والقتل،

أن الحسن بن أحمد يقاتلهم على خندق عسكرهم، وقد أشرف على أخذ مصر فقلق من

ذلك قلقاً شديد، وجمع من يقدر عليه وسار إلى مصر، وظنها أنها تؤخذ قبل أن يصل إليها

فدخلها في يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر رمضان سنة اثنتي وستين وثلاثمائة وكان

شديد الخوف من الحسن بن أحمد، فلما نزل مصر عزم على أن يكتب إلى الحسن بن أحمد

كتاباً يعرفه فيه أن المذهب واحد، وأنهم منهم استمدوا، ولأن ساداتهم في هذا الأمر،

وبهم وصلوا إلى هذه المرتبة وترهب عليه، وكان غرض المعز لدين الله العبيدي في ذلك أن

يعلم من جواب القرمطي ما في نفسه، وهل خافه لما وافى مصر أم لا؟ قال: والحسن بن

أحمد يعرف أن المذهب واحد، لأنه يعلم الظاهر من مذهبه والباطن، لأن الجميع اتفقوا

على تعطيل الخالق وإباحة الأنفس والأموال وبطلان النبوة، فهم متفقون على المذهب، وإذا

تمكن بعضهم من بعض يرى قتله ولا يبقي عليه.

قال الشرف: وكان عنوان الكتاب:

من عبد الله ووليه وخيرته وصفيه معد أبي تميم بن إسماعيل المعز لدين الله أمير المؤمنين،

وسلالة خير النبيين ونجل علي أفضل الوصيين إلى الحسن بن أحمد، ونسخة الكتاب:

"بسم الله الرحمن الرحيم" - رسوم النطقاء ومذاهب الأئمة والأنبياء ومسالك الرسل

والأوصياء، السلف والآنف منا صلوات الله علينا وعلى آبائنا، أولى الأيدي والأبصار في

متقدم الدهور والأكوار وسالف الأزمان والأعصار عند قيامهم بأحكام الله، وانتصابهم

لأمر الله، بالابتداء بالإعذار والانتهاء بالإنذار، قبل إنفاذ الأقدار في أهل الشقاق والإصرار،

لتكون الحجة على من خالف وعصى، العقوبة على من بان وغوى، حسبما قال الله جل

وعز "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" وقوله سبحانه

"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من

المشركين" "فإن آمنو بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق" ، أما بعد

أيها الناس: فإنا نحمد الله بجميع محامده ونمجده بأحسن مماجدة، حمداً دائماً أبداً ومجداً

عالياً سرمدا، على سبوغ نعمائه وحسن بلائه، ونبتغي إليه الوسيلة بالتوفيق والمعونة، على

طاعته والتسديد في نصرته، ونستكفيه ممايلة الهوى والزيغ عن قصد الهدى، ونستزيد منه

إتمام الصلوات وإفاضة البركات وطيب التحيات، على أوليائه الماضين وخلفائه التالين، منا

ومن آبائنا الراشدين المهديين المنتخبين، الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون.

أيها الناس "قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن أعمى فعليها" ليذكر من

تذكر وينذر من أبصر واعتبر. أيها الناس: إن الله جل وعز إذا أراد أمراً قضاه، وإذا قضاه

أمضاه، وكان من قضائه فينا قبل التكوين أن خلقنا أشباحاً، وأبرز أرواحنا بالقدرة

مالكين، وبالقوة قادرين، حين لا سماء مبينة، ولا أرض مدحية، ولا شمس تضيء، ولا قمر

يسرى، ولا كوكب يجري، ولا ليل يجن، ولا أفق يكن، ولا لسان ينطق ولا جناح يخفق، ولا

ليل؛ ولا نهار، ولا فلك دوار، ولا كوكب سيار، فنحن أول الفكرة، وآخر العمل بقدر

ومقدور، وأمر في القدوم مبرور، فعندما تكامل الأمر وصح العزم أنشأ الله جل وعز

المنشآت فأبدأ الأمهات من هيولانا، فطبعنا أنواراً وظلمة وحركة، وسكونا، فكان من

حكمة السابق في عمله ما ترون من فلك دوار، وكوكب سيار، وليل ونهار، وما في الآفاق

من آثار معجزات، وأقدار باهرات، وما في الأقطار من الآثار، وما في النفوس من الأجناس

والصور والأنواع، من كثيف ولطيف، وموجود ومعدوم وظاهر وباطن، ومحسوس وملموس،

ودان وشاسع، وهابط وطالع كل ذلك لنا ومن أجلنا، دلالة علينا وإشارة إلينا، يهدي الله

ما كان له لب سجيح، ورأى صحيح، قد سبقت منا له الحسنى، فدان بالمعنى، ثم إنه جل

وعلا أبرز من مكنون العلم ومخزون الحكم آدم وحواء أبوين ذكراً وأنثى، سبباً لإنشاء

البشرية، ودلالة لاظهار القدرة القوية الكونية، وزوج بينهما فتوالدا الأولاد، وتكاثرت

الأعداد، ونحن ننقل في الأنصاب الزكية والأرحام الطاهرة المريضة، كلمنا ضمنا من صلب

ورحم أظهر منا قدرة وعلماً وهلم جرا إلى آخر الجد الأول والأب الأفضل سيد المرسلين

وإمام النبيين أحمد ومحمد صلوات الله عليه وعلى آله في كل ناد ومشهد، فحسن آلاؤه وبان

غناؤه، وأباد المشركين وقصم الظالمين، وأظهر واستعمل الصدق، وبان بالأحدية ودان

بالصمدية، فعندها، فعندها سقطت الأصنام وانعقد الإسلام، وظهر الأيمان وبطل السحر

والقربان، وارتفع الكفر والطغيان، وخمدت بيوت النيران وهربت عبدة الأوثان، وأتى بالقرآن

شاهداً بالحق والبرهان فيه خير ما كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم، مبيناً عن كتب

تقدمت في صحف قد نزلت، تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ونوراً وسراجاً منيراً، وكل

ذلك دلالات لنا ومقدمات بين أيدينا، وأسباب لإظهار أمرنا، هدايات وشهادات، وسعادات

قدسيات إلا هيات أوليات كائنات، منشآت مبديات معيدات وما من ناطق نطق ولا نبي

بعث ولا وصى ظهر إلا قد أشار إلينا، ولوح بنا ودل علينا في كتابه وخطابه، ومنار

أعلامه ومرموز كلامه، ما هو موجود غير معدوم وظاهر وباطن، يعلمه من سمع الندا أو

شاهد ورأى، من الملأ الأعلى، فمن أغفل منكم أو نسى أو ضل أو غوى فلينظر في

الكتب الأولى والصحف المنزلة، وليتأمل آي القرآن وما فيه من البيان، وليسأل أهل الذكر

إن كان لا يعلم، فقد أمر الله عز وجل "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" .

قال: وهذا الكتاب طويل جداً لا طائل فيه، قطعناه ههنا وسنذكر جملة من هذا الكتاب

في أخبار المعز لدين الله غير ما في هذا الموضع، على ما نقف عليه إن شاء الله تعالى في

موضعه.

قال: والجواب من الحسن بن أحمد القرمطي الأعصم:

وصل إلينا كتابك الذي تفصيله وقل تحصيله، ونحن سائرون على أثره والسلام.

وسار الحسن بن أحمد بعد ذلك إلى مصر، فنزل بعسكره عين شمس، وناشب المغاربة

القتال، وانبثت سراياه في أرض مصر وبعث عمالاً إلى الصعيد تجنى الأموال، وضيق على

المغاربة وداومهم القتال على خندق مدينتهم، يعني الشريف بمدينتهم القاهرة المعزية، قال:

فذكر أنه هزمهم حتى عبر الخندق فامتنعوا منه بالسور، وعظم ذلك على المعز لدين الله

وتحير في أمره، ولم يجسر أن يخرج بعسكره خارج الخندق، وكان ابن الجراح الطائي في جمع

عظيم مع الحسن بن أحمد القرمطي، وكان قوة لعسكره ومنعة ومقدمة، فنظر القوم فإذا

ليس لهم بالحسن بن أحمد طاقة، ففكروا في أمره فلم يجدوا لهم حيلة غير فل عسكره،

وعلموا أنه لا يقدر على فله إلا بابن الجراح، وأن ذلك لا يتم إلا ببذل ما يطلبه من المال،

فراسلوا ابن الجراح وبذلوا له مائة ألف دينار، على أن يفل لهم عسكر القرمطي فأجابهم إلى

ذلك، ثم إنهم فكروا في أمر المال فاستعظموه، فعملوا دنانير من النحاس وطلوها بالذهب

وجعلوها في أكياس، وجعلوا على رأس كل كيس منها دنانير يسيرة من الذهب تغطى ما

تحتها وشدوها وحملت لابن الجراح بعد أن استوثقوا منه، وعاهدوه ألا يغدر بهم إذا وصل

إليهم المال، فلما وصل إليه المال عمل على فل عسكره، وتقدم إلى كبراء أصحابه بأن يتبعوه

إذا توافق العسكران، وقامت الحرب فلما اشتد القتال ولى ابن الجراح منهزماً، وتبعه

أصحابه في جمع كثير، فلما نظر إليه القرمطي قد انهزم بعد الاستظهار تحير ولزمه أن يقاتل

هو ومن معه فاجتهد في القتال حتى تخلص، ولم تكن له بهم طاقة وكانوا قد بادروه من كل

جانب، فخشي على نفسه وانهزم واتبعوه قومه ودخل المغاربة معسكره، فظفروا باتباع

وباعة نحو من ألف وخمسمائة رجل، فأخذوهم أسرى وانتهبوا العسكر وضربوا أعناقهم،

وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، ثم جردوا خلف الحسن بن أحمد، أبا

محمود إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل من المغاربة، فسار خلفه وتباطأ في السير

خوفاً من أن يعطف عليه، وسار الحسن فنزل أذرعات وأنفذ أبا المنجى في طائفة كثيرة من

الجند إلى دمشق، وكان ابنه قبل ذلك والياً عليها، ثم سار القرمطي في البرية إلى بلده وفي

نيته العود، وكانت المغاربة، لما سمعوا بقصة ظالم، وقبض القرمطي عليه لما جرى بينه وبين

أبي المنجى ما ذكرناه، وهربه إلى حصنه، راسلوه ليأتي القرمطي من خلفه، فسار يريد

بعلبك فلقيه الخبر بهزيمة القرمطي ونزول أبي المنجى على دمشق، فسار ظالم نحو دمشق

ونزل أبو محمود أذرعات، وذكر أنه كان بينه وبين ظالم مراسلة واتفقا على أبي المنجى، وبلغ

أبو المنجى مسير ظالم إليه وكان في شرذمة يسيرة، وأبو المنجى بدمشق في نحو ألفي رجل،

وكان قد ورد إليه الخبر في أن ظالماً يصبح من غد في عقبة دمر، وكان الجند قبل ذلك قد

طلبوا منه الرزق، فقال: ما معي مال، فلما ورد إليه خبر ظالم أعطي الجند على السرج

دينارين لكل رجل، ثم إن ظالماً أصبح من غد ذلك اليوم في عقبة دمر، فخرج أبو المنجى

وابنه بمن معهما إلى الميدان للقتال، فذكر أن ظالماً أنفذ إلى أبي المنجى رسولاً يقول له: إنما

جئت مستأمناً إليكم، وقد كان الجند حقدوا على أبي المنجى من جهة الرزق، فلما صار

ظالم في عقبة دمر مشرفاً على دمشق ذهب قوم من الجند نحو العقبة، فاستأمنوا إلى ظالم

وتبعهم قوم بعد قوم، فقوى طمع ظالم بهم فانحدر من العقبة، ثم سار بمن معه حتى قرب

من أبي المنجى فأحاط به فلم يقدر على الهرب فأخذ هو وابنه من بعد أن وقعت فيه

ضربة، وانقلب عسكره إلى ظالم، وملك ظالم البلد، وذلك في يوم السبت لعشر خلون من

شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.

فلما تمكن ظالم ونزل البلد أوثق أبا المنجى وابنه ثم حبسهما، وقبض على جماعة من

أصحابه فأخذ أموالهم، ثم قدم أبو محمود بعد ذلك دمشق في يوم الثلاثاء لثمان بقين من

شهر رمضان، فلقيه ظالم وتقرب إليه بأبي المنجي وابنه، فعمل لكل واحد منهما قفصاً من

خشب وحملهما إلى مصر فحبسا، وكان بعد ذلك بين ظالم وأبي محمود وأخبار دمشق ما

ليس ذكره في هذا الموضع من غرضنا، فلنرجع إلى أخبار القرامطة.

وفاة الحسن بن أحمد

قال: وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة كاتب هفتكين التركي وهو بالشام القرامطة، وقد

جرى بينه وبنين المغارية حروب ووقائع وانتصر بهم، فكاتبوه بأنهم سائرون إلى الشام،

فوافوا دمشق في هذه السنة، وكان الذي وافى منهم إسحاق وكسرى وجعفر، فنزلوا ظاهر

دمشق نحو الشماسية، ووافى معهم كثير من العجم ممن كان من أصحاب هفتكين، فلقي

هفتكين القرامطة وحمل إليهم الأموال وأكرمهم وفرح بهم وأمن، فأقاموا على دمشق أياماً ثم

رحلوا متوجهين إلى الرملة، وكان بها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فتحصن منهم بيافا،

ونزلت القرامطة الرمل ونصبوا القتال على يافا، حتى كل الفريقان من القتال وصار بعضهم

يحدث بعضاً، وأقامت القرامطة بالرملة يجبون المال، فندب العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله

- وكان قد ولى الأمر بعد وفاة أبيه - جوهر القائد إلى الخروج إلى الشام في سنة خمس

وستين ، وحمل إليه خزائن السلاح والأموال، فسار يريد الشام في عساكر لم تخرج المغاربة من

مصر بمثلها، وتواترت الأخبار إلى هفتكين بمسيره، وهو على عكا وكان قد ملك صيدا،

فنزل عكا وسار فنزل طبرية، وفارق القرامطة الرملة ونزلها جوهر، وسار إسحاق وكسرى

القرمطيان إلى الأحساء، وبقي جعفر لم يسر معهم وانضم إلى هفتكين بطبرية، وسار جوهر

في طلبهما فسارا إلى دمشق وتبعهما جوهر حتى نزل بالشماسية بظاهر دمشق، والمناوشة

تقع بينهم تارة والموادعة أخرى، فلم يزل الأمر كذلك إلى جمادي الأولى سنة ست وستين

وثلاثمائة، فوردت الأخبار وقويت بقرب الحسن بن أحمد القرمطي من دمشق، وجاء من

بشر ابن عمه جعفر بذلك، فسار إليه وصح ذلك عند جوهر، فنزل دمشق وسار نحو

طبرية وجد في السير، وكان قد هلك من عسكره خلق كثير، فخاف أن يدركه الحسن بن

أحمد القرمطي فأسرع المسير من طبرية، وخرج الحسن ابن أحمد من البرية يريد طبرية

فوجده قد سار عنها، فأنفذ خلفه سرية فلحقته فرجع إليها أصحاب جوهر، فقتلوا جماعة

من العرب وسار جوهر حتى نزل ظاهر الرملة، وأتاه الخبر عن الحسن فدخل جوهر زيتون

الرمل وتحصن به، وسار هفتكين من دمشق في أثر الحسن ابن أحمد فلحقه، وتوفى الحسن

بن أحمد بالرملة، وتولى أمر القرمطة بعده ابن عمه جعفر، واجتمع هو وهفتكين على قتال

جوهر، فقاتلوه بقية سنة ست وستين وثلاثمائة، ثم رجع جعفر إلى بلده، وكان بين هفتكين

وجوهر من الحصار ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار ملوك مصر.

استيلاؤهم على الكوفة

وخروجهم عنها

قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: وفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ورد إسحاق وجعفر

الهجريان - وهما من القرامطة الذين تلقبوا بالسادة - فملكا الكوفة، قال: وكان للقرامطة

من الهيبة ما إن عضد الدولة وبختيار أقطعاهم الكثير من الإقطاعات، وكان نائبهم ببغداد

وهو أبو بكر بن شاهوية يحكم حكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة بن بويه، فلما

جاء القرامطة إلى الكوفة كتب صمصام الدولة إلى إسحاق وجعفر بالملاطفة ويٍسألهما عن

سبب حركتهما، فذكرا أن السبب في ذلك ما وقع منه من القبض على صاحبهما، وبثا

أصحابهما في جباية الأموال، ووصل الحسن بن المنذر - وهو من أكابر القرامطة - إلى

الجامعين، فأرسل صمصام الدولة العساكر والعرب فقاتلوه وأسروه وجماعة من القواد وانهزم

من معه، ثم جهز القرامطة جيشاً آخر في عدد كثير فهزمته عساكر صمصام الدولة، وقتل

مقدم القرامطة، وكانت هذه الوقعة بالجامعين، فلما بلغ المنهزمون الكوفة رحل القرامطة

عنها، واتبعهم العساكر إلى القادسية وأخذ أمر القرامطة في الانتفاض، ولم يكن لهم بعد

ذلك بالعراق والشام وقعة بلغنا خبرها.

ظفر الأصغر بالقرامطة

قال ابن الأثير: وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة جمع إنسان يعرف بالأصفر من بني المنتفق

جمعاً كثيراً، وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة، قتل فيها مقدم القرامطة وانهزم أصحابه

وقتل منهم وأسر خلق كثير، وسار الأصفر إلى الأحساء فتحصن القرامطة منه، فعدل إلى

القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأثقالهم ومواشيهم، وسار بذلك إلى البصرة

وانتقض أمر القرامطة وضعفوا، وكان مدة ظهور مذهبهم إلى هذا التاريخ مائة سنة، ومنذ

ظهر أمرهم واستولوا على البلاد وتجهزت العساكر لقتالهم خمساً وتسعين سنة، وكانت

فتنتهم قد عمت أكثر البلاد والعباد؛ ولم أقف لهم بعد واقعة الأصفر على واقعة أخرى

فأذكرها.

احمد خميس
17/01/2008, 05:27 PM
http://img526.imageshack.us/img526/3631/378thanksmy8rn0.gif

اليساري
10/04/2008, 08:14 AM
الأخ طارق سلام :

جزاك الله خيرا ً .... لي عودة إلى هذا الموضوع لاحقا ً :idea: