المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل



د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:07 AM
النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل

--------------------------------------------------------------------------------

النص الكامل لمجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل
***

الإهـــداء
إلى صديقي الشاعر حسين على محمد


**********

*غوايــــــة *
.....................

حين صعد الشبان الخمسة إلى عربة المترو ، كان يقرأ جريدة وهو واقف فى الزاوية بين ظهر المقعد والباب المغلق من الناحية المقابلة . كانت المقاعد ممتلئة ، وتناثر الوقوف فى المساحات الخالية . استأنف الشبان كلامهم فى وقفتهم بالقرب منه . تشاغل بقراءة الجريدة ، وإن عكست تعبيرات وجهه ما يبين أنه يتابع نقاشهم ..
التقط ملاحظة الشاب المنمش البشرة عن انتصاف النهار دون أن يتناولوا طعاماً . أخرج من جيب الجاكت قطعة شيكولاتة . همس بلهجة مشفقة :
ـ تصبيرة !
تنبه الشبان إليه ..
أطالوا التحديق في ملامحه وهيئته . في حوالى الخامسة والأربعين . يرتدى بدلة رمادية ، ورباط عنق من اللون نفسه . عيناه قلقتان لا تستقران بين أجفانه الضيقة ، فهو يطبق جفنيه ، ويفتحهما ، فى حركة عفوية ، سريعة ، ويكثر من رفع إصبعه ليعيد النظارة المنزلقة على الأنف إلى موضعها ، ويمسك فى يده منديلاً لتنشيف العرق المتصبب في وجهه ..
قال الشاب الطويل القامة :
ـ وأنا .. أليس لى قطعة شيكولاتة ؟
رسم على وجهه ابتسامة واسعة ، وأشار إلى الشاب المنمش البشرة :
ـ أعطيته قطعة كنت أحتفظ بها لنفسى ..
التقط الشاب ارتجافة فى عينيه ، فقال :
ـ لا شأن لى .. أريد شيكولاتة ..
غلبه ارتباك . بدا منطوياً على نفسه ، ومتخاذلاً . رفع الجريدة بيده كمن يحاول الدفاع عن نفسه . تشجع الشاب الطويل فاختطف الجريدة . علت ضحكات الشبان . امتدت يد الشاب المنمش البشرة إلى الجيب العلوى . أخذ القلم ، وقذف به فى الهواء . التقطه . أعاد ما فعله مرات ، ثم قذف به من النافذة ..
صرخ :
ـ القلم !
انعكست نظراتهم ارتجافة فى عينيه . وشى تلفته أنه يريد الابتعاد . تقدموا نحوه فى نصف دائرة . عاد بظهره إلى الوراء حتى التصق بالجدار . ظلوا يرمقونه بنظرات قاسية ، ويكورون قبضاتهم ، ويقتربون ، ويقتربون ..
كان الشاب الممتلئ الجسد أقربهم إليه . صفعه بظهر كفه . تبعه الشاب الطويل ذو النظارة الطبية بلكمة . شجعهم تكوره على نفسه ، وملامحه الخائفة ، على معاودة ضربه . انهالت قبضاتهم وركلاتهم على جسده ، لا تتخير الموضع الذى تصيبه ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:08 AM
*لحظــــــــة*
.....................

أعادت تأمل الشعرة البيضاء . لم تكن رأتها من قبل . تنظر إلى المرآة إذا وضعت المساحيق، أو مشطت شعرها ، أو وهى ترتدى الملابس. ربما تأملت وجهها، أو جسمها كله ، بلا مناسبة . هذه هي المرة الأولى التي تكتشف فيها الشعرة قافزة في الغابة السوداء خلف الأذن ..
غالبت مشاعر متباينة، وإن غاب معناها الحقيقي. دارت بإصبعين كدوامة، حتى اطمأنت إلى اختفاء الشعرة تماماً. تأكدت من البسمة التي لم تكن تغادر شفتيها ..
غادرت الشقة بخطوات بطيئة ..
ثم بخطوات أسرع ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:09 AM
*غراب البحــر*
......................

لما صوب خضر أبوشوشة بندقيته إلى غراب البحر ، فى وقفته على صارى البلانس ، طلب الجد السخاوى أن يشق الرجال بطن الطائر ليروا ما فيها ..
السمكات السبع فى داخل البطن أذهلت الرجال ..
كانوا قد أهملوا نصيحة الجد السخاوى ـ عندما ظهر غراب البحر على شاطئ الأنفوشى ـ بأن يبعدوا الطائر عن الشاطئ . ألفوا رؤيتهم له بالقرب من الساحل . رفضوا أن يدقوا الطبول والصفائح الفارغة ، لتصاب أسراب الغراب بالتعب فتسقط فى المياه ، أو تبتعد عن أفق الخليج . أرجعوا نصيحة الجد السخاوى إلى خرف تمليه الشيخوخة ..
لكن أعداد الطير حلقت إلى مدى النظر ، وتناثرت فوق الصوارى والقلوع والمآذن وأسطح البيوت ومناشر الغسيل وأعمدة النور وأسلاك التليفونات ..
ناقش الرجال ما قاله الولد صبحى شحاتة عن رؤيته للأماكن التى يبيت فيها الطائر بالقرب من الشاطئ . قالوا : لن تتأثر أسماك البحر من قنص أسراب الطائر ، مهما تتكاثر أعدادها ..
استعادوا نصيحة الجد السخاوى وملاحظة الولد ، لما طلعت السنارة والطراحة والجرافة بأعداد قليلة من السمك ، وعاد الرجال ـ أحياناً ـ بلا محصول . أدركوا أن الخطر أشد مما تصوروه . أربك محاولاتهم لقتله ، أو إبعاده ، أنه قادر على المناورة ، ويجيد الاختفاء والغوص ..
تبادل الرجال نظرات الحيرة . زاد من حيرتهم صمت الجد السخاوى على تهامسهم بالسؤال : ماذا نفعل ؟

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:10 AM
*انكسارات الرؤى المستحيلة*
............................................

قال أحمد أنيس وهو يضع رزمة النقود على مكتبى :
ـ ثلاث ساعات وأنا أتنقل بين البنك المركزى وبنط مصر وبنك فيصل ..
أودعت رزمة النقود درج المكتب:
ـ ما فعلته جزء من عملك ، فلم تشكو ؟
رسم على وجهه ابتسامة معتذرة :
ـ لم أقصد الشكوى ، لكننى أشرح ما حدث ..
لما ضاق وقتى عن استيعاب مسئولياتى ، عهدت إلى أحمد أنيس بأن يقدم لى من وقته بدلاً من وقتى الذى لم يكن بوسعى أن أضيعه . مكانتى تفرض الحاجة إلى الوقت . أختلف مع ما يحتاجه أحمد أنيس . هو لا يريد إلا الأجر الذي ينفق منه على احتياجات يومه ..
كنت أضيع الوقت فى انتظار المصعد، دوري أمام شباك السينما ، وفى مكتب شركات الطيران، وداخل البنك ، وصالة الاستقبال بعيادة الطبيب، والوقوف بالسيارة في إشارة المرور، والوقوف في طوابير وصفوف، انتظاراً لشيء أطلبه. واللقاءات الشخصية، وأحاديث التليفون، والتوقيع على أوراق مهمة، وبلا قيمة. وكان الطريق يبتلع أكثر من ساعة بين البيت في مصر الجديدة، والمكتب في المهندسين ..
ماذا يحدث لو أنى لم أعترف بالوقت ؟ لو أنى أنكرت وجوده أصلاً ؟.. أصحو وأعمل وأنام. لا يرتبط ما أفعله بشروق الشمس ولا غروبها، ولا أيام السبت والأحد إلى نهاية الأسبوع . حتى الساعة انزعها من يدي، فلا يشغلني ما فات ولا ما أترقبه. لكن الآخرين يصرون على السنة والشهر والساعة واللحظة. يصرون على الوقت ..
هذا ما أفعله بالضرورة ..
الوقت الذى لا يضيع ، لا يمكن أن أسترده ، أو أعوضه . حرصت على أن أختصر من عاداتى ما يضيف إلى وقت الإنجاز . لم أعد أحلق ذقنى صباح كل يوم . ربما أخرت حلاقتها إلى صباح اليوم الثالث . تبينت أنه لم تعد الذقن غير الحليقة تليق بمكانتى . أوصيت على ماكينة كهربائية ، أستعملها فى الأوقات الضائعة ، فى جلستى وراء السائق . وكنت أرجئ تنفيذ بعض ما يجب إنجازه ، فأنهيه فى وقت واحد ..
قرأت أن الوقت هو الرمز النهائى للسيادة، وأن هؤلاء الذين يسيطرون على وقت الآخرين لديهم القوة. من يملكون القوة يسيطرون على وقت الآخرين ..
أريد أن أفيد من كل ساعة، كل دقيقة ، كل ثانية . لدى الكثير مما يهمنى أن أنجزه. الحياة قصيرة إن لم نحسن استغلالها . نضيف إليها وقت الآخرين، ما نحصل عليه من وقتهم . لن تمضى حياتى على النحو الذى أطلبه، ما لم تأخذ من حياة الآخرين . إنهم يجب أن يضيفوا إلى حياتي، يعملون لها ..
أزمعت أن أحصل على الوقت الذى أحتاج إليه من رجل ، شاب ، عنده الفائض من الوقت ..
أطلت الوقوف على باب الحجرة ، حتى رفع أحمد أنيس رأسه من الأوراق والملفات المكدسة على المكتب :
ـ أفندم يا سعادة البك ..
سعدت للذهول ـ وربما الخوف ـ الذى نطق فى ملامحه ..
لم أتردد على مكتبه، ولا أى مكان فى المبنى . المرئيات ثابتة منذ الباب الخارجي، وصعودي السلمات العشر ، ثم الميل إلى اليمين، والسير فى الطرقة المفروشة بالمشاية الحمراء ، الطويلة ، على جانبيها لوحات أصلية ، وإضاءة خافتة . شندى الساعى ـ فى نهاية الطرقة ـ يسرع إلى فتح الباب. تطالعنى الحجرة الواسعة، المطلة على النيل: الأبواب والنوافذ ذات النقوش البارزة ، والزجاج المتداخل الألوان، والأرفف الخشبية رصت فوقها كتب وأوراق وأيقونات صغيرة وشمعدانات، والأرض فرشت سجادة تغلب عليها النقوش الحمراء، فوقها كنبتان متقابلتان ، يتخللهما طاولات وكراسى، والمكتب الضخم فى الوسط ، من الأبنوس والصدف ، وقبالة الباب مرآة هائلة تغطى معظم مساحة الجدار ، وتدلت من السقف نجفة كريستال هائلة ..
بدا أحمد أنيس مرتبكاً ، لا يدرى إن كان عليه أن يظل فى وقفته أم يقبل ناحيتى ..
أشرت إليه ، فلم يغادر موضعه . أهملت ما ينبغى على رئيس العمل أن يحرص عليه . يستدعى مرءوسيه ولا يذهب إليهم . تأتيه أخبارهم ، ويضع جداراً غير مرئى بينهم وبينه ..
قلت :
ـ أحيى إخلاصك ..
ـ هذا هو عملي ..
فاجأته بالسؤال :
ـ هل المرتب يكفيك ؟
وهو يغالب الارتباك :
ـ أدبر نفسي ..
ـ ما رأيك في عمل بعد الظهر ؟
وشى صوته بالانفعال :
ـ سيادتك ..
ثم فى استسلام :
ـ أنت الرئيس ومن حقك ..
قاطعته :
ـ لا شأن لهذا العمل برئاستى .. إنه عمل آخر .. إضافى ..
رنوت إليه متملياً : القامة القصيرة ، المدكوكة ، الجبهة الواسعة ، الوجنتين البارزتين ، الأسنان التى اختلط فيها السواد والصفرة ، البشرة الدهنية ، دائمة التفصد بالعرق ..
حدست السؤال الذى لابد أنه سيخاطب به نفسه : لماذا اخترته دوناً عن بقية الموظفين ؟
فتشت عن الكلمات لأشرح له بواعث اختيارى . ثم تنبهت إلى أنه ليس من حقه أن يسألنى ، ولا أن يناقشنى فيما أختار ..
تركت له معظم الوقت الذى كان يسرقنى . تحكم فيه بما أثار إعجابى ، وربما حسدى . أجاد كل ما أسندته إليه ..
لم يكن يمارس عملاً واحداً ، هو سكرتير ، وسائق، وطباخ، وخادم. أدهشنى بما يعرفه فى الأبراج وعلوم الفلك وقراءة الطالع، وفهمه لقوانين الألعاب الرياضية ، وحفظه لفرق الوقت فى مدن العالم ، وللنكات الحديثة ، وإجادته تلخيص الروايات والمسرحيات والأفلام بما لا يخل بالمعنى، وتقديم المعلومة التى تعوزنى فى اللحظة التى أطلبها. ربما لجأت إليه فى أوقات الليل يسرى عنى بحكاياته الغريبة، المشوقة ..
وفر لى النجاح فى استثمار الوقت ساعات أخرى : يعرفنى مفتشو الجمارك ، فيتركون حقائبى بلا تفتيش . لا يفتحون الحقائب أصلاً . يتعرف على التاجر ، ويعرفنى بنفسه ، يجرى لى ما لم أكن طلبته من خصم على ما اشتريته . وكان يخلص ـ بلا متاعب ـ أذون الشحن ، ويتذوق الطعام الجيد ، ويشير بالأماكن المريحة ، ويجيد تقليد الأصوات والحركات ، ويجيد اختيار الطاولة القريبة من " بيست " الملهى الليلي، ويحسن التصرف فى الأوقات السخيفة، وينقل فضائح المجتمعات الراقية، ويتحمل العبارات التى يمليها الغضب ..
ما وصلت إليه من مكانة ، يدفع من ألتقى بهم إلى انتظاري، فلا يشغلنى انتظارهم. ينتظرون حتى الموعد الذى أحدده. من المسموح لى أن أضيع وقتهم، وليس من حقهم أن يضيعوا وقتى . أعتذر بالقول: أنا مشغول الآن .. هل يمكن إرجاء هذا الأمر إلى وقت آخر؟.. هذه المشكلة تحتاج إلى مناقشة ليس الآن مجالها .. سأحدثك عن ملاحظاتى فى فرصة قادمة .. أملى القرار ، لا أتوقعه، لا أنتظره ..
عاودت النظر إلى ساعة الحائط . تثبت من الوقت فى ساعة يدى . يدخل الخادم بالصحف فى التاسعة صباحاً . أطالعها ، أو أتصفحها ، حتى التاسعة والنصف ..
علا صوتى :
ـ أين الصحف ؟
ـ سألخصها لسيادتك ..
لم أفطن إلى وجوده فى الفراندة المطلة على الحديقة الخلفية . اعتدلت بحيث واجهته :
ـ لكننى أقرأها بنفسى ..
ـ الأخبار المهمة سألخصها بنفسى ..
ثم وهو يربت صدره :
ـ هذا عملى ..
تبادلت كلاماً ـ لا صلة له بالعمل ـ مع أصدقاء فى الكازينو المطل على النيل . أفيد من فائض الوقت، ولا أعاني قلته. تحدثنا فى السياسة ، والأغنيات الجديدة ، ومباريات الكرة، وتقلبات الجو ، وفوائد السير ـ كل صباح ـ على طريق الكورنيش ..
لم يعد هناك ما يشغلنى . أحمد أنيس تكفّل بكل شئ . يتابع تنفيذ القرارات دون أن يستأذننى فى إصدارها. حتى المكالمات التليفونية يسبقنى إلى الرد عليها . يؤكد وجودي، أو يلغيه . يتمازج الإشفاق والود فى ملامحه:
ـ نحن أولى بالوقت ..
علا صوتى ـ بعفوية ـ حين دفع باب حجرة المكتب ، ودخل . تبعه ما يقرب من العشرة . يحملون كاميرا وحوامل وأوراق وأشرطة تسجيل ..
أشار أحدهم ـ دون أن يلتفت ناحيتى ـ إلى مواضع فى المكتب يرى أنها تستحق التصوير ..
لم أكن مشغولاً بقراءة ولا متابعة ، ولا أستمع إلى الإذاعة ، أو أشاهد التليفزيون. كنت أتأمل لوحة الجيوكندا، وسط الجدار ، أحاول تبين ما إذا كانت نظرة الموناليزا تتجه ـ بالفعل ـ إلى كل من ينظر إليها ..
وضع فمه فى أذني:
ـ هذا برنامج للتليفزيون .. عن مشوار حياتك ..
ـ لكننى غير مستعد لهذا البرنامج .. لست مستعداً لأي شئ ..
دفع لى بأوراق :
ـ عليك فقط أن تتصفح هذه الكلمات ..
وقلت له ـ ذات مساء ـ بلهجة معاتبة :
ـ يفاجئنى الأصدقاء بالشكر على رسائل تهنئة وهدايا ..
وهو يدفع نظارته الطبية على أرنبة أنفه :
ـ عندى قوائم لكل المناسبات السعيدة للأصدقاء .. وأتابع أنشطتهم الاجتماعية جيداً ..
مددت شفتى السفلى دلالة الحيرة :
ـ أخشى أنهم يفطنون لارتباكى ..
وواجهته بنظرة متسائلة :
ـ لماذا لا تبلغنى بهذه المناسبات قبل أن ترسل تهانيك وهداياك ؟
ـ وقتك أثمن أن تبدده فى هذه التفاصيل الصغيرة ..
أعدت النظر إلى ما كنت أطلبه من أحمد أنيس .
لم أعد أرفض قيامه بشىء ما دون أن يبلغنى به. كان يرد على الرسائل دون أن يتيح لى قراءتها، ويبلغ المتحدث على التليفون بما يرى أنها تعليماتي، ويبعث بالمذكرات إلى من ينتظرونها ، ويوافق على الدعوات التى يثق فى ترحيبى بها، ويرفض ما يثق أنى سأرفضه ..
طويت الجريدة ، ووضعتها على الطاولة أمامى :
ـ أنا لم أقل هذا الكلام ..
بدا عليه ارتباك :
ـ لكنه يعبر عن آرائك ..
ثم وهو يرسم على شفتيه ابتسامة باهتة :
ـ هل فيه ما ترفضه ؟
ـ بالعكس .. لكنه ينسب لي ما لم أقله ..
أحنى رأسه بالابتسامة الباهتة :
ـ دع لى مسألة الحوارات والأحاديث ، لأنها تأخذ من وقتك ما قد تحتاجه للراحة أو التأمل ..
وأنا أعانى إحساس المحاصرة :
ـ إذن ناقشنى فى الأفكار التى ستقولها ..
تهدج صوته بالانفعال :
ـ هذا ما سأفعله حين يصادفنى ما أحتاج لمعرفته ..
بدا لى أن العالم رتب أموره بدونى. لم يعد لدى ما أفعله سوى التأمل واستعادة الذكريات . مللت ما أحبه من أغنيات ، فأهملت سماعها . سئمت مشاهدة الأفلام التى وضعها فى الفيديو . فارقنى القلق والتوقع والتخمين . تنبهت لانشغال يدى بمسح زجاج المكتب بمنديل ورقى . رنوت ناحية الباب الموارب ، أتأكد إن كان أحداً قد رأى ما فعلت ..
قلت :
ـ أنت تأخذ قرارى ؟
ارتعشت أهدابه :
ـ أنا أحدس رأيك ..
غالبت نفسى فلا يبين ما أعانيه :
ـ ماذا أفعل أنا إذن ؟
ـ أنت تخطط وتشرف .. وأنا أنفذ ..
حدجته بنظرة تفتش عن معنى غائب :
ـ هذا لم يعد يحدث ..
حدثنى عما لم أكن أعرفه فى نفسى . أبتعد بنظراتى ، ولا أميل إلى المجتمعات ، ولا أصلح للخطابة ، أو التحدث فى اللقاءات العامة . لا يجتذبنى ما قد يثير الآخرين ، وأعانى التردد فى الاختيار ، وفى اتخاذ القرار ، والمجازفة ..
أومأت على ملاحظاته بالموافقة . لم أحاول السؤال ، أو مناقشة التصرفات التى جعلتنى ذلك الرجل فعلاً ..
أتابعه بنظرة ساكنة وهو يتحرك فى حجرات البيت . يرفع الصور واللوحات من أماكنها على الجدران. ينقلها إلى مواضع أخرى. لا يعنى حتى بأن يلمح ـ فى ملامحى ـ انعكاس ما يفعله . يبدى إشفاقه، فيغلبنى التأثر. يغادر الفندق ـ فى رحلاتى خارج البلاد ـ إلى الجولات الترفيهية، وزيارة أماكن السياحة والتسوق ..
لم أعد أعرف القرار الذى يجدر بى أن أتخذه ، ولا ما يجب عليه هو كذلك . اختلطت الرؤى ، وتشابكت ، فلا أعرف إلا أنه ينبغى أن أسلم نفسى للهدوء ، وما يشبه الاستسلام . أكتفى بالمتابعة الصامتة ، الساكنة . لا أفكر ، ولا أتكلم ، ولا أقدم على أى فعل . حتى التصور لم يعد يطرأ ببالى . أحمد أنيس وحده هو الذى يفعل كل شئ ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:11 AM
*إيقاعــــــــات*
.......................

خطرت الفكرة فى باله كالومضة . لم يكن ـ فى تلك اللحظة تحديداً ـ يفكر إلا فى اللقاءات التى تملأ أيامه الأربعة فى بيروت . محاضرتان ، وربما ثلاث ، فى اليوم الواحد ، وأحاديث فى وسائل الإعلام ، ولقاءات بمسئولين . لم يعد نفسه حتى لمجرد السير فى شارع الحمراء الذى يحب محاله ومقاهيه وصخب الحياة فيه ..
ومضت الفكرة . استعادها . أزمع أن يخضعها للمحاولة . إذا جاوز الإخفاق ، فهو يستعيد الثقة الغائبة . وإذا لقيت المحاولة صدوداً فعليه أن يظل السر مقيداً داخل حجرته بالفندق ، القيد نفسه الذى خلفه فى حجرته بالشقة المطلة على نيل الزمالك ..
قال الطبيب : التردد يؤدى إلى الحوادث . كان يقصد حوادث المرور ، لكنه لاحظ أن المعنى ينسحب على كل شئ ..
تحسس ـ بعفوية ـ موضع العملية الجراحية فى صدره . كيف يواجه النظرات المشفقة ، أو المشمئزة ؟
وبخ نفسه لأنه استدعى الفكرة ، وقلبها : يدعو المرأة إلى زيارته فى حجرته . يقضيان معاً وقتاً لم يستمتع بمثله من قبل ..
خادمة الغرف ؟!.
يفر من المشكلة الحقيقية ، فيثير مشكلات هو فى غنى عنها ..
قضى موظف الاستقبال على تردده : هل يقدم نفسه باسمه الحقيقى ، أو يخترع اسماً يختفى وراءه ؟..
طلب الموظف جواز السفر . تأمل البيانات ، وأودعه خانة مفتاح الحجرة :
ـ سنعيده عند نزولك ..
أضاف الموظف بلهجة مرحبة :
ـ عدد الأيام ؟
ـ ثلاثة أيام أو أربعة ..
ثم وهو يتكلف ابتسامة :
ـ مهمة عاجلة ..
استشرفت نفسه حياة غير التى يحياها . غلبته الحيرة ، فهو لا يقدر أن يفعل شيئاً . ما يؤلمه أنه لا يقوى على البوح . السر فى داخله ، لا يكشف عنه . يقاوم الرغبة فى أن يتكلم مع أحد ، يفض عما بنفسه ، يحكى ، ويحكى ، لا يسكت حتى يهدأ . قيمة الصمت أنه يخفى ما نعانيه . لو أن الملامح أظهرت ما فى النفس ، ما قدم من القاهرة . العجز معه يصحبه إلى أى مكان يقصده . ليس فى جسده ، وإنما فى مواجهة الظروف التى تواجهه ..
قالت فادية :
ـ ماجد يستهلك نفسه فى إظهار الغضب ، لكنه لا يؤذى ..
وعلت ضحكتها ، فاهتز صدرها :
ـ ماجد كائن مسالم ..
ينظر ـ فى استياء ـ إلى نظرتها المستخفة . تجيش مشاعره . يعلو صوته بما يمور فى داخله . يبدى رأيه ، ويعلن ما ينوى فعله . الابتسامة على شفتيها تزيد من إحساسه بالغضب . يغلبه ارتباك لا يفلح معه فى أن يقول شيئاً . يغمض عينيه . يروح فى عوالم يصعب عليه تبينها . خليط من المشاعر والذكريات والميل إلى الفضفضة . حتى المواقف التى لم تشغله فى وقتها ، ونسيها ، تستعيدها ذاكرته ، وتملأها ..
أهمل النصيحة بأن يلغى سفره إلى بيروت ، أو يؤجله . تحدث على عبيد عن اتساع حرب الميليشيات ، والقتل على الهوية . داخله شعور لم يستطع تفسيره . كأنه التحدى ، أو الرغبة فى المغامرة . تأكيد ما يطمئن إليه فى نفسه ، ولا يراه فى أعين الآخرين . حتى ضابط الجوازات فى مجمع التحرير لم يوقع بالموافقة إلا بعد أن دفع إليه على عبيد ببطاقة التوصية ..
أدار الولد النوبى الملامح مفتاح الحجرة ، ودفع جرار الشرفة الزجاجى . أطل من الطابق التاسع فى الفندق ذى الطوابق العشرة . فى أسفل طريق الكورنيش فى زاويته المطلة على صخرة الروشة ، كأنها ساقا عملاق فى قلب المياه ، وأكشاك الملابس والكاسيتات والطعام ، وعربات الفول والترمس والذرة متجاورة فوق الرصيف ، ويتقافز فى الزحام باعة الورد والفل والياسمين ، ومياه البحر تمتد إلى نهاية الأفق ، فوقها سماء صافية ، تتخللها سحب بيضاء ..
تأمل وجهه فى مرآة الحمام ..
التجاعيد دوائر أسفل العينين ، وحول الفم ، وتتباين مع شعره المصبوغ بالسواد ، والبشرة باهتة ، والوجنتان غائرتان ..
استعاد الفكرة فى وقوفه أمام المصعد . حرص على أن يتجه بنظراته ـ فور خروجه من المصعد ـ إلى الناحية المقابلة لكاونتر الاستقبال . يفطن الموظف إلى مكانته ، فلا يهبه الفرصة كى يلقى أسئلة ، أو يعرض خدمات . هو واحد من نزلاء الفندق ، لا شأن له بأحد ، ولا شأن للآخرين به . لكن : كيف يجد ما يطلبه ؟ كيف تنشأ العلاقة ؟..
لو أن موظف الاستقبال ، أو أى عامل فى الفندق ، فطن إلى ما أزمع فعله ، فستؤذيه الفضيحة بما لا يتصوره ..
لحقه صوت عادل :
ـ أريد نقوداً ..
اتجه ناحيته بنظرة غاضبة :
ـ أنا أنفق على البيت كله وليس عليك وحدك ..
ـ أردت أن تصبح أباً .. لذلك ثمنه ..
ثم وهو يطرقع أصابعه :
ـ أريد نقوداً ..
هز رأسه دلالة الرفض ..
قال عادل :
ـ إذا لم أحصل على ما أريد .. لن أضمن تصرفى ..
تفجرت فى داخله رغبة فى الشتم ، أو فى العراك :
ـ افعل ما تشاء !
وهو يزيح شهادات التقدير والأوسمة والميداليات عن الأرفف والجدران ، ويقذف بها من النافذة المطلة على بقايا بناية متهدمة :
ـ هذا ما أفعله ..
اكتفى بنظرة الذهول تملأ ملامحه . فكر فى أن يمنعه ، يصرخ فيه أو يدفعه أو يصفعه ، لكن العجز شل تفكيره وتصرفه . خشى تصرفاً لا يتوقعه . ماذا يفعل لو أن الولد رد إليه أذيته ؟!.. يصفعه ، فيرد عادل الصفعة بمثلها . ينتهى كل شئ . لا أبوة ، ولا بنوة ، ولا أسرة . لا أى شئ . يتمنى الموت ..
قال لنبرة الإشفاق فى قول على عبيد :
ـ أنت لا تعمل حساباً للمستقبل ..
ـ معى ما يكفى المستقبل ..
وتلكأت الكلمات :
ـ يهمنى أن أنفق ما أملكه فى حياتى ..
ثم وهو يصر على أضراسه :
ـ لا أريد أن يرثنى ابنى فى مليم واحد ..
ـ أعطاك الله العمر .. لكن الحرص على ألا يرثك عادل يثير التأمل ..
ـ لماذا ؟
يقلب الكلمات فى ذهنه ، فلا يجد إجابة محددة . يرفض لأنه يريد ذلك . ما معنى أن أعمل وأكسب ، ثم يرث أى أحد ما ضيعت العمر لتدبيره ؟. يجب أن يعلم عادل وفادية أنه قادر على اتخاذ القرار . أنا أرفض وأقبل وأمنع وأعطى . اتخذ قرارى بكل الثقة . أملى إرادتى . لا تشغلنى ردود الأفعال . ما أفعله هو حقى ..
اعتذر عن المرافقة بأنه يريد السير فى شوارع الكويت بمفرده . سأل عن السوق . استعاد التسمية :
ـ واجف ؟..
ـ إنها مجرد سوق شعبية ..
أهمل التحذير ، وسأل عن الطريق ..
مضى من ساحة الصفا . الأسقف الشبيهة بالقيساريات دفعت معظم المحال إلى إضاءة الداخل . غالبية البضائع قديمة ، أو مستعملة . فى الوسط طاولات خشبية ، فوقها ملابس نسائية ومفروشات وسجاجيد . استعاد زحام وكالة البلح ..
قال الرجل :
ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
ثم وهو يحدجه بنظرة تتوقع رد الفعل :
ـ سأعد لك وصفة لا تخيب !
غلبه الارتباك . أدرك أن الرجل خمن عكس ما يعانيه . قال :
ـ أنا لا أشكو ضعفاً ..
ابتسم الرجل بالحيرة :
ـ ماذا تشكو إذن ؟
كان يضايقه التقاط تلميحه بما يعانيه بمعنى لا يتغير . تقتصر الأحاديث على ما يضيف إلى حيويته . تقترن بالإيماءات والكلمات الملتفة بالغموض . ما يعانيه كائن فى داخله ، لا دخل له بمرض ، ولا يحتاج إلى شئ مما يشيرون عليه به . شئ لا يدرى مصدره ، وإن استقر فى داخله ، يثيره ، ويشقيه بالإحباط ، وبأنه غير قادر على التصرف ، وعاجز ..
قال البائع فى شارع الحبيب بورقيبة :
ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
أضاف وهو يقدم له حبة صغيرة :
ـ خذ هذه .. تجعل ما تعانيه من الماضى ..
وضع الحبة بين شفتيه . تبعها بجرعة ماء . تصاعد ـ فى اللحظات التالية ـ ما لم يخطر له ببال : خيالات ومشاهد ونشوة تقربه من الغيبوبة . سرى ما يشبه الخدر فى أعصابه . أغمض عينيه فى استسلام . تصور ـ بتأثير النشوة ـ أن أنفه طال ، فكاد يسد الطريق . أبطأ من خطواته حتى لا يصطدم بالمارة أو العربات . داهمه التوجس ، فعوج أنفه بأصابعه ليحقق انتظام المرور . خطر له أن يصرخ ، ويغنى ، ويرقص ، ويجرى إلى حيث تذهب به قدماه ..
عبر الطريق إلى الناحية المقابلة . استبدل البائع شرائط كثيرة حتى هز رأسه بالموافقة . الصوت الأنثوى يتغنى بالعلاقة منذ بداياتها . يتعمد المط والتلكؤ والبحة المتحشرجة والأنفاس اللاهثة . مالت الرءوس ، وتقاربت الأجساد ، وتعالت الهمسات الصاخبة ..
قال البائع وهو يقلب الشريط على الوجه الآخر :
ـ أثق أن هذا هو ما تريده ..
ابتسم للتعبيرات والتعليقات التى علقت على الدكاكين المجاورة للكاتدرائية بشارع الحبيب بورقيبة . دفع ـ فى زيارته الأخيرة إلى تونس ـ أربعة دولارات لكى يكتب له البائع أمنية على بطاقة مزينة بالورود . أطال التفكير فيما يتمناه لها . طلب البائع أن يترك العبارة ، الأمنية . استقبلته بما اعتاد من الجفاء ، فلم يتذكر البطاقة إلا عندما فتشت فى جيوبه ، قبل أن يبعث البدلة إلى المغسلة ..
نسى حتى ما قدم من أجله إلى بيروت وهو يجلس فى كازينو لبنان ينصت إلى المغنية الصغيرة ، الممتلئة ، تردد أغنية فيروز : باحبك يا لبنان . وثمة آلاف النقاط الضوئية تفترش مساحات السواد فوق الجبل . حرص على تناول ما يميز الطعام اللبنانى : الكبة والتبولة والفتوش والحمص بالطحينة واللحم بالجبن وورق العنب والمحاشى والمتبلات . حتى الحلويات ـ رغم الضغط والسكر ـ أكل البقلاوة والقطائف وعيش السراية والعثمانلية وزنود الست ..
عانى كثرة الحواجز على مفارق الطرق . مدرعات ، وسيارات جيب ، وبزات عسكرية ذات ألوان متباينة . والميكروفونات يتعالى منها التعليمات والأوامر ، والشعارات مكتوبة بالبويات الملونة والطباشير ، تملأ الحوائط ، وأسفلت الطريق ، وأبواب الدكاكين المغلقة ، وسواتر البنايات المتهدمة ، والملصقات على الجدران ، ولافتات القماش تصل ما بين أعمدة النور فى تقاطعات الشوارع ، تؤيد وتستنكر وتحيى وتبايع وتبشر بالخلاص ، وصور الزعماء والقادة معلقة على النوافذ والمشربيات ، والأعلام التى تنتمى إلى تنظيمات يسمع عنها ، أو لا يعرفها . أذهله الدمار فى وسط بيروت : سوق الطويلة ، وباب إدريس ، وساحة البرج . البنايات المتهدمة ، وفجوات الصواريخ ، وثقوب الرصاص ..
أشار سائق التاكسى إلى النافذة التى كان يقف وراءها وبيده بندقية يصعد بها إلى من يحدده التلسكوب . لم يعد القتل على الهوية ، ولا بعد إلقاء الأسئلة . من يجرى بسرعة ، أو يمشى ببطء ، أو يتلفت ، يصوب عليه دون أن يتلقى أمراً ، أو يعطى إنذاراً ..
استعاد التسمية :
ـ قبرص ؟
أعاد فاروق معوض القول :
ـ قربص .. وهى غير قبرص ..
ثم بلهجة محرضة :
ـ بها نبع ماء ساخن يتدفق من الصخر . لو أنك أكثرت من الغطس فيها فالنتيجة مؤكدة ..
أشفق من الارتفاع الهائل الذي بلغته السيارة على الطريق الصاعدة . بدا الوادى فى أسفل مفروشاً بالخضرة ، تنتهي بالشريط الساحلي . الجبل الصاعد المتعرج نفسه ، ارتقته السيارة فى قريات ، وإن تسربل الجبل العمانى بالصخور والوحشة ، واختلطت ـ فى الوادى ـ مساحات الصخور والرمال وبقع الخضرة القليلة ..
المياه تجرى ، ساخنة ، إلى الدائرة الحجرية المتصلة بالبحر . تبلغ مستوى الركبة . تظل السخونة على ارتفاعها إلى خارج الدائرة ، ,على عشرات الأمتار فى اختلاطها بموج البحر ..
ـ من أين تأتى هذه العين ؟
ـ من الصخور . البداية لا يعرفها أحد ، لكنها تنبثق من الصخور ..
دلى قدميه فى مياه الدائرة الحجرية . لسعته السخونة فرفعها . تشجع عندما أبقت الفتاة قدمها فى الماء . دلى قدميه ، وتحمل الحرارة ..
تنبه على صيحة أربكته . كان الشاب ذو الأفرول الكاكى يتفحصه بنظرة مرتابة :
ـ ماذا تريد ؟
أدرك أنه أكثر من التلفت فيما يثير التأمل والأسئلة . غالب إحساسه بالارتباك :
ـ أنا أتنزه ..
وهو يزغده بكعب البندقية فى جنبه :
ـ تتنزه فى منطقة عسكرية ؟
المناطق متشابهة : الحواجز والمتاريس واللافتات والشعارات والميلشيات العسكرية ..
تعمد ألا يواجهه بعينيه . يخشى أن يلمح التخاذل فى نظرته :
ـ لم أكن أعرف ..
لم يعد قادراً على الفهم ، ولا الاستيعاب ، ولا التصرف . ثمة شئ ينقصه ، وإن لم يدركه على وجه التحديد . عانى ما يشبه شلل الإرادة . اختلطت الرؤى ، والخيالات ، والأصوات التى يغيب مصدرها ..
أعاد الشاب دفعه بكعب البندقية . تأوه وسقط . واصل الشاب دفعه وهو يزحف . اعتمد على راحتيه وركبتيه ، حتى توقفت الضربات ، وانحسر ظل الشاب . زم شفتيه ، وإن ظل على تألمه ، وهو يرقب الشاب مبتعداً ، فى وقفته المنعزلة وسط الميدان الصغير ..
كان ذهنه قد خلا من كل شئ .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:12 AM
*مامــــادو*
.................

ـ 1 ـ
أظهرت الدهشة ، وإن لم أعترض ، على أن يصحبنى الولد فى جولاتى داخل موريتانيا . فى حوالى الثانية عشرة ، قامته طويلة ، لا تتسق مع الطفولة البادية فى ملامحه . تلتمع عيناه الواسعتان فى بشرته السوداء ، وتعلو شفتيه ابتسامة دائمة . ترك لى وزير الزراعة أن أزور مناطق التصحر ، وأسجل ملاحظاتى .
قال أرنستو مدير فندق مرحبا :
ـ مامادو صغير .. لكنه يعرف الأمكنة جيداً ..
أفسحت له مكاناً فى السيارة إلى جوارى ، وانطلقت ..

ـ 2 ـ
كنت قد وضعت فى حقيبة السيارة الجيب صندوقين ملأتهما بطعام وماء وأدوية ، وما تصورت أنى سأحتاجه فى الرحلة ..
ما كادت السيارة تخلف البيوت القليلة ، المتناثرة ، وراءنا ، حتى طالعتنا الصحراء بآفاق من كل الجوانب . ليس ثمة ما يشى بحياة . لا أشجار ، ولا زراعة ، ولا بيوت ، ولا أكواخ . حتى الرمال تكونت فوقها طبقات كلسية ..
قال مامادو :
ـ كنت أمر فى هذه المنطقة قبل أن يتوقف المطر ..
ثم وهو يفرد ذراعيه :
ـ كانت الخضرة مفروشة على الجانبين .. ترعى فيها النوق والبقر والغنم ..
أهمل مامادو الالتفات من النافذة . أسند رأسه إلى الكرسى ، وأغمض عينيه ..
على الجانب الأيمن من الطريق تلال صخرية ، صغيرة ، وكثبان رملية ، ومن حولنا مساحات الأراضى القاحلة ، وألق السراب فى مدى الأفق ..
تنبه على تغير صوت المحرك ، وتباطؤ سرعة السيارة . اعتدل فى جلسته ، وقال دون أن يلتفت:
ـ قرية سيدى التيجانى ..
اتجهت إليه بنظرة متسائلة :
ـ هل زرت المكان من قبل ؟
ـ السنيور أرنستو جعلنى مرافقاً لكثيرين .. جاءوا للسياحة ، أو لأبحاث أخرى غير سقوط المطر ..
استطرد دون أن ينتظر رداً :
ـ قال لى السنيور أرنستو إنك تدرس أسباب عدم سقوط المطر ..
الخيمة من نسيج متقاطع الألوان ، وإن غلب عليه اللون الأخضر . على أعمدة تشدها أوتاد . سقفها لا يأذن بالوقوف ، فالداخل لابد أن يميل برأسه ، حتى يجلس على وسادة من المتجاورة فى نصف دائرة ..
بدا الرجل فى حوالى الستين . أضافت الدراعة الفضفاضة إلى امتلاء جسده ، وشعره المهوش ، وعينيه النفاذتين ، والشارب المختلط السواد والبياض المنسدل على جانبى فمه ، واللحية المخضبة بحناء شديدة الحمرة ..
حدثت الرجل عن المهمة التى أوفدتنى إليها منظمة الأغذية والزراعة . أهملت كلمات التصحر ، والجدب ، والجفاف ، وشح الموارد ، وغيرها مما قد يصرفه عن المتابعة . نصحنى أرنستو أن ألجأ إلى الرجل . يعرف الطريق ، ومواضع الآبار والعيون ، حتى التى أهملت ، واحتمالات الخطر ..
أشار إلى ثلاثة رجال لمرافقتى ..
قلت :
ـ هذه جولة أولى .. يكفى أن يصحبنى مامادو ..
لاحظ مامادو نظرتى الرافضة للوعاء المستدير فى حجم التصاق قبضتى اليد . قصعة بها الزريق الرائب ، أو المذق ، شراب محلى يتكون من اللبن والحساء ، مضافاً إليهما السكر . يدور على الحضور . يرتشف كل واحد ما يبل ريقه ..
لكزنى فى جنبى :
ـ لا ترفض !.. فهم سريعو التأثر ..
وشد قامته ليقارب أّذنى بفمه :
ـ التعلل بمغص البطن عذر مقبول ..
وقال لى ونحن نعود إلى الخلاء :
ـ مغص البطن يصيب الجميع ..
دارت أكواب الأتاى ـ نوع من الشاى الأخضر ـ فشربتها . ثم تنقل عجوز أسود البشرة بمبخرة فوق الرءوس ، يتضوع منها رائحة لم أستطع تبينها ، وإن غلب عليها أريج المسك ..
قلت وأنا أتململ فى جلستى :
ـ المثل يقول : بعد العود لا تعود ..
وأومأت إلى مامادو :
ـ أظن أنه حان وقت انصرافنا ..
اتجهنا ناحية الجنوب الغربى . آفاق الصحراء من كل جانب . الأرض مشققة ، رمادية ، لا هى حمراء ولا سوداء ، لكنها رمادية بلون التراب . لا آبار ولا عشب ، ولا أثر لنبات أو زرع ، ولا مواضع ظل . وكنت أبطئ ـ أحياناً ـ لوعورة الطريق ..
لاحظ مامادو دهشتى من الهياكل العظمية لحيوانات تناثرت فى مساحات الأرض الخلاء ، تبين عن المعاناة التى افترستها قبل أن تموت . تحللت تماماً . لم يعد إلا هياكل بلا رائحة . تلاشت الرائحة فى أشعة الشمس ..
قال :
ـ كان الجفاف قاسياً هذا العام ..
أدركت أن الحياة كانت موجودة فى الخرائب منذ فترة قصيرة . تشى بذلك النفايات وبقايا الخزف والزجاج وقطع الحديد والأخشاب والأعشاب والحشائش المتناثرة والأشجار البرية الخالية من الأوراق . وثمة نسور تحلق ـ متباعدة ـ فوقنا . خمنت أنها تسعى إلى رائحة دماء فى موضع قريب ..
ـ ألا توجد عين ماء قريبة ؟
ـ يوجد أكثر من واحدة ، لكن الرمال غطتها ..
تكلم عن انحسار مياه البحيرات عن الشواطئ ، وابتلاع الرمال للقرى والأكواخ والأشجار والمزروعات ..
وأنا أزيد ـ بتلقائية ـ من سرعة السيارة :
ـ إذن نعيد حفرها ..

ـ 3 ـ
ألفت الطرقات الخافتة على حجرتى فى الفندق . يطالعنى مامادو بقامته الطويلة , وشعره الأكرت ، وبشرته السوداء ، وعينيه الواسعتين ..
يدير جهاز التليفزيون ، أو يلتقط ثمرة فاكهة من فوق الطاولة ، أو يتصفح المجلات الفرنسية ، أو يطل من وراء النافذة الزجاجية على حركة المرور المتلكئة ، وتداخل الأسفلت والتراب فى شارع جمال عبد الناصر ، ومكتب البريد المواجه ، والبيوت التى لا تعلو عن طابقين ، والشارع المفضى إلى القصر الجمهورى ..
يلحظ لملمتى للأوراق . يسبقنى إلى الباب :
ـ أين نذهب ؟
ألجأ إلى النوتة الصغيرة فى يدى ، وأذكر اسم المكان الذى أقصده ..

ـ 4 ـ
لم يعد إلا الصحراء ، والشمس ، والق السراب فى المدى . كأنى أخترق خيمة هائلة من الحرارة القاسية . الصهد يتكثف ، يتصاعد من الهواء الساخن . الأشعة الحارقة صبغت الأرض بالحمرة ، وإن تصاعدت شرائط متناثرة من النباتات والأعشاب بين التلال الحجرية ، والرملية ، المتلاصقة : كيف تنمو فى هذه الحرارة الملتهبة ؟
طالعتنا ـ فى نهاية الصحراء ـ بنايات صغيرة ، وأكواخ من الخشب والصاج ، وخيام ..
قلت :
ـ هل تعرف السكان ؟
ـ لا . إنهم مجرد رعاة ، لا يعملون ..
وأشار إلى الناحية المقابلة :
ـ مدينة روسو . على الضفة الشمالية لنهر السنغال ..
شدنى اللثام على وجه الرجل يقف فى جانب الطريق . بادلنى النظرات ، وإن لم نتبادل الكلام ، ولا حتى إيماءة تحية ، ثم مضى ناحية النهر القريب ..
قال مامادو لفضولى الواضح :
ـ إنه طارقى ..
وتحول الفضول دهشة ، فقال :
ـ يعنى من الطوارق .. ألم تسمع عنهم ؟
كنت قد التقيت ـ فى الأيام السابقة ـ بطوارق كثيرين ، على أقدامهم ، أو يمتطون الجياد . يخفى اللثام الوجه تماماً ، فيما عدا العينين . خمنت أن الناس اعتادوا رؤيتهم على هذه الهيئة ، فهم لا يتطلعون إليهم كما أتطلع . يظهرون ويختفون ، دون أن يتحدثوا إلا مع بعضهم ، كأن الآخرين ليسوا هنا ، كأن الأرض خلت إلا منهم . ربما وقفوا لشراء احتياجاتهم ، كلمات قليلة مع البائع ، لا أفهمها جيداً ، أو لا أفهمها على الإطلاق ، ثم يحملون ما اشتروه ، وينصرفون ..
لاحظ مامادو تأملى للقوارب التى تحمل الناس والأشياء بين الضفتين ، والأشجار المتكاثفة كغابة فى الضفة المقابلة . أشار بيده :
ـ أنا من هناك ..
ـ من السنغال ..
هز رأسه بما يعنى الإيجاب ..
قلت :
ـ ألم تولد فى موريتانيا ؟
ـ أبى عربى .. من قرية على نهر السنغال
ـ أين أبوك ؟
ـ لم أعد أراه ..
ثم وهو يتلفت حوله بنظرة غير مستقرة :
ـ أنا بلا أسرة ..
ـ والأسرة التى اشترتك ..
ـ رحب بى السنيور أرنستو عندما جئت من أكجوجيت ..
ودلك أنفه بعصبية :
ـ هى المدينة التى جئت منها .. كنت عبداً لأسرة من البطارين ..
استعدت التسمية :
ـ البطارين ؟
ـ إنهم يعملون بالتجارة ..
وعلا صوته بضحكة منفعلة :
ـ صاحبى أعطانى حريتى ، ولا شأن لأحد بى ..
ـ لماذا ؟
ـ بسبب اختفاء المطر ..
كان يعبر نهر السنغال ـ بالقارب ـ إلى الضفة الأخرى . لا تأشيرات ، ولا جوازات . يقضى اليوم فى أعمال الزراعة ، ثم يعود . يساعده أنه تعلم الفرنسية من مرافقته لنزلاء فندق مرحبا .. لما تزايدت أعداد العابرين للنهر من الشمال إلى الجنوب ، ضاقت فرصة العمل ، فظل فى الفندق ..

ـ 5 ـ
ارتجفت عيناه . حدست أنه يريد أن يقول شيئاً . فاجأنى بالقول :
ـ هل تريدنى عندك ؟
اللهجة دغمت الكلمات ، ففهمتها بصعوبة ..
وشى صوته بتأثره :
ـ لا أريد نقوداً .. أعمل بطعامى ..
تمعنت فى وجهه ، أتبين ما إذا كان يعنى ما قاله :
ـ كما تعلم فأنا غريب .. وسأعود إلى بلدى ..
رنا نحوى بنظرة مستغيثة :
ـ خذنى معك ..
ـ كيف ؟
وهززت رأسى فى حيرة :
ـ سفرك معى يحتاج إلى إجراءات معقدة ..
ـ إذا انتقل العبد إلى سيد جديد فهو يغير اسمه ..
ثم وهو يظهر التهوين :
ـ هذا حقك ..
ـ ألا تريد أن تظل حراً ؟
ـ أريد أن أعمل لأعيش ..
وتنهد :
ـ مع سادتى لم أكن أعانى هم العيش ..
ولجأ إلى التعبير بيديه :
ـ كنت أعمل .. وكانوا هم يدبرون كل شئ ..
ثم وهو يربت صدره براحته :
ـ صحتى تهمه ليسهل بيعى !
ـ لماذا لا تعود إلى السنغال ؟
ـ الحراتين عرب وليسوا زنوجاً ..
وعض شفته السفلى ، يحاول كتم مشاعره :
ـ السنيور أرنستو يأذن لى بالنوم فى مطبخ الفندق .. ويعرفنى بالزوار لأنفق على نفسى ..


ـ 6 ـ
قال لى أرنستو :
ـ ما أثق فيه أن سادة مامادو تنازلوا عنه ، ولم تساعده جمعية ما على الهرب ..
أردف لنظرة الدهشة المتسائلة :
ـ فى البلاد جمعيات سرية تساعد العبيد على الفرار من سادتهم ..
ثم وهو يهز رأسه :
ـ مهمة ليست سهلة كما قد تتصور . من الصعب على العبد الهارب ـ أو حتى المحرر ـ أن يجد عملاً ..
وأشار ـ بامتداد ذراعه ـ إلى موضع لا أتبينه :
ـ الرق فى موريتانيا يعود إلى التقاليد القديمة ..
وارتعشت أصابعه بالسيجارة :
ـ من الصعب أن يزول تقليد مضى عليه مئات السنين ..
واستطرد فى تنبه :
ـ أعرف أصدقاء من كبار المسئولين يملكون مئات العبيد ..
حدثنى أرنستو عن الحراتين ـ مفردها حرتانى ـ كانوا أرقاء ، ثم حرروا . يتحدثون بالعربية وحدها ، يعتبرون أنفسهم عرباً . هم بيضان وليسوا زنوجاً ، رغم سواد البشرة ، ورغم أنهم ظلوا عبيداً لمن يصرون على انتمائهم إليهم ، وحدثنى عن السوق السوداء فى شراء الجوارى والعبيد ، موازية للأسواق العلنية ، القائمة ، فى مدن الداخل . العبد يعمل فى تربية الجمال والماعز ، وفى الحقول ، ومناجم الفحم والنحاس ، ويعتنى ببيوت الأسياد وخيامهم ..
كان الصباح قد بدل نسمات الليل القادمة من المحيط ، بحرارة لاهبة ، فتبدل الجو تماماً ..


ـ 7 ـ
طال توقعى لطرقات مامادو على باب الحجرة ..
انطلقت ـ بالتوقع ـ ناحية الجنوب ..
كان الولد ـ على الضفة المقابلة من النهر ـ يتقافز فى مكانه ، ويلوح لى بيده ..
أعدت التحديق .
تأكدت أنه مامادو .
لوحت له أدعوه للعودة ..
رفع صوته بما لم أتبينه ، وإن حدست أنه سيظل حيث هو .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:12 AM
*الجســـــــر*
...................

(إلى مريد البرغوثى .. تحية له ، ولرام الله)

حين دخلت المقهى المطل على الميدان ، فلأنه بدا أقرب الأماكن إلى الجسر ، ولأنى كنت أريد أن أستعيد ما حدث .
التفت ـ بعفوية ـ ورائى ، قبل أن أخطو داخل الجسر ، يسبقنى ويتبعنى العشرات . رجال ونساء وأطفال . يحملون الحقائب والأكياس ، أو يكتفون بحافظة ورق . يصدر عن وطء أقدامهم لخشب الجسر تلاغط طقطقة . أعرف أن المئات يعبرون الجسر كل يوم . عمان هى الترانزيت ، ميناء العبور من مدن المنفى وإليها . أحاذر فى خطواتى . الطقطقة المنبعثة من تحت القدمين تشى بقرب سقوطه ..
لم أتبين من تقارب السحن والملابس ، وحتى اللغة العربية التى كان يتحدث بها الجميع ، من هم منا ، ومن هم من الإسرائيليين . شردت فى روايات أبى ، ونحن نجلس فى الشرفة المطلة على المنتزة ، عن جيرته لأسرة يهودية فى حى الظاهر ، أعوام دراسته فى القاهرة . فضلت أن ألوذ بالصمت والانطواء . لا أتكلم إلا إجابة عن سؤال ..
قدمت أوراق أمنا وأوراقى إلى الضابط الإسرائيلى من كوة النافذة الزجاجية . أشار بيده إلى صفوف الكراسى فى الصالة المستطيلة . تنبهت من الشرود الذى أخذنى على النداء باسم أمنا ، واسمى . دفع الضابط بالأوراق من وراء الكوة :
ـ المرأة تدخل ..
ونقر بإصبعه على بقية الأوراق ..
ـ حاتم عبد الهادي .. لا يوجد تصريح بالدخول ..
دنوت ـ بعفوية ـ من الكوة الصغيرة :
ـ أرجو أن تتأكد .. أنا من مواطنى رام الله ..
دون أن يزايل هدوءه :
ـ أنقل عن الأوراق وليس عن مزاجى ..
غلبنى الارتباك . لم أعرف من ينبغى أن أتجه إليه ، فتكلمت إلى كل من أنصت لى . غلبنى اليأس ، فحاولت أن أتجنب الوداع الذى لم أكن أعددت له نفسى ..
أومأت أمى إلى رأسها ، فحملت الحقيبة ، ووضعتها عليه . أشفقت لاهتزاز جسدها تحت ثقل الحقيبة ..
حتى لا تتقابل عينانا ، تظاهرت بمتابعة الحركة فى نهاية الجسر . لم أكد أتابع سيرها البطىء ، حتى التفتت بكل جسدها ، كأنها حدست أنى أحتضنها بنظرتى ..
لوحت بيدى ، فى مغالبة للارتباك ، وابتعدت ..
ـ غريب أننا نستطيع لم شملنا فى باريس ، ولا نستطيع ذلك فى فلسطين ..
كانت هذه المرة الأولى التى تغادر فيها أمنا رام الله . لم تغادرها حتى أيام الاحتلال ، ولا أيام السلطة الوطنية ..
تصفح الضابط الإسرائيلى طلب التصريح لها بالخروج من رام الله . واتته الرغبة فى الدعابة . قال :
ـ تريدين الالتقاء بأولادك فى باريس .. لماذا لا تقيمين هناك . إنها مدينة جميلة ..
اكتفت أمنا بالقول :
ـ رام الله أجمل !
ربتت كتفها :
ـ لا شئ يظل على حاله ..
سافرت مع أمى من رام الله إلى عمان . سافر خالد من القاهرة . كنت ـ أنت ـ تنتظرنا فى باريس ..
تنبهت إلى موضعك خارج مبنى المطار من صيحة أمنا :
ـ نايف ..
قلت وأنا أدفع إليك بالكيس البلاستيك :
ـ هذه زجاجة زيت زيتون ..
واحتضنت كتفك :
ـ أردت أن أذكرك بزيتون رام الله ..
التمعت عيناك بومضة حزينة :
ـ هل تغيب رام الله عن بالى فأحاول تذكرها ؟
وعلا صوتك بالانفعال :
ـ أنا هنا أفتقد حتى الحجر الأبيض الذى بنيت منه رام الله ..
قال خالد :
ـ الطمى فى حياة المصريين من قبل أن يعيشوا فى الوادى .. لكنهم ـ فى الأزمنة القديمة ـ فضلوا أن يشيدوا البيوت والمقابر بالحجر وليس بالطوب اللبن ..
استعدت نظرتى إلى البنايات المقابلة :
ـ لماذا اخترت الإقامة فى هذا الشارع الخلفى ؟
ـ لرخص الشقة النسبى ، ولأن البيت قريب من الحى الذى يقيم فيه العرب ..
ثم وأنت تشير بامتداد ذراعك :
ـ على بعد أقل من مائتى متر يوجد المسجد ومحال الأطعمة المغربية ومقهى أم كلثوم والمقاهى التى يتردد عليها العرب ..
تحدثت عن حرصك ـ فى أيام إقامتك الأولى ـ على الانتقال بالمترو . شبكته الهائلة تغطى قلب باريس وضواحيها . وضعت خريطة المترو فى جيبك ، وتنقلت بين المترو الأحمر والمترو الأزرق . تجد نفسك فى المكان الذى تقصده . سافرت للعمل فى جمع العنب . كان الجليد قد حرق المحصول فى 1974 . تجولت ـ بلا عمل ـ فى المدينة . مضيت إلى الأماكن التى تقصدها من أسهم تشير إلى مسار الاتجاهات . الشوارع الواسعة ، والبنايات ذات المقرنصات والنقوش ، وتماثيل الميادين ، وأشجار المارون والبلانتين والكستناء ، وتنقل خطواتك فى الشانزلزيه وساحة الباستيل وأمام الأوبرا واللوفر وقوس النصر وعلى شاطئ السين ، ومربعات البازلت أمام كاتدرائية نوتردام . تتأمل الجداريات المنحوتة والتماثيل التى تتخلل البناء . لم تعد تخشى حتى الشرود ، أو الابتعاد عن المحطة ، أو فقدان الطريق . تعود بالمترو المقابل إلى محطة البداية . تلجأ إلى مكاتب الاستعلامات داخل المحطة ، أو تسأل رجال الشرطة بالإنجليزية . تتلقى الإجابة باللغة نفسها ..
قال خالد :
ـ المشكلة أن الفرنسيين الذين نطلب إرشادهم لا يتحدثون إلا الفرنسية ..
هززت إصبعك فى الهواء :
ـ قد يعرف الفرنسى لغة أخرى .. لكنه يعتز بلغته ..
ثم وأنت تومئ إلى المدى خارج النافذة :
ـ إذا تعرفت إلى الأماكن على الخريطة جيداً فلن تحتاج إلى من تسأله ..
ورسمت على شفتيك ابتسامة مهونة :
ـ من الصعب على المرء أن يتوه فى باريس حتى لو قرر هو نفسه ذلك . يكفى أن ينظر ـ على النواصى ـ إلى الشوارع ومحطات المترو ..
أضاف خالد ملاحظة عن سهولة الإجراءات فى مطار أورلى . سريعة ، ولا تحتاج إلى الكثير من الكلام . يقدرون ـ ربما ـ أن السياح والزوار قد لا يعرفون الفرنسية . يلغون توقع الارتباك بوضع كلمات بالإنجليزية فى بطاقة الدخول . دقائق قليلة كان يقف ـ والحقيبتان فى يده ـ أمام باب المطار ..
قلت :
ـ تابع سائق التاكسى كلامنا ..
وأشرت إلى أمنا :
ـ تكلم بالعربية .. عرفنا أنه جزائرى ..
أمنت بهزة من رأسك :
ـ عدد كبير من سائقى التاكسى جزائريون ومغاربة ..
وأشحت بيدك :
ـ إذا كنا نعانى الاحتلال ، فالكثير من العرب يعانون استبداد الأنظمة ..
وأنا أتأمل الشعرات البيضاء التى تسللت إلى مقدمة رأسك وفوديك :
ـ يستطيعون العودة إلى بلادهم .. تظل أوطانهم .. أما نحن فالأمر يختلف ..
تحدثت عن حبك للخضرة . ذلك ما ألفته فى رام الله . وضعت فى قلب السور المعدنى المتوازى أصصاً فخارية ، بها زهور وورود ونباتات تدلت أوراقها على الجدار . يهمك أن تطل ـ فى أى وقت ـ على الخضرة التى تفتقدها . ليست الخضرة المترامية فى أرض رام الله ، لكنها تذكرك بها . أحدس النشوة فى انفراج شفتيك عن أسماء الأحياء والشوارع والبنايات : البيرة ، المقاطعة ، ميدان المنارة ، شارع الإرسال ، شارع القدس ، قرية سردة ، مبنى المحافظة ، كنيسة الله ، جامع العين ، المكتبة ، مقر الرئيس عرفات ، حى المسيون ، تماثيل الأسود الأربعة المنحوتة فى حجر الورد ، جامعة بير زيت ، رام الله القديمة ، تلال جبال القدس ..
حذرك الساكن فى شقة البناية المقابلة من أنه سيلجأ إلى الشرطة إذا لم ترفع أحواض الزرع من فوق كورنيش الشرفة ..
ـ لاحظ أنها توسخ واجهة البناية ..
وتداخلت فى صوتك دهشة :
ـ المهم أنه يسكن فى بناية أخرى ..
ثم بصوت هامس :
ـ رفعت الأحواض حتى لا تتدخل الشرطة ..
وأشرت إلى المدى خارج النافذة :
ـ فى أيام الآحاد أزور فونتناليه على بعد 50 كيلو متراً عن باريس .. أحاول تعويض غياب خضرة رام الله ..
قال خالد إن ألفة المكان لا معنى لها فى حياته . تنقل بين الكثير من المدن والشقق والفنادق . قبل أن يتم تعرفه إلى المفردات ، ينتقل إلى ما لم يكن أعد له نفسه ، باختياره ، أو بانتهاء الإقامة ، أو بإنهاء تصريح إقامته . يعتنى بما فى الحقائب أكثر من عنايته بما فى الأدراج . الحقائب تسعفه وقت الرحيل الذى ربما يكون مفاجئاً . أما الأثاث فيظل فى موضعه . اختلطت نوعيات الأثاث ، وألوانه ، وعدد الغرف ، وسحن الجيران ، والأماكن التى تطل عليها . تعرف إلى المئات فى المنافى . زهقوا من الخيام وعشش الصفيح واستمارات هيئة الإغاثة . أخذتهم القبور والمعتقلات والمدن القريبة والبعيدة ..
ـ أنت تشاهد أفلاماً كثيرة فى قناة الدراما .. تختلط فى ذهنك الأحداث ، فتعجز عن تذكر أي فيلم !
تكلم عن ظروف وفاة والدنا . كانا بمفردهما فى الشقة المطلة على ميدان الجيش . أسند رأسه إلى يديه ، ثم سقط الرأس واليدين ، وتهاوى الجسد كله ..
أدرك أن شيئاً ما يهدد أبانا بالخطر ، شيئاً لا يستطيع أن يلمسه ، أو يراه ، وإن بدت أنفاسه قريبة . خمن أنه يعانى غيبوبة السكر . استغاث بالجيران والإسعاف ، لكن الحياة كانت فارقته ..
غالبت أمى تأثرها :
ـ ثانى مرة يفارقنى فى زواج أربعين سنة ..
ثم وهى تغالب النشيج :
ـ أصر على أن يقضى رمضان فى القاهرة ..
التمعت عيناك :
ـ أجله !..
قالت أمى فى تأثرها :
ـ يؤلمنى أنى لم أكن معه ، ولم أودعه ..
قال خالد :
ـ شعبنا كله فى قوائم الموتى الأحياء ..
ثم وهو يهز المسبحة الصغيرة بأصابعه :
ـ الموت فى ظروفنا روتين ..
أضاف لنظرتى المتأملة إلى المسبحة فى يده :
ـ لم تفارقنى منذ اشتريتها من خان الخليلى ..
وهرش رأسه بطرف إصبعه :
ـ من الأشياء القليلة التى اخترتها بذوقى ..
تكلم عن الزيارات التى يجريها ـ عبر أسلاك التليفون ـ تناقش التقدم الدراسى ، والمشكلات الصحية ، وظروف الإقامة ، والهجرة إلى المنافى ، ومشروعات الزواج والطلاق ، ونبرات الحنين والشوق واللوم والعتاب والأسى والخوف والسأم والملل ..
تكلف ابتسامة :
ـ أظن أن مخترع التليفون كان يتنبأ بحاجة الفلسطينيين إليه بعد أن يشردوا فى الأرض !
اتجهت ناحيتى بنظرة متسائلة :
ـ حاتم .. ما أخبار رام الله ؟
قلت :
ـ مدينة تحت الاحتلال !
ـ ماذا تفعل السلطة الفلسطينية ؟ ..
ـ الحدود إسرائيلية والعملة إسرائيلية والجوازات كذلك ..
ثم وأنا أظهر التململ :
ـ كل شئ يخضع لسلطة الاحتلال !
غابت أمى فى زحام الناحية الأخرى من الجسر . حملت الحقيبة ، وملت ناحية الضفة الشرقية . طالعتنى تقاطعات الشوارع والميادين وزحام المارة والسيارات . جلست على أول مقهى صادفته . أستعيد ما حدث . التفت ـ بعفوية ـ إلى رام الله الممتدة أمامى . البيوت المسقوفة بالقرميد ، المتدرجة على الجبل ، تتوسط مساحات الخضرة ، والشوارع المسفلته العريضة ، والشوارع الترابية ، والجبال ، والكهوف الصخرية ، والشعاب ، وحقول الزيتون وكرم العنب والتين واللوز والمشمش ، والتلال الخضر الممتدة إلى أفق البحر ، والقرى الصغيرة فوق رءوس التلال ..
تلاشى التوقع ، وما يجدر بى أن أفعله . اجتذبتنى الحيرة : لا أدرى إن كنت سأبعث هذه الكلمات إليك ، وما عنوان المرسل الذى يجب أن أكتبه على مظروف الرسالة ، أو أتصل بأمنا فى رام الله ، أو بنايف فى القاهرة ؟
اتجهت نظرتى إلى الجانب المقابل . تلال عمان السبعة ، والمخيمات . بدت طريقاً وحيدة ..
لعل المشاركة تدلنى على خطواتى التالية ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:13 AM
*فــــــــــراق*
......................

فاجأتنا الفتاة بنفخ الكيس الورقى الملون ، الصغير . استطال فى لولبية ، وأحدث صفيراً ، وتقلص ..
قال محيى معوض :
ـ إنها تعاكسنا ..
هززت رأسى فى عدم فهم . خمنت من حوارنا الهامس اختلافنا فى معنى تصرفها . أعادت نفخ الكيس ، فاستطال ، وأحدث صفيراً ، وتقلص ، ثم غمزت بجانب عينها ، وواصلت السير ..
فتحت أمامنا عالماً مجهولاً من المغامرة : الفضول ، والتوقع ، والرغبة فى الاكتشاف ، والدهشة ..
عانى الباص زحام الطريق ، فقال محيى معوض :
ـ أثق أن السير فى هذا الزحام أفضل من ركوب الباص ..
التصقنا فى مواجهة الزحام ، ولجأنا ـ لمغالبة الضوضاء ـ إلى إشارات الأيدى والأعين ، وإيماءات الرأس ..
تركنا لأقدامنا سبيلها فى الشوارع المتوازية ، والمتقاطعة . نخلى أعيننا للمشاهدة والتأمل . نتعرف على السحن والبنايات والأسواق واللافتات والإعلانات والمطاعم والمقاهى وعازفى الأكورديون وراسمى البورتريهات على الجدران والسيارات واقفة على جانبى الأرصفة ، معظمها فيات . تلتقط العين كل ما تراه . تودعه الذاكرة . ما نراه ربما لن نعود إليه ثانية . أحتفظ بعنوان الفندق فى جيبى لأعود إليه إن تاهت خطواتنا . أزمعنا تأجيل الإحساس بالتعب حتى نعود إلى القاهرة . نعوض ما فات بالبقاء فى البيت يوماً كاملاً أو يومين ..
بدت البيوت والشوارع ـ ربما لأنى أسير فيها للمرة الأولى ـ متشابهة . بنايات عالية ومتوسطة الارتفاع وأبراج كنائس ومساحات خلاء ومقاهى ومحطات أوتوبيس وترام وأفيشات أفلام ومسرحيات وبضائع ودعاية انتخابية ..
واجهت الحيرة فى الأيام الأولى لالتحاقى بكلية الفنون الجميلة . بدت البنايات متشابهة ، وتقاطعات الشوارع ومساحاتها متقاربة . ثم فرض الاختلاف نفسه فى توالى ترددى على المبنى ذى الحديقة الواسعة . غاب التشابه ـ فى الأيام التالية ـ فغيرت طريقى بالتعرف على ما يحيط بالكلية من الشوارع والمحال والمقاهى ومداخل البيوت ..
رأينا الفتاة ـ للمرة الأولى ـ فى شارع جانبى ، قلت فيه حركة المارة والسيارات ..
أبطأت خطوات الفتاة ، تتظاهر ـ لابد أن هذا هو ما تفعله ـ برؤية ما بداخل الفاترينات . تظاهرنا بالتطلع إلى الصحف المصفوفة على الحامل الحديدى ، فى ناصية الشارع . نلتقط بجانب العين ما تفعله ، ونحدس الخطوة التالية ..
ألقت علينا نظرة سريعة ، لم أجد فيها معنى محدداً ، وإن اعتبرها محيى تحريضاً على أن نسير وراءها ..
حين استأذنت الدكتور رفيق صفوت أن يفتتح معرضى الأول ، احتضننى بنظرة ود :
ـ معرض لاثنين .. أليس كذلك ؟
حدست أنه يقصد محيى معوض . لم نكن نفترق فى المدرجات ، ولا فى قاعات الرسم ، وألفنا دغم أول الاسمين فى اسم واحد ..
أومأت برأسى تصديقاً لحدسه ..
ومض السؤال : ماذا نفعل لو أن الفتاة وافقت على التحدث إلينا ؟ وأين نذهب بها لو أنها وافقت على دعوتنا ؟ هل نستضيفها فى واحدة من عشرات المقاهى المتناثرة على امتداد الطرق ؟ أو نصحبها فى جولة على ضفة نهر التيبر ؟ وما هى العبارات التى أتصور أننا نتبادلها بعد مقدمة التعريف : محيى معوض ومحمد سامى ، من مصر . فلانة من إيطاليا . ثم ماذا ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى فنجان قهوة ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى مشروب بارد ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى جلسة فى مقهى ؟ . نكتفى بمحادثتها فيما يفد إلى خواطرنا . نتكلم ونتكلم حتى .. ماذا ؟ حتى تضغط اليدين على اليدين ، وتهمس الكلمات المودعة ..
لماذا إذن كانت المطاردة السخيفة منذ البداية ؟
قال محيى كأنه أدرك ما يجول بذهنى :
ـ إنها تتصرف مثل الأطفال ، وربما يقتصر تصرفها على ما تفعل ..
قلت فى حسم :
ـ لماذا لا نعود ؟
قال مدفوعاً بأمل لم أتبينه :
ـ نحن نتمشى ، ولن نخسر شيئاً !
قال الدكتور قاسم البحر وهو يمد يده بالمصافحة من وراء المكتب : لا يحتاج قسم العمارة إلا لمدرس واحد فقط . أجدركما ستختاره الكلية ..
فرضت المناقشة نفسها من قبل أن نستقل الطائرة إلى روما . لم نحاول مجرد الإشارة إلى الثمرة التى لابد أن يلقفها أحدنا بمفرده . شغلتنا الدراسة فى الأكاديمية المصرية ، فأهملنا التوقع . محيى هو زميل الدراسة منذ السنة الأولى بالكلية ، وصديقى . مثلت الأمر نفسه فى حياته . أثق فى صدقه ، وإن يصعب ـ فى ظل طبيعته المرحة ، المشاكسة ، المندفعة ـ أن أحدس ما ينوى فعله . يضع عينيه فى عينى ويقول : سهل أن أعرف ما بداخلك من النظر فى عينيك ! . وكنا نتفاهم بالإشارة ، أو إيماءة الرأس ، أو تعبير العين عن المعنى المقصود ..
سلكت الفتاة ـ ونحن نتبعها ـ شارعاً مرصوفاً بأحجار البازلت السوداء الصغيرة . على جانبيه فيلات ذات شرفات حجرية بنقوش وزخارف وثقوب طولية ومقرنصات ودعامات من تماثيل الرخام والمرمر ، وتتهدل على أسوارها الحديدية أغصان كثيفة تترامى منها رائحة الياسمين ..
عبرت ميداناً تتضوع منه رائحة القدم . ثمة كنيستان متماثلتان ، ومسلة رومانية ، محاطة بأربعة أسود من الرخام ، تغطيها الأضواء غير المباشرة من الأحواض الرخامية ، ويحمل الهواء رذاذ الماء الذى ينبثق من أفواه الأسود . وفى الوسط نافورة ، ينبثق الماء من فتحاتها الإثنى عشر ، وينحدر على الأحجار والصخور ، إلى الحوض الرخامى المستطيل ..
لاحظت خروج يده من جيبه بعملة معدنية . قلت :
ـ لا تفعل !.. فى الدليل السياحى أنها تسحر من يشرب منها ولا يرمى فيها نقوداً ..
ثم وأنا أغمز بعينى :
ـ من يكتفى بالشرب منها يعود إليها ثانية ..
ورحلت نظراتى إلى بعيد :
ـ شئ يذكرنا بما يقال عن الذى يشرب من ماء النيل ..
أطلنا الوقوف أمام ما بدا مسلة مصرية ، بجانبها نافورتان تنبثق منهما المياه ، فى ميدان تطل عليه كنيسة هائلة ..
أشار محيى إلى شاب وفتاة يتبادلان القبلات فى ظل شجرة :
ـ عقبى لنا !
مضت الفتاة ناحية سوق هائلة تلاصقت فيها طاولات الخضر والفاكهة والأسماك واللحوم ، واختلط الزحام والروائح النفاذة والصيحات والنداءات والشتائم ..
تباطؤ خطوات محيى وشى بإدراكه صعوبة اللحاق بها . قبل أن يهمس بالميل إلى طريق جانبى ، كانت قد اخترقت شارعاً موازياً ، يكاد يخلو من المارة ، على جانبيه بيوت لا تعلو على طابقين أو ثلاثة ، تتصل بها حدائق صغيرة ، كأنها فيلات تمتد أمامها أشجار الأكاسيا ..
لاحظت انشغال محيى بتأمل مشيتها . شعرها المنسدل على كتفيها يهتز بخطواتها الطفولية ، وذراعاها تتطوحان ، ولردفيها الممتلئين استدارة واضحة تختلف مع الضمور النسبى للخصر ، وأعلى الصدر ، والجونلة الصغيرة تبين عن ساقين مخروطتين ..
رفضت فكرة محيى أن ندور حول البنايات ، فنسبقها إلى تقاطع الطرق . ماذا لو أن المفاجأة أربكتها ، فتصرفت بما يؤذينا ؟
تقلصت المسافة بيننا وبينها بما أتاح لى تبين ملامحها . فى حوالى الثامنة عشرة ، ذات شعر كستنائى ، وعينان خضراوان ، باسمتان ، وبشرة بيضاء أقرب إلى الحمرة ..
اقترح محيى أن ننتقل من الفندق الصغير فى شارع جانبى ، إلى فندق خمسة نجوم . يعفى موظف الاستعلامات الداخلين إلى الفندق من السؤال السخيف : إلى أين ؟ الرواد يدخلون ويخرجون . يجلسون فى الصالة الواسعة . يتعاملون مع محال الخدمات فى الداخل . يتجهون إلى المصاعد . لا شأن لأحد بأحد . عمل موظف الاستعلامات هو الإجابة عن الأسئلة ، وملء الاستمارات ، وتسليم المفتاح ، واستلامه . لا شأن له بعد ذلك بشىء ..
قلت لمحيى :
ـ نحن فى مهمة دراسية .. بدل السفر الذى نتقاضاه يا دوب يكفى الأشهر الثلاثة فى روما ..
وضغطت بيدى على ساعده :
ـ لا معنى لهذه المطاردة ..
وواجهته بنظرة مشفقة :
ـ لو أنها رحبت بإقامة علاقة فسيصعب أن نصحبها إلى أى مكان ..
شوح بيده :
ـ خرجنا لرؤية المدينة .. أترك لها مهمة الدليل ..
وطرقع بإصبعيه الوسطى والإبهام :
ـ المثل يقول : إذا كنت فى روما .. افعل مثلما يفعل أهلها ..
مضت فى طريقها ، لا تتلفت ، ولا تشير بإيماءة من أى نوع ..
كنت ألجم اندفاع محيى بالتباطؤ . يبطئ بالعدوى ، وتظل المسافة على طولها بيننا وبينها ..
لكزنى محيى بكتفه فى الظلمة وهمس :
ـ دع لى مكانك !
تسللت يد المرأة متشجعة بالظلمة ، وبعرض الأفلام المستمر . لاحظت التماع سواد البشرة ، وإن لم أتبين الملامح ولا تقاطيع الوجه . لم أفطن إلى متابعة محيى الأمر من بداياته ، حتى لكزنى وطلب أن نستبدل مكانينا ..
اكتفينا بالمتابعة ..
لم نحاول تجاوز الفتاة . المهم أن تكون أمامنا . نتبعها ، وتشعر بمتابعتنا لها ..
ألقت نظرة سريعة ، ومالت إلى شارع جانبى ، هادئ ، مرصوف بمستطيلات البازلت الصغيرة . تظلله أشجار البانسيه والمارجريتا والباتونيا والفاولاكس ، وأسقف البيوت ـ على جانبيه ـ مغطاة بالقرميد . وألق الشمس يصطدم بالنوافذ الزجاجية على الواجهات ، فتبدو المرئيات ـ من ورائها ـ خيالات متحركة ..
مرقت من باب حديدى ضخم . فى داخله ظلمة شفيفة تبين عن مكاتب متلاصقة ، يجلس عليها موظفون يرتدون زياً أزرق موحداً ، ومن ورائها صفوف من الصناديق الخشبية الهائلة ، المغلقة ، اختفت الفتاة فى تقاطعاتها ..
غالب محيى الارتباك ، ثم عدل عن متابعة الفتاة إلى الداخل ..
لزمنا الوقفة تحت شجرة على الرصيف المقابل ..
حين عادت من الداخل ـ تلفتت بعفوية . خمنت أنها تنظر فيما إذا كنا قد انصرفنا ..
بدا أن محيى قد أهمل ما يمكن أن تؤدى إليه متابعتنا للفتاة . أهمل حتى تخوفى من أن تقودنا إلى خطر لا نتوقعه . نمضى وسط المارة ، والبنايات الهائلة ، والميادين ، والشوارع ، والمقاهى ذات المقاعد والشمسيات التى احتلت الأرصفة . لا ندرك ـ ولا حتى نملك التخمين ـ ما وراءها . غرباء فى مدينة غريبة . تطالعنا الواجهة وحدها . حتى الذى نلتقى به نسأله ، ونناقشه ، ونأخذ منه ونعطى . هو مجرد مصادفة ، لحظة عابرة ، تمضى بلا قبل ولا بعد . مجرد واجهة متسائلة ، أو جادة ، أو مبتسمة ، أو رافضة . قناع يخفى الملامح الحقيقية ..
وقفت الفتاة على باب المحل المغلق . واجهته من الزجاج ذى النقوش الملونة ، البارزة ..
نفخت فى كيسها الورقى الملون ، ثم دفعت الباب ..
حدجت محيى بنظرة متسائلة : هل نعود ؟
أسند ظهره إلى عمود إنارة فى هيئة المتريث ، فتوقعت أن ننتظر خروجها من المحل ..
قال الدكتور رفيق صفوت :
ـ إن أردتم شراء شئ ، احرصوا على الفصال ..
ثم وهو يهز إصبعه :
ـ العادة أنهم قد يقبلون تنزيل الأسعار إلى النصف أو أقل ..
واستطرد فى لهجة آمرة :
ـ الفصال مهم !
ابتسمت لتذكر قول عبد الله جعفر : أريد روائح روما ! ورسم بسبابتى يديه ما يعنى جسد امرأة . تقلصت التوقعات . انتهت إلى هذه الفتاة التى تداعبنا بالنفخ فى الكيس الورقى الملون ..
غادرت الفتاة المحل . عبرت الشارع . اتجهت ناحية مبنى ضخم كالكاتدرائية ، أو الكنيسة ، أو المؤسسة الهائلة ..
ظللنا فى وقفتنا على الرصيف المقابل، ننظر إلى المبنى من بعيد ..
أطلت من نافذة صغيرة تطل على جانب الطريق . أومأت برأسها ، فأشار محيى إلى نفسه . أهمل ترددى ، ومضى ـ بطبيعته المندفعة ـ ناحية المبنى ..
تشاغلت بقراءة عناوين الصحف المعلقة على جوانب الكشك المعدنى . تنبهت إلى ندائه على باب المبنى . أشرت إليه ، أنبهه إلى موضعى ..
لوح بما لم أتبينه فى يده ، وتقدم ناحيتى . رمقته بما لم أستطع فهمه ، كأنى أراه للمرة الأولى أربكنى شرود عينيه ، والارتعاشة الواضحة فى ملامحه . داخلنى توقع بالشر . لم يعد هو محيى الذى أعرفه . الرفقة فى المدرجات ، وقاعات الرسم . التفاهم بالإشارة ، أو إيماءة الرأس . تساؤل الدكتور رفيق صفوت : معرض لاثنين ؟ . قول الدكتور قاسم البحر : أجدركما ستختاره الكلية ..
تراجعت إلى الوراء ، أحاول السيطرة على نفسى من تأثير المفاجأة . تناوبتنى مشاعر غريبة ، غاب مصدرها . شلت الحيرة تفكيرى . تملكنى إحساس بالمحاصرة ..
اتسعت المسافة بينى وبينه . أدرت وجهى بعيداً عنه ..
ثم ملت إلى الطريق العكسية ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:13 AM
*ثــــــــأر*
...............

أحاطت بساعديها الطفلين ، واستندت إلى الجدار ..
قال فى لهجة مشفقة :
ــ لا شأن لك ولا للطفلين بما حدث ..
قالت فى خوفها :
ــ لكنك قتلت أباهم ..
ــ إنه ابن عمى أيضاً .. وقد نلت ثأري منه ..
أضاف فى لهجته المشفقة :
ــ لا شأن للطفلين .. سيأتون إلى بيتى ليكونوا فى رعايتى .. فأنا ابن عم أبيهم ..
اتسعت عيناها بالخوف .. والدهشة ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:14 AM
*أصداء*
...........

ألقى الرجل أوامره ..
قال لنا :
ــ لا تشغلوا أنفسكم .. فالقيادة مسئولة عن كل شئ !..
كنت أعبث بالمقعد تحتى ، أكور الإسفنج ، وأقذف به إلى الأرض ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:15 AM
*محطـــــة*
.................

صعدا فى المحطة نفسها . واحد من الباب الأمامى ، وواحد من الباب الخلفى . وقفا أمام المقعد الوحيد الخالى ..
قال الأول :
ـ من مواليد كم ؟
قال الثانى :
ـ 22
قال الأول :
ـ أنا من مواليد 21
قال الأول :
ـ أنا أكبر منك ..
قال الثانى :
ـ إذن من حقك أن تجلس ..
وأخلى له الطريق .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:15 AM
*العصفور*
...............

ـ 1 ـ
صحوت على زقزقة عصفور فى داخل الحجرة .
لمحته ـ وأنا بين اليقظة والنوم ـ فى زاوية السقف . بدا كحلم بجسده الصغير ، وزقزقته الجميلة ، وريشه المتداخل الألوان ..
أسرعت بإغلاق الباب والنافذة .
أرهقنى حتى استطعت أن أمسك به .
ـ 2 ـ
عدت إلى البيت ، وفى يدى قفص من الأسلاك الحديدية ، تتدلى من سقفه أرجوحة خشبية صغيرة .
وضعت البرغل فى الدرج الصغير على الأرضية البلاستيك .
دسست يدى تحت الصندوق ذى الثقوب الصغيرة ، فأمسكت به .
أدخلته فى القفص ، وأغلقت الباب .
ـ 3 ـ
صحوت على زقزقة العصفور . بدت عالية ، متواصلة ، كالاستغاثة .
كانت قطتى السيامية تحاول أن تصل إليه بمخالبها من خلال الأسلاك الحديدية ، والعصفور يتقافز داخل القفص ، ويطلق زقزقته المستغيثة .
أعرف العداء بين القط والكلب، وبين القط والفأر . لم أتصور علاقة ما بين القط والعصفور .
ـ 4 ـ
علقت القفص فى جدار الشرفة .
أغلقت الباب ، فلا تحاول القطة أذيته .
ـ 5 ـ
صحوت على صوت استغاثة العصفور فى موضعه داخل الشرفة ..
كان الطائر الضخم ـ لعله صقر أو نسر ـ يحاول أن يمد منقاره ومخالبه من بين الأسلاك . تطاير ريش العصفور الملون فى أرضية القفص ، وعلى الأسلاك .
ـ 6 ـ
استبدلت بالقفص قفصاً آخر ، أسلاكه متقاربة ، فلا تصل إليه مناقير ولا مخالب الطيور آكلة اللحوم . اطمأننت إلى أن اقتراب الأسلاك يحول دون وصول أذى أى طائر إليه .
ـ 7 ـ
صحوت على استغاثة العصفور ..
كانت " العرسة " تذوى جسدها اللين ، تحاول الدخول فى المساحة الضئيلة أسفل القفص .
ـ 8 ـ
وضعت القفص فوق الطاولة الصغيرة ، إلى جانب السرير .
أحكمت تغطيته بقماش ، كى لا أخاف على حياته .
ـ 9 ـ
صحوت على أصوات العصافير تغرد فى الخارج .
داخلنى اطمئنان بأن المخالب والمناقير لن تصل إلى العصفور ..
رفعت الغطاء ..
كان العصفور صامتاً ، لا يتحرك .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:16 AM
*اغتيـــــــــال*
......................

(إلى المناضلة الفلسطينية مروة جبر)
لكزه الواقف إلى جانبه وهو يشير بامتداد ذراعه إلى المدينة فى أسفل :
ـ أطلق الرصاص على أى شئ يتحرك ، ولا تشغلك النتائج ..
وحدجه بنظرة محرضة :
ـ هذه فرصة ممتازة للتدرب على الجسد الحى ..
سأل فى دهشة :
ـ أقتل ؟
ـ من تتردد فى قتله سيقتلك ..
ثم وهو يهز قبضته :
ـ لا مجال للتردد فى مواجهة الموت !
أسند البندقية على الساتر الرملى ، وتأمل المدينة فى أسفل . الشارع الواسع ، المسفلت ، تتفرع منه شوارع جانبية . البيت على اليمين ـ يفصله عن الساتر ساحة دائرية ، صغيرة ، على ناصيتها طابقين ، شيد من الطوب الأبيض ، وسقفه من القرميد الأحمر ، تسلقت لبلابة حافة النوافذ الخشبية ، العالية ، وكست الجدران ، وصعدت إلى السطح . تحت البيت دكان بقال يقف أمامه شاب فى حوالى الخامسة والعشرين ، يرتدى قميصاً طوى كميه ، وبنطلوناً من الجينز . فى طرف الرصيف شجرة تين تساقط معظم أوراقها . لم يعد إلا الفروع الجرداء ، المتشابكة . يترامى ـ من بعيد ـ صوت سرينة إسعاف ..
معظم النوافذ وأبواب البيوت والدكاكين على جانبى الشارع المواجه ـ مغلقة ، أو تطايرت ، البنايات مشيدة من الحجارة و الطوب الرملى المتداخل بتكوينات من الخشب .
ثلاثة دكاكين فقط ظلت مفتوحة . البقال ، ومخبز ، وصيدلية ، ومقهى تجاورت فى داخله كراسى ذات قيعان مجدولة من الخوص ، حول طاولات قديمة مختلفة الأحجام . رواده ثلاثة ، ثبتت عيونهم ـ من وراء النافذة الزجاجية المفتوحة ـ على بقايا البيت المتهدم ، وولدان أمسكا بخيط طائرة ورقية ، يتابعان ارتفاعها فوق البنايات . وإلى جوار الرصيف كومة زبالة ، تعبث فيها قطة ، والسماء ملبدة بالسحب ..
ظل المعركة التى دارت ـ قبل ساعات ـ بين الجنود والفلسطينيين المسلحين ، امتص حركة الطريق . المارة قليلون ، خلت الشوارع . تناثرت آثار المواجهة : دماء متخثرة على الجدران والأرصفة وفوق أسفلت الطريق ، طلقات رصاص فارغة ، مزق ورقية متطايرة ، زجاجات ، علب صفيح وكرتون ، غيمات التراب ـ بفعل القصف ـ غطت واجهات البيوت ، كومات الحجارة تناثرت أمامها ، تشى بأنها سقطت من فترة قريبة .
لم يشاهد المعركة ، وإن تابع تعليقات زملائه . رفض الفلسطينى أن يسلم نفسه . رآه الجنود وهو يقتحم الباب ، ويتركه ـ باللهفة ـ مفتوحاً . وقف الجنود والبولدوزر أمام البيت ذى الطوابق الثلاثة . علا صوت الميكروفون يدعو السكان إلى إخلائه . انطلق الرصاص من النافذة العلوية . دارت المعركة فى دقائق ، ثم تهاوت الطوابق الثلاثة . لم تذكر التعليقات إن كان من فى المنزل قد فازوا بحياتهم ، أم ماتوا بين الأنقاض .
طالت مناقشات الضباط .. الأخذ والرد ، الأسئلة والأجوبة . هل من الأجدى فرض حظر التجول ؟.
حسم القائد الأمر بالقناصة ، وتسيير الدوريات . وقفته ـ وراء الساتر ـ لإطلاق الرصاص على من يلمح ، ولو مجرد سيره أمام البناية . إطلاق الرصاص بلا تردد . اصطياد من تلتقطه الشبهات سهل ، إن أغلقت المدينة أبوابها على الفارين ، وظلت الأبواب مفتوحة ، وأطل الناس من النوافذ والشرفات ، وجلسوا على المقاهى ، وأمام الدكاكين ، وداخل البيوت ..
أمر نقله من صحراء النقب إلى مدن الضفة الغربية ، فرض توقعاً طيباً . تصور فى الحياة بين الناس ما يطرد الملل . يطل ـ فى وقفته ـ على صحراء ممتدة ، اختلطت فيها الرمال ومساحات الخضرة والبنايات الصغيرة المتباعدة والمعسكرات . أربكته نظرات السكان العرب ، التقط منها ما لم يستطع تحديده ، وإن غاب عنها الود والألفة . لم يكن يستطيع أن يرد النظرات المتطلعة ناحيته ، تحدق فيه ، تحاصره . حرص على ما ألزمته به الأوامر . كن قريباً من القوة لتحتمى بها . يشكل ـ داخل المدن ـ مجموعة مع جنديين أو ثلاثة ، يحتفظون بكامل الأسلحة ، يقيسون المسافة مع نقاط التفتيش والحواجز والعربات المصفحة والدبابات ..
تركت له الأوامر تحديد الهدف . يضغط زناد البندقية على ما يثير الريبة . يقتل قبل أن يستوضح ، أو يسأل ، أو يتأكد . الأوامر الصريحة تساعده . لا تحدق فى ملامح من تصوب إليه . الشك يكفى للضغط على الزناد . هذا هو الهدف ، فاطلق رصاصاتك عليه ، لا تتردد ، إذا ترددت فى قتل عدوك ، فسيبادر هو بقتلك . إما أن تتركه حياً ، أو تفقد حياتك . ظل إسقاط المسئولية فى القتل الخطأ بلا معنى . قانون الحرب لا يعرف المشاعر الطيبة ..
ترامى هدير سيارة . بدت مقدمتها فى انحناءة الشارع الجانبى . توقفت فى موضع محطة الباصات . خلفت عجوزاً يرتدى العباءة والعقال والكوفية الفلسطينية . أسند راحته على قبضة العصا . جال بعينيه فيما حوله ، كأنه يتوقع أحداً فى انتظاره . تأكد من إمساكه بالعصا جيداً ، وعبر الطريق إلى الشارع المقابل ..
أحس برغبة فى أن يسدد بندقيته إلى موضع ما ، أحد ما ، يضغط على الزناد . لا يرفع إصبعه . أصدر صوتاً من بين شفتيه : تك ، تك ، تك . تظاهر بالضغط على الزناد . ثم أرخى ساعده ..
هز رأسه يطرد النوم ، فرك عينيه . أغمضهما ، وفتحهما . ثم أعاد النظر إلى الواقف بجانبه ، وإلى الطريق والبنايات أمامه ..
تحسس البندقية وهو يرمق مسلحاً يعبر المسافة بين تقاطعات شارعين . قبل أن يلتقط البندقية من فوق الساتر ، كان المسلح قد اختفى ..
قرب جهاز اللاسلكى من أذنه ، يستمع إلى اختلاط المكالمات والملاحظات والأوامر ، ربما يكون بينها ما يأمره بفعل شئ . يحدد له الهدف الذى ينبغى أن يصوب إليه رصاص بندقيته ..
أغلق الجهاز ..
ركز نظرته على الجسد الأنثوى ، يبين عن قسماته فى العباءة السوداء . قدمت من شارع جانبى ناحية دكان البقال ..
خمن من تلويحة يد الشاب أنه ينتظرها ..
اطمأن ـ بنظرة جانبية ـ إلى زميله خلف الساتر الرملى ، قرفص فى إغفاءة بين جوالين . أسند البندقية على الساتر أمامه . ثبت النظارة المكبرة على مدخل الدكان . وقف أمامه الشاب والفتاة . الحاجز الخشبى فوقه رخامة تحتل معظم مساحة الواجهة ، ماعدا مساحة صغيرة سدت بباب ذى مفصلات ، ينفذ منها إلى الداخل ..
مد يده لها بالمصافحة . استبقى يدها فى يده ، وضغط عليها بكفه . لما ربتت صدره بيدها ، حدس أنهما يعرفان بعضهما . ما يراه ليس أول لقاءاتهما ..
تابع إشارة الشاب ناحية البناية المتهدمة . قال كلاماً كثيراً ، أضاف إليه تعبيرات يديه . مرر جانب يده على رقبته دلالة الموت ..
أزاحت العباءة عن مقدمة الرأس ، فبرزت خصلة من شعرها . أظهرت التأثر فى إسناد ذقنها على قبضة يدها ، وإعادة النظر إلى المكان بعينين متأملتين ..
رفع الشاب رأسه وذراعيه إلى السماء ، وقال ما لم يتبينه ، ثم مسح براحتيه على وجهه ..
قال الشاب ما فطن إلى معناه فى اتجاه نظرة الفتاة إلى الناحية المقابلة ..
التفت ـ بتلقائية ـ إلى مصدر ترامى هدير سيارة . مد عنقه ، وزوى عينيه . تبين عربة مصفحة ، بداخلها ضابط وثلاثة جنود . مالت إلى الشارع الجانبى أسفل الساتر الرملى ، واختفت ..
قرن الشاب كلماته بإيماءة إلى الدكان : هل يدعوها إلى الدخول ؟
كان الدكان من الداخل معتماً ، لم يستطع تبين ما إذا كان خالياً ..
تحركت شفتا الشاب كمن يهم بالكلام ، ثم سكت . لزم صمتاً ، واكتفى بالنظر إلى قدميه ..
نبهته إلى أنه وضع زرار القميص العلوى فى العروة الثانية . اتجه إلى الناحية المقابلة . تأكد من وجود الأزرار فى مواضعها ، وعاد إليها بابتسامة معتذرة ..
ظل صامتاً ، وإن استحثته بنظرة مشجعة على الكلام ..
شوحت بيدها ، وابتعدت خطوات . لحقها . مد ذراعيه . أعادها إلى وقفتها أمام الدكان ..
أزاحت خصلة الشعر المتهدلة على جبينها ، وواجهته بنظرة متسائلة . انتفضت لسقوط ورقة يابسة من فوق الشجرة . طفرتها بطرف إصبعها . تأمل نثارها على الأرض ، وداست عليه ..
خبط جبهته علامة التذكر . اتسعت ابتسامتها ـ رد فعل لما قاله ـ فتوضحت الغمازتان فى وجنتيها ، والتمعت أسنانها البيضاء . قربت فمها من أذنه . قالت ما أضحكه حتى ضرب ركبته ..
أخفضت عينيها ، فحدس أنه قال ما أربكها . أشاحت بوجهها حتى لا يفطن إلى ما قد تعبر عنه عيناها ..
لو يعرف ماذا يقولان ؟ ماذا يقول لها ؟ ماذا تقول له ؟ . التخمين صعب ، وإن حرك الشاب يده بما يشى أنه قال ما لديه ..
ظلت أصابعها على ظهر يده ، كأنها استراحت إلى هذا الوضع . داعبت ظهر كفه بظفرها . عاد إلى احتواء أصابع يدها بين راحته ، يضغط عليها بآخر ما عنده ، وهى تضحك . وضعت سبابتها على شفتيه ، دلالة أن يصمت . تظاهر بأنه سيعض إصبعها . احتضن الإصبع ، ورفع إلى شفتيه ، وقبله . تراجعت بأعلى كتفيها ، وأعادت خصلة الشعر المتهدلة بهبة هواء مفاجئة ..
أحس بتوتر يتولد داخل نفسه ، لا يدرك بواعثه ، وتملكه إحساس بالمحاصرة . لم يستطع السيطرة على انفعاله . اختلطت المشاعر فى داخله . تداخلت ، وتشابكت . غاب حتى إحساسه بالزمان والمكان . حاول أن يتجه بنظراته إلى أعلى ، حتى يعود إلى نفسه ..
كانت الشمس قد مالت نحو الغروب . انحسرت عن الأسطح وأعلى البيوت ، وتقلصت الظلال . تناثرت سحب كثيفة تشى بمطر وشيك ، ودارت أوراق الشجرة المتساقطة فى دوامة بتأثير الهواء المندفع من تلاقى الشوارع الجانبية .
تأكد من وجود رأس الشاب فى دائرة التلسكوب ..
ضغط على الزناد .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:17 AM
*الثورة*
............

حين وصل إلى نهاية الرواية ، كان مصير الفتاة يشغله تماماً . بدا الظلم أشد مما يستطيع احتماله ، كأنه الموت ، أو أقسى ..
أغلق الكتاب بعنف ، ونزل إلى الطريق ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:17 AM
*الإستاكوزا*
..................

ـ 1 ـ
البحر حصيرة ..
تابع سرباً من غربان البحر يحلق فوق الخليج ، يحرك أجنحته ، ويطير بلا صوت . أعاد النظر إلى السمكة فى قاع الطراحة . ليست من الأنواع التى اعتاد صيدها فى المينا الشرقية وخليج الأنفوشى . المرجان والبورى والمياس والبربونى . شكلها ما بين الجمبرى والكابوريا ..
تفحص المعلم محمود الطويل السمكة . قلبها فى يديه :
ـ هذه استاكوزا ..
علا صوت زناتى حلبو متسائلاً :
ـ الأنفوشى لا يعرف الإستاكوزا .. إنها صيد خارج البوغاز.
قبل أن تهلك السمكة فى وقت الأسئلة ، قذف بها المعلم محمود الطويل إلى الماء . قال لنظرة الدهشة فى عينى زناتى :
ـ فلنعطها فرصة للتكاثر فى مياه الأنفوشى !
جرت الإستاكوزا ـ بسرعة مذهلة ـ فى اتجاه البحر .
ـ 2 ـ
طالت قعدة صياد السنارة محروس الشاطبى على المصد الأسمنتى . النفايات فى أسفل تعلو برائحة نفاذة . الصمت يعمقه أزيز لف بكرة السنارة ، وصوت موتور يتناهى من وراء قلعة قايتباى . أرهقه الملل ، فمضى . نشر صيادو الجرافة شباكهم ـ يحدها إطار الفلين ـ على دائرة واسعة . لم يكن فيها ـ بعد جرها إلى الشاطئ ـ سوى صغار الأسماك ـ تساقطت من الثقوب ـ والطحالب والأعشاب .
تكرر إلقاء الطراحة ، وسحبها . لم يكن فيها إلا كميات من الإستاكوزا . أنستهم غياب الأسماك الأخرى التى اعتادوا صيدها . نزع القشرة المتغضنة ، والتلذذ بطعم قطع اللحم الوردية اللون . لمحها الرجال تتخلل أعشاب البحر الطافية فوق المياه ، تزحف فوق الرمال ، وبين الأصداف والقواقع والطحالب وبقايا الأعشاب وزيوت المراكب والقناديل الميتة . تتخلل الأحجار الصغيرة والحصى والجحور والصخور المدببة بالخضرة اللزقة ..
ـ 3 ـ
تكاثرت الإستاكوزا . تقافزت فوق المياه . لامست الأجساد . زحفت فوق رمال الشاطئ . تسللت إلى ورش المراكب والكبائن ما بين الحجارى وسراى رأس التين ..
أدرك الرجال أن الإستاكوزا تأكل ما تصادفه من بيض السمك . اختفى البيض من أماكن الفقس والتوالد . اللحم الشهى ـ مخلوطاً بالأرز ـ على موائد الطعام ، دفع الرجال إلى إهمال نصيحة إمام أبو العباس بصيد الإستاكوزا ..
ـ 4 ـ
حين تبين الرجال تحرك الإستاكوزا على المتبقى من غزل الصيد وقطع الفلين والقصبات والإسفنج والحبال والأشرعة ، أهملوا تصورهم بأن جزر البحر مضى بالطحالب والأعشاب إلى الأعماق . التهمت الإستاكوزا ـ الآلاف من الأجساد الصغيرة ، المتحركة ـ ما صادفته من الغزل والفلين والطحالب والأعشاب . حتى مخلفات المراكب لم تعد تطفو فوق الأمواج ، ولا يقذف بها المد على الشاطئ ..
أكلت الإستاكوزا كل ما بلغته أقدامها الصغيرة ، الكثيرة ..
لم يعد إلا الرمال المنداة بالمياه .
ـ 5 ـ
اختفت البلانسات واللانشات والفلايك وبلوطات الخشب من الورش المتلاصقة . اختفت حتى السفن الغارقة فى مياه الخليج . حتى المعدات الخشبية تآكلت . لم يعد إلا أخشاب متكسرة ، وبقايا فلايك ، وهياكل بلانسات متآكلة ..
قبل أن يظهر أهل الأنفوشى إشفاقهم على مصير الكبائن من الحجارى إلى سراى رأس التين ، كانت أسراب الإستاكوزا قد زحفت إليها . علتها ، تسللت إلى داخلها ، انشغلت بالتهام أبنيتها الخشبية . رمقت الفئران المتقافزة فوق قطع الحجارة الضخمة ما يحدث . اختبأت فى الشقوق ..
ـ 6 ـ
خلا البحر والشاطئ تماماً . لا أسماك ، ولا طحالب ، ولا أعشاب ، ولا سفن ، ولا كبائن . رفرفت الأعلام السوداء فى مواقع متناثرة على امتداد الشاطئ ، تحذر من النزول فى المياه . ألقى المد بأعشاب البحر الخضراء ، الداكنة ، على الشاطئ . اختلطت بزيت البواخر الضخمة ومخلفات البلانسات والقواقع والرمل وقطع الأخشاب وبقايا الأطعمة . ضرب الموج صخور الشاطئ بعنف . تعالى الرذاذ ، وارتمى على امتداد الطريق . نعقت غربان البحرـ وهى تحوم فوق القارب ـ وصرخت ..
عانى الناس حيرة التوقع ..
زاد تكاثر الإستاكوزا . لم تعد فى حجمها القديم . بدت أكثر امتلاء وقدرة على الحركة . زحفت ، وتقافزت ، وعلت أصواتها بصيحات وحشية . غطت المياه والرمل بكتلة من الرءوس ، كأنها تلاصقت ..
نفض زناتى حلبو ساقه من الإستاكوزا العالقة بها ..
صرخ لرؤية الإستاكوزا فى الأجساد التى قتلها الخوف ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:18 AM
*حصار الأسئلة*
........................

(إلى محمد الحديدى)

زوت الراهبة ما بين عينيها ، تحاول أن تتذكر :
ـ أنت ؟
تأمل الزى البنى المنسدل إلى ما فوق الصندل والجورب الأبيض ، وغطاء الرأس الأبيض المنشى ، أحاط بالوجه ذى الملامح الدقيقة ..
قال :
ـ زكى .. شقيق محرم السلامونى ..
هزت رأسها دلالة التذكر :
ـ زرته مرات مع أبيكما ، ثم أصبح الأب يأتى بمفرده ..
لم يجد سوى الكذب وسيلة لمواجهة نظرة التأنيب فى عينيها :
ـ عدت بعد فترة سنوات من العمل فى الخارج ..
قالت وهى تمضى داخل الطرقة الطويلة ، فوق أرضيتها مشاية بنية تمتص وقع الأقدام :
ـ حالته متقدمة ..
ثم وهى تبتعد :
ـ زياراتك ستفيده كثيراً ..
الطرقة المستطيلة ، تتوسط جدارها صورة للمسيح جالساً على العرش ، فى داخل المركبة السماوية ، تحيط برأسه هالة نور ، ويحمل كتاباً فى يده اليسرى . تمتد على الجانبين أبواب غرف متقابلة ، مقفلة ، تنسدل عليها ستائر من القطيفة الداكنة الحمراء ، الحائلة اللون . كل ستارة مفتوحة من الجانبين ، على مقابض معدنية ، وتمتد ـ أمام الأبواب ـ سجاجيد صغيرة ، لها شراشيب كثيرة بألوان متداخلة ..
كان قد أطال الوقوف إلى جانب الكشك الخشبى ، انشغل فى داخله العجوز ذو البشرة التى كساها البهاق بصف علب السجائر والمناديل الورقية وأكياس الشيكولاتة والبسكويت ..
حدجه العجوز بنظرة متسائلة :
ـ هل تريد شيئاً ؟
ـ لا ..
وأشار إلى المبنى الحجرى الصامت ، أغلق بابه ونوافذه :
ـ لم أتصور أن الدار تغلق هذه الساعة ..
قال العجوز :
ـ موعد الافتتاح من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساء ..
تطلع ـ بتلقائية ـ إلى الظلال التى بدأت تنسحب من أعلى البنايات المقابلة ، وقال فى لهجة تسليم :
ـ سأنتظر .
حين علا صوت المفتاح فى رتاج الباب الحديدى الضخم ، كانت الظلال وانعكاسات الضوء تفترش المكان . حدس أن المبنى صمم بحيث يسمح للهواء بالمرور فى الحجرات المتقابلة ..
ظلا صامتين ..
أنحف مما انطبع فى ذاكرته ، وتداخل البياض والسواد فى رأسه ، وسقطت من فمه سنة علوية ، وبدت عيناه أميل إلى الجحوظ ، وإن لم تفقدا وجهه ما به من وسامة ظاهرة ..
تردد مع أبيه لزيارته فى الدار الحجرية ، ذات الطابقين . الحديقة الترابية ، تسلقت سورها الحديدى الأسود فروع اللبلاب وست الحسن . تديرها الراهبات للعجائز من الرجال والنساء . وكان أبوه يحرص ـ فى كل زيارة ـ على أن يضيف إلى الإعانات التى تنفق منها الدار .
ثمة عجائز ـ أربعة أو خمسة ـ جلسوا على كراسى متناثرة ، تحت أشجار الكافور فى جوانب الحديقة .
شك من نظرته المتسائلة أنه يعرفه ..
قال :
ـ أنا زكى .. أخوك ..
ـ أين ضحى ؟
ـ فى بيتها ..
ـ لم تعد تزورنى ..
ثم وهو يتجه ناحيته بنظرة غاضبة :
ـ أنت أيضاً لا تزورنى ..
ـ وماذا أفعل الآن ؟
ـ كان أبى يزورنى مساء كل خميس .
قال وهو يغالب التأثر :
ـ هذا ما سأفعله . قد أزورك فى الأسبوع أكثر من مرة ..
حل الصمت ثانية ..
انشغل بشروده ، وعدم قدرته على التركيز ، وبطء فهمه ، وكلماته التى بلا معنى . استعاد ملامح واضحة ، ويغلفها الشحوب : طريق المقابر خلف القلعة ، الليلة الأخيرة فى مولد الحسين ، زحام شارع الموسكى ، ترقب أمه لصنع القهوة فوق السبرتاية ، جلسة أبيه إلى أصدقائه فى مقهى الكورسال ، وشيش التليفزيون بعد انتهاء السهرة ، صياد يجذب الحبل ليرسى قاربه على الشاطئ ..
لا يذكر متى أدرك أنه قد مضى زمن على حياته بمفرده . ألف الحياة دون أن يشاركه فيها أحد .
داخله سأم لا يعرف بواعثه . يردفه حنين إلى ملامح وأماكن طال غيابها ، فبدت كأطياف . أحس أن هناك ما ينقصه ، وأنه فى حاجة إلى من يجعل لحياته معنى .
قال الطبيب :
ـ الحالة مستقرة وإن كانت لن تشفى ..
أظهر القلق :
ـ هو مريض إذن ؟
ـ طبعاً ..
وهمس :
ـ نوع من التخلف العقلى ..
لم يتصور هذه الحالة التى صار عليها أخوه . لم يكن ينتبه إلى كلمة واحدة مما يدور حوله . يبدو غائباً عن الدنيا . يحدث أشخاصاً وهميين .
قال :
ـ هل الرعاية جيدة ؟
أطلت من عينيه نظرة غير فاهمة ..
قال :
ـ هل يقدمون لك طعاماً جيداً ؟ ملابس نظيفة ؟ تشاهد التليفزيون ؟ ..
قالت الراهبة :
ـ نحن نعطى ذوى الظروف القاسية من التبرعات التى نحصل عليها .
قال :
ـ ظروف أخى النفسية وحدها هى السبب ..
وحرك أصبعين فى دلالة :
ـ أترك له فى الأمانات أكثر من حاجته .
لمح فى عينيه انبثاق دمع ، وهو يديرهما إلى الناحية المقابلة :
ـ أريد أبى .
ـ أنا الآن أبوك . اطلب ما تريده منى ..
ـ لا أريد إلا أبى ..
وعلا صوته بنشيج :
ـ أريد أبى .
شرد محرم فيما لا يتبينه . جاراه فى الصمت ..
فاجأه بالسؤال :
ـ هل حضر أحدكم الغسل ؟
ـ أسامة زوج ضحى ..
ـ وما يدريك أن الميت هو أبوك ؟
ـ رأيته مكفناً . أعرف تكوين أبى الجسدى ..
لم يكن الموت مما يشغله ، لكن الخوف من الموت اقتحمه للمصير الذى ربما يواجهه محرم : من يدفع له إيجار الدار ؟ من يزوره ، ويطلب عرضه على الأطباء ، ويحاول استثارة ما فى نفسه من ذكريات ؟..
تنبه إلى أنه خلف البيت وراءه ، ثم عاد إليه .
المدخل غارق فى رمادية خفيفة . لاحظ تآكل السلالم الحجرية ، وتكسر الدرابزين . تحسس طريقه بالتساند على الحائط ، مطلى بالجير ، عليه رسوم أحجبة وأكف وباخرة يتصاعد الدخان من مدخنتها ، وخيوط زرقاء تمثل أمواج البحر ، ورسوم للكعبة ، وجمل ..
آخر زيارة إلى البيت مع أبيه منذ ثلاثة أعوام ، ربما قبل ذلك بأشهر . اتصل به أبوه ليصحبه إلى بيت شقيقته . طلبت تدخل الأب لحل خلافات لا تنتهى مع زوجها . اعتذر بمشاغله . بدا صوت الأب في التليفون محملاً بالغضب :
ـ كيف أطمئن إلى تحملك المسئولية من بعدى ؟
وداخل نبرته توجس :
ـ هل قررت الانسلاخ بحياتك ؟!
الجدران متآكلة ، تقشر طلاؤها ، فصنع أشكالاً وتكوينات ، وسرت الرطوبة بالصدأ فى النافذة الحديدية المطلة على المنور الخلفى . السجادة تتوسط مساحة الصالة ، تغلب عليها النقوش الزرقاء ، فوقها ـ لصق الجدار ـ كنبتان متقابلتان ، مستطيلتان ، من الخشب ، بمساند ، و كراسى وطاولات تعلو منها رائحة القدم ، عليها فازات فى نهاياتها زهور صناعية ، وقبالة الباب مرآة هائلة ، أكل الصدأ حوافيها ، وتخللها ، تغطى معظم مساحة الجدار . وفى الجدار المقابل صورة فوتوغرافية كبيرة للكعبة الشريفة . وتدلت من السقف نجفة من الزجاج الملون المقلد للكريستال . وثمة صرصار ـ فى الزاوية ـ انقلب على ظهره ، بدا من توالى حركة أقدامه أنه حى ..
اختارت الجلوس فى زاوية الكنبة . فتش ـ فى ملامحها ـ عن الصورة القديمة التى أحبها . كأنه يودعها ذاكرته ، يختزن ما بدده توالى الأعوام .
لم تتبدل الملامح كثيراً ، وإن ران على التصرفات ما أثار إشفاقه . كلماتها لا تزيد عن الهمس ، وتتجه بنظراتها إلى الأرض . أضافت الأعوام شعيرات بيضاء تسللت إلى الرأس ، ودوائر من التجاعيد الخفيفة حول العينين والفم . أهملت الزغب الأصفر الخفيف فوق شفتيها . ترتدى جلباباً واسعاً أشبه بجلابيب الرجال ..
داخلته عاطفة حقيقية ، لعلها غابت منذ سنوات طويلة . شعر أنها قريبة منه ، أنها تنتمى إليه ، وينتمى إليها ..
لماذا لم يفعل ـ من قبل ـ ما يريد أن يفعله الآن ؟ لماذا تأخر عن زيارتها ؟ ما الذى شغله عن الزيارة ؟
لم يستطع ـ بينه وبين نفسه ـ أن يصل إلى إجابة . كرر إرجاءه للأمر ، حتى أهمله تماماً ..
لاحظ نظرتها المتأملة ..
هل ما تزال على عادتها القديمة فى محاولة قراءة مشاعره ؟ هل يبدو ارتباكه ، وعجزه فى البحث عن الكلمات المناسبة ؟
أومأت برأسها ناحية الزوج الجالس فى الزاوية المقابلة :
ـ أنت لم تلتق بزكي من أعوام ..
ران على قامته ذبول ، وبدا أقصر مما كان . هل هو تقدم السن ؟
غاب الجسد المتماسك ، والضحكة المقهقهة ، والصوت العالى . مالت كلماته المرحبة إلى البطء ، ووضحت الثاء بدلاً من السين فى النطق . خمن أنه ركب طقما للأسنان . ترهل جفناه ، ومال بياض عينيه إلى الصفرة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته ، وتناثرت فى وجهه بقع من الشعر المختلط السواد بالبياض . أكثر من لعق شفتيه بلسانه ، فأدرك أنه يعانى السكر . ارتدى جلباباً من الكشمير ، وترك قدماه حافيتين ..
حل صمت مفاجئ . عانى ارتباكاً لم يدرك بواعثه . بدا أنها تعانى الشعور نفسه ، وإن لم يفسره على نحو محدد . هل لمفاجأة الزيارة ، أم أنه استدعى ما كانت قد أهملت تذكره ؟
نادى على الولد الواقف خلف الباب الموارب . تلقاه بذراعين مفتوحتين . تعلق الولد بعنقه ، وأسلم له خديه يقبلهما ..
قالت ضحى فى لهجة محايدة :
ـ هذا مرتضى .. لم تره منذ ولادته ..
وأومأت إلى مرتضى :
ـ قبل خالك .
أضافت لنظرة الولد المتسائلة :
ـ هذا خالك .
أجلس الولد الأصغر على ركبته . قبل خده ، ومسح بيده على شعره ..
قالت ضحى بلهجتها المحايدة :
ـ محيى .. انقطعت زياراتك قبل ولادته ..
لاحظ أنها تضع فى معصمها ساعة أبيه ، وتدير أصابع يدها على المسبحة التى ظل أبوه ممسكاً بها حتى وفاته .
وضع انفعاله فى تقبيل الولد :
ـ شاطر فى المدرسة ؟
اكتفى محيى ـ دلالة التأكيد ـ بإيماءة من رأسه ..
ماذا ورث الولد منه ؟
أخفق ـ حين أعاد تأمله ـ فى التعرف على الملامح المشابهة ، وإن حدس أنه ورث عن أمه امتلاء الوجه ، والعينين المسحوبتين ..
لو أنه تزوج !.. ربما أنجب أبناء يماثلون الولدين فى العمر ، وربما كانا أكبر منهما ..
وهو ينزل الولد من تحت إبطيه إلى الأرض :
ـ هل تزورين محرم ؟
قالت :
ـ إن زرته .. لابد أن أحمل معى هدية ..
وهو يدارى انفعاله :
ـ أتكفل بدفع مصاريف الدار ..
ـ لن أذهب بيد ورا ويد قدام ..
ـ ربما زرته غداً ..
رمقته بنظرة مستنكرة :
ـ ألم تزره حتى الآن ؟ ألم تزره منذ وفاة أبينا ؟
غلبه الصمت والارتباك . هل تلمح ضحى بأنه هو السبب فيما يعانيه محرم ؟ هل هو المسئول ؟
قالت وهى تربت فخذه :
ـ أنت الآن أخونا الكبير .. وأبونا ..
تمنى لو أنها تخلت عن كلماتها الملمحة . لو أنها أظهرت غضبها ، ولامته على غيابه الطويل .
يدرك أن الإجابة لن تقنعها . حين أدار الكلمات فى ذهنه ، لم يقتنع هو نفسه .
المشاغل !.. كلمة بلا معنى فى توالى السنين .
قال أسامة فى لهجته المتباطئة :
ـ أبوك كان ينعى همنا ..
وسكت .
ومضت القامة الطويلة ، والكتفان العريضتان ، والبشرة السمراء ، والعينان اللتان تحتويان من يحدثه.
استعاد ما روى عقب وفاته . هل مات ميتة ربه ؟ أو دس له السم فى الطعام ؟ أو قتل فى ظروف رفضت الشرطة أن تخبرهم بها ؟
قتله الإحساس باليتم ، وإن عانى توالى المشكلات ـ فيما بعد ـ وانفضاض أقاربه وأصدقاء أبيه . باعد العجز بينه وبين ضحى ومحرم . قلت زياراته ، ثم انتهت ..
شعر ـ وهو يهبط السلم ـ بنظراتها تتبعه من وراء ظهره . لما وصل إلى البسطة ، استدار ، ورفع رأسه . كانت تستند بصدرها على الدرابزين . لوحت بيدها وهى تقول :
ـ لا إله إلا الله .
قال :
ـ محمد رسول الله .
أشفق على محرم مما يعانيه ، كأنه يمضى إلى دنيا غير الدنيا .
بدا أمام خيارين : إما أن يفعل شيئاً ، يدفع نقوداً زائدة ، أو يهدد ، أو يتوسل حتى ، لتصير معاملة الدار لأخيه على ما هى عليه ، أو أن يصحبه إلى البيت ، وهو ما لن يستطيع تدبره ، ولا يعرف كيف يتولى رعايته بمفرده .
أزمع ألا ينصرف حتى يطلب محرم الطعام . يعيد قطعة الجبن والبيضة وحبات الزيتون . يصر على الخضار واللحمة والأرز . يجلس معه حتى يفرغ من تناول الطعام . يصحبه إلى حجرة نومه . يفرد الغطاء فوقه . يطمئن إلى نومه ..
مضى داخل الحجرة وراءه ..
التفت محرم ناحيته مستغرباً . ثم تجاهله . اتجه بالكلام إلى ما لا يتبينه . لا تتصل جملتان بمعنى محدد ، فالكلمات غامضة ، مختلطة ، لا يفهم ماذا يعنى محرم ، ولا إلى أين يتجه بكلماته . تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ أن يتبادل مع أخيه حواراً كالذى يتبادله الأخوة ، كالذى يتبادله الناس . يسأل ويجيب ، يأخذ ويعطى ، يفض عما بنفسه ..
أطال إليه النظر ..
تملكته الحيرة فلم يدر كيف يتصرف . هو يريد أن يفعل شيئاً ، لكن ما يراه يبدو أقسى من أى تصرف . كان يحرك ذراعيه ، ويهز رأسه ، ويوجه حديثه إلى من لا يراه .
ظلت الكلمات غير مترابطة ولا مفهومة ، مجرد كلمات متقطعة ، متناثرة ، لا تعبر عن معنى محدد ..
لو أنه استطاع أن يستعيد أخاه ، ينتزعه مما هو فيه ..
واجهه محرم بنظرة مؤنبة ، وهو يشير إلى الفراغ :
ـ هذا أبونا .. لماذا لا تكلمه ؟!

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:19 AM
*التحليق بلا أجنحة*
.............................

اقتحمه شعور بالغربة ..
لم يعد يدرى لماذا هو فى هذه المدينة ؟ وإلى أين تمضى الشوارع ؟ وإلى أين يتجه ؟
هذه ليست أولى رحلاته إلى الخارج ، لكنها أولى رحلاته إلى لندن ..
حين استقل الطائرة ، كانت المدينة ـ فى مخيلته ـ مجرد تصورات . لا قسمات محددة : بنايات وساحات وميادين وشوارع وأسواق وجسور وتماثيل وأبراج كنائس وحدائق .
أدرك أنه يعرف شوارعها ، وإن عانى الغربة . انطبعت ملامحها فى ذهنه من أحاديث مرجريت وقراءات الصحف ومشاهد التليفزيون . اعتاد أسماء الوست إند وبيج بن وكوفنت جاردن والمتحف البريطانى وهايد بارك وقصر باكينجهام ..
تأمل مبنى المطار . صالة هائلة يتفرع منها العديد من الأروقة والردهات والسلالم المتحركة ، وإعلانات النيون تعلو الجدران ، وصفوف الكراسى ، وكاونترات الجوازات وشركات الطيران ، وعربات نقل الأمتعة ، ووجوه المسافرين .
أزمع أن يقضى ليلته فى فندق . ينتظر طلوع النهار ، ثم يبدأ البحث ..
***
أحس ـ وهو يغادر الفندق فى غبشة الصباح الباكر ، أن اليوم كله أمامه .
ترك حقيبته فى الحجرة ، حقيبة واحدة ، متوسطة . استعان بخريطة سياحية ، تعرف فيها على الأماكن المهمة . نقاط ينطلق منها إلى الميادين والشوارع وضفتى التايمز . يستطيع أن يتنقل فى أحياء المدينة الواسعة ، يبحث عن الشقة فى أكثر من عنوان ، فى أكثر من حى .
تلاشى الحنين الذى كان يناوشه إلى المطارات والفنادق والمدن والأسواق والبشر الذين لم يلتق بهم من قبل . همه أن يرى الولد أمامه ..
شرد فى صورة مرجريت . فرضت عليه ـ فى هذه اللحظة ـ نفسها : السحنة ، والتصرفات ، وطريقة الكلام ..
قال :
ـ تربية الطفل مسئولية أبيه وأمه ..
قالت :
ـ هذا صحيح .. لكنها مسئولية الأم أولاً ..
ـ دعينا من الأولويات . إنها مسئولية الوالدين ..
تخبطت علاقتهما . بدا الانفصال نهاية مؤكدة . ما حدث ليس شرخاً فيسهل التئامه . إذا تكسر الشيء ، تحطم ، يصعب أن يعود إلى ما كان عليه . وجد فى الإرجاء ما قد يأتى بالحل . تغاضى عن إصرارها على مضايقته . أهمل المعايرة ، والتلميز ، والعبارات المفعمة بالتورية ..
التقيا ـ للمرة الأولى ـ فى رحلة للأقصر . رافقها فى زيارتها لمعابد الكرنك ، ومعبد الأقصر فى البر الشرقي ، والمعابد الجنائزية ، ومقابر وادى الملوك والملكات ، ومقابر الأشراف فى البر الغربى ..
بدت مسحورة وهى تجيل النظر فى ما حولها . هذه مدينة المدائن الأثرية . لو أتيح لى الاستقرار فيها . لو تحولت إلى نخلة تطل على طريق الكباش ..
قبل أن تبدأ فى إعداد حقائبها ، همس :
ـ هل تتزوجيننى ؟
حدس ـ من دائرة السحر التى تعيش فيها ـ أنها ستوافق . لكن المفاجأة أخذته لموافقتها . لم تناقش الأمر ، ولا تحدثت عن ظروف من أى نوع ..
لم يعد يتردد على الشقة إلا لتغيير ملابسه ..
حاول ـ بكل طاقته ـ أن تظل الأمور على تماسكها . تفادى الرياح والنوات والزلازل والأعاصير ..
أذهله قرارها ..
قال :
ـ لن تخرجى !
علا صوته بما لم يعهده فى نفسه . شعر أنه لابد أن يكون سيد نفسه للمرة الأولى . يناقش ، ويقبل ، ويرفض ..
دفعته بيد غاضبة ، وخرجت . اكتفى ـ فى ذهوله ـ بمتابعتها ، وهى تقفز فى نزولها على السلم ..
حين ضغط على الجرس ، ترامى الصمت من الداخل . خبط على الباب بقبضة غاضبة ..
ظل الصمت سادراً ..
أدار المفتاح فى الباب .
كان دولاب حجرة النوم مفتوحاً ، وخالياً من ملابسها . بدا السرير خالياً ، ومرتباً . لا آثار نوم فوق الوسادة ، أو فى الفراش . حتى طيات الأغطية ظلت فى موضعها ..
عرف أنها تركت البيت .
أجهده البحث . تنقل بين أحياء القاهرة . يسأل من كانت تعرفهم ، ومن عرفهم بها . حتى من لم يجاوز تعرفها إليهم حفل الزفاف ، سألهم عنها . طالعه هز الرأس ، مط الشفتين ، القول من خلال الدهشة المتسائلة : لا أعرف . لا يشعر بالتعب إلا حين يسلم جسده إلى الفراش .
تعددت الشوارع التى سار فيها ، والسلالم التى رقاها ، والأبواب التى طرقها ، والسحن التى طالعته . هزة الرأس دلالة النفى تغنى عن القول : لا أعرف . لا أحد يعرف البيت ، أو مرجريت . حاول ـ برسم الكلمات ـ تقريب الصورة فتنشط الذاكرة ، وتتجسد الملامح . لكن نظرة النفى جدار يصد ما يفعل ..
تكرر النفى ، ففرضت التوقعات القاسية نفسها . شعر أنه غير قادر على مواجهة الموقف . تنامت فى داخله هواجس خمن بواعثها . فقد الرغبة فى الحياة . لم يعد لها أى معنى ..
لم يعد أمامه سوى احتمال أن تكون قد صحبت الولد خارج مصر . لا يدرى كيف ولا متى أعدت أوراقها وأوراق الولد ، ولا من الذى ساعدها حتى طارت به . سيطرت عليه فكرة السفر إلى لندن . بدا السفر وسيلة وحيدة لرؤية الولد . يعرف العنوان من مراسلاتها لأمها ، لكنه لا يعرف موضعه إن كان فى قلب المدينة ، أم فى ضاحية لها ، أم فى مدينة إقليمية ..
سار دون أن يعرف جيداً موضع الشارع الذى يقصده .
الفجوة واسعة بين ما كان يتصوره وما يراه . حدثته عن الشقة فى شارع أوكسفورد . قالت إنه يمتلئ بالعرب . الملامح العربية كثيرة . يذهبون للتسوق فى الشارع . الشقة فى الطابق الثالث من بيت تتوسطه . تحدثت عن المقهى فى أسفل البيت ، تضطر للسير بين الكراسى المشغولة حتى تصل إلى الباب الخارجي . خطر له أن يسأل رجل على ناصية الطريق . عانى التردد ، ثم واصل السير .
حدّس أنه يدور فى دوائر . ينتهى إلى النقطة التى بدأ منها . يدرك أنه سبق له رؤية المكان ، فلا معنى للبدء من جديد ..
مضى نحو مكان لا يعرفه .
المدينة الهائلة غابة من البنايات والشوارع والميادين والبشر واللافتات وإعلانات النيون والحدائق والتماثيل والأبراج .
تجول بلا هدف ، لا يدرى إلى أين يتجه ، ولا المكان الذى يريده . ثمة هاتف ـ لا يدرى كنهه ـ يجتذبه إلى مكان ما . يطيل الوقفة ـ دون تأمل حقيقى ـ أمام واجهات المحال ، يغسل وجهه فى نافورة تتوسط ميداناً ، على ناصيته لافتة باسم ميدان " ترافالكار " ، يجلس فوق مقعد خشبى بحديقة عامة . يستعيد يوم صحب الولد إلى خارج البيت ـ لأول مرة ـ ليرى الشمس ، لحظة بصق طعم البن من ثدى أمه ليفطم ، أخذه إلى الحلاق ليصفف شعره بعد أيام من ولادته . يدفعه الشوق لرؤيته ، يراه ، يحتضنه . إذا لم يعثر على الولد ، فلن يكون لديه شىء يصنعه . لو أن عناء البحث ـ باليأس ـ انتهى ، ستصبح الحياة بلا معنى ..
مال إلى شارع إيدجوير الواسع . طالعته اللافتة الزرقاء على ناصية الشارع . هو بالقرب من شارع أكسفورد . الشارعان ، المنطقة كلها ، تمتلئ بالعرب : المطاعم اللبنانية والشرقية . الشاورما والطعمية والحلويات الشرقية واللافتات المكتوبة بالعربية ..
حدّس أنها هنا . ستطالعه فى لحظة ما قد لا يتوقعها ، لكنها موجودة فى شقة ما ، فى هذه البنايات المتلاصقة التى تفصلها الشوارع والحدائق والميادين ..
لندن مدينة كبيرة ، متشعبة ، هى واحدة من الملايين التى تسكن فيها . لا يعرف أين على وجه التحديد ، لكنه يثق من وجودها ، ويثق أن الولد يعيش معها . هى فى بيت من هذه البيوت المتلاصقة أمامه ، من حولها حدائق ، تعلوها أسقف القرميد المائلة ..
أدرك أنه من الصعب أن يمضى فى قلب المدينة ، دون أن يركب سيارة عامة ، تصل إلى أماكن محددة ، يعرف أنها تصل إلى المكان الذى يقصده ..
هذا هو الحى كما وصفته . نسى اسم الشارع ، ورقم البيت . لكن ذاكرته احتفظت باسم الحى ، ربما لسهولته . يتأمل ملامح النساء . يطيل تأمل من يجتذبه الشبه بينها وبين مرجريت . خطواته لا تتبعها ، لكنها تبحث عن الولد ..
صرخ لاختطاف الحقيبة الجلدية الصغيرة من يده . جرى وراء الشاب الزنجى بآخر قوته . سبقه . وضع قدمه فى طريقه ، فسقط الشاب من طوله ..
رد له الشاب الحقيبة . قال وهو ينفض نفسه :
ـ أخف الحقيبة . لن تجرى وراء كل من سيخطفها !
***
توالت أيامه فى المدينة ، دون أن يفقد الأمل . طرد الخاطر بأنه لن يستطيع لقاءها فى هذه المدينة الواسعة ، الغامضة ، الغريبة .
كشف باب المقهى المفتوح والنوافذ الزجاجية عن قاعة واسعة ، صفت فيها موائد ، تتقابل حولها الكراسي .
مال ـ بالتعب ـ إلى الداخل ..
النافذة الزجاجية المغلقة ، بامتداد الواجهة ، جلس وراءها ، يتابع حركة المرور ، ويلمح الداخلين والخارجين .
تشاغل بتأمل المكان ..
ثمة رجال ونساء تقابلوا على الموائد ، وامتلأت الكراسى العالية ، أمام الطاولة الرخامية فى الوسط ، من ورائها أرفف فوقها زجاجات متباينة الألوان ، وأغنية بالفرنسية تترامى من مسجل فى موضع قريب .
تنبه إلى رائحة عطر أنثوى .
التفت بتلقائية . لم يلحظ متى جلست المرأة على الكرسى المجاور ، لكنها كانت تتجه ناحيته بنظرة تعد بما استطاع فهمه ..
تملكه شعور أنه التقى بها من قبل . لا يدرى أين ولا متى . رآها فى مكان ما ، ولعله رآها فى حلم . زادت من المساحيق فى وجهها ، فلم يتعرف ـ من النظرة السريعة ـ إلى ملامحها ..
عاود التطلع إليها .
لاحظ العينين الخضراوين ، عمقتا من خلال الرموش الطويلة والكحل ، والأنف الصغير ، والشفتين المصبوغتين بحمرة قانية زادت من غلظتهما ، ووضعت شامة صغيرة ، مستديرة ، على خدها الأيمن . أدرك من صفرة إصبعيها حول السيجارة ، والسواد فى أسنانها ، أنها تكثر من التدخين ..
عاد إلى تشاغله بتأمل المكان : الأضواء الشاحبة ، والنداءات ، والأغنية الفرنسية الكلمات ..
سحب قدمه من ضغطة حذاء متعمدة . بادرته بالحديث بصورة مفاجئة :
ـ هل أنت آسيوى ؟
ثم وهى تزوى ما بين حاجبيها :
ـ هندى .. باكستانى ..
قاطعها :
ـ مصرى .
ـ جئت للسياحة ؟
ـ لا أمتلك رفاهية السائح .
وهز رأسه فى تأثر :
ـ جئت لحل مشكلة !
روى لها الأمر من بداياته .
وضعت متابعتها فى نظرة ثابتة ، اتجهت بها إليه . هو يروى ، يفض ما بنفسه ، يتهدج صوته بالتأثر ، يغمض عينيه لاستعادة ما مضى . هى تهز رأسها .
***
صحا على ضوء الشمس يقتحم عينيه .
انتفض . تلفت حوله ..
الحجرة الخالية تختلف عما يتذكره حين قدم مع المرأة أول الليل . لاحظ تهدج صوتها ، ونظراتها الداعية . هتف فى داخله صوت يشجعه على المغامرة ، الاستجابة إلى التعبيرات والإيماءات المحرضة . تملكه إحساس أنه يفلت فرصة ربما لن تعود . واتته جرأة لم يتوقعها فى نفسه . لامس يدها المسترخية على الطاولة . لم تسحبها . صحبته إلى شارع جانبى . استقلا المصعد إلى الطابق الخامس .
الشقة الواسعة تسبح فى إضاءة خفيفة ، علقت على الجدران أقنعة إفريقية ، وأقواس ، وسهام ، وفرش على الأرض جلود حيوان . على الطاولة ـ وسط الصالة ـ سلة كبيرة مليئة بالفواكه ، وشمعدانان متجاوران ، وفى الأركان أصص الزهور تصاعدت منها نباتات حلزونية .
استأذنت لتبدّل ثيابها ..
عادت ـ بعد دقائق ـ حافية ، ترتدى قميص نوم من الشيفون الأسود ..
ماذا حدث له فى أثناء الليل ؟
يذكر صحوه ، لكنه لا يذكر ما حدث فى النوم ..
هبط إلى الطريق .
استقبلته الشوارع والساحات والميادين والبنايات وتقاطعات الطرق والأشجار وجلسات المقاهى والوجوه التى لا تعرفه . تشاغل بقراءة لافتات الطريق والمحال ، يحاول استعادة المكان . حتى البنايات الهائلة ، لا يتذكر أنه رآها من قبل . اقتحمه شعور أن كل ما رآه ـ فى الليلة السابقة ـ لم يحدث ، وأن المرأة لا وجود لها ..
واصل السير .
لم يعد يدرى مقصده . نسى ما يريده ، ما يبحث عنه ..
أخذته الشوارع . تقاطعت الطرق ، وتفرعت . اختلطت ـ فى عينيه ـ السحن والقامات والأزياء والأصوات . أدرك أنه فى مدينة غريبة ، لم يرها من قبل ..
طالعه فى أفق الطريق ما يشبه الغلالة التى تتخلل المرئيات . بدا المارة ـ من ورائها ـ كأطياف ، أو كأشباح . يتعالى وقع الأقدام على الأرض المنداة ، دون أن يستبين الأجساد ، ولا الوجوه . حتى أضواء الشوارع والمحال ، غلفها الشحوب . تلاحقت الغلالات ، تشابكت ، تحولت إلى موجات من الضباب المتكاثف . تصاعدت موجات الضباب حتى غطت البشر والأبنية وأسفلت الطريق ..
لم يعد يعرف من هو ، ولا فى أية مدينة يعانى التلفت ، لا يعرف شيئاً مما يتحرك حوله ..
لماذا هو فى هذه المدينة ، وإلى أين يتجه ؟
اشتد الضباب ، فغابت الرؤية .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:19 AM
*ارتحال السكون*
.........................

طرف الخيط يصعب التقاطه . وصل النتائج بأسبابها ربما ساعد على توضيح ما غمض . أتابعك وأنت تميلين من ناحية شارع سيدى داود إلى شارع الحجارى . لا أحاول اجتذابك إلى حديث بسؤال ، أو ملاحظة . أكتفى بهزة الرأس . أظهر التأثر لرؤيتك وأنت تفتحين الباب الزجاجى ، وتعيدين ترتيب البضائع على الأرفف ، وفى الفاترينة ، وتكنسين داخل الدكان وخارجه . حلوى من كل الأنواع . علب الشيكولاتة والبسكويت ، وأقراص المشبك والكعك والمعمولة ، ومكعبات الزبدة والكيك والجاتوه، والمرطبات والمياه الغازية ، والدولاب الزجاجى على أرففه قطع التورتة بتكوينات مختلفة ، وصينية الهريسة تعلو النيران الهادئة ..
لم يعد فى حياتى قبل ولا بعد . خلت مساحة الصورة إلا منك . لم أعد أرى فى الدنيا فتاة أخرى . أضع اهتمامى ـ بالساعات ـ فى وقفتى وراء النافذة . أتابع كل ما تفعلين . ألحظ حتى التصرفات العفوية . أخمن الكلمات التى ترافقها ابتسامة وجهك ، فى بيع الحلوى للزبائن . أرهف سمعى كأنى أريد التقاط الهمسات المتبادلة بينك وبين مدحت شاهين . أهمل حتى مواربة ضلفتى النافذة عندما تقتحم الشمس الشقة ، بعد أن تتجه إلى الناحية المقابلة. ذلك ما كنت أحرص عليه ، أو أغلق النافذة تماماً ، منذ الظهر إلى ما بعد المغرب ..
أذكر متى ظهر مدحت شاهين فى حياتك ، فى حياتنا . هز المفتاح فى يده وهو يتجه ناحية دكان أدوات الصيد الملاصق لدكان الحلوانى الذى تعملين فيه . القامة طويلة ، والبشرة نحاسية ، والعينان تشيان بنظرة مقتحمة . تابعت انشغاله بترتيب كومات الغزل والحبال وقطع الفلين والإسفنج وبراميل القطران والبوص والسنارات والسكاكين والخطافات وطعم السمك .
لاحظت ـ من وقفتى فى النافذة المطلة على ناصية شارع الحجارى ـ أنه قدم نفسه فى اللحظة الأولى ، كأنه قدم للتعرف إليك . تحولت هزة الرأس المحيية ـ فى الأيام التالية ـ إلى مناقشات ، وأخذ ورد ، وملاحظات . اعتدت وقوفه بعيداً عن دكان أدوات الصيد ، ووقوفه أمام دكانك . بدا كشيطان برز فى حياتنا ليفسدها . يشغلك حتى عن نفسك ، ويقتلنى بالتوتر ..
حين يقرر المرء أن يحب ، فهو يبحث عمن يبادله العاطفة . تصورت ظهوره فى حياتك بداية علاقة جميلة تأنسين إليها . ألمح التماع عينيك البنيتين ، وارتعاشة أنفك الدقيق ، والحمرة التى تغطى وجنتيك . تابعت لهفتك وأنت تنظرين إلى دكان الصيد المغلق . التوتر ينطق فى ملامحك وتصرفاتك . لما عاد ـ فى اليوم السابع ـ على شفتيه ابتسامة فقدت المعنى ، حدست أن غيابه ليعرف ما فى نفسك ، ليزيد من شوقك للقائه ، وإيلامك .
كنت أضيق ـ أحياناً ـ بسكوتك عن تصرفاته ، وقبولك ما لا ينبغى أن تقبليه . أتململ فى وقفتى وراء النافذة لرؤية تطور العلاقة بغير ما كنت أتوقعه . يناوشنى الفضول ، والرغبة فى المتابعة . يداخلنى شعور بالضيق ، وربما الغضب ، لصمتك أمام ما يقوله ، أو يفعله . تؤلمنى نظرة الرضا فى عينيك . تتصاعد فى أعماقى موجات غضب تجاه تصرفاته فى مواجهة عجزك الواضح . تثيرنى قدرته فى السيطرة على حياتك : الثياب ، ومفردات الكلام ، وطريقة المشى ، والجلوس . حتى ما تضيفينه إلى جسدك أو تختزلينه من كيلو جرامات . كأنه أخطبوط يقيد تصرفاتك ، يمنعك من الحركة ، يعتصر حياتك ، تواجهين الموت لو أنك حاولت المقاومة ..
فقدت صبرى تجاهك . أعانى ما يفعله . أرتجف للتصرف الذى يمليه عليك ، كأنى أنا المقصود بنصائحه وملاحظاته وأوامره . حتى الثياب التى أحدس أنه دفعك إلى ارتدائها ، تمنيت لو أنك رفضت نصيحته .
بدا الأمر شخصياً . أحسست أنه يخصنى ، وأنك تخذليننى بصمتك عن تصرفاته . فى لحظة شعرت بميل إلى الغثيان . أرفض مجرد الإشفاق على ما بدت عليه العلاقة بينك وبينه . أفسد ـ بتصرفاته ـ صورتك الجميلة . غابت النظرة الطفولية الصافية . حل بدلاً منها توتر ينعكس فى ارتجاف أنفك وعينيك ، والارتباك الذى يسم تصرفاتك . تخفضين رأسك أمام عباراته القاسية ـ لابد أن تكون قاسية ـ وتكور قبضة يده بما يعنى التهديد .
أحدس مشاعرك وما تعانين ، من تعبيرات يديك ، وملامح وجهك ، والدموع التى تمسحينها بكم البلوزة البيضاء ..
لم تعد متابعتى فضولاً ، ولا حب استطلاع . شغلنى ما يحدث . أضيق بتصرفاته ، وأحزن لصمتك عما يفعل . تشغلنى توقعات أخشاها ، ولا تفطنين إليها ، وإن اكتفيت بالوقوف وراء النافذة ، وتأمل ما يجرى فى الناحية المقابلة .
همس فى أذنك بما لم أتبينه . انعكست كلماته ضيقاً فى ملامحك ، وأشحت بيدك . عاد إلى أذنك بفمه . حدست أنه يهون عليك ، ويعتذر عما فعل . قال ما استدعيت له ابتسامة ، أدركت أنها لإنهاء الموقف ، أو للمجاملة . عرفت أنه لم تعد بينكما مساحة ود . تداخلت فى نفسى مشاعر غامضة ، لم أدر إن حزنت أم سررت لها ..
أزمعت أن أفعل شيئاً ، وإن لم أدرك ـ على وجه التحديد ـ ما يمكن أن أفعله . أقاوم التردد ، وأطرده . أعبر المسافة بين البيت والدكان . أواجهه بما أكتمه فى نفسى ، وأتقبل النتائج . لكننى أعانى فقدان الرغبة فى مواجهته ، أو أنى كنت أخشى المواجهة . ما أراه من تصرفاته ، يتسلل إلى داخلى بأسئلة قاسية ، ولعله الخوف ..
كنت دائم التخيل لمواجهتى له . أحاصره فى زاوية الدكان . أحذّره من تصرفاته القاسية مع أميرتى الجميلة . أصوب إليه من اللكمات ما يجبره على التدخل ..
ناقشت الأمر بينى وبين نفسى : ماذا لو أنى وقفت أمامك ، وهمست شفتاى بالتحذير ، فواجهت الصدود ؟ هل أظل فى وقفتى ، أو أتمنى الموت
هل فطنت إلى ارتباكى وأنت تطالعيننى بملامح الأميرة فى وقفتك أمام باب الشقة . تداخلت فى نفسى مشاعر كثيرة ، غامضة . ما أذكره أنى أخفقت فى استدعاء الكلمات التى أرد بها على قولك الهامس :
ـ أستأذنك فى التليفون .
اتسم رد الفعل فى تصرفى لعفوية لم أتدبرها . غمغمت بعبارة ترحيب لا أذكرها . أفسحت لك الطريق . تأملت الشقة بتوقع نظراتك لها . الصالة الواسعة ، تتوسطها طاولة خشبية الصغيرة مغطاة بمفرش من القطيفة الحمراء ، حولها أربعة كراسى . تحتها فروة خروف ، فرشت كسجادة . اللوحات على الجدران للكعبة وصور فوتوغرافية ، ولوحات تآكلت حوافها ، أو شحبت ألوانها بمرور الوقت . الأبليكان المتقابلان على الحائط . المكتب الخشبى الصغير ، فوقه أوراق تصدير واستيراد وكتب فى المعاملات التجارية ، النجفة الخالية إلا من لمبة واحدة ، الكنبة الاستانبولى ، المروحة المتدلية من السقف تصدر طنيناً خافتاً ..
غالبت التردد لكى أنبهك إلى خطورة ما يفعله مدحت شاهين .
ـ مدحت شاهين .. قريبك ؟
التمعت عيناك البنيتان بتساؤل :
ـ لا . هو المسئول عن دكان الصيد ..
ثم فى نبرة التساؤل :
ـ لماذا ؟
ـ لا أرتاح له .
وأنت تربتين صدرك :
ـ أراه إنساناً لطيفاً ..
ـ هذا رأيك .. لى رأى آخر .
واتجهت بنظرى إلى الناحية المقابلة .
أدركت أنك تهملين تصرفاته القاسية لأنك تخشين غيابه ، فقده . لا يشغلك سوى أن يظل فى حياتك . يأتى إلى دكانه كل صباح . يقضى فيه النهار . يحدثك ـ فى وقفته على الحد الفاصل ، أو أمام دكان الحلوى ـ وإن وجدت فى انعكاسات كلماته على ملامحك ما يسهل فهمه .
ألزمت نفسى أن أظل هادئاً ، وأترك الأحداث تمضى كما هى ، هذه إرادتك . لا أتدخل على أى نحو .
لم أعد أتردد على الدائرة الجمركية إلا لأوقّع فى الساعة . هأنذا أحرص على المجىء إلى عملى ، ثم أعود . ألزم موضعى وراء النافذة ، أرقب ما يحدث فى الدكانين المتلاصقين . يبدأ يومى عندما تقبلين من ناحية الموازينى أو رأس التين . تضعين المفتاح فى الباب الزجاجى . تتأكدين من ترتيب الحلوى ، أو تعيدين ترتيبها . أهملت ملابسى والقراءة ومشاهدة التليفزيون ونوم القيلولة . حتى الطعام أتناوله فى وقفتى وراء النافذة ، لا تتحول عيناى عن الموضع الذى اجتذب اهتمامى . إذا أغلقتما الدكانين ، أنسحب إلى الداخل . أرتمى ـ بالتعب ـ على السرير . أغيب فى النوم . أصحو على رنين جرس الباب . أضع الجريدة على الطاولة الصغيرة ، لا أحاول حتى مطالعة عناوينها . أمضى إلى الدائرة الجمركية ، وأعود . ألزم وقفتى وراء النافذة .
أثارت الحقيبة الجلدية فى يدك دهشتى . أشرت إليه وأنت تتكلمين ، خمنت أن ما بالحقيبة يخصكما . لم تحاولى فتحها ، فأحاول تبين ما بها . حين أغلقتما الدكانين ، ورفع الحقيبة على كتفه ، وسرتما معاً ، انداحت فى داخلى مشاعر الضيق ـ أظن أنه لم يكن مجرد ضيق ـ حدست أنه يرافقك إلى مكان لا أعرفه ، وإن كنت لا أحب أن تذهبى إليه . تابعتكما ـ فى رمادية الغروب ـ تمضيان إلى نهاية الحجارى ..
كانت الظلال قد تقلصت ، وانسحبت بقايا الشمس خلف البيوت وأعلى الجدران . لم تعد إلا ذؤابات أميل إلى الحمرة .
تكرر ما حدث فى الأيام التالية . يدفعنى التوتر إلى خارج البيت . تتابعكما عيناى حتى تغيبان فى انحناءة الطريق إلى شارع رأس التين . أترك النافذة مفتوحة . أهبط درجات السلم . أتجه ناحية البحر ، تلازمنى أفكار مختلطة ، ومتشابكة ، لا حصر لها . تتأمل نظراتى ما لا أراه ، أو أتبينه ، التفصيلات الصغيرة تلح فى ذاكرتى : الكلمات الهامسة والزاعقة ، تكور قبضة اليد ، توبيخه المتكرر لك ، دون مقدمات ، وبلا سبب ..
أدركت أن مراقبة ما يجرى من وراء النافذة ، خطأ ينبغى التنبه إليه . أزمعت أن أبادره بتصرفات العداء ، وأدفعه إلى ترك دكان الصيد ، والحى كله . تحاصره المضايقات ، فيذهب بلا عودة . هو غريب عن بحرى ، وإن لم أعرف إن كان من الإسكندرية أم من خارجها . لا أذكر أنى التقيت به فى جامع ولا شارع ولا مقهى . بدت سحنته غريبة حين رأيته ـ أمام الدكان ـ للمرة الأولى ..
فى غبشة الصباح الباكر ، عبرت مسافة الطريق بين البيت ودكان الصيد . دلقت الماء الوسخ على بلاط الرصيف ، أمام الدكان . صبغت بابه بالشحم وبوية الزيت وما شوهه . كتبت على الجدار عبارات التهديد والشتم . دسست فى أسفل زيق الباب عملاً يذهل الشاب عن نفسه . تغيبين عن عينيه وذاكرته ، وعن حياته .
ظلت علاقتكما ـ فى الأيام التالية ـ على حالها . لم تتأثر بما صنعته . قاومت الاستياء حين رأيته يكتفى بتأملك ، وأنت تكنسين الماء الوسخ ، وتزيلين الصبغة من الباب ، وتقذفين العمل فى فتحة البالوعة لصق الرصيف .
كان الشارع ـ وقت الظهر ـ خالياً ، ودكان الحلوى بلا زبائن ، ودكان الصيد مغلقاً بلا سبب أعرفه .
لم أطل مناقشة ما اعتزمت . اندفعت إلى الناحية المقابلة ..
ـ هل استغنى صاحب الدكان عن مدحت شاهين ؟
علا حاجباك بالدهشة وأنت تنفضين يديك من بقايا الفانيليا :
ـ ما شأنك ؟
ـ الدكان لم يغلق منذ فترة طويلة ..
أشرت إلى صدرك بأصابع مضمومة :
ـ لا شأن لى ..
ورمقتنى بنظرة غاضبة :
ـ ولا شأن لك .
حاولت أن أتكلم ، لكن نظرتك الزاجرة ، أعادتنى إلى حيث كنت .
***
أذهلنى ما رأيت .
كان يدفعك بقبضته فى كتفك ، وهو يتكلم ، وأنت تتراجعين إلى الوراء ، وتتألمين . أومأت بعينك إلى الطريق ، تنبهينه إلى الأعين التى ربما تلحظ ما يفعل . رفعت يديك تحمين وجهك من ضربته المتوقعة . قاومته . حاولت أن تتملصى من يديه ، تفلتى بجسدك ، لكنه جذب شعرك ، لفه حول يده ، خبط رأسك فى الحائط . خلت ملامحه من التوقع ما إذا كانت الضربات ستجرحك ، أو ـ ربما ـ تقتلك . ألقى بك على الأرض ، لا يأبه بصراخك ، ولا انحسار الفستان عن ساقيك إلى أعلى الفخذين . توقعت ، تمنيت ، أن تردى ضرباته . لا تهملين جسدك بين يديه ، يضربه بآخر قوته ، دون أن يعبأ بتألمك وصراخك ..
انبثقت من كتفيه أذرع كثيرة ، امتدت الأصابع الخمسة فى كل يد . أحاطت بكل جسدك ، لم تترك جزءاً دون أن تصل إليه الضربات . تحولت إلى دمية يمارس فيها العنف .
تبدلت المرئيات . تحولت إلى أشكال لم أفهمها ، وفقدت الملامح معانيها .
لم يكن أمامى وقت حتى لمجرد التفكير فيما يحدث . تصاعد من أعماقى ما غطى حتى على قدرتى فى التفكير . علا فى صدرى ما يشبه قرع الطبول ..
ينبغى على المرء ـ فى لحظة ما ـ أن يتخذ قراراً يتصل بحياته ، وحياة من يهمونه . زايلتنى القدرة على الوقوف فى موضعى وراء النافذة ، والاكتفاء بالمتابعة . أزمعت أن أتصرف بحيث يعرف مدحت شاهين أن لك أصدقاء يقفون إلى جانبك ، ويدافعون عنك .
هبطت الدرجات القليلة المفضية إلى الطريق . عبرت الزحام والسيارات والنداءات والصيحات والعبارات المتسائلة .
واجهته بملامح غاضبة ..
لم يشغلنى رد الفعل ، ولا ما إذا كان يستطيع رد ضرباتى . لكننى ضربته بكل الترقب والمعاناة والغل والغضب والتحدى . لم أتدبر أين اتجهت ضرباتى ، أضرب ، وأضرب ، وأضرب ، ضربته بآخر قوتى .
حين تنبه إلى ما فعلت ، انتفض كعملاق ، وواجه ضرباتى بما لم أتوقعه ، ولا قدرة لى على مغالبته .
أهملت التخاذل والتهاوى . لم يشغلنى حتى الدم الذى انبثق من جبهتى ، ولا الآلام التى صرخت فى كل جسدى . دفس ركبتيه فى صدرى . توالت صفعاته وركلاته ، دون أن أقوى على مجرد الرد .
تماوجت ملامحه ، واهتز الواقفون والمارة والجدران وأسفلت الطريق والسيارات والنوافذ والشرفات وأعمدة النور . شعرت بما يشبه الدوار ، والميل إلى الإغماء ، وأن روحى آخذة فى التلاشى ، لكننى تماسكت فى وقفتى ، وتساندت على إفريز الجدار . حاولت أن أستجمع قوتى . أرد على ضرباته الموجعة بما وسعنى . مجرد أن ألامس رأسه أو وجهه أو ساقيه .
كنت أدافع عنك . كنت أدافع عن نفسى .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 10:20 AM
*الحَرّاتـــــــون*
........................

أدركت أن هناك من سبقنى إلى دخول الحجرة ..
لم أكن جاوزت الباب عندما بدا الأثاث القليل فى غير المواضع التى تركته عليها : السرير المعدنى الصغير لصق الجدار ، نزعت الملاءة عن المرتبة الإسفنجية ، وما كان على المكتب ـ فى الناحية المقابلة ـ من كتب وأوراق وملفات ، تناثر على الأرض . حتى لوحة المنظر الطبيعى المعلقة على الجدار ، انتزعت من مكانها ، واختلطت بالأوراق المتناثرة على الأرض ، وطوح بالكرسى ناحية الباب ..
بدا ما حدث رسالة تؤكد أن من سبقنى لدخول الحجرة ، أراد إبلاغى رسالة بقدومه ، وأنه قدم لمهمة لم أعرف إن كانت قد تحققت ..
تسلمت مفتاح الحجرة فى اليوم الأول لنزولى الفندق ، لكننى كنت أتركها مفتوحة . ينفض عبد الرحمن ما يهب عليها من الأتربة ورمال الصحراء ـ فى تلك الأيام من يونيو 1975 ، الشديدة السخونة ـ يعيد تسوية الفراش ، ربما استبدل الملاءة وأغطية الوسائد إن تبين فيها رائحة العرق ..
تخلى عبد الرحمن عن نظراته الصامتة وتجهمه :
ـ جاءوا فى الصباح ..
لم أكن أقوى على مواجهة نظراته . شىء ما لم أتمكن من تحديده ، يثيرنى فى صمته ونظراته الساكنة ، هى نظرات تجمع بين الغضب والرفض والكراهية . أتعمد ، فلا أنظر إليه مباشرة ، حتى لا يفطن إلى ارتباكى . لا أكرهه ، ولا أتعالى عليه ، وإن حرص على أن يقيم ـ بتصرفاته الصامتة ـ جداراً بينى وبينه . ينصت ، ويجيب عن الأسئلة ، وينفذ الأوامر ، دون أن يغادر الجمود ملامحه ..
قلت :
ـ أنت تثيرنى بتصرفاتك ..
قال :
ـ لا أتأخر عن مطالبك ..
ـ ليس هذا ما أعنيه . أنت تقيم جداراً بينك وبينى ..
ـ أنا خادم .. أنت السيد الذى يأمر ..
ـ أنا ضيف ، لا شأن لى إن كنت خادماً أم سيداً ..
ـ عملى أن أظل فى خدمتك ..
أطلقت أف مستاءة :
ـ تصر على مضايقتى .
بدا لى أن العداء هو ما يربطه بى . لا تشغله محاولاتى لاجتذاب صداقته . يتحصن بالصمت حتى وهو ينظف القاعة والحجرات ، ويرتب الأثاث ، ويعد القهوة أو الشاى . ألتقى بأعضاء من مجلس النواب . أسألهم ، وأسجل أجوبتهم فى أوراقى . ربما تواعدت معهم على لقاءات خارج الفندق . أعرف أنه وضع لى صورة لا تختلف عن صور النواب الذين يترددون على الفندق . هم السادة ، وهو الحرتانى .
كنت أشعر نحوه بمودة ، لم أحاول تفسيرها . شغلنى إبداء تعاطفى ناحيته . تمنيت أن يقابل مشاعرى نحوه بما يساويها ، بمشاعر مماثلة . ضايقنى أنى لم أفلح فى الاقتراب منه ، أو تحريضه على الاقتراب منى . تصورت أن النظرة إليه هى التى تملى عليه تصرفاته . لم يكن يتحدث عن شىء يضايقه ، وإن اكتفى بالملامح الساكنة والنظرة المتجهمة . تبينت ـ بجولاتى ولقاءاتى ـ أن الفروق الاجتماعية لا تشكل ظاهرة ، ولا هى لافتة للنظر . يحيونها باعتبارها وسيلة الحياة ، السادة والحراتين . لا ينطقون الكلمتين ، وإن مارسوا الفعل . السيادة على ما يملكون من عبيد ، حراتين ..
واجهته بنظرة متسائلة :
ـ من ؟
قال :
ـ لا أعرف . إنهم يأتون دائماً للبحث عن أوراق ..
أردف :
ـ هذا ما يفعلونه دائماً فى كل حجرات الفندق !
ـ حتى حجرات النواب ؟
هز رأسه دلالة التأكيد ..
حين أوفدتنى منظمة اليونسيف إلى نواكشوط لدراسة مشكلة الحراتين ، قصرت تحركى بين فندق البرلمان ـ حيث أقيم ـ وخيام الحراتين ، فى الطريق إلى أكجوجيت .
رائحة النوم تسود الفندق ذى الطابق الواحد ، والصالة الواسعة ، والحجرات على الجانبين ، اسودت أجزاء الجدران السفلية بتوالى التبول عليها . يتناثر فى الأركان براز يشى سواده بمدته الطويلة ، ومياه راكدة ، وعطن .
حدست أنه من الصعب أن يقيم فى الفندق من يترددون عليه . هو مكان فلإقامة الطارئة ، لأيام تطول أو تقصر ، من الصعب أن تمتد لفترة طويلة .
البناية متسقة مع البنايات المطلة على الشارع المتقاطع مع الشارع الرئيسى المفضى إلى القصر الجمهورى . حتى مكاتب شركات الطيران والمؤسسات الحكومية فى امتداد الشارع ، لم تكن تعلو عن طابقين ..
أقف فى الشرفة المطلة على الطريق المفضى إلى المحيط . يترامى ـ عبر الظلمة الحالكة ـ هدير الأمواج . أخترق الصحراء ـ بمفردى ـ فى سيارة لاندروفر ، يقودها سائق سنغالى ، ينطق العربية بلكنة متعثرة . وضعتها حكومة موريتانيا تحت تصرفى . الصحراء الواقعة بين المحيط الأطلسى والنيجر والسنغال ، لم تعد كما كانت . هى جزيرة صحراوية ، تتناثر فيها المدن والقرى والخيام والزراعات والمراعى والجدب .
تنقلت بين المدن والقرى والمعسكرات ، حتى روسو على ضفة نهر السنغال . ربما سافرت إلى مدن : قاعدى ، نواذيبو ، كيفه ، زويرات ، أكجوجيت . التقيت بأفراد وجماعات من قبائل الفولانى والتكرور وساراكوللى وولوف . نزلت ضيفاً على قبائل أولياء الله الصالحين ، والقبائل المحاربة ، وقبائل الموالين ..
البيوت ذات الطابقين مغلقة . إلى جوارها خيام ، ربما بالمساحة نفسها . حركة الناس فى داخلها وأمامها ، تشى بأنها هى مكان الإقامة ..
لماذا البيوت مغلقة ؟ ولماذا يسكن الناس فى الخيام ؟
رفض أفراد طائفة التنوروبى ، طائفة النبلاء الأشراف ، استقبالى ، أو حتى الرد على أسئلتى المكتوبة .
قال الشيخ الممتلئ الجسد ، المربد السحنة :
ـ هذه فرية لا أنصحك بتصديقها ..
قلت :
ـ لا أصدق ولا أكذب .. أنا أبحث عن الحقيقة ..
ـ الحقيقة هى ما تراه ..
ثم وهو يشيح بيده :
ـ الحراتين جزء من الماضى .
***
كيف عرف الرجل ما جرى بينى وبين شيخ طائفة التنوروبى؟
لم أكن قد التقيت به من قبل . ولد البشير ، قدم نفسه مسئولاً بوزارة الخارجية ..
ـ أنتم الذين نشرتم الفوضى فى الحجرة ..
فوت ملاحظتى المتسائلة . افتعل ابتسامة :
ـ نحن نعطيك تقريراً واقعياً ..
شعرت بالارتباك . حاولت أن أثبت نظرى على شىء ما ، أتظاهر بأنى أتأمله ، حتى أعود إلى نفسى ..
ـ لن أذكر فى تقريرى سوى الحقيقة ..
ـ الحقيقة أبلغك بها شيخ التنوروبى ..
واتجه ناحيتى بملامح غاضبة :
ـ حكومتى لن توافق على معنى آخر ..
بدا الموقف أعقد من أن أتخذ فيه قراراً سريعاً . قال الرجل ما قال ومضى . أحسست بالخطر . توقعت ما لا أدركه ، حتى فى الهواء الذى أتنفسه ..
قال عبد الرحمن :
ـ الحراتون حقيقة لن يلغيها كذب الرجل ..
أردف لنظرتى المتسائلة :
ـ أستأذنك فى أن تكون ضيف قبيلتى ..
اجتذبتنى رنة الصدق فى صوته . تأملت بشرته الداكنة السمرة ، وشعره الأجعد ، وعينيه الواسعتين الصريحتين ..
صحبنى إلى خارج نواكشوط ، بالقرب من المحيط . مئات الخيام ، وأكواخ الصفيح ، فوق الأرض الرملية ، سدت أبوابها وثغراتها بالحصير ، والستائر المجدولة من قطع القماش الملون . يتخللها أولاد يلعبون ، وباعة ، وقطط ، وكلاب ، ونفايات ..
قال :
ـ هؤلاء هم الحراتون ..
لم يضف إلى قوله ما يعيننى على الفهم ، وإن بدت الظروف القاسية فى غير حاجة إلى شرح من أى نوع ..
قلت :
ـ لماذا يقبلون ؟
ـ العبودية ملغاة .. لكن الفقر موجود ..
أردف :
ـ يعودون إلى العبودية بإرادتهم !
قبائل الحراتين . يشكلون بالفعل قبائل كبيرة العدد . جلست إلى أعداد من طائفة الماتشوبى . الملامح الزنجية ، الشعر الأكرت ـ التصرفات المتذللة ، الأعمال التى تكاد تقتصر عليهم . عبيد استردوا حريتهم . صاروا خدماً ، وإن حظوا بمجالسة أسيادهم . ذابت الفواصل إلى حد يصعب إزالته ، يعيشون على التقاليد والعادات المستقرة . حتى المال لا قيمة له عندهم ، سيظل الحراتيون كذلك . ليسوا من الماضى . لم يعودوا كذلك .
أحسست فى رفقته بألفة لم أشعر بها من قبل . زال كل ما كان بينى وبينه من حواجز غير مرئية . نشأت بيننا رابطة ، مشاعر صداقة . الملامح المتجهمة أشبه بقشرة تخفى نفساً طيبة . بدا مطمئناً إلى حياته : يعيشها ، فيعبره الناس . لا يهتمون به . لا يعنون بمشاعره ، ولا ماذا يفكر فيه ، أو يفعله . اعتاد العيش فى ظروف قاسية ، فرضت عليه . يكتم الأحاسيس المتنامية فى داخله ، بالتمرد أو الرفض ..
تكلم إلى حد الثرثرة . فندق " مرحبا " فى شارع جمال عبد الناصر يقتصر ـ إلا فى النادر ـ على الفرنسيين والسياح الأجانب . أقصى إمكانية أمن تطلبها حفلات الغناء والرقص ـ تحضرها زوجة رئيس الجمهورية ـ فى ليال متقاربة داخل الفندق .
شكا لى من أن كل ما بفندق البرلمان ، المخصص لنواب المدن البعيدة ، مسئوليته وحده : المسح والكنس وترتيب الأثاث وغسيل الملابس . قد يعد الطعام والشاى والقهوة . النظرات الغاضبة ترفض مجرد إشارته إلى ما يفعله الأطفال . لا يتركون شيئاً فى حاله . ابتلع ما كان قد تهيأ لقوله حين علا صوت الرجل فى غضب :
ـ أنت خادم فى المكان ولست صاحبه ..
بدت عليه الدهشة لسؤالى المفاجئ :
ـ ألا تخشى من أن يرونا معاً ؟
ـ من هم ؟
اكتفيت بالإشارة إلى موضع غير محدد ..
قال :
ـ لأول مرة أشعر بحريتى فى تصرف وأنا أصحبك الآن ..
أردف :
ـ جميل أن تنفذ ما تريده لا ما يملى عليك ..
وأنا أتجه إلى حجرتى مددت يدى لأصافحه . بدا عليه تردد . أدركت أنه لم يتوقع أن ألامسه ..
***
لا أعرف من حصل على التقرير . وضعته داخل الحقيبة . لم أتصور أنه سيختفى ، ولا إن كانت الحكومة يشغلها الاطلاع على التقرير .
حدثنى ولد البشير عن الأماكن التى أزورها . أشار إلى زياراتى لضفة نهر السنغال ، ترددى على الحى الإدارى ، ومبانى الوزارات المتلاصقة ، وعلى دار السينما الوحيدة ، تقدم عروضاً متواصلة بلا رقابة ، شراء احتياجاتى من السوق الشعبى على اليسار ، فى نهاية شارع جمال عبد الناصر ، وقفتى ـ فى الليل ـ على الشاطئ ، أترقب النسائم القادمة من المحيط الأطلسى تلطف سخونة النهار . حتى تأملى لأذان الصلاة فى أى موضع من الطريق . مجرد أن يقف المرء فى مواجهة القبيلة ، ويكبّر ، ويبدأ الصلاة .
أدركت أنه يريد أن يكشف حتى تحركاتى الصغيرة ، وما لم أتصور أنه موضع رقابة ..
قلت :
ـ كتبت فى تقريرى ما رأيته ..
أردفت :
ـ ليس هناك أقسى من أن يكون الإنسان حراتياً ..
ـ الحراتون ينتمون إلى الماضى ..
ـ هل ادعى من قابلتهم بأنهم حراتون ؟
بدا عليه غضب :
ـ نحن لا نوافق على هذا التقرير ..
قلت مدفوعاً بما يشبه التحدى :
ـ وأنا أصر عليه ..
ـ من حق حكومتى أن تعتبرك شخصاً غير مرغوب فيه ..
أهمل نظرتى المندهشة ، ومضى .
اقتحمنى شعور أنى وحيد . أواجه العالم بمفردى .
فاجأنى عبد الرحمن بالقول :
ـ أعرف ما حدث ..
رمقته بنظرة متسائلة ، دون أن أتكلم ..
قال :
ـ جاء السيد ولد البشير إلى الفندق هذا الصباح . أصدر أوامره بأن أعد حقيبتك لترحيلك إلى المطار فى أى وقت ..
ـ هو الذى قال هذا ؟
قاوم الارتباك :
ـ كنت أؤدى عملى . استمعت إليه بالمصادفة ..
ـ وهل أعددت الحقيبة ؟
ـ موجودة فى الحجرة ..
***
فارقنى موظف وزارة الخارجية عند الباب المفتوح . تلاصق فى جانب قاعة المطار " كاونتر " الجوازات ، وثلاثة لشركات الطيران . أعداد القادمين والمسافرين قليلة ، تناثروا فى القاعة المستطيلة ، المزينة بالنقوش والمقرنصات . غطيت أرضيتها بالأسمنت ، وتسربت من ثقوب النوافذ ذات القضبان الحديدية ، تقاطعات ضوء وظل ، فوق الأرض ، وعلى الجدران .
حين هممت بدخول الصالة الداخلية ، لامست يدى جيبى ، أطمئن إلى أوراق قدمها لى عبد الرحمن ، وأنا أتهيأ لترك الفندق ، والبسمة المعتذرة تملأ وجهه :
ـ معلومات ، ربما أضفتها إلى تقريرك .

............................
(انتهت المجموعة)
............................