المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رائحة الزرع



عبدالله الطليان
21/12/2007, 04:05 PM
تشرق شمس يوم جديد على ذلك الدار الذي يقع في آخر القرية , وقد أحاطت به الأشجار من كل اتجاه وبدأت معالمه خفية فلا يستطيع أن يرى ألا بعد أن يعبر المرء طريقا ترابيا تحفه ظلال أشجار الصنوبر عن اليمين واليسار، يمتد لمسافة ليست بالقصيرة ليقابله بعدها ساحة واسعة أمام الدار وقد زينها حوضين من الزهور على جانبي المدخل , فأعطت للمكان منظرا رائعا وبثت رائحة زكيه, تبعث النشوة في الجسد .
انه بيت العم عبد الرحمن الذي كان يعيش مع أفراد أسرته التي تتكون من ثلاثة أبناء إضافة إلى زوجته , كانت تلك الأسرة تعيش في قوتها على ما تجود به مزرعتهم الواسعة والممتدة في كل اتجاه, والتي تميزت بإنتاجها على مستوى القرية من حيث الخضار والفاكهة، بل أخذت شهرة وذاع صيتها في كل القرى المجاورة لجودة محاصيلها، وهذا عائد إلى ما بذله العم عبد الرحمن وأبناءه من جهد ونشاط .
ومع مرور الزمن و تقدم العم عبد الرحمن في السن وبدا عطاءه يقل راح يحمل على أبناءه ويدعوهم إلى الجد والمحافظة على سير العمل وعدم التكاسل , لكن حماسة وحرصه ضاع هذه المرة عندما دب الخلاف بين أبنائه حول تحصيل ثمن بيع المحصول ومن يملك الأحقية في القبض من التجار ، ومع تطور الخلاف تراجع المحصول وقل الإنتاج , ولم يعد يجدي الكلام الذي يردده العم عبد الرحمن لأبنائه.
ومع زحف الكبر عليه وضعف جسمه صار يخرج فقط إلى مقدمة الدار لكي يستمتع بمنظر الزهور ويحاول حسب طاقته الاعتناء بها .
وفي أحد الأيام اجتمع الأبناء وقرروا بيع المزرعة و الانتقال إلى المدينة ، تعب السنين وشقاء العم عبد الرحمن يضيع لقد نزل الخبر عليه فكاد أن يهلك من هول الصدمة , وفي نهاية المطاف وتحت وقع المشاكل والخلافات انصاع مكرها وهو يتألم ،ووافق على رأى أبنائه. سوف يودع جزءا من حياته . أنها الأرض التي عاشت معه في كل لحظة، ومنذ شبابه ساهمت يده في بذر وحرث في كل بقعة فيها . أنهم ينزعون قلبه وروحه . وداعا أيتها الحقول الخضراء. وداعا يا خرير الماء وزقزقة العصافير ورائحة الزهور مع الصباح.
كيف سيتحمل فراق ما بناه عبر السنين؟ الآن يجرد من كل هذا. تجلد وصبر وحبس المرارة داخل نفسه. لقد انتهى كل شي . عليه أن يخلي المزرعة لصاحبها الجديد. حملة أمتعته إلى عربة النقل ودعاه ابنه الأكبر إلى الركوب معه للاتجاه صوب المدينة , وعندما انطلقت بهم العربة نظرا العم عبدا لرحمن النظرة الأخيرة على مزرعته، عندها نزلت دمعة من عينيه حسرة لفقدها، شقت العربة طريقها إلى دار ابنه الأكبر للإقامة ، فقد أعد له ملحق خاص وضع فيه كل متطلباته وحاجياته، لكن، مع مرور الأيام شعر بالوحدة والملل، وأصبح في حالة كئيبة ،ولم يعد يبدى أي رغبة في الخروج من الدار كما اعتاد من قبل والجلوس في تلك الحديقة المجاورة للدار والتي رسمت في ذاكرته صورة الماضي، أيام أرضه بل انه أحيانا ينسى نفسه. ويقوم بتقليم بعض الأشجار وغرس بعض الزهور في تلك الحديقة حسب استطاعته , وفي أحد الأيام عاد الابن إلى الدار فلم يجده كالعادة، بحث عنه في أرجاء الدار لكن لم يعثر عليه ، خالج الابن شعور بالخوف في أن يكون وقع له مكروه، وقال في نفسه لم يبقى سوى الحديقة أنها المكان الذي يقصده عندما يشعر بالضيق ، فتوجه أليها وبسرعة وراح يفتش عنه ،ويا للهول الموقف عندما وجده ممدا قرب مجموعة من الشجيرات وقد امسك في يده مجموعة من الزهور على مقربة من انفه وفد فراق الحياة .