المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صخب البحر " قصة طويلة"



محمد عبده العباسي
19/12/2007, 07:46 PM
صخب البحــــــــر: محمد عبده العباسي
الأحد , 16 ديسمبر 2007 م
"قصة طويلة"

" حسبك من القلادة ما يحيط بالعنق "


ركب من سيارات توافدت متتابعة ، وقع أقدام تناهي دبيبها علي الأرض إلي مسامعه ، ثمة ريح قوية توالي هبوبها ..
كل ذلك أقض مضجعه ، الليل كان هادئاً ، استـــرق السمع ليعي ما زلزل سكونه ،توجس خيفة بعد أن زاد وقع الأقـدام ثقيلة ، كانت عفيـــة وهي تدب كأنها أقدام غزاة ، كأن مطارق تدق رأسه ، تلتهـــا رتابـــة، تعيّن علي ذلك أن ساوره ضجر..
جـــاءت سيارة تطلق صوت بوقها دون رحمة بدت كعقيرة سكير طائش في ليل ساكن ، ضاقت نفسه ..
قلق امتزج بوقت يمضي رتيباً ،والحــــال كما هو ، سيارات تمضي وأخري تعود ، باب شقته الموصـــــد منحه بعض أمان نفـــسي :
ــ لابد أن ثمة شيئاً ما حدث في الخارج ،"قال لنفسه" أردف :
ــ لعلها سيارات شرطة جاءت تطارد محدثي الصخب أو تسعي للقبض عـلي لص ممــــن زادت أعـــــدادهم
في المدينة مؤخراً بعد زوال شمس حـــــــــركة البيع والشراء في المنطقة الحرة وموتها الإكلينيكي بفعــــل القرارات الاقتصادية ؟
من واقع خبرته في تمييـز الأصوات اطمأن،عاد إليه بعض هدوئه ، خفت مخاوفه ، قال لنفسه :
ــ لابد أن الفيلا المجاورة سكنهــا أحـــــد المسئولين الكبار أو آلت ملكيتهـــا لوزير جديد ..
تـذكر جيداً أن مدينتـــه لم تنجب من قبل وزيراً ..
*****
حدة البرد هذا النهارخفت ، طلعت علي المــــدينة ألف شمس وشمس ، استجابت أكتاف الشوارع للدفء وحملت المعطف الجميل يدثرهـــــــــا من حومة البرد القارس الذي اجتاحها منذ أيام ..
*****
كل العيـــــــــون في الدنيا هذه الليلة تتجه لتحدق في شاشات التلفاز، سؤال يتردد علي كل الشفـــــــــاه بقوة بل ويؤرق بال الجميع بحلول الألفيــــــــــة الثالثة التي ينتظرها العالم بأسره:
ـ كيف يمكن التغلب علي مشكلة الصفرين عند التعامل
مع أجهزة الكمبيوتر ؟
*****
التلفاز هوالحبل السري الذي يربط ـ البحرـ بالعالم ، كل الفضائيات أعلنت مشاركتها في نقل الحــدث علي الهواء مباشرة من كافة ربوع الدنيا بهذه المناسبة ..
سيلجأ الآن لمقعده ، مستقراً به مستدفئاً من بــــــرد المدينة ، أمامه شطائر محببة لنفسه أعدها بمهـــارة ،
الشاي الأخضر شئ أساسي ، يرشف من كوبه
و يدخن سجائــره ، يــري في ذلك ما ينعش نفسه ويؤنس وحدته ..
ـ ستكون سهرة ممتعة حقاً .. " قال لنفسه ".
*****
منذ أحيل للتقاعد بعد" ماراثون" طويل مع الحياة والعمل الشاق الذي استهلك أكثر مــن نصف عمره ، وهو لا يبرح بيته ،لا يغادره إلا لماماً، انقطعت كـــل صلاته بالحياة إلا من صحـــــف ومجلات يقضي جل وقته في قراءتها غير مجلدات وكتب بأعداد لم يحصها بعد ،اقتناها من كل المـدن التي زارها أو وزع عمــره بينها،كلها تحمل له من الذكريات تاريخ ومكان الشراء بورسعيد، عمـان ،الإسكندرية ،القاهرة ، بغداد، دمشق ، بيروت ، عـدن طرابلس ، مكناس ، مدريد ،موسكو، باريس ، لندن..
*** ***
بالطبع لا ينسي أسمـــــاء باعة الصحف وأصحـاب المكتبات ، جالت بخاطره الآن تلك الذكريات القديمة مع فرنسية حسناء أحبها في خلال سنوات بعثته لفرنســـــا هاتفها يوقظه كل صباح علي موسيقي " موتسـارت" ، وصـــــوتها الرقيق ، فيقطع السبيل إليها سريعاً طائراً علي جناح من الشوق ..
غضـــة مثل برعم ندي ، ناعمة كنسيم الصبح ،غادة في العشرين من عمرها ، غمرها بحبه ، هي تجربتــه الأولي ، تتيه فخراً به ، اجتــاحت قلبـــه بعـــد وصوله مبـاشرة إلي عاصمة النور لدراسة الأدب الفرنســــي،
رسمت معه خطي جميلة قطعاها في كافـــــــة دروب باريس ..
" صوفي " تدرس في "السوربون " ، تعمل بائعــــــة كتب بمكتبة في الحي اللاتيني ..
هكــذا قالت له صفيـة مؤنس زميلته في البعثة وتمت خطبتها لمحام مغربي ..
في أول لقاء علي الفور استسلمت حصونه ، سقطت كل قلاعه تباعاً ، صار كل جنود حروبه أسري ..
"صــــــوفي " بارقة أمل لاحت له في أوائل سنوات العمر، لمست أناملها الرقيقة يده ، رجف قلبه، ارتعدت فرائصه ، وتفصد جبينه عرقاً..
ناولته قائمة الكتب التي وصـلت مؤخراً ، جال بيـــن السطور ووجهها ..
نصف ابتسامة خجلي ارتسمت علي وجهها الطفلي ، بــرقت مــن عينيها لمعة كست ملامح وجهها ،ثم علاه بعض خجل .
استقلا معاً المترو إلي ضـاحية غربي باريس حيث تسكن وجدها الجنرال المتقاعد..

شيخ في الثمانيــــن ، زار الشيب كل شعر رأسه ، يرتدي حلة جميلة ورباط عنق زاهٍ ..
تبـــــادلا الحديث والابتسامات وعبارات الترحيب ، جلس فـــي المقعد المقابل للشيخ في شرفة تطل بعنقها علي مشهد طبيعي رائع ، شاركهما الجلسة دخــــــــان كثيف ينفثه الشيخ :
ــ أنا عاشق حقيقي لمصر ، مازلت أذكر حلم بونابرت فيها ، كان مثلي الأعلي في الحياة ، رائعة مصر حقاً ، أنا زرتها مراراً ..
ــ وما ذكرياتك عنها ؟
ــ أعظم بلد في التاريخ ،أهلها كرام ،حاضرة العروبة تاريخــها وحضارتها صفحات مضيئة في سجــــــــــل البشرية ، يؤمها الناس جميعاً بُغيــة الثقافة والسيــــاحة والاصطياف والعلم والنيل والبشر والجمال الأصيل ..
ــ أخجلتم تواضعنا ..
تنهد الشيخ وحملق في الفضاء الرحب ، بانت بعـض سحب صغيرة تأتم بأكبر منها في سماء زرقاء شمسها ناعمة ، راح يشعل سيجاراً في تؤدة ويلوح بيده لصبية عابرة ، مزحت معه بفرنسيـــة لم تفسرها أذنه جيداً ..
عاد الشيخ لتدخينه الشره ، ردد مــن بين شفتيه لحناً من نشيد "المارسيليز "، قال :
ــ لم يفتني أي كتاب واحد تناول سيرة بونابرت ؟

أعاده الشيخ تواً من رحلة قصية سرح فيها خاطـــره في ربوع الوطن الذي فارقه منذ فترة، لحق به :
ــ لقد قرأت أنا أيضاً عن نابليون ..
قال الشيخ وقد علا وجهه بعض حزن :
ــ أحزنتني حقاً تلك النهاية الأليمة التي حدثت له ، نفيه إلي جــــزيرة "سانت هيلانــــة " ، لقد زرتها أكثر من مرة ، ووقفت علي كل أثر فيها ..
تنفس الشـــيخ بعمق ، خلع نظارتيه ، ليمسح بمنديل فوق جبينه ،وترك رأسه تتدلي للخلف ، مغمضاً عينيه في صمت ..
"صوفي " التي غابت قليلاً ، تركته فريسة لحكايات الـرجل الهرم الذي يتمتع بذاكرة حديدية ، وكان يحكي كمن يعش وحده حلماً جميلاً رأه :
ــ قرأت أن بونابرت عشق في مصر امـرأة فرنسيــــة تدعي"بولين" كانت زوجاً لأحد ضباط الحملة الفرنسية اسمه " جان فوريس "، طلقها منه ، واتخذها عشيقة له طيلة إقـــامته بمصر..
سكت الشيـــــــخ قليلاً ، تنفس بعمق وتناول رشفــــة من قدح القهوة جاءت به الخادمة "إيلين " ، همس فــي أذنها ، انصرفت وعادت تحمل كتاباً:
ــ هذه هي نسخـــــــــة الرواية التي كتبها أديب فرنسي يدعي " روجيه ريجيس " عن غرام نابليون في مصر
هل قرأتها؟
طمأنه :
ـ بالطبع ، قرأت ترجمة لها بالعربية في مصر ..
ــ رائع ، رائع ...
في الوداع منحه الشيخ غليوناً من الأبنوس هدية له ، ثم أوصاه علي الصبية الجميلة التي أحبها ..
ــ هي وردة ندية ، هل أطمئن من الآن علي حفيدتي ؟
*** ***
فارق كبير بين ما يراه ـ البحر ـ الآن وبين ما سبق أن رأي ..
من بين خصاص النافـذة ومن باب الشرفة الموارب كان يتابع منذ أيام العمل المتواصــــل في ترميم الفيلا المجاورة المهجورة منذ زمن ، يجري العمل فيها علي قدم وساق ،أهملها أصحابها زمناً ، فعاثت فيها جيـوش الفئران والهوام ، كل يوم يزداد تبرمه وضيقه مـــــــن الضوضاء التي يحدثها العمال بأصوات معداتهم ..
لحظ أنه في وقت قياسي تبدلت كل الأحوال تمامــاً ، عمل دؤوب لا ينتهي إلا مع انتصاف الليل ، شكــاوي الجـــيران لم تجد لها صدي عند المسئولين في الحي ، دخان في الهواء ، ولـــم يتحرك لها أحد ..
*** ***
ثمة أضواء تغمر الحديقــة ، أسقطتها في بحر لجي من الإبهـــار، كانت مئات الحكايات قد تناثرت ،رددت الأفواه قصصــاً عن الفيلا التي كانت تسكنها إحـــــدي الأسر اليونانيـــة التي عادت لبلادها عقب حرب 56 ، ثم نالها الإهمال ولم يهتم بها أحد، وآلت ملكيتهـا لواحد أثرياء المـدينة، بعــد موته تنازع الورثة أمـــــرها فيما بينهم طويلاً ، فاشتراها مؤخراً أحـد الذين سبحوا علي سطح بحيرة الانفتاح الاقتصادي بمــا كسب من أوراق لعبة الدولارات..
مئات من الحكايات تناثرت عنه :
ــ غسيل أموال ..
ــ تهريب ..
ــ تجارة عملة ..
حكايات كلها لم تشف صدراً ، لكن أحداً لم يذكر اسم المشتري :
ــ من قال أنه لوغاريتمات " قال رفاعة بك المستشار السابـــق ، بينما راهن الدكتور حامد علي أن المشتري هو أحد الطفيليين الجدد في زمن الانفتـاح الاقتصادي.
انبري المهنـــدس حسيب مدافعـــاً بقوله:
ـ أيا كــان الرجل الذي اشتري ، كل هذالا يهم ، المهم أن يد الإصلاح امتدت لتزيل الوحشة وتقتل الأفــــاعي والثعـــابين لترحمنا من نباح الكلاب ومواء القطط ليل نهار ..

جلسة السكان انتهت بالدعاء لصاحب الفيلا الجديـــد بأن يمنحه الله الصحة والعافية ...
تبادل الأعضاء نخب الجلسة قهقهات وقفشــــــــات ، وغطي دخان سجائرهم الثمين سقف المكان ..
*** ***
لابد أن الجيران الجدد قد توافدوا الآن "قال لنفسه "، إلي هذا الحد تبلغ أعداد النساء ، يا للهــــول كما يقول يوسف بك وهبي :
ــ نساء رائعات حقاً . آه لو تؤنس واحدة منهن وحدتي.
سرح خاطره ، تمني لويبتســـم له الحظ فيجـــد نفسه من بين المدعوين ..
خادم نـــــــوبي بزيه الأبيض يطرق الباب ، يفتح له الباب فينحني له في احترام :
ــ سعادة البحر " بك "..
ويقدم له بطاقة دعوة مع اعتذار عن السهو :
ـ حسناً ، لا مانع لدي ، سأكون جاهزاً بعد بضع دقائق قل لسيدتك أني قادم ..
انصرف الخادم ، قال البحر لنفسه ، وردد بصـــوت مسموع :
ــ إنها امرأة ساحرة حقاً ..
كانت تتقدم الركب وحدها ، ترحب بالنساء ، تشد ، تهز رأسها برفق للرجال ، تمد ذراعاً للأمام ، تشير واثقة ، والخطو متئد، رشيقة القـد معتدلة القوام ، تترك من خلفهـا شعراً كستارة ليل دامس ينسدل ، تتألق فوق محياها بسمة تشرق كشمس قادمة بعد طول غيــاب ، تتمنطق خاصرتها بحــــــزام ذهبي ..
ــ ســــاحرة بالفعل ، لكنها بلا رجل ..
*** ***
أكثر من رجل يدعوها للرقص ، تعتذر في أدب جم، محط أنظار الجميع ، أجمل النساء قاطبة ...
وحدته طالت في الشرفة ، لا بأس ، سيتهيأ للأمر في بساطة ، سيتقـــــدم منها ، سيقبل يدها كما فعل الرجال من قبله :
ــ اسمي البحر ، تجاوزت الستين ..
ــ لكنك لا زلت شباباً .. " ضحكت " ..
ــ وظيفتي قبـل سن المعاش لا بأس بها ، لي ولـــــدان وبنتان ، أرمل ..
ربما يضـــفي علي المشهـــــد بعض أداء تمثيلي يجده عـــن هؤلاء الأبناء العاقين ، لا أحد منهم يكلف نفســه
مرة في السؤال عنه إلا نادراً ، سيخبرها برصيده في البنك حتما ، يأتيه بعائد مجزٍ فيكفل له حياة رغـــــــدة ناعمة ، أكـــــثر من ذلك سيذكر لهــــا خبر الـ"شاليـه" الرائع عند غربي المدينــة، أشبه ما يكون إلي " فيلا " سيبهرها الموقع الفريد عند ناصية البحر ، ستنـــــدفع متهورة للموافقـــــة وإن تآمرت علي نفسها ، ستقع في غرامه هو الآخر:
ــ رائع أنت يا أستاذ " بحر " ..
ــ لا داعي للقب الأستاذ ، بحر ، بحر فقـــــط ، وأنت الحورية ..
ــ المكان عبقري ، بحر ممتد في دعة ، نسيـــــم عليل يغسل الروح مما علق بها من أدران، حياة بلا تطفل..
ــ أجمل سنوات العمر سنقضيها معاً ..
حلم معــها بالسعادة ،متعة بلا نهاية مع رجل حالــــم
مثله ، مسلٍ ، حميمي العلاقة ،لا يهمه من العالم بأسره أي شئ،ربي أولاده تربية حسنة ، قضي مسئولياتـــه ، مشكلته الكبرى كانت في رحيل زوجه مبكراً،في وقت كان أشــد احتياجاً لها ، قام بدور الأب والأم معا قال محدثاً نفسه:
ــ بالطبع ستوافق ..
جاءه صوت من بعيد :
ــ أيها الواثق من نفسه ـ قل لي ـ كيف تقبل امرأة فـــي منتصف العمر أن تتزوج من كهل بلغ من العمر عتياً؟ هل سبـــــــق أن رأيتها ؟ هل حدثتها ؟ هل ستقبل أنت بشروطها ؟.
حملق باحثاً عن موقع الصوت ، تمطي كأنما يزيح من فوق كاهله ثقلاً :
ـ مهلاً ، أنا لا أقبل بأية شروط ،سيدات كثيرات يتمنين أن أشير لهن بطرف خفي ، علي الفور سيتزاحمن ..
ـ أنت رجل مغرور ،إلي هذا الحـــد تصور لك وحدتك أنك الفارس الذي لا يباري ...
*****
الفيلا درة وسط بحر فيروزي تطل علي ربوة جاءه سمسار عقارات في الصيف الماضي ..
ــ مليون جنيه ..
هـــز رأسه نافياً فكرة التفريط في "الجنة التي تنتظر الحورية" كما يطلق عليها ، ربما لم تولد بعد ..
*****
مثل طوق ألُقي لمن يصـارع موجاً عتياً ،جـــــاءت ترفل فـــــي ثوب يكشف عن قد بلوري ممشــوق بلون مرمر وردي ..
في البدء حام طيفها من حوله كفراشة ناعمة ، سيدة جاءت من وادي الأساطير ، طغيان أنوثتهــــــا يــزداد شيئاً فشيئــاً ،اقتربت منه ، مدت له يداً خفيـــــة اقتلعته من جذوره وهي تلوذ به ..
ترفق بها ، ضمهـــا إليه ، كطفلة تسعد بصدر أبيها ، نامت وهي تعبث بشعره الفضي ،ارتجفت يدهــــا في كفه كعصفور بلله مطر مفاجئ يبغي دفئاً من حـــرارة
يده ، فستانهـا الضيق من عند الخاصرة لفظ صـــدراً ناتئــــاً كرابية تخفي بين تلالها طائرين يسعيان بجهــد للفرار من محبسهما ..
جمالها اللاهث يبيت بين يديه ، يشعل كل نفسه بلهب متقد ، هي الآن في سن العشرين وهو في مثل عمرها
طوقها بذراع قوية ، تثنت في دلال أنثي ، فلتت منه، جري من خلفها ، دارت حول نفسها كــــــراقصة باليه برشاقة قدها ، طـارت كفراشة ، حطت مثل مركبـــــة فضاء عند مجرة بعيــدة ..
في لحظة واحدة سلب النجوم حريتها ، قبــــض علي
الكواكـب ، ضم القمر ، دار بين المجرات والمــدارات والأفلاك ،خاض في مياه المحيطات والبحار والأنهار، في لحظة واحدة نطق بكل لغات العالم ..
معاً ارتقيا درجات سلم حجري لكهف يرجع للعصور الوسطي عند آخر طرف بالمعمورة ..
ابتسمت فبـــــان الدر في أسنانها لامعاً أضاء ظلمة الكهف، عبير عطرها سري في المكان فأسكره وخدره أتت من كل الفلوات أسود وضباع وفهود منصاعة فـي ذل العبيد ، فرشت مهاداً ناعماً من قماش مخملي نسج قسراً من خيوط جاءوا بها من الفضاء السرمدي..
ضمها بقسوة إلي صدره ،تأوهت..
ـ حنانيك .." قالت"..
وليتها ما قالت ..
فرت كضوء شارد، تســـربت مثل ماء من بين يديه وانســـاب إلي شلال ،أفــاق يبحث عنها وسط رتل من النساء ..
ــ أين أنت ؟
سأل نفسه ، ثم استطرد:
ــ ألا يحق لي الزواج ؟
******
متاهة من سنوات عشــر سلبته بعض عمره ، طوقته أغلال من تقاليد باليـة ، رحلت الزوجة، وتركت فراغاً
زاد من جرحه كلمات :
ــ زوجة جديدة ستكيل بمكيالين ..
ــ ستحيل حياتك إلي جحيم ..
ــ والأبناء في سن خطيرة ..
ــ ستجد شروخاً في البناء ، وربما تصدعاً ..
أول الأمر جفل ، سرقته السنوات في السعي الدؤوب عبر سبل الحياة ، الأبناء تنقلوا معه من مدينة لمدينـــة ومن بلد لبلد ..
حتى رست سفينته في مرفأ مدينته التي عشقها ..
******
السنوات الأخيرة كانت حبلي بالأحـــداث ، أحيل إلي التقاعد ، استقل عنه الأبناء تبـــــاعاً ، كل منهم سارفي اتجـاه مختلف تماماً عن الآخر نحو حياة جديدة..
عبلة تزوجت هدايت ، شهيرة تزوجت وصـــــفي ، جـــــــاء دور وفيق فتزوج نيهال ومجد تزوج فدوي ، في ليلة واحدة فرغ البيت عليه ، أضحي وحيداً ، سافر من سافر، وبقي من بقي ..
عبـلة هي الوحيدة التي لا تنفك تســــأل عنه ، كــــل بضعة أيام تتصل به من إمارة الشارقة، شهيرة تشغلها وزوجها ضرورة الانتهاء من مناقشة رسالة الدكتوراه ، سـوف يعودان نهاية الشتاء وطفلهما بهي الدين الذي لــــم يره جده ..
وفيق ومجد يزورانه في الأسبوع الأخيرمن كل شهر ، يقضونه معاً ، يداعب الجد أحفاده ، يمــارس حياته القديمة ، يرعي زياداً ويلاعب مريم الصغيرة ..
ـ تشبه جدتها " دنيا" ..
يقهقه بطريقته المعروفة :
ـ لا أحد يشبهها ، هي مائة جميلة معاً ..
ـ هل هذا صحيح يا جدي .." يقول زياد "..
يسرع الجد إلي مكتبته ويخرج " ألبوم"الصور تبدو فيه دنيا مثل أميرات الأحلام جاءت من وراء السحـب كقطعة من الثلج الطاهر وحدها لتبحث عنه وتتزوجه .
******
لا صوت في البيت عاد يؤنسه سوي صوت صــديقه مأمون ..
يفتقده الآن بعد أن رحل عن الدنيا منذ عام ...
في الصباح كان صوته يوقظه علي الهاتف ،يمزحان معاً، مأمون يرسل له مع الســـــاعي زهرات بنفسج ، صحف الصباح المجلات الأسبوعية ، أوراق يكتبـــها تضم سطورها ما يشبه مذكرات..
مأمون كان سياسياً لا يشــــق له غبار ، لكنه اعتزل العمل السياسي الذي يستلزم الكثير من الجهد، مرضـه
اللعين حال بينه وبين الاستمرار ..
كان مأمون خطيباً مفوهاً ورث عن أبيه المحامي المخضرم ملكة الخطابة ..
كان الأب يمتلك حنجرة آسرة ، تجلجل تحت قبة برلمان ما قبل الثورة ، جاء من قريته ــ وابنه ــ بعد أن ضاعت أطيانه التي ورثها عن أجداده علي أيــدي ثوار يوليو وقاموا بتوزيعه علي الفلاحين ..
مأمون رغم كل شئ نسي الموضوع برمته ، لكنــــه لم يغفل عن ذكرذلك في الأوراق ، استند لمذكـــــرات كتبها الأب الذي لقب نفسه بـ "الجريح " وظـــل يكتب ويكتب ..
كل صباح يرسل له الجديد ، الساعي الذي وفرته له المصلحة التي كان وكيلاً لوزارتها ، يقوم علي خدمته ، يأتي له بمتطلبات المعيشة في قائمة تعد لـــــه سلـفاً، تأتيه "سيدة" انتقاها " علوان " سائقـه الخاص منــــــذ نصف قرن من بين مائة سيدة ، متوسطة العمر تعد له الطعام بطريقــــة جيدة ..
ـ ترعي أيتاماً يا " بك"..
يجزل لها في العطاء ويوسع لها في الرزق،لا تتأخر يوماً واحداً عن خدمته ..
ذات صباح لم يستيقظ علي صوت مأمون كعادته ، انفلق النهار عن شمس حامية ، اعتراه قلق..
اليوم هو موعدهما الأسبوعي للقاء في نادٍ معـــــلق عند جبين البحر ، يقضيان النهار معـاً..
يتطلعــــــان للسماء الرحبـــة ، يعدان النوارس وطيور الغاق،يراقبان "معدية "بورفؤاد وهي تحمل الناس بين ضفتي القناة ، يستعيدان الذكريات،يغني مأمون كعادته أغان ٍ لسيد درويــش ، وناظم الغزالي ، يعبث بأوراق معه أو يفرد أمامه صحف الصباح ..
يرشفان القهوة ، يتناولان طعــام غدائهما ، سمك تم صيده من بحيرة "البردويــــــــل " سيناقشان اليوم مع مهاد هانم رشدي الخطة السرية لاجتياح منافسيهــا في انتخابات مجلس إدارة النادي ، سيديران لها ـ بالطبع ــ حملتها الانتخابية بما لهما من سابق خبرة ..
رائعة هي مهاد ، زوجها ــ صديق رابع ــ ضــــابط سابق في الجيش ،أبلي في نصر أكتوبر بــــلاءً حسناً يمت ـ للبحرـ بصلة قرابة ...
بعد العصر يلهوان كصغيرين وهما يمارســان لعبة التنس بالجري العبثي وراء الكرات كأطفال بلا مدرب ينهرهما..
حك رأسه يبحث في ذاكرتـــه عن رقم هاتف مؤنس ولده الأكبر ،أسعفته أجندة يحتفظ بها ،أدار القرص ..
علي الطرف الآخر جاء صوت طفلة تبكي :
ـ جدي مات يا " بحر"..
أنها " ُربي "حفيدة مأمون ، دائماً تناديه دون لقب..
جزع حين رأي صديقه مسجي في الفراش، فـــــرت من عينه دمعة ذكرتــــــه بالأيام الخوالي وهما في سن صغيرة،يلهوان معاً كما يحلو لهما، يسبحان في صخب بحـر لا يأبهــــان بأمواجه العتية ، مـــــأمون هو الذي أسماه "البحر" ..
ـ أنت مشروع مثقف كبير يا " بحر" ..
من يومها ولا أحد يناديه إلا بـ "البحر" ، بالرغم من كونه ينتمي لعائلة كبيرة إلا أن هذا الاسم طغي ..
ألقي علي صديقه نظرة وداع ، قبـــــــله ، شعر بدنو الأجل وانصرام العمر ، تحامل علي نفسه حتي وسدوه الثري ..
سرت في جسد "البحر" قشعريرة رغم حرأغسطس الشديد،علي أثرها لـزم الفراش ، سقط في بحيرة عرق عميقـة، غـرق حتي أذنيه..
عاده مؤنس ومعه ربُي ..
قال البحر: الآن فقدت آخر حصوني يا مؤنس ..
*****
كان وقع الأقدام يزداد وضوحاً ، من النافــــذة راح يرقب المساحة الخضراء الواسعة من الفيـلا ، ويراقب كل الوجوه ..
أرتال من نســـوة راحت تتوالي متتابعة ، تخففن من ثيابهن ، انطلقت من أردانهن رائحة عطور سخية ،في خطوهن رقة ،وفي صوتهن عذوبة ..
ــ المشهد يوحي بسهرة لا بأس بها ،لا ،ثمــــة حفل زفاف سيقام الليلة ، في زاوية صُبت عليهــــا شلالات من أضواء ملونة ، قبعت العروس جميلة بجوار شاب في مثل عمرها ..
بذخ وإسراف وسفه لا يصدقه عقل ، موائد مـــدت في نظام ، مقاعد مذهبة في جميع الجنبات ، صـــــوت موسيقي عذبة ينساب في رقة ، خطوات معــــــدودة ، نساء لم يسبق أن رأهن مجتمعات في مكان واحد ..
سري هدوء قبل اندلاع موسيقي ساخنة ،الراقصـــة جــاءت تتمايل في براعة ،هدأت الموسيقي ولم تتوقف الراقصة ، وسط حماس دافق من مدعوين لم يكفـــــوا عن التصفيـق بلهاث من يجري خلفها ، نساء في سباق محموم شاركنها في حلبة الرقص ..
انتهت النمرة ،راح المذيع الداخلي يعلن عن اسمها الشهير ، جاءت بعدها موسيقي نـــاعمة حملتــه لزمان خلي ..
*****
كان في أوائل الشباب حين عرف "دنيا " ، تزوجـــا في حفل بسيط لم يدعوان إليه أحد ..
" دنيــــا " لم تخيب ظنه فيهــــا ، حاربته الأسرة في الزواج منها ، الأب وقف له بالمرصاد ، رفض في أن يعترف بالزواج ، اتحد معه أخوته ، أمه هي الوحيـــدة التي كانت ستناضل من أجله وتقف في صفه لكنها قبل
عامين رحلت ..
قال كبير اخوته يوبخه :
ـ كيف تتزوج من أرملة ؟
وقال آخر متعجباً :
ـ إنها أرملة شهيد ..
كانت " دنيا" أنشودة للبساطة والرقة وسط زخم من نسـاء أخوته ، لفظوها،الأب أصر عــلي موقفه في ألا يتزوج غير نهي :
ـ رائعة، عائدة تواً من بلاد العم سام مع أبيها الثري ..
ـ وماذا في الأمر ؟
ـ سيصحبونك معهم ، الحياة هناك رائعة ، ستبدأ عهداً جديداً في بلد الأحلام ..
******
حياتهـا الأمريكية لم تتفق مع ميوله ، نهمها للشراء تعيش علي الوجبات الجاهزة ، ترتدي "الجينـــــــــز " الأزرق والبلوزات الضيقة ، ثم أنها تدخن بشراهة..
نظر له الأب شزراً :
ـ لم تعجبك ..
احتفظ بالرد لنفسه وتعلل بالتفكير في الأمر ..
ـ صغيرة ، "خام " ، فرصة العمر أيها الغبي ..
ـ لكنها لا تعجبني ، أنا غير متفق معها ..
ـ إذن ، تروق لك فقط الأرملة الطروب ..
للمرة الأولي يغضب من قول لأبيه ، شعر بغصــــة في حلقه لم يعهدها منه من قبل، انصرف والــــــدموع تحرق مآقيه..
نصـل استل من غمده بقوة وطعن به في صدره ، كانت كلمات أبيه ، سُدد بإحكام نحو القلب ، فأدماه ..
زلزال عاتٍ أطـاح بمدنه الخيالية اقتلعها من جذورها ،علا الغبار الشوارع ، اصطخب البحر، وهاج الموج ، أنشبت الريـــــح كالضواري أنيـــــــابها تلغ في دماء ســكان المدن وتتعلق بأعناقهم، تكتم الأنفاس ، والناس يجأرون بالشكوي ..

ساد ظلام دامس ، بعد ارتطام الأرض بنيـــــــــازك وشهـب ..
بدت قصيدة "الأرض الخراب" التي كتبها "إليوت "
متمثلة أمامه :
( أبريل أقسي شهور السنة .
ينبت الزنابق من الأرض الخراب .
يخلط الذكري بالشهوة ، يثير الجذور
الحزينة تحت أمطار الربيع .)
عز عليه أن يجد نفسه وحيداً ، يجابه هجوماً ضارياً لا حد له ،لا يكف عن هدم عزمه والنيل من قواه ..
******
بدلت العـروس فستانها، راقصت العريس ، كل شئ يبدو رائعاً ، عارية الذراعين ، بارزة الصدر، ممشوقة القوام، أمها تطلق الزغاريد ..
إنهــــا المرأة نفسها ، من حولها ثلة من نساء أحطن بها ، قلادة هي في وسط عقد يتلألأ، هــــوانم من زمن فــات ، تراصت مئات من باقات الورد ، انتصبت عدة كاميرات للفــيديو تدور، وغيرها فوتوغرافية يلمع بين حين وحين وميضها لتسجل جمال المشهد، تنقــله علي شاشات عرض ضخمة ، كل شئ هذا المساء مبـــاح ، الأعناق مشرئبة لأعـــلي لتري المتاح وغير المتــاح ، أعناق من بلور صافٍ ..
ما أجمل الفوضي ، ما أحلي العبث ، رائع أن يحيـــا المرء كيفما يشاء دون تعقيدات أو حدود ،المشهـــــــــد يوحي بمزيد من فوضى ستعم لولا تحذيرات بُثت عبر مكبر الصوت تدعو للنظام ..
انفجرت فوهات زجاجات الخمر ، علا دخان أزرق سقف الحديقة غطاها كغبار خيول تصهل في الفلوات يحجب الرؤية ، اخـــــــترقه صوت غناء غث لمطرب راح يترنح كسكير ، موسيقي تعزف بلا ضبط أو ربط وبلا انقطاع ، شئ أشبه بالغثيان،حفل تنكري حمل كل من فيه قناعه ، بدل من ملامحه الحقيقية بمكياج آخـــر وملابس غريبة ، تخاذلت الموسيقي معلنة :
ــ حان الآن موعدنا، انتصف الليل..
قال المذيع الداخلي ، دقت أجراس وساد هدوء وعم صمت، سقط الجميع في عتمة ليس فيها أي ضوء ..
انطفأت الأنوار،ســادت حالة من الهرج والمرج كلها تدعو للدهشة ،زاد صوت ضحك امتـــــــزج بمجون ، خالطته أصوات مبحوحة ، صراخ موصـول بنشيــج ، لوم وعتاب ، فحيـــح كالأفاعي ، مواء كالقطط ، عواء كالذئاب ..
فجأة انقشع الظلام ..
حالة من الوجد والهيام ، البعض أصابته لوثــــة من أثر السكر ، حاق الجنون بهوس الرقص، البعض نسي المواقيت وهام مع من هــام...
بدلت العروس فستانها للمرة الثالثة ..
سقطت الأقنعة مرة أخري ، ثمة أصوات جاءت مثل خوار البقر ظلت تتردد من بعض الجنبات ..
******
شهق قلبه فجأة ..
إنها هي .. نهي ..
تخترق المـــوكب في ثوب زاه ، حملق فيها جيداً ..
ـ نهي ، يا للهول .. "قالها دون أن يدري "..
سمعته ، التفتت كلها تبحث عن مصدر صوت تتيقن منه تماماً ، تواري خـــلف أواني الزهر المتراصة في الشرفة ..
وحدها ، عادت تتلصص بين أونة وأخري دون أن يلحظها أحد ..
كاد أن يصرخ ثانية متحدياً كل البشر ..
احتبست أنفاسه في مكمنه وظل مختفياً :
ـ لابد أنها عرفت صوتي ، سترسل لي دعوة لأشاركها وحدتها ، لأقف بجوارها ،إنها من غير رجــل يشد من أزرها في ليلة كتلك..
عادت نهــــــي خلسة تنظر باتجاه الصوت وترهـف السمع بعد أن قطعت صوت الموسيقي بإشارة من يدها ـ إنها وحيدة ، لابد أنها تبحث عني لأكون بجوارها ..

كل الرجال يخطبون ودها ، تتدلل أكثر، تنظـر جهة الصوت ثانية..
قالت لنفسها :
ـ أعرف صوته ، إنه هو ، صوت البحر ، إنني أشعــر بصخبه .
دارت حول نفسها وسقطت في شبه إعياء ..
فزعت العروس وارتاعت بعد سقوط أمها ، رجــال الأمن تدخلوا قبل أن تسود فوضي أبدية ..
ـ لا شئ ، لا شئ ، إنه مزيد من الإرهاق ..
قال طبيب من بين المدعوين ، وأردف موجهاً كـــلامه للعروس :
ـ لا وقت للدمــــــوع يا صغيرتي ، ما أجملها لو كانت دموع الفرح . ثم بصوت عالٍ هتف :
ـ لتصدح الموسيقي ..
نهي كانت تتمتم في شبه لهاث :
ـ البحر ، إنه البحر ..
قالت نميرة زهدي :
ـ البحـــر ، ماذا به ، إنه اليوم هادئ ، نائم علي مقربة منا في دعة ..
أجهشت نهي في البكاء ، رددت :
ـ لا ، إنني أسمع صخب البحر ، صــــوته الهادر يملأ أذني ، أريده الآن ..
رددت بعض نسوة في صوت جماعي :
البحر بيضحك لي
وأنا نازله أدلع أملا القلل ..
وكأنما هو نشيد وطني سعي الحشد جميعه لتـــرديده مع الموسيقي التي عزفت ..
كان الدمع ينساب مدراراً من عيني نهـــــي وهي في حالة من اللاوعي ..
نميرة فقط ضمتها لصدرها ، بكت نهـــي كما لم تبك من قبل ،أراحت رأسها علي كتفها كطفلة يتيمة لم تذق من قبل طعم حنان الأم ..
عادت لطيفة بشري تسأل نميرة عـن سر ما حدث، لم تعبأ نميرة بها ، اكتفت بأن نظرت لها شزراً..
انتحت لطيفة جانباً إلي جوار نتيلة عمران ، وسارة المهدي ، ووسمية رشدان ، ووجنات السيوي ..
كلهن رحن يلقين بسهامهن في كل اتجاه ، ساعيـــات لفك الشفرة ومعرفة السر :
ـ كانت علي أحسن حال ، وفجأة ..
قالت لطيفة بشري ،بينما تولت نتيلة عمران مسألــــة إجادتها للتخمين :
ـ لكي نعرف السر لابد من محاصرة نميرة زهدي..
نميرة زهدي وحدها لا تفصح عن شئ ،شك الطبيب ذراع نهي بحقنة مهدئة ، خُدر لذيذ سري في جسـدها فكاد يسكرها ولكنه أراحها ، ودت لو تنام طويلاً،أمــر إجباري ود الطبيب لو يصدره ولو لبعض وقت ..
*****
غفت نهي في نـوم خفيف ، سقط رأسها علي وسادة ناعمة هي ساق نميرة ، بعد قليل عادت من غيبوبتهـــا المؤقتة ، راحت ثانية تنظر ناحية الصوت ..
طمأنتها نميرة :
ـ الشرفات كلها مراقبة بكاميرات خفية ..
في ضعف واستكانة قالت نهي :
ـ إنه صوت البحر يا نميرة ..
ـ أي صوت وأي بحر ..
ـ إنه صوته ، نعم صوتـه ، أعرفه من بين آلاف البشر ـ لابد أنك محمومة ياعزيــزتي ، فمن أين يأتي ، أؤكد أنه لم يزل هناك ، يعيش في الخليج ..
ـ لا تخدعيني يا نميرة ، إنني أشعر به ..
مضت معها حيث تنـــــاولت سهي كأساً من عصير الليمون بينما اكتفت نميرة بفنجان من القهوة ..
جلستا في شرفة عند آخرالبهو الذي صممته العروس بنفسها بعد أن تخصصت في فن الديكور ..
******
نهي هي أم العروس ، سنوات عمرها لم تـــزل عند أعتاب الشباب ، لم يخض الشيب إلا النزر القليـــل من غمار الليل الأسود الذي يطوق وجهها ..

ظن البحر أن شهقته تلك سمـــعتها كل الآذان وبأن من بالحفل جميعاً سيبحثون عن مصدرها ..
التفتت نهي وحدها جهة الشرفة تبحث عنه ، تـواري
خلف نباتات غطت جانب الشرفة..
من حين لحين كانت تتلفت ، والبحريتــــواري حابساً أنفاسه الملتهبة من أن تتصاعد من بين ضلوع مؤججة يراقصها الشوق ..
استعد للنـــزال كجندي ينتظر إشارة من جنرال خفي سيتهيأ الآن للقيام بدوره ، سيبدل ثيابه سريعاً ، سينتقي أجمــل حلة لديه ، رباط عنق اشتراه من أشهـــر متجر في المدينة ، سيغرق في بحر عطر ، وسيرتدي أحدث حذاء :
ـ حتما سيقودني النادل النوبي من عند الباب ، سيرسم ابتسامة عريضة ، سيقدمني لسيدته ،سيطغي حضوري علي جميع الحضور، ربما يظن البعض أني أحد نجوم السينما قد جاء يهنئ ..
هاجمه سؤال بغيض :
ـ لماذا ؟ هل أنت من بين المدعوين ؟
وتذكر أشعب ، قال في نفسه :
ـ دعك من هذا الهراء ..
الضحكات لم تزل ترن في أذنيه تعلو، ثمة نســـاء انخرطن في رقصة جماعية تتوسطهن العروس وأمها في سباق محموم للتخفف بكل ما يثقل الكاهل ..
بدت النساء مثل قطع من رخام وردي خرجن عن الطوق، الرجال خلعوا حللهم الأنيقـة وألقوا بها بعيداً دون أن يأبهوا لقيمتها أولأسعارها الفلكية ..
حول حوض السبـاحة التي لمعت صفحته الفضية مثل قمر زاه بزغ فجأة ، راح الجميع يرقصــون في جنون حول دورانه ، الموسيقي تزداد اصطخـــــاباً،الألحــان تتواثب في غرابة ، اشتد أوارها واحتدمـت ، الجميــع يرقصون في تنــــــافر كأنهم أمواج مصطخبة تتلاطم في سرعة وعصبية ، ربما تتوقف حياتهــــــــم إذا هم توقفوا، يرفعون أيـديهم لأعلي ، وأرجلهم مطوحـــة ، ورؤوسهم في كـل اتجاه ، حركاتهم تتسم بحـــدة دون أي قدر من تنــــاغم، تفرز أجســـــادهم عرقاً غزيراً، وتوتراً غريباً كأنهم يطردونه بعيداً عنهـــــم ، البعض يصرخ،وصوت الموسيقي يغطي علي كل الأصوات..
فجأة توقفت الموسيقي ، قليل من الوقت مر ، عادت بعده الموسيقي تصدح بلحن استجابت له كل خاصـــرة النساء والفتيات ، شاركن الراقصات وتبارين فــــــــي رقصة اهتزت فيها الأرداف والصدور ، برزت مواقع الفتنة ..
واحدة تدور حول نفسها ، أخــــــري تتثني في دلال وتنحني حتى يكاد صــــــدرها يصل لساقيها ،وشعرها المبلل بالعرق يلتصق بالأرض ، لتستقيم مرة أخري ، شدت انتباه الجميع ببراعتها ،انحسر شعرها عن وجــه ملائكي طاب للجميع أن يذهلوا أمام ملامحه ، يتأمـــل الجميع صدرها المكشوف بإعجاب لم يقل عن جمالهــا
وهي تتثني مع الأنغام ..
رحلة مرهقة ..
******
باح المذيع الداخلي للمرة الأولي بعدة أسماء جعــلت صخب "البحر" يصمت كمن أصابه الخرس ..
رجال من المدينة علي كافة الأصعدة ، ساسة ،تجار ، ومن مهن أخري ...
تذكر أنه يعرف العديد من أصحابها ، شعر بسعـــادة كبيرة تغمره ، إلا أن المذيع ردد اسماً معيناً ..
لفظ كالبحر زبده ، أعلن استنكاره ..
تقدم صاحب الحظوة خطوة خطوة كأحد الذين تعلموا أصول البروتوكول وجبلوا عليه ، صخب البحر ولـــم يزدرد ريقه الذي جف ، نطق :
ـ من ؟
تحشــــرج صوته ، التفت صاحب الحظوة ، يبدو أنه
سمع ، فلم يجد من حوله أحداً غير المدعوين ..
*****
ربع قرن جرف البحر ليتذكر وقفته في قاعـة الدرس وسط صخب تلاميذ هاجوا بفوضى افتعلها التلميذ الذي أخفق في دراسته ،لا يأبهـــــون شرح الدرس ، بعد أن قادهم ضده ، قومه ليردعه ولكنه أصر بعنـاد ، وخرج مــن القاعة دون إذن من معلمه..
ولم يعد للدراسة بعدها ...
ومرت السنوات ، وبقي صخب البحر ..
*******
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد عبده العباسي
بورسعيد / مصر