المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أنا والبحر " 2"



محمد عبده العباسي
28/11/2007, 10:09 PM
استهلال
مدينتي مطلة علي رأس قناة السويس
ولدت مع أول ضربة معول بيد المهندس الفرنسي
فردينان دي لسبس
لقد صاح في الهواء صيحة مدوية
مازالت تتردد في الأفاق
" في عهد محمد سعيد باشا الجالس علي الأريكة المصرية
نفتح عصراً جديداً للتجارة بين الشرق والغرب "
كان ذلك ظهر يوم الأثنين الخامس والعشرين من أبريل عام 1859م .
ــــــــــــــــــ
سطور من حياة جدي العباسي الكبير
يسيرجدي بخطي متئدة ، كأنه يمشي علي مهل مزهواً بشبابه ، يصوب ناظريه جهة السماء ، والسماء صافية تبتسم له نقية من أي كدر أو غيوم ، زرقاء ناعمة ..
كان قلبه فرحاً، وكان يتمتم بآيات من الذكر الحكيم شاكراً المولي علي حسن عطائه ...
يجر شباك صيد التي علقت حبالها علي كتفه ، تنصاع الحبال من ورائه مثل ثعابين ذليلة تنفذ إرادته ، وترسم علي الشاطئ الرملي المبلل بالماء خطوطاً ملتوية ..
النوارس في صفحة السماء تلهو كما تشاء ، تعلو وتهبط في إنتشاء وتأتي بحركات بهلوانية كأنها تسري عنه ، ترتسم الخطوات المهلي علي الرمل ، الرمل رخو ناعم يضم بحنين بالغ تلك الأقدام الغليظة ، فتترك من خلفه آثاراً محفورة تبدو كالجرح الغائر ،سرعان ما يلتئم وتمحوه تلك المويجات الصغيرة ..
كاهلُ مثقل بعبء سنين عاشها ، لكنه يحب وجه الشمس ، ويتجه دائماً ناحية الشرق ، يشعر بدفء جميل يسري في أوردته ، ليلة الأمس هطلت الأمطار بغزارة ..
شتاء هذا العام البعيد جاء قاسياً ، والرياح لا تأتي فرادي ، كلها جاءت في موعد متوافق مع هبوب " النوات البحرية " التي توالت علي الشاطئ في وقت واحد ..
ثمة ديون يشغل أمرها باله حان الوقت لسدادها ، لكن البحر يبخل ولا يعطي ، ما باليد حيلة ..
الشمس دائماً هي الملاذ الوحيد ، تبعث فيه الإصرار علي مواصلة الحياة ، تلك الشمس التي لونت كل جسمه بلون برونزي ، وجعلته في لون أجساد الفراعين ..
أحبته نساء كثيرات، عشقنه عشقاً كبيراً، كثيراً ما زارهن الأرق والسهاد ، رحن يتوددن لأمه ، قالت واحدة :
ــ أحبه يا خالة ، لكنه لا يعبأ بي ..
ــ القلب وما يريد يا ابنتي ..
البحر كبير ، كبير ، الرمال في نعومة الحرير تحنو علي قدميه ، تداعبهما برقة ، تلثمهما في وداعة ، لا شئ يؤرقه سوي تلك القواقع المتكسرة ، تري من دهسها قبله ؟ ظل السؤال حائراً ، لهباً يتلظي داخل قلبه ، وتلك الأصداف والمحار الملقاة من أفسدها ، ربما .......
للبحر رائحة عجيبة ، يمتلئ بها صدره فيستعيد شبابه ، يغمغم ببعض كلمات ويلهو، يمسك بين يديه بقوقعة ، ينفخ فيها كصبي صغير فتخرج صفيراً يؤنس وحدته ، يغني ، يقربها من أذنه اليمني ، يسمع نداءً خفياً ، يلتفت من حوله فلا يجد أحداً ..
لا زال خطوه يمتد به جهة الشرق ، تذكر أن الرفاق سوف يأتون بعد قليل ليقوموا معه برتق الشباك التي أرهقها الصيد ومزقتها الأسماك ..
فجأة تسقط القوقعة من يده ، عاد ليلتقطها في سرعة ، وعادت أسراب النوارس تدور من حوله وفوق رأسه كأنها تلبي له النداء الخفي ..
دار جدي حول نفسه دورة كاملة ، حملق جيداً في نورس يقترب ، لكن النورس طار بعيداً ، ضحك وأشار له ، عرف أنه يقدم له تحية الصباح ، وعرف أنه صاحبه الأثير الذي لا يلبث أن يغيب ، فيرجع ..
شعر بشئ غريب يستعيد به زمن مفتقد لم يستمتع به ، حقاً لم يعش طفولته ، بل التهمته الحياة في جوفها وكأنها هي نار ألقي في أتونها طفلاً صغيراً يتيما لم ينعم بحضن الأب ..
يجلس جدي وحيداً ، يري الرجال علي مبعدة يأتون شبه كسالي ، أي رزق ينتظر هؤلاء الناس ، لا شئ ، سوف يردون لزوجاتهم بدون نقود أو طعام ...
قهقه كعادته وهو يسخر وحيداً ، مال علي حجر وأسند رأسه ونعم ببعض دفء لشمس تسقط عليه بعض شعاعها ،مدد ساقيه فخط بهما في الرمال خطين متوازيين ، ود لو يضطجع ، وتذكر امرأته ولون بياض وجهها وضحكة العينين ولون فمها القرمزي ، لقد تزوج مؤخراً امراة جميلة ..
سحابة عبرت فظللته ،أخرج من جيبه علبة الدخان ، أعد منها سيجارة بلل طرفها بريق من فمه ، ضم طرفيها ثم ألقمها فمه ، عود الثقاب كاد أن يخونه لولا أنه لحق به قبل أن تمتد ناره فتحرق شاربه ...
كان صوت صخبهم يأتي من بعيد إلي أذنيه ، تحمله الريح ، حتماً سيصب جام غضبه فوق رؤوسهم ، ربما يطردهم جميعاً ، لسوف يصرخ فيهم :
ــ الرزق لا ينتظر أحداً ، عودوا من حيث جئتم ...
كادت السيجارة أن تحرق سبابته والوسطي ، لن يعنفهم ، لا ، ولن يرد واحداً منهم ، لكن أين هم ؟
قهقه وحده ، جلجلت ضحكته في الفضاء الواسع ، وسأل نفسه :
ـ هل خيل لي ذلك أم أني ....
وراح يشغل نفسه بشئ لم يكن في الحسبان ..
فرد ذراعيه وتمطي كي يبعد عن نفسه كسلاً مفاجئاً اعتراه علي غير العادة ، ود لو يروي ظمأه ببعض ماء ، لكن وعاء الماء بعيد عنه ، تركه هناك عند حاجياته تحت ظل حجر ضخم يؤوب إليه كلما انتهي من عمله ..
البحر من أمامه يمتد في لون فيروزي ، الماء ناعم هادئ ،آه لو يستطيع أن يسبح في الماء مثل طفل ، والدلافين لاهية تحوم من حوله ..
"ساحل البحر طبيعة خام لم يمسسها بشر ، صياد طيور يسعي حاملاً بندقيته وراء الرزق وغيره يلقي بشباكه في البحر ليصيد أسماكه ، ثمة رعاة يسرحون بأغنام وخراف هزيلة يثيرون الغبار بحثاً عن الماء والكلأ ، في أرض صحراوية قفر ممتدة عبر بادية مترامية الأطراف ليس فيها إلا بعض الأعشاش المتناثرة ..
طبيعة موحشة ، هو يعشق الأسماك وهي تتقافز من حول شباكه ، الشاطئ سهل رملي ممتد ناعم ، شاطئ بلا انتهاء ، تتخلله قواقع ومحار..
استطلع جدي بعينيه الصغيرتين وجه ماء البحر، ونهل منه بكفه اليمني ، الماء مالح ولذيذ ، تلك هي عادته ..
* * *
ــــــــــــــــــــــ
سطور من رواية " بمحاذاة البحر الأبيض"
تصدر قريباً إن شاء الله

نهي رجب محمد
07/12/2007, 03:43 PM
استشعرت من بداية القراءة بروح رواية التفاصيل الثرية والشحصيات المتفاعلة بأجواء الصراع المتنامي
لا أستطيع تقييم هذا النص المقتطع من روايتكم ولكنني أنتظر صدورها لأكمل القراءة المتمهلة لقصة البحر التي لا تنتهي مع هذا الجد الأسطوري
شكرا
سهيلة

محمد عبده العباسي
25/01/2008, 12:00 PM
العزيزة المحترمة
أشكرك علي قراءتك
مع وعد بإذن الله بالانتهاء منها
كي أسعد بحسن إطلاعك
ـ،ـــــــــــــــــ
محمد عبده العباسي
بورسعيد/ مصر