المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة " صباح أبيض "



محمد عبده العباسي
25/11/2007, 12:10 PM
غمرتني حالة من الرضا النفسي ، الليلة الفائتة قرأت رواية كاملة ، أحرقت علبة دخان ، شربت عدة فناجين من القهوة ، لم يفتني الفيلم الذي بثته القناة الفرنسية الخامسة ، بطلته ذكرتني بالفتاة التي أحببتها ، كانت من مدينة عنابة الجزائرية ، وجهها مشرق بعينين في مثل لون البحر :
ـ هل تتزوجينني ؟
ـ يشترط أهلي أن تعيش هنا ..
المتاريس كانت حائلاً دون تحقيق الحلم ، بعد عامين جاءتني رسالة بها قصاصة من صحيفة فرنسية تحمل صورة زفاف زهرة علي شاب رحلت معه إلي مارسيليا ..
* * *
هذا الصباح حملت سنارتي و" عدة" الصيد والطعم اللازم ، الشمس لم تخرج بعد من مكمنها ، ثمة برودة في الصباح رغم فصل الصيف ، المدينة في سبيلها للاستيقاظ بعد ساعات من وسن لم يدم طويلاً ، تثاؤبة ما اعترتني أزحت بها كسلاً بغيضاً ، بحثت عن سيارة أجرة تقلني حتي ميناء الصيد ..
الطريق خالية ، هدأة الصباح الباكر لم يعكر صفوها إلا سيارات مارقة يقودها صبية صغار سرقوا المفاتيح من أبائهم ..
شق الهدوء صوت غناء ردئ توقفت علي أثره سيارة ، منحت السائق تحية وابتسامة ارتسمت في المرآة أمامه ، ردها بشبه وجوم وجفون منتفخة ، أشعل سيجارة فألهب حماسي لأقلده ، قال بلسان ثقيل :
ـ رحلة صيد ..
ـ نعم .
ـ الغاوي ينقط بطاقيته علي رأي الصبوحة ..
نفثت دخاناً خفيفاً ومددت يدي بنقود تفحصها جيداً :
ـ صباحك أبيض ..
الصباح بالفعل أبيض ، حجر سعيد يمتد مثل سيف دُك في فم البحر ، مراكب الصيد ترحل تباعاً لتلقي شباكها بعيداً ، ثمة ضجيج من الميناء يأتي تحمله الريح الخفيفة ، الهواء مشبع بيود البحر والنوارس تمارس هوايتها في التقاط الرزق من بين الأمواج ..
مكاني الذي اعتدت الجلوس فيه للصيد هو نتوء صخري حفرته الطبيعة ، تجويف مثل حضن دافئ ..
ثمة رجل يحتله الآن ، تنحنحت كي أنبهه لوجودي ، لم يبال ، ألقيت عليه التحية لم يأبه ، أعدتها لم يرد :
ـ يبدو أنه أصم ..
قلت لنفسي وأنا أشعل سيجارة كي يصله دخانها ، تغافل ثم أطلق صيحة مدوية :
ـ الله أكبر ..
ورفع سنارته لأعلي وهو يضم سمكة كبيرة إلي صدره ثم واراها بين حاجياته ، عاد ليلقي السنارة ثانية ، سحبها فخرجت بلا صيد ، نظر لي كمن يلومني :
ـ مكاني ...
أشرت بسبابتي ، ضحك مقهقهاً في سخرية:
ـ ليغرب الصبي عن وجهي الآن ، وإلا.....
وددت لو أحمل صخرة أحطم بها رأسه المفلطحة وأنتهي منه بعد أشعلت سخريته الدم في عروقي :
ـ يبدو أن الصباح لن يكون جميلاً ..
قالها وهو يتأهب لان ينقض علي ليفتك بي بعد أن ألقي بسنارته بعيداً وشمر عن ساعدين نحيلين وهرش في شعره المجعد الكثيف ، قلت له :
ـ هذا مكاني منذ زمن بعيد ..
امسك بتلابيبي بشكل زري ، قال في سخرية ورائحة من الدخان العفنة تخرج من فمه :
ـ أرني وثيقة ملكيته ..
دفعته بقوة فكاد يترنح ، تدخل جندي الدرك في الوقت المناسب ، وهدده :
ـ من العيب أن تفعل ذلك مع رجل محترم ، من الآن فصاعداً عليك الحصول علي تصريح بالصيد ..
عاد ضعيفاً يتمسح في الجندي مثل حمل وديع: ـ سافعل ، الآن أنا في حاجة لإطعام عيالي ..
نبهه الشرطي :
ـ يجب أن تحترم نفسك أيضاً ، هل سمعت؟
ـ ولكن ..
قاطعه :
ـ ولا كلمة ..
لم يمنحني البحر سمكة واحدة بينما انهمك الرجل في صيده الوفير ، علت الشمس زاحفة نحو السماء ..
غادر الرجل المكان بعد أن هربت الأسماك إلي قاع البحر فقد سخن سطح الماء ، كانت جموع الصيادين تغني عائدة في كورال واحد:
ـ طلعت يا محلا نورها ...
والرجل يردد معهم ثم أشار لي :

ـ هذا مكانك قد خلا الآن ..
ثم أطلق ضحكة مدوية راحت تطارد النوارس فملأت الفراغ الشاسع بين البحر والسماء ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
محمد عبده العباسي
بورسعيد / مصر

نهي رجب محمد
25/11/2007, 07:17 PM
تصوير المكان في هذه القصة رائع(وصف النتوء الصخري ،وصف حجر سعيد .....)
ثنائية حادة يخلقها تواجد هذا الصياد الفقير الذي لا يمتلك تصريحا مع هذا المحترم الأنيق الممتلك لتصريح الصيد ولكنه لا يحظي بسمكة واحدة
القصة تدفعنا للتفكير في مشكلة الرزق والمقسوم الغيبي الذي لا يرتبط بسعي أو حظ
مع عودة للتعليق مع الشكر
سهيلة

طارق شفيق حقي
25/11/2007, 07:47 PM
سلام الله عليك
ثيمة البحر والصيد تعود مرة أخرى

القاص متمكن , وبأدوات قصصية خبيرة

يعرف ما يريد , يعرف كيف يصف

وأكثر ما أكره في الأدب والقصة خاصة الوصف المجاني , والذي شاع في القصص الواقعية
أو التي تسمى واقعية , وهي ليست كذلك ربما
وكرهت كثيراً من هذه القصص من خلال الوصف الزائد والجسم المترهل

وتركت الفنية الجميلة لو وجدت , من أجل هذا السقوط الفني عبر الوصف المجاني والشرح الزائد ولو كانت أعمالاً تسمى عالمية
وما وجدت أجمل أسلوباً وأكثفه من الأسلوب في التراث العربي

فكل سطر يعني نفسه تماماً , وكل وصف هو لصيق تماماً بصاحبه

وأدعو لذلك أن نعود لروح أدبنا العربي


الأسلوب : يمتلك القاص أسلوباً جميلاً


منحت السائق تحية وابتسامة
ردها بشبه وجوم وجفون منتفخة



هذا الصباح حملت سنارتي و" عدة" الصيد والطعم اللازم ،و الشمس لم تخرج بعد من مكمنها ، وثمة برودة في الصباح رغم فصل الصيف ، المدينة في سبيلها للاستيقاظ بعد ساعات من وسن لم يدم طويلاً ، تثاؤبة ما اعترتني أزحت بها كسلاً بغيضاً ، ثم بحثت عن سيارة أجرة تقلني حتي ميناء الصيد ..
الطريق خالية ، وهدأة الصباح الباكر لم يعكر صفوها إلا سيارات مارقة يقودها صبية صغار سرقوا المفاتيح من أبائهم ..
ثم شق الهدوء صوت غناء ردئ توقفت علي أثره سيارة ، ثم منحت السائق تحية وابتسامة ارتسمت في المرآة أمامه ، ردها بشبه وجوم وجفون منتفخة ، وأشعل سيجارة فألهب حماسي لأقلده ، قال بلسان ثقيل :

لم يضع القاص أحرف العطف هذه التي تثقل كاهل القصة , والتي يكثر منها كثيرمن الكتاب , فكان سرده رشيقاً


الاستهلال
لم يكن استهلالا لقصة مجانياً
فالأسطر الأولى والتي فصلها القاص عامداً برمز النجمة
كانت مقدمة القصة
بحثت عن علاقة بينها وبين الخاتمة وعلاقة بينهاو بين القصة ككل

يقول استهلال القصة ويوحي بالبعد والضياع
فكما ضاعت فتاة الأحلام
ضاع المكان وضاع السمك وضاعت كل شىء
وأتى من أخذ مكانه وسرق زوجته
كما أخذ ذلك الرجل مكانه في الصيد واصطاد سمكته الكبيرة بل وكل الأسماك

هنا نتلمس فن القاص , فالقاص البارع من كان استهلاله بارعاً
ومن عرف كيف يوحي للقصة

من المحتمل أن يكون لنا قصة أخرى باستهلال أخر
فمثلاً يستهل القاص بضياع مكانه في الصيد
ثم تكون القصة عن ضياع حبيبته
ويكون هذا الاستهلال موحياً للقارىء بالضياع قبل أن تأتي القصة

هل كانت قصة محمد العباسي هي الاستهلال
واستهلاله هو القصة

ربما

تحياتي

محمد عبده العباسي
25/11/2007, 10:54 PM
إلي طارق
إلي سهيلة
جزيل الشكر لكما علي هذه القراءة التي تنم عن ذكاء جميل ووعي خصب ، وقدرتكما علي تحليل وقراءة القصة واكتشاف مناطق لا يدركها سوي قارئ واعٍ وفطن ..
لكما كل المودة والاحترام ..
محمد

نهي رجب محمد
26/11/2007, 04:10 AM
القاري الواعي لا يجيد فن القراءة إلا إذا استحثه نص متقن السبك دقيق الوصف
شكرا علي مروركم الكريم بتعليقي مازلت علي الطريق مجرد قارئة وتعليقي المتواضع المختصر لا يرتقي إلي تحليل الأستاذ طارق حقي المفصل المجيد
شكرا
سهيلة

محمد عبده العباسي
26/11/2007, 06:03 PM
إلي سهيلة
لا ياسهيلة
قراءة ذكية واعية من شخصية تدرك تماماً معني الكتابة
تواضع ذكي ينم عن صدق..
محمد

نهي رجب محمد
27/11/2007, 06:02 AM
شكرا أستاذ محمد كلنا علي الطريق نتعلم فن القص
سهيلة

محمد عبده العباسي
27/11/2007, 03:45 PM
إلي سهيلة
شكراً لك علي المتابعات الذكية
كل يوم يمر علي المرء لابد فيه أن يتعلم
تسعدني كلماتك الجميلة وقراءاتك لكل ما أكتب
التفاعل بين فروع الكتابة
الكاتب والنص والمتلقي من أهم أسباب التواصل
لك كل التحية..
محمد