نشيد الربيع
20/06/2005, 10:38 PM
[align=center:26a7a1eb25]رِسَالَة اَلْغُفْرَان
أَبِي اَلْعَلَاء اَلْمُعَرِّي
حَقَّقَهَا وَشَرَحَهَا اَلْأُسْتَاذ
مُحَمَّد عِزَّت نَصْر اَللَّه
بِسْمِ اَللَّه اَلرَّحْمَن اَلرَّحِيم
اَلْمُقَدِّمَة
أَظَلّ اَلْمُعَرِّي عَصْر اِضْطَرَبَتْ فِيهِ اَلْأَحْوَال اَلسِّيَاسِيَّة وَالِاجْتِمَاعِيَّة وَظَهَرَتْ فِي أَرْجَاء
اَلْعَالَم اَلْإِسْلَامِيّ حَرَكَات وَثَوْرَات مَا تَكَاد تَنْهَض أَحَدَّاهُمَا حَتَّى تَخِرّ صَرْعَى تَحْت وَطْأَة
حَرَكَة أَقْوَى , وَلَكِنَّ هَذَا اَلِاضْطِرَاب اَلسِّيَاسِيّ عَادَ عَلَى اَلْعِلْم وَالْأَدَب بِفَوَائِد لَا
تُنْكَر , إِذْ عَمَدَ كُلّ أَمِير إِلَى حَشْد طَائِفَة مِنْ اَلْعُلَمَاء وَالْأُدَبَاء يُبَاهِي بِهِمْ خَصْمه
, فَازْدَهَرَ اَلْأَدَب وَنَمَا اَلشِّعْر وَتَعَدَّدَتْ اَلْمَدَارِس اَلْعِلْمِيَّة , و اَلْأَدَبِيَّة
وَأَتَتْ , فِي هَذَا اَلْعَصْر اَلتَّرْجَمَات عَنْ اَللُّغَات اَلْأَعْجَمِيَّة ثَمَرَات نَاضِجَات وَمِنْهَا
ظُهُور فَلَاسِفَة كَاَلْفَارَابِيِّ وَابْن سِينَا وَأَخَوَانِ اَلصَّفَا ثُمَّ اَلْمُعَرِّي اَلشَّاعِر وَالْأَدِيب
اَلنَّاقِد اَلْفَيْلَسُوف .
فَكَانَتْ فَلْسَفَة اَلْمُعَرِّي وَآرَاؤُهُ فِي نَقْد اَلْحَيَاة اَلِاجْتِمَاعِيَّة وَالدِّينِيَّة ثَمَرَة لِمَا
زَخَرَ بِهِ هَذَا اَلْعَصْر وَهُوَ اَلْقَرْن اَلرَّابِع اَلْهِجْرِيّ مِنْ مُتَنَاقِضَات اِضْطِرَاب فِي اَلْحَيَاة
اَلسِّيَاسِيَّة وَرَقِيّ فِي اَلْعِلْم وَالْأَدَب وَلَوْ لَمْ يَرَ اَلْمُعَرِّي اَلنَّقَائِض اَلِاجْتِمَاعِيَّة
اَلسَّائِدَة يَوْمئِذٍ لَمَا قَذَفَ مِنْ فِيهِ حُمَمًا يَرْمِي بِهَا اَلْحُكَّام وَالْعُلَمَاء وَالنَّاس
وَكَافَّة وَقَدْ تَأَفَّفَ مِنْ اَلْحَيَاة وَمِنْ نَفْسه " وَمِنْ زَمَن رِيَاسَته خساسة " وَطَعْن
بِالْحُكَّامِ وَحِقْد عَلَى جَمِيع وَلَا شَكّ أَنَّ تَجْرِبَته اَلْخَاصَّة مَعَ بَعْض اَلْأُمَرَاء قَدْ جَعَلَتْهُ
يَثُور هَذِهِ اَلثَّوْرَة اَلْيَائِسَة , ضِدّ مُجْتَمِعَة اَلَّذِي لَمْ يُقَدِّرهُ حَقّ قَدْره فَاضْطَرَبَ فِي
اَلنِّهَايَة إِلَى اَلِانْزِوَاء فِي دَاره يُمْلِي عَلَى كَاتِبه مَا يُبَرْهِن بِهِ عَلَى عُلُوّ كَعْبه
فِي اَللُّغَة وَالْأَدَب .
وُلِدَ أَبُو اَلْعَلَاء أَحْمَد بْن عَبْد اَللَّه فِي سَنَة 363 ه بمعرة اَلنُّعْمَان بْن بَشِير
اَلْأَنْصَارِيّ وَسَمَّى اَلْمُعَرِّي نِسْبَة إِلَى هَذِهِ اَلْبَلْدَة , وَعَرَفَتْ أُسْرَته بِالْفَضْلِ وَالْعِلْم
وَالْأَدَب كَانَ أَبُوهُ قَاضِي المعرة وَكَذَلِكَ جَحَدَهُ وَيَنْتَهِي نَسَبه إِلَى عَرَب اَلْيَمَن .
لَاقَى اَلْمُعَرِّي فِي طُفُولَته عِنَايَة بِاللُّغَةِ مِنْ أَبَوَيْهِ , وَلَكِنَّ هَذِهِ اَلْعِنَايَة لَمْ
تَمْنَع عَنْهُ تَصَارِيف اَلْقَدَر إِذْ أُصِيبَ بِالْجُدَرِيِّ , فَذَهَبَ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ ثُمَّ اِنْطَفَأَتْ
اَلثَّانِيَة وَلَمْ يَكَدْ اَلْمُعَرِّي يَعِد سِنِي حَيَاته عَلَى أَصَابِع يَده وَيَتَحَدَّث هُوَ عَنْ نَفْسه
فَيُخْبِرنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِف مِنْ مَشَاهِد اَلدُّنْيَا غَيْر لَوْن اَلْحُمْرَة , لَوْن اَلثَّوْب اَلَّذِي
كَانَ يَلْبَسهُ فِي مَرَضه وَهُوَ طِفْل , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مندوحة مِنْ اَلِانْصِرَاف لِلْعِلْمِ فَأَخَذَ
أَبُوهُ بِتَلْقِينِهِ اَلْعِلْم حَتَّى شَبَّ , ثُمَّ انهدم رُكْن حَيَاته إِذْ مَاتَ أَبَوْهُ وحاطته فِي
حَلَب , ثُمَّ نَضِجَ عِلْمه وَاسْتَقَرَّ فِي المعرة فَتْرَة مِنْ اَلزَّمَن , وَلَمْ تَهْدَأ تَحْصِيله فِي
حَلَب , ثُمَّ نَضِجّ عِلْمه وَأَسْتَقِرّ فِي المعرة فَتْرَة مِنْ اَلزَّمَن , وَلَمْ تَهْدَأ نَفْسه فَطَافَ
بِسَوَاحِل اَلشَّام فَعَرَفَتْهُ أَنْطَاكِيَة وَاَللَّاذِقِيَّة وَطَرَابُلُس وَزَارَ مَكْتَبَتهمَا اَلضَّخْمَة ,
وَرُبَّمَا لَزِمَهَا أَيَّامًا .
وَأَخِيرًا عَادَ إِلَى المعرة يَسْتَجِمّ مِنْ عَنَاء اَلرِّحْلَة , وَلَمْ نَدْرِ كَمْ بقى فِيهَا مِنْ
اَلسِّنِينَ ثُمَّ تَطَلَّعَتْ نَفْسه إِلَى اَلرِّحْلَة فَقَصَدَ اَلْعِرَاق وَسَبَقَتْهُ شُهْرَته إِلَى بَغْدَاد
فَأَسْتَقْبِلهُ عُلَمَاؤُهَا بِالْحَفَاوَةِ وَالتَّرْحَاب وَلَقِيَ فِي مُخْتَلِف اَلْمَجَالِس اَلْعِلْمِيَّة
إِكْرَامًا , و اِحْتِرَامًا لَوْلَا أَنَّهُ أُهِينَ فِي مَجْلِس اَلشَّرِيف المرتضى اَلَّذِي أَمَرَ بِطَرْدِهِ
خَارِج اَلْمَجْلِس , فَجْر مِنْ قَدَمَيْهِ وَأُلْقِي فِي اَلشَّارِع هَذِهِ اَلْحَادِثَة حَزَّتْ فِي نَفَسِي
اَلْمُعَرِّي وَجَعَلَتْهُ يَنْكَمِش عَلَى نَفْسه وَيَنْزَوِي فِي دَاره
.
وَلَمْ تُطِلْ أقامة اَلْمُعَرِّي فِي بَغْدَاد فَلَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ سُنَّتَانِ حَتَّى عَاوَدَهُ اَلْحَنِين إِلَى
المعرة وَعِنْدَمَا بَلَغَهُ أَنَّ أُمّه مَرِيضَة بِهِ لِيَكُونَ فِي قُرْبهَا , وَتَرَكَ بَغْدَاد عَائِدًا
وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكهَا إِذْ مَاتَتْ قُبَيْل وُصُوله وَكَانَ قَدْ بَلَغَ اَلثَّامِنَة , اَلثَّلَاثِينَ وَكَانَتْ
أُمّه آخَر عِمَاد يَلْجَأ إِلَيْهِ فَرَثَاهَا أَحَرّ اَلرِّثَاء وَأَعْتَزِل اَلنَّاس وَالْحَيَاة وَالْعَامَّة
, وَلَزِمَ بَيْته وَعَزَمَ عَلَى تَجَنُّب أَكَلَ لَحْم اَلْحَيَوَان وَنِتَاجه مُكْتَفِيًا بِالنَّبَاتِ , وَفِي
ذَلِكَ يَقُول : -
يَسُرّنِي بِلِسَان يُمَارِس لِي وَأَنْ أَتَتْنِي حَلَاوَة فَلَيْسَ
وَجَاءَهُ طُلَّاب اَلْعِلْم مِنْ أَنْحَاء اَلْبِلَاد اَلْإِسْلَامِيَّة , يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ اَلْعُلُوم حَتَّى غَصَّتْ
دَاره بِهِمْ وَكَانَ شَدِيد اَلْحَفَاوَة بِتَلَامِيذِهِ يحوطهم بِعِنَايَة وَرِعَايَته وَظَلَّ عَلَى هَذِهِ
اَلْحَال إِلَى أَنَّ مَرَض , وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِنْ اَلْعُمْر عِتِيًّا و فَوَصْف لَهُ اَلطَّبِيب فَرَوَّجَا
لِمَا جِيءَ بِهِ لَهُ مِيدَالْيَة ده وَهِيَ تَرْتَعِش فَمَا تَحَسَّسَهُ حَتَّى كَفّ يَده وَقَالَ اِسْتَضْعَفُوك
فَوَصَفُوك هَلَّا وَصَفُوا شِبْل اَلْأَسَد ? " وَأَسْتَمِرّ مَرَضه ثَلَاثَة أَيَّام قَضَى فِي نِهَايَتهَا
وَدَفَنَ فِي اَلْمُعَمِّرَة وَهُنَالِكَ اِنْطَفَأَ مِصْبَاح شَعَّ عِلْمًا وَأَدَبًا وَمَلَأ اَلدُّنْيَا تَغْرِيدًا
وَصَدَّاحًا إِذْ كَانَ اَلْمُعَرِّي كَاتِبًا وَشَاعِرًا مِنْ آثَاره اَلنَّثْرِيَّة " شَرْح دِيوَان اَلْمُتَنَبِّي
وَاَلْبُحْتُرِيّ وَأَبِي تَمَام " وَلَهُ كِتَاب " اَلْفُصُول وَالْغَايَات " كَمَا لَهُ رَسَائِل مُتَعَدِّدَة
مِنْهَا " رِسَالَة اَلْغُفْرَان " اَلَّتِي نَحْنُ فِي سَبِيل اَلْحَدِيث عَنْهَا , وَأَمَّا آثَاره
اَلْمَنْظُومَة فَمِنْهَا " اللزوميات " و " سَقَطَ اَلزَّنْد " و " الدرعيات " فَهُوَ إِذَنْ
مُفَكِّر وَكَاتِب , شَاعِر .
وَرِسَالَة اَلْغُفْرَان قِصَّة خَيَالِيَّة فِيهَا رُمُوز وَإِشَارَات , وَفِيهَا أَحْيَانًا تَلْمِيحَات
وَتَصْرِيحَات وَظَاهِرهَا جَوَاب عَلَى رِسَالَة تَلَقَّاهَا اَلْمُعَرِّي مِنْ أَدِيب حَلَبِيّ يُسَمَّى أَبَّنَ
القارح وَيُسْتَعْرَض اَلْمُعَرِّي فِي رِسَالَته مَا يَتَعَرَّض لَهُ اَلنَّاس يَوْم اَلْحَشْر وَيَصِف حَالَة
اَلنَّاس فَيَتَحَدَّث عَنْ اَلْمَوْقِف وَمَا يُلْقِي اَلنَّاس فِيهِ مِنْ أَهْوَال , وَتَدُور اَلْقِصَّة حَوْل
عَلِيّ بْن مَنْصُور ( أَبَّنَ القارح ) إِذْ يَعْجَب مِنْ طُول وُقُوفه فِي اَلْحَشْر فَيَسْعَى إِلَى
دُخُول اَلْجَنَّة قَبْل اَلنَّاس , وَهُنَا تَحَدُّث لِلرِّجَالِ حَوَادِث تَدْعُو إِلَى اَلضَّحِك و اَلسُّخْرِيَة
إِذْ يُنَاقِش جَمَاعَة مِنْ اَلْعُلَمَاء وَالشُّعَرَاء فِي اَلْمَوْقِف كَمَا يُنَاقِش خَازِن اَلْجَنَّة
وَيَمْدَحهُ بِشِعْر لَا يُفَقِّه مِنْهُ اَلْخَازِن شَيْئًا , وَبَعْد طُول عَنَاء يَدْخُل اَلْجَنَّة وَيَجْتَمِع
بِشُعَرَائِهَا وَيُنَاقِشهُمْ فِيمَا قَالُوا فِي اَلدَّار اَلْفَانِيَة وَيَسْأَل كُلّ مَنْ يُلَاقِيه هَذَا
اَلسُّؤَال " بِمَ يَغْفِر اَللَّه لَك ? " وَيُطِلّ عَلَى جَهَنَّم وَيَسْأَل مِنْ فِيهَا " لِمَ لَمْ يَغْفِر
اَللَّه لَك ? " وَلِهَذَا تُسَمَّى رِسَالَته بِرِسَالَة اَلْغُفْرَان .
وَسَوَّقَ اَلْمُعَرِّي كَلَامه بِقَالَب غَامِض فِيهِ حَشْد مِنْ اَلْأَلْفَاظ اَلْغَرِيبَة لَا يَسْتَطِيع
اَلْقَارِئ اَلْمُضِيّ فِي مُطَالَعَتهَا دُون أَنْ يَجُول جَوْلَة طَوِيلَة فِي اَلْمَعَاجِم لَقَدْ حَشَدَ فِي
اَلرِّسَالَة ثَرْوَة ضَخْمَة مِنْ اَلْأَلْفَاظ حَتَّى لَا تَكَاد تُوجَد لَفْظَة مُعْجَمِيَّة إِلَّا أَحْيَاهَا
فِي رِسَالَته هَذِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يُرِيد أَنْ يُعْمِي عَلَى اَلنَّاس فَلَا يَفْهَم أَغْرَاضه فِيهَا غَيْر
اَلنُّخْبَة مِنْ اَلْعُلَمَاء , وَالْغَرِيب فِي أَمْره أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْجِنِّ وَأَوْرَدَ طَائِفَة مِمَّا نُسِبَ
إِلَيْهِمْ مِنْ اَلشِّعْر وَكَأَنَّهُ فِعْلًا مِنْ شِعْر اَلْجِنّ فِي غَرَابَة أَلْفَاظه وَتَرْكِيبه وَظَاهِر
اَلْكَلَام فِي اَلرِّسَالَة جَدّ وَبَاطِنَة هَزَلَ .
وَيَخْتَلِف اَلنَّاس فِي سَبَب كِتَابَة هَذِهِ اَلرِّسَالَة وَعِنْدِي أَنَّ اَلْمُعَرِّي كَانَ يَحْمِل ثَرْوَة
ضَخْمَة مِنْ عِلْم اَللُّغَة وَالدِّين , اَلْفَلْسَفَة , مِمَّا عَرَّفَهُ عَصْره مِنْ أَلْوَان اَلثَّقَافَات
اَلْمُخْتَلِفَة وَكَأَنِّي بِهِ إِنَاء اِمْتَلَأَ مَاء فَلَا بُدّ لَهُ أَنْ يَفِيض فَفَاضَ اَلْمُعَرِّي بِمَا
عِنْده مِنْ اَلْمَعْلُومَات وَذَكَرَ مَا أشتمل عَلَيْهِ صَدْره ثُمَّ أَنَّ اَلرَّجُل كَانَ ضَرِيرًا اِنْطَفَأَتْ
مَدَارِكه إِلَى عَالَم بَاطِن فَجَعَلَ يَتَصَوَّر مَا يَمُرّ بِذِهْنِهِ فَجَمْع ذَلِكَ كُلّه وَأَلْف بَيْنه
فَكَانَتْ مِنْهُ رِسَالَة اَلْغُفْرَان وَثُمَّ شَيْء آخَر وَهُوَ أَنَّ اَلْمُعَرِّي كَانَ رَجُلًا مُتَشَكِّكًا
يُرِيد أَنْ يَفْهَم مَشَاكِل اَلْحَيَاة وَمَا بَعْدهَا فَهُمَا عَقْلِيَّا فَيَعْجِز تَارَة عَنْ ذَلِكَ فَيَثُور
وَيُهَيِّج وَتَارَة يَرْضَخ لِلْقَضَاءِ وَيَسْتَكْنَ وَإِلَّا أَنَّ اَلْمُعَرِّي لَمْ يَتَقَرَّر عِنْده اَلْإِيمَان
بِوُجُود اَلْجَنَّة أَوْ اَلنَّار فَشَكَّ فِي اَلْحَشْر وَأَحْوَاله مِنْ ثَوَاب وَعَذَاب , وَكَانَ يَتَمَنَّى
فِي قَرَارَة نَفْسه أَنْ تُصَدِّق اَلْأَخْبَار عَنْ اَلْجَنَّة وَالنَّار فَيَكُون هُوَ مِنْ اَلْمُحْسِنِينَ
اَلَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ جَنَّات اَلنَّعِيم , وَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّق مِنْ إِمْكَان اَلْخُلُود تَخَيُّله فِي
رِسَالَة اَلْغُفْرَان عَلَى نَحْو مَا جَاءَ فِي اَلْقُرْآن و فِي اَلْحَدِيث وَفِي اَلْأَخْبَار عَنْ
اَلْجَنَّة وَالنَّار , وَإِنَّمَا كَانَ سِيَاقه فِيهَا عَلَى سَبِيل اَلْهَزْل وَالْمُبَطَّن إِذْ يُجْرِي
مُنَاقَشَات بَيْن اَلشُّعَرَاء تَجُرّ إِلَى الملاحاه كَالْمُنَاقَشَةِ اَلَّتِي دَارَتْ بَيْن اَلْأَعْشَى
والجعدي , إِذْ يَقُول هَذَا لِلْأَعْشَى : " يَا ضَلَّ يَا أَبِنْ الضل إِنَّ دُخُولك اَلْجَنَّة مِنْ
اَلْمُنْكَرَات وَلَوْ جَازَ اَلْغَلَط عَلَى رَبّ اَلْعِزَّة لَقُلْت أَنَّهُ غَلِطَ بِك , وَكَانَ مِنْ حَقّك أَنْ
تُصْلِي فِي اَلْجَحِيم وَقَدْ صَلَّى بِهَا مَنْ هُوَ خَيْر مِنْك " وَيَضْرِب اَلْأَعْشَى بِكُوز مِنْ ذَهَب
لِيَقُولَ لَهُ بَعْض اَلْحَاضِرِينَ فِي اَلْمَجْلِس , أَلَّا تَخْشَى أَنْ يَمُرّ مَلِك يَكُون بِمَثَابَة
اَلْحَفَظَة فِي أَهْل اَلدُّنْيَا فَيَرْفَع اَلْأَمْر إِلَى اَلْعَلِيّ وَالْأَعْلَى وَقَدْ اِسْتَغْنَى أَنْ تَرْفَع
إِلَيْهِ , فَيَجُرّ إِلَى مَا تَكْرَهَانِ وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُوكُمَا آدَم مِنْ اَلْجَنَّة بِأَهْوَن مِمَّا
تَصْنَعَانِ " .
وَفِي اَلرِّسَالَة أَحَادِيث دَارَتْ بَيْن اَلشُّعَرَاء وَالْأُدَبَاء فِي اَلنَّحْر وَفِي اَللُّغَة و فِي
اَلنَّقْد اَلْأَدَبِيّ وَفِي اَلْمَسَائِل اَلدِّينِيَّة وَهَكَذَا كَانَتْ رِسَالَة اَلْغُفْرَان وَعَاد ضَخْمًا
أَفْرَغَ فِيهِ اَلْمُعَرِّي مَا عِنْده مِنْ طَاقَة لُغَوِيَّة وَأَدَبِيَّة وَتَارِيخَيْهِ وَلَمْ يَسْبِق
اَلْمُعَرِّي إِلَى مِثْل هَذَا اَلْمَوْضُوع فَكَانَتْ رِسَالَة اَلْغُفْرَان مَصْدَرًا لِمَا كَتَبَ أُدَبَاء
اَلشَّرْق وَالْغَرْب مِنْ اَلْقِصَص اَلْخَيَالِيَّة اَلْمُمْتِعَة
.
وَأَسْتَطِيع اَلْقَوْل أَنَّ مُصِيبَة اَلرَّجُل فِي بَصَره مَدَّتْ فِي خَيَاله فَجَعَلَ يَتَنَاوَل مَوَاضِيع
لَمْ يَسْبِق إِلَيْهَا , وَقَدْ أُوتِيَ اَلْمُعَرِّي ذَكَاء حَادًّا وَلَهُ طَرِيقَته اَلْخَاصَّة فِي
اَلتَّفْكِير وَطَرِيقَة اَلتَّعْبِير , وَإِنَّهُ لِمَنْ اَلْمُؤَكَّد أَنَّ اَلْمُعَرِّي قَدْ سَجَّلَ رَأْيه فِي كَثِير
مِنْ اَلْمَسَائِل اَللُّغَوِيَّة وَالنَّقْدِيَّة فِي هَذِهِ اَلرِّسَالَة , وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صِنْف سُكَّان
اَلْجَنَّة وَالنَّار أَصْنَافًا وَجَعَلَهُمْ مَرَاتِب بَعْضهَا فَوْق بَعْض فَوَضْع فِي أَقْصَى اَلْجَنَّة
بُيُوتًا حَقِيرَة وَأَسْكَنَ فِيهَا شُعَرَاء اَلرِّجْز وَقَالَ لَهُمْ لَقَدْ صَدَقَ اَلْحَدِيث اَلْمَرْوِيّ : "
إِنَّ اَللَّه يُحِبّ مَعَالِي اَلْأُمُور وَيَكْرَه بِالْإِغْوَاءِ " وَإِنَّ اَلرِّجْز لِمَنْ سفساف القريض
قَصَّرْتُمْ أَيُّهَا اَلنَّفَر فَقَصَرَ بِكُمْ " . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى رَأْي اَلْمُعَرِّي فِي اَلرِّجْز وَلَمْ يَكُنْ
يُنَظِّم شَعْرًا عَلَى هَذَا اَلْبَحْر .
وَطَبَعَتْ رِسَالَة اَلْغُفْرَان لِلْمَرَّةِ اَلْأُولَى عَام 1903 فِي مِصْر , وَهِيَ مَا تَعْرِف بِطَبْعَة
أَمِين هِنْدِيَّة , ثُمَّ طَبَعَتْ أَجْزَاء مِنْ هَذِهِ اَلرِّسَالَة شَرْحهَا اَلْأُسْتَاذ كَامِل كِيلَانِيّ ,
وَتَلًّا ذَلِكَ طَبْعَة مُحَقَّقَة أَصْدَرَتْهَا دَار اَلْمَعَارِف بِمِصْر لِلدُّكْتُورَةِ عَائِشَة عَبْد
اَلرَّحْمَن ( بِنْت اَلشَّاطِئ ) وَأُعِيدَ طَبْعهَا عِدَّة مَرَّات , وَهَدَّ أَوَّل طَبْعَة كَامِلَة مُحَقِّقَة
لِرِسَالَة اَلْغُفْرَان , وَقَدْ اَلْمُحَقِّقَة نُسْخَة " كوبريلي زادة بِالْإِغْوَاءِ " ,
أَصْلًا لِطَبْعَتِهَا وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ اِسْتَأْنَسَتْ بِعِدَّة مَخْطُوطَات لِرِسَالَة اَلْغُفْرَان , وَبِمَا
نَشَرَ فِي مَجَلَّة اَلْجَمْعِيَّة اَلْآسْيَوِيَّة اَلْمَلَكِيَّة مِنْ مَخْطُوط نِيكِلْسُون وَفِي بَيْرُوت ظَهَرَتْ
طَبْعَة تِجَارِيَّة عَام 4691 صَدَرَتْ عَنْ " دَار صَادَرَ وَدَارَ بَيْرُوت " منقوله بِشَكْل سيء
عَنْ اَلطَّبْعَة اَلَّتِي حَقَّقَتْهَا اَلدُّكْتُورَة بِنْت اَلشَّاطِئ وَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ اَلطَّبْعَة , أَخْطَاء
كَثِيرَة وَأَسَاءَتْ إِلَى نُصُوص رِسَالَة اَلْغُفْرَان إِسَاءَة كَبِيرَة .
أَمَّا هَذِهِ اَلطَّبْعَة اَلْجَدِيدَة لِرِسَالَة اَلْغُفْرَان , فَقَدْ اُعْتُمِدَتْ فِي تَحْقِيقهَا عَلَى
مَخْطُوطَة حَدِيثَة هِيَ طِبْق اَلْأَصْل , عَنْ مَخْطُوط " كوبريلي زادة " , وَقَدْ تَفَضَّلَ اَلسَّيِّد
" سي رَابِح بُو رِبَاط " بِالْإِغْوَاءِ هَذِهِ اَلْمَخْطُوطَة إِلَّا أَنِّي لَا أُنْكِر اَلْبَتَّةَ أَنَّ
اَلطَّبْعَة اَلرَّابِعَة , اَلْمُحَقِّقَة اَلَّتِي نَشَرَتْهَا اَلدُّكْتُورَة , عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن قَدْ
أَفَادَتْنِي كَثِيرًا وَسَهَّلَتْ عَلَيَّ فَهُمْ بَعْض نُصُوص اَلْغُفْرَان وَالْإِلْمَام بِمَا جَاءَ فِي بَقِيَّة
اَلْمَخْطُوطَات مِنْ كَلِمَات قُرِئَتْ أَوْ رَسَمَتْ بِشَكْل يُغَايِر مَا جَاءَ فِي مَخْطُوطَة كوبريلي
رَادَّة اَلْأَصْلِيَّة , وَلَا شَكّ أَنَّ مَا جَاءَ فِي نُسْخَة " سي رَابِح بُو رِبَاط " يَخْتَلِف بَعْض
اَلشَّيْء عَنْ طَبْعَة اَلدُّكْتُورَة بِنْت اَلشَّاطِئ وَذَلِكَ يَعُود إِلَى لَهُمْ اَلنَّاسِخ لِبَعْض
اَلْكَلِمَات أَوْ سُوء فَهْمه لَهَا و إِنَّنِي سَأُشِيرُ عِنْدَمَا أُجِدّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَة إِلَى
تَرْجِيحَات نُسْخَة رَابِح بُو رِبَاط , بِرَمْز " سي " فَعَسَى أَنْ يَنْفَع ذَلِكَ جُمْهُور اَلْأُدَبَاء
.
وَإِنِّي أَرَى مِنْ اَلْأَهَمِّيَّة بِمَكَان أَنْ أُشِير إر رورو بَعْض اَلْأَخْطَاء اَلطَّفِيفَة فِي
شُرُوح طَبْعَة اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن , فَقُمْت بِتَصْحِيح هَذِهِ اَلْأَخْطَاء أَثْنَاء
شَرْحِي لِغَرِيب رِسَالَة اَلْغُفْرَان إِلَّا إِنِّي لَمْ أَتَعَرَّض للاعلام بِالتَّرْجَمَةِ أَوْ اَلتَّحْقِيق
وَإِنِّي أَفْضَل أَنْ نُفْرِد لاعلام اَلْغُفْرَان رِسَالَة خَاصَّة تَتَنَاوَل سَيْرهمْ بِإِسْهَاب , وَقَدْ
أَقُوم إِذَا سَنَحَتْ لِي اَلْفُرْصَة , بِهَذَا اَلْعَمَل أَنْ شَاءَ اَللَّه تَعَالَى .
وَقَدْ لَاحَظَتْ اَلْمُحَقِّقَة اَلْفَاضِلَة أَنَّ اَلْمُعَرِّي يَشْرَح بَعْض غَرِيب أَلْفَاظه أَوْ يَأْتِي
بِبَعْض مُلَاحَظَاته وَتَعْلِيقَاته , وَيَضَعهَا فِي سِيَاق اَلنَّصّ اَلْعَامّ لِلْغُفْرَانِ , أَوْ أَنَّهُ
رَحِمَهُ اَللَّه , يَخْرُج بِشَكْل مُلْفِت لِلنَّظَرِ عَنْ سِيَاق حَدِيثَة اَلْأَصْلِيّ , إِلَى حَدِيث آخَر
لَهُ عَلَاقَة , مَا بِحَدِيث اَلْأَوَّل , وَقَدْ ظَنَنْت اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن , هَذَا
اِسْتِطْرَادًا مِنْ أَبِي اَلْعَلَاء وَشُرُوحًا مُعْتَرِضَة لَهُ , فَكَتَبَتْ تَقُول .
" فَإِذَا أَبْعَدَنَا عَنْ أُسْلُوب اَلْغُفْرَان تُهْمَة تَشَتُّت اَلْأَفْكَار وَانْعِدَام اَلرَّبْط
اَلْمَعْنَوِيّ بَقِيَ ملحظان آخَرَانِ , عَلَى اَلتَّرْتِيب , قَدْ يَرُدّ إِلَيْهِمَا مَا نَرَاهُ مِنْ تَمَزُّق
اَلنُّظُم فِي اَلْأُسْلُوب وَهُوَ شَيْء آخَر غَيْر مَا قِيلَ مِنْ اَلتَّشَتُّت وَالْعَجْز عَنْ اَلرَّبْط
أَوَّلهمَا اَلِاسْتِطْرَاد .
فَقَدْ كَانَ أَبُو اَلْعَلَاء يَكْثُر اَلْخُرُوج عَنْ اَلْمَوْضُوع اَلَّذِي يَتَحَدَّث فِيهِ , مُسْتَطْرِدًا
إِلَى حَدِيث آخَر , مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ , أَوْ هِيَ دَاعٍ مِنْ اَلنُّظُم أَوْ اَلْمَعْنَى وَلَا عَيْب
فِي هَذَا لَوْ أَنَّهُ أَخَذَ بِاعْتِدَال , لَكُنَّا نُلَاحِظ عَلَى اَلشَّيْخ أَنَّهُ كَانَ يُسْرِف فِي ذَلِكَ
إِسْرَافًا , وَاضِحًا , يُفْسِد وَحِدَّة اَلْمَوْضُوع , وَيَعْبَث بِالنُّظُمِ .
وَمَا ظَنّك بِاسْتِطْرَاد يَسْتَغْرِق أَكْثَر مِنْ نِصْف اَلرِّسَالَة , أَعْنِي تِلْكَ اَلرِّحْلَة إِلَى
اَلْعَالَم اَلْآخَر , فَقَدْ كَانَتْ كُلّهَا اِسْتِطْرَادًا سَاقَ إِلَيْهِ تَقْدِير أَبِي اَلْعَلَاء لِمَا
اُفْتُتِحَ بِهِ أَبَّنَ القارح رِسَالَته مِنْ تَمْجِيد اَللَّه ? .
قَالَ اِبْن القارح : " اِسْتِفْتَاحًا بِاسْمِهِ , واستبجاحا بِبَرَكَتِهِ , وَالْحَمْد لِلَّهِ
اَلْمُبْتَدِئ بِالنِّعَمِ اَلْمُنْفَرِد بِالْقَدَمِ , اَلَّذِي جَلَّ عَنْ شِبْه اَلْمَخْلُوقَات وَصِفَات
اَلْمُحْدَثِينَ وَلِي اَلْحَسَنَات اَلْمُبَرَّأ مِنْ اَلسَّيِّئَات اَلْعَادِل , فِي أَفْعَاله , وَالصَّادِق فِي
أَقْوَاله خَالِق اَلْخَلْق ومبديه ومبقيه مَا شَاءَ ومنفيه " .
فَرَدَّ أَبُو اَلْعَلَاء : " وَقَدْ وَصَلَتْ اَلرِّسَالَة اَلَّتِي بِحَرِّهَا بِالْحُكْمِ مَسْجُور وَمَنْ
قَرَأَهَا لَا شَكّ مَأْجُور . أَلْفِيَّتهَا مُفْتَتَحَة بِتَمْجِيد صَدَرَ عَنْ بَلِيغ مَجِيد , وَفِي قُدْرَة
رَبّنَا جَلَّتْ عَظَمَته أَنْ يَجْعَل كُلّ حَرْف مِنْهَا شَبَح نُور , وَلَا يَمْتَزِج بِمَقَال اَلزُّور . .
وَلَعَلَّهُ - سُبْحَانه , قَدْ نَصُبّ لِسُطُورِهَا , اَلْمُنْجِيَة مِنْ اَللَّهَب , مَعَارِج مِنْ اَلْفِضَّة
أَوْ اَلذَّهَب , تُعَرِّج بِهَا اَلْمَلَائِكَة مِنْ اَلْأَرْض اَلرَّاكِدَة , إِلَى اَلسَّمَاء , وَتَكْشِف عَنْ
سجوف اَلظَّلْمَاء " .
وَمِنْ هُنَا صَاحَبَهُ إِلَى اَلْجَنَّة , وَمَا زَالَ بِهِ فِي رِحْلَته , حَتَّى أَكْمَلَ طَوَافه
بِالْعَالَمِ اَلْآخَر , وَجْنَته وَنَاره , لِيَعُودَ بَعْد ذَلِكَ , إِلَى اَلرَّدّ عَلَى اَلسَّطْر
اَلْخَامِس مِنْ رِسَالَة صَاحِبه .
وَأَبُو اَلْعَلَاء حِين يَسْتَطْرِد يُخْلِص لِلْمَوْضُوعِ اَلْجَدِيد اَلَّذِي أُقْحِمهُ فِي حَدِيثه فَلَا
يَدْعُهُ إِلَّا بَعْد أَنْ يَسْتَوْفِيه مَهْمَا يُطِلّ اَلْقَوْل , وانك لِتَكَادَ تَنْسَى اَلْمَوْضُوع اَلْأَوَّل
اَلَّذِي كَانَ يُحَدِّثك فِيهِ مِنْ قَبْل , إِلَى أَنْ يُذَكِّرك بِهِ , رَجَعَ أَبِي اَلْعَلَاء إِلَيْهِ ,
وَهُوَ لَا يَنْسَى مَا كَانَ فِيهِ قَبْل أَنْ يَمْضِي مُسْتَطْرِدًا .
و اَلْأَمْر يُهَوِّن لَوْ أَنَّهُ يَسْتَطْرِد فِي اَلْمَرَّة اَلْوَاحِدَة , إِلَى مَسْأَلَة وَاحِدَة , لَكِنَّ
اِسْتِطْرَاده غَالِبًا , يُسَلِّم إِلَى آخَر فَآخَر , حَتَّى لِيَتَسَاءَل اَلْقَارِئ فِي إِنْكَار ,
أَلَّا يَنْتَهِي ? وَلَكِنْ لَا غَرَابَة فِي ذَلِكَ فَإِنَّ غَيْرهَا - مِنْ اَلْأَلْفَاظ أَوْ اَلْمَسَائِل
فِي هَذَا يُدْرِكهُ بِبَيْتَيْ اَلنَّمِر بْن تولب , هُمَا يَذْكُر أَنَّهُ بِحِكَايَة خَلْف اَلْأَحْمَر مَعَ
أَصْحَابه فِي تَغْيِير اَلْقَافِيَة , مِنْ اَلنُّون إِلَى اَلصَّاد , وَهَذَا يُسَلِّمهُ إِلَى أَنْ يَمُرّ
بِالْقَافِيَّة عَلَى حُرُوف اَلْهِجَاء جَمِيعًا , مُسْتَطْرِدًا فِي ثَنَايَا ذَلِكَ اِسْتِطْرَادَات جَدِيدَة
يضرح بِهَا مَا يَعْرِض لَهُ مِنْ أَلْفَاظ أَوْ يُفَسِّر مَا يَأْتِي مِنْ شَوَاهِد .
وَلَعَلَّ عُلَمَاء اَلنَّفْس يُفَسِّرُونَ هَذَا , بِأَنْ يَرُدُّوهُ إِلَى ظُرُوف أَبِي اَلْعَلَاء , فَقَدْ كَانَ
يُمْلِي وَلَا يَكْتُب , وَطَبِيعَة اَلْإِمْلَاء - وَبِخَاصَّة إِذَا كَانَ مِنْ غَيْر مَكْتُوب - لَا تُعَيِّن
عَلَى مِثْل اَلتَّحْدِيد وَالتَّقْيِيد اَللَّذَيْنِ فِي اَلْكِتَابَة , أَوْ لَعَلَّ هَذِهِ الاستطرارات
اَلْجُزْئِيَّة لَمْ تَكُنْ سِوَى مَظْهَر لِعَرْض ثَرْوَته اَللُّغَوِيَّة , وَوَسِيلَة إِلَى كَشْف اَلْمَكْنُون مِنْ
ذَخِيرَته فِيهَا .
وَنَنْتَقِل إِلَى الملحظ اَلْآخَر , عَلَى تَرْتِيبه لمعانية فِي اَلْغُفْرَان وَهُوَ اَلشُّرُوح
اَلْمُتَعَرِّضَة .
وَهَذَا يُشْبِه يَكُون نَوْعًا مِنْ اَلِاسْتِطْرَاد , وَكَانَ مِنْ اَلْمُمْكِن أَنْ يَرِد إِلَيْهِ وَيُدْمِج
فِيهِ لَوْلَا أَنَّهُ لَازَمَهُ طُول إِمْلَائِهِ لِلرِّسَالَةِ , حَتَّى صَارَ مِنْ حَقّه أَنْ يُفْرِد بِالنَّظَرِ
وَيَخُصّ بِالذِّكْرِ .
وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ قَبْل - أَثْنَاء اَلْحَدِيث عَنْ تَأْثِير اَلْغُفْرَان بِسُوء اَلْحَيَاة اَلْأَدَبِيَّة
فِي عَصْرهَا , كَيْفَ كَانَ هَذَا اَلشَّرْح يُؤْذِي اَلْجَمَال اَلْفَنِّيّ , فِي قِصَّته , وَيُشَوِّه صُوَره
وَمَشَاهِده , وأحسبنا نَذْكُر مَشْهَد أوس بْن حَجَر فِي اَلنَّار , وَكَيْفَ أُفْسِدهُ اَلشَّيْخ
بِذِكْر " درم " اَلَّذِي - هُوَ مِنْ بَنِي دُبّ بْن مَرَّة , بْن ذُهِلَ بْن شيبان - وَكَانَ فِعْل
فِي مَشْهَد اَلْحَشْر , وَحَيْثُ كَانَ يَعْتَرِض بِالشَّرْحِ فِي مَوْقِف , كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يُذْهِلهُ
عَنْ كُلّ شَرْح وَاسْتِطْرَاد .
قَالَ : " لِمَا نَهَضَتْ أَنْتَفِض مِنْ اَلرِّيم , وَحَضَرَتْ حرصات اَلْقِيَامَة , - الحرصات
أَبْدَلَتْ اَلْحَاء مِنْ اَلْعَيْن - ذَكَرَتْ اَلْآيَة " تُعَرِّج اَلْمَلَائِكَة وَالرُّوح إِلَيْهِ فِي يَوْم
كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة , فَأَصْبِر صَبْرًا جَمِيلًا " , فَطَالَ عَلَيَّ اَلْأَمَد ,
و اِشْتَدَّ اَلظَّمَأ , والومد - و الومد , شِدَّة اَلْحَرّ وَسُكُون اَلرِّيح , كَمَا قَالَ ,
أَخُوكُمْ اَلنُّمَيْرِيّ .
كَأَنَّ بَيْض نَعَام فِي ملاحفها جَلَاهُ طَلّ وَقَيْظ لَيْله وَمَدّ
وَأَنَا رَجُل مهياف - أَيّ سَرِيع اَلْعَطَش - فافتكرت أَمْرًا , لَا قِوَام لِمَثَلِي بِهِ و
لَقِيَنِي اَلْمَلِك اَلْحَفِيظ بِمَا زُبُر لِي مِنْ فِعْل اَلْخَيْر , فَوَجَدَتْ حَسَنَاتِي قَلِيلَة كالنفأ
فِي اَلْعَام , اَلْأَرْمَل , بِالْإِغْوَاءِ , اَلرِّيَاض , وَالْأَرْمَل قَلِيل اَلْمَطَر . . " .
هَذَا هُوَ رَأْي اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن , فِي شُرُوح وَتَفْسِيرَات أَبِي اَلْعَلَاء
وَالْمُحَقِّقَة اَلْفَاضِلَة لَا تَحِيد عَنْ هَذَا اَلرَّأْي قَيْد أُنْمُلَة , وَتُصِرّ - بِعِنَاد , عَلَى
إِثْبَاته .
وَقَدْ رَدَّتْ " اِحْتِمَال أَنْ تَكُون هَذِهِ اَلشُّرُوح لَيْسَتْ مِنْ صُلْب اَلْمَتْن , وَأَنَّ أَبَا
اَلْعَلَاء لَمْ يَمَلّهَا لِتَكْتُب فِي رِسَالَته , إِلَى اِبْن القارح , وَإِنَّمَا كَانَ يُفَسِّر بِهَا
لِتَلَامِيذِهِ - اَلَّذِينَ كَانُوا يُحِيطُونَ بِهِ وَيَكْتُبُونَ عَنْهُ - مَا يَعْرِض لَهُ مِنْ مَسَائِل ,
لُغَوِيَّة , أَوْ يَشْرَح لَهُمْ مَا يَظُنّهُ غَامِضًا عَلَى بَعْضهمْ فَكَتَبَهَا اَلتَّلَامِيذ فِي اَلْمَتْن ,
وَلَمْ يَكُنْ مَقْصِد أَبِي اَلْعَلَاء , أَنْ تَكُون فِيهِ " .
وَقَالَتْ اَلْمُحَقِّقَة اَلْفَاضِلَة أَنَّ اَلشَّيْخ كَانَ يَقْصِد . , حِين أَمَّلَاهَا شَارِحًا , مُعْتَرِضًا
, أَنَّ تَسْجِيل فِي رِسَالَته , إِلَى أَبَّنَ القارح , وَالْتَمَسَتْ لِإِثْبَات صِحَّة رَأْيهَا هَذَا
بَعْض اَلْأَمْثِلَة " اَلْغُفْرَان " .
يَقُول مَثَلًا : فَقَدْ غَرَسَ لِمَوْلَايَ اَلشَّيْخ اَلْجَلِيل , شَجَر فِي اَلْجَنَّة , لَذِيذ ,
اجتناء , كُلّ شَجَرَة مِنْهُ تَأْخُذ مَا بَيْن اَلْمَشْرِق إِلَى اَلْمَغْرِب بِظِلّ غاط , لَيْسَتْ فِي
اَلْأَعْيُن كَذَات أَنْوَاط , وَذَات أَنْوَاط , - كَمَا يَعْلَم - شَجَرَة كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا فِي
اَلْجَاهِلِيَّة " .
قَوْله " يُعْلَم " هُنَا - يَعْنِي أَبَّنَ القارح , دَلِيل , عَلَى وُجُود اَلشَّرْح فِي أَصْل "
اَلرِّسَالَة " اَلْمُوَجَّهَة إِلَيْهِ .
وَأَقْرَأ مِثْل قَوْله فِي " اَلْغُفْرَان " عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يُفَسِّر بَيْت اَلْأَعْشَى :
نَبِيّ يَرَى مَا لَا يَرَوْنَ وَذَكَرَهُ أَغَار لِعُمْرِي فِي اَلْبِلَاد وانجدا
وَهُوَ ( رَأْي اِبْن القارح ) أَكْمَلَ اَللَّه زَيَّنَهُ اَلْمَحَافِل , بِحُضُورِهِ - يَعْرِف اَلْأَقْوَال
فِي هَذَا اَلْبَيْت , وَإِنَّمَا أُذَكِّرهَا , لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوز أَنْ يَقْرَأ هَذَا اَلْهَذَيَان نَاشِئ
لَمْ يَبْلُغهُ ذَاكَ , حَكَى اَلْفِرَاء , وَحْده , أَغَار فِي مَعْنَى غَار إِذَا أَتَى اَلْغَوْر ,
وَإِذَا صَحَّ هَذَا اَلْبَيْت لِلْأَعْشَى فَلَمْ يُرَدْ بِالْإِغَارَةِ إِلَّا ضِدّ الأنجاد . . . " .
فَهَذَا اَلشَّرْح اَلْمُقْحِم فِي مَتْن اَلنَّصّ , لَمْ يَمَلّهُ أَبُو اَلْعَلَاء حَاشِيَة , وَلَا كَانَ
يُوَجِّههُ إِلَى تَلَامِيذه وَحْدهمْ , وَأَنَّمَا خَاطَبَ بِهِ بْن القارح مُحْتَاطًا عَنْ اِتِّهَامه
بِالْجَهْلِ بِقَوْلِهِ " وَهُوَ يُعْرَف اَلْأَقْوَال فِي هَذَا اَلْبَيْت " وَمُعْتَذِرًا عَنْ إِرْسَالهَا إِلَيْهِ
بِأَنَّهُ " قَدْ يَجُوز أَنْ يَقْرَأ هَذَا اَلْهَذَيَان , نَاشِئ لَمْ يَبْلُغهُ " , مَا يَعْرِف اَلشَّيْخ
مِنْ أَقْوَال اَللُّغَوِيِّينَ فِيهِ و ثُمَّ تَنْتَهِي اَلدِّرَاسَة , اَلْجَلِيلَة , إِلَى قَوْل هِيَ إِذَنْ
ظَاهِرَة مِنْ اَلظَّوَاهِر اَلْأُسْلُوبِيَّة لِلْغُفْرَانِ , لَا تَكَاد تُخْطِئهَا فِي صَفَحَاتهَا إِلَّا
قَلِيلًا , وَقَدْ بَلَّغَ مِنْ وَلَع أَبِي اَلْعَلَاء بِهَا أَنَّ ضُحَى فِي سَبِيلهَا - كَمَا فَعَلَ فِي
اَلِاسْتِطْرَاد - بِوَحْدَة اَلسِّيَاق وَنَسَق اَلْجُمَل , وَتَرْتِيب اَلْمَعَانِي , لِيَرْضَى رَغْبَته فِي
اِسْتِيفَاء تِلْكَ اَلشُّرُوح , اَلْمُقْحِمَة " .
وَإِنِّي أُوَافِق اَلدِّرَاسَة الجيلة عَلَى أَنَّ اَلْمُعَرِّي , كَانَ يَقْصِد حِين أَمَلِي تَفْسِيرَاته
وَشُرُوحه أَنْ تُسَجِّل فِي رِسَالَته , إِلَى اِبْن القارح , وَإِنِّي أَرْفُض , تَبَعًا لِذَلِكَ
اَلِاحْتِمَال , اَلْقَائِل بِأَنَّ : اَلتَّلَامِيذ : كَتَبُوهَا فِي اَلْمَتْن وَلَكِنِّي أَرْفُض أَنْ يَكُون
اَلْمُعَرِّي قَدْ أَوْرَدَ هَذِهِ اَلِاسْتِطْرَادَات وَتِلْكَ اَلْمُعْتَرِضَات فِي ثَنَايَا اَلْمَتْن , وَبِذَلِكَ
يُفْسِد اَلْمَشَاهِد اَلْجَمِيلَة , اَلَّتِي تَحَدَّثَتْ عَنْهَا اَلدِّرَاسَة , فَأَبُو اَلْعَلَاء لَا يَرْتَكِب
مِثْل هَذَا اَلْغَلَط اَلشَّنِيع , وَمَا هَذَا اَلَّذِي ظَنَّتْهُ , صَاحِبَتنَا اَلْفَاضِلَة اِسْتِطْرَاد
وَشُرُوحًا مُعْتَرِضَة إِلَّا شُرُوح أَبِي اَلْعَلَاء اَلْخَاصَّة , اَلَّتِي يَجِب أَنْ تُوضَع فِي اَلْهَامِش
, وَحَسَب طَرِيقَتنَا اَلْحَدِيثَة .
وَلَا يَفُوتنِي أَنْ أُذَكِّر اَلْمُحَقِّقَة اَلْجَلِيلَة أَنَّ مِنْ عَادَة اَلنُّسَّاخ اَلْقُدَامَى كِتَابَة
اَلشُّرُوح وَالتَّفْسِيرَات , وَالتَّعْلِيقَات بِمِدَاد لَوْنه يُغَايِر لَوْن اَلْمِدَاد اَلْمَكْتُوب بِهِ
اَلْمَتْن , أَوْ وَضْع عَلَامَة خَاصَّة , فِي بِدَايَة اَلشَّرْح أَوْ اَلتَّفْسِير , وَوَضَعَ عَلَامَة
مُمَاثِلَة فِي نِهَايَته وَأَغْلَب اَلظَّنّ أَنَّ اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن , قَدْ غَابَ عَنْهَا
هَذَا اَلْأَثَر أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَنْتَبِه إِلَيْهِ , فَنَقَلَتْ نَصّ رِسَالَة اَلْغُفْرَان مَعَ اَلشُّرُوح
اَلْهَامِشِيَّة اَلدَّاخِلِيَّة , فِيهِ فى طَرِيقَة اَلنُّسَّاخ اَلْقُدَامَى دُون أَنْ تَضَع هَذِهِ اَلشُّرُوخ
فِي أَسْفَل اَلصَّفَحَات , عَلَى عَادَتنَا فِي هَذِهِ اَلْأَيَّام , فَوَقَعَتْ بِذَلِكَ فِي خَطَأ كَبِيرًا
مَا كُنْت أَحْسَب أَنَّهَا تَقَع فِيهِ .
أَمَّا مَا ظَنَنْته اِسْتِطْرَادًا يَسْتَغْرِق أَكْثَر مِنْ نِصْف اَلرِّسَالَة , ( أَيّ اَلرِّحْلَة إِلَى
اَلْعَالَم اَلْآخَر ) سَاقَ إِلَيْهِ تَقْدِير أَبِي اَلْعَلَاء , لِمَا أَفْتَتِح بِهِ أَبِنْ القارح
رِسَالَته مِنْ تَمْجِيد اَللَّه , فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ اَلِاسْتِطْرَاد فِي شَيْء , وَكُلّ مَا فِي اَلْأَمْر
أَنَّ اَلْمُعَرِّي كَانَ يَلْهُو بِابْن القارح فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلهُ هَذَا اَلْعَالَم , اَلَّذِي يُؤْمِن
بِهِ فَرَسْمه لَهُ سَاخِرًا , هَازِلًا . وَلَقَدْ سَبَقَ لَنَا اَلْقَوْل أَنَّ اَلْمُعَرِّي , لَا يُؤْمِن
بِالْجَنَّةِ وَالنَّار , وَلَا شَكّ أَنَّ اَلصُّورَة اَلَّتِي رَسَمَهَا اَلْمُعَرِّي لِلْعَالَمِ اَلْآخَر , مَا
هِيَ إِلَّا تصويراته اَلْخَاصَّة , مُطَعَّمَة بِآيَات اَلْقُرْآن وَمَا جَاءَ فِي اَلْأَخْبَار , عَنْ
اَلْيَوْم اَلْآخِر , وَأَحْوَاله وَقَدْ بَلَغَ اَلْمُعَرِّي ذُرْوَة اَلسُّخْرِيَة وَالْهَزْل , عِنْدَمَا مَزَجَ
تصويراته اَلْخَيَالِيَّة وَمَا قَالَتْهُ اَلْأَسَاطِير وَالْخُرَافَات عَنْ اَلْيَوْم اَلْآخِر بِالْآيَاتِ
اَلْقُرْآنِيَّة , وَمَا ثَبَتَ مِنْ اَلْأَحَادِيث اَلنَّبَوِيَّة اَلشَّرِيفَة , لَقَدْ خَلَطَ مَا هُوَ بِحُكْم
اَلْخَيَال وَالْخُرَافَة مَعَ مَا هُوَ بِحُكْم الحيقة حَوْل اَلنَّار و اَلْجَنَّة , أَوْ لَيْسَ هُوَ
اَلْقَائِل فِي اللزوميات :
أَفِيقُوا أَفِيقُوا يَا غُوَاة فَإِنَّمَا دِيَانَاتكُمْ مَكْر مِنْ اَلْقُدَمَاء ? !
تَقُول اَلدِّرَاسَة وَأَنَّك لِتَكَادَ تَنْسَى اَلْمَوْضُوع اَلْأَوَّل , اَلَّذِي كَانَ يُحَدِّثك فِيهِ مِنْ قَبْل
إِلَى أَنْ يُذَكِّرك بِهِ رَجَعَ أَبِي اَلْعَلَاء إِلَيْهِ , وَهُوَ لَا يَنْسَى مَا كَانَ فِيهِ قَبْل أَنْ
يَمْضِي مُسْتَطْرِدًا " .
فَإِذَا كُنَّا نَحْنُ نَنْسَى , بَعْد أَنْ خَلَطْنَا اَلشُّرُوح بِالْمَتْنِ فَأَنْ اَلْمُعَرِّي لَا يَنْسَى
بِالتَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ يَعْلَم تَمَام اَلْعِلْم , أَنَّهُ يَضَع تَفْسِيرًا أَوْ شَرْحًا هَامِشِيًّا , لَا
اِسْتِطْرَادًا كَمَا زَعَمَتْ اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَكُون كَالْمُعَرِّي
, لَا نَنْسَى فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَضَع شُرُوح أَبِي اَلْعَلَاء فِي مَكَانهَا اَلطَّبِيعِيّ , أَيْ
فِي اَلْهَامِش اَلَّذِي تُغِير وَضْعه اَلْآن عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي اَلْمَاضِي , وَإِنِّي أُوَافِق
اَلسَّيِّدَة اَلْفَاضِلَة أَنَّ هَذِهِ اَلتَّفْسِيرَات , لَمْ تَكُنْ سِوَى مَظْهَر لِعَرْض ثَرْوَته اَللُّغَوِيَّة
وَوَسِيلَة إِلَى كَشْف اَلْمَكْنُون , مِنْ ذَخِيرَته فِيهَا .
وَيَبْدُو أَنَّ اَلْمُحَقِّقَة اَلْفَاضِلَة , قَدْ اِلْتَبَسَ عَلَيْهَا اَلْأَمْر فَظَنَّتْ أَنَّ اَلْمُؤَلِّف لَا
يَحِقّ لَهُ أَنْ يَشْرَح أَوْ يُفَسِّر , بَعْض كَلِمَاته , أَوْ فِقْرَاته , أَوْ أَنْ أَفْعَل ذَلِكَ - فَإِنَّ
عَلَيْهِ أَنْ يَضَعهَا فِي ثَنَايَا , اَلْمَتْن لَا فِي اَلْهَامِش عَلَى اِعْتِبَار أَنَّ " اَلْهَامِش "
هُوَ مِنْ حَقّ مَنْ يَتَقَدَّم , لِيَشْرَح اَلْمَتْن , أَوْ يُعَلِّق عَلَيْهِ , ثُمَّ تَأْتِي وَتَأْخُذ عَلَى
اَلْمُؤَلِّف شُرُوحه وَتَفْسِيرَاته وَتَعْتَبِرهَا اِسْتِطْرَادَات مُمِلَّة سَمِجَة .
إِنَّ كُلّ مَا أَسْتَطِيع قَوْله بفي هَذَا اَلْمَقَام , أَنَّ اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن قَدْ
أَخْطَأَتْ فِي تَحْقِيق نَصّ رِسَالَة اَلْغُفْرَان , تَحْقِيقًا عِلْمِيًّا كَامِلًا لِأَنَّهَا شُرُوح
أَبِي اَلْعَلَاء دَاخِلَة فِي ثَنَايَا اَلْمَتْن , وَلَمْ تُحَاوِل وَضْع هَذِهِ اَلشُّرُوح اَلْهَامِشِيَّة ,
فِي مَوْضِعهَا اَلْمُنَاسِب عَلَى طَرِيقَتنَا اَلْحَدِيثَة أَيْ فِي أَسْفَل اَلصَّفَحَات , مَعَ إِعْطَاء
كُلّ تَفْسِير أَوْ شَرْح عَلَامَة خَاصَّة تَبَنِّي وَضْعه اَلْمُنَاسِب فِي اَلْمَتْن وَعَلَى اَلْهَامِش .
وَلَا رَيْب أَنَّ يُوسُف اَلْبَدِيعِيّ ( وَهُوَ مِنْ أُدَبَاء اَلْقَرْن اَلْحَادِي عَشَر ) قَدْ فَطِنَ إِلَى
هَذِهِ اَلْحَقِيقَة فَأَوْرَدَ فِي كِتَابه " أَوْج اَلتَّحَرِّي عَنْ حيثية أَبِي اَلْعَلَاء اَلْمُعَرِّي " ,
قِطْعَة طَوِيلَة مِنْ " اَلْغُفْرَان " وَجَعَلَ شُرُوح أَبِي اَلْعَلَاء فِي هَامِش اَلْكِتَاب , كَمَا
نَفْعَل نَحْنُ فِي عَصْرنَا هَذَا , فَالشُّرُوح اَلْهَامِشِيَّة اَلَّتِي كَانَ مِنْ عَادَة نُسَّاخ اَلْقَرْن
اَلرَّابِع , إِثْبَاتهَا فِي ثَنَايَا , اَلْمَتْن , ضِمْن عَلَامَات فَارِقَة , مُصْطَلَح عَلَيْهَا
عِنْدهمْ , وَقَدْ تُغَيِّر وَضْعهَا فِي اَلْقَرْن اَلْحَادِي عَشَر , وَأَصْبَحَ مَوْضِعهَا اَلْمُنَاسِب فِي
اَلْهَامِش و لَا شَكّ أَنَّ طَرِيقَة اَلنَّسْخ قَدْ تَطَوَّرَتْ فِي خِلَال هَذِهِ اَلْمُدَّة اَلطَّوِيلَة اَلَّتِي
تُفَضِّل بَيْن عَصْر اَلْمُعَرِّي وَعَصْر يُوسُف اَلْبَدِيعِيّ .
وَلَكِنَّ اَلدِّرَاسَة اَلْفَاضِلَة تَرْفُض هَذِهِ اَلطَّرِيقَة أَيْضًا فتوقل " وَلَسْنَا نَدْرِي أكانت
هَذِهِ اَلشُّرُوخ هَوَامِش فِي اَلْمَخْطُوطَة أَمْ هِيَ استخراجات مِنْ اَلنَّاشِر نَقَلَهَا مِنْ اَلْغُفْرَان
وَجَعَلَهَا هَوَامِش فَيَكُون ذَلِكَ قَوْلًا مِنْهُ بِهَذِهِ اَلْمَسْأَلَة , وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ اَلشُّرُوخ
اَلْمُعْتَرِضَة لَيْسَتْ أَصْلًا مِنْ مَتْن اَلْغُفْرَان , بَلْ هِيَ حَوَاشٍ أَمَلَاهَا , أَبُو اَلْعَلَاء ,
عَلَى تَلَامِيذه وَلَمْ يَقْصِد أَنْ يَضَعهَا فِي رِسَالَته , إِلَى أَبَّنَ القارح ?
وَالْحَقِيقَة اَلَّتِي أَثْبَتْنَاهَا عَنْ اَلطَّرِيقَة اَلْقَدِيمَة , لِوَضْع اَلْهَوَامِش تَدُلّ بِوُضُوح
عَلَى أَنَّ شُرُوح أَبِي اَلْعَلَاء , هِيَ مِنْ مَتْن اَلْغُفْرَان , وَلَا شَكّ , وَلَكِنْ عَلَى اِعْتِبَار
أَنَّهَا هَوَامِش , بِالْإِغْوَاءِ أَوْ شُرُوح مُعْتَرِضَة كَمَا تَزْعُم اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد
اَلرَّحْمَن .
وَإِنَّنِي أُؤَكِّد هُنَا أَنَّ اَلْمُعَرِّي , قَدْ أُمْلِي رِسَالَته , إِلَى اِبْن القارح , بِمَا
فِيهَا مِنْ شُرُوح , و " حَوَاشٍ أَمْلَاهَا أَبُو اَلْعَلَاء عَلَى تَلَامِيذه لِيَنْتَفِعُوا بِهَا
اَلثَّابِت عِنْدِي أَيْضًا أَنَّ تَلَامِيذ اَلْمُعَرِّي , قَدْ اخذوا عَنْهُ اَلْعِلْم مُبَاشَرَة , دُون
اَللُّجُوء إِلَى كِتَاب مَخْطُوط لَهُ لِقِرَاءَتِهِ , فِي حَضْرَته فَإِذَا حَضَرَ اَلْمَاء فَلَا لُزُوم
مُطْلَقًا لِلتَّيَمُّمِ .
وَإِنِّي فِي هَذِهِ اَلطَّبْعَة اَلْجَدِيدَة , لِرِسَالَة اَلْغُفْرَان , قَدْ وَضَعَتْ شُرُوخ أَبِي اَلْعَلَاء
اَلْهَامِشِيَّة ضِمْن هَذِهِ اَلْإِشَارَة [ . . . . . ] أَيّ حَسَب بِطَرِيقَة اَلنَّسْخ اَلْقَدِيمَة فِي عَصْر
أَبِي اَلْعَلَاء وَإِنِّي اِلْفِتْ نَظَر اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن , إِلَى أَنَّهُ حَتَّى وَلَوْ
لَمْ تَجِد , فِي اَلْمَخْطُوطَات اَلَّتِي لَدَيْهَا , اَلْمُصْطَلَح اَلْمَفْرُوض وَضَعَهُ لِلتَّفْرِيقِ بَيْن
اَلْمَتْن وَالشَّرْح فِي رِسَالَة اَلْغُفْرَان , فَأَنَّ اَلْخَطَأ فِي ذَلِكَ يَعْدُو إِلَى أَنَّ اَلنُّسَّاخ لَمْ
ينتهبوا إِلَى هَذِهِ اَلنَّاحِيَة فَأَهْمَلُوهَا , وَإِنِّي لَا أَسْتَبْعِد أَنْ يَرْتَكِب هَذَا اَلْخَطَأ
اَلنَّاسِخ اَلَّذِي أَمْلَى عَلَيْهِ اَلْمُعَرِّي اَلرِّسَالَة , وَأَنَّهُ مِنْ اَلْقَسْوَة عَلَى أَبِي اَلْعَلَاء
أَنْ نَحْمِلهُ مُضَاعَفَات هَذَا اَلْخَطَأ , فَالرَّجُل أَعْمَى , وَهُوَ لَا يَدْرِي مَاذَا يَفْعَل كَاتِبه
هَلْ تَقَيَّدَ بِأُصُول اَلنُّسَخ اَلْمُتَّبَعَة فِي ذَلِكَ اَلْعَصْر أَمْ لَا وَلَيْسَ مِنْ اَلْمَعْقُول أَنْ
يَرْتَكِب اَلْمُعَرِّي خَطَأ كَهَذَا وَهُوَ اَلَّذِي إِنَّمَا أَمْلَى رِسَالَته , إِلَى أَبِنْ القارح لِيُثْبِت
لَهُ وَلِأُدَبَاء اَلْعَصْر أَنَّهُ يُمَاثِلهُمْ أَوْ يَفُوقهُمْ فِي اَلْعِلْم وَالْأَدَب , فَهَدَف رِسَالَة
اَلْأَوَّل هُوَ اَلتَّبَاهِي بِالثَّرْوَةِ اَللُّغَوِيَّة وَالْأَدَبِيَّة اَلَّتِي يَمْلِكهَا اَلْمُعَرِّي ثُمَّ يَأْتِي
اَلْهَدَف اَلثَّانِي وَهُوَ اَلسُّخْرِيَة والهزؤ بِمُعْتَقَدَات اِبْن القارح , وَمُحَاوِلَة اَللَّهْو بِهِ
فِي جَنَّة مِنْ تَصَوُّر أَبَّنَ اَلْعَلَاء وَجَحِيم تَخَيُّلَاته فَإِنَّنَا لَا نَسْتَطِيع أَبَدًا اَلزَّعْم بِأَنْ
" جَنَّة اَلْغُفْرَان " هِيَ جَنَّة اَلْآخِرَة أَوْ أَنَّ حَجْم اَلْغُفْرَان هُوَ نَار اَللَّه اَلْمُوقَدَة
اَلَّتِي نَلْتَزِم بِالْإِيمَانِ بِهَا
وَلَيْسَ هَذَا هُوَ اَلْخَطَأ اَلْوَحِيد اَلَّذِي وَقَعَتْ ضَحِيَّته اَلدُّكْتُورَة عَائِشَة عَبْد اَلرَّحْمَن بَلْ
هُنَاكَ أَخْطَاء أُخْرَى عَدِيدَة وَرَدَتْ فِي اَلْبَحْث اَلَّذِي نَالَتْ بِهِ دَرَجَة اَلدُّكْتُورَة فِي
اَلْآدَاب بِتَقْدِير مُمْتَاز , وَهُوَ دِرَاسَتهَا اَلنَّقْدِيَّة لِرِسَالَة اَلْغُفْرَان , وَلَيْسَ هُنَا
مَجَال مُنَاقَشَة اَلدِّرَاسَة اَلْفَاضِلَة وَنَحْنُ فِي مَقَام اَلتَّقْدِيم لِطَبْعَتِنَا اَلْجَدِيدَة
لِرِسَالَة اَلْغُفْرَان , وَلَعَلِّي أَعُود لِمُنَاقَشَتِهَا فِي مَقَام آخَر .
وَاَللَّه وَلِيّ اَلتَّوْفِيق وَمِنْهُ اَلسَّدَاد وَالْهِدَايَة .
بَيْرُوت فِي 52 حُزَيْرَان ( يُونْيُو ) 8691 .
مُحَمَّد عِزَّت نَصْر اَللَّه[/align:26a7a1eb25]
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir