المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القطار...



حمادة زيدان
29/09/2007, 12:38 AM
القطار
قصة قصيرة
قلم
حمادة زيدان
"والله أنا مش عارف إحنا مستنين القطر ليه ؟... ما تيجي يبني نركب ميكروباص , أنت مش شايف الزحمة دي"
"والله الزحمة دي أهون خمسين مرة من حوادث الميكروباصات ولا أنت ناسي محمد أبن عمك إلي مات رمضان إلي فات لما أنقلب بيه الميكروباص"
" خلاص مع أنه قلبي مش مطمن "
"يا عم ما تخافش الأعمار على الله "
شابين من صعيد مصر يعملون بالقاهرة , الشابين لديهم من الشهادات ما يكفيهم للعمل في أفضل الأماكن ولكن لوجودهم داخل مصر لم يستطيعوا سوى العمل بائعين داخل أحد محلات الملابس بالقاهرة الكبرى , هم الآن يودون العودة إلي موطنهم بالصعيد لقضاء يومين من الشهر الكريم داخل منازلهم ووسط عائلتهم
يوجد على رصيف محطة رمسيس الكثير من هؤلاء فهناك يقف هذا الرجل الذي يعمل بواب بأحد العمارات الضخمة بمدينة نصر وزوجته التي تقف بجواره , وهناك هؤلاء الشباب الذين يلعبون الآن على رصيف المحطة وهم يتضاحكون بأصوات عالية جعلت منهم نجوماً على رصيف القطار , وهناك الكثير والكثير من الشخصيات الذين تفرقوا في أشياء كثيرة ولكنهم اجتمعوا في شيئاً واحداً ألا وهو الفقر
هو الآن قادم , نعم أرآه الآن بدأ في الظهور الآن , بدا لي كما لو كان كائن عملاق أسطوري قادم من الجحيم , كل من كان علي الرصيف يتأهبون الآن لدخول معركة حامية , بل هي معركة العمر كله .
"أستعد يبني القطر جاي أهوه ياللا استعد , أول ما يجي أمسك أنت الشنط وانا هاتشعبط واحجز لك , بس حاسب ع الشنط لتتسرق"
الفرق ما بين الرصيف قبل دخول القطار وبعد دخوله إلي الرصيف وركوب كل هؤلاء الركاب إليه كالفرق بين استاد القاهرة قبل مباراة كرة قدم بين الأهلي والزمالك قبل المباراة وبعدها , الرصيف الآن خالي من الركاب ولا يوجد به سوى بعض الأفراد منتظرين القطار القادم , وبعض الركاب الذين لم يسعهم الوقت والمجهود لركوب هذا القطار.
"والله حرام عليك , أعمل فيك إيه , أنا مزنوقة ومش عارفه أتحرك والناس وحوش , القطر يخنق وكل الشبابيك والأبواب مقفولة , أنا حاسة إني معتقلة هنا , مش مسافرة"
"أنا والله معرفش أنه هايكون بالزحمة دي , ومش عارف ليه هما مقفلين الشبابيك والأبواب كده"
لا تستطيع أن تتخيل تلك الزحام الغفيرة داخل عربات القطار , ألوف من البشر تلاحموا وتزاحموا كما لو كانوا قطع من السردين داخل علبة معدنية , الأبواب جميعها مغلقة والشبابيك مغلقة والعربات لا يوجد بها أنوار , لا تستطيع أن تعلم من نائم ومن واقف ومن جالس , بحراً من البشر لا تحصى له رقم معين.
"يعني كان لازم نركب المخروب ده , أنا كان عندي أرمضن في الشغل ومارجعش في الزحمة دي , أنا الغلطان إني تبعتك ومشيت ورا كلامك"
لو رأيت محصل التذاكر وهو يعبر بين ممرات العربات لقلت عليه فارس من فرسان القرون الوسطي , يحاول المحصل أن يعبر بين هؤلاء النائمين في ممرات القطار , يضغط بقدمه فوق يد هذا وبقدمه الأخرى تجده يضغط على قدم آخر , لا ترى من المحصل سوى تلك البطارية الصغيرة التي يضعها دائماً بين أسنانه , ولا تسمع له صوت إلا عندما لا يدفع أحدهم ثمن التذكرة عندها تجد هذا المحصل وبأعلى صوتاً لديه يقول
"عاوز تسافر بلوشي يا روح أمك , ولا فاكرنا هانوصلك لبيتك من غير فلوس , هات يبني التذكرة ومتغلبنيش معاك داخلين على رمضان وماتتعبنيش معاك "
القطار يسير بسرعة كبيرة , وكل من فيه يدعون من الله أن يعودون بسلامة الله إلي منازلهم , معظم من يركب هذا القطار ذاهب إلي منزله بعد رحلة من العذاب في شوارع القاهرة , ولكن هذه الفتاة وهذا الشاب الذي يقف بجوارها تختلف ظروفهم كثيراً عن باقي القطار.
"حبيبتي أنا وانتي خلاص هانتجوز أنتي خايفة ليه؟!! حبيبتي إحنا مش بنعمل حاجة غلط أنا روحت طلبت إيدك من أهلك وهما اللي رفضوني , ها نعمل إيه يعني , نستسلم ليهم , ولا نخلي حبنا ينتصر"
"أنا مش خايفة من السفر والله , أنا خايفة من القطر , ومن الناس دي , أنت مش حاسس أننا في خطر طول ما أحنا هنا"
كان خوفها من ظُلمة المكان ووحشيته تضغي على خوفها من والديها بعد ما فعلته بهم , لقد ندمت الآن وعلمت أن والديها كانوا محقين في اختلاف الطبقات بينها وبين حبيبها فهي الآن ومن أول محطة بحياتهم تشعر بالملل وشعورها بالحنين لمنزلها بمصر الجديدة...
كما في الغابة من وحوش , وكما في السينما من أشرار , هم من يقوموا بدور الوحوش داخل القطار , مجموعة من البائعين , تجدهم داخل القطار , تشعر وكأنهم مالكي القطار , لا يخافون من الشرطة لأنهم ببساطة يدفعون وبسخاء لشرطة القطار , فتجدهم يحملون كل شيء ويبيعون كل شيء , وكان هذا البائع هو رئيس للباعة داخل القطار , له سلطات كثيرة على كل باعة القطار بل وعلى شرطة القطار وعلى محصلين التذاكر أنفسهم .
صوت هذا البائع في القطار , كزئير الأسد داخل الغابة , لم يفعل هذا الراكب إلا أن طلب من البائع زجاجه من تلك المياه الغازية الرخيصة , وبعدما شربها الراكب سأل عن سعرها , عندها فقط علم أن هذا البائع ينصب عليه فقد قال له أن ثمنها خمسة جنيهات , لم يعلم أن البائع سيكون بتلك الشراسة فلم يمهله حتى أن يحدثه في ثمن الزجاجة .
هؤلاء الشباب طلبة في جامعة الأزهر قادمين من جامعتهم في أجازة رمضانية , فهذا الشاب يدرس في كلية الطب , وهذا في الهندسة , وهذا في كلية الشريعة والقانون , جمعهم التعليم منذ أن كانوا في مراحلهم الأولى ولكنهم تفرقوا في المرحلة الجامعية ليجمعهم القطار مرة أخرى.
"يعني من يقول أنه في بلد محترمة في الدنيا تعمل كده في ولادها , إحنا يبني محشورين ولا يوم الحشر , يعني مش حرام اللي بيحصل فينا ده"
احمد عكاشة طالب بكلية الشريعة والقانون , وهو من كان يتحدث , طالب من الأخوان المسلمين دخل المعتقل أكثر من مرة بسبب أرائه المتشددة عن ما يحدث في البلد , أما عن زميليه فهما من أكثر زعماء الأخوان داخل جامعة الأزهر , وبرغم تفوقهم الكبير فهما دائماً كصديقهم داخل معتقلات النظام.
تجمع كثيراً من الركاب لكي يفضوا تلك المشاجرة العنيفة بين الراكب والبائع والتي من أسفرت عن إصابة الراكب بإصابات بالغة في رأسه .
مجموعة مختلفة من الشباب جمعهم القطار وسوء أخلاقهم , فهم جميعاً يعلمون أن من يركب القطار في تلك الفترة من العام يكون محمل بالأموال التي كانوا يكنزوها من عملهم بالقاهرة , لذلك هؤلاء الشباب موجودين بالقطار ومهمتهم هي سرقة هؤلاء الركاب.
محمد حسنين , شاب من هؤلاء , لم يتعلم في حياته سوى السرقة , لا يعلم له والدين , ولكنه ولد ووجد نفسه في الشارع ومن الشارع إلي القطار , هذا الوقت من كل عام هو الوقت المناسب جداً للسرقة , جمع هذا اليوم الكثير من الأموال , ولكنه بنظرة إلي تلك الفتاة التى وقف بجوارها فترة علم بأنها من الأغنياء وأن القدر قد بعثها له لكي تكون هي سرقته الأخيرة ويتوب إلي الله بعدها ..
لم يكن هذا الشاب يحلم في يوماً أن تحبه هذه الفتاة , وأن تترك والديها بسببه , هو شاب فقير بدأ حياته عند والدها في مصنعه مجرد عامل , ولكنه من خلال مهاراته وسرعة فهمه وصل إلي أن أصبح رئيساً للعمال وبعدها أتم تعليمه ليصبح فيما بعد من أهم رجال والدها ...
كان أول لقاء بينهم عندما جاءت إلي والدها لتدرب في مصنع والدها , وكان هو مدربها , فحدث كما تحب أي فتاة أي مثل أعلي لها ومن كثرة حديث والدها عنه أحبته الفتاة ومن قبل أن تجرأ هذا الشاب وذهب ليطلب زواجها من والدها , الذي لم يرحب بذلك بل وطرده من عمله , وما كان منها إلا أن أقنعت الشاب بسرعة الهروب من والدها , وكان الهروب في هذا القطار نظراً لزحمته وعدم معرفة هوية من يركبون به.
وسط كل ما يحدث داخل القطار لم تشعر الفتاة بتحرش الشاب بها , بل ولم تشعر إلا بيديه وهو يخطف حقيبة يدها , من ذعرها لم تفعل شيء حتى أن الشاب سرق الحقيبة ولم يعلم حبيبها شيئاً عنها....
وصل القطار إلي محطة "الجيزة" أخيراً ولم ينزل منه أحداً من الركاب , ولكنه زاد عدد ركابه الضعف حتى أصبح القطار كالقنبلة التي ستنفجر يوماً ما في وجه المجتمع....
"والله مش عارف قلبي مقبوض وخايف أنا حاسس أنه هاتحصل كارثة النهاردة"
"يا عم ما تخافش رمضان كريم والدنيا كلها مبسوطة وراجعه لبيوتها فرحانة , استحمل شوية لغاية ما نوصل بلدنا قريبه معاها كام محطة , ونوصل يا باشا , وتروح تتجوز خطيبتك اللي أديلك خاطبها أربع سنين"
لم يعلم هذا الشاب المجتهد أن بعد تفوقه الدراسي ودخوله كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن تكون نهايته عامل في مصنع من مصانع الحلوى بمدينة السادس من أكتوبر , كان من طفولته متفوق , وبرغم فقر والده إلا أنه كان يسخر نفسه لخدمة وحيده فكان يعمل ليل نهار لخدمة هذا الولد , الذي كان يعتقد أن تفوق ابنه سيجعل له مستقبل أفضل , بعد تخرج ابنه من الثانوية العامة بتفوق لم يسمع كلام من حوله ولم يرضى أن يدخل ابنه كلية بجامعة أسيوط أو المنيا لتكون قريبة إلي بيته وتكون المصاريف أقل وكانت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هي الكلية التي اختارها الأب والابن , والتي تفوق فيها الابن كعادته حتى كان تخرجه منها .
كان الشاب هو ثاني دفعته , فكانت أولى طموحاته العمل داخل أروقة الجامعة والتي كان يستحق العمل فيها , ولكنه لفقره ولعمل والده لم يستطيع العمل داخل الجامعة , فكانت الخارجية هي هدفه الثاني والتي فشل فيها لنفس الأسباب , مما جعله يعمل في مصانع الحلوى كعامل أجير دون علم والده ودون علم خطيبته التي كانت تعتقد أن خطيبها يعمل في الخارجية.
يعود الشاب مع المناسبات وها هو يعود محمل بالهدايا التي لا يحاول أن يجمع ثمنها من عمله بالمصنع , وتنتظره خطيبته التي استطاع بمساعدة والده أن يتم زواجه منها , وكان موعد الزفاف أول أيام العيد.
القطار يسير بسرعة قوية , الأبواب مغلقة , النوافذ مغلقة , الممرات ممتلئة , ولكن لماذا تشعر أن هناك كابوس قادم في ظلمة هذا المساء.
يقف الآن الركاب بجوار الأبواب , المحطة القادمة هي "العياط" , الأبواب مغلقة لبرودة الجو بالخارج , يحاول الركاب فتح الأبواب , الأبواب معظمها مغلقة , القطار يسير بسرعة كبيرة , الأبواب مغلقة , ما هذا هناك رائحة شياط قادمة من مقدمة القطار , الأبواب مغلقة , بدأ القلق يسري في قلوب الركاب , رائحة الشياط تزداد , الأبواب مغلقة , ينتظر الآن الركاب المحطة , أصوات قوية آتيه من مقدمة القطار , الأبواب مغلقة , هناك أصوات عويل نساء آتيه من مقدمة القطار , الأبواب مغلقة , هناك هواء ساخن أو لهيب قادم من المقدمة , هناك أمواج من البشر تجري هنا وهناك , يا الله القطار يحترق .
"كان المشهد مستحيل أن أجمع تفاصيله , كنت أجلس أنا وصديقي في العربة السادسة من القطار , ومع دقات الواحدة صباحاً سمعنا صراخ وعويل قادم من العربات الأولى , شعرت بالرعب أن وصديقي فقد رأيت بعيني أجساد محروقة تأتي إلي العربة التي كنا نجلس فيها , وبعدها وجدت النار بدأت وفي دقائق معدودة تقترب منا , من حسن حظنا كانت النافذة التي بجوارنا مفتوحة .... لم أعطي عقلي وقته للتفكير ففي ثواني معدودة قفزت من النافذة لأجد نفسي على الأرض وبعيداً عن القطار بسنتيمترات قليلة , كان جسدي يتمزق من أثر الصدمة , ولكنني حمد الله على سلامتي , ولكن أين صديقي , ألم يقفز خلفي , حاولت أن أقف لأبحث عنه ولكنني لم أستطيع الوقوف وغشيا علي لأجد نفسي بعدها في هذه المستشفي , لم يجدوا أثراً لصديقي سوي تلك الدبلة التي كان منقوشاً عليها أسم خطيبته , لقد فقدتك إلي الأبد يا صديقي العزيز"
"لم أجد ما أكتبه بعدما قاله الشاب , لقد ذهبت إلي أسر الضحايا ورأيت الجنائز التي كانت تخرج من معظم منازل البسطاء , جنائز جماعية لا تجد بها جثث ولكنك تجد بها أشلاء لجثث كانت يوماً بشراً يكدحون ويعملون ليل نهار , وجدت بيوتاً كانت معمرة وخربت , وجدت أطفال يبكون والديها , وجدت أمهات تبكي لفراق أبنائها , هؤلاء الفقراء دمهم في عنق هذا النظام , يا شعب مصر لا تصمتون بعد هذه الكارثة , يا شعب مصر أفيقوا لقد تم حرقكم وأنتم ما تزالون نائمون , المشاهد التي رأيتها في صعيد مصر في المستشفيات العامة وفي منازلهم لا تزال في مخيلتي ولا تجعلني أنام ليل أو نهار"
أثار التقرير الذي كتبه الصحفي الشاب "محمد حمدان" عن حريق القطار ضجة كبري في مصر كلها , وأثارت الصور التي جاءت مع التقرير وشهادة الشهود عن حريق القطار المواطنين حتى أن المظاهرات بدأت في الخروج والتي طالبت برقبة وزير المواصلات والقصاص منه ومن حكومته , مما جعل الحكومة تأمر بوقف الجريدة واعتقال الصحفي بتهمة "تكدير الأمن"
تمت
حمادة زيدان

حمادة زيدان
29/09/2007, 12:42 AM
استاذ طارق
سامحني هناك بعض الألفاظ بالعامية وذلك لكي أجعل القصة أكثر واقعية .
حمادة زيدان

ابو مريم
29/09/2007, 01:25 PM
القطار
قصة قصيرة
قلم
حمادة زيدان
"والله أنا مش عارف إحنا مستنين القطر ليه ؟... ما تيجي يبني نركب ميكروباص , أنت مش شايف الزحمة دي"
"والله الزحمة دي أهون خمسين مرة من حوادث الميكروباصات ولا أنت ناسي محمد أبن عمك إلي مات رمضان إلي فات لما أنقلب بيه الميكروباص"
" خلاص مع أنه قلبي مش مطمن "
"يا عم ما تخافش الأعمار على الله "
شابين من صعيد مصر يعملون بالقاهرة , الشابين لديهم من الشهادات ما يكفيهم للعمل في أفضل الأماكن ولكن لوجودهم داخل مصر لم يستطيعوا سوى العمل بائعين داخل أحد محلات الملابس بالقاهرة الكبرى , هم الآن يودون العودة إلي موطنهم بالصعيد لقضاء يومين من الشهر الكريم داخل منازلهم ووسط عائلتهم
يوجد على رصيف محطة رمسيس الكثير من هؤلاء فهناك يقف هذا الرجل الذي يعمل بواب بأحد العمارات الضخمة بمدينة نصر وزوجته التي تقف بجواره , وهناك هؤلاء الشباب الذين يلعبون الآن على رصيف المحطة وهم يتضاحكون بأصوات عالية جعلت منهم نجوماً على رصيف القطار , وهناك الكثير والكثير من الشخصيات الذين تفرقوا في أشياء كثيرة ولكنهم اجتمعوا في شيئاً واحداً ألا وهو الفقر
هو الآن قادم , نعم أرآه الآن بدأ في الظهور الآن , بدا لي كما لو كان كائن عملاق أسطوري قادم من الجحيم , كل من كان علي الرصيف يتأهبون الآن لدخول معركة حامية , بل هي معركة العمر كله .
"أستعد يبني القطر جاي أهوه ياللا استعد , أول ما يجي أمسك أنت الشنط وانا هاتشعبط واحجز لك , بس حاسب ع الشنط لتتسرق"
الفرق ما بين الرصيف قبل دخول القطار وبعد دخوله إلي الرصيف وركوب كل هؤلاء الركاب إليه كالفرق بين استاد القاهرة قبل مباراة كرة قدم بين الأهلي والزمالك قبل المباراة وبعدها , الرصيف الآن خالي من الركاب ولا يوجد به سوى بعض الأفراد منتظرين القطار القادم , وبعض الركاب الذين لم يسعهم الوقت والمجهود لركوب هذا القطار.
"والله حرام عليك , أعمل فيك إيه , أنا مزنوقة ومش عارفه أتحرك والناس وحوش , القطر يخنق وكل الشبابيك والأبواب مقفولة , أنا حاسة إني معتقلة هنا , مش مسافرة"
"أنا والله معرفش أنه هايكون بالزحمة دي , ومش عارف ليه هما مقفلين الشبابيك والأبواب كده"
لا تستطيع أن تتخيل تلك الزحام الغفيرة داخل عربات القطار , ألوف من البشر تلاحموا وتزاحموا كما لو كانوا قطع من السردين داخل علبة معدنية , الأبواب جميعها مغلقة والشبابيك مغلقة والعربات لا يوجد بها أنوار , لا تستطيع أن تعلم من نائم ومن واقف ومن جالس , بحراً من البشر لا تحصى له رقم معين.
"يعني كان لازم نركب المخروب ده , أنا كان عندي أرمضن في الشغل ومارجعش في الزحمة دي , أنا الغلطان إني تبعتك ومشيت ورا كلامك"
لو رأيت محصل التذاكر وهو يعبر بين ممرات العربات لقلت عليه فارس من فرسان القرون الوسطي , يحاول المحصل أن يعبر بين هؤلاء النائمين في ممرات القطار , يضغط بقدمه فوق يد هذا وبقدمه الأخرى تجده يضغط على قدم آخر , لا ترى من المحصل سوى تلك البطارية الصغيرة التي يضعها دائماً بين أسنانه , ولا تسمع له صوت إلا عندما لا يدفع أحدهم ثمن التذكرة عندها تجد هذا المحصل وبأعلى صوتاً لديه يقول
"عاوز تسافر بلوشي يا روح أمك , ولا فاكرنا هانوصلك لبيتك من غير فلوس , هات يبني التذكرة ومتغلبنيش معاك داخلين على رمضان وماتتعبنيش معاك "
القطار يسير بسرعة كبيرة , وكل من فيه يدعون من الله أن يعودون بسلامة الله إلي منازلهم , معظم من يركب هذا القطار ذاهب إلي منزله بعد رحلة من العذاب في شوارع القاهرة , ولكن هذه الفتاة وهذا الشاب الذي يقف بجوارها تختلف ظروفهم كثيراً عن باقي القطار.
"حبيبتي أنا وانتي خلاص هانتجوز أنتي خايفة ليه؟!! حبيبتي إحنا مش بنعمل حاجة غلط أنا روحت طلبت إيدك من أهلك وهما اللي رفضوني , ها نعمل إيه يعني , نستسلم ليهم , ولا نخلي حبنا ينتصر"
"أنا مش خايفة من السفر والله , أنا خايفة من القطر , ومن الناس دي , أنت مش حاسس أننا في خطر طول ما أحنا هنا"
كان خوفها من ظُلمة المكان ووحشيته تضغي على خوفها من والديها بعد ما فعلته بهم , لقد ندمت الآن وعلمت أن والديها كانوا محقين في اختلاف الطبقات بينها وبين حبيبها فهي الآن ومن أول محطة بحياتهم تشعر بالملل وشعورها بالحنين لمنزلها بمصر الجديدة...
كما في الغابة من وحوش , وكما في السينما من أشرار , هم من يقوموا بدور الوحوش داخل القطار , مجموعة من البائعين , تجدهم داخل القطار , تشعر وكأنهم مالكي القطار , لا يخافون من الشرطة لأنهم ببساطة يدفعون وبسخاء لشرطة القطار , فتجدهم يحملون كل شيء ويبيعون كل شيء , وكان هذا البائع هو رئيس للباعة داخل القطار , له سلطات كثيرة على كل باعة القطار بل وعلى شرطة القطار وعلى محصلين التذاكر أنفسهم .
صوت هذا البائع في القطار , كزئير الأسد داخل الغابة , لم يفعل هذا الراكب إلا أن طلب من البائع زجاجه من تلك المياه الغازية الرخيصة , وبعدما شربها الراكب سأل عن سعرها , عندها فقط علم أن هذا البائع ينصب عليه فقد قال له أن ثمنها خمسة جنيهات , لم يعلم أن البائع سيكون بتلك الشراسة فلم يمهله حتى أن يحدثه في ثمن الزجاجة .
هؤلاء الشباب طلبة في جامعة الأزهر قادمين من جامعتهم في أجازة رمضانية , فهذا الشاب يدرس في كلية الطب , وهذا في الهندسة , وهذا في كلية الشريعة والقانون , جمعهم التعليم منذ أن كانوا في مراحلهم الأولى ولكنهم تفرقوا في المرحلة الجامعية ليجمعهم القطار مرة أخرى.
"يعني من يقول أنه في بلد محترمة في الدنيا تعمل كده في ولادها , إحنا يبني محشورين ولا يوم الحشر , يعني مش حرام اللي بيحصل فينا ده"
احمد عكاشة طالب بكلية الشريعة والقانون , وهو من كان يتحدث , طالب من الأخوان المسلمين دخل المعتقل أكثر من مرة بسبب أرائه المتشددة عن ما يحدث في البلد , أما عن زميليه فهما من أكثر زعماء الأخوان داخل جامعة الأزهر , وبرغم تفوقهم الكبير فهما دائماً كصديقهم داخل معتقلات النظام.
تجمع كثيراً من الركاب لكي يفضوا تلك المشاجرة العنيفة بين الراكب والبائع والتي من أسفرت عن إصابة الراكب بإصابات بالغة في رأسه .
مجموعة مختلفة من الشباب جمعهم القطار وسوء أخلاقهم , فهم جميعاً يعلمون أن من يركب القطار في تلك الفترة من العام يكون محمل بالأموال التي كانوا يكنزوها من عملهم بالقاهرة , لذلك هؤلاء الشباب موجودين بالقطار ومهمتهم هي سرقة هؤلاء الركاب.
محمد حسنين , شاب من هؤلاء , لم يتعلم في حياته سوى السرقة , لا يعلم له والدين , ولكنه ولد ووجد نفسه في الشارع ومن الشارع إلي القطار , هذا الوقت من كل عام هو الوقت المناسب جداً للسرقة , جمع هذا اليوم الكثير من الأموال , ولكنه بنظرة إلي تلك الفتاة التى وقف بجوارها فترة علم بأنها من الأغنياء وأن القدر قد بعثها له لكي تكون هي سرقته الأخيرة ويتوب إلي الله بعدها ..
لم يكن هذا الشاب يحلم في يوماً أن تحبه هذه الفتاة , وأن تترك والديها بسببه , هو شاب فقير بدأ حياته عند والدها في مصنعه مجرد عامل , ولكنه من خلال مهاراته وسرعة فهمه وصل إلي أن أصبح رئيساً للعمال وبعدها أتم تعليمه ليصبح فيما بعد من أهم رجال والدها ...
كان أول لقاء بينهم عندما جاءت إلي والدها لتدرب في مصنع والدها , وكان هو مدربها , فحدث كما تحب أي فتاة أي مثل أعلي لها ومن كثرة حديث والدها عنه أحبته الفتاة ومن قبل أن تجرأ هذا الشاب وذهب ليطلب زواجها من والدها , الذي لم يرحب بذلك بل وطرده من عمله , وما كان منها إلا أن أقنعت الشاب بسرعة الهروب من والدها , وكان الهروب في هذا القطار نظراً لزحمته وعدم معرفة هوية من يركبون به.
وسط كل ما يحدث داخل القطار لم تشعر الفتاة بتحرش الشاب بها , بل ولم تشعر إلا بيديه وهو يخطف حقيبة يدها , من ذعرها لم تفعل شيء حتى أن الشاب سرق الحقيبة ولم يعلم حبيبها شيئاً عنها....
وصل القطار إلي محطة "الجيزة" أخيراً ولم ينزل منه أحداً من الركاب , ولكنه زاد عدد ركابه الضعف حتى أصبح القطار كالقنبلة التي ستنفجر يوماً ما في وجه المجتمع....
"والله مش عارف قلبي مقبوض وخايف أنا حاسس أنه هاتحصل كارثة النهاردة"
"يا عم ما تخافش رمضان كريم والدنيا كلها مبسوطة وراجعه لبيوتها فرحانة , استحمل شوية لغاية ما نوصل بلدنا قريبه معاها كام محطة , ونوصل يا باشا , وتروح تتجوز خطيبتك اللي أديلك خاطبها أربع سنين"
لم يعلم هذا الشاب المجتهد أن بعد تفوقه الدراسي ودخوله كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن تكون نهايته عامل في مصنع من مصانع الحلوى بمدينة السادس من أكتوبر , كان من طفولته متفوق , وبرغم فقر والده إلا أنه كان يسخر نفسه لخدمة وحيده فكان يعمل ليل نهار لخدمة هذا الولد , الذي كان يعتقد أن تفوق ابنه سيجعل له مستقبل أفضل , بعد تخرج ابنه من الثانوية العامة بتفوق لم يسمع كلام من حوله ولم يرضى أن يدخل ابنه كلية بجامعة أسيوط أو المنيا لتكون قريبة إلي بيته وتكون المصاريف أقل وكانت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هي الكلية التي اختارها الأب والابن , والتي تفوق فيها الابن كعادته حتى كان تخرجه منها .
كان الشاب هو ثاني دفعته , فكانت أولى طموحاته العمل داخل أروقة الجامعة والتي كان يستحق العمل فيها , ولكنه لفقره ولعمل والده لم يستطيع العمل داخل الجامعة , فكانت الخارجية هي هدفه الثاني والتي فشل فيها لنفس الأسباب , مما جعله يعمل في مصانع الحلوى كعامل أجير دون علم والده ودون علم خطيبته التي كانت تعتقد أن خطيبها يعمل في الخارجية.
يعود الشاب مع المناسبات وها هو يعود محمل بالهدايا التي لا يحاول أن يجمع ثمنها من عمله بالمصنع , وتنتظره خطيبته التي استطاع بمساعدة والده أن يتم زواجه منها , وكان موعد الزفاف أول أيام العيد.
القطار يسير بسرعة قوية , الأبواب مغلقة , النوافذ مغلقة , الممرات ممتلئة , ولكن لماذا تشعر أن هناك كابوس قادم في ظلمة هذا المساء.
يقف الآن الركاب بجوار الأبواب , المحطة القادمة هي "العياط" , الأبواب مغلقة لبرودة الجو بالخارج , يحاول الركاب فتح الأبواب , الأبواب معظمها مغلقة , القطار يسير بسرعة كبيرة , الأبواب مغلقة , ما هذا هناك رائحة شياط قادمة من مقدمة القطار , الأبواب مغلقة , بدأ القلق يسري في قلوب الركاب , رائحة الشياط تزداد , الأبواب مغلقة , ينتظر الآن الركاب المحطة , أصوات قوية آتيه من مقدمة القطار , الأبواب مغلقة , هناك أصوات عويل نساء آتيه من مقدمة القطار , الأبواب مغلقة , هناك هواء ساخن أو لهيب قادم من المقدمة , هناك أمواج من البشر تجري هنا وهناك , يا الله القطار يحترق .
"كان المشهد مستحيل أن أجمع تفاصيله , كنت أجلس أنا وصديقي في العربة السادسة من القطار , ومع دقات الواحدة صباحاً سمعنا صراخ وعويل قادم من العربات الأولى , شعرت بالرعب أن وصديقي فقد رأيت بعيني أجساد محروقة تأتي إلي العربة التي كنا نجلس فيها , وبعدها وجدت النار بدأت وفي دقائق معدودة تقترب منا , من حسن حظنا كانت النافذة التي بجوارنا مفتوحة .... لم أعطي عقلي وقته للتفكير ففي ثواني معدودة قفزت من النافذة لأجد نفسي على الأرض وبعيداً عن القطار بسنتيمترات قليلة , كان جسدي يتمزق من أثر الصدمة , ولكنني حمد الله على سلامتي , ولكن أين صديقي , ألم يقفز خلفي , حاولت أن أقف لأبحث عنه ولكنني لم أستطيع الوقوف وغشيا علي لأجد نفسي بعدها في هذه المستشفي , لم يجدوا أثراً لصديقي سوي تلك الدبلة التي كان منقوشاً عليها أسم خطيبته , لقد فقدتك إلي الأبد يا صديقي العزيز"
"لم أجد ما أكتبه بعدما قاله الشاب , لقد ذهبت إلي أسر الضحايا ورأيت الجنائز التي كانت تخرج من معظم منازل البسطاء , جنائز جماعية لا تجد بها جثث ولكنك تجد بها أشلاء لجثث كانت يوماً بشراً يكدحون ويعملون ليل نهار , وجدت بيوتاً كانت معمرة وخربت , وجدت أطفال يبكون والديها , وجدت أمهات تبكي لفراق أبنائها , هؤلاء الفقراء دمهم في عنق هذا النظام , يا شعب مصر لا تصمتون بعد هذه الكارثة , يا شعب مصر أفيقوا لقد تم حرقكم وأنتم ما تزالون نائمون , المشاهد التي رأيتها في صعيد مصر في المستشفيات العامة وفي منازلهم لا تزال في مخيلتي ولا تجعلني أنام ليل أو نهار"
أثار التقرير الذي كتبه الصحفي الشاب "محمد حمدان" عن حريق القطار ضجة كبري في مصر كلها , وأثارت الصور التي جاءت مع التقرير وشهادة الشهود عن حريق القطار المواطنين حتى أن المظاهرات بدأت في الخروج والتي طالبت برقبة وزير المواصلات والقصاص منه ومن حكومته , مما جعل الحكومة تأمر بوقف الجريدة واعتقال الصحفي بتهمة "تكدير الأمن"
تمت
حمادة زيدان
لقد قرأت كتابتك أخي من أولها لآخرها فكانت لغتها تجمع بين العامية والعربية الفصحى،
أخطاء يجب الانتباه إليها .
ما لاحظته أخي أن القصة الحزينة ، تحولت إلى خطبة حماسية وهذا أخل بالقصة.