المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصيدة ودراسة : من أدب الحكمة للشاعر محمد السديري



د.مصطفى عطية جمعة
17/09/2007, 08:56 PM
القصيدة : من أدب الحكمة

للشاعر / مـحـمــد الأحـمــد الـسـديــري ×


يقول من عدى على راس عالي *** رجم طويل يدهله كل قرناس
في راس مرجوم عسير المنالي *** يشتاق له مندق بالقلب هوجاس
قعدت في راسه وحيد لحالي *** والقلب في لجات الافكارغطاس
قعدت أعد ايامها والليالي *** دنيا تقلب ماعرفنا لها قياس
ياما هفت به من رجال مدالي *** ماكنهم ركبوا على قب الافراس
ولارددوا صم المك للتوالي *** ولاثار عج الخيل في كل مرواس
ولاقلطوهن للكمين الموالي *** ولاصار فوق ظهورهن شلع الانفاس
في حومة الهيجا لهن اجتوالي *** كل يبا من زاية الفعل نوماس
من بينهم عود الجنا والسلالي *** مثل البروق الليل الادماس
اقطعك دنيا مالها اول وتالي *** لو اضحكت تبكي وتوريك الاتعاس
يابجاد شب النار ودن الدلالي *** واكسر لنا يابجاد مايقعد الراس
فنجال يضيع ماتصور ببالي *** وروابع نضرب بها اخماس واسداس
لعل قصر مايجيله ضلالي *** ينهد من عالي مبانيه للساس
لاصار ماهو مدهل للرجال *** وملجا لمن هو يشكي الضيم والباس
بحسناك ما منشي حقوق الخيالي *** ياخالق اجناس ومفني اجناس
تجعل مقره دارس العهد بالي *** صحصاح دو خالي مابه اوناس
لاخاب ضنك بالرفيق الموالي *** مالك مشاريه على باقي الناس
وان ناشني من بعض الادنين صالي *** ماني عن الزلات مخبر وبلاس
كالعنبر الغالي بالاسواق غالي *** ولادرهم الفضيه على صفر ونحاس
اجزيه بالصدع جنوب وشمالي *** واتلى هوى قلبي اليا هب نسناس
المستريح اللي من المـقل خالي *** ماهو ولجات الهواجيس غطاس
ماهو بمثلي مشكلاته جلالي *** عجزت اسجلها بحبر وقرطاس
حملي ثقيل وشلت حملي لحالي ** ونصبر على ضيم الليالي والاتعاس
برسي كما ترسي عوال الجبالي *** ماينهزع حيد عليه القدم داس
متى تربع دارنا والمفالي *** تخضر فياضه عقب ماهي بيباس
وتشوف فيها الديدحان متوالي *** مثل الرعاف بخصر مدقوق الالعاس
ينثر على البيداء ســـــوات الزوالي *** يشــــرق حماره شرقة الصبغ بالكاس
التعريف بالشاعر :
الشاعر محمد الأحمد السديري ، ولد العام 1916م ، ويعود أصله إلى أعرق القبائل السديرية ، وله صلة نسب ورحم مع أسرة آل سعود في المملكة العربية السعودية ، تبوّا مناصب عدة ، حيث تولى إمارة الجوف في سن السابعة عشر ، ثم جيزان ، وقاد الجيش السعودي في حرب 1948م في فلسطين ضد العدو الصهيوني . توفي العام 1979م ، عن عمر يناهز الثالثة والستين تقريبا .
وقد عرف بحسن الخلق ، وقوة الشكيمة ، وعمق الثقافة ، كما جمع الشاعرية والحكمة والتجربة مما انعكس على شعره بالتميز .
يعد من أشهر شعراء النبط في الجزيرة العربية ، وله دواوين شعر قليلة العدد ولكنها عظيمة التأثير وأهمها : أبطال من الصحراء ، والدمعة الحمراء .

















قراءة نقدية في النص :


تجربة الحياة تترقرق شعرا ، وتترصع ذهبا

بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
تعد هذه القصيدة من أبرز القصائد النبطية على الإطلاق ، وقد نالت شهرة عظيمة، وصارت مترددة على الألسنة ، رغم السنوات الطويلة التي مضت على إنشائها نظما .
إن أبرز ما يستوقفنا في هذا النص ، تلك الحكمة الحياتية التي تبدو في جنباتها ، ولكنها حكمة متميزة ذات خصوصية عالية ، فالقصيدة وإن بدا من ظاهرها أنها تندرج تحت ما يسمى غرض الحكمة ، حيث تحفل بالكثير من القيم النبيلة التي يرسخها الشاعر ، إلا أننا نلمس فيها أمورا عدة ، جعلتها تنال رسوخا في القلوب ، وتردادا على الألسنة ، وهذا ناتج من بساطة النص ، فهو يتناول موقفا من الحياة ، فالشاعر صريح في النص مع ذاته ، ملتصق مع مشاعره ، حيث يصرح في مطلع النص أنه جلس في رأس جبل عال مرتفع ، وبدا يتأمل الكون والدنيا من حوله . ولنا أن نتخيل هذا الموقف ، الشاعر مرتفع فوق الأرض من رأس جبل ، يتأمل ما حوله في البادية بكل ما فيها من مظاهر طبيعية ، وينظر في تقلبات الناس والحياة ، وكما يقول :
في راس مرجوم عسير المنالي *** يشتاق له مندق بالقلب هوجاس


فرأس الجبل مرتفع ، يصعب الوصول إليه ، وهذا يشير إلى أنه كان وحيدا ، في علياء المكان ، ولكن الفكر ( هوجاس ) مشتت ، والقلب يعاني . إنها لحظة شفافة ، اجتمع فيها علو المكان ، ورفعة النفس .
والغريب أن الشاعر لم يلجأ إلى المعتاد في مثل هذه النصوص ، فالقارئ يتخيل أنه سيصف الطبيعة من عاليه ، ولكنه حوّل النص إلى تأمل في الناس وأحوالهم ، فيقول :
قعدت أعد ايامها والليالي *** دنيا تقلب ماعرفنا لها قياس
ياما هفت به من رجال مدالي *** ماكنهم ركبوا على قب الافراس


إنه يقرر أن الدنيا متقلبة ، ليس لها مقياس ثابت ، والغريب أن هذا الكلام يصدر من شاعر كانت الدنيا طيعة له ، منذ فجر شبابه : مناصب ومكانة وبطولة ، ثم منزلة رفيعة بين الناس ؛ لحسن خلقه ، وقوة بأسه ، وبطولاته العديدة في فلسطين واليمن والمملكة ، ولكننا نرى أنه لا ينظر بمقياس شخصي ، بقدر ما هو مقياس إنساني متسع ، رحب ، شامل ، فمن يرَ الدنيا بمنظوره هو يكون أناني ضيق الرؤية ، ولكن من يراها من خلال مآسي الناس وتجاربهم ، يمتلك حسا إنسانيا راقيا ، وهذا ما ميّز النص ، ويعمق هذا المنحى بقوله :
من بينهم عود الجنا والسلالي *** مثل البروق الليل الادماس
اقطعك دنيا مالها اول وتالي *** لو اضحكت تبكي وتوريك الاتعاس
يابجاد شب النار ودن الدلالي *** واكسر لنا يابجاد مايقعد الراس


في هذا المقطع : نرى تضادات الدنيا ، الفرح والهم ، السعادة والغم ، وفي البيت الأول نجد تشبيها شديد البساطة ، عظيم التأثير " مثل البروق الليل الادماس" فحين تشتد الأزمة تنفرج ، ويكون إنفراجها مثل البرق المنير الوضاء في الليل دامس السواد . وهي صورة قوية جمعت الأمل في البرق ، وشدة الدنيا في الليل الفاحم السواد، وتتلاءم مع كون الشاعر فوق قمة جبل متأملا ، وهناك علاقة أخرى ، فالشاعر يصف الطبيعة تحته بشكل غير مباشر : هو يقدم الحكمة ممتزجة بالطبيعة ، أو يصف لنا الطبيعة من خلال حكمته في النص . وهذا ما ذكره ، في البيت الثالث : فالنار في الابجاد مشتعلة ، وهي صورة مستقاة من تراث عربي أصيل : " نار على علم " ، وهنا لا نجد تأثرا بالشعر الجاهلي القديم ، بل وصفا للطبيعة والجبل الذي يعتليه الشاعر . وفي البيت الثاني : يؤكد منزع الحكمة ، فيرى فناء الدنيا، لا أول ولا تالي لها ، والضحك فيها ( السعادة ) غير مستمرة ، فإن كل سعادة يعقبها غم وبكاء ، وممكن أن يرى السعيد المتخم فرحة ، تعاسة لا يتخيلها .
ويقول شاعرنا :
بحسناك ما منشي حقوق الخيالي *** ياخالق اجناس ومفني اجناس
تجعل مقره دارس العهد بالي *** صحصاح دو خالي مابه اوناس


هنا الإيمان يتجلى ، إيمان مفعم بالحكمة ، فالناس على تصارعها تتفانى وتموت ، وأعمارهم بيد الخالق ، والشاعر هنا يورد صفة للخالق : " ياخالق اجناس ومفني اجناس" ، فلا يظن أحد من الأجناس ( البشر ) أنهم نالوا غنى ورفعة وصارت حكرا عليهم ، وإنما هم إلى فناء ، وغيرهم إلى ميلاد ، وهذا كله بيد الخالق العظيم ، الذي يجعل – كما في البيت الثاني – المكان العمران بالناس والأبنية خرابا وهجرانا ، " صحصاح دو خالي مابه اوناس " ، أي لا حياة ولا ناس به. إنه الموت بصورته الكاملة : فناء الإنسان وتهدم البنيان .
ويقول شاعرنا :
لاخاب ضنك بالرفيق الموالي *** مالك مشاريه على باقي الناس
وان ناشني من بعض الادنين صالي *** ماني عن الزلات مخبر وبلاس
كالعنبر الغالي بالاســــواق غـــالي *** ولادرهم الفضـــيه على صفر ونحاس

يعرج الشاعر الأمير إلى العلاقة مع الأصدقاء ، وهنا نرى التحذير من توهم المثالية والأخلاق العالية في الناس ، فكل بشر منا معرض إلى لحظات ضعف ، والذكي من يداري على خطأ صديقه ، ولا يخيب الظن بالرفيق الموالي له ، فهو يحتاج للصديق دائما كأخ ومستشار ، وحتى لو تعرض لزلات وأخطاء من بعض أصحابه ، فهو غير مخبر عن هذه الزلات. إنها قمة الحكمة في الحياة ، قمن يفضح صديقه سيفضحه غيره ، والدنيا دول ، مرة لك ومرة عليك. وانظر إلى التشبيه الجميل :" كالعنبر الغالي بالاســــواق غـــالي " فالعنبر من أفخم المشمومات ، ومن أغلاها ثمنا ، فهو جمع عظم الرائحة الزكية ، وغلو الثمن ، وهذا هو الصديق الموالي ، ثم يعقب هذا بصورة أشد جمالا ، "ولادرهم الفضـــيه على صفر ونحاس" ، فهل تقارن الفضة بالنحاس الأصفر ، إنها مقارنة غير متكافئة ، وهي تندرج تحت ما يسمى التشبيه الضمني ، فالصديق الموالي لا يقارن فهو مثل العنبر الغالي ، والعملة عالية القيمة .
ثم يقول الشاعر الأمير :
ماهو بمثلي مشكلاته جلالي *** عجزت اسجلها بحبر وقرطاس
حملي ثقيل وشلت حملي لحالي ** ونصبر على ضيم الليالي والاتعاس


هنا يعود بنا إلى ذاته الشعرية : فهو يربط نفسه بالنص : فمشكلاته وتعني هنا تجاربه في الحياة كثيرة لا حصر لها ، يعجز الحبر والقرطاس عن تسجيلها . إنها كناية عن عظم خبرته ، وتأكيد لمنحى النص الذي جمع ما بين النظرة الإنسانية الواسعة وما بين تجربة الشاعر في الحياة ، ويعترف في البيت الثاني بأن حمله ثقيل ، وقد حمله بمفرده ، وهذا دليل صبره وقوة شكيمته ، وصبر أيضا على وجوه من الظلم وكثير من التعاسة . ولعل هذا المقطع الشعري الذي صبغ النص بعلاقة حميمة مع الشاعر ، سبب من أسباب شهرة النص، فهو مكاشفة بين الشاعر والقارئ ، الشاعر يعترف بثقل ما حمله من متاعب ومظالم وقد أسبق هذا الاعتراف بحكمة شاملة في الحياة .
إنها قصيدة شديدة الروعة ، مزجت الخاص ( تجربة الشاعر ) بالعام ( الحكمة الإنسانية) ، وامتازت بصور مستمدة من الطبيعة ، متلائمة مع الطبيعة الصحراوية : جبال وصقور وأبنية متهدمة ، وأجساد بشر كانوا يوما يتصارعون .
إنها قصيدة الحكمة ، وحكمة القصيد . رحم الله شاعرنا .