المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يوم بكى خير الدين الزركلي



بنت الشهباء
08/09/2007, 10:01 PM
يوم بكى خير الدين الزركلي
بقلم

http://7odi.com/up/uploads2/a1b5269e45.jpg
أ.د: بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة العالمية للغة العربية

تمنيت في حياتي أن أجلس ساعة بين يدي خير الدين الزركلي الذي هو صورة عن السلف الصالح ، أقبس من فضله ، وأرشف من علمه !
وكانت مني جرأة بالغة يوم أدرت قرص الهاتف في بيروت على رقمه في العشرين من رمضان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة بعد الألف للهجرة ، والموافق للسادس من شهر تشرين الأول ( أوكتوبر ) سنة أربع وسـبعين وتسعمائة بعد الألف للميلاد .
وما هي إلا لحظات حتى جاءني الصوت من الطرف الثاني يقـــول : أنا خير الدين .
ولم أدر حينئذٍ ما أقول ، ولكني أذكر أني قلت : سيدي ! أنا بشوق أن أتطلع إليك ، وأسمع منك كلمة ، وأعترف لك بفضلك الكبير عليَّ وعلى أمثالي .
وسمح لي بالمجيء .. وفتحت لي الباب امرأة ، وقادتني إلى غرفة المكتبة . وأذكر ـ يقيناً ـ أني لم أر للغرفة جدراناً ، لأن رفوف الكتب كانت تـحجز رؤيتها حتى السقف
وزاغت عيوني بين الكتب ، فلم أر إلا كتب التراث ، والتراجم .
وخطر لي في تلك اللحظة سؤال : هل يستطيع إنسـان فرد ، لم يـمتهن التجارة ، وليس له مورد إلا راتبه ، أو تقاعده من الراتب أن يقتني مثل هذه النفائس من الكتب والمخطوطات النادرة ، بل هل يمكن لدى صاحب هذه المكتبة قرش واحد مدخر لحاجات حياته اليومية ؟
ودخل الأسـتاذ الكبير ، هاشاً ، باشاً ، مسلّماً ، مرحّباً ، كأنه يعرفني من زمن بعيد ، وأجلسني على كرسي ، وجلس على آخر ، دون أن يفصل بيننا حاجز ، اللهم إلا ما يكون بين كرسيين متجاورين .
ذكرت له مقطوعته التي حفظناها في المدرسة الابتدائية والتي عنوانها
( عصفورة النَّيْرَبَيْن ) فطلـب مني إنشــادها.. فطرب ، وأشرق وجهه.. ثم أخرجت له مقطوعة ( يا زمان ) من كتاب حملته بيدي ، وكان عنوانه : ( من أحسن ماقرأت ) وهو مختارات لأكابر الأدباء العرب . وسألته : أتذكر هذه القصيدة ؟
أخـذ الكتاب ، ونظر في القصيدة ملياً ، ورفع رأسه وقال: كيف لا أذكرها ، وهي جزء من حياتي ، وهل ينسى الإنسان حياته ونفسه ؟
رجوته أن يقرأها بصوته ، ليكون لها لونان من الجمال : جمال الصوت ، وجمال القصيد . وراح ينشد :
متى ترى ، تبسم لي ، يازمان ؟- ألا حنـان ؟
أسلمتني ، لا أنس لي ، ولا أمان- للحـدثـان
عيناي ـ لما تبرحا ـ تـجريان- نضّـاختـان
أبكي ربوعاً ، لا تطيق الهـوان- رهن امتهان
أبكي دياراً ، خلقت للجمـال- أبـهى مثال
أبكي تراث العز ، والعز غـال- صعب المنـال
أبكي نفوساً ، قعدت بالرجـال- عن النضـال
وما إن انتهى الأستاذ من نشيدها حتى تـجرأت على سؤاله عن سبب تركه ساحة الشعر والقوافي ، مع أن قصائده الوطنية والعاطفية ما تزال تنضح بالمشاعر الدافئة ، والعواطف الصادقة ، والروعة ، وبديع الجمال ؟
وبتواضع الإنسان الكبير قال : ما رأيك إذا قلت لك : أنا لم أترك الشعر ، بل لم يتركني هو ، فما زال بيننا وصال ، فأنا إلى اليوم أنظم ، وأترنم بالقول الجميل ، ولكني إلى الإعراض عنه أميل .
هذا الإعراض ليس ابن الساعة ، ولكنه ذو عمر طويل ، يكاد يمتد إلى خمسين سنة إلى وراء … ولولاه ما خرجت إلى الناس بكتابي ( الأعلام ) ويـخيل لي أني خدمت به بلادي وأمتي بمثل ما خدمتها بالشعر .
لكني أرى أن نظم قصيدة واحدة يستغرق زمناً ، ويحتاج إلى تفرغ ، وخيال ، وابتعاد عن المشاغل . والعمل في ( الأعلام ) يستحوذ عليَّ ليلي ونـهاري ، ويغرقني في بـحر من القراءة والكتابة والتأليف ، لا أجد بعده سانـحة أتفرغ فيها لعمل آخر .
ثم إني أجد نفسي اليوم بعد أن أصدرت الطبعة الثانية للأعلام في عشرة أجزاء في مشكلة جديدة ، هي أنـي ما قمت بواجبي حق القيام … لقد كان عليّ أن أوفي ما استطعت حق الكتابة عن أشخاص ، لم أتعرض لهم في ( الأعلام ) في الطبعتين ، الأولى والثانية .
والذي أثار المشكلة الحادة في نفسي ذهابـي إلى المغرب منذ خمسة عشر عاماً ، وتمثيلي حكومة صاحب الجلالة الملك فيصل ـ رحمه الله ـ .
هذا الذهاب إلى المغرب أيقظ فـيَّ شيئاً غريباً .
تساءلت : أين أنا ؟ أبـحث عن علماء المغرب ، فأراهم كثيرين ، ورجالات المغرب في التاريخ العربـي كثيرون ، وشخصيات المغرب العربـي كثيرون.. كل هؤلاء ليس لهم تراجم عندي ..
هل أنا مقصر ؟ بالطبع : لا . لأني أخذت المصـادر التي حصلت عليها ، ونقلت منها . ومصادر المغرب العربـي ، وشخصياتـهم ، وكتبهم كانت غائبة عني حين كنت أعمل في مصر والحجاز والرياض وفي غيرها من البلاد .
عندئذٍ .. قررت ـ وأنا في المغرب ـ أن أشتغل في ( الإعلام بـمن ليس في الأعلام ) ليكون ملحقاً للأعلام ، وجعلت وقتي كله في استدراك ما فاتني . ورأيت أخيراً أن أسميه بدلاً من الإعلام بمن ليس في الأعلام : ( التعريف والإعلام بـمن ليس في الأعلام ) دفعاً للالتباس من قراءة (الإعلام ) المكسورة الهمزة :
( الأعلام ) بفتح الهمزة . والمستدرك هذا هو ، تستطيع أن تراه الآن . إنه في هذه الدفاتر ، أو في هذه المجموعات .
وقمت مع الأستاذ إلى زاوية الغرفة ، لأرى ثـماني وعشرين مجموعة ، كل مجموعة تـختص بـحرف من حروف الهجاء . فالأولى لمن يبدأ اسمه بالهمزة ، والثانية لمن يبدأ بـحرف الباء ، وهكذا .
وفتحت أحد هذه الدفاتر ، فوقعت عيني على ( السمنودي ) في ورقة مستقلة ، وبـجانبه تاريخ ولادته ووفاته بالسنوات الهجرية ، وتـحتها تاريـخها بالسنوات الميلادية مطبوعة على الآلة الكاتبة بالحبر الأحمر . ولاحظت الترتيب نفسه الذي في الأعلام . وكذلك الحاشية في أسفل الصفحة كحاشية ( الأعلام ) .
ونبهني الأستاذ الكبير إلى الحاشية ، وأنـها غير المصادر التي في الأعلام ، وأنـها من كتب المغاربة .
وأضاف قائلاً : هذه المجموعات تشكل ـ حتى الآن ـ ست مجلدات أو سبعاً ، أربع منها إذا لم أعملها فإن أحداً غيري ـ وسامحني إذا قلت : ـ لا يستطيع عملها . إنـي لا أشكو ، وإنما أحكي وأصف ما ألاقي وأعانـي . ولقد تستغرب إذا قلت : إنـي أعمل فيها ليل نـهار ، قدر استطاعتي . وإذا كان كثير من الناس يشتكي من الأرق فأنا لا أشكو منه ، بل أنا على العكس ، أفرح به وأرحب .. فغرفتي التي أنام فيها بـجوار هذه الغرفة ، وحين أحس بعدم قدرتي على النوم ، لا أتقلب ، ولا أتململ ، وإنما أنـهض حالاً ، وأضع على كتفي شيئاً يقيني من البرد ، وأجلس وراء طاولتي ، وأبدأ بالمراجعة والتدوين .. فتنقضي ساعة أو ساعتان أو أكثر أو أقل ، ثم أشعر أنـي بـحاجة إلى راحة ونوم ، فأعود إلى فراشي فإذا أنا غارق في نوم عميق .
حياتـي كلها وهبتها لهذا العمل . وكم أمني النفس أن يمد الله في أجلي أياماً ، أو شهوراً ، أو سنين ، كي أنـجز هذا العمل ، وأخرجه إلى الناس كاملاً .
وكم فكرت طويلاً : لو أن الله اختارنـي إلى جواره .. فماذا يكون مصير هذا كله بعدي ؟؟ وأتـمنى أن أعرف أحداً من الناس اليوم يستطيع أن يتسلم مني هذا ويكمله . وأنا أقدمه إليه بكل طيبة خاطر وسرور قلب .
ومع هذا ، فقد احتطت لطوارئ الأجل وساعة الموت ، ولا سيما أنـي تـجاوزت الثمانين ، إذ وضعت في أحد مصارف بيروت مبلغ خمسين ألف ليرة لبنانية وسجلت ، حسب الأصول القانونية والشرعية ، هذا المبلغ باسم
( مجمع اللغة العربية بدمشق ) لينفقه بعد وفاتـي على إنـجاز هذا المشروع ، واستكماله ، وإصداره إلى الناس ، لعلهم ينتفعون به ، ويدعون الله لصاحبه : خير الدين الزركلي .
الأمر الآخر هو أن لي مكتبة عامرة بالمخطوطات والمطبوعات في مدينة القاهرة ، ولسوف أسافر بعد مدة قريبة إلى مصر لأجمع ما فيها في صناديق ، ثم أرسلها هدية مني إلى المكتبة العامة في جامعة الرياض ، اعترافاً بـجميل المملكة عليَّ ، وخدمة لطلاب العلم ، وأملاً في ثواب الله ونيل أجره . أما هذه المكتبة ، فلسوف أقرر مصيرها بعد إصدار الطبعة الجديدة
( التعريف والإعلام بمن ليس في الأعلام )، إن شاء الله .
إنـي لأشعر شعوراً غريباً أنـي في سباق مع الزمن ، وأريد أن أنـجز عملي هذا على خير وجه ، قبل حلول الأجل . ولا أظنه إلا قريباً .. وأظنك توافقني على أن هذا خير من نظم قصيدة ، والوقت الذي أحتاجه لنظم قصيدة أوجهه إلى مراجعة أربعة أو خمسة كتب ، وكتابة ســيرة رجل لم يكتب أحـد عنه قبلي .
زد على ذلك أن مطابعنا ـ والحمد لله ـ تقذف لنا في كل صباح عشرات المؤلفات ، والدراسات ، والتراجم ، والبحوث ، والتحقيقات الجديدة … وهذا الإنتاج الجليل يحتاج إلى مراجعة ، واطلاع ، وتدوين .
والتقاليد الجامعية درجت على أن يكون عمل طالب شهادتـي الماجستير والدكتوراة ـ أحياناً ـ تـحقيق مخطوط ، أو جمع ديوان شاعر .. ولا بد من معرفة ما يـجـري في هذه الجامعات ، وما تنجز من أعمال ، ثم لا بد من تسجيل كل هذا في مواطنه المناسبة أولاً بأول ، كذلك الشأن في المجلات ، وما تقدمه من بـحوث ، أو إشارات .
ولا أكتمك أن هذا العمل لا يكفيه أن تقعد في بيتك ، وتنتظر أن يأتيك ساعي البريد بالجرائد والمجلات وجديد المطبوعات ، بل لا بد لك من أن تتحرك أنت ، وتذهب إلى هنا وهناك ، لترى ما لا يمكن أن تراه وأنت في بيتك .
ولهذه الغاية ، فأنا أسافر في كل عام ـ على الأقل ـ مرة إلى مصر ، ومنها إل أوربا ، وأعوج في طريق عودتـي على تركيا ، ثم أعود إلى بيروت .
وحين أزور تركيا وأكون في استانبول أزور ( السليمانية ) وأقصد مكتبتها النفيسة العامرة بالمخطوطات ، وفي غالب الأحيان أنتقل من السليمانية إلى الجبال وإلى مناطق لا تزال مجهولة إلــى يومنا هذا ، وفيها مخطوطات عربية نادرة ، لا أظن أن لـها نظيراً في العالم . وكثير منها مكتوب بـخط مؤلفيها أنفسهم ، وموضوعاتـها في التاريخ والأدب والفلسفة والدين .
حدث مرة أني كنت في استانبول أفـتـش عن كتاب خاص ، فلم أعثر عليه ، وفجأة رأيت صديقاً ، وسألته عن الكتاب ، فقال : إنه موجود في بلدة اسمها : ( مغنيسيا ) فركبت السيارة إلى مغنيسيا ، وقضيت إحدى عشرة ساعة في الطريق إليها ، ولما زرت مكتبتها رأيتها من أغنى المكتبات ، لكنها دون فهارس حديثة ، وإنما جذاذات في تصرف الباحثين ، وهي تملأ اثني عشر درجاً ، ورحت أستعرض الدرج الأول خلال صيف كامل ، وعدت في الصيف التالي لأستعرض مخطوطات الدرج الثاني ، وظللت أعاود الزيارة سنة بعد سنة إلى أن اطلعت عليها جميعاً .
ومع هذا ، فلا يزال أمامي زيارة بلاد عـدة ، فيها كنوز لم يكشف النقاب عنها بعد ، ولم يكتب أحد عنها سطراً واحداً .
وخطر في بالي سؤال يتصل بصور أصحاب التراجم الجديدة ، أو صور توقيعاتهم ، أو خطهم ، فلم أكتمه ، فقال ـ طيب الله ثراه ورضي عنه ـ: يـحزنني إذا قلت لك : إني بقدر ما كنت في الماضي متحمساً ومولعاً بـهذا الأمر غدوت اليوم زاهداً فيه إلى حد كبير .
والذي زهدنـي ما ألقاه من عقوق الأبناء للآباء ، وانتشار هذا العقوق في مستويات كثيرة .. وقد أرحت الأبناء من طلبي لصور آبائهم ، وخطوطهم ، وتوقيعاتهم .
وقد تتساءل عن سر هذا الزهد ، ولكنك لن تعجب إذا قصصت عليك بعض ما صرت ألقى .
أنت تعرف أنـي لا أترجم للأحياء ، وطلبي لصورة رجل ميت لا يداخله شك ، أو يعتريه ريب في حسن نيتي وصدق عملي .
اتفق لي مع عدد من الأشــخاص أن طلبت صورة لآبائهم ، أو قطعة من خطوطهم ، أو توقيعاتهم ، أو خطاباتهم … فما أجابوني بـجواب يرضيني .. وأيقنت أن هذا لون من العقوق .
في إحدى المرات هتفت إلى أحد الأشخاص في مصر ، وطلبت منه صورة والده ، بعد أن عرفته شخصي وهدفي . فأجابني ، على الهاتف ، بلهجة فيها كثير من التأنيب : قال : يا أخي ! تطلب مني مثل هذا الطلب مباشرة ، وبلا استئذان ؟ لقد كان عليك في البدء أن تقدم لي طلباً وتعرفني شخصك ، وقصدك كتابة ، وتطلب موعداً لمقابلتي ، حتى إذا أذنت لك ، طلبـت مني ما تريد . أما أن تأخذ الهاتف ، وتديــر القرص ، وتتحدث معي مباشرة ، وتطلب مني طلبات ، فذلك …. فما كان مني إلا أن اعتذرت إليه ، وقلت له : استغنيت عن الطلب . أفليس هذا عقوقاً ؟
في مرة أخرى ، أردت أن أترجم للشيخ مصطفى عبد الرازق في مصر ، بعد أن انتقل إلى جوار ربه ، وكنت أجهل اسم أبيه ، وأبيت أن أكتب الترجمة دون أن أذكر اسم والد هذا العالم . فلقد درجت على هذا في كل أعلامي .. كتبت إلى أخيه الشيخ علي عبد الرازق ، وهو رجل فاضل ، أســـأله عن اسم أبيه فقط ، وبينت له أني بصدد الكتابة عن أخيه المرحوم الشيخ مصطفى .
أتعرف بم أجابني ؟ لقد أرسل إليَّ رسالة مطولة ، يقول في جملتها : إني آسف جداً لعدم تلبية طلبكم ، لأني الآن بعيد عـن كتبي ومكتبتي وأوراقي ، وأنا الآن موجود اليوم في ( العزبة ) ، ولا بد لي بعد العودة إلى القاهرة أن أتصل بكم ، وأفيدكم فيما طلبتم .
وتساءلت : هل طلبت منه إلا اسم أبيه فقط ؟ وما معنى أنه الآن في العزبة ، وبعيد عن كتبه وأوراقه ؟ وهل يـجهل أحد اسم أبيه في العزبة ، ويعرفه في القاهرة ؟ ومع هذا ، فلسوف أترجم للشيخ علي عبد الرازق نفسه اليوم ، لأنه رجل فاضل ، رحمه الله ، وغفر له .

ورأيت أن الأوان حان لننتقل إلى موضوعات أخرى ، هي أشد اتصالاً والتصاقاً بـحياته الخاصة ، ومشاعره الإنسانية ، فقلت :
ألم تشتق ـ يا سيدي ـ إلى الشام التي طالما حننت إليها ، وغنيتها أعذب ألحانك ، وفديتها بأغلى ما يفدي الإنسان وطنه وبلده ؟
قال ـ رحمه الله ورضي عنه ـ : وكيف لا أحن إليها ، وهي الأم والأب ، وهي الماضي والذكريات ، وهي الشباب والجمال ؟ وكلما حننت إليها جئتها ، وطفت في حـاراتـها ، وصليت في مساجدها ، وتأملت في جبالـها وأشــجارها ، وطفت بضواحيها .. ولكنني اليوم أزهد في زيارتـهـا ، وأستوحش بـها ، لأنـي صرت أرى الجمادات فيها ، وأفتقد الأحباب ، والأتراب ، والأصحاب .. أفتش عنهم ، فلا أراهم ، وأسأل عنهم ، فيقال لي : ماتوا
لقد مات معظم أصحابي وأحبابـي ، وكلما سألت أحد الناس عن اسمه ، ذكره ، فعرفت أباه ، وجهلته . وأكثر من هذا : غاب عني الأب والابن اللذان كنت أعرفهما ، وواجهني الحفيد الجديد الذي أجهله .
الأشخاص الذين كنت أسعى إليهم في دمشق ، أرشف من علمهم ، أقتبس من فضلهم ، أتملى بطلعتهم … غابوا عني ، أو غاب معظمهم عن عيني ، وسمعي .. فأصابني الزهد ، واعتراني الفتور للعودة إلى دمشق ، وللبقية الباقية الصالحة فضل كبير إذ تزورني بين حين وآخر هنا في بيروت ، فتوفر عليَّ الزيارة ، وتغنيني عن مشقة ما عدت قادراً على احتمالها دائماً . وخير مثال على ما أقول : زيارتك الكريمة لي في هذا النهار المبارك الطيب .
وحانت مني التفاتة إلى النافذة ، فلحظت أن الشمس قاربت الغروب ، وأن الأدب يقضي أن أودع وأنصرف ، ولكن النفس كانت تأبـى أن أفارق هذا العالم الكبير ... وقبل أن أستأذن طلب مني إنشاد بعض ما أحفظ من قصيدته ( نجوى ) فلبيت طلبه وأنشدته :
العين بعد فراقهـا الوطنا ** لا ساكناً أَلِفَتْ ولا سـَـكَنـا
ريانـةٌ بالدمع ، أقلقهـا ** أن لا تحسَّ كرًى ولا وسَنـا
كانت ترى في كل سانحة ** حُسناً فعادت لا ترى حَسَنـا
ليت الذين أحبهم علمـوا ** وهُمُ هنالك ما لقيتُ هنــا
ما كنت أحسبني مفارقهم ** حتى تفارق روحــيَ البدنا
يا موطناً عبث الزمان به ** من ذا الذي أغرى بك الزمنا؟
ما كنتَ إلا روضة أنُفـاً ** كرُمت وطابت مغرساً وجنى
إن الغريب معذب أبــداً ** إن حل لم ينعم وإن ظعنــا
لو مثلوا لي موطني وثناً ** لَهَمَمْتُ أعبُـــد ذلك الوثنا
ولمحت عينيه تدمعان ، وصوته اختنق وهو يودعني.. وتمنيت أن أطلب منه صورة له موقعة بـخط يده .. إلا أن الحياء غلبني . وقلت في نفسي : حسبي أنه انطبع في قلبي ، وتمليت طلعته ، وقعدت بين يديه ، وسمعت صوته ، وكان لي وحدي ساعة من زمن ، كنت فيها جليسه الخاص .. فتلك خير صورة ، وأطيب ذكرى .

حلب المحروسة
20/7/2007م
بكري شيخ أمين

د.ألق الماضي
16/09/2007, 12:30 PM
http://islamroses.com/zeenah_images/w6w_2005100123480072ea9d3f.gif

محمد حسين
16/09/2007, 02:01 PM
الحكايه شيـّقه ... ويحسّ القارئ بالاخلاص ، الحب و الوفاء

للمعرفه ... كـثــّر الله سبحانه وتعالى من امثالك يــارجـــل .

بنت الشهباء
22/09/2007, 10:32 AM
http://islamroses.com/zeenah_images/w6w_2005100123480072ea9d3f.gif




ولك الشكر يا حبيبي ألق
على مرورك الكريم الطيب
ودمت بألف خير

بنت الشهباء
22/09/2007, 10:40 AM
الحكايه شيـّقه ... ويحسّ القارئ بالاخلاص ، الحب و الوفاء

للمعرفه ... كـثــّر الله سبحانه وتعالى من امثالك يــارجـــل .






نعم يا أخي الكريم
محمد حسين

الحب والوفاء للمعرفة هو الهدف والغاية التي سار ويسير عليها كل من أراد أن يثبت وجوده
وتخلد ذكراه , وتتناقل الأجيال سيرته , وتنهل من علومه وآدابه
وما زال هذا الرجل وقد قارب الثمانين من عمره
تجده بين كتبه ودراسته يحيا ويعيش
حفظه الله , وبارك لنا في عمره