المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مفهوم الفراغ والبلدان المستهدفة



د. تيسير الناشف
04/09/2007, 04:21 PM
مفهوم الفراغ والبلدان المستهدفة



د. تيسير الناشف

مفهوم الفراغ قديم. وهو يعني وجود منطقة خاوية أو فارغة. وذلك قد يعني وجود منطقة مستهدفة من جانب الدولة المنفذة للسياسة الخارجية المستلهمة لمفهوم الفراغ. وتتبنى هذا المفهوم في الوقت الحاضر أوساط حكومية وأوساط غير حكومية لها وزنها في الغرب، وبخاصة في سياق العالم النامي. تضمنت التأثيرات المتبادلة طيلة قرون بين مختلف التيارات الفكرية والأيديولوجية في شتى مجالات الحياة لدى أوساط في الغرب مضامين أيديولوجية واقتصادية واستراتيجية وسياسية. وقد أدت هذه التأثيرات إلى شيوع هذا المفهوم وإلى تبنيه. ولهذه الأوساط أثرها في حياة شعوب العالم أجمع، بما في ذلك شعوب العالم النامي.
ولمفهوم الفراغ، شأنه شأن مفاهيم أخرى، أبعاده المتداخلة. يتضمن هذا الفراغ أبعاد الفراغ السياسي والثقافي والإقتصادي والسكاني والعسكري والنفسي. ومن الجلي أن هذه الأبعاد هي الأبعاد أو الجوانب الرئيسية لحياة الدولة والشعب. ويندرج في مفهوم الفراغ السكاني مفهوم عدم وجود شعب من الشعوب ومفهوم وجود أرض بلا شعب. ويندرج في مفهوم الفراغ السياسي والفراغ الثقافي والفراغ الإقتصادي والعسكري عدم وجود قوة سياسية وقوة ثقافية وقوة اقتصادية وعسكرية لها الوزن أو الثقل السياسي والثقافي والإقتصادي والعسكري في دولة أو منطقة. من شأن وجود مثل ذلك الوزن أن يجعل دولا أخرى أو مناطق أخرى تحترم الدولة أوالمنطقة ذات الوزن هذا وترتدع عن التدخل في شؤونها وتحرص على مراعاة واعتبار تلك الدولة أو المنطقة وعلى عدم الإنغواء بتحقيق مفهوم الفراغ حيالها.
وتوجد أسباب مختلفة لتبني دولة لسياسة خارجية تستلهم مفهوم الفراغ. ومن هذه الأسباب الحافز الإقتصادي والاستراتيجي لدى الدولة، إذ عن طريق تنفيذ هذه السياسة تسعى الدولة إلى النهوض بمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية على الساحة الخارجية. ومن هذه الأسباب أيضا التركة الثقافية التاريخية القيمية، إذ يمكن لهذه السياسة المنفذة أن تكون صدى لتركة ثقافية قيمية معينة أو أن تكون انعكاسا لتلك التركة او أن تكون أداة لتحقيق رؤية ورؤيا تلك التركة. ومفاهيم من قبيل "رسالة الرجل الأبيض" و "عبء الرجل الأبيض الحضاري" و "رسالة الرجل الأبيض التحضيرية" و "ونقل الحضارة الغربية إلى العالم الوثني" وغيرها من المفاهيم تندرج في إطار التركات الثقافية التاريخية والسياسية التي أرادت تلك السياسات
الخارجية أن تخدمها، كما أن تلك المفاهيم استعملت لتبرير مضامين السياسة الخارجية لتلك الدول.
ومن تلك الأسباب أيضا طبيعة ديناميكا العلاقات بين الأشياء، وفي هذا السياق بين البلدان من مختلف القارات. وتتمثل هذه الطبيعة في ميل الدولة الى ملء الفراغ القائم. يبدو أن الفراغ لا يحتمل على الساحة الدولية، وأن الفراغ يستدعي نشوء ميل إلى ملئه ويستدعي ويجتذب قوى إلى ملئه. وبالتالي حتى لا تنجذب قوى إلى ملء فراغ من الفراغات يتعين على الدولة أن تمنع نشوء فراغ في محيطها. وبقيام دولة بملء فراغها في الميدان السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي تجنب الدولة نفسها انغراء قوى - بما في ذلك دول - باقتحامها.
ودول العالم الثالث دول تعاني من الفقر والتخلف والضعف العسكري والتكنولوجي ومن عدم الكفاية في التنمية. وبالتالي فإنها دول تستهدفها الدول التي تتبع سياسة خارجية تقوم على أساس مفهوم الفراغ.
قيام دولة بتنفيذ سياسة تستلهم مفهوم الفراغ حيال دولة أخرى يتوقف على تصور الدولة الأولى لقوة الدولة الثانية ولقدرة الدولة الثانية على التصدي لتنفيذ هذه السياسة. وتصورات الدولة الأولى لقوة الدولة الثانية تستند مما تستند اليه إلى القوة الإقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية الفعلية لتلك الدولة.
وضعف بنية الدولة والافتقار إلى التنظيم وانتشار الفساد والجهل في صفوف الشعب والأمية والمرض والفقر وتدني الدخول وارتفاع نسبة البطالة وعدم التماسك الاجتماعي وانعدام المرجع الاجتماعي والقيمي الأعلى والقبلية والحمائلية والطائفية والإقطاعية والمحسوبية والنظم الريعية -- كل هذه صفات تشكل دلائل على وجود الفراغ، وهي تشكل أساسا مناسبا لأن تتبع دولة سياسة تستلهم سياسة الفراغ حيال دولة تتصف بالصفات المذكورة أعلاه.
وبالتالي حتى لا يكون بلد مستهدفا، او حتى لا تنغري دولة بمحاولة السيطرة على ذلك البلد، يجب على شعب ذلك البلد أن يكون متماسكا اجتماعيا وقيميا، وأن يكون قويا علميا وتكنولوجيا وألا يعاني أفراده من الفاقة وأن تكون نسبة العاملين منه عالية وأن يكون دخله مرتفعا وأن يكون واعيا ثقافيا وألا يكون مستهترا بحاضره ومستقبله وبمصيره.
وأيضا مما يحدد مدى سهولة أو صعوبة تعرض شعب للسيطرة الأجنبية طبيعة تجربته التاريخية. الشعب الذي له ماض من الخضوع للقوى الأجنبية يكون من الأسهل على تلك القوى أن تسيطر عليه، بينما يصعب على القوى الأجنبية السيطرة على الشعب الذي له ماضي الاستقلال والانفة والذي يبدي أفراده حرصا على الاحتفاظ بتميزهم وبشخصيتهم وبإدارتهم لشؤون أنفسهم.