المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جمالية المكان 2 البحر والدم في شعر الأمراني



المساوي
24/08/2007, 02:33 AM
البحر والدم



رائحة البحر تجئ محملة بالدم:) ز.ج84(


لا أريد أن أجمع بين لونين متناقضين للعيان متباعدين في الرؤية: "الأزرق والأحمر" بقدر ما أود البحث عن دلالتين قد تكونا متلازمتين في بعض أشعار الدكتور حسن الأمراني، وسننطلق في تأكيد هذه التلازمية – كما أشرنا إلى ذلك في " البحر والغربة" - بين دلالة البحر ودلالة الدم، دلالة الأزرق ودلالة الأحمر من مرسلة تأخذ صيغة الإنشاء الطلبي، وتكتسي صبغة الجمع بين المتكلم والمخاطب، وتمزج بينهما حتى ليكادا أن يصبحا شيئا واحدا أو ذاتا موحدة.. كما تتسم بالأمر المؤكد والطلب الملحاح من خلال استعمالها المتكرر للفظة "لابد" وقد جاء هذا الطلب في سياق كله أمر بعد سياق كله نهي (وما النهي إلا أمر بعدم الفعل)..:
لا تقل لي:إلى أين نمضي

وهذا الزمان مخيف
كوحش ضرير عنيد؟
نحن لابد أن نبحر الآن
لابد يا صاحبي
أن نقدم من دمنا
ثمنا للزمان الجديدْ (ز.ج 8).
هكذا تكون المرسلة قد ابتدأت بنهي وانتهت بأمر لتعطي في الأخير صورة متكاملة تزخر بالحركة والتفاعل بين ما هو نفسي وما هو واقعي، بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، كما تمتلأ بالصراع بين الزمان المخيف زمان الرماد والزمان الجديد زمان المملكة..
إن هذه الصورة مفعمة بالروح الجماعية المتمثلة في استعمال المشعـر للنون الدالة على الجماعة في "لا تقل لي" التي نلمس فيها النفس الجمعي يسري بين " تقل" أنت و" لي" أنا.. ويزكو هذا النفس بفعل " نمضي" الذي هو فاتحة مجموعة من الألفاظ التي تمثل الوعي الجمعي في بعض تجلياته مثل:" نبحر، ونقدم، ونحن، ويا صاحبي، ودمنا" وداخل هذا الزخم من الحركية والتفاعل والصراع تأتي لفظة " نبحر" لتأخذ موقعا شعريا تحتل به الصدارة وتشع منه بلونها وضوئها على باقي أركان الصورة، وقد قبضت على جانبيها (أي جانبي الصورة) :
أولا فعليا من خلال:نمضي ------- نبحر-------- نقدم
وثانيا إسميا من خلال:الزمان المخيف-----نبحر----الزمان الجديد

ومن هنا قد يتبادر إلى الذهن هذا السؤال : لماذا استولت لفظة " نبحر" على جميع أركان الصورة وتشابكت انطلاقا منها جميع الخيوط بعد أن انطلقت منها جميع الخطوط ناسجة مجموعة من العلاقات المتوترة والعنيفة والصاخبة؟ ما هي الوظيفة الدلالية لهذه اللفظة المفتاح؟
يمكن أن نعتبر هذه اللفظة " نبحر" بؤرة هذه المرسلة لكونها تحمل في طياتها كل ما يمكن أن توحيه الصورة ككل.. إذ لها دلالة التغيير (تغيير المكان والزمان)، وتحمل علامات الصراع لأنها تنطوي على دلالة الموج/الأمواج وتلاطماتها وصراعها فيما بينها ومع الأشياء الموالي لها أولا، وفيما بينها وبين المبحر الذي يحاول اختراقها ثانيا.. وهذه هي الصورة التي أراد المشعر أن يقدم لنا في هذه المرسلة من خلال الصراع بين زمانين:" زمان مخيف كوحش ضرير عنيد وزمان جديد.." فيما بينهما ثم في علاقتهما مع "النحن"..
إن الإبحار وهو يعني ركوب البحر كان نتيجة رغبة في الخروج من الزمان الذي توحش وأصبح مخيفا وضريرا عنيدا دفعة واحدة يفرض سيطرة وحشية على المشعر.. إلى الزمان الجديد وهو بالضرورة ليس مخيفا ولا عنيدا ولا ضريرا ولا متوحشا..إنه الزمان الجديد الذي لن يتأتى بلوغه إلا بالإبحار على الرغم مما في الإبحار من معاناة ومشقة وصعوبة وألم.. ويزيد المشعر هذا الإبحار توضيحا لطبيعته حينما يفسره بقوله :"أن نقدم من دمنا.." وبهذا نجد الصورة في نمو مطرد يضفي عليها الماء الشعري ويغمرها به.. وكلما تقدمنا في القراءة كلما أحسسنا بتوتر داخلي على المستوى النصي للمرسلة، وعلى المستوى النفسي للمتلقي لتسلمنا هذه القراءة في الأخير إلى أن للزمان الجديد ثمنا يجب تأديته هو: "الإبحار الدموي".. وفي وقت محدد وزمن معين هو المعبر عنه في المرسلة بالدال" الآن" التي تعني فيما تعنيه هنا اتخاذ القرار السريع والعاجل بعد تفجير الأزمة للحالة النفسية التي ترغب في الانعتاق من ربقة الزمان المخيف في أقرب وقت وأسرع لحظة"الآن" التي تعني أيضا أن الوقت قد حان وبشكل ملح للانتقال من زمان إلى زمان، وتعني أن الزمان المخيف قد آن أوان موته وانقضائه أو انقراضه وانتهاء شهوته الوحشية..
"الآن" تحمل حرفا ملأ علينا الصورة من جميع جوانبها وتجلى فيها بكل وضوح وبرز بكل أشكاله وعلى جميع المستويات في الكلمات التالية:"نحن- نبحر- نقدم- دمنا- ثمنا- الزمان.." إنه حرف النون ذلك الهلال الذي يضئ سماء هذه الصورة الشعرية معلنا انتهاء زمان، ومبشرا بقدوم آخر، وتلك العين الساهرة التي ترقب سبيل التحول ومسار التغيير، والنقطة التي تشع منها جميع الخطوط الضوئية والخيوط النورانية معلنة أن لا حدود لرغبة من أراد السير على خط مستقيم، أو أراد رسم خطوط مستوية متراصة، أو أراد حبك خيوط متماسكة انطلاقا من نقطة "النون"..
وتذكرنا نون أيضا بالكتابة وهي معاناة داخلية وخارجية تشكل عملا حركيا تستوي فيه الفكرة والفعل، والقول والعمل، والرؤية والتحقق والواقع والآفاق من خلال استحضار المرجعية التي يعتمدها الشاعر، ليبدو لنا ذلك التـناص مع قول الله تعالى في السورة التي تحمل اسم"القلم" وما أدراك ما دلالات ومعاني وإيحاءات ورمزية هذه الكلمة على المستوى العام وعلى مستوى الآية الكريمة: ( نون والقلم وما يسطرون..) (القلم:1)
هذا الإبحار الدموي في الإطار الشعري الذي يشتغـل عليه المشعر ليس إبحارا تخريبيا، أو طريقا إفساديا، كما أنه ليس تشجيعا على الهرج والمرج والقتل والسفك والإرهاب، بل هو إبحار دموي يثمر ويزهر ويخضر، وإن كان في جو ملؤه الصراع فذلك لتصفيته وتنقيته وتطهيره، إذن فهو فعل جميل ومرغوب فيه ومطلوب الانخراط في سلكه، بل فيه أمر وتوكيد على سلوكه إلا أنه محفوف بالمكاره، لذلك يمكن أن نسقط عليه دلالة ورمزية ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث شريف قال فيه: ] حفت الجنة بالمكاره.. [ رواه البخاري..
هذا الإبحار تتدافع فيه الألوان * الأزرق والأحمر والأخضر* وتتفاعل وتتشابك وتتجمع المتناقضات وتتناسل داخل دلالات الحركية والاستمرارية والتقلب مع الموت والفناء والرعب والخوف مع الحياة والحيوية والنشاط والازدهار والانطلاق والارتياح.. هذا التدافع الذي بين الألوان ودلالاتها ورمزيتها إنما هو مخاض ينتج عنه مولود جديد، وينتج عنه اتحاد بين الألوان والأشكال والوظائف والدلالات والرؤى مما جعـل الإبحار الدموي لا ينبت قهرا ولا موتا ولا فناء ولا عدما، ولا يحدث فسادا في الكون والحياة والإنسان، ولا يشجع على خسارة في العالم والوجود والواقع المعيش، ولا يدفع إلى احتقار الآخر وإرهابه، وإنما هو إبحار لفك الحصار عن: "امرأة تتمدد ما بين محيط الرعب وبين محيط الموت الأخضر"(ص:8)، لأخذها من مكان الرعب إلى مكان الاخضرار، فالموت عندما يكون أخضر يصبح حياة لأنه زرع وأثمر وأينع حب الحياة المستمرة " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون"(البقرة:154) "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء"
(آل عمران:169)
إنه الإبحار الدموي الطاهر الذي يرتدي زي الحياة والحيوية ويكتسي الاخضرار والازهار والعطاء على الرغم من أنه في الظاهر يبدو للعين القاصرة عن معرفة المرجعية التي تؤطر الشاعر مميتا وقاتلا مفنيا أو على الأقل في حدود الكلمة المسيطرة يبدو دمويا..
هو الجرح يكبر رغم التواصل

يكبر حتى يلبي النداءْ
ويخضر لون الدماءْ (ز.ج-52)

إن هذا الإبحار المرغوب فيه من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن رؤية إلى رؤية، ومن واقع إلى واقع، يأتي مفعما بالدم محملا به وكأنه مفروض عليه ولم يكن من اختياره:
رائحة البحر تجئ محملة بالدم (ز.ج 84)
ويأتي مفعما أيضا بدلالات الكد والجد والعمل الدؤوب والحركة المستمرة مع اليقظة واليفاعة، بدلالات "ترسم دائرة للحزن ودائرة لإعادة تكوين الأشياء" (ص:83)
رائحة البحر تجئ محملة بالعرق النازف
من عمال الميناء (ز.ج 83)
إنه الدم المتحرك والعرق المنتج، وليس الدم الجامد المتختر/الخاتر، إنه النقي الذي يبعث الانتعاش والحياة، ويسقي قلب الأرض العطشى..
وماذا لو يتحول دمي المتفجر من عيني جداول
تسقي قلب الأرض؟ (ز.ج 9)
ويبقى الإبحار دائما مرتبطا بالدم، لكن هذه المرة سيحمل هذا الارتباط وظيفة دلالية أخرى ينتقل فيها من السقي إلى الاغتسال، وهو عملية تتم لرفع النجاسة، وأنجس النجاسة هو البؤس، لذلك فالاغتسال هو الذي سيخول للأرض/الوطن الخروج من نهر البؤس الذي تستحم/يستحم فيه:
آهٍ أيتها المستحمة في نهر البؤس

تلك بحار دماء تناديك
فاغتسلي (ز.ج 11)
إن الإبحار الدموي كما يحاول المشعر أن يقدمه للمتلقي جميل وممتع ويكتسب جماله ومتعته من كونه يحقق الكثير من علامات الخصب والازدهار، ولكونه أصلا ينطلق من مشعل رئيس ونقطة جوهرية في الوجود ورغبة مركزة في النفس ورؤية للكون والعالم والحياة والإنسان تستمد عظمتها ونقاءها وجمالها وسلاستها وبهاءها ومقوماتها وخصائصها ودعائمها ومكوناتها من وحي الله تعالى، من قرآنه الكريم، من جهة أنه يتقاطع دلاليا مع قصة موسى u في شقه للبحر بعصاه بإذن من الله سبحانه لإنقاذ قومه بني إسرائيل من قبضة فرعون وملئه، ومن جهة ثانية فهو نفسه يتم في جو محاط بتلاوة كتاب الله الكريم.. لذلك سيكون هذا الإبحار معصوما من الشطط، بعيدا عن كل ما يمكن أن يحوله عن أهدافه المقدسة ومراميه السامية..
كنا نشق طريقنا في البحر
.
.
كنا إذ نشق طريقنا في البحر نتلو كتاب الله. (ز.ج 62)
إنه الشق الشاق، والسفر الصعب، والطريق الوعرة، ولكن العدول عن الواجب والابتعاد عن امثتال الحق أشق وأصعب وأوعر، ولا سبيل إلى ترك الحق كيفما كانت الحال خاصة إذا كان الشاق/السالك يتوخى في سلوكه المرجعية الإسلامية، لهذا فإن المشعر يدعو من وعى حقيقة الغاية وفهم حق العمل من أجلها، يدعوه بروح جماعية تنصهر فيها الأنا والأنت والآخر، أن يشق الطريق في البحر، ويركب ويقتحم دون أن يسأل عن موعد الإبحار وزمن القيام به حتى لا يترك للخوف أوالخور أو التخلف أو الاستكانة أي منفذ يتسلل منه أحدها أو بعضها أو كلها إلى النفس التي تعتزم أن تكون على هذا السفر ومع ذلك الشق..:
كنا على سفر وكان طريقنا صعبا

وكنا نشق طريقنا في البحر
فاركب واقتحم معنا
ولا تسأل متى الإبحار؟.. (ز.ج63)
في هذه الصورة يجتمع إيقاع الزمن الماضي والزمن المستقبل مرورا بالزمن الحاضر.. إنها سلسلة متراصة الحلقات تعبر عن إيقاع الزمن النفسي الذي يتحكم في إواليات هذه المرسلة ويحرك إيقاعها الزمني الثلاثي الموحد، ويفعل فيه فعل الشق في عباب البحر..
إن الزمن النفسي ينسج خيوط الزمن الفعلي نسجا محكما يوحي بصورة تمتلأ بالرفض، والشعور بمسؤولية هذا الرفض ومدى الثقة في الحركة والعمل الدؤوب الذي يوصل في النهاية إلى الزمان الجديد.. إن الأفعال التي تمثل إيقاع الزمن الثلاثي تتمثل في فعل الكينونة الذي يتكرر ثلاث مرات - هو الآخر- والذي يحمل دلالة تـنصهر فيها الأزمنة النحوية المعروفة وتذوب تاركة فقط المعنى الذي يأتي ليؤكد استمرارية الزمن دلاليا على الرغم من كونه ماضيا نحويا.. إذن تصبح المرسلة بهذا المعنى ذات زمن مستمر لا ينقطع، أي ذات إيقاع زمني ثلاثي متشابك بتأثير فعل الكينونة الثلاثي أيضا، وهكذا يأخذ صبغة كونية..
والأفعال الأخرى التي تصور إيقاع الزمن الحاضر والمستقبل أتت في شكل أفعال الأمر الذي يأتي على وجه الاستعلاء والإلزام كما يقول البلاغيون، ويأتي على هذا الوجه ليدفع المأمور إلى الوصول إلى المستوى نفسه الذي عليه الآمر، إذن فهو تحريض على التساوي ورفض لكل دونية في الحياة.. إنه الوعي بمدى أهمية النون الدالة على الجماعة التي تلون المرسلة بالوعي الجمعي الذي يعتبره المشعـر بؤرة هذا الخطاب ككل..
ويمكن أن نلحظ على مستوى الأفعال أيضا مجموعة من المتقابلات تجسد لنا دلالات الإصرار على عدم المضي في التردي، كما توضح لنا مدى رفض الركون إلى الواقع المرذول والوضع المهزوم، ومدى رفض الإذعان إلى صعوبة الطريق ووعورة المسلك، ومدى رفض مبدإ الانهزام أو الاستسلام أمام المتبطات كيفما كانت، وهذه المتقابلات تأتي على الشكل الآتي:

كنا على سفر -------------- فاركب
كان طريقنا صعبا ------------ فاقتحم
كنا نشق طريقنا في البحر-------- فلا تسأل متى الإبحار

يجمع بين هذه المتقابلات رابط نحوي رئيس هو "الفاء" الظاهرة مع الفعل " فاركب" والخفية باستبدالها واوا ستؤدي الوظيفة نفسها مع الدالين " واقتحم" و" ولا تسأل".. فهذه الفاء تتجاوز كونها الرابط النحوي فحسب، لتصبح بمثابة قنطرة نحوية بين فعـل الكينونة الذي سيطر على بنية الصورة، وأفعال الأمر التي توزعت على مكونات الصورة.. أو يمكن اعتبار تلك الفاء بمثابة قنطرة دلالية تصل دلالة الكائن/الموجود بدلالة الممكن/المأمول..
تجمع إذن هذه الفاء وتمزج وتوحد وتصهر في بوتقة شعرية واحدة كل تلك المكونات لتعطي في الأخير علامة الرفض والاقتحام والإقدام والتحدي، ولتصور الدم في حلة جديدة، وتفرغ عليه معـنى جديدا لم يألفه في طبعه، وتعتصر منه ما قد يكون عكسه أو ضده.. ولتعطي كذلك صورة واضحة المعالم للمأمور/المدعو إلى تبني الرفض والإصرار على التحدي والوقوف في وجه المتاعب الكائنة والممكنة (كهيجان البحر وعمقه) مع الأخذ بالأسباب (كإحكام المركب، والتزود، والإقدام، والتجرد) التي تمكنه من بلوغ شط الأمان، وضفة السلام، ومن ثمة الوصول إلى الزمان الجديد:
أيها السالك هذاك الطريق

أحكم المركب فالبحر عميق
يا رفيق الدرب، والزاد قليل
فتزود (م.ر 27)

أيها الدرويش ما أنت؟
تراب في تراب
فاركب البحر ولا تخش الغرق (م.ر 90)
أيها الدرويش أبحر
وتجرد من مخيط الشهوة الأولى (م.ر 91)
تثير انتباهنا في هذه المرسلات الشعرية لفظة "السالك" ولفظة "الدرويش" التي تكررت مرتين، وهما لفظتان تنتميان إلى القاموس الصوفي مشهورتان عند المريدين، ولكن لا نريد الوقوف عندهما الآن لأن المهم عندنا اللحظة هو ذلك الأمر بالإبحار وإحكام المركب وعدم خشية الغرق، والدفع إلى تحدي العقبات والتصدي للمعوقات من أجل الوصول إلى الزمان الجديد الذي سيحقق معاني التكافل والتراحم والتآزر، ويزكي روح التعاون، و ينادي بالرفقة والصحبه في واقع يتميز بالتفرقة وبالقلة في الزاد والشحاحة في العيش، ويأمر أيضا بالتجرد من الشهوات الأولى/الحيوانية بعد التذكير بأصل الأشياء في الخلق، ويدعو إلى الترفع عن المستوى المادي/الترابي إلى مستوى أعلى/روحاني..
أيها السالك هذاك الطريق

أحكم المركب فالبحر عميق
يا رفيق الدرب والزاد قليل
فتزود (م.ر 27)
تتميز هذه المرسلة الشعرية كبعض المرسلات بالنبرة الخطابية التي تتجلى من خلال أسلوب النداء وأفعال الأمر ووضوح المقصد وبساطة التركيب اللغوي.. إلا أن هذه النبرة ليست خطابية نثرية فجة، بل هي تمتلك أدوات شعرية تتمثل الوضوح وتبتعد عن الإبهام، وهي بذلك واضحة، وتوضح أنها تقتفي أثر الأسلوب الشعري القديم الذي عودنا في أكثر نماذجه على الوضوح والبيان مع القصد والغاية بطريقة شعرية متميزة.. وهذا بطبيعة الحال لن ينقص من مستوى الشعر شيئا في عصرنا الحاضر بقدر ما يعطيه نكهة تكسبه جمهورا متفاعلا معه أكثر.. ومع هذا فلا نرضى أن تكون القصيدة كلها بهذا الشكل كي لا تضيع منها شعريتها أو شاعريتها، ولا تفوت عليها حشدا آخر من الجمهور المحب للنوع الجديد من الشعر غير الذي ألفناه في القديم وحتى في بعض الحديث..
نعود في هذه المرسلة إلى لفطة "السالك" التي تتضمن معاني الدروشة، بل هذه الأخيرة تعتبر من مدارج السالكين، قلنا إن لفظة "السالك" تـنتمي إلى قاموس التصوف بل تتصدره، وهي لفظة لها خصائصها ومميزاتها لكونها تتصدر حقلا دلاليا يمتاز بالروحانية وشفافية النفس وطهارة القلب وتنور البصيرة ووضوح المسلك والتزام الطريق على مبادئ الشرع الحنيف.. والسالك هو ذلك الفرد الذي يحمل كل هذه المعاني، فهو" العبد الذي تاب عن هوى نفسه وشهوتها واستقام في طريق الحق بالمجاهدة والطاعة والإخلاص " (17) إنه هو ذلك الفرد الذي تشبع بمثل هذه الأخلاقيات داخل جماعة ينتمي إليها، تُعْرَفُ بمقوماتها ومكوناتها وأسسها ومبادئها لها شيوخها ومريدوها ومعلموها والقيمون عليها، يتحركون في إطار جماعي من أجل غاية واحدة هي التزام الحقيقة الإسلامية فكرا وسلوكا ومنهجا ودعوة وجهادا.. كما تحيلنا هذه المرسلة في قولها " والزاد قليل فتزود " على الآية القرآنية التي يقول فيها الله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) (البقرة:196) وانطلاقا من هذا التناص تتأكد لدينا دلالة السالك التي ترتبط بدلالة التقوى أيما ارتباط، ولكن ليست من تقوى المتواكلين، ليست بالمعنى السلبي، وليست تلك التي ترتبط بذلك المفهوم المعوج، عند بعض السالكين، الذي لا يستقيم مع بنية الإسلام، وخاصة إذا عدنا إلى أسباب نزول الآية كما وردت عن ابن عباس t حين قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون،[ فإذا قدموا مكة سألوا الناس ] فأنزل الله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) (18)..
انطلاقا من هذا المعنى أصدر المشعر مجموعة من الأوامر في شكل أفعال كلها تدل على وجوب اتخاذ الأسباب، وتحمل معاني التوكل في دلالته الحقيقية (أحكم – تزود – اركب – لا تخش –أبحر – تجرد).. وذلك لكي يتم ما أراده المشعر لذلك الإبحار الدموي الذي يجب أن يؤخذ فيه بالأسباب كي يؤتي أكله..
كما أن هذا الزاد (بفعله واسمه) يحمل الخير والبركة ويشع بالتقوى، فهو مرتبط بشعيرة عظيمة تعتبر أكبر موسم يجتمع فيه المسلمون من جميع أقطار الكون، من كل صوب وحدب ومن كل فج عميق، رجالا وركبانا، ومن جميع الشعوب والأجناس والجنسيات وبجميع اللغات والألسن، إنها شعيرة الحج بما تحمل من معاني، منها التجرد من المخيط، وإيحاءات ومرامي وأهداف ورموز وغايات أخرى كثيرة لا مجال لذكرها هنا.. وتجدر الإشارة إلى تناص آخر يبرز مع قولة للإمام علي كرم الله وجهه المشهورة في إحدى خطبه حين جاء فيها:"السفر طويل والزاد قليل"، وإذا كان التناص الأول يأخذ المعاني التي أشرنا إليها سلفا في ارتباطه بكل ما توحي به شعيرة الحج، فإن التناص الثاني يمكن اعتبار مفعوله ساريا على مدى الحياة لكونه يرتبط بالعبور إلى اليوم الآخر أي إلى لقاء الله عز وجل، وهي رحلة العمر.. وهكذا يبدو أن لهذا التناص دلالته الخاصة التي أبرزت أن المشعر يمتح من معين لا ينضب متوخيا بذلك إضفاء البعد الإيماني والرؤية الإسلامية على كل مرسلة من مرسلات تنغيمه..
فهذا الدرويش، وهذا السالك، وهذا المسافر، وهذا المبحر، وهذا المقاتل المجاهد يسمع من كل الجهات الأربع صوتا وصداه يناديه وينادي الأرض التي يسكنها:
- يا أيها الإنسان إنك كادح كدحا

فشق طريقك الصعب الطويلْ
هذا أبو ذر
وتلك قوافل الغرباءِ، تنضح بالضياءِ
- من أنت؟
- سيف لاهب
وقصيدة خضراء
وقـَّـعها دم المستضعفينْ. (ز.ج59)

أيتها الأرض التي تنام خلف البحر
ياحديقة الموت
ويا مزرعة الدماءْ (ز.ج131)
على هذا الإنسان الذي يكدح كدحا في رحلته الدنيوية لملاقاة رب العالمين كما أوضح القرآن الكريم في قوله تعالى: ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)(الانشقاق:6) عليه أن يشق هذا الطريق الصعب الطويل، وأن يقتحم العقبة وأن يطلب الرفقة مع إمام المجاهدين من أجل المعدمين، وحبيب الفقراء والمحتاجين، وأول من جرد سيفه نصرة للمساكين أبي ذر الغفاري رضي الله عنه... وأن يطلب الصحبة لتلك القوافل من الغرباء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ]فطوبى للغرباء..[، والطوبى هذه هي التي جعلت قوافلهم تنضح بالضياء..
على هذا الإنسان أن يقوم بكل ذلك كي يخرج نفسه ويخرج هذه الأرض التي يسكنها من منطقة الخلفية أو من التخلف أو من التخالف أو من الاختلاف أو من كل هذه المعاني جميعا، وفي جملة معبرة واحدة " من خلف البحر"، لأن الذي ينام خلف البحر- حسب منطق المشعـر- لا يمكن أن يكون مع قوافل الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة الشريفة كما بينت في قراءتي السابقة "البحر والغربة"..
فإذا كنت أنت أيها الإنسان المنادى عليه هو السيف اللاهب والقصيدة الخضراء التي قام بتوقيعها دم المستضعفين، فلا يعقل أن تكون ذلك الفارس الذي يسكت على واقع تلك الأرض، فتمسي ذلك الفارس الذي لا يلوي على شيء، لأنك أخرجت من أرض تنام خلف البحر، ولا تخرج الأرض التي تنام خلف البحر فرسانا أكفاء، وبذلك سيكون مآلك الموت الممقوت/الانتحار لأنه:
ما تخرج الأرض التي تنام خلف البحر
غير فارس ينتحر (ز.ج132)
فمتى سيجمع ذاك المنادى تلك الألوان القزحية من حمرة وخضرة وزرقة، مازجا بينها بكل قوة ورباطة جأش، متحديا واقعا مأساويا لامرأة تتمدد بين المحيط والمحيط، لوطن
ما مات قيصر به
إلا وقام قيصر (ز.ج132) ؟