المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الانفتاح الفكري والتماسك العربي



د. تيسير الناشف
24/07/2007, 02:04 AM
الانفتاح الفكري والتماسك العربي



د. تيسير الناشف


في المجتمعات البشرية لا يحقق الاتصال الفكري التام. فإما أن ينعدم ذلك الاتصال أو أن يكون محققا بقدر أقل أو أكبر. وتقوم أسباب لانعدام الاتصال الفكري. وأحد هذه الأسباب هيمنة أو استحواذ فكرة من الأفكار على المرء. فهذه الهيمنة تسهم في الحيلولة دون أن يفكر المرء في صحة هذه الفكرة أو صلاحها أو مناسبتها أو خطأها أو فسادها إسهاما كبيرا. وتسهم هذه الهيمنة إسهاما كبيرا أيضا في الحيلولة دون تفكير المرء في صلاح أفكار أخرى أو مناسبتها أو خطأها.
وهيمنة فكرة من الأفكار على مرء تعني وجود قدر كبير من انغلاقه على العالم الفكري الذي حوله لأن الهيمنة الفكرية ستار فكري يكتنف صاحب الفكرة فيحجبه عن العالم الفكري. هذه الهيمنة، التي تشيع لدى كثيرين من البشر في جميع أنحاء العالم، أحد الأسباب الرئيسية لتشرذم البشرية، وعلى النطاق الأصغر لتشرذم المجتمعات إلى فئات مختلفة في مجالات السياسة والاقتصاد والمعتقدات والقيم والرموز الاجتماعية، مما يسهم في جعل عملية تحقيق التماسك الاجتماعي والشعبي مهمة أشق.
والفكرة تتكون من الذات والموضوع، من عنصر ذاتي وعنصر موضوعي. فالوطن، على سبيل المثال، ليس فقط قطعة الأرض التي ولد مرء فيها والتي هي كائنة موضوعيا بغض النظر عن علاقة ذات ذلك المرء بها ولكن الوطن أيضا كل الإشارات والرسائل المعنوية والعاطفية والقيمية التي تنسبها ذات ذلك المرء إلى قطعة الأرض تلك. ودعونا نسق مثالا آخر. العنبر والزعتر والزيتون والبرتقال في سياق التجربة الفلسطينية ليست نبتات قائمة موضوعيا فحسب ولكنها أيضا كل الإشارات والرسائل الوطنية والقومية والتراثية والقيمية والتاريخية والعاطفية المتشابكة التي تقرنها ذات المرء الفلسطيني والمرأة الفلسطينية بتلك النبتات. عندما يدور في خاطر الرجل الفلسطيني العنبر تقفز إلى ذهنه فورا صور أيام الطفولة والشباب في المدن والقرى الفلسطينية وحينما تلقي المرأة الفلسطينية نظرة على التجاعيد التي تكسو حبة البرتقال التي تقشرها بيدها وليس بالسكين تنتقل فورا بخيالها إلى بيارات البرتقال العبقة الرائحة التي تشيع الدفء في القلب في قلقيلية وطولكرم وغزة وسائر الأراضي الفلسطينية.
الفكرة نتيجة التفاعل بين الذات والموضوع. هي انعكاس للذات على الموضوع وانعكاس للموضوع على الذات. إنها نتيجة عن طريقة تعامل الدماغ مع الرسائل التي تنقلها حواس البشر من المدركات إلى الدماغ. وتختلف نسبة الذات والموضوع في كل فكرة تبعا لعوامل منها سلامة الدماغ والحواس ومستوى ثقافة المرء أو المرأة وفهمه أو فهمها.
وبالنظر إلى وجود المكون الذاتي في الفكرة فإن الأفكار لا بد أن تختلف الواحدة منها عن الأخرى حتى لو كان موضوع تلك الأفكار واحدا، وذلك لأن الناس يختلف بعضهم عن بعض. ولكن بالنظر إلى وجود المكون الموضوعي في الفكرة فإنه لا بد من أن توجد مساحات موضوعية تربط أفكار الناس بعضها ببعض. وبناء على وجود هذا الرباط ليس من السليم موضوعيا أن يستبعد مرء متمسك بفكرة ما الأفكار الأخرى كلها أو أن يعتبر ذلك المرء أن تمسكه بفكره يعني عدم مراعاة أفكار أخرى. وذلك لأن للأفكار المختلفة مساحات موضوعية مشتركة. وهذه المساحات الموضوعية المشتركة من المفروض أن تؤدي إلى عدم الإستبعاد المتبادل وإلى جزئية التشاطر الموضوعي. وكلما ازداد أبناء الشعب العربي، شأنه شأن أي شعب آخر، معرفة بهذه الحقيقة قلت العوامل النابذة وازدادت العوامل الموحدة فيه قوة. ففي مفاهيم الوطنية والقومية والقضاء على الأمية وعدالة توزيع الثروات مكونات موضوعية. ولا تتغير حقيقة هذه المكونات ومضامينها بتغير الأشخاص أو لا يكون الإقرار والقبول بموضوعية مكونات تلك المفاهيم رهنا بطبيعة شخصيات الأفراد في المجتمع المحلي أو الدولي.
ومن هنا فإن هيمنة الفكرة تتناقض مع اشتراكية المساحة الموضوعية للأفكار. فهيمنة الفكرة، التي تستبعد أفكارا أخرى، لا تراعي المساحة الموضوعية المشتركة. ورفض أفكار الآخرين لأنها تخالف الفكرة المتمسك بها او المهيمنة هو من قبيل الإجراء غير العقلاني لأنه لا يوجد ابتعاد كامل بين فكرتين لوجود مساحات موضوعية مشتركة بينهما. ويدل هذا الرفض على جهل هذه الحقيقة.
وللإسهام في تحقيق التآلف الاجتماعي وفي توحيد كلمة الشعب وفي إزالة الخلافات وإيجاد التماسك الاجتماعي من اللازم الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن الأفكار ليست جيوبا الواحد منها منفصل عن الآخر ولكنها بنى فكرية لها مساحات موضوعية مشتركة. الأفكار تشبه الأشكال الهندسية التي تتطابق أجزاء منها بعضها مع بعض ولا تتطابق أجزاء أخرى من أجزائها بعضها مع بعض.
ويمكن أن يحقق هذا الالتفات وأن يشجع عن طريق التنشئة المنزلية والمدرسية والتهيئة الإجتماعية والتوعية بهذه الحقيقة وبأهميتها الإجتماعية والسياسية والقومية.
ويبين ذلك كله أن هيمنة فكرة على فرد قد تحول دون معرفة الحقيقة إذا كانت تلك الفكرة خاطئة. لأن هيمنة الفكرة - كما سبق أن ذكرنا - تحبس صاحب الفكرة داخلها. فإذا كانت الفكرة خاطئة لا يتسنى لحبيسها أن يخرج عن نطاقها وأن يكسر قيودها منطلقا إلى اعتناق أفكار أخرى يفكر آخرون فيها. وإذ تهيمن فكرة من الأفكار على فرد ينبني في وجه هذا الفرد حاجز يحول دون قبول أفكار أخرى قد تكون صحيحة.
وفي الحالة التي يكون فيها المستوى الثقافي للأفراد مستوى غير منخفض والتي يكون فيها المجتمع مشربا بتقاليد تبادل الأفكار والاستماع والإصغاء والحوار والانفتاح الفكري وتوفر الاستعداد لأخذ المعرفة وتوفر التهيئة النفسية للتعلم -- في هذه الحالة تكون هيمنة الأفكار على الأفراد أقل لأن هذه الصفات تجعل من الأصعب على الفكرة أن تهيمن على الفرد. وحتى لو كانت أفكار مهيمنة على أفراد فإن الهيمنة في هذه الحالة تكون قيودها أقل وتكون أقل إحكاما، وبالتالي يكون الفرد أقل انقيادا للفكرة المهيمنة وأكثر انفتاحا على أفكار أخرى مختلفة عن الفكرة المهيمنة وحتى مخالفة لها.
ومن تجليات انحسار الهيمنة ومظاهر الإنفتاح على الفكر الآخر أن يترك المرء في فكره هامشا لاحتمال خطأه الفكري وأن يدرك أن الفكرة لا تتضمن بنيويا بالضرورة الحقيقة كلها لأن الفكرة مكونة بنيويا - كما أسلفنا - من عنصر ذاتي وعنصر موضوعي ذوي نسبتين مختلفتين في بنية الفكرة بينما تشتمل الحقيقة على قدر أكبر من العنصر الموضوعي، وأن يدرك المرء أنه لا حكر لأحد على معرفة الحقيقة.
وبانحسار الهيمنة الفكرية هذا وبهذا الإنفتاح الفكري تمد جسور الإتصال الفكري إذ تقل ظاهرة التجيب الفكري وتتعزز ظاهرة التغذية الفكرية والتأثير الفكري المتبادلين. وبهذا الإنحسار وهذا الإنفتاح يصبح الموقف الفكري مماثلا أو عاكسا لحقيقة تكوين الفكر من ذات وموضوع. وبالتالي يتم التقارب الفكري، مما يسهم في التماسك الفكري الإجتماعي للمجتمع، وهو التماسك الذي يحتاج مجتمعنا العربي إليه لتحقيق رؤانا الوطنيةوالقومية والحضارية.

رزاق الجزائري
27/07/2007, 07:34 PM
تحياتي اليك. د. تيسير .
قاعدة سليمة وفكرة اخرى من الافكار القيمة و كم نحن بحاجة لهكذا ثقافة مدنية .فواقعنا العربي الذي يتميز بالتصادم بين الحداثة و الثراث لم يستطع ان يهضم بعض الافكار الموروثة عن التقاليد. فمجتمعاتنا للاسف لا تتميز بالحوار انطلاقا من الاسرة .فرب اليبت يفرض نفسه على الكل و الاخ على الاخ او الاخت و هكذا دواليك .انطلاقا الى المجتمع الاكبر الذي ما زلنا لم نهضم فيه مفهوم الدولة الذي يقترن عند العامة دائما بمفهوم السلطة .و هذه في نظري سياسة حتى تبقى الفكرة و الايديولوجية حكرا على النظم التي لا تقبل مبدأ الفكرة المعارضة استبدادا و الغاءا بوسائل أخرى ولو كانت ديمقراطية بشكل صوري .
صار حالنا كحال تلفاز في خيمة لا نأخذ من الحداثة غير قشورها و بالتالي فالايديولوجيا عندنا تلغي كل الافكار المعارضة بدل احتوائها ..تقافة الحوار عندنا منعدمة فكيف بتلاقح الافكار.كما ان العنصر الذاتي يغلب على العنصر الموضوعي تماما في كل مقاليد حياتنا فكنا التناقض بعينه .البدء بالاسرة و التنشئة المنزلية كما قلت لانه منها تصنع الاجيال لنخلق الفهم الصحيح و الاحترام و منها يكون المردود صحيا..
قالو ان كل ايديولوجيا تحاول الغاء ايديولوجيا اخرى لاختلافها عنها لن تعمر اكثر من جيلها .لكن هناك استثناء عندنا لان الظاهر ان المشكلة عندنا ان كل شيء موروث حتى الايديولوجيا .

د.ألق الماضي
30/07/2007, 11:18 PM
د.تيسير ...
رائع ما قرأته هنا...
أثني على ما قاله أخي عبدالرزاق
أن غياب مبدأ الشورى كما وجد في الإسلام...لا كما يحاولون إفهامنا إياه قد أدى إلى ذلك التجيب...فأين نحن من ذلك المبدأ العظيم الذي قامت به أمة عظيمة كانت مشتتة الأجزاء ومشردة الأعضاء ومتعددة الأهواء والمشارب والأديان ومع ذلك سيطرت على قارات العالم القديم...إن صلاح أمرنا...وانفتاح فكرنا قائم على : " وأمرهم شورى بينهم " و" شاورهم في الأمر ".
تحية إكبار لقلمك56./,7