المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جدي



البشير الأزمي
01/07/2007, 03:26 AM
لم يعد السكون يخيم على بيتنا، مملكتنا الصغيرة، كما كان ينعتها أبي دائماً، تسلل إلى بيتنا الشيطان.. كانت تردد أمي كل حين وهي تتوجه بالكلام إلى أبي:
- منذ أن تركت الصلاة، و بدأت تقارع الخمرة، دخل الشيطان إلى بيتنا.
أصبحت ألاحظ التوتر الغير المعتاد على محيى الجميع.. انطفأ، فجأة و بدون سابق إشعار، نور الشمعة التي كانت تضيء بيتنا..و حلت مكانه غمامة رست على محيى أبي و أمي و إخوتي، لم أكن قد تنبهت لذلك من قبل..
تمددت على فراشي، في الحقيقة لم يكن لي فراش خاص، لأن بيتنا لم يكن يتشكل من أكثر من غرفة يتيمة و فناء صغير يستغل جزء منه كمطبخ في حين كان المرحاض مشتركاً بين أسرتنا و باقي سكان المنزل..تظاهرت بالنوم.. عدل أبي من وضعي و خرج إلى الفناء.. وصلني صوته المبحوح.. يفصل بين جملة بل كلمة و أخرى قُحَاب قوي ناجم من أثر تدخين السجائر الرخيصة..
كعادته، دون مقدمات و دون مراعاة شعور أمي، سمعته يقول: غداً سنأخذ أباك إلى المستشفى.. لم تنفع معه التعاويذ وزيارة أضرحة الأولياء ..الرجل فقد آخر خيط يشده لعالم العقلاء..أصبحنا حديث الجيران، بل أصبح الرجل عالة..خطراً محدقاً بأطفال الحي، حتى أطفالك لم يسلموا من أذاه.. قدم سكان الحي شكاية.. و غداً نأخذه للمستشفى.... لم يعد من لازم لبقائه في البيت..
لم تنبس أمي بكلمة ابتلعت مرارتها و سمحت لعينيها بري خدها بدموع سقت خدها و بللت الجزء الأعلى من منامتها، هكذا تصورت صمتها..


في الصباح تناولت وجبة الفطور مع جدي..أسترق النظر بين الفينة و الأخرى إلى وجهه علني ألحظ الفارق بين الإنسان السوي و الغير السوي الذي نعته به أبي.. بدأت أقف عند كل كلمة ينبس بها .. أتمعنها جيداً و أحاول جاهداً أن أدرك معناها و مدى مطابقتها للكلام العادي...


لم أكن أفهم جيداً ما يقصده جدي و هو يحدثني. فقد أصبح يجد صعوبة في الكلام.. يحرك فمه الخالي من الأسنان دون توقف، و بطريقة غير إرادية، فيتوهم من لا يعرفه أنه يقضي الوقت كله في الحديث مع نفسه أو في مضغ الطعام. يده اليمنى بدورها لا تكف عن الحركة، يحرك سبابته و إبهامه بطريقة آلية فيتوهم الرائي أنه يعد أوراقاً نقدية وهمية.. أنهيت تناول الوجبة بسرعة غير عادية و انسللت في غفلة منه.. صعدت الدرج المؤدي للسطح ركنت إلى ملجئي تحت السقيفة.. جلست القرفصاء و فسحت المجال لعيني لري خدي..


سمعت أصواتاً تقترب من الناحية الجنوبية للحي.. ومن على السطح الذي كنت أتخذه، وقت الشدة، ملجأً أختلي فيه بنفسي،….. شاهدت سيارة إسعاف مقبلة، توقفت، نزل الممرضون، تقدموا نحو بيتنا، وجدوا أبي في انتظارهم.. فسح لهم المجال للدخول، في حين سمعت حشرجة.. نزلت الدرج بسرعة دون خشية أن أقع.. أمي حافية القدمين، تخفي دموعها و راء صفحة يدها اليسرى، و تحمل أختي الصغرى بيدها اليمنى .. بيدها اليسرى تحاول تعديل سترة رأسها.. اقترب الممرضون من جدي ..لم يبد المقاومة.. و ثقوا يديه للخلف بالأكمام الطويلة للقميص الأبيض.. أدخلوه سيارة الإسعاف.. تحركت السيارة في اتجاه المستشفى مخلفة وراءها غباراً وصياح الأطفال الذين ركضوا وراءها.. ومن النافذة الصغيرة أدار جدي وجهه صوب بيتنا ..اقتعدت الثرى .. شتمت أبي في نفسي.. و بكيت كما لم أفعل من قبل..


تطوان فاتح يوليوز 2007

طارق شفيق حقي
01/07/2007, 04:02 PM
سلام الله عليك

أين هذه الغيبة أستاذ البشير الأزمي

حين عودتي سأعود إليك

حياك الله

البشير الأزمي
01/07/2007, 09:27 PM
سلام الله عليك

أين هذه الغيبة أستاذ البشير الأزمي

حين عودتي سأعود إليك

حياك الله
و عليكم السلام أخي طارق..
تغيبي مبرر..خاصة في هذه الفترة من السنة الدراسية
سأتغيب مدة ثلاثة أيام سفر عمل، ابتداءً من يوم غد الإثنين..
إلى اللقاء إن شاء الله. أتمنى ، عند عودتي أن أجد قراءتك و قراءة باقي الإخوان و الأخوات الأعزاء لنص" جدي"...

البشير الأزمي
01/07/2007, 09:34 PM
أقصد نصي المعنون "جدي"
لأن جدي لم يكن يعرف الكتابة و القراءة .. أحرى أن يكتب نصاً..:lol:

مريم احمد
28/08/2007, 09:07 PM
السلام عليك أخي البشير الأزمي نصك الجميل "جدي" ذكرني بقصة زمن الوجع للقاصة الكويتية" منى الشافعي" لمقاربتهما لنفس الموضوع مع اختلاف طبعا في الرؤية واقترابهما في ملامسة العلاقة الإنسانية : الجد / الأب/الحفيد/ الإبنة(الأم) ومواقفهم المتباينة.
نصك لايقل متعة عن النص السابق الذكر.

نهي رجب محمد
31/08/2007, 09:47 PM
:neeww:
شكرا لهذه الرائعة(جدي) عرف القاص كيف يقدم لنا الراوي الطفل الذي يحملذكاء الملاحظ لتصرفات الأب الجارح
سرت مع هذا الراوي الطفل،دخلت عالمه واقتنعت بمنطقه،وتذمرت في سري من الأب الذي تسبب في إبعاد جدي
الراوي الطفل قدم بصدق شخصيات(الأم المستكينة،الأب الغاشم،الجد )
شكرا علي هذا الجهد السردي
سهيلة31/8/2007

طارق شفيق حقي
05/09/2007, 11:52 PM
ومن النافذة الصغيرة أدار جدي وجهه صوب بيتنا ..اقتعدت الثرى .. شتمت أبي في نفسي.. و بكيت كما لم أفعل من قبل..

أعتقد لن أقول إلا أن القصة رائعة

استمتعت بها كثيراً

وجدت أسلوباً مختلفاً وقاصاً عارفاً

وأسأل هل يفي هذا العقل العارف بطفل صغير( بطل القصة)

رغم ذلك صورت أحاسيس ومشاعر طفل بكل صدق وخبرة

نهي رجب محمد
13/09/2007, 07:37 AM
الراوي الطفل هنا يفكر بمنطق وحكمة الكبار ،ولكنه يحمل صدق وبراءة الطفولة سهيلة

المصطفى
16/09/2007, 02:07 PM
دق الباب، هرعت أناي من ذاتي كأن انفجارا قدف بها لتكتشف من الطارق. منذ مدة وهي تحيى قبليا هذه اللحظة ، ذوات الزقاق الضيق تسأل اناي عن ذاتي ؛ غاب الجد ، انتزع من عالمنا الممكن . كيف ينزوي في هامش علينا أن نكتشفه في أسفارنا الطويلة القادمة في اتجاه النسيان كلما مررنا من حيث كان يجلس في خلوته يستعيد عبر ذوات الزقاق ذاكرة وطن هو بسعة الحلم ..هو الآن يتامل ذواتنا -من هامش ما -يرأف لحسرتنا ،يتألم لدموع ذات الصغير على سطح المنزل،يحرك فينا كل التفاصيل اليومية التي لم نأبه بها يوما ؛هاهي اليوم في عمق تفكيرنا تنزع عنها كل الحجب لتنكشف إشراقا توحدنا بجوهرنا ؛ تصدح بحضوره فينا، في كل ألامكنة التي مارسنا فيها شغبنا الطفولي ، في كل ألم ارتكاسي من جراء قسوة أب يتوهم تنشئة صغاره وفق خارطة طريق تتنكر لحكايات الجد المسائية فيها من عوالم الجدة أنين نساء كل الوطن ...لكنه الآن هنا بدون ملامح فيزيقية هو الجد الذي يسكننا ، يحدثنا ، يفتح باب غرفنا كل مساء ،يتحول عصب عالمنا الممكن.

المصطفى
16/09/2007, 02:13 PM
دق الباب، هرعت أناي من ذاتي كأن انفجارا قدف بها لتكتشف من الطارق. منذ مدة وهي تحيى قبليا هذه اللحظة ، ذوات الزقاق الضيق تسأل اناي عن ذاتي ؛ غاب الجد ، انتزع من عالمنا الممكن . كيف ينزوي في هامش علينا أن نكتشفه في أسفارنا الطويلة القادمة في اتجاه النسيان كلما مررنا من حيث كان يجلس في خلوته يستعيد عبر ذوات الزقاق ذاكرة وطن هو بسعة الحلم ..هو الآن يتامل ذواتنا -من هامش ما -يرأف لحسرتنا ،يتألم لدموع ذات الصغير على سطح المنزل،يحرك فينا كل التفاصيل اليومية التي لم نأبه بها يوما ؛هاهي اليوم في عمق تفكيرنا تنزع عنها كل الحجب لتنكشف إشراقا توحدنا بجوهرنا ؛ تصدح بحضوره فينا، في كل ألامكنة التي مارسنا فيها شغبنا الطفولي ، في كل ألم ارتكاسي من جراء قسوة أب يتوهم تنشئة صغاره وفق خارطة طريق تتنكر لحكايات الجد المسائية فيها من عوالم الجدة أنين نساء كل الوطن ...لكنه الآن هنا بدون ملامح فيزيقية هو الجد الذي يسكننا ، يحدثنا ، يفتح باب غرفنا كل مساء ،يتحول عصب عالمنا الممكن.