عشتار
04/04/2005, 05:01 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
"إنما يخشى الله من عباده العلماء"
من الطبيعي أن يكون الإنسان العالم بالله والمدرك لعظمته ومقدرته هو أكثر الناس خشية وخوفاً وطاعة له.
لكن من غير الطبيعي أن يؤدي هذا العلم والمعرفة إلى الجحود ونكران فضل الله أو تناسيه..
كم من طبيب استغل علمه ومهنته فيما يغضب الله وتجرد من كل المعاني الإنسانية التي تفرضها عليه مهنته وكان أولى به أن يكون أكثر الناس ورعاً وتقىً لما يعلمه من نعم الله علينا وإبداعه في خلقنا..
وكم من محامي درس القانون فكان أول من اغتصب الحقوق ونصر الظالم على المظلوم ..
وكم من عالم استغل علمه في الدمار والخراب بدلاً من نفع البشرية و إعمار الكون..
العلم بأنواعه ولا شك يُشعر الإنسان بشيء من الغرور والافتتان بنفسه، خاصة إن امتلك من الذكاء والفطنة ما لم يمتلكه غيره.. ولا بأس بالقليل من غرورٍ يقوي ثقته بنفسه وإعجاب من حوله.. لكن أن تتضخم عنده الأنا لتعمي بصيرته وحقيقة كونه مجرد إنسان مهما بلغ من العلم .. فهنا تكمن المشكلة..
وهذا ما حدث لبطل كريستوفر مارلو* في مسرحيته الأشهر الدكتور فوستس
كان الدكتور فوستس شاباً فقيراً متعطشاً للعلم .. دخل الجامعة ودرس مختلف أنواع العلوم في زمن كان العلم فيه حكراً على الأغنياء..
ألمًّ فوستس بالأدب والمنطق والطب واللاهوت وغيره .. ومع ذلك لم يشعر بالاكتفاء أو الرضا عن نفسه .. فكلها علوم بشرية يمكن لأي إنسان الحصول عليها .. وهو يريد شيئاً مختلفاً يمنحه طاقات تفوق مقدرة الإنسان العادي:
[align=left:7cbb066cbb]
Yet art thou still but Faustus, and a man.
Couldst thou make men to live eternally.[/align:7cbb066cbb]
كل العلوم التي حصل عليها لم تعد ترضيه.. فهي تشعره بالتخمة والشبع..
[align=left:7cbb066cbb]
How am I glutted with conceit of this!
Shall I make spirits fetch me what I please?[/align:7cbb066cbb]
فوستس ليس بالجاهل ولا بالمراهق الطائش الذي يتحدى الدين لمجرد الثورة والتحدي.. وإنما هو حب المعرفة والرغبة الإنسانية الملحة بالاقتراب من الشجرة المحرمة.. كان يعلم أنه يسير في طريق خطر لكن الشيطان تحكم به وأيقظ غروره وزيّن له عمله...
فهذا ما كان يطمح إليه:
[align=left:7cbb066cbb]Resolve me of all ambiguities?[/align:7cbb066cbb]
أعترف أني أحب كثيراً هذا البيت.. فمن منا لم تتملكه رغبة ملحة بتبديد كل الغموض من حوله!!
لكن خطأ فوستس أنه استعان بـ لوسيفر لكي يحرره من هذا الغموض ...
لوسيفر هذا هو الشيطان الذي عقد فوستس معه اتفاقاً بأن يبيعه روحه مقابل منحه قدرات إلهية خارقة لمدة أربعٍ وعشرين سنة.
وعندما يتحافل الإنسان مع الشيطان ويتنازل عن إنسانيته وروحه التي هي أغلى ما يملك .. يبدأ بالانهيار...
[align=left:7cbb066cbb]
Fools that will laugh on earth, must weep in hell.[/align:7cbb066cbb]
يتيه فوستس بعلمه وقدراته ويجوب العالم ويقوم بأعمال خارقة واكتشافات كبرى..
ولكن الأربع وعشرون سنة التي قضاها في تجبر واستكبار .. ستنقضي وكأنها أربع وعشرون ساعة فقط.. وذلك لأنه كان بعيداً عن الله ...
[align=left:7cbb066cbb]He that loves pleasure, must for pleasure fall.[/align:7cbb066cbb]
في المشهد الأخير من المسرحية ومن حياة فوستس، نرى كيف يتضاءل الإنسان بعد كل هذه الغطرسة والغرور..
فوستس بكل عظمته يستجدي الشمس لكي لا تغيب والنجوم لكي لا تطلع.. يستجدي سنةً أو شهراً أو أسبوعاً أو حتى يوماً واحداً لكي يتوب وينقذ روحه.. ولكن لن تفيده توبته في ساعة الموت..
كان لديه أربع وعشرون سنة ليتوب ويعود إلى الله .. والآن يطلب فقط أربع وعشرين دقيقة!!
بقيت ساعة واحدة في عمر فوستس.. وبعدها سيأتي الشيطان لإكمال الاتفاقية.. وقبض روحه..
تخيلوا شعور فوستس وهو يعلم بأن كل ما بقي في عمره ساعة واحدة وبعدها مصيره الجحيم الأبدي!!
[align=left:7cbb066cbb]Now hast thou but one bare hour to live,
And then thou must be damned perpetually.[/align:7cbb066cbb]
في هذه اللحظات هو مستعد أن يتخلى عن كل شيء ليفتدي به روحه .. حتى علمه ومعرفته التي قضى سنوات في الحصول عليها مستعد أن يتنازل عنها.. حتى عن كتبه ..
وكانت آخر كلماته.. جملته الرائعة هذه:
[align=center:7cbb066cbb]I'll burn my books.[/align:7cbb066cbb]
[align=center:7cbb066cbb]سأحرق كتبي[/align:7cbb066cbb]
كانت هذه الجملة عبارة عن استهزاء بالعلم والاكتشافات التي حدثت في عهد كريستوفر مارلو،عصر النهضة، ودليل على انهزام العلم أمام الدين .. وأن العلم لن يقدم شيئاً للإنسان إذا ابتعد عن الله ...
[align=center:7cbb066cbb]I will burn my books[/align:7cbb066cbb]
تعني أن العلم عندما يتحدى الدين فعلى الإنسان الوقوف بصف الدين...
وهذا ما فعله فوستس .. ولكن بعد فوات الأوان ..
خطؤه الوحيد أنه حاول الحصول على ما هو محرم .. حاول التحليق عالياً متجاوزاً استطاعته ومقدرته وحدوده البشرية.. فكان مصيره كمصير ايكاروس..
تقول الأسطورة الإغريقية أن ديدالوس وابنه ايكاروس* كانا محجوزين في سجن عالي الأسوار، وفكرا بصنع أجنحة من الشمع ليطيرا خارج السجن .. وفعلاً نجحا في خطتهما ونجا الأب .. لكن نشوة النصر والتحليق أسكرت ابنه ديدالوس فاستمر بالتحليق عالياً حتى لامس الشمس بجناحيه الشمعيين .. فأذابت أشعة الشمس المحرقة غرور ايكاروس المصنوع من الشمع!! ليسقط أرضاً بقوة تتناسب ألماً مع فرحة تحليقه..
المشهد الأخير من حياة فوستس يشعرنا بالحزن لأجله ويجبرنا على احترامه.. فعلى الأقل .. هو لديه ما يبرر غروره .. وهذا مالا بد أن يشعر به كل متعلم .. إنه الـ :
[align=left:7cbb066cbb]Vanity of learning[/align:7cbb066cbb]
فالعلم هو ما يميز آدم عن سائر المخلوقات.. "وعلًّم آدم الأسماء كلها"
وأن يغتر الإنسان بسبب علمه الذي حصل عليه نتيجة جهده و سعيه.. أفضل من الغرور لأسباب لا علاقة لها بالعلم.. كالجمال والمال والمظهر الخارجي الذي أصبح في أيامنا هذه لدى البعض أهم من الجوهر...
ودمتم بود...
هوامش:
*كريستوفر مارلو: ولد سنة 1564 ( تاريخ ولادة شكسبير) ويأتي بعد شكسبير كأعظم كاتب مسرحي انكليزي .. ولولا أنه مات في سن مبكرة لفاقت شهرته شهرة شكسبير. له خمس مسرحيات فقط والدكتور فوستس من أشهرها.
*ايكاروس، ديدالوس: من الأساطير الإغريقية.
"إنما يخشى الله من عباده العلماء"
من الطبيعي أن يكون الإنسان العالم بالله والمدرك لعظمته ومقدرته هو أكثر الناس خشية وخوفاً وطاعة له.
لكن من غير الطبيعي أن يؤدي هذا العلم والمعرفة إلى الجحود ونكران فضل الله أو تناسيه..
كم من طبيب استغل علمه ومهنته فيما يغضب الله وتجرد من كل المعاني الإنسانية التي تفرضها عليه مهنته وكان أولى به أن يكون أكثر الناس ورعاً وتقىً لما يعلمه من نعم الله علينا وإبداعه في خلقنا..
وكم من محامي درس القانون فكان أول من اغتصب الحقوق ونصر الظالم على المظلوم ..
وكم من عالم استغل علمه في الدمار والخراب بدلاً من نفع البشرية و إعمار الكون..
العلم بأنواعه ولا شك يُشعر الإنسان بشيء من الغرور والافتتان بنفسه، خاصة إن امتلك من الذكاء والفطنة ما لم يمتلكه غيره.. ولا بأس بالقليل من غرورٍ يقوي ثقته بنفسه وإعجاب من حوله.. لكن أن تتضخم عنده الأنا لتعمي بصيرته وحقيقة كونه مجرد إنسان مهما بلغ من العلم .. فهنا تكمن المشكلة..
وهذا ما حدث لبطل كريستوفر مارلو* في مسرحيته الأشهر الدكتور فوستس
كان الدكتور فوستس شاباً فقيراً متعطشاً للعلم .. دخل الجامعة ودرس مختلف أنواع العلوم في زمن كان العلم فيه حكراً على الأغنياء..
ألمًّ فوستس بالأدب والمنطق والطب واللاهوت وغيره .. ومع ذلك لم يشعر بالاكتفاء أو الرضا عن نفسه .. فكلها علوم بشرية يمكن لأي إنسان الحصول عليها .. وهو يريد شيئاً مختلفاً يمنحه طاقات تفوق مقدرة الإنسان العادي:
[align=left:7cbb066cbb]
Yet art thou still but Faustus, and a man.
Couldst thou make men to live eternally.[/align:7cbb066cbb]
كل العلوم التي حصل عليها لم تعد ترضيه.. فهي تشعره بالتخمة والشبع..
[align=left:7cbb066cbb]
How am I glutted with conceit of this!
Shall I make spirits fetch me what I please?[/align:7cbb066cbb]
فوستس ليس بالجاهل ولا بالمراهق الطائش الذي يتحدى الدين لمجرد الثورة والتحدي.. وإنما هو حب المعرفة والرغبة الإنسانية الملحة بالاقتراب من الشجرة المحرمة.. كان يعلم أنه يسير في طريق خطر لكن الشيطان تحكم به وأيقظ غروره وزيّن له عمله...
فهذا ما كان يطمح إليه:
[align=left:7cbb066cbb]Resolve me of all ambiguities?[/align:7cbb066cbb]
أعترف أني أحب كثيراً هذا البيت.. فمن منا لم تتملكه رغبة ملحة بتبديد كل الغموض من حوله!!
لكن خطأ فوستس أنه استعان بـ لوسيفر لكي يحرره من هذا الغموض ...
لوسيفر هذا هو الشيطان الذي عقد فوستس معه اتفاقاً بأن يبيعه روحه مقابل منحه قدرات إلهية خارقة لمدة أربعٍ وعشرين سنة.
وعندما يتحافل الإنسان مع الشيطان ويتنازل عن إنسانيته وروحه التي هي أغلى ما يملك .. يبدأ بالانهيار...
[align=left:7cbb066cbb]
Fools that will laugh on earth, must weep in hell.[/align:7cbb066cbb]
يتيه فوستس بعلمه وقدراته ويجوب العالم ويقوم بأعمال خارقة واكتشافات كبرى..
ولكن الأربع وعشرون سنة التي قضاها في تجبر واستكبار .. ستنقضي وكأنها أربع وعشرون ساعة فقط.. وذلك لأنه كان بعيداً عن الله ...
[align=left:7cbb066cbb]He that loves pleasure, must for pleasure fall.[/align:7cbb066cbb]
في المشهد الأخير من المسرحية ومن حياة فوستس، نرى كيف يتضاءل الإنسان بعد كل هذه الغطرسة والغرور..
فوستس بكل عظمته يستجدي الشمس لكي لا تغيب والنجوم لكي لا تطلع.. يستجدي سنةً أو شهراً أو أسبوعاً أو حتى يوماً واحداً لكي يتوب وينقذ روحه.. ولكن لن تفيده توبته في ساعة الموت..
كان لديه أربع وعشرون سنة ليتوب ويعود إلى الله .. والآن يطلب فقط أربع وعشرين دقيقة!!
بقيت ساعة واحدة في عمر فوستس.. وبعدها سيأتي الشيطان لإكمال الاتفاقية.. وقبض روحه..
تخيلوا شعور فوستس وهو يعلم بأن كل ما بقي في عمره ساعة واحدة وبعدها مصيره الجحيم الأبدي!!
[align=left:7cbb066cbb]Now hast thou but one bare hour to live,
And then thou must be damned perpetually.[/align:7cbb066cbb]
في هذه اللحظات هو مستعد أن يتخلى عن كل شيء ليفتدي به روحه .. حتى علمه ومعرفته التي قضى سنوات في الحصول عليها مستعد أن يتنازل عنها.. حتى عن كتبه ..
وكانت آخر كلماته.. جملته الرائعة هذه:
[align=center:7cbb066cbb]I'll burn my books.[/align:7cbb066cbb]
[align=center:7cbb066cbb]سأحرق كتبي[/align:7cbb066cbb]
كانت هذه الجملة عبارة عن استهزاء بالعلم والاكتشافات التي حدثت في عهد كريستوفر مارلو،عصر النهضة، ودليل على انهزام العلم أمام الدين .. وأن العلم لن يقدم شيئاً للإنسان إذا ابتعد عن الله ...
[align=center:7cbb066cbb]I will burn my books[/align:7cbb066cbb]
تعني أن العلم عندما يتحدى الدين فعلى الإنسان الوقوف بصف الدين...
وهذا ما فعله فوستس .. ولكن بعد فوات الأوان ..
خطؤه الوحيد أنه حاول الحصول على ما هو محرم .. حاول التحليق عالياً متجاوزاً استطاعته ومقدرته وحدوده البشرية.. فكان مصيره كمصير ايكاروس..
تقول الأسطورة الإغريقية أن ديدالوس وابنه ايكاروس* كانا محجوزين في سجن عالي الأسوار، وفكرا بصنع أجنحة من الشمع ليطيرا خارج السجن .. وفعلاً نجحا في خطتهما ونجا الأب .. لكن نشوة النصر والتحليق أسكرت ابنه ديدالوس فاستمر بالتحليق عالياً حتى لامس الشمس بجناحيه الشمعيين .. فأذابت أشعة الشمس المحرقة غرور ايكاروس المصنوع من الشمع!! ليسقط أرضاً بقوة تتناسب ألماً مع فرحة تحليقه..
المشهد الأخير من حياة فوستس يشعرنا بالحزن لأجله ويجبرنا على احترامه.. فعلى الأقل .. هو لديه ما يبرر غروره .. وهذا مالا بد أن يشعر به كل متعلم .. إنه الـ :
[align=left:7cbb066cbb]Vanity of learning[/align:7cbb066cbb]
فالعلم هو ما يميز آدم عن سائر المخلوقات.. "وعلًّم آدم الأسماء كلها"
وأن يغتر الإنسان بسبب علمه الذي حصل عليه نتيجة جهده و سعيه.. أفضل من الغرور لأسباب لا علاقة لها بالعلم.. كالجمال والمال والمظهر الخارجي الذي أصبح في أيامنا هذه لدى البعض أهم من الجوهر...
ودمتم بود...
هوامش:
*كريستوفر مارلو: ولد سنة 1564 ( تاريخ ولادة شكسبير) ويأتي بعد شكسبير كأعظم كاتب مسرحي انكليزي .. ولولا أنه مات في سن مبكرة لفاقت شهرته شهرة شكسبير. له خمس مسرحيات فقط والدكتور فوستس من أشهرها.
*ايكاروس، ديدالوس: من الأساطير الإغريقية.