المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النص الكامل لرواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد



د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:52 AM
صدور رواية «شغل الليل والنهار» لثروت مكايد
.................................................. ........

صدرت رواية «شغل الليل والنهار»، وهي الرواية الأولى لثروت مكايد عبد الموجود، الأديب والناقد المعروف. وهي رواية سياسية تتناول المشهد السياسي في مصر في تاريخها المعاصر.
صدرت الرواية في دورية «قصص قصيرة»، العدد الرابع.
صدر لثروت مكايد من قبل:
1-نحو أدب إسلامي: قراءة في رواية "الحب يأتي مصادفة" للدكتور حلمي محمد القاعود.
2-مسافر ليل: دراسة في فن القصة القصيرة عند الدكتور حسين علي محمد.
3-ثلاثية نجيب محفوظ: دراسة نقدية.

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:52 AM
الإهداء

" كأنما قُدر للدنيا أن تنوء بأصحاب القامات الشامخة ، فتروح تعذبهم وهم على ظهرها .. وقد يستمر العداء للعظمة حتى بعد أن يوارى أصحابها فى الثرى . إنه كلما زاد نصيب المرء من العظمة زاد حظه من عداء السوقة وجهل الجهلاء "
ثروت مكايد

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:53 AM
(1)
لم يكن لي أن أختار مهنتي .. ولا حتى زوجتي. لست حزينا لهذا .. غير أنى لست فرحا أيضا . ربما كان من الأفضل أن أختار .. لكنني لا أعرف ماذا كنت سأختار لو كانت لي حرية الاختيار. كل هذا لا يهم .. فالاختيار يتطلب الحرية، والحرية وليدة معرفة بالبدائل حتى يكون للاختيار معنى ، وكي يكون دقيقا .. وأنا لا أملك المعرفة المؤهلة للحرية ومن ثم فلا معنى للاختيار.
عموما فزوجتي جميلة .. هذا لا يهم .. المهم أنها تملك شقة واسعة، ولم يكلفني ذاك قرشا واحدا .. وهى بعد مثقفة .. يخيل إلى أنها مثقفة جدا ، فالكتب فى كل مكان فى الشقة حتى تحت السرير يوجد عدد من الصناديق المحكمة الغلق، ومدون على غطاء كل صندوق منها ما فى جوفه من كتب ومراجع .. رأيت ذلك بنفسي أثناء ذهابها للسوق، غير أنى لم أسألها عن كل هاته الكتب ، ولم أر مبررًا لسؤالي هذا . والحق أنني لم أضبطها وهى تقرأ .. وهذا لا يعنى أنها لا تقرأ خاصة وأنا أتغيب عن البيت فترة ليست بالقصيرة. عموما .. كل هذا لا يهم. أما ما أعجب له فإنه إعجابها الشديد بى حتى كادت أن تطير فرحا عندما علمت برغبتي فى الاقتران بها كما أخبرني بذلك زميلى الأستاذ عباس المصرى .. وقالت :
- أحقا تحبني كما أخبرني زميلك الأستاذ عباس المصري؟
قلت مرتبكا :
- ربما ..
- ماذا تعني؟
وزادت حيرتي، ونطقت بلا وعي:
- هذا لا يهم ..
ولما وجدت للحيرة مجالا فى وجهها، أردفت:
- نعم .. نعم أحبك ..
وتابعت بعد لحظة صمت مشحون بالارتباك والحيرة :
- إذا كان ذلك يرضيك فأنا أحبك ..
زادت دهشتها وطفح ارتباك بدد صفاء عينيها، وابتسمت, لتخفى دهشتها تلك بينما تابعت أقول:
- حقا .. أنا أحبك ..
قالت تخرج من ذلك النفق الضيق :
- الأستاذ عباس المصري أخبرني أنك من تلاميذ الشيخ عبد السلام النمل، وأنك جئت إلى هنا أكثر من مرة ، لتلتقي بالشيخ .. حاولت تذكرك .. لكنك تعلم أن المدينة كلها تلاميذ للشيخ .. وأحبابه فى كل مكان .
لم أنبس. فما رأيتها من قبل، ولا أعرف شيئا عن الشيخ عبد السلام النمل . نعم .. سمعت اسمه فى أكثر من مناسبة، وعلمت بنبأ وفاته الذي تناقلته وكالات الأنباء غير أنى لم أهتم بمعرفة شيء عنه. والحق أنه مذ ماتت أمي لم أهتم بموت أحد أو بحياته.
ولعنت الأستاذ عباس المصري فى نفسي، وتساءلت دهشا:
- لِم قال هذا !
- إنه صاحبك ..
وأردفت بعد صمت لم يطل:
- إذاً فأنت من تلاميذ الشيخ ..
قلت شارداً:
- ربما ..
كانت تنظر إلىَّ نظرتها إلى كائن عجيب لم تلتق بمثله من قبل، مما كان يزيد حيرتي. خطر ببالي أن أقوم وأنهى هذا اللقاء الثقيل رافضا الزواج، وأن أعترف لها بأنني لا أعرف الشيخ عبد السلام، ولا أحب أن تعرفه .. ولا أحبها وإنما ورطني الأستاذ عباس المصري تلك الورطة .. وقلت:
- حقا .. أنا .. أنا أحبك ..
وابتسمتُ ابتسامة بلهاء. لعلها تقول فى نفسها الآن: "يا له من أحمق غريب الأطوار !" .. وتابعت أقول:
- سيدتي أنا أحبك بالفعل، كما أحب الشيخ النمل أيضا ..
خُيل إلىَّ أن تلك هي النهاية .. نهاية المطاف، وأنها ستقوم لتطردني من شقتها المكتظة بالكتب .. وقالت:
-عموماً فالأستاذ عباس أخبرني أنك إنسان تحب الصمت، وأنك خام لم تكن لك صلة بامرأة قط ، وهذا يفسر لي كل شيء، كما أنه يسعدني بطبيعة الحال.
وعدت ألعن عباس المصري فى نفسي، وقلت:
- وأنا يسعدني الاقتران بك، ومواصلة مشوار الحياة معك كما أخبرك الأستاذ عباس المصري.

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:54 AM
(2)

كان عملى فى المستشفى رتيبا مملا . تقدمت له بالشهادة الثانوية العامة . لم يعرف أحد فى المستشفى أننى حاصل على ليسانس الحقوق .. ولا يهمنى أن يعرف أحد هذا . والحق أننى ما ندمت على شئ فى حياتى قدر ندمى على دراسة القانون وإضاعة العمر فيما لا جدوى من ورائه ولا مجال . ظهر الفساد فى البر .. والقانون هناك على الرف كتحفة جميلة غير أنه بين الحين والآخر يبدو لأمثالى أنا .. هذا كله لا يهم . المسألة أن ممرضة أعجبت بى وعرضت علىَّ أن أشاركها طعام العشاء ، فقلت :
- لا مانع عندى ..
وكأنها لم تكن تتوقع هذا الرد منى ، مما عقد لسانها لحظة ثم قالت :
- حقاً !!
- إذا كان هذا يرضيك ..
وقالت تكسر حاجزا صنعته هى من قبل :
- لم أكن أتصور أن تلبى دعوتى لك بكل هذه السهولة !
- ليه ؟
- لأنك .. لأنك ..
- ماذا ؟
- عدو النساء ..
لم أناقشها فى ذلك ، فقد علمتنى التجربة أن الإنسان هنا يتهم وكفى دون أن تكون هنالك دواعٍ لذلك الاتهام ، وعليه التسليم وكفى ، فأى محاولة لرد الاتهام محاولة فاشلة ، لذا قلت بلا مبالاة :
- لا يهم ..
وأشارت إلى لحيتى قائلة :
- وهذه !
أكانت تعبث إذاً ! .. أم تراها تمنت رجلا وكفى ، فصارعتها نفسها إلى أن وصلت معها إلى حل وسط .. تقبل هى على رجل شريطة أن يرفضها هذا الرجل ، ولما كانت تعتقد انى عدو للنساء ، فلابد أن أرفضها .. وعندما قبلت ذُهلت غير أنها سرعان ما ألقت بالأمر كله على الأقدار ، وإذاً فلا مبرر للانزعاج .. وقلت :
- ماذا فى لحيتى ؟
تمتمت :
- كنت أحسبك من آل ..
- ممن ؟
- من الإخوان .
وأردفت بعد صمت لم يطل :
- لكن حمداً لله أنك لست منهم .
وكأنما بعثت فى قلبى الوراء ، فارتعدتُ وتغير وجهى وتصبب العرق من جبينى ومددت يدى إلى لحيتى أتحسسها . أما هى فلم تكن أقل حزنا منى وذلك ما أثارنى .. وجالت بعينيها العسليتين فى سقف الحجرة الباهت . كانت تميل إلى السمنة فى غير بدانة ، وذات عينين واسعتين فى وجه بيضاوى برونزى اللون يزينه أنف دقيق يعلو شفتين عجفاوتين .. قلت :
ـ ماذا بك؟
ردت شاردة : - كان زوجى منهم ..
- ألكِ زوج ؟
وابتسمت عن أسنان ناصعة إذ لم تكن تتوقع سؤالى هذا, وربما لم تكن تحسبنى بكل هذه السذاجة مما شجعها وأزال قلقها ، وربتت على كتفى النحيل وقالت : ـ نعم مجرد حطام .
وتنهدت قائلة :
- إنه الآن يدور فى البلدان .. يدعو ..
- لكنه حطام ..
- نعم ..
واهتزت ، وكأنما أرادت أن تنفض عنها الذكرى ، وأردفت ضاحكة :
- لِم لم تسألنى عن اسمى ؟
- نعم ..
- أنا متأكدة أنك لا تعرفه رغم عملك فى شئون العاملين ..
_ هذا حق .
_ أنا لطيفة .
- هذا واضح ..
- لطيفة إبراهيم .
وتناولنا العشاء معاً ، وعرضت علىَّ أن أشاركها الفراش فى تلك الليلة ، فلم أمانع .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:55 AM
(3)

كانت زوجتى نحيفة ، مائلة للطول _ فى مثل طولى تقريبًا _ وذات وجه حالم يأسرك إلى عالمها بما فيه من غموض . وكأنها تكنز فى داخلها سراَ تنوء بحمله، فتراها فى كثير من الأحيان قلقة ، غير أنها توارى هذا كله بابتسامة دافئة تقابلك بها، وتدلف بك إلى عالم أسطورى .. وكأنك وأنت معها فى قلب حلم. لم أكن أخرج من البيت بعد عودتى من العمل : لا للصلاة أو لتلبية دعوة لطيفة إبراهيم .. كانت هى التى تحدد الوقت ولم أكن لأتأخر عن موعد قط ، كما كنت محافظاً على أداء الصلوات فى أوقاتها .. تلك عادتى مذ كنت فى الجامعة . لم أستطع أن أتخلف عن حضور صلاة الجماعة يوما _ اللهم إلا فى الظروف القاهرة _ رغم ما كنت أعانيه من شرود أثناء أدائها مما سبب لى الكثير من الضيق ثم تعودت على ذلك الشرود ولم أعد أفقه منها إلا قليلا .. أووه .. لم يعد هذا يؤلمنى .. المسألة أننى أجد لذة فى ذلك الشرود . لذة أتعذب بها وعذاباً يفرحنى ، لذا لم أتخلف عن الحضور للجماعة . كنت أذهب إلى المسجد وقت الصلاة دون تفكير ، وأتوضأ ثم أصلى ركعتين تحية للمسجد وأقعد منتظراً صلاة الجماعة .. ولو فاتتنى صلاة جماعة _ إن كان ثمة ظرف قاهر _ لا أقضيها وهذا شئ محير ، لكنى لم أقف لأفكر فى مثل هذا الأمر .. عموماً فالصلاة قربتنى من زوجتى أو قل قربت منى زوجتى إن أردنا الدقة .. وقالت : المرأة تطمئن فى ظلال الرجل الملتزم ..
قلت : ربما ..
ـ ماذا تعنى ؟!
ـ لا شىء ..
ولذت بالصمت وهززت رأسى . لا أعرف لماذا هززت رأسى ! ..ربما لأدفع عنها الخواطر .. أى خاطر مهما كان . لا أريد أن أفكر فى شىء .. أى شىء مهما كان .. وربما .. أووه .. لا .. لا .. لا يمكن .. أأهزها كما يهز كلب ذيله حين يلقى صاحبه .. وددت لو أنظر فى المرآة فى تلك اللحظة ، وهممت بالقيام بحثا عن المرآة لكن لم أفعل . تحسست وجهى بيدى ، وكانت هى تنظر إلىّ دَهِشة مما أثارنى ، فقلت لها : ماذا حدث ؟!
ـ لا شىء ..
قالتها وهى تبتسم . قمت من فوق السرير جامد الوجه بحركة سريعة ، وكأنما أردت الهرب من نظراتها المسلطة علىّ و تبعتنى .. تَمتمت :
- ماذا بك ؟
قلت : لا شيء بي ..
قالت شاردة :
- أنت شخصية تثير التساؤلات وتبعث على الحيرة !
- ربما ..
- أنا لا أعرف عنك أي شيء ، وما أخبرني به الأستاذ عباس المصري لم يرو غلتي .. من أنت ؟
- عبده .. عبده إسماعيل ..
وضحكت عن أسنان نضيدة بدت من فمها الدقيق ، وقالت تغالب ضحكاتها :
_ أنت إنسان طيب للغاية .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:56 AM
(4)

توتر وارتخاء .. ذلك أدق تعريف للحياة وصلت له . غير أن التوتر فى حياتى ظاهرة ، أما الاستقرار فما إن يلوح فى الأفق حتى تنقض عليه سباع الطير تنهشه نهشا .. وزوجتى تصر على فتح خزانة الأمس ذلك الوراء البغيض .. وددت لو أننى بلا أمس ولو اجتثتنى الريح ، وابتلعنى الإعصار ، فأمسى جهنمى وما إن يمر بخاطرى حتى يحيلنى إعصاراً فى زجاجة والزجاجة فى كهف مظلم كئيب .. وقالت وكأنها مكلفة من قبل الشياطين ببعثرة ما أنشده من هدوء وسكن :
- لا أعرف عن ماضيك أى شئ !
فقير ابن فقيرة .. وهذا لا يعنى سوى الغرق فى الظلم حتى الثمالة . أمى ماتت تحت أقدام اللئام . وقيل إن أبى ضربه ثرى حتى ذهبت روحه ولم تعد إلى سجنها الكريه . أما أنا فأكره الدنيا وقد بصقت عليها يوم ماتت أمى . أقصد يوم علمت بموتها . وجئت إلى هنا فاراً من أمسى النكد ، غير أنك تصرين على بعث العفن وقلت لها :
- لا أحب نبش القبور .
- أتسمى ماضيك قبرا !
- ليس فيه شئ يسر ..
- ذلك يثير فضولى ..
قلت ساخطاً :
- لا أحب أن أذكره ..
- ألهذه الدرجة !
أشحت بوجهى عنها وتمتمت :
- تباً للنساء !
وأردفت بتحدٍ :
- لن نتحدث فى ذلك ثانية و إلا ..
اختلجت شفتاها وتمتمت :
_ أنت إنسان غريب .
قلت بامتعاض :
- هذا حق .. ولا شىء يثيرنى غير بعث الماضى الذى مات ولا أريد له أن يعود .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:57 AM
(5)

" إنسان بلا وراء جثة هامدة " ... قالها عباس المصرى وهو ينهض بعد أن قصصت عليه ماجرى بينى وبينها بالأمس . كنت جافَا معه لدرجة أدهشته . وقلت أرد عليه قبل أن يصل إلى الباب :
- لكن الوراء إذا كان سماً كله ، فيجب أن نجتثه ، كيلا يسرى فى أوصال الحاضر فيدمره تدميرا .
رمقنى ساخراً وقال :
_ ليس الفقر عيباً يشين الرجال ..
وأردف بأسى :
_ إذا كانوا رجالاً .
قلت :
_ لكن الفقر فى غيبة القانون ذل .
وتفصد جبينى بالعرق . عاد إلى مقعده وقد شبك يديه من وراء ظهره .. وأردفت :
- ذلك الوراء حولنى إلى شبح .. إلى كائن لا حياة له . كائن مسجون حتى بعد أن خرجت من السجن . وأوووه .. أنت لا تعرف .. فى وسع أى جندى حقير لم يقرأ فى حياته كلمة واحدة أن يجرك من قفاك ويسب أباك وأمك ، ويضربك بحذائه بل يجعلك تقبل حذاءه ..
- أنت الآن حر ..
صرخت فى وجهه :
- لا .. لست حراً .. لا أحد هنا حر حتى الطغاة هذه أرض العبيد .. أرض الرعب . أنا أدرك هذا .
وغبت لحظات عن الوعى لست أدرى ما كان يجول بخاطرى ، أما هو فأسند ذقنه العريض إلى قبضة يمناه ، وأردفت :
- أنت لا تدرك لأنك لم تجرب .. لم تقع تحت وطأة الظلم .. الظلم ..
وتوقف عقلى . وجعلت أردد كببغاء لفظ " الظلم " .. نعم .. جعلت أردد الكلمة حتى قام عباس وهزنى .. هزنى بعنف وهززت رأسى ، وتذكرت الكلب ، وتحسست وجهى بيدى ، وقلت :
- أنا درست القانون وأستطيع أن أخبرك بحق أننا نحيا فى بلد لا يعد للقانون مكاناً يليق به .. هنا .. القانون سيف فى يد سادتنا . هم صانعوه .. وهم يرفعونه شعاراً لهم فى وجه الدنيا وفى نفس الوقت يغمدونه فى صدورنا نحن ..
وتلون وجهى ، وجعل العرق يتصبب منى بغزارة ، وتمتم :
- اهدأ ..
لطمت الجدار بيمناى وزادت دقات قلبى , وقلت بصوت أقرب إلى العواء :
- ذلك القانون لم يأخذ بثأر أمى .. أمى المصابة بداء القلب حين سقطت فوق الأرض لما ضربها جندى حقير جاء إلينا باسم " القانون " .. لا .. لا .. لا أريد أن أنبش قبراً كم حاولت ردمه ونسيانه .
- لست وحدك ..
- ذلك أدعى للعذاب .
- ما وراءك بالضبط ؟
أشحت بوجهى عنه بينما أردف مُصراً على بعث الوراء :
- من أنت ؟
- كافر ..
وارتجف كمن لدغه عقرب ، وقام مشدوها وكأنما عقدت الدهشة لسانه .. تمتم بعد فترة صمت غلى فيها داخله كمرجل :
- ماذا تقول ؟!
- لقد كفرت بالإنسان ..
وكأنما عادت إليه الحياة ، فابتسم ابتسامة باهتة واحتضننى قائلاً :
- أنت ترعبنى حقاً ..
- قلت لك لا تسألنى عن الأمس . أنا ابن اليوم بل ابن اللحظة .. ليس لى أحلام وما ينبغى لى هذا .. القدرة على الحلم تعنى الحياة ، و لست حياً . ذلك مناخ غير صالح للحياة .
وأردفت بعد لحظة ثقلت على قلبينا :
- زواجى كان محاولة فاشلة للهرب من الأمس .. أردت أن أغرق نفسى فى عالم المرأة المحدود ،لأنسى .. آه .. أنسى .. لكنى أخطأت الطريق ..
- أخطأتَ الطريق !!
- كنت أريد السكن ..
ساخراً قال عباس المصرى :
- ولم تجده ..
- دعك من تلك النبرة الساخرة ..
- وماذا أقول لك ؟
- تنصحها بالصمت ..
- إنها لا تعرفك ..
- وتريد ذلك بعد أن تزوجتنى ..
- من حقها ..
- ومن حقى أن أسكت ، أن أبلع لسانى حتى الموت ..
وأردفت حانقاً :
- لم أكن أريد الزواج .. أنت السبب .. نعم .. أنت .. حتى بعد أن رأيتها كنت أتمنى أن ترفضني.
- لِمه !
- لن تفهمنى ..
- أنت تُعَقد الأمور وتـ ...
قاطعته بعصبية :
- هبنى أنجبت ..هه ..
وضرب عباس كفا بكف وقبل أن يتفوه بحرف أردفت :
- ما ذنب طفل يأتى حياة لا أمان فيها .. نعم .. أنا أمشى فى الطرقات خائفاً ، وعندما ألمح شرطياً أزوغ منه كفأر حقير .. ولِم لا وفى استطاعته أن يجرنى ويسحلنى .. بل فى استطاعة أى حقير أن يبلغ عنى ، لأنى لم أبتسم فى وجهه وأهلل له ، وساعتها سألقى من الهوان ما تهون معه الحياة ..
وطفح الوراء فتدفَّقَتْ الدماء إلى رأسى وارتعشت وتابعت أقول دون أن أرى عباس المصرى :
- وربما أخذوها .. زوجتى .. كما ضرب حقير أمى ولم يرحم أناتها
- . هنا لا ضمان لشئ .. هِه .. كيف بعد هذا أدفع بكائن إلى هذا العالم القذر !
- الغد فى يد الله ..
ها هى ذى الصورة عادت لكن .. متى يخرس ذلك الصوت .. وقلت :
- هذا العالم من صنعنا نحن ..
- لن يدوم حال مهما طال .
- لكننا سنطحن إلى أن يتغير شئ ..
- بتفكيرك هذا لن يتغير شئ ، لأن التغيير رهن بنيتنا نحن بالتغيير وعلى قدر ما نسعى لامتلاك الحياة توهب لنا الحياة .. لم أكن لأتصور أبداً بـ ..
قاطعته وأنا أشيح بوجهى عنه :
- لم أخبر أحداً بأننى المهدى المنتظر .
- ما آسف له أنه زواجك منها .
- وأنا أكثر منك أسفاً .
وخرج ساخطا يضرب كفاً بكف ، وتساءَلت شارداً :
- ترى ماذا كان يظننى ؟ .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:58 AM
(6)

دنيا بلا طعم ولا رائحة . وأمك تناديك فى حلمك الرهيب . ولا أمل فى خلاص وهى تريد نبش الماضى وقفٍش الأمس الكئيب وعباس كان يحسبك إماماً , وربما ظنك من الإخوان . أما الشيخ عبد السلام النمل فما تسمعه عنه مجرد أساطير . وحين صرخت تستدعى قانونك الذى درست ، بصق فى وجهك جندى وقال : انا القانون وقلتُ : صدقتَ . وبصقت فى وجه الدنيا .
دنيا بلا طعم ولا رائحة .. ولا أمل فى خلاص ، فلم لا تموت ؟ .. لِم لا تدفن الحاضر والغد أيضاً ؟ .. والإنسان فى غيبة الحق أكثر ضراوة من ذئاب الجبال ، ولا حق ثمة .. وعباس يحلم . وكنت تريد أن تدفن الأمس وتعيش اللحظة وكفى .. ذلك محال , فالحاضر البائس ينعش الأمس الحزين . فى كل شبر مظلوم وظالم ، وفى كل زاوية سجن .. ولا أمل فى خلاص . ها هى ذى يتفجر الدم من وجنتيها ، فماذا حدث ! .. وقلتُ لها :
- عندى لكِ خبر لا أدرى كيف أنقله لكِ ..
أحاطتنى بذراعيها ، وطبعت فوق رأسى قبلة ، وقالت هامسة :
- وأنا ..
- ماذا ؟
- عندى لكَ خبر سار .
- لا شئ عاد يسر .
ردت :
- لن أتحدث عن الماضى ثانية كما أمرتنى ..
قلت ساخراً :
- لِمه !
- من الواجب علىَّ أن أطيعك ..
وأردفتْ :
- وأعتذر لك عما سلف منى .
وهمت بتقبيل رأسى مرة أخرى ، فابتعدت عنها ، وتابعت تقول :
- عموماً .. ما عندى من أخبار سيجعلك تقبل رأسى ..
ولما لم أنبس . أردفت فرحة :
- أنا حامل .
وتجمد الدم فى عروقى وتمتمت :
- كيف !!
قلتها ذاهلاً وقد طار لبى ، وارتعدت فرائصى ، وتلاشى ما فى عقلى من قدرة على التماسك . حامل .. ذلك محال .. وقلت :
- كيف حدث هذا ؟!
ردت ذاهلة :
- ألا تعرف كيف حدث هذا ؟!
- لا أريد أطفالاً ..
- الله يفعل ما يريد .
- لم أكن أتصور أنك بكل هذه القسوة ..
- ذلك عالم قذر .
- لا شئ يستمر إلى الأبد ..
- إلا هنا ..
- يا لله ! .. أبلغ بك اليأس ذلـ ..
ودق الباب دقات متلاحقة عنيفة . وتطلعت إلى الوراء وكأنما أنظر من طاقة فانخلع قلبى .. نفس الدقات ، ونفس الجو الكئيب ، وهى حامل . وأمى كانت عجوزا . تكورتُ فى جانب السرير ، ونظرتْ متسائلة ، فقلتُ :
- ألم أقل لك ذلك عالم قذر ؟!

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:58 AM
(7)

لم تكن هذه أول مرة يتم فيها القبض علىّ . كانت المرة الأولى أثناء دراستى فى كلية الحقوق . هاجموا الحجرة التى أقطنها مع أمى بأسلحتهم وعصيهم .. عدد لا يحصى من الضباط والجنود يخيل إليك وأنت تراهم أنهم ذاهبون إلى معركة كبرى ، أو أن عدواً قد استولى على أرضنا فهزتهم المصيبة حتى قاموا على قلب رجل واحد .. فى أعينهم إصرار ، وفى قلوبهم عزم على تخليص الأرض من ذلك المعتدى الغشوم , لكن الخيال يتطاير حين يحاصرون البيت بالرشاشات , ويزرعون السلم بالمدافع والقنابل , وتلتهب الحناجر بالسباب .. كل ذلك كان من أجلى أنا طالب الحقوق المعدم الذى أنهكه الفقر والمرض .
جو من الأساطير لا دنيا من البشر .. ولم يسفر التحقيق عن شئ . اتهامات لا أساس لها وقرائن واهية , ولا شئ غير قانون طاش لبه فراح يضرب ويعارك فى غير ما معترك . ظللت فى السجن خمس سنوات خرجت بعدها شبحاً .. لا شئ فى صورة شئ . مر ذلك بخاطرى وهم يقودوننى إلى المعتقل ، وعاودتنى صورة أمى أثناء الطريق أكثر من مرة , فما زاد من وطأة الزمن علىَّ , وشعور بالإحباط واليأس .. كانت محتقنة الوجه , دامعة العينين , وحين سألتْ احد الجند : لِمَ تقبضون عليه ! رفَسها فى صدرها بحذائه الثقيل ، فألصقها بالحصيرة الممزقة التى فرشت بها أرض الحجرة ، وتناثر الدم من فيها , فغامت الدنيا فى عينى , وسقطت كراهية القانون فى قلبى .. ولم أر أمى من بعدها . يالها من ذكرى ! .. ها قد خرج ما اجتهدت فى سجنه مع دقة الباب فى الفجر , ومع سير العربة إلى أن وصلنا إلى المعتقل . رمونى فى زنزانة ذات رائحة عطنة . لم أكن وحدى فقد كان بها شاب فى نحو الثلاثين من عمره ، اصفر الوجه .. نعم .. كان وجهه شديد الشحوب لدرجة واضحة بل لدرجة أذهلتنى لحظة عما أنا فيه ، وما أساق إليه . وكانت له لحية سوداء طويلة .. بدا كل هذا فى الضوء الشاحب الذى تسلل إلى الزنزانة وهم يرمون بجثتى داخلها .. اقترب منى ، وهمس :
- أهلاً بك على الطريق ..
وتراءت لى وهى تقول : "أنا حامل" ، فتأوهت . حامل ! .. كيف لى أن أنجب مظلوماً آخر فى عالم امتلأ عن أخره بهم .. عالم قذر . وكنتُ أمنى النفس بالخلاص , فأبت الأقدار ، وجاء من يحمل ذراتك ، وجئتَ أنت إلى هنا , ويقول لك أهلاً .. لا أهلاً ولا سهلاً بل العذاب كل العذاب . وجعلت كلمة "الطريق" تتردد فى أذنى مما أثارنى حتى كدت أن أضرب رأسى فى جدار الزنزانة التى تسلل إليها ضوء النهار الوليد عبر طاقة صغيرة فى أعلى الجدار المواجه لباب الزنزانة , لكنه أمسك بى واحتضننى قائلاً :
- تصبر ..
- لا شأن لك .
قلتها حانقاً . وتراءت لى بقع الدماء المتناثرة على الحصيرة المهترئة , فهاج قلبى وتساقطت من عينى دموع غزيرة .. وقال الشاب :
- عليك أن تتماسك ..
ولما لم أرد ، أردف :
- أعلم أن المسألة صعبة .. أنت لم تجرب هذا من قبل .. يبدو هذا من .. لا باس .. الإنسان ابن العادة .. فى وسع المرء أن يتحمل الجحيم فى الدنيا إن وضع فى ذهنه أنها فترة وستمر .. لكل شئ فى الدنيا نهاية .. أنا عندما يشتدون علىَّ أتذكر جحيم الآخرة فيهون على كل عذاب .
ونظر إلى الطاقة فى أعلى الجدار وأردف :
- ها هم فى الخارج .. خارج هذا المعتقل قد اعتادوا الظلم والذل و .. الصمت . نعم .. لكل طريق تبعاته .. مهما كان هذا الطريق .. ولو كان تافهاً .. ولو بدا لا شئ . لقد آثروا الصمت خارج القضبان ، فباتوا فى الذل والظلم ..
تركت أذنى له . ودوت فى أرجاء نفسى : "الظلم والذل .. والصمت" ، فاهتززت . لم يكن ينظر إلىَّ .. وتابع يقول :
- لا راحة ثمة فى الدنيا حتى لملوكها .. حتى لمن يعذبك ..
واقترب منى . أمسك بكتفى الأيمن وهزه هزة خفيفة وقال :
- إن ثباتك اشد وقعاً على قلوبهم من سياطهم على جسدك . السجن اكتظ بنا .. بخيرة شباب هذا البلد .. يوجد هنا معنا ثلاثة من الشباب . هم الآن فى غرفة الإنعاش . إنعاش الذاكرة كما يقولون . سوف تراهم وتسمع لهم . إنهم من خيرة شباب هذا البلد البائس كما قلت لك .. منهم الأديب والعالم والمفكر .. سوف تراهم . إنهم يعرفون غاية طريقنا ، لذا فلا صعب .. ما بالك بطريق غايته الجنة وصحبة المصطفى ..
واقترب منى .. إنه لمنبسط الأسارير وعلى وجهه الشديد الشحوب تسبح سكينة ، وفى عينيه البراقتين أمل رغم الجحيم .. نعم .. أمل ! . ويحدثنى عن غرفة الإنعاش ، ولا يدرى أنى زرتها مرات ومرات ، ونهشتْ فيها الكلاب لحمى ، وصعقتنى الكهرباء . وبقع الدم المتناثرة فوق الحصيرة المهترئة تتراءى لى وهم فى سعارهم يلهثون . وقالت لطيفة : إذا لم تكن منهم ، فلِم لَمْ تحلق لحيتك ! . لكننى حين أمسكت بالموسى وأسندت المرآة إلى الجدار ، تراءت لى بقع الدماء ، فكسرت المرآة وأدميت يدى .. وقال الشاب الشاحب الوجه :
- ما يفعله هؤلاء متوفع .. بناء الحضارة لا يقوم إلا على أكتاف رجالٍ صهرتهم الشدائد . من يثبت وقت الشدة إنسان ذو عقيدة .. ذلك ما نريده . إنسان قوى .. أقوى من السلطان حين يُمكن له فى الأرض .. ألست معى فى هذا ؟
وقبل أن أرد أردف هو :
- أنا إسمى رأفت .. رأفت منصور ، فما اسمك أنت ؟
- عبده ..
- تصبر يهون لك الصبر تلك نصيـ ..
وقطع حديثه فتح باب الزنزانة عن صوت دونه نهيق الحمير ، ينادى :
- عبده إسماعيل ..
ولما لم أرد ضربنى بقدمه فى صدرى ، وعوى :
- أنت أيها المعتوه ..
وتراءت لى أمى والجندى يرفسها ، وقمت نحوه فجرنى بعنف إلى الخارج ، واقفل باب الزنزانة . ساقنى جندى آخر غليظ الملامح وكأنه من خزنة جهنم ، إلى حجرة فى نهابة الردهة .. كانت متسعة ، يتوسطها مكتب بيضاوى يجلس خلفه رجل فى نحو الأربعين من عمره ، يرتدى بذلةً سوداء ، ورباط عنق أحمر .. وله وجه ضخم ، وصوت غليظ ، وشارب كث يرقد أسفل أنف اتسعت فتحتاه ، كما يربض كلب أمام قبر . كانت عيناه كسهمين يصوبهما لمن يقف أمامه ، فيزيده ارتباكاً ، ويحيل ثباته اضطرابا . وعن يساره يقعد كاتب فى قميص رصاصى وبين يديه أوراق كثيرة .. وتنهد الرجل قائلاً ببرود :
- أنت مرة أخرى ..
- ربما ..
وكأنما ألجمه ردى لحظة .نظر إلىَّ نظرة رادعة وقال دهشا :
- ماذا تعنى بـ ( ربما ) هذه !
- لا شئ ..
- بم اتهمت فى القضية الأولى ؟
- لا أدرى ..
- قضيت خمس سنوات فى المعتقل ..
- ربما
وعاد ينظر إلىَّ نظرته الرادعة الحبلى بالارتياب .. وقال :
- ماذا تعنى ؟
قلت :
- لا يهم الوقت ..
- ماذا تعنى ؟
- لا قيمة للوقت مادمت بلا قيمة .
ونفخ . نظر إلى الكاتب قائلاً :
- لا تكتب شيئاً حتى آمرك .
وعاد يسلط عينيه على وجهى .. وقال :
- لقد اشتركت فى مظاهرات تنادى بعودة الأحزاب فى البلد ..
- لم أشترك فى مظاهرات .
- لكن التحقيق اثبت أنك كنت رأس الحية ..
قلت :
- ربما ..
- ماذا تقصد ؟
- لم أعد أذكر شيئاً ..
وسكت لحظة . كان يتفرس فى وجهى بعينيه السوداوين ، ودق على المكتب بإصبعه .. وقال :
- لِم تزوجت من أرملة الشيخ عبد السلام النمل ؟
- ذلك قضاء الله .
قال ولم تزل عيناه مسلطتين على وجهى الهلع :
- نعم .. ذلك قضاء الله .. أن تتزوج أرملة الشيخ ، وبذا تحتل مكانه فى بيته ومن ثم مكانته فى المدينة , وفى قلوب الناس .. ذلك تفكير جهنمى .
إن إخطبوطاً يلف أذرعه حول عنقى وإلا فما معنى ما يقوله هذا الرجل ! ، وقلت أدفع عن نفسى ذلك الاتهام الخطير :
- انا لا أعرف الشيخ عبد السلام ..
رد ساخراً :
- لو سألت حجراً من أحجار مدينتنا عن الشيخ عبد السلام النمل ، لأطلعك على سيرة حياته من الألف إلى الياء ..
- صدقنى ..
- صدقنى أنت .. أى محاولة للإنكار لن تنفعك . أنت داهية .. ما كان إبليس نفسه ليطمع فى تحقيق ما حققته أنت فى ضربة واحدة .. تتزوج وتصبح زعيماً دون أن تدفع من جيبك مليماً واحداً .. أنت داهية .. صدقنى .. لم أر مثلك من قبل .
- لم يخطر لى هذا الذى تقوله على عقلى قط ..
- لقد أنكرت فى المرة الأولى علاقتك بجمعية إسلامية تدعى أنها تحيى التراث .. أليس كذلك ؟
أووه .. أى شيطان لعين يعبث بهذه المدينة ! . وكنت تريد طمس الوراء بما فيه .. ها هو ذا يعود سافراً رغماً عنك .. وبالكرباج .
وأردف المحقق :تكلم ..
- أنا .. أنا ..
- ماذا ؟
- أنكرت طريقة عمل الجمعية ثم تركتها ..
- لِمه ؟
قلت :لم يكن أحد منهم يعمل للإسلام أو للتراث ..
- وما الفرق بين الإسلام والتراث فى نظرك ؟
- تركت كل هذا من زمن ..
- لكن أقوالك التى سجلتها محاضر جلسات الجمعية تصرح بذلك الفرق ، وتدل على أنك كنت تريد أن توجه الجمعية وجهة لم يرض عنها أحد ، لذا رحبوا بتركك الجمعية .. بل دفعوك لأن تتركها ، فما قولك ؟
- واشتراكك فى المظاهرات .. لقد أنكرت ثم اعترفت عندما وجدت أن القرائن كلها ضدك .. لا تراوغ ..
- لم أشارك فى أية مظاهرات ..
وأردفت شارداً :
- ما حدث .. نعم .. لقد تظاهر الطلبة وكنت موجوداً .. لم يتم القبض علىَّ ساعتها بل بعد أسبوع من حدوث المظاهرة ..
وسكتُ ، فحثنى على الاستمرار بيده .. وتابعت أقول :
- لم أكن أعرف لِم يتظاهر الطلبة ، فقد كانت أمى مريضة ، ولم أجد ثمن الدواء .. كان كل تفكيرى قائماً على كيفية الحصول على نقود حتى أننى فكرت ساعتها فى السرقة .. نعم .. السرقة . وظللت أسبوعاً كاملاً منهك الجسد ، خائر النفس إلى أن قبض علىّ ..
قال المحقق ساخراً :
- قصة مؤثرة بالفعل .. ما أكثر القصص المؤثرة لديكم ! .. ألم توقع على عريضة الاتهام ؟
قلت :
- لم يكن بد من التوقيع على العريضة
- آه .. أنت تتهم الـ ...
قاطعته قائلاًَ :
- أنا لا أتهم أحداً .
- أنت لا تذكر شيئاً ، ولا تتهم أحداً ..
- هذا حق .
كان ينقر على المكتب بإصبعه ، وكان ذلك يثيرنى مع وقع نظراته المسلطة على وجهى ، وقال :
- كان من الممكن أن نتركك وشأنك .. ومن الممكن ذلك بطبيعة الحال شريطة أن تخبرنا بكل شئ ..
- لا شئ فى حياتى غامض .
- ما علاقتك بعباس المصرى ؟
وارتعش جسدى فجأة لدى سماعى السؤال . إننى لم أذكر أن عباس المصرى كان سبباً جوهرياً فى زواجى من أرملة النمل ، خوفاً عليه . تُرى أى نشاط يقوم به ؟ .. وقلت فى نفسى ساخراً من بلاهتى : "لكن أى نشاط تقوم به أنت !" . وقلت أرد عليه وقد بدا نفاذ صبره :
- زميل ..
- توطدت علاقتك به منذ قدومك إلى المدينة ..
- كان أول من استقبلنى .
- لِمه ؟
- لا أفهم سؤالك ..
- لماذا هو بالذات أول من استقبلك ؟
- ذلك شئ طبيعى إذ لا بد من وجـ ...
قاطعنى نافخاً :
- أتنكر أنه خطط معك للإيقاع بأرملة شيخك حتى تتزوج منها ومن ثم تسير الخطة كما رسمها معك ؟
- صدقنى أنا لا أعرف شيئاً عن الشيخ عبد السلام ..
- كذب ..
- صدقنى ..
- صدقنى أنت .. لن تستطيع الروغان هذه المرة . أنت متهم بإشاعة الفتنة بين الناس ، تمهيداً لقلب نظام الحكم .
وقعت كلماته على صدرى وقع الرصاص . فتنة .. نظام الحكم .. أنا أشيع الفتنة وأقلب نظام الحكم !! . خُيل إلىّ للحظة أنه يريد إثارتى وكفى .. لكن وجهه كان صارماً ، وكان الكاتب يكتب حين يشير إليه ، وكان يكتب ساعتئذ .. أيمكن أن يكون النظام بهذه الهشاشة حتى يتهمنى بمحاولة قلب النظام ! . ما دخلى أنا بنظام الحكم أو بأى نظام على وجه الأرض ! . كنت طالباً مجتهداً ، لأنى كرهت الفقر ، ووجدت فى نجاحى سلماً للإفلات من شبحه المخيف . وكان همى - كل همى – أن يتوفر الدواء لأمى ، لتستمر فى عملها البسيط كبائعة خضر ، لأتم تعليمى .. حتى الجمعية التى اشتركت فيها كنت مرغماً على القبول . نعم .. كان بوسعى أن أرفض من البداية ، لكننى لا أحب الجدال وكثرة النقاش ثم وجدت اجتماعاتهم مجرد ثرثرة ، وقد صرحت بذلك أمامهم ، لذا رحبوا بخروجى . أما أن أخطط لقلب نظام الحكم فتلك نكتة . نعم .. إنه يريد إثارتى أو .. لا أدرى ، فلا أستطيع أن أستشف شيئاً من هذا الوجه الجامد الثقيل . وتابع يقول :
- ما رأيك فيما هو منسوب إليك ؟
لم أنبس . كنت أنظر إليه نظرة حائرة , كما كنت أنظر إلى الكاتب الذى لم يرفع عينيه عن الأوراق التى أمامه . وضغط على جرس فجاءه جندى على الفور ، وقال له :
- أنعش ذاكرته .
وجرنى الجندى . أيتها اللعنة هذا أوان تنزلك ، فأين أنت ! كيف تأتى للإنسان أن يصير بهذه الوحشية ! . ووجدتنى فى حجرة واسعة .. كل شئ هنا مقلوب . شباب معلق من قدميه فى السقف ، ورؤوسهم إلى أسفل . عرايا .. وتأوهات تشق الأفق ودماء تتطاير هنا وهناك . فى كل زاوية من زوايا الحجرة المتسعة كلب وشرطى .. كلب يعوى والآخر يصيح ويضحك . لعل الكلب يحتج على تلك الصورة المزرية التى يراها للإنسان بينما يتضاحك الجند وكأنهم يشاهدون أو يشاركون فى حفل للألعاب النارية وربما حسبوه "السيرك" نصبوه ، وراحوا فى عبثهم يضحكون ويصرخون . كانت الأرض ملطخة بالدماء .. بالدماء الساخنة والأظافر والشعر . والسياط تتساقط متتابعة على الأجساد العارية المنتفخة ، والأيدى المتدلية المنهارة كأيدى الموتى , وأصوات منهكة تئن من وقع السياط , وصعق الكهرباء التى يتسلى بها الجند ، وأعينهم تفيض سروراً . دفعنى الجندى إلى الداخل .. إلى داخل الأتون المشتعل . تمتمت أستعطفه :
- سوف أعترف بكل شئ .. بكل ما تريدونه منى .
قهقه الجندى ، ولطمنى بكف ثقيل ، كادت أسنانى أن تقع فى حلقى من قوتها ، وقال بصوت خلع قلبى :
- ليس قبل أن تتعشى يابن الزانية ..
وأسر إلى الجند الممسكة بالسياط بشئ وتركنى لهم . ووجدتنى فى لا وقت معلقاً فى السقف عرياناً .. يا رب السماء لِم سمحت لهم أن يفعلوا بخلقك هذا ، وأنت يا جبار تراهم ! . وتقول حامل .. آ .. ه . وتلاطمت الآهات والأنين ، وصرخات الجند الملتهبة فرحاً مع لسعات السياط ، والدماء الساقطة فوق الأرض ، ونباح الكلاب , لتسطر مأساة لم يكن إبليس ليحلم أن يراها يوماً فى عالم الإنسان الذى رفض السجود له ممثلاً فى شخص أبيهم الكبير آدم .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 08:59 AM
( 8 )
لا أدرى كم من الزمن مر علىَّ وأنا معلق فى سقف الحجرة الجهنمية .. ولا أدرى أية خواطر خطرت لى ساعتها ، أكنت أصرخ ؟ .. تلك منطقة مظلمة فى عمرى . كل ما أذكره أننى وجدتنى ثانية أمام المحقق نفسه . كان يفرك يديه ، وتلمع عيناه بمعنى غريب لم استطع أن أتبينه . كما أنى لاحظت تطاير أظافرى ، وتساقط جلدى .. ياللهول ! . "إن شيئاً فظيعاً حدث لى" .. هذا ما أكدته لنفسى وأنا أتمايل يمنة ويسرة فقد كانت قدماى منتفختين حتى أننى كدت أسقط لولا وجود جندى ورائى يحمل سوطاً يضربنى به كلما مِلت ، فأعتدل رغماً عنى .. وقال المحقق :
- أنت متهم بالانضمام إلى جماعة محظورة ، والقيام بأعمال من شأنها أن تثير الفوضى فى البلاد ، وتهدد الأمن العام ، وذلك تمهيداً لقلب نظام الحكم ، ومتهـ ..
قاطعته دون وعى :
- أنا !
- لا تقاطعنى يابن اللئيمة ، ولا تتكلم إلا إذا أذنت لك .
وأردف بعد صمت لم يطل :
- يبدو أن ذاكرتك لم تنعش بعد ..
- بل أنعشت بما فيه الكفاية .
قلتها وأنا أمد يدى أمامى وكأنما أدفع عنى خطراً أعرفه .. ورد
ساخطاً :
- لا ألعب معك .
- سوف أعترف بما تريده يا سيدى ..
- ليس قبل أن تقلـ ....
قاطعته متوسلاً :
- سيدى .. سيدى .. سيد .. دى ..
لم أدر ما يقول . غير أن ذهنى شرد لحظة وأنا أردد لفظ " سيدى "
حين وقعت عيناى على عينيه ، ولمحت ذلك الطرب الذى أحدثته هذه الكلمة فيه ، وبان لى الحق جليا : نحن بالفعل سادة وعبيد .نعم .. عبيد لا نملك أى شىء .. لا نملك إنسانيتنا . حاولت أن أطرد هذه الفكرة من رأسى ، وكان من السهل علىَّ ذلك خاصة والمحقق قد أكمل ما قطعته أنا من حديثه ، فهزنى بعنف حيث قال :
- ليس قبل أن تقلد نباح الكلاب .
- سيدى ..
- دعنا نتسلى قليلا ، فقد أجهدتنى .. هيا اركع وانبح كما تنبح الكلاب .
وأشار إلى الجندى الذى يقف خلفى ، فضربنى بقبضته على ظهرى ، ووجدتنى على الأرض ، ووضع حذاءه فوق رقبتى قائلاً :
- نفذ الأوامر ..
وقلدت الكلب وهم يضحكون ، وصرخ الجندى :
- ارفع صوتك ، ليسمعك الباشا جيداً ..
وانخرطت فى بكاء لم أستطع أن أمنع نفسى منه . لم أكن أريد أن أبكى . ولعنت الدنيا وتذكرت قولها لى بأنها حامل ، فلعنتها هى الأخرى . وحين نهضت تراءى لى رأفت منصور ، وبريق الطرب فى عين الباشا المحقق ، فبصقت على رأفت ، وتناثر اللعاب على وجه الباشا مما زاد من هياجه ، ولكمنى الجندى بعنف فتناثر الدم من فمى وأنا أسقط ، وقمت مسرعاً نحو الباشا ، لأمسح الرذاذ الذى أصاب وجهه ، لكنى لم أصل إليه لأن الجندى عاجلنى بلكمة أخرى ، وتراجع الباشا إلى الوراء .. وقال ساخطاً :
- خذوه إلى جهنم ..
- لقد قلدت نباح الكلاب ياسيدى .
- لم تصن النعمة !
- لم أكن أقصدك أنت يا سيدى..
وجرنى الجندى إلى قاعة حمراء . أرضها عبارة عن قرص يدور بسرعة رهيبة ، ومن فوقه جثث ملقاة تئن .. كانت منتفخة . رمانى الجندى فوق القرص ، وضغط على زر فى الحائط ، فارتفع القرص حتى السقف ، وهبط بسرعة وعاد إلى الارتفاع فالهبوط ، والجثث تصطدم بالسقف ، فتشق تأوهاتها الواهنة المختلطة بالدم والهم أعتاب الأكاذيب المدعاة ، لتدين الدنيا بأسرها .. هنا لا زمن ولا حياة .لا أدرى كم من الوقت مر ونحن نصطدم بالسقف ونتهاوى إلى القاع ، فقدت الوعى .. الوعى بكل شىء ، غير أن أمى كانت تبدو لى بين الحين والآخر . كانت محتقنة الوجه ، والدم يسيل غزيراً من فمها . وبدا لى بطن زوجتى وقد انتفخ ، وتدلت منه رأس طفل .. وكان الدم يسيل غزيراً من فمه هو الآخر . وانتفضت فجأة فوجدتنى فى حوض ماء شديد البرودة ، وعلى حافته يقف عدد من الجنود بأيديهم سياط وعصى ، وكلما اقتربت من حافة الحوض ، ضربنى جندى بسوط أو عصا . لم أكن وحدى فى الحوض .. وبعد حين لا أستطيع تحديده جرنى جندى إلى حيث يجلس الباشا خلف المكتب البيضاوى ، وسألنى :
أنت الآن مستعد للتحقيق أم ....
- تمتمت لا هثاً :
- مستعد يا سيدى..
- أنت لست مثلهم ولكن القرائن كلها ضدك .. نعم .. إنهم يفاخرون بانتمائهم لله وإلى تلك الجماعة التى....
- لكنك لست منهم .
- نعم .. نعم ياسيدى لستُ منهم .. لست منهم .. لم أكن يوماً منهم ..
- لكن .. ما الحيلة ؟ .. أنت رجل طيب ووديع .. نعم ..
- نعم .. نعم ..
وأشار إلى الكاتب .. وقال :
- وبمواجهة المتهم اعترف بما هو منسوب إليه من جرائم ، وبما اقترفه فى حق الوطن و .. كنت أنتبه على بعض الكلمات التى ينطقها المحقق ثم أغيب عنه . وعادت كلمة " الطريق " تدب فى أحشائى، ورأفت منصور يهز كتفى ووجهه الباهت يقطر ضعفاً ويقول : " لأنت بثباتك أشد عليهم من سياطهم على جسدك " .. وبصقت ثانية ، فهاج المحقق ، وأخذنى الهلع ، وقال :
- يابن الزانية .. أنت متهم بمحاولة قلب نظام الحكم ..
- نعم .. نعم .. نعم ..
والتفت إلى كاتبه قائلاً :
- إلى أين وصلنا ؟
- بقى أن يوقع المتهم ..
ووقعت أسفل الورقة ثم وجدتنى فى الزنزانة من جديد

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 09:00 AM
( 9 )

لم أذهل مما كان يحدث كما فى المرة الأولى التى اعتقلت فيها وقت أن كنت أطلب القانون فى كلية الحقوق . نعم .. لم أذهل نعم التقدم الملحوظ فى وسائل التعذيب والتنكيل بالمعتقلين ، فالفكر الذى يحرك الإنسان عندنا لم يتغير بعد ، ولا أظنه سيتغير .. ربما استمر الحال هكذا آلاف السنين . كل شىء هنا يدعو لليأس . فى المرة الأولى خرجت بيقين ثابت بأن القانون وُضع للصغار .. للحشرات القذرة من أمثالى . ما أشبهه بإله العجوة ذلك الذى كان يصنعه كفار قريش ثم يأكلونه وقت الحاجة ، ورغم ذلك يلزمون عبيدهم بعبادته والسجود له . نعم . خرجت بهذا اليقين من معتقلى الأول . ولم أعمل فى المحاماة أو أى عمل يمت بنسب إلى القانون . وعندما أُعلن عن وظيفة تطلب حملة الثانوية العامة أو ما يعادلها تقدمت بطلب ونجحت ، وسرت فى الحياة سيرة حمار يُضرب ويلعن ويُسب وهو يمخر فى الهواء دون أن يبالى بشيء ... ماضٍ وددت لو أنساه كله .. لكن هيهات ! ، فالقرائن كلها ضدك . عباس المصرى والشيخ .. الشيخ عبد السلام النمل ! . ترى من يكون هذا الشيخ ؟.. تراها كتبه القابعة هناك تحت السرير ؟ . وكنت أحسبها ذات ثقافة .. المودودى ، وحوى ، وقطب ، ودراز ، وعودة ، والقاعود ، وهلم جرا من أسماء تدين حملة أفكارهم . جريمة رأى ! .. آ .. ه . ثم محاولة قلب النظام ! عبث فى عبث ولا أمل .. بل لا جدوى فى التعلق بأمل ما حتى ولو كان الأمل فى الموت نفسه . ياله من مأزق لن تخرج منه إلا بمعجزة .. وابتسمت . ربما كانت هذه أول مرة أبتسم فيها منذ .. منذ متى ؟ .. لست أدرى . ولأول مرة _ كذلك _ ألاحظ وجود ثلاثة أشباح حولى .. فى الزنزانة .. يالله ! . كأنهم تماثيل ! .. لكن .. أين ذهب ؟ .. قلت :
- أين رأفت .. رأفت منصور ؟
هز أحدهم رأسه ، وتمتم :
- ذبحوه ..
- مات ؟
- بل استشهد ..
- الكلاب .
نطقتها بلا وعى ، وعندما شعرت بها ، تعلقت عيناى بباب الزنزانة وقلت لنفسى أزجرها : " لا شأن لك بشىء .. نعم لا شأن لك بشىء " . وارتعش جسدى ، و عادودتنى صورة المعذبين فى غرفة الإنعاش وفى القاعة الجهنمية الحمراء .. وقلت :
- كيف علمت بهذا الخبر ؟
- كنت معه .. رأيته وهو يلفظ أنفاسه تحت وقع السياط ؟ كان معلقاً من قدميه فى السقف ، وأصابه نزيف .. ظل ينزف من فمه حتى مات . نعم .. رأيته وكان ينظر لى نظرة ذات مغزى وكأنما يقول لى : سجل كل هذا الذى تراه علَّ جيلا يفيق .. وكان رغم الآلام متفائلاً حتى آخر لحظة . نعم .. حتى وهو يئن تحت وقع السياط .. نظراته نؤكد هذا .
وقلت:
- نعم إنه متفائل بالفعل .
- أو تعرفه ؟
- استقبلنى هنا وحدثنى عنكم .. لم يقل شيئا غير أنه ذكر لى أن منكم الأديب والعالم والمفكر الحر هو قال هذا ، وكان يبتسم مع شحوب وجهه وضعفه ..
وغرقت فى الصمت . صمت كئيب ثقيل . وانخرطت فى بكاء حار .. لمْ أدر بالضبط لِم أبكى . وتراءت لى أمى وهى تحت الأقدام ، ورأيتنى وأنا راكع أمامهم أنبح كما ينبح الكلب . اقترب منى أحدهم وربت على كتفى .. وتمتم هامساً :
- صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة .
- الجنة !
قلتها دهشاً . لم يلحظ أحدهم دهشتى تلك ، ولعلهم لم يتصوروها ولم يخطر ببالهم أنى فى الدهشة غارق .. وقال محدثى أيضا :
- أنا محمود .. محمود سعيد . طالب فى الدراسات العليا .. كلية الزراعة ..
وأردف بعد لحظة صمت لم تطل :
- ماجاء بك إلى هنا ؟ .. وشاية ؟ .. أم تراك فكرت فى استخدام عقلك يوما ًما ؟
وقبل أن أنبس تدخل آخر فى الحديث قائلاً :
- فى غيبة القانون لا تسل عن التهمة .
- هذا حق .
قلتها وأنا أهز رأسى ، وكأنما نطقت بها كل ذرة من ذرات جسدى ، بينما أردف هو يقول :
- محدثك مدحت شكرى ، معيد بكلية الحقوق .. وهذا القابع هناك فى ركن الزنزانة ، عادل النمل .. كاتب قصة مغمور ، وابن خالة رأفت منصور الذى رأيته أنت .. قتلوه الكلاب .
- بل استشهد ..
قالها عادل النمل دون أن يرفع رأسه وقد كانت بين ركبتيه . وردد خاطرى اسمه مرات ومرات .. أهناك صلة قربى بينهما ؟ .. وقلت :
- هل هناك صلة قربى بينك وبين الشيخ عبد السلام ؟
أخرج بوزه من بين ركبتيه ،ونظر إلىّ ملياً وتمتم :
- إنه معلمى ..
- أقصد ..
- سلمان منا آل البيت .
- أقصد ..
- نعم ..
وعاد إلى وضعه الأول دافناً وجهه بين ركبتيه . كان عادل النمل طويلاً نحيفا ، كث الشعر ، غامق السمرة ، وفى عينيه حور .. وفيهما إرهاق . إرهاق الشارد أبداً بحثاً عن شىء ما .. عن شىء ما يكاد يضع يده عليه إلا ويفر من بين أصابعه ولما أعدت إليه عينى ، قال مدحت شكرى :
- كانت صلته قوية بالمرحوم رأفت ، وقد رآه وهو يلفظ أنفاسه دون أن يكون فى وسعه صنع شىء له .. الإحساس بالعجز إحساس قاتل بالفعل ..
ورفع يديه إلى السماء وهمهم بكلمات لم أتبينها ، غير أنى تبينت فى يده ما أذهل لبى ، وأصابنى برجفة هى بالزلزال أشبه .. وتمتمت مشدوهاً :
- أنت .. أنت ..
اقترب منىحين وجد الدهشة عقدت لسانى ، وربت على كتفى قائلاً :
- لا تعجب .. نعم أنا مسيحى كما رأيت . نحن فى قارب واحد ، والحرية مطلب الجميع . لقد رحب أجدادنا بفتح الإسلام لمصر ،لأنهم أدركوا معنى الإسلام ورحابة سمائه وقوة نظامه .. أدركوا جيداً أنه ما جاء إلا ليحرر الناس من الناس ، وفهموا هذا فهماً جيداً حتى أن القبطى حين وجد من ابن العاص أمير مصر ساعتئذ ميلاً عن المعنى الذى فهمه من الإسلام ، طار لفوره إلى أمير المؤمنين فى المدينة ، ليقوم اعوجاج الفهم لدى عامله على مصر .. الإسلام يا صاحبى نظام عظيم يحارب من أجله كل صاحب دين , لأنه الضمان الأوحد لكل صاحب دين على دينه ,.
قلت :
- لحيتك .. ربما كانت السبب فيما جرى لك ..
رد قائلا :
- ليست لحيتى ، إنما هو الظلم الذى عشش فى أرضنا وباض وأفرخ .. والشعور بالمسئولية اتجاه كل إنسان وإن اختلف معى فى العقيدة .
- لِمَ لَمْ تخبرهم !
- من ؟
- الذين ...
قاطعنى قائلا :
- التحقيق لم يزل مستمراَ ..
ثم أردف بعد لحظة وهو يضرب كفاً بكف :
- يحسبون أنها خدعة !
- ياله من مأزق !
كان مدحت متين البنيان , كبير الرأس , جاحظ العينين .. ويرقد فوق شاربه الكث أتف ضخم يميل لونه إلى الرماد ولولا اللحية التى ملأت وجهه لبدا التباين واضحاَ بين الوجه والأنف . ابتسم مدحت عن أسنان عريضة مائلة للصفرة , وقال :
- هذه بلدنا .. وما يحدث هنا لم يكن ليتصوره عاقل . إنه أشبه بما كان يحدث من اضطهاد الرومان للمسيحيين القدماء .. وهذا دليل واضح على صحة الفكرة ثم هو لم يمنعها بحال وإنما يزيد من ظهورها وإلا فماذا فعل الرومان واليهود وقد صلبوا السيد المسيح ؟ .. لقد انتشرت المسيحية فى أرجاء الدنيا وتنصرت روما وماذا فعل كفار قريش وهم يعذبون أنصار محمد ؟ .. لقد انتصر محمد يوم دفعوه إلى ترك وطنه هرباً من بطشهم وظلمهم . الإنسان فى الحياة يحسب نفسه شيئاً إذا ملكه الله سلطاناً أو مالاً فيروح يعذب أبناء الله .. لكنه مخلوق ضعيف لا

يعرف ولا يدرك أى شىء .. أى شىء ..
قلت شارداً :
- نعم .. هذا حق .. الإنسان مخلوق ضعيف .. ضعيف جداً .
وقال محمود سعيد :
- لكى لا تنبت البذرة فلابد من دفنها .. إن ذلك طريقها الوحيد إلى الإنبات ومن ثم الإثمار . والدعوات إن لم يقاس أصحابها ويلاقوا من الصعاب والشدائد ما يقوى من عودهم ، فلا استمرار لها . الشدة تصنع الرجال وتنفى الصغار عن الطريق .
قلت :
- نعم .. هذا حق .. البذرة لكى تنمو ، لا بد لها من أن تدفن فى الأرض .
وقرأ محمود سعيد قول الحق :
- " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريب " .
كان محمود سعيد ربعة ، رائق العينين وسيماً مع هم ظاهر أورث وجهه هيبة . وعجبت كيف تأتى للجند أن يعذبوا مثل هذا الوجه.

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 09:00 AM
(10)

فى معتقلى الأول لم أر مثل هؤلاء .. كانوا طلبة . وبمعنى أدق كانوا عاطفة متأججة دون أن يمد هاته العاطفة فكر يحيل هياجها ثباتاً , وينفى عنها الدخان الكثيف الذى منع عنها الرؤية . والحق أننى لم أكن مهتماً بشئ مما كانوا هم يهتمون به من رفض للحكم الشمولى , والتدخل الروسى وهلم جرا من أشياء لم تكن تشغل حيزا فى نفسى .. كان همى كله ينصب فى الدراسة والتفوق حتى أنجو من شبح الفقر الذى خيم على حياتنا .. أنا وأمى . أعطنى مسكنا وطعاما وساعتها سأفكر فى هيمنة الفرد وتدخل الآخر أما أن أموت جوعا ثم أشارك هؤلاء فى غضبهم لأن الشرق أو الغرب يتدخل فى المنطقة فذلك لم يكن ليخطر لى على بال .. والحق أننى لم أحاول فهم قضيتهم .. حقائق كثيرة كانت غائبة عنى وعنهم أيضاً .أما هؤلاء فثوابت شامخة , لم ألتق بمثلهم من قبل .. حتى عباس المصرى .. أووه .. عباس المصرى . ربما كان ينظر إلىّ نفس نظرتى إليهم ويحسب أن صمتى هم بالوطن وتفكير فى كيفية الخلاص من ذلك الجمود والركود والتخلف ، ولما استبانت له حقيقة أمرى ، ركلنى .. نعم ركلنى حين سلطت الأحداث وهجها علىّ .. على ذلك التمثال الذى صوره له الوهم وحين أذابه الوهج يعض على يديه ندما .. وربما ذهب إليها ، ليبثها همه ، ويعترف لها بأنه خُدّع فىّ وأننى لا أعرف الشيخ عبد السلام ، وليس عندى مبدأ ولا وعى لدى ، وليس فى عقلى غير أوهام وشعور بالضعة والهوان . قطع على سبيل خواطرى قول عادل النمل يخاطب مدحت شكرى :
- ما كنت لأتألم كل هذا الألم لو كنـ ...
قاطعه مدحت قائلاً :
- صدقنى ..لستَ السبب فيما يجرى لنا هنا ..
- بل أنا السبب فيما يحدث لك .. صداقتى لك كانت وبالا عليك . والحق أن عائلة النمل صارت لعنة ..
وقال محمود سعيد معاتبا :
- إياك أن تذكر هذا ثانية . أنت مسلم .. والمسلم لا يأبه بالعواصف والأعاصير وإنما هو ثابت ثبات الجبال . لا أحب أن تنطق بذلك اللفظ الغريب على أسماعنا .. إنما اللعنة على الظالم وما نحن بظلمة وإنما أحرار بعبوديتنا لله وحده ولو كنا فى قاع سجن كئيب كهذا الذى نحن فيه .
وقال مدحت :
- نعم .. إنه حيث تتخلف الأسباب وتفترق عن المسببات يكون الخلل ، وحيث يوجد خلل , فلا تسل عن سبب أو حتى عن عقل تعقل به حدوث الأحداث ..
وقال أيضاً :
- إن أى اعتداء على حرية فرد فى دولة ما إنه اعتداء على كل من يقطن هاته الدولة ، ولو لم يشعر سكانها بهذا .. بل إن عدم شعورهم لدليل فاضح على التخلف والمرض .
تمتمت هامساً :
- لو أعلمتهم أنك مسيحى .. ربما .. ربما أخلوا سبيلك وتركوك .
نظر مدحت إلىّ نظرة شك . ربما كان يقول فى نفسه : " ما هذا الأبله الذى يردد فكرة واحدة . ولم يفهم مما قلته شيئاً ! " .. وقال عادل النمل يرد علىّ :
- إلى أن يثبت أنه مسيحى قد ..
قاطعه دهشاً :
- والصليب !
- رمز .. إنهم يشكون فى كل شىء ، ويظنون أن كل علامة ترمز إلى خطة أو إلى شخص .. وقد يحسبونها خدعة عظمى اكتشفوها .. آه .. يالها من مهزلة ! ، لا أدرى كيف وصلنا إلى تلك الدركة من الانحطاط والفقر .. فقر النفس والعقل !!
كنتُ أستمع لكلامهم والحسرة تأكل قلبى إذ كيف تأتى للطغاة أن يسجنوا هاته العقول النضرة ! والتى لو أُتيحت لها السبل – أساس بناء النهضات ودعامة العمران . والعجب كل العجب أن تصل درجة الوعى عند مسيحى مثل مدحت شكرى درجة أذهلتنى بالفعل .. بل إننى لم أفكر فى هذا من قبل وأنا الآخر دارس للقانون ومتفوق .. وقال مدحت وكأنما اخترق حجب اللحم والعظام حتى وصل إلى اللب :
- إن الخلط بين الإسلام الدين والإسلام الدولة يؤدى إلى أن تعجب وأنت مسلم حين أدافع أنا المسيحى عن دولة الإسلام ، وأتحمل المعتقل فى سبيل إيمانى بضرورة قيام دولة للإسلام تظل العالم كله .. لكن ذلك العجب يزول حين تدرك الفرق بين الإسلام الدين والإسلام الدولة .. إن المسيحى وكل صاحب دين لن يجد حريته وما يصون له كرامته كفرد من أفراد الإنسانية إلا فى ظلال دولة الإسلام ، ذلك لأن من واجباتها التى هى قائمة لتحقيقها ! حفظ الدين .. حفظ دين المسلم ودين المسيحى ودين اليهودى بحيث لا يكرهه بشر مهما كان سلطانه على الدخول فى دين لا يرضاه , ولا يمنعه عن شعائر دينه .. ذلك من واجبات دولة الإسلام ، وإن لم تقم بهذا غيرت الأمة القائمين عليها , لكونها حكومة مدنية قائمة بأمر الأمة ، لحفظ الدين مع ما تحفظه للإنسان ليحقق أعلى درجات الصلاح فى الدنيا التى خلقه الله لعمارتها .
وتابع مدحت يقول :
- إن اليهودى حين كان محمد رئيسا لدولة الإسلام فى المدينة قبل أن يرهن درع محمد عنده مقابل ما أخذه قائد الدولة من شعير ليأكل .. لا بد أن نقف عند هذه النقطة طويلا ، ونستخرج منها فقه الدولة فى الإسلام وبذا تتهاوى ترهات القائلين بشق وحدة الصف حين ينادى منادٍ بضرورة عودة دولة الإسلام . إن دولة الإسلام ضرورة حيوية لوجود حضارة إسلامية عالمية يشارك فى صنعها كل من تظله هاتِه الحضارة من مسلم ومسيحى ويهودى ..
ربت محمود سعيد على كتفه وقال :
- يا لك من عقل كبير ..
وأردف حين وجد صمتا :
- ثم إنهم لا يعذبون من يدين بالإسلام كدين وكفى بل إن من لا يعترف بالإسلام الدولة له الصوت المرتفع والمكانة العليا .. وإنما يعذبون ويضطهدون كل من يقول بدولة الإسلام مع دين الإسلام . إن انتشار الدين فى العالم رهن بقيام الدولة .. ذلك شىء يقرره العقل , لكونها القوة التى تردع كل من تسول له نفسه انتهاك الحرمات ومنع الشعائر .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 09:09 AM
(11)

أحاطنى الصمت بهالة من الغموض والهيبة . والحق أننى لم أكن لأنطق بشئ مما يدور فى خلدى من ضيق بالحياة .. بما أنا فيه ، بينما شغلهم الشاغل بل هم الليل والنهار لديهم دائر حول كيفية بعث هذا الجسد .. جسد أمتنا بحيث تصبح قادرة على أداء رسالتها العظمى . إن الناس لا تقبل – كما كان يقول عادل النمل – على الضعيف مهما تكن لديه من حكمة .. والإسلام – كما قال محمود سعيد – يريد من معتنقيه بل يوجب عليهم إعداد القوة ، لتذب عنهم سخف السخفاء ، وتدعو إليهم شوارد الطير ، فالقوة المادية تحمى العقيدة وتدفعها فى آن واحد .. ذلك كان جل شغلهم مما استصغرت معه نفسى وشعرت بالخجل .فى معتقلى الأول ، كان الحديث دائراً عن البيت والأصحاب والأحباب وقد فرت أسباب المظاهرات إلى هامش النفس ، وكان الألم بادياً على الوجوه والأجساد ، وكنت أصب حقدى صباً على القانون ومن يمثله . نعم .. خرجت كارهاً كل شئ حتى التراب الذى أدب عليه إذ كيف أحب بلداً لاكتنى فيه الكلاب , وحولت حياتى إلى جحيم لا يطاق .. أما هنا فالعقل يعمل وينظر إلى المقدمات التى أدت إلى تلك الهاوية وهذا المستنقع القذر . كانوا يشعرون بأهميتى ، فأنا زوج أرملة الشيخ عبد السلام النمل , وهذا لابد أن يعنى شيئاً – كما تصوروا هم – وقال عادل :
- لم أرك فى حياة شيخنا عبد السلام النمل ..
- نعم ..
- هل كانت هناك صلة تربطك به ؟
قلت :
- الإسلام.
وتهلل وجه الفتى . كانت تلك أول مرة أراه فيها متهلل الوجه . وقال وكأنما فتحت إجابتى العفوية طاقة فى ذاكرته، فأطل منها على مشهد وراح يصفه :
- دخلت على شيخنا عبد السلام ذات يوم وكان الهم بادياً على وجهه ، فسألته عما به ؟ .. كنت أحسب أن خالتى قد توفاها الله وكانت فى مرضها الأخير ، وكنا ننتظر موتها بين ساعة وأخرى ، أو أن مرضه هو زاد عليه ..غير أن ما قاله كان عجيباً بالنسبة لى .. لقد كان مهموماً بحال المسلمين فى الاتحاد السوفيتى حتى أن العبرات كانت تنسال على خديه وهو يحدثنى عما يلاقيه هؤلاء فى بلاد لا تعرف الله .. وقال : إن العالم لا يأبه بنا ، لأننا بلا صوت .. لأننا كغثاء السيل . وقال – كذلك – والهم يعصر فؤاده : بمن يستنجد هؤلاء ؟ .. بنا ! .. نحن نحارب الإسلام حرب العالم له , ونأكل بحربنا هذى عليه . قد يستنجدون بالغرب ويذكرونه برحمة المسيح .. لكن الغرب لا يحمل غير وجه المسيح وفى جوفه قلب يهوذا . إنه الشلل يا بنى اجتاح أمتنا كإعصار ، ولم يعد أحد يشعر بأحد , لأن العصارة التى تسرى فى عروق أمتنا سرى فيها السم وشابتها الشوائب . وجعل يبكى .. يا له من رجل ! .سل مدحت عنه .. كان يقابله بكل حب ويربت على كتفه قائلاً له : لقد وصانا سيدنا بكم .
وقال مدحت يغالب دمعه :
- نعم .. كان رجلاً عظيماً .. تعلمت منه الكثير . إنه من أخرج من عقلى الشيهات وقاد روحى إلى النور .. إلى نور الحق ، وجعلنى أطلبه وحده .. تراث الغرب الاستشراقى مكتظ بالشبهات والترهات التى تناولت الإسلام ونبى الإسلام و ..
قلت أقاطعه :
- هذا يعنى أنك أسلمت ..
- لم أقل هذا
ويبدو أنه لاحظ أننى لم أفهم شيئاً فتابع يقول :
- ما يشغلنى كفرد : أن أعيش فى ظل نظام يحافظ على عقيدتى ويصون كرامتى ، ويحترم عقلى .. ذلك النظام لم أجده فى غير الإسلام . نعم .. فالاشتراكية لم تسعد إنسانها بل قتلت فيه روح الإبداع وحولت البشر إلى قوالب جامدة ، ونبذت الدين .. إن الإنسان بلا دين جثة هامدة وجيفة حقيرة . وعلى الجانب الآخر تقف الرأسمالية لتطلقها غابة يأكل القوى فيها الضعيف ، وقد نحَّت هى الأخرى الدين جانباً حاصرة إياه فى الكنيسة دون أن يخرج من أسوارها ، وسارت البشرية شوطاً قصيراً بهاته الروح تدفعها عاطفة الكره لرجال الكنيسة لما فعلوه إبان العصور المظلمة غير أن الإنسان الغربى انتكس بعد هذا الشوط القصير وصار شبحاً لا أكثر .. إنه أشبه بطائر يرف بجناح واحد ، فما يكاد يرتفع إلا ويسقط ثانية وكأنه سيزيف ذلك الذى تحدثنا عنه الأساطير .. أما الإسلام فدولته تختلف بنظامها الفريد . لقد بعثر الشيخ عبد السلام النمل ما كان معقوداً فى قلبى من شبهات حول دولة الإسلام وحكومة الإسلام , وهل هى مدنية أم دينية ؟ ..
كنت أنظر إليه بإعجاب .. وفرحت حين كشف الحجاب عما شغلنى حينا من الوقت . نعم .. فقد شُغلت بمسألة سجنه معنا وها هو ذا يكشف عن السر .. إنه يؤمن بدولة الإسلام تلك التى يرى فيها رحابة الأرض بحيث تتسع لكافة الأديان دون أن يُكره أحدٌ أحدا .. غير أنى وددت لو كان مسلما . نعم .. فأكثر من رأيت من المسلمين كغثاء السيل .. حتى أنا .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 09:10 AM
(12)

لا أدرى لِم خطرت زوجتى على ذهني عندما نادى الحارس علىَّ وهو يفتح باب الزنزانة .. ربما ظننت أنهم سيفرجون عنى بعد أن ثبت لديهم أننى لم أشترك فى جماعة قط , ولم يكن لى أى نشاط يذكر مذ خرجت من معتقلى الأول . وتساقطت من عينى الدموع ، فانتهرنى الحارس وهو يلكن ظهرى بقبضته , وقال :
- كان شيخك النمل لا يأبه بهذا المعتقل , ولا بنا ..
قلت :لم يكن شيخى .
- عبيط أم داهية ؟
وعاد يلكمنى فى ظهرى وهو يقول :
- أسرع يا بن اللئيمة . فالباشا ينتظرك ..
وقع سبه لأمى فى قلبى ، فنزف . جمدت فى مكانى للحظة , فدفعنى الجندى بعنف . أردت أن أستدير وأبصق فى وجهه , لكننى لم أستطع , ووجدتنى مرة أخرى أمام المكتب البيضاوى والوجه الضخم .. وقال :
- أنا أعرف أنك برىء .
- حمداً لله يا سيدى ..
وتابع يقول وقد تغير وجهه :
- لا تقاطعنى .. من يقاطعنى أجلده .. هِه .. زوجتك حامل ..
- أعرف ذلك يا سيدى .
- كانوا يريدون أن يأتوا بها إلى هنا ..
- من ؟
- زوجتك ..
- لِمه !!
- أمن الوطن فوق كل اعتبار .
- لكنها لم تفعل شيئاً !
- أنت فعلت كل شىء ..
- لكنك قلت أننى بر ....
قاطعنى وقد تناثر لعابه على وجهى :
- لا تتحدث إلا بإذن يا حقير ..
- أمرك ..
- والآن ؟
ولم أرد مما زاد من سعاره , وعاد يبصق فى وجهى صارخاً :
- هل أحدث نفسى يا بن الكلب !
- قلت لى لا تتحدث إلا بإذن ..
- أنا أسألك يا بن الحمار ..
- نعم ..
- والآن ؟
- لا أفهم شيئاً يا سيدى ..
- هل نأتى بها إلى هنا ؟
- لا أفهم شيئاً يا سيدى ..
- الأمر يتوقف عليك .
- كيف !
رد وهو ينقر على المكتب بإصبعه :
- قررنا أن نستعين بك فى بعض الأمور ..
- بى أنا !
- عليك أن ترصد حركة الكلاب فى زنزانتك .
قلت والعجب قد استولى علىَّ :
- لا توجد كلاب فى زنزانتى يا سيادة الر......
قاطعنى باصقاً على وجهى للمرة الثالثة :
- كلاب مثلك يا غبى ..
- كيف أرصد حركتهم وهم فى قاع الزنزانة وعليهم حراسك !
- انقل لنا كل ما يتفوهون به وخاصة مدحت شكرى ..
- المسيحى ؟
- هل أسلم ؟
- لا أدرى ..
- نريدك أن تكون عيننا عليه ..
- أنا !
- تذكر أن امرأتك حامل ، وأنت لا تتحمل المكث فى غرفة الإنعاش .
- ياللـ...
قاطعنى :الكُرة الآن فى ملعبك أنت ..
وأمر الجندى أن يجرنى إلى الزنزانة ، لأمارس مهمتى التى كلفنى بها .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 09:10 AM
(13)

أن جيشاً من هم يجثم فوق صدرى ويخنق أنفاسى . وتزايد عرقى مما نفرنى منى .. أنا أكره تلك الرائحة العطنة . تكورت فى ركن الزنزانة كقنفذ دافناً وجهى بين ركبتى ، وبدا قلبى أعلى صوتا مما كان عليه قبل أن .. أحقاً أنقل إليه كل ما يدور هنا !.
إنهم من خيرة شباب هذا البلد . ثم ماذا يفعل بما فى رؤوسهم ؟ .. وهل من مزيد من العذاب يذوقونه وهم .. كاتب وعالم وقانونى سيكون فذاً لو .. لو لم يكن فى هذا البلد الذى يأكل أهله ويغمد فى عباقرته السهام حتى الموت . ليتنى أصم .. وماذا فعل طفلى الذى فى رحمها مازال ، وما فعلت هى ! . إذا كان رب الناس لا يأخذ أحداً بجناية أحد ، فما بالهم !! . لو فعلوها لأكونن أشد ضراوة من الذئاب وأكثر مكرا من الثعالب و .. وهم يريدون هذا . لقد ذبحت حلمى مذ اعتقلونى أول مرة , وخرجت شبحاً وعشت ذلك الشبح , فلِم يعيدون الكرة من جديد ! , ولِم يصرون على بعث الصرخات من قبرها ! .. من صدرى النابض كالناقوس . لكن .. ماذا سأفعل ؟ .. ما يملك مثلى شيئا , والقوة فى يد الطغاة عمياء لا تعرف لمن تتوجه ولا من تصيب .. أووه .. زوجتى .. أيمكن أن يحدث هذا ؟ ! . أأكون سبباً فى قتلها كما كنت سبباً فى قتل أمى على يد الكلاب القذرة !! .آه .. وكنت تنبح أمام الكلاب وهم يضحكون ، أتنبح هى الآخرى وهم ... لعناتك يا سماء على بلد لا كرامة فيها لحامل .. ولى .. أليس مبرر وجود – كما قال مدحت شكرى – أى حكومة فى الدنيا إنه حفظ كرامة الإنسان وتوفير أمنه ؟ .. فإذا كانت هى أول من يذبح هاته الكرامة , ويشرد ذلك الأمن ، فعلى الدنيا السلام .. بل الويلات والثبور والألم المقيم . لا .. لن أفعل ولو .. ولو ماذا ؟ .. ولو أخذوها وفعلوا بها ألفـ....أووووه .. لو فعلوا لأثورن ثورة لن تقف أمامها الجبال الشم الرواسى ، ولأكونن من الفاسقين . وأنت سجين ؟ .. ولِم لا أنقل لهم كل شىء وأى شىء .. ومن يسجن مرة حين تتخلف الأمم وتنهار الشعوب يظل إلى أن يدخل قبره مسجوناً وإن خرج من القضبان . لن يضرهم شيئاً أن أكون عيناً عليهم وإنما ينفعنى أنا أن أكون . وكأنما مقدر لى أن أكون سبباً فى عذاب الآخرين .. أمى وزوجى و .. هؤلاء .. يا لكم من أوغاد فجرة ! . اقترب منى عادل النمل وتمتم هامساً :
- عليك بالصبر والصلاة ..
هززت رأسى ولم أنبس بينما أردف هو :
- نعم .. سوف أكتب يوماً ما كتاباً عن فقه الصلاة .. لا يتناول سننها ومبطلاتها , وإنما يتناول حقيقتها وكيف تكون صانعة حضارتنا , وكيف تكون صلاتنا هى الطريق لحريتنا ومن ثم لانطلاقنا فى الآفاق وفى الأنفس بحثاً فى آيات الله المنبثة فيهما .
وقال محمود سعيد :
- لقد فكر شيخنا عبد السلام النمل يوماً فى كتابة كتاب يتناول فيه فقه اليقظة . وكان يقول فى مجلسه الخاص : إنه الفقه الذى تحتاجه أمتنا كى تصحو من سباتها , وتنهض من كبوتها التى طالت أمداً غير قصير .. ولا أنكر أنه من دفعنى لدراسة الحشرات والتعمق فيها , وقد بث فينا هذا الفقه الذى ينقص أبواب الفقه فى مدونات الفقه عندنا ..
وغرقت فى حزنى ثانية , ولم أسمع لما قاله محمود سعيد . وتساءلت : أأقول لهم : إن محمود سعيد يفكر فى مورد يستطيع به استكمال دراسته فى عالم العناكب , وأن عادل النمل يود لو يخرج للناس كتاباً يذكر فيه من فقه الصلاة ما يصنع رجالاً , إذ الأمم تحتاج إلىالرجال كى تنهض وتزاحم دول العالم وتتفوق عليهم لا ذكوراً كل همهم الجرى وراء الأهواء والنزوات ؟ .. أأنقل لهم قول النمل : إن الرجل كلمة والذكر شهوة ؟ .. أهذه هى الجرائم التى نعاقب عليها فى بلدنا المحروسة !! . كنت أتمنى أن أكون مثلهم .. نعم .. هذا الإنسان الذى لا تهزه الأحداث وإنما تثبت دعائمه وتعلى قدره و..
وقال محمود يهزنى :
- يا شيخنا أين أنت ؟
- هنا ..
- ربما حملك طائر الشوق إلى الجنة .
نظرت إليه مشدوها . إن كل تفكيرهم فى الجنة , وفى الحياة وما يجب عليهم وما يقع على عاتقهم من مسئولية تجاه الدنيا .. أى لون من الناس هؤلاء ! رباه .. أفى مدرسة للحياة أم فى قعر زنزانة أكون ؟! .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 09:11 AM
(14)

فُتح باب الزنزانة عن سحنة ترهقها عبرة وإن بدا عليه الخيلاء والعجب . جرنى من رقبتى بزهو وقذفنى خارجها .. إن نشوة تطفح من عيونهم وهم يقومون بعذابنا . وأمرنى بصوت غليظ بالزحف خلال الردهة الطويلة إلى أن أصل إلى غرفة التحقيق حيث المكتب البيضاوى ومن ورائه الجسد الضخم .. وقال ضابط التحقيق :
- ما فعله بك مجرد تمويه لا أكثر ..
- جسدى خرقة بالية .
وارتعش جسدى كله , واصطكت أسنانى . جمد وجهه وجعل ينقر فوق مكتبه بإصبعه وشعرت بدوار .. تباعد الضابط حتى صار كبقعة سوداء فى فلاة .. وقال :
- ماذا عندك ؟
ولما لم أرد ، عاد ينقر على مكتبه , وتلقيت على ظهرى لكمة خلعت قلبى ، وتناثر الدم من فمى . كنت أعرف ماذا يقصد ..بل كنت أريد أن أقول له كل شئ مما جرى فى الزنزانة غير أنى لم أنبس ، ولا أدرى لِمه ! ..وأردف يقول :
- هذا أخر إنذار لك . ولسوف تفعل ما نأمرك به . زوجتك فى الطريق إلينا , وجنودنا جوعى .
- لله الأمر من قبل ومن بعد .
- ليس لله شىء هنا ..
واهتز جسدى ثانية حتى كدت أن أسقط لولا أن جنديا جذبنى من رقبتى , وتابع الضابط يقول :
- كن فى جانبنا .. أنا أعرف أنك لست متهماً .. لست منهم .. نعم .. أستطيع أن أثبت هذا . لكن القرائن كلها ضدك .. وعليك أن تثبت للجميع أنك رجلنا .. أليس كذلك ؟
وتباعد صوته كما تباعدت صورته ، واتسعت الحجرة من حولى , ولم أعد أرى شيئاً .. ولم أشعر بمن حولى إلا وأنا فى الزنزانة . كان مدحت ينضح قلقا , ومحمود سعيد يزفر غيظا بينما قال النمل :
- يا له من مستنقع قذر نعيش فيه !
- كرامة فى الحضيض ..
قالها مدحت وأردف :
- أعجب كيف يعيش الناس خارج هذه الزنزانة ونحن هنا !
رد محمود :
- إنه الشلل كما قال شيخنا عبد السلام النمل ..
وتساءَل عادل :
- وهل يعرفون الشيخ عبد السلام ؟
- ماذا تقصد ؟
- أرى أننا قد عُزلنا عن المجتمع كله ..
- أبن ؟
- عزلة جسدية وعزلة فكرية ..
- ماذا تقصد ؟
- إنهم يأخذون إلى المعتقل كل من تظهر عليه بوادر الالتزام وإن لم يكن منا .. وهنا يُمسح عقله , ولا يخرج من هنا إلا أحد رجلين : إما معتوه لا يصلح لشىء أو نسخة منهم بعد عمليات غسيل المخ وما يراه من صنوف العذاب ، لأن عقيدته لم تتمكن فى قلبه ..
كان مدحت صامتاً يسمع لهما دون أن ينبس , وكان ينظر إلىَّ بين لحظة وأخرى والدموع تطفر من عينيه . وخطر فى ذهنى السوس وكيف ينخر فى العروق حتى تتهاوى وتسقط .. وعاودنى الدوار فتقيأت ورحت فى غيبوبة أهذى .

د. حسين علي محمد
31/05/2007, 09:12 AM
(15)

عاودتنى ذكرى لطيفة إبراهيم , وانتابتنى خواطر جنسية أزعجتنى . أردت أن أصرخ أو أن أضرب برأسى فى حائط الزنزانة الصلب المظلم بل تمنيت لو أخذونى إلى غرفة الإنعاش .. وقالت :
- تحدثت عنك مع زوجى ..
- كيف حدث هذا !!
- قال : إنك شخص رائع ..
- أوقد عاد ؟
- وبارك حبنا ..
- باركه !
- نعم ..
- وعرف أننا ..
- عرف كل شئ وقد سُر بهذا ..
- لكن ..
- لا تخف ..
- كيف حدث هذا !
- أقسم لك ..
وأردفت بدلال وهى تضحك :
- حسبتك فى بداية الأمر من أصحاب النمل ..
- ومن النمل ؟
- شيخ تحاربه الحكومة وقد مات , لكنه حى ..
- كيف !
- تلاميذه فى كل مكان .
- حقاً ؟
- عموماً .. ما دام الإنسان يصلى فقد حاز كل شىء ..
- ربما ..
- وأعجبنى فيك هذا ..
- هيا بنا .
- ليس الآن ..
- متى إذاً ؟
- لا زالت فى العنابر حركة ..
وخلعت ملابسها , وقذفت بها فى ركن المكتب المغلق وأنا ألثم ما بدا منها . صرخت بأعلى صوتى .. وقال محمود سعيد :
- ماذا بك ؟
- لا شئ ..
- تحمل ولا تدع الشيطان يلعب بك .
نظرت إليهم مشدوهاً . وترامى إلىّ صوتها وهى تضحك . وقال عادل النمل :
- تكلم ..
- قد ضقت ..
- الإنسان يسجن نفسه بما فى رأسه .
- لم أعد أحتمل .
كدت أن أضحك لولا أن نظرت إليه فوجدته الجد كل الجد . وكأنهم على يقين بأن الفرج آتٍ ، والمستقبل لهم ، وما نحن فيه ماهو إلا مقدمة طبيعية لذلك الفرج المنتظر. إن ما يعذبنى أكثر من غيره أنهم يحسبوننى مثلهم ، ولو رأى أحدهم مافى خاطرى من سوء ، لبصق علىّ .. وقلتُ :
- الإنسان فى بلدنا بلا كرامة وإن بدا منه رأى سُجن ..
وكأنما وضعت على الحطب زيتاً ، وإذا بمدحت يقول بحماس :
- هو ماقلت ..
وأردف :
- العجب أننا ندعى أن " نهضتنا " بنيت على أسس علمانية وأننا نسير بخطى ثابتة نحو العلا ويصدق الناس تلك الدعوى رغم أنهم فى الحضيض يعيشون ويتنفسون الضنك !
وقال محمود سعيد :
- لا بد من عمل منظم وجاد لإعادة الحياة إلينا ..
وقال النمل :
- كنت فيما مضى أعجب من لعن الإمام محمد عبده لساس وسائس ويسوس .. لكنى الآن أفهم لِم لعنها الإمام .. إن السياسة والشغل بها أخرتنا خاصة فى زمن جهل الناس فيه معنى الإسلام .
- لكن الإسلام كل كامل شامل .. والسياسة فرع من فروع شجرته الباسقة كالاقتصاد الإسلامى والاجتماع الإسلامى والشعائر ..
قالها محمود سعيد وهو ينظر إلى مدحت شكرى يستطلع رأيه ، فقال مدحت :
- أنا يهمنى الإسلام السياسي ، لكونه يحدد دورى فى وطنى ، ويحافظ على مقومات وجودى .
أما عادل النمل فقال :
- إنسان هذا العصر لا يدرك معنى الدين اللهم إلا على أنه طقوس تؤدى وشعائر يقيمها من يقيمها بجده دون أن يدرك لها مغزى ودون أن يكون لها أثر فاعل فى شئون حياته . لقد شغلنا أنفسنا وشغلنا الناس بالسياسة فى حين أنهم لا يدركون معنى الدين ولا حقيقة هذا الوجود . والنتيجة أن الناس لم تنشغل بما أردناه لهم بل نظروا إلينا نظرتهم إلى المتكالب على كرسى الحكم وصولجان السلطان . السياسة من الفروع .. أنا لا أنكر أهميتها فى حياتنا ولكن هذه الأهمية لن تتأتى إلا بعد تقعيد القواعد وبناء الأساس .
رد محمود سعيد
- لم يكن هذا رأيك من قبل ، ولم يكن رأى الشيخ عبد السلام النمل ..
قال عادل :
- يجب أن نعترف بالفشل ..
- لم نفشل !
- هانحن فى السجون .. وإن خرجنا فلا أثر لنا وقد حولنا الإعلام والجهل بالدين إلى مجموعة من الإرهابيين الذين يريدون الاستيلاء على السلطة بأى ثمن ومن ثم يعذبون الناس ويقطعون رقابهم ..
- أخارت قواك !
- بل أريد تصحيحاً للمسار ..
- كيف ؟
- لست أدرى .. كل ما أدريه أن الشغل بالسياسة لن يؤدى بنا إلى شىء ، وإنما سنظل هنا فى المعتقلات , وسيأتون بكل من تسول له نفسه بالحديث فى السياسة إلى المعتقل إلى أن يقضى عليه أو يخرج معتوهاً من كثرة ما يلاقيه من صنوف العذاب .. ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إنهم سيضعون من يلتزم بتعاليم الدين دون شغل بالسياسة مع المشتغل بها فى خندق واحد ويضربون الجميع ..
- إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ..
قالها محمود سعيد وأردف بعد صمت لم يطل :
- أنا معك فى أن السياسة من الفروع .. لكنها مما لا يتم الواجب إلا به . إن تاريخ الأمم والجماعات ما هو إلا تاريخ ملوكهم وزعمائهم .. والفارق بين زمن الفاروق وزمن الحاكم بأمر الله هو نفس الفارق بين الفاروق نفسه والحاكم بأمر الله .
وحل صمت عاودتنى فيه لطيفة إبراهيم بقميص شفاف نم عن مفاتنها , مما زاد من سخطى على نفسى , غير أنها لم تلبث غير قليل .. وقال عادل النمل :
- المسألة ليست فى سوء أخلاق غيرنا , وليست فى فساد النظام العالمى الذى يحدثنا بلسان يسوع بينما يحمل فى جوفه قلب يهوذا , وإنما المشكلة الكبرى كامنة فى ضعفنا نحن .. كامنة فى سوء فهمنا لطبيعة العصر الذى نحيا فيه . نحن لا نعرف أى روح تُسَير هذا العصر ! , فكيف نواجه ما لا نعرف , وكيف نسود !! كل ما يشغلنا هو محاولة إحياء فرع فى شجرة شُل جذرها .. ذلك ضرب من الحمق , لن يؤدى إلا إلى ضياع الوقت وبذل الجهد فيما لا طائل من ورائه . والحق أننا ما لم نقعد القواعد ونخرج جيلاً قادراً على تحمل أعباء الرسالة والسير بها فى الآفاق ، فلن نصل إلى شىء أبدا ..
- لكن من يتركك لتربى ذلك الجيل المنشود والذى هو بمثابة القاعدة !
قلتها دون وعى منى , غير أنها وجدت صدى لدى محمود سعيد الذى قال مؤكداً كلامى :
- هذا صحيح والمثل الحى على ذلك إنه أنا .. لقد كنت أعد دراسات عن عالم العناكب واعتقلت ثم خرجت لأعد دراسة عن حشرة " الكولمبولا " بعد أن أكمل زميل لى ما بدأته فى عالم العناكب .. وليس لحشرة "الكولمبولا" انتماءات حزبية أو اتجاهات سياسية , ومع هذا فأنا هنا بينكم !
- لأنك كنت صديقاً للشيخ عبد السلام ..
رد محمود :
- لم يكن الشيخ مشغولاً بالسياسة وكفى بل كان طاقة جبارة , وكان يعرف أين يضع رجاله .. وقد وجهنى للعلم , ورأيته ـ وكان يحدثنى وحدى ـ وهو يتحدث عن عالم الحشرات وما به من إبداع يجعل العقل يسجد لله خالق كل شىء .. وقال لى : " إننا لا نفهم معنى قول الحق : " والذى قدر فهدى "، ونحن لا ندرى عن عالم الأحياء من حولنا شيئاً . العلم يزيد من إيماننا . أنظر إلى البيضة تتنفس من سطحها فى حالة وجود قشرة رقيقة لها , ولكن فى الحشرات التى تكون فيها القشرة سميكة فإنه توجد بهذه القشور تحورات خاصة تسهل لها عملية التنفس , فمن صنع هذا ؟ .. ألم تدرس أن فى بعض أنواع الذباب توجد بالقشرة قنوات أو أعمدة رأسية صغيرة بينها فراغات مملوءة بالسوائل التى يحل محلها الهواء أو سائل هوائى فيما بعد , كما يوجد فى حشرات كثيرة أخرى فيلم هواء تحت القشرة ويحيط هذا الفيلم بمحتويات البيضة إحاطة تامة ويعمل على تبادل الغازات بين جميع الأجزاء الداخلية وبين الهواء الخارجى .. فمن صنع هذا ؟" . صدقنى .. كنت أدرس هذا العلم دراسة روتينية .. مجرد معلومات أحفظها وقد أنبهر أو لا أنبهر .. لكن المسلم له نظرة خاصة للأشياء . وأرى أن المستقبل لهذا الدين خاصة بعد التقدم العلمى المذهل الذى يجتاح العالم . ما ينقص الغرب ؟ إنه هاته النظرة الخاصة .. نظرة المسلم . العقل وحده لا يكفى للهداية وإنما يحتاج إلى الوحى .. وبهذا التزاوج تنشأ الحضارات العظمى . لم يكن الشيخ يقصر نشاطه على السياسة وحدها وإنما كانت له نظرة كلية شاملة وكان يضع كل شئ فى موضعه الصحيح . السياسة تنظيم للجهود وفتح للطريق المسدود ، ونظرة أعمق للواقع ..
وغبت لحظة .. لا أدرى فيما كنت أفكر .. ربما كنت أحاول استرجاع ما قاله .. ربما . وعندما عدت إليهم كان لا يزال يتحدث قائلاً :
- لقد شوه الآباء والقسس صورة الإسلام عند الغرب خوفا من انتشاره , وكان ذلك إبان نهضتنا العظمى فى الأندلس ، ورأوا أن الدين الجديد يفتح لمعتنقيه آفاقاً رحبة وعوالم غنية , فأرادوا سد هذا الطريق كيلا ينصرف الناس عنهم ، فشوهوا صورة الإسلام ونبى الإسلام وربوا الغرب على الحقد والكيد لهذا الدين .. ولن نستطيع تغيير هذا إلا عن طريق جهود جبارة .. جهود دولة لتطهير الأنفس والآفاق من الترهات والشبهات والأحقاد المزروعة فى النفوس كالألغام المتفجرة . إنه ما إن يُذكر الإسلام حتى تضيق النفوس وتضجر وتكاد أن تنفجر ، فهل يستطيع تغيير هذه الأوضاع أفراد ؟ .. لا يا صاحبى .. الأمر يحتاج إلى دولة .. إلى نظام قوى يستطيع أن يغير هذا كله ..
- علينا أن نبدأ بأنفسنا ...
قالها عادل النمل , وقبل أن يكمل تابع محمود سعيد يقول :
- نعم .. لكن الجهد الأكبر أو قل بعض الجهد يجب أن يوجه للغرب , لأنه تربة صالحة لديننا .. وربما كان أكثر صلاحية من تربتنا العفنة , لأنها تربة علمية يحكمها العقل . وأنا أنظر إلى المراجع التى أستقى منها وجدت جلها – إن لم تكن كلها – مراجع غربية . إنهم بعلمهم يدركون عظمة الله غير أنهم لا يعرفونه .. من يدرس علم الحشرات – وأتحدث عن تخصصى – يجد أنه بينما أكثر الحشرات الآكلة للأوراق أوفروع النباتات تترك السليلوز يخرج مع البراز بدون هضم وبدون الاستفادة منه ! نجد أن البعض الآخر الذى يتغذى على مثل هذه المواد السليلوزية يمكنها أن تستفيد بالسليلوز وهو المكون الأساسى لهذه الأوراق والأفرع إذ أن هذه الحشرات يمكنها إفراز السليليز الذى يهضم مادة السليلوز .. سبحان الله .. لا تملك إلا أن تقولها وأنت تدرس عالم الحشرات فى دنيا الله , ولا تملك أن تدرس إلا فى ظل سياسة ترفع لواء " لا إله إلا الله " وتريد نشر دعوة الحق فى الآفاق ..
وقال عادل :
- تلك خطوة تالية .. إننا لم نبدأ بعد .. ورسولنا لم يتحدث عن الدولة ومعالمها وشئون الحكم وهو فى مكة , وإنما كانت المرحلة المكية لبناء الرجال الذين تقوم على أكتافهم الدولة المنشودة . لن تستطيع بناء دولة دون رجال , ولن تستطيع بسط سلطان الشرع على أناس لا يفقهون الشرع ولا يعرفون مغزى الدين وضرورته فى دنيا الناس , وندرك ما يصلح لكل مرحلة من مراحله , وبدون هذا لا أقول نضل الطريق وإنما نتعثر ..
- لم يهادن رسولنا كفار قريش . ولو طاوعهم وبحث عن الطريق الأكثر أمنا , لوافقهم على عبادة الله عاماً , وعبادة آلهتهم عاماً آخر ..
- لم أقل أننا سنهادن من حاد الله ورسوله , وإنما نربى جيلاً أو جماعة على قيم الدين بحيث تتشربه وتتنفسه حتى إذا دعت الله استجاب لدعوتها , وإذا دعت إلى الله كانت دعوتها فيضاً لا تكلفا , وبهذا يقبل العالم على دين الله ..
قلت :
- كيف يتأتى لنا هذا ؟
رد عادل :
- ذلك هو السؤال الذى يجب أن نهتم به أولاً .
وحل صمت قطعه محمود سعيد وهو ينظر إلى سقف الزنزانة :
- إن الإسلام ضرورة حيوية للعالِم والمتعلم .. وللمسلم والكتابى , والعاقل وغير العاقل ..
وقال مدحت مؤكداً ما ذهب إليه محمود سعيد :
- هذا حق .. ويوم فتح الإسلام مصر ، أخذ القبطى المصرى حقه من الأكرمين ، لأن العدل لا يفرق بين أحمد وأسعد . ويوم حكم الإسلام الدنيا أمنت الدابة وهى ترتع فى الطريق لأن الحاكم فقه أن الحكم مسئولية وليس مغنما .. إن نظاما تأمن فيه الدواب على حياتها لخليق أن يرتفع ويعلو فوق أى نظام و وهو بعد غاية الحرية ومنتهى أمل الأحرار .
(يتبع)

طارق شفيق حقي
10/06/2007, 10:06 PM
سلام الله عليك د حسين

هل يريد الكاتب نسخة الكترونية ؟؟

د. حسين علي محمد
11/06/2007, 11:28 AM
نعم، ولك الشكر.

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:10 AM
(16)

" فى الحشرات التى تمتص الدم كبعض أنواع الذباب والبعوض تفرز الغدد اللعابية مادة تمنع تجلط الدم ، ولا تفرز أنزيمات هاضمة إلا داخلها ، لهضم البروتين فى ذلك الدم الممتص . وفى معدة الفراشات وأبى دقيق نجد أن الإنزيم الوحيد فى لعابها وفى معدتها إنه إنزيم الإنفرتيز الذى يحلل السكر الموجود فى الرحيق لكونه الغذاء الوحيد للفراشات وأبى دقيق , لذا كانت دعوة القرآن للنظر فى الكون والتدبر فى كائناته العجيبة , لكون تلك النظرة هى وقود الإيمان بخالق هذا الوجود البديع" .. جال ذلك فى خاطرى وأنا أنظر إلى محمود سعيد .. إنه كتلة من الشعور النابض بالحياة .. كان يؤمن بضرورة أخذ الدين كله عقيدة وشريعة بوصفه منهج حياة شامل , وأى محاولة لعزل أى جانب من جوانب الإسلام عن واقع الحياة – تحت أى ظروف – لن يؤدى بنا إلى شئ ,لأن من صام – كما كان يقول – من النهار بعضه لا يعد من الصائمين ,ولا يقبل رب العزة من عمله ذاك شيئاً .. وقال :
- إن دراسة جزء من الدين والأخذ به بمعزل عن بقية أجزائه يزرع فى نفس المتلقى شعوراً بأن هذا الجزء المدروس هو كل الدين .. وهذا لا ينفعنا خاصة ونحن نريد تربية جيل يحمل لواء الدعوة فى عالم نبذ الدين ولم يفقه له معنى غير أنه علاقة بين الإنسان وربه ..
وقال عادل النمل :
- إنما أردت مراعاة الوضع الراهن , والاستفادة من المتاح وإلا خسرنا كل شىء.. ثم تذكر أنه لم يكن للإسلام السياسى وجود فى العهد المكى .
- لكنه ضرورة لازمة لإقامة هذا الدين وإلا لهاجر سيدنا إلى الحبشة وبها ملك لا يظلم عنده أحد ..وكان النجاشى سيرحب بهذه الهجرة ولا شك لكن الرسول كان يبحث عن مكان يقيم عليه دولة تنطلق منها الدعوة إلى أرجاء الدنيا .. الدولة بمثابة القوة .. إن قلة قليلة من البشر يزعها القرآن , ولن تسلم تلك القلة من جهل الطغاة ومن يسير فى ركابهم لو لم تكن القوة فى يد الفئة المؤمنة .. ثم إن الأمر باتخاذ القوة كما جاء فى دستورنا ليس للطغيان , وإنما هو لإرهاب أعداء الحق .
وافق مدحت شكرى على حديث محمود وإن رأى أن إعادة درس التاريخ قبل اتخاذ أى قرار لا بد منه ، والإنسان إن لم يستوعب عبر الماضى تاه منه حاضره ومن ثم مستقبله . تذكرت ما طلبوه منى , فتغضن وجهى واكتسحنى هم وظلام , مما جعل عادل يقترب منى ويقول :
- وجهك مرآة لما فى نفسك ..
- حقاً !
وبدا لى أكثر ملاحة مما كنت أظن ، وقلت وأنا أتفرس فى وجهه :
- ما صلتك بالشيخ عبد السلام ؟
لا أدرى لم سألته هذا السؤال ! .لكنه وقع فى نفسى فى نفس اللحظة التى نظرت فيها إليه وهو يقترب منى أنه كان على علاقة بزوج الشيخ .. بزوجتى . حاولت أن أطرد هذا الخاطر بكل قوة .. إن هؤلاء الشباب تشغلهم الجنة . الجنة فى ظل الإسلام فى الدنيا وفى ظل الرحمن فى الآخرة . وهى تحبنى ولست فيها أشك وبدت لى لطيفة ، فلعنت كل نساء الدنيا حتى زوجتى .. وقال عادل النمل :
- أنت تسأل عن أشياء ..
وصمت لحظة ثم أردف :
- لقد واجهونى بهذا السؤال فى أول اعتقالى , ولم أفهم ساعتئذ مرادهم , فقلت : إنه قريب لى ثم هو زوج خالتى عليها رحمة الله ، فضحك الضابط ، وأمرهم بأخذى إلى غرفة الإنعاش .. فماذا تقصد أنت بسؤالك هذا ؟
لم أنبس . بدا لى سخف ما جال فى خاطرى . وقلت لنفسى : لو كان هذا الشاب منحلاً ما جاء به العسكر إلى هنا . غير أننى تذكرت حالى , فعاد الخاطر ينبح فى صدرى .. وقلت فى نفسى : " إن كان ما يدور فى رأسك حقاً ، فلِم لمْ يتزوجها !" .. وعاد الكلب إلى السكون .. وقال عادل النمل :
- دعنا من هذا .. والآن ما رأيك فى المسألة المطروحة على مائدة البحث ؟
- أى مسألة !
قال دهشًا :
- أنتخذ الإسلام جملة أم نترك ما نُحاربُ لأجله ونكتفى بالمتاح منه ؟
قلت :
- إن متاح اليوم ربما كان محظورا فى الغد .
- أفصح عن غرضك ..
- لا أعرف بالضبط .. لكن .. المسألة ..
ولم أنبس . كانوا ينظرون إلىّ نظرة حائرة .. غير أن زواجى من أرملة الشيخ عبد السلام كان يدفع كل خاطر سوء يدفعه الشيطان إليهم .. وقلت مندفعاً :
- الحقيقة أننى فى مأزق ..
أعارونى انتباههم . ضغطت رأسى بكفين أنهكهما الألم والقلق , وأردفت :
- طلبوا منى التجسس عليكم وإلا أخذوا زوجتى وعذبوها أمامى ..
- كلاب ..
قالوها فى نفس واحد وقلتها معهم .. وقلت بتصميم عجبت من أين أتانى :
- لن أحقق لهم هذا ..
- وزوجك !
تناثرت نفسى , وانشطرت آهات تتلوى , وتراءت لى عريانة والكلاب من حوله , ولا يسمع لصراخها إنس ولا جان .. ورحت أدمدم بلا وعى ، وقال مدحت شكرى :
- انقل لهم ما يريدون .
وقال عادل :
- هم يعلمون عنا كل شىء ، ولن يحدث شىء لو نقلت لهم ما يريدون .
- لكن ..
- لا تتردد من أجلها ..
- هذا رأيك .
- لن يمنعهم أى شىء لو رفضت ماطلبوه منك ..
وعاد الكلب ينبح فى صدرى ، وأردف عادل :
- إنهم بلا قلوب .
وقال محمود سعيد :
- لن يغير فى الأمر شىء نقلك لما يدور هنا ..
- لكن ..
- لا تتردد .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:10 AM
(17)

قال الضابط :
- كنت أعرف أنك أغفل من أن تنجرف فى التيار ..
- حقاً ؟
- وتأكدتَ أنه ليس على دين الإسلام ؟
- نعم ..
- لكن ..
- ماذا يا سيدى ؟
- كيف تأكدت من هذا ؟!
- علامة الصليب المنقو...
وقاطعنى :
- ربما كان ذلك خدعة , فهؤلاء يفعلون أى شىء ..
- لن يدعى أحدهم أنه على غير دين الإسلام من أجل أن يخدعكم !
- معك حق .
- والآن يا سيدى ..
- استمر ..
- فى السجن ؟
- إلى حين .. إلى أن نعرف عنهم كل شىء .. كيف يفكرون , وفيم يفكرون .. ولِمه ..
- لكن هذا يتطلب وقتاً ..
رد :
- وليكن ..أنت من الآن فى مأمورية وسنقدر لك هذا .
- أريد أن أرى زوجتى ..
- ليس الآن ..
- لكن ..
- كى لا تكون موضع شك .
وعاد بى الحارس إلى الزنزانة . كان الهم يأكل كبدى . ترى ماذا يقولون الآن عنى ؟ .. وشعرت بالهوان . نعم .. شعرت بالهوان والضعة . نظرت إلى عادل النمل , فتذكرتها , ورأيتها فى حضنه , ترتع عيناها فى عينيه فتلاحقت أنفاسى ، واقترب منى ، وافترسته عيناى .. وقلت :
- أكنت تزور الشيخ فى بيته ؟
ارتسمت على وجهه دهشة ، وقال :
- ماذا تريد بالضبط ؟!
- مجرد سؤال ..
- نعم .. كنت أزوره فى بيته ، كما كان الآخرون يزورنه فى بيته .
- وهى ؟
- من ؟
- زوجتى ..
- وما علاقة زوجتك بحديثنا ؟
- أكانت تشارككم فى الحديث ؟
- لا أذكر أنها شاركتنا فى حديث ..
وجعل ينظر إلىّ نظرة حائرة ، وأردف :
- أفصح عن غرضك لأريحك .. أطلبوا منك ذلك ؟
- من !
- الضابط و..
قاطعته :
- لم . نعم .. نعم .. بالضبط .. هم طلبوا .. حتى .. لا أدرى .. أكاد أجن ..
- يالها من نفوس خربة !
- من ؟
- من غيرهم ..
وغصت فى الوراء . عاودتنى بقع الدماء المتناثرة فوق الحصيرة المغضنة الوجه ، أما لطيفة فبدرت رائقة الوجه ، وتبدت فى قميص وردى أبرز ثدييها .. تمتمتُ :
- لا يمكن أن يحدث هذا ..
وقال محمود سعيد :
- يجب أن تنام قليلا ، لتهدأ .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:11 AM
(18)

أتى الصبح وتبعثرت أوهامى . لم يعد وجود لذلك الخاطر الخبيث فى قلبى بعد أن وقف عقلى بالمرصاد لكل شبهة وردها بيسر , إذ ليس وجود ساقطة دليلاً على تهاوى كل نساء الدنيا فى الرزيلة . وقلت : إن أعظم القيم لا قيمة لها إن لم تكن واقعاً فى دنيا الناس ملموساً ، ولن تكون واقعاً مالم تكن هنالك قوة ترهب أصحاب النفوس الخربة والضمائر الميتة . هذا ما نادى به محمود سعيد .. لكن : لِم يلاقى أصحاب الدعوات كل هذا العنت وتلك المشقة وكأنهم يسيرون على الجمر ! , وكأنهم يدعون الناس إلى الجحيم وليس إلى الحياة الحرة والعدل والمساواة ؟! .
نعم .. شغلت تلك المسألة نفسى فترة ليست بالقصيرة , وطرحتها أمامهم وكان عادل النمل قد دخل لتوه قادماً من غرفة الإنعاش .. كان يبتسم والدموع تسيل على خديه .. قلت له :
- إن من يراك يحسب أن خللاً أصاب عقلك ..
رد وقد تهلل وجهه :
- رأيت بلالاً وأنا أُعذب وصبرنى ، وقال لى : أنظر إلى الجنة تهون عليك الدنيا .
قلت أجتر فكرتى :
- لكن .. لِم يُعذب هؤلاء .. أنتم .. لِمه ّ!
رد عادل :
- كأنما قدر للدنيا أن تنوء بأصحاب القامات الشامخة , فتروح تعذبهم وهم على ظهرها .. وقد يستمر العداء للعظمة حتى بعد أن يوارى أصحابها فى الثرى . إنه كلما زاد نصيب الإنسان من العظمة زاد حظه من عداء السوقة وجهل الجهلاء ..
وقال أيضاً :
- إن نوحاً رغم طول عمر رسالته لم يظفر إلا بالقليل من الأتباع ، ولاقى الكثير الكثير من العذاب والسخرية والاستهزاء . والناظر إلى الحياة فى القرآن يرى هذا النصيب الذى يلاقيه أصحاب الرسالات العظمى وهم من هم ، فما بالك بمن هم دونهم ؟
وقال محمود سعيد :
- ولك أن تنظر إلى الهجوم الشرس على صاحب الرسالة الخاتمة ..
وحل صمت . كان وجه عادل النمل رغم تهلله ينزف . وتقاطر الدمع من عين مدحت . وتابع محمود سعيد بعد تلك الفترة من الصمت وكأنه فى لحظة من لحظات الكشف تلك التى تهب على المرء فى أوقات الصفاء ، وتلك الأوقات – هى الأخرى – تهب على المرء ولو كان فى زنزانة كتلك التى نعيش فيها , أوقل نموت فيها :
- لا تهاجم الميكروبات إلا الجسد الضعيف , أما الجسد القوى فيستمر فى الحياة رغم وجود الميكروبات .. بل إنها لتوجد فى جسده نفسه .. فى حالة كمون .. منتظرة تلك الفرصة التى تنعشها .إنها تنتظر ضعف قواه ، وانحلال عزمه . وما تجده من هجوم شرس فى كل أنحاء الدنيا على الإسلام ومعتنقيه لدليل صارخ على ضعف أمتنا وهوانها الذى وصل لدرجة أن يهاجم الدين فى معقله .. وينكر من ينكر السنة ويتهم صاحبها .. لقد نشطت الجراثيم ، واستأسدت الفئران ، فراحت تسب الدين ، وتلعن أهله ، وتتهم كل من تلمح فيه بعض التزام ، بالتزمت والتخلف والرجعية ، لأن الضعف استفحل ، وضرب فى كل مكان .. غير أن المستقبل لنا .. أنا أؤمن بهذا .. بل أراه .. أرى المستقبل باهراً . إن الهجوم الشرس على الدين مع كونه علامة ضعف ، فإنه دليل على رعب العالم الطائش من ذلك الدين القيم . نعم .. فاللص تأخذه رعدةٌ حين يلمح شرطياً ..إنه نفس الرعب الذى اجتاح العالم , فراح الطغاة يضربون فى جنبات أمتنا ضربات مجنونة , لأنهم فى حالة رعب .. رعب من ذلك الدين القيم الذى سيقبض على ناصية الوجود يوماً ما .. أراه قريبا ..
واهتز جسدى كله . حلت به رعشة زادت مع الوقت , وتلاشى صوت محمود فى زحمة انفعالى . ورأيتنى فى المكتب البيضاوى أبصق أخبارهم .. نعم .. لست قوياً وإنما أنا خائر القوى , جبان النفس .. وتمتمت بلا وعى :
- كم أنا ضعيف أيها السادة !
وكأنما اخترق عادل النمل صدرى , وفهم قصدى , فربت على كتفى وقال :
- لست ضعيفاً وقد استشرتنا .
- لن يغير هذا من الأمر شيئاً .
- بل يغير كل شئ ..
- ما أنا إلا جيفة حقيرة .
وغبت عنهم . غرقت فى موج هادر يتقاذفني . صرخت بأعلى صوتى مما استرعى انتباه السجان , ففتح الزنزانة ورمى بى خارجها .. وسرت على أربع إلى الغرفة ذات المكتب البيضاوى .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:12 AM
(19)

انتابتنى هلاوس شتى وأنا أمام الضابط . رأيت الممرضة عريانة تماماً وزوجتى تبكى وهى تنظر إلى جنينها معلقاً من قدميه فى غرفة الإنعاش ، أما عادل فمازال الطرب سارحاً فى وجهه وهو ينظر للأفق البعيد , ومحمود سعيد يرى فى العلم سلاحاً ندخل به عالم المستقبل , أما مدحت شكرى فمبهور بالإسلام السياسى فماذا يفعل لو رأى الإسلام كله فى رسالته الخالدة ؟ .. إن فطرته لتسعى ، لتلحق بركب المتوضئين , وهى تخلع عنها كل رداء .. وقال الضابط :
- أنت تنهار !
- ربما ..
- ماذا حدث ؟
- إنهم ..
- ماذا ؟
- رجال ..
رد ساخراً :
- هل فعلوا بك شيئاً !
- ليسوا مثلنا ..
- ماذا يقصد المغفل ؟!
- إنهم ؟؟
وهاج . ثار فى وجهى ، وعوى :
- تكلم أيها الكلب الحقير بصراحة , ووضوح ..
- إنهم طاقة جبارة لا يزلزلهم عذاب , بل يزيدهم العذاب صموداً ويقيناً بالنصر .. ولا يسكتهم السجن , وإنما هم يتباحثون فى طريق يخرج منه النور إلى الدنيا , فيبدد ظلمات الجهل , ويمحو صنوف الطغيان .. لقد فهمت منهم أن الإسلام معنى كبير .. أكبر من الوهم الذى يعيش به الناس خارج الزنزانة .. أو قل : إن ما يعيش فيه ، وما عشت فيه قبل أن أرى هؤلاء الفتية ما هو إلا سجن.. سجن يكبل أشواق الروح وإبداع العقل .
تناثر لعابه فى وجهى , وصرخ :
- كفى هراءً ..
- لِم قبضتم علىّ !
- سجلك حافل ب ...
قاطعته :
- حافل بالسقوط والخزى واللامبالاة .
وأمر السجان بحبسى حبساً انفرادياً . ذلك أهون علىَّ من وجودى بينهم .. صرت أكره ذلك الصنف من البشر . إنهم ليعذبونني بصمودهم وبعقولهم ونفوسهم المشرقة .. وكرهت عبد السلام النمل , وكل عائلة النمل حتى هى , لأنها يوماً عرفته .. حتى مدحت شكرى كرهته . وتراءى لى عادل النمل , فأغمضت عينى ودرت فى الزنزانة كما تدور دجاجة مذبوحة , وصرخت فيه : "كفى ما بى .. أنا لا أريدكم .. لا أريدكم .. لا أريدكم " .. وجعلت أبكى بحرقة , وقال عادل : " مادامت الدنيا ستنتهى فهى قصيرة قصيرة جداً .. وما نلاقيه هنا هو الآخر قليل .. قليل جداً .. قليل ما دام سينتهى .. ثم ما يفعلونه بنا ما هو إلا تكفير عن خطايانا , وزيادة فى درجاتنا عند ربنا .. صدقنى .. أنا لا أبغضهم .. بل أشفق عليهم , وأنظر إليهم كما أنظر إلى طفل صغير بل إلى معتوه لا يدرك ما يفعله "..وأمسكت برأسى وكأنما أردت أن أمنع سيل هاته الخواطر عنها . نعم .. أريد أن أبتعد .. أبتعد عن هنا .. لكنهم معى ! .. فى نفسى .. وقال محمود سعيد : "ينبغى ألا تزعجنا غربتنا عن الناس , لأنهم يروننا نعمل غير ما يعملون , ونتكلم بغير ما يتكلمون , فيظنوننا غرباء عنهم .. إن تلك الغربة هى التى تحدث عنها سيدنا حين قال : بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ . أى غير معروف السنن والقواعد . وسنن الإسلام وقواعده انطمست معالمها أو كادت فى أذهان الناس , وحلت محلها فى نفوسهم سنن وقواعد أخرى ليست من الإسلام فى شئ , وإنما صورها لهم الشيطان على أنها من الإسلام .. وعندما يرون ما نقوم به يرموننا بالأقذاء , ونشعر نحن بتلك الغربة .. لكن الإسلام انتشر وقد كان غريباً حين بدأ . انتشر لأنهم تمسكوا به واعتصموا , واستصغروا بجانبه الدنيا وما فيها من نعيم , وما لا قوة من عنت وعذاب دون أن يفت ذلك كله فى عضدهم أو يوهن من عزمهم .." . أردت أن أدق رأسى فى جدران الزنزانة , وصرخت بأعلى صوتى :
- أخرجونى من هنا ..
أخذنى السجان إلى غرفة الإنعاش لكننى لم أشعر بألم السياط . كانت صورهم تتراءى لى , وسمعت عادل يقول : " إن العبادة وقت الهرج والفتن كالهجرة إلى سيدنا" ..وصرخت . صرخت من كلمته تلك . وتردد فى خاطرى اسم "النمل" .. عبد السلام النمل .. عادل النمل .. وزوجتى .. حتى ابنى الذى هو فى رحمها . ووجدتنى فى الزنزانة . لم أشعر بهم وهم يسحبوننى إليها غير أنى وجدت الدماء تنزف منى , وجعلت أنظر إلى دمى وأطيل إليه النظر , ولا أدرى لِمه ! .. كل شئ حالك الظلمة هنا . وعاد النمل إلى خاطرى من جديد , وقال عادل وكأنما يخرج صوته من أعماق نفسى أنا : " إن العبادة وقت الهرج والفتن كالهجرة إلى سيدنا "

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:12 AM
(20)

لم أبق فى سجن الانفرادي كثيراً ,فقد قرر المسئولون خروجى من المعتقل , لأواجه الحياة بنظرة جديدة غير تلك التى كنت أنظر بها إليها , كما أنها غير تلك النظرة التى كنت أنظر بها للدنيا قبل أن أدخل المعتقل أول مرة . خرجت محملاً بأفكار تمثلت فى شخوص حية رأيتهم . أفكار وقيم لم تغير الصعاب والشدائد منها شيئاً . وإنما زادتها ثباتاً فى تلك النفوس الشامخة ، بينما رحت أترنح ,وأيقنت بضيق الساحة التى كنت أتحرك فيها من قبل . لاحظت زوجتى هذا التغير وقالت :
- لشد ما تغيرت !
- لا شئ ثابت فى هذه الدنيا .
وقالت بامتعاض :
- مصيبة المصائب أنك لم تعد تصلى ..
- أنا !
- لم تكن تترك فرضاً !
- لكنى لم أكن أصلى ..
- ماذا تقول !
- إنها الحقيقة .
- وذهابك إلى المسجد ..
- محض هراء ..
- أنت ترعـ...
قاطعتها بعصبية قائلاً :
- من يكون الشيخ عبد السلام النمل ؟
- إنه ..
- من ؟
- زوجى السابق ..
- أعرف أنه زوجك السابق , وأن اسمه عبد السلام , وولد فى محلة مرحوم , وله أبناء ليسو منك , وأشقاء وقد تزوجك بعد وفاة زوجته .. كل هذا لا يمثل عندى أى شىء.. أريد أن أعرفه هو .. ولماذا تزوجك ؟ .. ولِم قبلت الاقتران بى أنا وأنت شابة جميلة والكل هنا يحب الشيخ ؟!
ردت وقد تملكها العجب :
- ماذا بك !!
- من يكون ذلك الشيخ ؟
- قلت لك أنه زوجى السابق ..
- لِم تزوجك ؟
- كان أبى من أتباعه , وعندما ماتت زوجه عرض عليه أبى أن يتزوج منى ..
- هل كان يحبك ؟
- كان يحترمنى ..
- وأنتِ ؟
- لِم كل هذه الأسئلة ؟؟
- أريد أن أعرف كل شئ ..
- لِمه !
- ولِم لا أعرف ؟
- لا أرى مبرراً لـ....
قاطعتها :
- لكنه هام بالنسبة لى ..نعم .. ذلك أمر هام بالنسبة لى .. لا بد أن أعرف كل شىء .. كل شىء مهما كان تافهاً ..
- لشد ما تغيرت !
- دعينا من الجمل المحفوظة ..
- لم تكن تهتم بأى شئ !
- هذا حق ..
- والآن ؟!
قلت شارداً :
- لقد وجدتهم هناك فى الزنزانة يضجون حياة , وأنا هنا جيفة نتنة ..
- من تقصد ؟
- السجناء ..
- لا أفهم شيئاً !
- ولا أنا ..
وحل صمت كريه ثقيل . شعرت بسخافة ما كنت أقوله لها .. أتكون اللوثة أصابتنى أنا الآخر كما أصابت زوج لطيفة إبراهيم ؟ .. لكنه دائر فى الطرقات يدعو , وأنا لم أعد أذهب إلى المسجد كما كنت أذهب من قبل .. وقلت :
- أين الكتب ؟
- أى كتب ..
- كتب الشيخ عبد السلام ..
- تحت السرير .
- ألم يأخذوها ؟
- فتشوا فيها وتركوها ..
- ألم يؤلف كتبا هو الآخر ؟
- لا أدرى ..
- كان زوجك !
- فترة قصيرة قضيناها معا وكان دائم التـ...
وقاطعتها :
- وفى هذه الفترة القصيرة ألم يقص عليكِ شيئاً ؟
- إنه فى شغل عن كل ما يدور فى رأسك ..
- وما يدور فى رأسى ؟
- لا أدرى ...
حتى أنا لا أدرى ما يدور فى رأسى ! . وقلت فى نفسى : " كل الناس تعرف كل شئ عن الشيخ عبد السلام النمل إلا أنا ! .. أنا العائش فى بيته, والراقد على سريره , والمتزوج من أرملته ! ." .. وقلتُ :
- الناس هنا تعشق الشيخ .
- نعم ..
- وأنتِ ؟
- وأنا ...
- تعشقينه ؟
- أحترمه وأجله .
وكأنما ضاقت بسخافتى , فلوت عنقها , وأردفت بامتعاض :
- يبدو أن السجن لوث عقلك ..
- ربما ..
- يجب أن تستريح , لتسترد صحتك .
- أنا فى قوة بغل .
وأجهشت فى بكاءٍ حار . وفى لحظة غبت عنها وعن كل شىء ورأيتنى هناك وسطهم , وقال عادل النمل : " بينما نجد مهمة المؤرخ نقل الواقع كما هو فإن مهمة الأديب أن يبرز ما يجب أن يكون وليس ما هو كائن وكفى .. إنه بمثابة كتيبة الاستطلاع تلك التى تمهد للجيش الطريق .. وهكذا الأديب فإنه يمهد للحياة التى يريدنا أن نحياها فى المستقبل ويجعلها قريبة للنفوس " .. وقال مدحت : " هذا حق .. غير أنك لا تجد بين أدبائنا من يحمل هما حقيقيا . إننا كبلد متخلف يجب ألا يشغلنا غير هم واحد إنه التقدم والنهوض كى نلحق بركب دول العالم الأول ." .. أما محمود سعيد فابتسم وقال معلقاً على ما سمعه : " يجب أن نضع فى تفكيرنا ما نتميز به حضاريا إننا لن نعطى الدنيا علما . العلم فى الغرب قطع أشواطاً بعيدة , ونحن نلهث للحاق به .. وهذا لا يعنى بحال أن نترك العلم وإلا أصبحنا جثة هامدة . المسألة أننا لن نعطى الآخر ما نتميز به وما ينقصه إلا إذا كنا محل تقدير واحترام .. ولن يكون هذا بغير العلم . ساعتها سيسمع لنا ويفكر ويقبل على ما عندنا نحن .. يقبل على رسالة السماء الخالدة : .. وأمسكت برأسى . أردت أن أضربه فى الحائط , ونظرت إلى زوجتى . كانت تمسح عن خديها دمعات فرت من مقلتيها , ونظرت إلىّ نظرة تحمل من الشفقة والحزن ما كدت أصرخ منه .. وقالت :
- هل عذبوك إلى هذه الدرجة ؟
- من ؟!
- هناك فى المعتقل ..
- لقد عذبت بالحقيقة .
- أى حقيقة !
- كنت أعمى ..
- يا لك من لغز !
- ما أنا إلا أحمق كبير .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:13 AM
(21)

استقبلتُ استقبالاً حافلاً فى المستشفى . قابلنى الأطباء بود حقيقى , أما لطيفة إبراهيم فجعلت تنظر إلىّ وتبتسم , وحين انفردتُ فى مكتبى , دلفت إليه بخفة , وقالت بدلال :
- اشتقت إليك كثيراً يا حبيبى ..
- وأنا ..
- زوجى عاد وحدثنى عن بطولاتك .
- أنا !
- بالطبع يا حبيبى ..
- خليفته !!
- حتى فى بيته ..
- لكن ..
- اسمك على كل لسان , وفى كل بيت .. كانت الناس تحب الشيخ كثيراً وهى الآن تحبك .
- وأنتِ ؟
- زوجى يعشقه عشقا ..
- هل رأيت الشيخ عبد السلام ؟
- زوجى رآه ..
كنت أتحدث معها شارد اللب . لم يعد لشئ قيمة عندى .. غير أننى وددت لو تذهب بعيداً عنى , أو أذهب أنا . وقلت فى نفسى : " يجب أن تنتهى هذه المهزلة " . واقتربت منى . مست براحتها جبهتى الملتهبة , وداعبت لحيتى . أذّن الظهر فابتعدت وهى تردد :
- حان وقت صلاتك ..
- لن أصلى ..
فغرت فاها عن أسنان نضيدة , وقالت : حقاً !
ولما لم أرد , أردفت :
- شئ فيك تغير ..
- ربما ..
- عيناك انطفأ فيهما بريق ..
- لا يهم ..
- ماذا بك ؟
- لا شىء ..
- سأنتظرك الليلة .
- وزوجك !
- عاد ولم يعد .
- فى البيت ؟
وأردفتُ بسرعة :
- لا ليس الآن ..
- أريدك بـ....
قاطعتها : ليس الآن .
وتراجعتْ حين سمعت وقع أقدام تقترب من مكتبى ، وهمستْ : سوف أنتظرك الليلة .. نفس المكان .
كل شىء حولى كريه جداً . أشعر بثقل فى صدرى , أما الناس فجراثيم متحركة , والقانون سُبة إن صارمعبراً للأثرياء والمنافقين . أما ليل الصب فلا غد له .. ووجدت على باب مكتبى شاباً راسخ النظرة . كان ينظر إلىّ بثبات .. وقال :
- حمداً لله على سلامتك .
- أهلاً بك ..
- دكتور إبراهيم رمضان ..
- أعرف .
- لكنك ..
قلت وأنا أصطنع ابتسامة :
- تذكر أننى أعمل فى شئون العاملين ..
وابتسم . لعنته فى سرىولا أدرى لِمه ! .. وقال :
- أصبحتَ حديث المدينة ..
- الشهرة كالموت .
- لم أرك فى حياة شيخنا عبد السلام النمل ..
- لستُ من سكان مدينتكم .
- اسمح لى أن أكون صريحاً معك ..
- تفضل ..
- أنت تعرف - بالطبع- أن شيخنا عبد السلام ربى فى المدينة جيلاً من الشباب يحمل على عاتقه قيم الدين ومبادئ اللإسلام الحنيف ..
- عرفت هذا فى المعتقل .
وقال بجد ، وقد زادت نظرته صرامة حتى كدت أن أطيش من الكرسى :
- نحن فى أمس الحاجة لمن نلتف حوله .. طبيعة الإسلام تقتضى أن يتحقق فى المجموع .. فى جماعة ومن ثم فى دولة حتى يفتح الدنيا جميعا ..
قلت أخفف من التوتر الذى شعرت به :
- ومن الممكن أن يتحقق ولو كنت وحدك ..
- أعرف هذا جيداً ..
- ماذا تريد ؟
- نحن فى حاجة إلى سفينة ..
- ماذا تقصد ؟
- الطوفان أوشك أن يبتلعنا .
- ياأخى حدثنى بوضوح أكثر ..
رد بصوت أشد صرامة من نظرته :
- من أنت إذن ؟
- ألا تعرفنى !!
- حدثنى أنت الآخر بوضوح تام ..
قلت والعجب يدب فى أوصالى :
- ماذا تريد بالضبط ؟
- من أنت ؟
- لا أفهمك ..
- سيدى ..
وعادت لطيفة ابراهيم ، فصمت الدكتور إبراهيم رمضان ، واستأذن قائلاً :
- سوف أمر عليك فى الغد ، لنكمل حديثنا ..
قلت بلا مبالاة :
- وأنا فى انتظارك .
وجعلت أدق على مكتبى بقلم فى يدى ، وهى تنظر إلىّ شاردة .. وقلت :
- أتعرفينه ؟
- يعمل هنا ..
- أعرف أن اسمه ابراهيم رمضان .. خريج طب طنطا .. كل هذا عندى ، فهل من جديد ؟
- إنه شخصية غامضة ..
- بمعنى ؟
- الكل هنا يهابه حتى مدير المستشفى ..
- لِمه !
- لا أدرى ..
- وأنتِ ؟
- إنه جاد أكثر من اللازم ، ولا أحب هذا النوع من الرجال ..
- وبعد ؟
- هذا كل ما أعرفه عنه ..
- هل كان من تلاميذ الشيخ عبد السلام ؟
- ربما ..
كيف تأتى لذلك الشيخ أن يربى مثل هذا الجيل الذى شاهدت نماذج منه متباينة وإن كانت كلها معتصمة بحبل الله المتين !. أردفت لطيفة تخرجنى من تساؤلاتى :
- إياك أن تنسى .. أنا فى أشد الحاجة إليك ..
- لِمه !
فغرت فاها الدقيق ، وتنهدت بدلال قائلة :
- سوف تعرف حين تأتى ..
- لا أعدك .
- سوف أنسيك المعتقل وعذابه .
- صدقينى هناك مايشغلنى ..
- زوجتك ؟
- ربما ..
- وتقولها أمامى !
قلت شارداً :
- يفعل الله ما يشاء .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:13 AM
(22)

عندما عدت إلى بيتى وجدت حركة غريبة , وقابلتنى عجوز , وأخبرتنى أن زوجتى على وشك أن تضع . سمعت صرخات فى غرفة النوم .. وعجبت لأنى لم ألحظ انتفاخ بطنها وتغير حركتها . قعدت دقائق معدودة , وضقت بالصراخ وبحركة النساء وبحديث المرأة العجوز , فخرجت إلى الطريق.
قررت أن أذهب إليها .. إلى لطيفة إبراهيم .. وسرت خطوات فى الطريق المؤدى إلى شقتها وتراجعت . تجمدت لحظة بعد أن طار لبى وأنا أسير بضع خطوات فى الطريق إليها ثم أرجع ثم أعود إلى السير ثم أرجع حتى كدت أن أجن . وأخيرا قررت أن أسير إليها غير أنى لاحظت ذلك التناقض الصارخ بين الواقع وما يدور فى أذهان الناس عنى .. أنا خليفة الشيخ عبد السلام النمل ذلك المسلم الفذ ! .. خليفة الشيخ يتسلل ليقابل امرأة ! . خليفة الشيخ لا يسجد لرب السماء والأرض ! .. يا له من تناقض صارخ مميت !! . لمحت جلبة وأنا فى الطريق إليها فاتجهت ناحيتها .. كانت قهوة على ناصية حارة ضيقة , مكتظة بالأنغام الآتية من مذياع يسكن رفاً خشبياً على يمين الداخل , وبسحب الدخان المتصاعد من أفواه الناس , وبضربات النرد وبأصوات أناس تتناقش فى أمور شتى : هزيمة المنتخب , وأغنية أم كلثوم الجديدة وهلم جرا من أحاديث , عزمت على المكث بها ثم أرجع إلى البيت . قابلنى الناس بالترحاب وبود ظاهر . لم أكن أعرف منهم أحدا .. وقال النادل :
- أهلاً بك يا شيخنا الجليل .. تفضل هنا ..
ومسح لى الكرسى بخرقة كانت فى يده .. وقال رجل آخر :
- حمدا لله على سلامة البطل .
واقتربوا بمقاعدهم منى حتى كونوا دائرة حولى ، وقال قائلهم :
- حدثنا يا شيخنا عن الغد ..
- الغد بيد الله .
رد شاب وكأنما لم يعجبه ردى :
- لكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
- صدقت .
- هذا وعد الله وسنته .
قلت اجتر حديث أصحاب السجن :
- تغيير النفس لن يكون بين عشية وضحاها , وإنما الأمر يحتاج إلى جهد جهيد وصبر .
رد الشاب نفسه :
- كل هذا ندركه جيداً .. لكن طريقة العمل .. ما منهجنا فى السير ؟ , وهل نتحرك فرادى أم جماعات ؟ .. وأى جماعة تضم شتاتنا ؟ , وما معنى وجود كل هذه الفرق على الساحة ؟ .. وكيف نتفق سويا ؟ .. كل هذا يحتاج إلى إجابة . نريد أن نفهم . نعم إننا فى حاجة إلى قدوة صالحة وإلى فهم للأوضاع . فهم لغايتنا نحن وكيف نسلك السبيل إليها ؟ .. هأنتذا ترانا هنا نلقى بأنفسنا فى أحضان الثرثرة والجوزة , لأننا قوى معطلة , لا مجال لنا ولا طريق .. وقد يحالف أحدنا حظه , فيحظى بلقاء أنثوى يشبع فيه جوعه الجنسى ثم يعود ليتحدث عن الغد المظلم أو يحاول نسيان كل شئ عن طريق أحلام اليقظة إذ لا مال لنا كى نلجأ للمخدرات .. أنا لم يحالفنى الحظ كى ألتقى بالشيخ عبد السلام . نعم .. عرفته من تلاميذه . إنهم اليوم أعمدة فى مدينتنا , لكنهم بلا صوت . من يتحدث منهم يُعتقل .. ولا أمل ثمة فى الأفق .. أسمع عن الإنجازات التى تمت فى حياة الشيخ لكن الشيخ مات وتفرق التلاميذ , ولم يجمعهم من بعده أحد .. نحن فى حاجة إلى قدوة .. فى حاجة إليك ولو خضت بنا البحر , لخضناه معك ..
- ما اسمك ؟
- إسماعيل رمضان الفقيه ..
- سمعت هذا الاسم من قبل ..
- أخى طبيب فى المستشفى التى تعمل فيها ..
- نعم.. تذكرت .. الدكتور إبراهيم ، إبراهيم رمضان الفقيه .
خطر فى ذهنى أن ألقى إليهم بالحقيقة .. أن أخبرهم أنى ذاهب إلى .. ورأيت زوجها . نعم .. عرفته من صورته المعلقة فى جدار الصالة . كان ضمن من التفوا حولى . وقعت عيناى فى عينيه ، فنكست رأسى , وكأنما خفت أن يكتشف السر .. وقال إسماعيل :
- نحن فى حاجة إليك .. فى حاجة إلى قدوة وقد حقـ...
قاطعته :
- ولماذا أنا !
- لأنك .. لأنك ..
- لأنى ماذا ؟
- لا أدرى .. كل الناس هنا تحبك . أنت بطل بمعنى الكلمة . يكفى أنك أقدمت على الزواج من السيدة أرملة الشيخ عبد السلام .. لم يكن أحد ليقدم على مثل هذا الزواج وهو يعلم ما فيه من التبعة وما فيه من المخاطره إلا أنت . لأنك بطل .. بطل بمعنى الكلمة ..
- عن أى مخاطرة تتحدث !
- كلامك هذا دليل على ما أقوله لك .. أنت بالفعل بطل المرحلة القادمة .
أيقنت أنى أسكن دائرة , وكلما حاولت الخروج منها , وجدتنى حيث بدأت . نظرت فى ساعتى واستأذنت .وقام إسماعيل وشد على يدى وهو يقول :
- الله معك ..
سرت فى خطوات قصيرة . أردت أن أرجع إلى البيت فلم أستطع . كنت أسير إليها دون وعى , وعزمت على الإفصاح لها عن عدم رغبتى فى استمرار علاقتنا . وعاودتنى صورة زوجها بجسمه الفيلى وعينيه الجاحظتين الحمراوين .. وقلت : لن أستمر .ووجدتنى عندها . كانت فى حلة زاهية . أحاطتنى بذراعيها وطبعت فوق خدى قبلة . كنت واقفا كَلوح من خشب أو ثلج , لكن داخلى كان يغلى , ورأيتهم .. محمود ومدحت وعادل النمل .. قالت :
- ما بك ؟ !
- أريد أن .. أن ..
- ماذا تريد ؟
- لا شىء ..
- هيا معى إلى الداخل ..
- لِمه !
حدجتنى بنظرة ماكرة وقالت ضاحكة :
- يا له من سؤال !
- الحقيقة ..أنا فى ظرف لا أملك فيه القدرة على التفكير .
أمسكت بذراعى وسحبتنى إلى الداخل , وتمتمت لاهثة :
- أنت هنا كيلا تفكر فى أى شىء ..
- لكن ..
- دعك من كل شئ و .. أو شىء ..
- كان زوجك معى ..
- أين ؟
- فى المقهى ..
- إنه فى وادٍ آخر , ولن يأتى هنا إلا بعد الفجر .. هذا إن جاء ..
- لِمه !
- هيا بنا ..
- الحقيقة .. أننى ..
- ضقتَ بى ؟
- ليس تماماً ..
ورأيت عادل النمل ووجهه يتهلل بشراً وقد رأى بلالا .. وهمستُ :
- علاقتنا يجب أن تنتهى بأقصى سرعة ..
لطمت خدها , وقالت :
- هكذا .. وتقولها بيسر دون ..
قلت أقاطعها :
- أنا رجل متزوج .. وأنتِ ...
- كنت تعرف هذا حين التقينا , وعشقتك , وكنتَ تحبنى ..
قلت شارداً :
- كل شئ إلى زوال ..
- حتى الحب !!
- حتى الدنيا .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:14 AM
(23)

لم تفلح لطيفة إبراهيم فى إعادة ما كان رغم محاولاتها المتكررة . كنت فرحاً إذ تخلصت من حمل ثقيل كان يجثم فوق صدرى . على أنى لازلت أتحرك فى أرض ضبابية .. لا شىء واضح حتى عبد السلام النمل الذى أعيش فى بيته لم أعرفه بعد وكأنه أسطورة من الأساطير .. الناس هنا تحبه وتكرهه فى آن واحد . البعض يتهم إخلاصه ويذكر أنه كان أكبر داهية عرفته البلاد , والبعض الآخر يؤكد أنه رجل من ذلك الجيل الذى رباه رسولنا . وبدأ صاحب القهوة يضيق بمن يتجمع حولى وإن كان يرحب بى حين أدخل .. لكن زوجتى ضاقت بالفعل , لسهرى المتكرر . لم تكن تعرف أننى أذهب إلى المقهى , لذا عجبت حين أخبرتها , وقالت وكأنها غير مصدقة :
- لكنك لم تذهب إلى قهوة من قبل !
- بل ذهبت مرات كثيرة ..
- وابنك !
- ماذا حدث له ؟
- ألم تلاحظ أنك لم تسأل عنه !
- أشياء كثيرة تشغل عقلى ..
- عن ابنك !
- أريد حياة نظيفة .
- ماذا تقصد ؟
- أنا ملوث الفكر والوجدان والجوارح ..
- ماذا تقول ؟!
- ما سمعتِ ..
- لم أعد أفهمك !
- المسألة أكبر مما كنت أظن ..
- ماذا تقصد ؟
- إنهم ينظرون إلىّ نظرتهم إلى بطل !
- من ؟
- الناس ..
- هذا شئ يفرحك ..
- لكنى لست بطلاً ..
ونهضت حين بكى محمد .. محمد عبده .. هذا اسمه .. ولعلها أول مرة أفكر فى هذا .. إن اسمه محمد عبده ." لا يهم الاسم المهم المسمى " .. هذا ما قلته فى نفسى وأنا أقوم إليه . كان يشبه أمه إلى حد كبير , فحمدت الله على ذلك . وقد كنت أنا الآخر أشبه أمى .. وربما كنت أشبه أبى .. لا أدرى بالضبط فقد مات قبل أن أراه , ولم تكن هناك صورة له تبين لى الحقيقة . قبَّلت جبهته . كانت تنظر إليه بزهو وكأنها هى التى صنعته ، وحين التقت عينانا بدا عليها الضيق . وتساءَلتُ :
- ماذا أفعل ؟
- فيمه ؟
رمقتها بغيظ , وقلت :
- فيما قلته لك ..
- قلت أنك قد تلوثت , وأنا لا أفهم كيف تلوثت !
لكنى أفهم كيف تلوثت .. فهمت هذا حين رأيتهم فى المعتقل يبحثون عن طريق للتقدم رغم السوط الساقط فوق الظهر , ورغم الدم الصارخ يلعن جبناً فينا وخوفا .. ويلعن سعياً وراء الغايات الصغرى والوسائل الدنيئة , ويلعن عراك الحقراء على البغايا وهلم جرا من تفاهات .. وقال عادل :
- ليس كفقد الشعور مصيبة ..
وقلت له :
- كيف !
رد :
- إن الشعور بالمرض أول خطوة فى طريق العلاج ومن ثم النجاة من ذلك المرض .. أما فقد الشعور فإنه الخطوة الأخيرة ناحية النهاية ومن ثم الهلاك . ولك أن تنظر لما يحدث للمسلمين فى أنحاء العالم من قتل ونهب وهتك للأعراض ونحن نغنى ونرقص ونتعارك على نتيجة مباراة , ونتجادل فى أمور صغيرة حقيرة .. إنه فقد الشعور أصاب الأمة , فأحدث ذلك الخلل الذى تراه , واللامبالاة المنتشرة فى جسد الأمة إنتشار السرطان ..
وقالت :
- أين ذهبت !
- عادل النمل ...
هزت رأسها أسفاً وتمتمت :
- لم تخرج من المعتقل بعد !
- ألا تعرفينه ؟
- لا أعرف أحداً ..
- إنه من أقرباء الشيخ .
- ألا تصدقنى ؟
وعجبت كيف خرس الكلب . بحثت عنه فى صدرى فلم أجد له أثرا .. وقلت :
- أريد كتبه ..
- كتب الشيخ ؟
- لا بد من كشاف ينير لى الطريق ويكشف ما أنا فيه من انحطاط , وما حدث لى من انفصال عن الحياة ..
ردت شاردة :
- المصيبة الكبرى أنك لم تعد تصلى !!
- لم أكن أصلى من قبل رغم ذهابى إلى المسجد .. الدين فى أذهانهم كل شامل محيط , لذا فهم أحياء أما أنا فمجرد جيفة قذرة ..
وأردفت بعد صمت خانق :
- كنت أذهب للمسجد ثم ألقاها ..
صرخت فى وجهى :
- تلقى من !
- المعصية ..
وابتسمت وهى تضرب كفاً بكف , وأردفتُ :
- أتغارين ؟
- أنت زوجى ..
دق قلبى وكأننى غر يقابل فتاة لأول مرة . أحقاً تغار علىّ أنا القبيح الوجه ؟ . تحسست وجهى بيدى . أردت أن أتجه للمرآة المعلقة فى مدخل الشقة , غير أنى ضحكت لبلاهتى تلك , وقلت : إن العلاقة بين الزوج وزوجه علاقة مقدسة , وفيها من الأسرار ما لم يطلع عليه الإنسان بعد . ووجدتنى أقبلها , وقلت لها :
- أحبك ..
احمر وجهها , وسرت فى جسدها رعشة خفيفة .. وهمست :
- وأنا أحبك .
- حقاً !
- أهناك شك فى حبى لك ؟
أحقاً تحبنى أنا ! . لم أكن يوماً فتى أحلام لفأرة , وخطرت الممرضة فى خاطرى فبصقتها , وقلت شارداً :
- أريد الحياة ..
- الدنيا أمامك , والناس بدأت تحبك .
- المهم أن أكسب نفسى ..
- ماذا تريد ؟
- العلم أولاً ..
- لا أفهمك ..
- الإسلام غريب عنى .
- كيف !
- لأنى لا أعرفه ..
وأردفت بعد لحظة صمت :
- نعم .. تلك هى الحقيقة .. وما دمت لا أعرف الإسلام ، فكيف أسير على الصراط ! .. على الساحة الآن أفكار كثيرة ولكل فكرة أنصار . الكل يحسب أنه على صواب ومن خالفه فهو على الباطل .. نعم .. كيف أعرف أنا الصواب , وكيف أدرك التفرقة بين كل هاته الأفكار المتصارعة , وأعرف إلى أى مدى تقترب من الحقيقة ؟ .. لا شىء ينير لى السبيل غير العلم . علم بقواعد الإسلام وسنته .. وعلى ضوء هذا العلم أكشف الحق من الباطل . الجهل ستار بينى وبين الضياء ومن ثم الطريق الواجب السير عليه ..
وقالت :
- الناس هنا أحبت الشيخ عبد السلام , وها هى ذى تلتف من حولك ..
- لن أغير من حياتهم شيئاً إلا إذا تغيرت أنا .. إلا إذا تشربت تعاليم ذلك الدين القيم, وصرت تمثيلاً له ومن ثم أدعو على بصيرة .. أنا أحب الإسلام .. وهم كذلك .. لكن ! أى إسلام هذا الذى أحبه ؟.. لست أدرى .. لقد رأيت فى الزنزانة أناساً من لون فريد.. أظنهم أقرب الناس إلى الحق , لأنهم أكثر صموداً وأكثر إشراقا .. لكن هذا وحده لا يكفى .. لا بد من العلم حتى أكون على بصيرة من أمرى وأمر هؤلاء ..
وقمت إلى صناديق الكتب , لأفك طلاسم جهلى المتراكم .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:14 AM
(24)

جاءنى مدحت شكرى لمقابلتى فى المستشفى بعد أن أفرج عنه بقليل . لم أتمالك نفسى حين وجدته أمامى ، فجعلت أضحك وأبكى فى آن واحد . وتذكرت أننى لم أسأل عنهم منذ خرجت من المعتقل , فباخ موقفى أمام مدحت غير أنه لم يتطرق إلى هذا , وسألته عن حال عادل النمل ومحمود سعيد , فقال :
- يعلم الله متى يتم الإفراج عنهما ..
- هل تأكدوا أنك مـ....
- لمِ لا تكمل !
واحمر وجهى خجلاً , وأردف مدحت :
- كانوا متأكدين من ذلك .
- ولِم اعتقلوك إذن !
- لأنى أدعو إلى الإسلام ..
- كيف !
- الإسلام السياسى هو ما أدعو إليه .
- لكنه فرع من فروع شجرة الإسلام الشامخة ..
- ما يشغلنى أنا هو الإسلام السياسى , لكونه السبيل الحق لوجود العدل والحرية والمساواة وجوداً حياً فى أرض الواقع , وليس وجوداً خرافياً فى أذهان الناس ..
وهممت أن أدعوه إلى الدخول فى الإسلام , فتذكرت أننى لا أفقه من الإسلام غير قشور .. ربما كان هو يعرف عن الإسلام ما لا أعرفه أنا المسلم بالوراثة .. ثم أنا لا أصلى ! .. وقلت :
- رأيى أن تستكمل أبحاثك فى الجامعة ..
- لا بد من هذا ..الحياة فى المعتقل غيرت ما كان فى نفسى .. ما كنت لأتصور أن يحدث ما رأيته فى بلد يدعى مع كل طلعة صبح أنه ...
- متحضر ..
- بيننا وبين التحضر عوالم شتى ..
- يا له من تناقض !
- كيف ؟
قلت :
- إن المسلم لا يفقه ما تفقهه أنت عن الإسلام .. الإسلام السياسى . لا يرى الكثيرون ذلك الجانب من الإسلام , ولا أكتمك سرا , فقد كنت من هؤلاء ..
رد مدحت :
- لقد فشلت النظم الوضعية فى حل أزمات الإنسان بينما ثبت تاريخيا نجاح الإسلام الباهر فى رفع الإنسان عقلا وروحا إلى آفاق لم يحلم بها الحالمون .. إنك لا تكرر النظر فى ذلك الدين إلا وتزداد يقينا بأنه الحل الوحيد لأزمة الدنيا , وأننا لا بد أن نتجه إليه شئنا ذلك أم أبينا , لكونه الحل الوحيد , والمالك وحده لعلاج أزماتنا الطاحنة . إن من ينادى بعزل الإسلام عن الحياة مقلد لا يفقه شيئاً , ولم يدرس الإسلام قط , وإنما هو يحسب الإسلام كالمسيحية فى جعلها ما لله لله وما لقيصر لقيصر .. وأمثال هؤلاء الجهلة قد عَلِقَ فى أذهانهم سلطان الكنيسة إبان العصور الوسطى حيث قيدت العقل , وكبلت الروح عن الانطلاق . إننا مضطرون لأسلمة السياسة كى ننهض من كبوتنا ، كما أننا مضطرون لأسلمة الاقتصاد كيلا تتمركز الثروة فى أيدٍ قليلة ، فيأسن وتأسن هى .. وربما كنا مضطرين لأشياء أخرى لم ندركها بعد ..
قلت وقد زاد إعجابي به ، وتقديرى لهذا العقل الفذ :
- أنت عقل مسلم .
- وقلب مسيحى ...
وأردف بعد لحظة تمنيت فيها أن يكون قلباً مسلماً :
- إن الحضارة التى يصنعها الإسلام ليست من صنع من يدين بالإسلام وكفى وإنما يصنعها كل من يستظل برايته ويحيا فوق أرضه ..
قلت بحماس :
- نعم .. ذلك هو الطريق .. العلم .. وإلا تاهت المفاهيم ، وضرب بعضنا رقاب بعض ..
وقال باسماً :
- تريدُ أن تكون قساً دون أن تخدم الكنيسة . وكأنما وقعت كلمته فى جُرحى ، فغرزت عينى فى الأرض ، وتمتمت :
- أريد أن أفتح لك صدرى ..
- ماذا بك ؟
- ألم وضيق ..
بدا على وجه مدحت الاهتمام الشديد ، وقال :
- تحدث .. ماذا بك ؟
- ليس لى تاريخ فى النضال ..
وتجمد برهة ثم قال دهشاً:
- أى نضال !!
- مثلكم ..
وابتسم عجباً وكأنه لا يصدق أذنيه ،وكأن الأسد الذى ظنه موجوداً تمخض عن فأر .. وقال :
- أنت تتصور الأمر على غير حقيقته ، فليس ثمة حرب بيننا وبين أبناء الوطن وحكامه ، وإنما هى فكرة أو رأى رأيناه وحسبناه السبيل إلى التقدم ، وأردنا عرضه للنقاش لا على أنه الطريق الذى لا طريق سواه وإنما عرضناه ليتبين لنا ثوابه من ... غير أننا لم نجد صدراً رحباً ، ليناقشنا وإنما صراخ فى الوجه وادعاء بالباطل بأننا لا نريد خير البلد وإنما نسعى لمجد شخص .. نعم هناك تجاوزات عديدة وشديدة من الجانب الآخر ، لضيق فى الفهم ، ولعوامل أخرى .. لكن تصوير الأمر على أنه نضال وصراع وغير ذلك من ألفاظ ضخمة ، تصوير للأمر على غير حقيقته .
قلت :
- والسجن والتعذيب .. وغرفة الإنعاش !
- هناك تجاوزات ..
- كرامة الإنسان التى تداس وحرمته التى تنتهك فى وضح النهار !
وعاودتنى فى تلك اللحظة صورة أمى ، وبقع الدماء تتناثر فوق الحصيرة فى غرفتنا الحقيرة ، فغلى الدم فى عروقى وأردفت شارداً :
- إنه لا تزر وازرة وزر أخرى فى كل بلاد الدنيا إلا هنا ! ، لو لم أنقل لهم أخباركم ، لفعلوا بزوجتى مافعله التتار بالمسلمين ..أكل هذا مجرد تجاوزات !!
- لسنا فى صراع ..
- لكنهم يخلقون ذلك الصراع .
- لن نجاريهم وإلا حدثت الكارثة ..
- هم صنعوا الكارثة .
- أنت منفعل جداً ..
- ربما ..
- بل هى الحقيقة .
وقلت شارداً :
- تلك حياة لم أكن أريدها .. كنت أود حياة سهلة مريحة . لكن هذا محال .. لم أدخل المعتقل لأنى صاحب رأى ، أو لأنى شاركت فى عمل بطولى .. حتى السبب الذى دعاهم إلى القبض علىّ كان وهماً .. كنت موجوداً أثناء قيام المظاهرة وتسللت منها خفية ، فلم يكن يشغلنى من أمور السياسة أى شيء ، لكن الكاميرا سُلطت علىّ ! .. أما ذقنى التى لم أحلقها غير مرات قليلة فقد أطلقتها لأسباب خاصة جداً .. صدقنى .. لقد مرت علىّ أيام لم يكن معى فيها ماأدفعه إلى الحلاق ، ليحلق لى شعر رأسى .. ثم أنا كما ترى .. وجهى لا يصلح بغير لحية .. أعرف هذا .. لذا تعجبت حين وافقت أرملة الشيخ على الزواج .. نعم .. تلك اللحية تدفع عن وجهى بعض قبحه .
وخطرت فى ذهنى لطيفة إبراهيم فتغضن وجهى . لكنى تنبهت _ ولأول مرة _ أنها لم تكن تريد غير ذكر وكفى . رجل يشبع جوعتها ولو كان له وجه قرد أو وجه خنزير .. وقال مدحت :
- فِيم شرودك ؟
- المسألة أننى كما قلت أنت أريد أن أصبح قساً دون أن أخدم الكنيسة .
رد باسماً :
- الموقف الراهن يدفعك لأن تصبح قساً ..
- الذى لم يخدم الكنيسة !
- ماذا فى رأسك ؟
- غبار ..
- تأكد أن رأسك ليس فارغاً تماماً ..
- ماالذى يجعلنى أتأكد من ذلك ؟
- لديك بعض الأفكار القوية ..
- فى القانون !!
- لا تسخر من القانون .
- أى قانون !!
- أى قانون .
- ذلك الإله الذى صنعه سادتنا بأيديهم وأسجدوا له الضعفاء من أمثالنا !
- تلك نغمة شاذة لم نسمعها فى حياة الشيخ عبد السلام ..
- ألم أقل لك أنى فارغ الرأس ، ويدفعنى الناس لأن أصبح قساً ، ولا أجد الجرأة لأخبرهم بأننى يهوذا ..
- لستَ يهوذا ..
- لقد بعتكم فى المعتقل .
- لا تجعل هذا الأمر يعذبك .
- إنها الحقيقة .
- كان ذلك من أجلها ..
- من ؟
- زوجتك ..
- ليتنى ما تزوجت .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:15 AM
( 25)

- ألا زلت على عنادك ؟!
قالتها لطيفة ابراهيم وهى تمسح على راسى بيمناها . اقتربت بوجهها من وجهى فانتفضت .. وقلت وأنا أبتعد :
- ما عاد وقت لِلَهو ..
- أتسمى حبنا لهواً !
" إنه خيانة وفاحشة " .. قلتها فى نفسى والرعشة تلفظ أنفاسها الأخيرة .. وأردفتْ :
- لِم لا ترد !
قلت بثبات :
- إنه خيانة .
- خيانة !
- تلك هى الحقيقة .
- إنما الدنيا ساعة وساعة ..
ساخراً قلت :
- ساعة لزوجك ، وساعة لى !
- يا لك من سكين بارد !
- لم أقصد إها ...
وقاطعتنى وهى تنصرف :
- لا داعى للكلام بعد ذكرك للحقيقة كما تدعى !! وقلت لنفسى ! لا بد مما ليس منه بد . وليس أمامك الآن سوى محاولة الفهم والسير .. وذكر الحقيقة كاملة .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:15 AM
(26)

ليس أقسى على المرء من داء الجهل .. أقصد من شعوره بجهله . وقد زاد هذا الشعور عندى وأنا أمضى فى طريق العلم .وزدت غربة حين أنزلت ما علق فى الرأس إلى القلب ومن ثم إلى الأرض .. إلى أرض الواقع . أنكرنى من التف حولى من قبل ، وعَدُّونى من الجهلاء أدعياء التدين .. وقلت لهم : علينا أن نفهم سنن ديننا وقواعده ونعمل بها ..
قال رجل :
- نريد إصلاحاً ..
- لا سبيل إلى إصلاح إلا إذا أصلحنا نحن أنفسنا ..إذا صلحنا نحن حدث الإصلاح ..
- لكن هناك موانع كثيرة ..
قلت :
- ما المانع من إماطة الأذى عن الطريق ؟ .. وما المانع من تبسمك فى وجه أخيك ؟ ، وما المانع من أن تنام وليس فى قلبك غش لأحد ؟!
- نريد حرية ..
- حرر نفسك منك ، تتحرر من كل سلطان .
وأردفت حين وجدت صمتاً :
- إنه مالم نتحرر من أنفسنا وسلطان شهواتها ، فلا سبيل إلى أن نتحرر الحرية المنشودة .. الحرية العظمى ..
- هذا كلام لم يقله أحد ..
- لذا طالبتكم بالفهم أولاً .. تلك مهمتنا .. أن نتغير نحن وساعتئذ يحدث وعد الله لنا .. إنهم يريدون الحرية فى ظلال سحب دخان الشيشة ! . وهبها وُهبت لهم ، فما يصنع العجزة بالحرية ! . إن دخول سباق الحياة يحتاج إلى إعداد وبذل للجهد والمال .. ولو ألقيت الجند فى ميدان النزال دون تدريب ومران ، لحصدهم العدو حصداً ، ولعادوا بفشل هم صانعوه .. وقلت :
- إنه لا سبيل لإخراج العالم من ظلمة الباطل إلى نور الحق إلا إذا خرجنا نحن أولاً من تلكم الظلمة .
- لا تدخلنا فى متاهات !
- بل أخبركم بالحقيقة ..
- أى حقيقة !!
- لا سبيل إلى نشر دعوتنا إلا بعد فهمها وتمثلها بحيث تسرى مسرى الدم فينا ، فنندفع – ساعتئذ – إلى معرفة روح العصر الذى نحيا فيه ، وندرك أى أفكار توجه نشاطه وتدفع حركته .. وبهذه المعرفة وحدها نستطيع أن نبث الحق فى الدنيا ، ونغير من أفكار العالم أجمع بالقدر الذى نريده ، ليتحرك الوجهة التى نريدها نحن له .. وما نريد إلا ما يريده الله رب العالمين .. وهذا لن يحدث إلا بامتلاك القوة .. قوة العصر ..
- عن أى قوة تتحدث ؟!
- العلم ..
- ماذا تقصد ؟
- أقصد أن تسرى فينا روح واحدة هدفها أخذ العلم وجمعه ، وتدبر ما فيه والبناء عليه ، ولا سبيل لهذا إلا بفهم الدين وتشرب تعاليمه .. إنهما خطوتان متلازمتان ..
- أى علم تقصد ؟
- أى علم ..
- لم نعد نفهمك !
- الدين يدفعنا دفعاً إلى النظر والتدبر فى أسرار الكائنات ، وامتلاك أسباب القوة لا لإرهاب أهل الحق ، وإنما لإرهاب الباطل وأهله ، ولإشاعة العدل ونشر لواء السلام فوق الأرض والدعوة إلى الله بالحسنى .. وبذا نكون شهداء على الناس، وإلا فبأى وجه نقابل صاحب الرسالة يوم العرض الأكبر؟
- هذا كلام غريب ..
- إننا ننطلق من ديننا .. والأمر بإعداد القوة كلأمر بإقامة الصلاة . العلم هو القوة فى عصرنا هذا ، لذا وجب علينا أخذه والسهر عليه حتى يصير طوعاً لنا ، وبذا نوجهه لخير الدنيا والآخرة ، لأن انطلاقنا موجه لخير الدنيا والآخرة .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:16 AM
( 27)

نحل جسمى وجافانى النوم . وجدتُ أن الخطأ يكمن فى تعجل النتائج .. إنك لن تجد العلاج الذى يقضى على الفساد الذى استشرى فى جسد أمتنا فى لمحة عين .. ذلك متعذر . وإنما الحل فى العلاج البعيد المدى , فالبذرة كى تأتى بالثمرة تدفن فى باطن الأرض ، ويتعهدها الفلاح رياً وحرثاً ويقف للآفات التى تريد القضاء عليها بالمرصاد .. إنه لن ينتظر الثمرة بين عشية وضحاها بل دون الحصد جهد جهيد . لكن أين تلك التربة الصالحة لتقبل العلم وتعهده بالرعاية والعناية حتى يأتى بثمره ؟ .. لم يقطع سيل خواطرى غير بكاء محمد .. محمد عبده . وقمت لأحمله .. لم أكن أذكره إلا حين يبكى أو حين أراه يمتص رحيق أمه , وقد أقلقنى هذا .. وقالت حين رأتنى أحمله , وأقبل رأسه :
- شغلتك الكتب عنا ..
- إلى حين .
- أنت ترهق نفسك ..
- ربما ..
- أتريد الحقيقة ؟
- ومن لا يريدها !
وقلت فى نفسى : "بل من يريدها !" , إننا نفر من الحقيقة فرارنا من الذئاب الضوارى . أما لِم يحدث هذا ؟ , فالجواب سهل جداً ولا يحتاج إلى كثير إعمال فكر . إنها تكشفنا أمام أنفسنا كما تكشف المرآة قبح القبيح وهرم العجوز .. ربما نهرب منها لضعفنا , ولخوفنا منها , فالحقائق مُرة المذاق .. وقالت :
- كم أتمنى أن تترك تلك الكلمة ..
- أى كلمة ؟
- ربما ..
- لا أفهم شيئاً ..
- تلك كلمة تغيظنى وتشعرنى بترددك وعدم يقينك .
- ربما ..
- هأنتذا تعيدها !
- المرء حين يألف شيئا , يأتيه دون وعى منه .
- لكن ..
ولم أسمع منها شيئاً , ورحت أعرض نفسى على صورة الإنسان فى الإسلام كما رأيتها فى الفترة الأخيرة تلك التى نهلت فيها من كتب الشيخ الشىء الكثير , فلم أجد غير ملامح قليلة فىّ منها .. قليلة جداً لدرجة أفزعتنى .. أهذا هو أنا !. وأفزعنى أكثر أننى لا أصلى .. وأحدث الناس عن الصلاح وإصلاح النفس .. ذلك ضرب من الخبل . إنه إما إسلام أو .. لا إسلام . لا توجد منطقة وسطى .. وهذا لا يعنى بحال تطبيق الدين كله فى اللحظة والتو , كما لا تعنى أهمية الدواء لعلاج علة أن أقذف فى جوفى بكل الدواء فى وقت واحد .. ذلك لا يكون أبداً , ولا يخطر على بال أحد حتى الحمقى من الناس . وقالت تهزنى : أين أنت ؟
- لا أدرى ..
- ماذا تعنى ؟
- لست أصلح لشئ ..
- تلك بداية طيبة .
- بداية طيبة للانهيار !
- الاعتراف بالحق بداية طيبة .
- بداية طيبة لماذا ؟
- للإصلاح ..
وقلت فى نفسى : "هى صادقة ولا شك . فبداية الطريق إلى العلاج أن يعترف المريض بأنه مريض , أما إن لم يعترف بذلك فسيقضى عليه المرض وهو فى حمقه مقيم" . وقلت :
- إنهم يريدون قائداً ..
- ولِم لا ؟
- هل أخدع نفسى !
- الناس فى حاجة إلى قدوة ..
- هذا حق .. لكنى لست قدوة .
- ولِم لا تكون ؟
- يفزعنى كثرة التفكير فى هذا الأمر ..
- لِمه ؟
- إنه يأكل الإخلاص كما تأكل النار الحطب .
- لو أن ما تفكر فيه صحيح , لما أفلتت منك الفرصة .
- ربما ..
- بل هى الحقيقة .. تأكد من هذا ..
وأردفتْ : المنافق يستغل الفرصة بل إنه ليخلقها خلقاً أما أنت فتخشى النفاق خشيتك الحية القاتلة ..
قلت شارداً : ربما ..
وتنهدت باسمة وهى تقول : ألن تكف عن النطق بها !
قلت شارداً :
- ربما ..

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:17 AM
( 28 )

قرت عينى بعد طول عناء . سرت إلى المسجد رافع الرأس .. نعم كنت أختال .. لا اختيال الكبر بل الفرح لأنى من المسلمين . بات يقيناً عندى أنه لا خلاص للبشرية من آلامها المبرحة إلا إذا أخذت بمنهج الإسلام .. ذلك المنهج الذى يصلح الدنيا للآخرة . إنه منهج الإسلام ليس لصلاح الدنيا وكفى وإنما لصلاح الآخرة أيضاً . لا يوجد مثل هذا الامتداد والشمول فى غير منهج الإسلام .. ولأول مرة أشعر بانسجام مع الكون .. لست نغمة شاذة وإنما أنا جزء من كل متماسك منظم .. إنه الشعور بالسكينة . لا قلق ولا يأس ولا حقد ولا غش وإنما سلام محض .. ولأول مرة أفهم لِم دخلت امرأة النار فى هرة , ولِم كان الفاروق يعبد الطرق لحيوان أبكم .. ذلك كله صار الآن مفهوماً . كما صار واضحاً وضوح شمس الظهيرة : لِم تقدم العرب يوم كان للإسلام وجود فيهم .. ذلك دين لا يرضى لمعتنقيه بغير السيادة والاستعلاء .. الاستعلاء بالحق لا بالباطل , والسيادة لقيادة الناس لرب الناس ومن ثم للجنة .. وقال إبراهيم الفقيه :
- أراك الآن مبتسماً !
قلتُ :
- تبسمك فى وجه أخيك صدقة .
- نعم ..
- جعلنا الله ممن يحيون سنن نبيهم .
- أنت تتغير بسرعة مذهلة ..
- كيف ؟
- أنت إنسان جديد تماماً ..
- اللهم ثباتاً على الحق ..
وأردفت قائلاً :
- أين جهودك فى مجال الطب ؟
- ماذا تقصد ؟
قلت :
- إن إسلامنا طريق للتقدم والرقى والأخذ بزمام العالم إلى حياة أفضل .. أووه يا صاحبى .. إن الدنيا فى أمس الحاجة لديننا .. نعم .. محتاجة لنا حاجة الأرض الموات إلى الماء بل حاجة الدنبا للدين أشد ..
- أفصح يا صاحبى ..
- الغرب المتقدم فقير جداً .. فقير فى أغراضه وفى قيمه رغم غناه فى آلاته . لقد تحول الإنسان هناك إلى آلة وفقد كل ما هو إنسانى .. ومصيره لو استمر فى طريقه ذاك أن يحطم نفسه بنفسه .. غير أنه لو عرف حقيقة ديننا وفتح قلبه له , لحدث التوازن فى حياته بين عقله وقلبه ، وبذا لا يترنح فى سيره ولا يختل . السؤال يا صاحبى الذى يجب أن نبحث له عن إجابة.. إنه : كيف يعرف الغرب الإسلام على حقيقته ؟ .. والطريق إلى ذلك أراه فى تقدمنا العلمى .. ساعتها سينظر الغرب إلى ما لدينا بعين غير تلك التى ينظر بها إلينا الآن .. لذا ففرض عليك وأنت طبيب أن تتفوق وتبتكر وتبحث حتى تصل إلى ما وصلوا هم إليه وتتفوق , وبذا يقبلون دينك حين تعرضه مع ما تعرضه من علمك . لقد خدم أينشتين إسرائيل خدمات جليلة بعلمه . ويخدم الاقتصاديون اليهود إسرائيل وهم يحيون فى أمريكا بقوة الثروة التى يجمعونها ويسيطرون بها على اقتصاد دول الغرب ومن ثم على العقل الغربى ..
- لقد ذكرتنى بالشيخ النمل ..
- بل أذكرك بمطالب ديننا العظيم وبمدى ما نحمله على عاتقنا من مسئولية نحو العالم أجمع ..
- سأبدأ إن شاء الله ..
- نعم .. يجب أن نُطَلقَّ اليأس .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:17 AM
(29)

تحول البيت إلى جنة وارفة .. وأشرقت روح زوجتى مما زاد من بهاء بيتنا وروعته .. كنا نسعى لإعداد محمد عبده ليكون قوة إسلامية .. وقلت :
- يجب أن يحفظ كتاب الله .. هذا شئ ضرورى .. يحفظه فى صغره ، ليتفرغ لتدبره وتطبيقه حين يشب .
قالت :
- أفعل الإسلام بك كل هذا !
- إن الإسلام يحول المرء من تراب .. من جثة هامدة إلى طاقة جبارة مبدعة .. إلى كائن عجـ...
ودق الباب بعنف. قمت لأفتح غير أن الطارق لم يصبر , فدفعه بقوة , فانخلع . نفس الوجوه المظلمة غير أن رعبى منهم تلاشى . كنت أنظر إليهم بشفقة , وقلت مبتسماً :
- أهلاً بكم ..
- هيا معنا ..
- توكلت على الله .
واقترب منى عتل جاحظ العينين لا أثر فيهما لحياة , وأمسك بياقتى . نظرت إلى زوجتى فوجدتها ثابتة هى الآخرى وقد تعودت على هذا المشهد منذ صغرها .. فوالدها اعتقل من قبل وزوجها السابق .. وأنا .. ولن تكون هذه المرة هى الأخيرة ما دام الجهل والحمق ينعقان فوق أشجار حديقتنا . سرت معهم رافع الرأس ثابت الفؤاد , ولسانى يترجم عن قلبى : لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:18 AM
(30)

لا زال المعتقل مكتظاً بالشباب والشيوخ حتى النسوة . يخيل إليك أنه لم يعد أحد طليقاً فى بلدنا .. وقال الضابط :
- لِم عدت للصلاة بعد أن انقطعت عنها !
- حمداً لله على الهداية .
- كنت ترتعد فى المرة السابقة وأنت واقف أمامى !
- كان فى صدرى قبضة من تراب ..
- أخبرنى بكل شئ , وسوف أفرج عنك ..
- ماذا يحدث للجنين لو قُطع الحبل السرى الذى يربطه بأمه ؟
- لا أريد ألغازاً أيها الغبى ..
- إن ما يحدث للجنين لا يكاد يذكر بجانب ما يحدث للمسلم حين يقطع علاقته بربه .. حين لا يصلى ..
ودق فوق المكتب بإصبعه , فانهالوا فوق رأسى ضرباً . وهتف هاتف فى أذنى بأن الله إذا أراد أن يرفع عبداً من عباده , سلط عليه الجهلة , ليبخروا ذنوبه ويرفعوا درجته .. وقال الضابط :
- حدثنى بصراحة ..
- ما كنت لأكذب بعد أن عرفت الله ..
- إلى أى حزب تنتمى ؟
- حزب الله .
- حزب الله !
- نعم ..
- حدثنى عن كل شئ يخص هذا الحزب .. أين مقره , ومن يموله ؟
- إنه فى كل مكان , ويموله الإيمان ..
- أتسخر منى يابن الكلب !
- لو قرأت كتاب الله لوجدت ما تسأل عنه ..
- يا لك من مراوغ داهية !
- إن الدنيا أصغر وأحقر من أن أراوغ فيها , فما عند الله أعظم ..
وأمرهم بجرى إلى غرفة الإنعاش . هناك وجدت عادل النمل معلقا من قدميه فى السقف , ومحمود سعيد تصعقه الكهرباء , وغيرهما بين لاهث ومن ورائه سوط يلهب ظهره , أو مكور فى ركن وقد غطى وجهه قار .. وقلت لنفسى : " لا بد من روح جديد تسرى فى أمتنا تحيل همودها يقظة و وسباتها حياة " .. ووجدتنى معلقاً بجوار عادل . كان الدم يسيل من فمه .. وقلت بأعلى صوتى :
- صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ..
وتبارى الجند فى ضربى بالسياط حتى خارت قواى غير أن قلبى كان يقظاً , وكنت أردد بين الحين والآخر :
- صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة .

د. حسين علي محمد
23/12/2007, 09:19 AM
(31)
نُقلت إلى زنزانة فاقداً الوعى , وعندما أفقت سألت عن عادل النمل ومحمود سعيد فلم يجبنى أحد .. وجدت وجوهاً أخرى تنضح ألما غير أن فى عيونهم يقيناً بنصر سيأتى .. ولو بعد ألف ألف سنة . ولم يمض شهر على وجودى فى المعتقل إلا ونقلونى إلى زنزانة أخرى وهناك وجدت عادل النمل .. كان يرزح تحت هم ثقيل .. وقلت وأنا أقترب منه :
- ماذا حدث ؟
رفع بصره إلىَّ .. كان شاحب الوجه جامد النظرة , وتمتم بأسى :
- لقد مات ..
- من ؟
- محمود سعيد .
قلت بثبات أُحسد عليه :
- محمود لم يمت .
- لم يمت !
- لقد استشهد ..
وكأنما ذكرته بشئ غاب عنه , فعاودته الحياة من جديد , وقال :
- نعم .. محمود لم يمت ..
- هذا حق .
وقال :
- ماذا يحدث فى الخارج ؟
- الكل يريد الإصلاح ..
- شئ طيب .
- غير أنهم غارقون فى الرذائل .
- يجب ألا نيأس ..
- لا يأس مادمنا على قيد الحياة ..
- والحل ؟
قلت :
- لا بد من روح جديدة تسرى فى أمتنا , تحيل سباتها يقظة , وهمودها حياة ..
- وما السبيل إلى ذلك ؟
قلت :
- ذلك شغل الليل والنهار .

........................
(تمت الرواية)

sapry_2020
24/02/2008, 09:52 PM
كلام رقيق


http://img299.imageshack.us/img299/6417/31ld5.jpg

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 05:08 AM
كلام رقيق


http://img299.imageshack.us/img299/6417/31ld5.jpg

شُكراً على المشاركة.