المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فقــه الإبداع الأدبي في الإسلام .. عبـــد الرزاق المســــاوي ...



أبو شامة المغربي
15/05/2007, 09:47 PM
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
فقه الإبداع الأدبي في الإسلام
http://www.odabasham.net/images/abdulrazaqmasawi0207.jpg
الأستاذ
عبد الرزاق المساوي
الجزء الأول
على سبيل التمهيد
بدءا:
في مسيرة الإسلام الطويلة وهو يشق طريقه في البناء الحضاري والتعمير المدني، وفي تاريخ المسلمين العريق وهم ينشرون مبادئ وأسس هذا البناء وركائز ومحفزات ذلك التعمير فكرا وعلما وثقافة وسلوكا .. أثيرت – ولا زالت - كثير من الأسئلة المختلفة، وطرحت مجموعة من القضايا المتباينة، وعرضت على أنظار وواقع المسلمين عدة مشكلات وتحديات سواء على المستوى الفكري أو العلمي أو الأدبي أو الثقافي أو المعرفي أو المنهجي، وإن شئت فقل على المستوى الحضاري ككل، فلقد كان هناك تحد حضاري استطاع المسلمون أن يستوعبوه وأن يحتووه دون أن يترك خدوشا كبيرة في حياتهم .. وتراكمت كل تلك المشكلات والتحديات عبر صيرورة الزمان وسيرورته وتداول الأيام وتواليها وتعاقب الأجيال وتقادمها، فمنها ما قضى نحبه وانتهى أمره وأصبح من الإرث الثقافي (المؤرشف)، ومنها ما ينتظر لا لكونه استعصى على الأفهام أو لم يجد له مقيما –حاشاهم سلف هذه الأمة المجيدة، ولكن لكونه يخضع لقاعدة التجديد حسب تجدد الزمان وإعادة الصياغة حسب تطور الإنسان.. ثم جدت أمور هي تخضع للمعالجة في كل حين..
وجاء هذا العصر بكل رزئه ليحيي في الأذهان، ويوقظ في العقول، ويروج في الأنفس والمجتمعات، ويشيع في الفكر والفهم، ويرسخ في الثقافة والمعرفة، بكل ما أتيح له من وسائل النشر والإعلام والإعلان، بعضا من تلك المشكلات القديمة – إما تلك التي قضت نحبها وأكل عليها الدهر وما شرب، وإما تلك التي تنتظر تجديد النظر فيها- في أزياء جديدة وأشكال حديثة، وطروحات معاصرة، فلقد تنولت بأشكال مختلفة ومن طرف مهتمين متباينين انتماء وفكرا ومنهجا، فمنهم العربي ومنهم المستعرب، ومنهم الغربي ومنهم المستغرب، ومنهم المستشرق، ومنهم اليميني ومنهم اليساري، ومنهم القومي ومنهم الوحدوي، ومنهم المتعصب ومنهم المتساهل، وهلم جرا من المنهم حتى الذين لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء مدبدبين بين ذلك.. كل هؤلاء وغيرهم يمثلون أقلاما تعاملت مع مشاكل عديدة ومختلفة علمية وأدبية وثقافية وفكرية ذات أصول قديمة نبتت في التاريح القديم والحديث، تناولوها بعقليات حديثة لا لتجيب عن الأسئلة العالقة، أو تقوم بعملية تحديث للإجابات الحاصلة، أو تحيل على المصادر الموثوقة أو تناقش الأفكار المطروحة لتصوغها صياغة أصيلة وجدية ومعقولة، ولكن للأسف الشديد عمدت كثير من تلك الأقلام إلى إثارة تلك المشكلات فقط لتقرّ بها وفيها الأباطيل المنهجية، وتعيد من جديد إلى أرض الواقع الأخطاء التاريخية التي مضت، بله إنها لتقدم ما هو سلبي في زي مزركش يبدو معها كأنه إيجابي، فيختلط الباطل بالحق، والحابل بالنابل، ويلتبس الأمر على المتلقي، ومن ثمة تصاغ المشكلات على غير الهدي الذي يجب أن تسير عليه، مما قد يؤثر على أصول وقواعد أخرى تنتمي إلى المنظومة نفسها التي انبثقت عنها تلك الأسئلة في الأصل الأول، ولربما تحدث –وقد أحدثت- ربكة ليست فكرية فقط بله أيضا عقيدية وسلوكية كما أحدثتها في عصور ولت وأزمنة انقرضت..
ولقد حاولت ثلة من المفكرين الإسلاميين الذين تشربوا الرؤية الإسلامية واعتنقوها واعتقدوها وجدانا وسلوكا ومنهج حياة، حاولوا عبر مراحل التاريخ المعاصر خوض غمار تلك المواضيع المثيرة والمثارة، وفتح أبواب ومنافذ مشكلاتها، وسبر أغوارها والتعاطي معها بشكل مختلف عما روج له كثير ممن ذكرنا مشاربهم سلفا..
ولما كان الاختلاف في المنطلقات والمبادئ والمرتكزات والمدخلات قائما بين هذه الثلة وتلك الفئات..نتج عنه بطبيعة الحال اختلاف في التحليل والنتائج والمخرجات.. وهكذا حاولت هذه الثلة من الإسلاميين لملمة المشكلات واقتراح ما يناسبها من حلول في إطار المبادئ والخصائص والمقومات والمرتكزات التي تنتمي إليها وتصدر عنها في جملة حياتها.. فكان الإسلام هو المنطلق على اعتبار أن القضايا المطروحة للنقاش في أغلبها الأعم قضايا ذات جذور إسلامية سواء كانت قديمة أو حديثة..
وهكذا وبعد أن بسط المفكرون ذوو المشارب الفكرية المختلفة والمتضاربة أيديهم وأقلامهم وألسنتهم ووسائل تواصلهم وإعلامهم، على بعض تلك المشكلات أو القضايا الإسلامية، ونفخوا فيها وقدموها على الشكل الذي يريدونه هم حسب منطلقاتهم وقناعاتهم الشخصية والفكرية والثقافية أو المعرفية، بله وحسب إيديولوجيتهم.. بين محرف ومهاجم وناقم ومستأنس ومتعاطف، كل حسب قربه أو بعده عن التصور الإسلامي الذي يناقشون من داخله أو من خارجه مشكلاته.. بعد أن بسط هؤلاء هيمنتهم الفكرية والثقافية في لحظات تاريخية معينة أخذت العقل الإسلامي فيها سنة من النوم.. أعقبتها لحظات أخرى كانت اليقظة أسمى تباشيرها، فتصدت أقلام أخرى كردة فعل طبيعية - في البداية - لما آلت إليه الأمور في مناقشة تلك المشكلات.. فاتخذت لها مجموعة من الاستراتيجيات منها ما وقف عند المسار التاريخي للمشكلة وكيف نشأت وكيف تم التعاطي معها وما هي النتائج التي انتهت إليها.. ومنها ما وقف عند رصد خلفيات من أثاروها قديما وحديثا، خلفياتهم العقيدية والفكرية وحتى (الإيديولوجية).. وأثبتوا مقاصدهم من إثارتها بالشكل الذي أرادوه وفي الوقت الذي حددوه.. وبالرؤية المخالفة لطبيعتها كمشكلات نبتت في تربة معينة.. ومنها (أي تلك الاستراتيجيات) ما عمد إلى تفكيك المخلفات السلبية وكذا الآثار الجانبية سواء منها العقيدية أو السلوكية أو الفكرية أو النفسية أو الاجتماعية أو غيرها.. التي قد تحدث نتيجة التناول المغرض والتعاطي المشبوه والتحليل المقلوب.. ومنها ما حاول بسط المشكلات في ذاتها ومن جميع جوانبها ثم اقتراح ما يراه فيها مناسبا وتقديمه بأسلوب حضاري معاصر جديد يتماشى ومعطيات اللحظة الراهنة .. وكانت كل هذه الاستراتيجيات تنطلق دائما من المرجعية الإسلامية التي لم تحد عنها قيد أنملة ..
وهكذا تكاثفت الجهود الإسلامية وتواطأت الأقلام الملتزمة وتضافرت العوامل الناهضة المنضبطة لتكون في الأخير نظرة معينة للكثير من القضايا والمشكلات المطروحة على الساحات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتدبيرية والتسييرية والسلوكية..إلخ. كل من باب معرفته، ومن وجهة نظره، ومما بلغ إليه علمه، وانطلاقا من تخصصه، واعتمادا على ما يتقنه ويحسنه ويتفنن فيه بمرجعيته الأصيلة، وذلك على قاعدة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"
(1)، وعلى قاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(2)، فتجد بذلك في الاقتصاد أهل الاقتصاد والتدبير المؤسساتي والتسيير المالي، وفي القانون أهل الشريعة والفقه والقانون، وفي العلوم أهلها ومن يتقنها في جميع الشعب والفروع وعلى كل المستويات.. وكذا الفكر والثقافة والفن والأدب والحضارة والتاريخ.. كل حسب تخصصه وإتقانه واجتهاده..
وإنه لمن جملة القضايا والمشكلات التي فجرت جدلا طويلا وكلاما ساخنا منذ زمن قديم ثم تقلبت في بطون التاريخ وسحبتها الأجيال كل من زاويته، إلى أن قدر لها أن يبزغ فجرها من جديد مع هموم هذا العصر الفكرية والثقافية والأدبية والعلمية، فأسالت مداد الأقلام، وكانت وراء كثير من المناقشات والتحليلات، وأثارت فضول الباحثين، وأرقت بعض الدارسين، وتسببت في جو من الجدال المحتدم، والتراشق الأدبي غير المتزن، فعقدت من أجلها الندوات، وخصصت لها الأسفار والمجلدات والأعداد من الملاحق والمجلات، وكتبت حولها الأبحاث الأكاديمية والدراسات الجامعية والمقالات الأدبية.. وبرزت هذه القضية تأصيلا لنهضة أدبية جديدة يحمل شعارها شباب متحمس.. إنها قضية التي سميت أو تاخذ لها غطاء دعي:*الإسلام والشعر* فكان ما هو مشهور من أمر هذا الموضوع عند النقاد والأدباء وما هو معروف لدى الخاص والعام.. إنه كما يقول الدكتور إدريس الناقوري*حديث ذو تاريخ له رجع بعيد، فهو من الموضوعات الأدبية القديمة التي كثر فيها الكلام وطال حولها الجدل حتى ليمكن القول إنها تحولت إلى قضية فكرية وإشكالية معقدة شغلت الباحثين والمختصين في الدراسات الإسلامية والأدبية على السواء *(3) وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نقحم أنفسنا في دروب هذا الموضوع ذي الإشكالية المعقدة ؟ ما هي الأسباب وما هي الدوافع والدواعي إلى الكتابة فيه، والخوض في غماره، والغوص في بحاره، وتجشم مشاقه ؟..
سبب ومسبب :
لقد أحسست بعد الاطلاع على ما في بعض أمهات الكتب العربية والمصادر الإسلامية.. وما جاء تبعا لها من الدراسات والأبحاث والمراجع، أحسست بله تأكد لدي بأن هذه القضية*قضية الإسلام والشعر* بالشكل الذي عرضت وتعرض به، إنما هي قضية مفتعلة من أساسها ولا ترتكز في بنائها على أسس متينة أو معقولة أو على الأقل مستساغة ومقبولة فكريا وأدبيا، وبدا أنها تحتاج في الحقيقة – شأنها شأن مجموعة من القضايا والمشكلات التي يعج بها تاريخ الإسلام والمسلمين قديمه وحديثه - إلى إعادة النظر في مرتكزاتها ومقوماتها، وإعادة تصنيف لمقتضياتها، وإعادة ترتيب لمكوناتها، وإعادة فحص لكل خيوطها المتشابكة فيما بينها وبين باقي مكونات الرؤية الإسلامية، والبث من جديد في جميع معطياتها وعلاقاتها، ومن ثمة التعاطي معها بشكل مختلف يعتمد على أسس القضية نفسها في مرجعيتها الأصيلة والتي هي الإسلام في شموليته.. لأنها أي *قضية الإسلام والشعر* بكل صراحة تحاشى الفقه الإسلامي الخوض فيها وفي حيثياتها بالطريقة المعهودة فيه عند تناول مواضيعه الفقهية، في حين خاض بشكل مثير في قضايا أخرى قد تكون أقل تأثيرا في الحياة من قضيتنا هذه، مما جعل *قضية الإسلام والشعر* قضية ملتبسة تلعب فيها أيادي أدبية وفكرية بله وفلسفية لا فقه لأغلب إن لم نقل لكل أصحابها، ومن ثمة تعرضت لجملة من التأويلات غير السليمة أحيانا، والرؤى غير الواضحة المعالم أحيانا ثانية، بله وتعرضت لقراءات مغرضة أحيانا كثيرة، وذلك من القديم إلى الحديث على شريط يمتد أكثر من أربعة عشر قرنا.. فتارة نجد أن هذه القضية قد فصل فيها بعد تمريرها تحت شعار "إن الشعراء يقولون ما لا يفعلون.." وأن الشعر يهيم بأصحابه مبدعين ومتلقين في كل واد.. وأنه ذو وجوه عدة مختلفة ومتناقضة.. وتارة تنسب القضية برمتها إلى الشيطنة والقيححة -إن كان التعبير صحيحا-(4). وتارة أخرى تسحب القضية على قاعدة "الشعر نكد بابه الشر -أو يقوى في الشر- إذا دخل الخير ضعف ولان"(5) وتارة تسيج بسياج يرسم الشعر على "أن أعذبه أكذبه"(6) وتارة نجد القضية تأخذ منحى آخر تحت شعار "اشتغال المسلمين بالجهاد وغزو فارس والروم والفتوحات والحروب عن الشعر فن القول وروايته"(7)، وفي أحسن الأحوال تدخل من باب الانشغال بأمر الدين والنبوة والوحي، والانبهار بأسلوب القرآن الكريم ونظمه وبلاغته(ثامنا).
كل هذه المعطيات وما حام حولها من تناقضات فكرية وأدبية وما جاورها من آراء فقهية مستحيية.. وغيرها دفعني إلى التفكير في إنجاز بحث جامعي اخترت له عنوانا *الإسلامية والإبداع الأدبي* فاعترض أحد الأساتذة متسائلا عن فحوى هذا العنوان وعن مغزاه، وما الذي أقصده منه، ثم عما يمكن أن يتضمنه هذا البحث من قضايا.. فهيأت له تقريرا بالموضوع، ودون أن يلقي نظرة على أوراقه انهال علي بالاستفهامات العريضة الطويلة.. وسألـني أسئلة استنكار تفوح منها رائحة الاستهزاء: ماذا تقصد بهذا المصطلح النقدي الجديد الذي تريد استعماله في مجال لا علاقة له به ؟ ما الذي تريده من لفظة " الإسلامية " ؟ وعلى ماذا تدل في تركيبة هذا العنوان ؟ وما هي العلاقة الممكنة بين الإسلامية -إذا كنت تقصد بها الإسلام- والإبداع الأدبي ؟ فنحن نعلم أن هذا المصطلح " الإبداع الأدبي " مصطلح جديد نبت في جو اصطلاحي أدبي نقدي معاصر وفي ظروف تاريخية جعلت منه مصطلحا أدبيا لـه وزنه في مجال النقد الأدبي الحديث وأقل ما يقال عنه هو أنه ينطوي على مجموعة من الأجناس والأنواع والأشكال والمدارس والمذاهب التي لا يعرف عنها الإسلام أو إسلاميتك أي شيء.. إذ ماذا سنجد من نصوص صحيحة في الإسلام عن فنون قديمة أو جديدة، عريقة أو مستحدثة مثلا.. كالمسرح والسينما والرواية وفنون كثيرة أخرى.. وحتى القصة نفسها التي اعتمدها الإسلام في دعوته، وجعلها عمدة في خطابه..؟ لا يستطيع أحد أن يدعي أن الإسلام اعتبرها فنا، أو هي ترقى في نصوصه إلى مستوى الفنية والأدبية التي تتمتع بها القصة في عصرنا، وما أثارته هذه الأخيرة من قضايا نقدية ومناهج تحليلية وتفكيكية وتأويلية شغلت العالم برمته..؟ بله ماذا يمكن أن نجد في الإسلام عن الشعر الحديث في أشكاله الجديدة وأزيائه المتعددة ومقوماته المختلفة ومكوناته المتطورة..؟ ماذا يمكننا أن نجد في هذا المجال حتى على مستوى الفقه الإسلامي الذي تطرق لكل شيء إلا الموضوع المرتبط بما يسمى الآن الأدب..؟ وماذا يمكن أن يقول في أشكال أدبية وشاعرية عديدة نمت في أزمنة مختلفة وترعرعت في وقتنا الحاضر ببناء أدبي فكري مغاير حتى أضحت في كنف ما يسمى الآن بجامع الأجناس..؟
إن الإسلام - يقول الأستاذ – لا يعرف غير الشكل القديم للشعر أي في شكله العمودي وبنائه الذي أصبح يعتبر الآن كلاسيكيا، بله إن معرفته هذه لا ترقى إلى المستوى الأدبي الذي كان عليه الشعر قبيل وزمن ظهور الإسلام.. إن الدين الجديد في وقته وقف من الشعر –يضيف الأستاذ- موقفا عدائيا، ورسم له مسارا أصبح من خلاله خادما له ولأغراضه الدينية المحضة، مما جعله يحيد عن خط الشعرية والشاعرية الذي كان قد بناه الشعراء الأوائل منذ قرون حتى وصل إلى مستويات عالية من الجودة والفنية والأدبية، بله وصل إلى حد القداسة وما المعلقات إلا نماذج على ما ندعي.. كما أن الإسلام –يقول الأستاذ- حارب الشعراء وفرض عليهم قيودا قتلت روح الموهبة عند بعضهم، أو حدت من قول الشعر عند بعضهم الآخر، وزهدت آخرين فيه، وضعفت مستواه الفني وجمالي عند طائفة ثالثة، ولم تتمكن فئة أخرى حتى من تمثل ما اشترطه الدين عليها كلية.. وهكذا لحظنا اضطرابا شديدا –يضيف الأستاذ- في ذلك العهد حجب الرؤية الفنية والأدبية والجمالية للبقية الباقية من ذلك النشاط الذي كان مفخرة العرب وديوان علومهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يؤولون –كما جاء عن بعض النقاد القدامى-.. إن موقف الإسلام كان غير راض وغير مرض.. وإني أخاف – يستطرد الأستاذ – أن تأتيني بكلام لفلان أو فلان، أو أقوال لعلان.. ثم تقول لي هذا رأي الإسلام في هذا الجنس من الأجناس أو هذا النوع من الأنواع الأدبية الحديثة، أو هذا الفن من الفنون المنضوية تحت مصطلح *الإبداع الأدبي* والتي هي - كما قلت - من الفنون المستحدثة؟
وذكرني اعتراض الأستاذ ومناقشته للموضوع – وهو هنا ينقل كثيرا من الأفكار الشائعة والمبثوثة في بعض المصادر والمراجع- ذكرني ببعض الافتراضات التي ملأت أسواقنا الثقافية والفكرية والأدبية وحتى العلمية في فترة زمنية خلت، تلك الافتراضات أو النظريات التي استقبلت في عالمنا المعاصر بكل حفاوة، واتخذت على أنها مسلمات في تاريخ الأدب العربي والإسلامي.. فلازمت بذلك الأدباء والباحثين والدارسين ردحا من الزمن غير قصير، وأخذت توجه العقلية "الأدبية على الخصوص" بعد أن نفخ فيها المستشرقون نفخا وروج لها المستغربون ترويجا في ظل الفراغ الثقافي والأدبي الذي طال آفاقنا حديثا وحاضرا، وصفق لها فيما بعد تلامذتهم وطبلوا في عالمنا العربي والإسلامي.. واستساغتها ذائقة كثير من الشباب الذين لا يكلفون أنفسهم عناء البحث وكبد التحقيق في مثل تلك الافتراضات قبل أن يجعلوها من المسلمات أو يعدوها من الحقائق العلمية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وفي الحقيقة وبكل صراحة، أنا لا أفهم لماذا كلما قيل إن للإسلام منهجا خاصا به في قضية معينة من قضايا الوجود والحياة أو إن الإسلام يملك رأيا أو نظرة أو رؤية أو طرحا محددا لمسألة من المسائل أو قضية من القضايا التي تهم الإنسانية أو تخدم البشرية من قريب أو من بعيد إلا وانبرت مجموعة ممن لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا شغل عن محاربة هذا الدين والتصدي له، ومواجهة رجالاته.. انبرت بكل ما تملك من قوة ومن رباطة جأش لمهاجمة الإسلام في مبادئه وأسسه ومقوماته وخصائصه دون مراعاة للحق أو الحقيقة، ودون مناقشة علمية متجردة عن الأهواء ودون قرع للحجة بالحجة.. وإنما يكيلون التهم تأسيا بأولئك الذين هاجموا مسيحيتهم الأوروبية.. وفي أحسن الأحوال يحاولون اللف والدوران للتشكيك في مصداقية ما يطرحه الإسلاميون..ويعتبرون مشروع الأدب الإسلامي المعاصر مجرد حلم تماما كما فعل صاحب مقال "الأدب الإسلامي نظرية منتفخة وكتابة ملتبسة" الذي انتهى إلى سؤال ماكر يقول فيه: "لماذا بقيت النّظريّة (أي نظرية الأدب الإسلامي) وحيدة دون جماهير، بينما ذهبت الكتابة الإبداعيّة باسم المصطلح (الأدب الإسلامي) تسير في غير هدى، لتتخبّط هنا، وتسقط هناك، وترقب هنا، وتمنّي هناك؟"(9)..
إن الإسلام لم يحارب بالعلم والمعرفة والثقافة والبناء الفكري العاقل بقدر ما حورب بالجهل والجهل المركب أو بالتبعية والنقل عن الآخر الذي يعتبر مركز انبهار، أو ببتر نصوص الإسلاميين وتشويه صورة ما يقصده أصحابها منها.. وها هي ذي قضيتنا في شقها المتعلق بقضية "الإبداع الأدبي" تبنتها كل المذاهب الإنسانية ووقعت عليها أسماءَها كلُّ الأجناس البشرية، واشتغلت عليها كل المشارب واحتضنتها كل المدارس، وناقشتها كل المناحي الفكرية والملل الثقافية والنحل العلمية.. والكل استطاع بكل بساطة ويسر أن يدلي بدلوه دون أي معارضة ناسفة تذكر، ودون أي تهديد بالإقبار يعلن.. فقد تختلف الآراء وتتباين النظرات وتتباعد الرؤى وتتضارب الطروحات ويكثر اللغط إلى أبعد الحدود.. ولكن أن يُنسَف مذهبُُ معين أو يُنكر على مسلك محدد اهتمامه بمثل هذه القضية فلا وألف لا.. اللهم إلا الإسلام فلا يجوز أن نقحمه في مثل هذه القضايا.. لايجوز –في اعتقاد بعضهم- أن يقال إن الإسلام الدين السماوي يقول في هذا الأمر الدنيوي أو تلك القضية الإنسانية كلمته، لا يمكن أن يبدي فيه نظرته.. فهو دين مقدس –في أحسن تعابيرهم تفاديا..- يجب أن لا ندخله فيما هو دنيوي فيما هو مدنس – ألا ساء ما يزرون، فهي كلمة حق من جهة معينة يراد بها باطل من جهات أخرى-..
ما العمل..؟
سنحاول – إن شاء الله – جاهدين أن نقف على بعض هذه المغالطات التي رافقت رحلة ما يمثل الأدب الإسلامي إبداعا ونقدا وتنظيرا، وسنسلط الضوء عليها ونوضحها، ونبث في فصولها بعين فاحصة ناقدة مدققة – ما استطعنا إلى ذلك سبيلا – علنا نتبين وجه الحقيقة فيها ونتأكد – على الأقل – من أن القضايا المبنية أو القائمة على الافتراض نحو أدبنا العربي والإسلامي لا ترقى إلى مستوى المسلمات بأي حال من الأحوال، ومن ثمة سنعمل على خلخلة ذلك الصرح المبني على غير الأسس المتينة، والذي اعتلاه ثلة من الباحثين والدارسين الذين منهم من لا يقصد إلا الوقوف في وجه الموجة الجديدة المعاصرة في بحر الأدب الإسلامي العميق والعتيق، وليس له هم الاهتمام بالقضية في أصلها، ولكن كل همه أن لا يقال بأن الدعوة إلى أدب إسلامي معاصر له أصول ضاربة جذورها في عمق التاريخ.. وهكذا سنعمل جاهدين على زحزحة مجموعة من الأفكار التي طال عليها الأمد فقست وجمدت، أو خلدت إلى النوم في بطون مصادرنا القيمة، وسنظهر حقيقة بعض المشتبهات، ونكشف عنها كي تظهر على لونها الحقيقي، وتسير في مسارها الطبيعي، وذلك ليس بالتصدي المباشر لها، ولكن بالوقوف طويلا عند شعب الموضوع المختلف فيه، وبسط مكوناته..
كما سنحاول أن نقف عند موضوع دراستنا انطلاقا من رؤية خاصة في القراءة والتحليل، ولقد كان تقليدا أن نتبع تطور *قضية الإسلام والشعر* كما فعل أغلب الدارسين حسب التطور الزمني للقضية أي أخذها بداية من العهد المكي الذي ذكرت فيه لفظة الشعر مرارا، وأخيرا الوقوف عند العهد المدني الذي تجلت فيه أواخر سورة سميت "الشعراء" حسب رأي بعض العلماء.. لكن فهمي لطبيعة الموضوع وكيفية طرحه فرضا التعامل معه بشكل مختلف وبعيد عن هذه النظرة الخاضعة لتغير المراحل وتبدل الوضعيات (كرونولوجيا)، لأن القرآن المكي في اعتقادي لا يتحدث عن الشعر فنا وإبداعا أدبيا أو ممارسة بشرية تتوسل اللغة الفنية، بل يتحدث عنه بديلا اصطلاحيا مقترحا أو اسما مقترحا جديدا يجب من خلال فرضه أن يحول وجهة المتلقي ومعتقده من.. إلى.. وهذا ما سوف نقف عنده فيما يأتي، أما في الآيات المدنية من سورة الشعراء ذات الأصل المكي فقد أصبح الموضوع مطروحا فيها على اعتبار أنه يتعلق في هذه المرحلة بفن وأدب وإبداع أي بسلوك لغوي يحمل طروحات جمة تعتبر معيقات بالنسبة لمسيرة الإسلام، وهذا هو الأهم عندنا فيما نخطه الآن، لذا تم التعاطي مع القضية انطلاقا من سورة "الشعراء" في آياتها الأخيرة المدنية –حسب أرجح الأقوال- أولا، لنعرج فيها على مجموعة من الأمور والقضايا المتعلقة بما شاع حول "موقف الإسلام من الشعر" كما هو مشاع بين الدارسين أو "موقف الإسلام من الإبداع الأدبي" كما نقترح نحن في بحثنا هذا.. ممهدين بنتيجة البحث فيها (أي في آيات الشعراء) لمناقشة موضوع آية سورة "يس" المكية وما تزامن معها في النزول وخوض المعركة القولية من آيات أخر، لينتقل البحث بعد ذلك إلى موقف الحديث النبوي الشريف في الموضوع ذاته، وذلك بالوقوف على نصين اثنين فقط واللذين يظهر منهما أنهما متناقضان ومتنافران، وهما يصوران موقف الإسلام من الشعر أو الإبداع الأدبي، مما أرسى تناقضا وتنافرا واختلافا بين الباحثين والدارسين.. دون أن ندخل في سرد النصوص النبوية الشريفة –إلا ما فرضه علينا واجب البحث- على الرغم من كثرتها صحيحها وضعيفها أقوالها وأفعالها وإقراراتها التي زخرت بها كتب الحديث والتفسير والتاريخ والسير والأدب واللغة والأمالي..
عود على بدء:
وقبل طرق أي باب من أبواب هذه الدراسة، نود أن نبدأ بتوضيح غاية في الأهمية لكونه يتضمن إجابة عن سؤال وجيه وماكر في الوقت نفسه وهو: كيف يمكن أن يكون للإسلام نظرة محددة أو رؤية معينة في قضية الإبداع الأدبي وهو دين لم يعرف في تاريخه غير جنس واحد وفي شكل منفرد هو الشعر في زيه القديم/الجاهلي ذي التركيبة العمودية؟. وهذا من حيث المبدأ معقول، ولكن من حيث النتائج فغير مقبول. فلا أحد يستطيع أن يستر واقعا مشهودا، أو أن يتنكر لحال تاريخية، أو أن يبدل أو يشوه الحقائق التي لا غبار عليها.. فالإسلام لم يجد فعلا أمامه غالبا على لب القوم، مالكا عليهم عقولهم، آخذا عليهم وجداناتهم، فارضا هيمنته على حياتهم غير البيت والقافية.. ولم يعايش الإسلام فعلا إلا ما كان معروفا من شعر قديم فنا قوليا، وهو ما كان متعارفا على مرتبته العالية ومكانته السامية في صناعة اللغة وفنية القول.. لذلك نقول إن التساؤل في مثل هذه القضايا معقول ومقبول بله هو واجب على قاعدة قوله عز وجل:]فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون[(النحل:43) وعلى قاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: ]ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال[(10).
وعلى اعتبار أنه سيحفز على البحث عن إجابات معقولة ومقبولة هي الأخرى، وليس لتحصيل الجانب السلبي من الإجابات المفترضة وتحصينها بأساليب غير علمية، وفرضها على أنها الوحيدة والصائبة.. ولذلك فالسؤال السابق مقبول من الناحية المبدئية، ولكن من حيث النتيجة والهدف المرسوم فإنه غير مقبول تماما.. فالعاقل لا يمكن أن يقع في مغبة الأسئلة التي تحمل في طياتها إجابات مسبقة يود واضعوها أن يجروا المتلقي إلى تبنيها بنوع من الدهاء والذكاء.. لا يمكن أن يقع العاقل الذي يتعامل من خلال الشعار العمري الفاروقي: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" (11) .. ولهذا وجب قبل البدء في بسط فقه قضيتنا "الإسلام والإبداع الأدبي" وجب الاتفاق على توضيح مهم ومرتكز أساس وهو أنه "وإن لم يكن الإسلام يعرف الأجناس الأدبية جميعها فهذا لا يعني أبدا أننا لن نجد فيه سبيلا إلى معطيات دينية أو إشارات عقلية أو أخبار تاريخية أو حقائق أدبية أو مواقف إيحائية من خلالها يستشف المرء الغاية والهدف من هذا الموضوع/القضية.."
إن الشعر في الشكل القديم/العمودي كان الفن القولي الذائع الصيت، والحكي الأدبي الشائع بين العرب جميعها، والمعتبر في الدرجة الأولى وبكل المعايير في صدر الإسلام الأول بله وقبله بكثير، ولم يكن طبعا هو الوحيد في عصره، فلقد كانت فنون من النثر منتشرة حينها إلا أنها لم تملك على العربي عقله وقلبه كما فعل الشعر/السحر .. لذلك يمكن القول إن الإسلام لم يجد غير هذا الجنس المعترف بفنيته والمتباهى بأدبيته والمتعارف على أهميته بله وعلى قدسيته.. كي يوليه الاهتمام نفسه، لذلك كانت أحكامه ومواقفه ورؤاه النقدية ونظراته التصويبية تنصب على هذا الجنس الأدبي المشهور آنذاك .. ولا غرابة في هذا، فكل جديد تكون قبله معطيات قديمة يجب التعامل معها حسب طبيعتها ووظيفتها وغاياتها، ومدى ملاءمتها للجديد أو تعارضها معه..
العمومية والكلية:
وما يجب التفطن إليه والأخذ به في اعتبارنا قبل الخوض في تفاصيل قضية ما اصطلح عليه بـ "الإسلام والشعر" هو القاعدة المتأصلة في التفسير وأصوله والقائلة *" العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب"* لذا نود أن نعطي هذه المسألة/القضية مفهوما أوسع، وبعدا أشمل ارتكازا على هذه القاعدة الدينية/الأصولية، وأيضا استنادا إلى قاعدة أخرى وهي قاعدة لغوية/ بلاغية تقول: *"إطلاق الجزء وإرادة الكل"*.. فالشعر والشعراء في طرحنا يمكن تغييرهما واستبدالهما – من أجل الدرس طبعا – في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والآثار التاريخية التي وردت في الموضوع بالإبداع الأدبي والمبدعين الأدباء، وذلك حسب القاعدة الأولى "العبرة بعموم اللفظ".
وكما لا شك في القول إن الشعر يعتبر جزءا لا يتجزأ من الإبداع الأدبي بل هو في القمة -وحسب القاعدة الثانية– فإن ما قاله الإسلام عن الشعر يمكنه أن يطال غير الشعر من الفنون والأجناس والأنواع الأخرى، أي أن يسحب بشكل أو بآخر على كل الأجناس والأنواع والأشكال التي تسلك مسالك الأدبية، سواء كانت قديمة أو حديثة، خاصة وأن الإسلام لم يعرض لطبيعة الشعر أو شكل هذا الكائن اللغوي، بقدر ما أعطى صورة عن وظيفته وأدائه سلوكا إنسانيا..
وأخيرا وليس آخرا:
وأخيرا وليس آخرا نعيد القول بأننا سنناقش هذا الموضوع بناء على فهمنا لمسألة "الإسلام والشعر" على أنها هي "الإسلام والإبداع الأدبي" متوخين من ذلك إظهار حقيقة هذه القضية المختلف فيها، ومبرزين وجه الحق فيها، مؤكدين على أن بداية الإسلام هي بداية التأسيس لما يسمى "الأدب الإسلامي".. هذا أولا، ثم ثانيا وهذا هو الأهم، نود من خلال نتائج البحث في مظاهر القضية أن نؤصل أو نساهم في العمل على التأصيل لإبداع أدبي إسلامي معاصر بدأت معالمه تتشكل وتبرز في الآونة الأخيرة، بكل أشكاله وإشكالاته وهمه وهمومه، وبكل تبعاته وأدواته ولوازمه حتى أضحت له مجموعة من الكتب والأسفار والأبحاث والدراسات(12) والمنابر الإعلامية المشهورة والمشهود لها عالميا..(13)
وسوف نرصد في دراستنا هذه مجموعة من القضايا التي تتعلق بما طرحناه أعلاه تحت العنوان العريض الذي هو: *"* فقه الإبداع الأدبي في الإسلام*"* وذلك من خلال هذا الجزء الأول الذي يحتوي على فصلين اثنين هما:
الإبداع الأدبي الإسلامي.. التأسيس على التأصيل.. (موقف الإسلام من الإبداع الأدبي)..
مفهوم الإبداع الأدبي في الإسلام.. (نظرية ضعف الإبداع الأدبي)..
على أمل أن يكون الجزء الثاني –إن شاء الله تعالى- محتويا على فصلين آخرين هما:
نظرات في الإبداع الأدبي الإسلامي القديم.. (من أدب البداوة إلى أدب الحضارة)..
جولات في الإبداع الأدبي الإسلامي المعاصر.. (بنية الغربة والعودة في شعر الإسلامية)..


http://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif
الهوامش والمراجع :
1. رواه أبونعيم والبيهقي وابن عساكر والطبراني في الكبير وأبو يعلى انظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" محمد ناصر الدين الألباني مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض 1415هـ - 1995 م.. المجلد الثالث الصفحة 106
2.رواه مسلم وأصحاب السنن انظر "صحيح سنن أبي داود" لمحمد ناصر الدين الألباني مكتب التربية العربي لدول الخليج الطبعة الأولى 1409 هـ - 1989 م الصفحة 541 من الجزء الثاني..
3.الصفحة:11 من كتابه" قضية الإسلام والشعر أو صراع العقيدة والقصيدة" الطبعة:2 / 1996 دار النشر المغربية الدار البيضاء..
4.الجامع الصحيح للإمام مسلم النيسابوري. الموسوعات الإسلامية دار الفكر المجلد الرابع الجزء السابع الصفحة:50. كتاب الشعر باب تحريم اللعب بالنرد.. والمسند للإمام أحمد بن حنبل طبعة دار المعارف 1985. أحمد محمد شاكر الجزء :22 الصفحة:33 رقم الحديث 11072 و11388 من مسند أبي سعيد الخدري.. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه قال همزه الموتة ونفثه الشعر ونفخه الكبر.. صحيح سنن ابن ماجة محمد ناصر الدين الألباني مكتب التربية العربي لدول الخليج الرياض الطبعة الثالثة 1408 هـ - 1988 م الصفحة: 135 المجلد الأول..
5.قولة للأصمعي انظر كتاب:"الشعر والشعراء" لابن قتيبة الدينوري دار الثقافة بيروت الطبعة الثانية 1969 الجزء 1 الصفحة 311وانظر الموشح للمرزباني تحقيق علي محمد البجاوي دار نهضة مصر 1965م الصفحة:85.. وانظر الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر القرطبي مطبعة حيدر آباد الدكن 1336هـ الجزء الأول الصفحة:127.
6.قولة مشهورة..
7.طبقات فحول الشعراء محمد بن سلام الجمحي قرأه وشرحه محمود محمد شاكر مطبعة المدني القاهرة طبعة 1974 الملجد:1 الصفحة:25
8.مقدمة ابن خلدون تصحيح وفهرسة أبي عبد الله السعيد المندوه مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان والمكتبة التجارية مكة المكرمة الطبعة الثانية 1996 المجلد الثاني الصفحة: 288.
9.للكاتب علي فايع الألمعي بجريدة "الوطن" السعودية بتاريخ: الثلاثاء 9 ربيع الآخر 1426هـ الموافق 17 مايو 2005م العدد (1691) السنة الخامسة.. وانظره على الرابط الإلكتروني: http://www.alwatan.com.sa/daily/2005-05-17/culture/culture09.htm
10.صحيح سنن أبي داود الألباني الصفحة:68 المجلد:1 رقم الحديث:325.
11.قولة مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
12.انظر "دليل مكتبة الأدب الإسلامي في العصر الحديث إعداد الدكتور عبد الباسط بدر دار البشير1992..
13.من أشهر المنابر: مجلة "الأدب الإسلامي" التي تصدرها رابطة الأدب الإسلامي العالمية.. ومجلة "المشكاة" التي تصدر من فرع الرابطة بوجدة / المغرب.. وغيرهما من الملاحق الثقافية التي تعنى بالأدب الإسلامي إبداعا ونقدا وتنظيرا..
المصدر (http://www.odabasham.net/show.php?sid=11362)
حياكم الله
http://www.kaanz.com/vb/up/uploads/48f8023902.gif
http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
د. أبو شامة المغربي
http://aklaam.net/aqlam/images/e_mail.gif
kalimates@maktoob.com

أبو شامة المغربي
16/05/2007, 07:24 AM
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
فقه الإبداع الأدبي في الإسلام
http://www.odabasham.net/images/abdulrazaqmasawi0507.jpg


الأستاذ
عبد الرزاق المساوي
الجزء الثاني
الإسلام والإبداع الأدبي:
الإسلام كما هو معلوم دين الله الخاتم، له في بنيته النصية والعقلية ما يثبت ذلك ويدلل عليه، وله خصائص يتميز بها عن غيره من الأديان كما له ميزاته التي ينماز ويمتاز بها عما دونه.. وله مقومات ومرتكزات يتربع عليها وأسس يقوم عليها.. هذه الخصائص والمقومات والأسس تكوّن بنيانا شامخا متراصا متينا متكاملا تتفرع عراه لتشمل الفكر والسلوك، وتمتد بخيوطها إلى العقل والنفس والوجدان وتسبح في عالم الروح وتضبط وتراعي أحوال الاجتماع.. فلا غرابة إذن أن تكون للإسلام كلمته أو نظرته في شتى المناحي من الحياة البشرية.. يرسم لكل فرع منها ما يجعله مؤديا الغرض الذي من أجله كان، والوظيفة التي عليها قامت قائمته.. ففروع الحياة متشعبة وسبلها كثيرة ولكنها في جوهرها متكاملة غير متنافرة.. وفي نظر الإسلام ذلك التشعب وتلك الكثرة لا تـنمان عن التنافر والصراع، بله على العكس من ذلك فهو الدين الإلهي العظيم الذي يرى فيها الإثراء والتكامل والتدافع من أجل الاستمرار والوصول إلى مستوى الإحسان في كل شيء..
الإسلام دين يراعي للحياة تشعباتها في إطار تكاملها فهو – كما أشرنا - لا يعتبره تشعب تنافر بله تكامل وتآزر.. لذا نجده دينا يهتم بالقضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، وبمسائل الفكر والثقافة والعلم والفن وكل المرافق التي تنمو بها الحياة ويزهو بها الأحياء، كل ذلك في دائرة واسعة يؤطرها الإسلام داخليا وخارجيا وعلى المستويين العمودي والأفقي ودون أن يفصل بين هذه المكونات اللهم إلا على مستوى الدرس فقط..
وما الإبداع الأدبي إلا جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان بدليل أنه كان ولا زال رفيق دربه في الحياة عبر المسيرة الزمنية التاريخية الطويلة، ينمو مع نمو الإنسان، ويتغير مع تغيره، ويتحول بتبدل أحواله، ويسعفه في التعبير عن خوالجه وتشخيص إحساساته والتحدث لغيره بلغات فنية جذابة..
إن الإبداع الأدبي عملية متجددة ومتطورة ومتغيرة لكونه عنصر مواكب للحياة وتقلباتها ومتطلباتها ومواز لمسيرة المجتمع الإنساني في آفاقه وأهدافه وغاياته ومراميه..
الإبداع الأدبي ابتكار واكتشاف يتخذ من اللغات(1) وسيلة للتعبير عما يغمر الحياة ويروج في الوجود ويختمر في عالمي الغيب والشهادة، هو تشييد في إطار لغة معينة للتعبير عن خوالج النفس وجمال الحياة وربوع الكون وخريطة الوجود وماهية الإنسان وكينونة الكائنات، كما هي في مخيلة وتصور وتكوين المبدع الأديب، ولذلك فالإبداع بالنسبة للمبدع كالمولود بالنسبة لوالديه وما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه -(2) الإبداع الأدبي تعبير فني جمالي متأصل ومتجذر في الكينونة الإنسانية لا يجليه سوى ذلك الذي يملك القدرة على تجليته..(3).
إن الإبداع الأدبي كائن حي نشط متغير متطور، وعنصر فعال يعيش زمنه الخاص به دون عزله عن جذوره الموغلة في القدم ودون التنكر لها أو الغض منها لاستفادته منها من أجل بناء ما هو حاضر وما هو مستقبلي في حياته..
الإبداع الأدبي لغات حمالة أوجه تصب في أجناس عديدة لها طابع وإطار يوحدها، كما لها خصائص ومقومات ومميزات تجعل لكل جنس من تلك الأجناس مقاييس تتحكم فيه وتصبغ عليه علامات ينفرد بها عن سواه.. ولها روابط وعلاقات ومشكلات تجمع وتوحد كما تفرق وتميز..
هذا الإبداع الأدبي ما محله من الإسلام؟ ما هو مركزه فيه؟ أين يوجد من بنيته؟ ما علاقته به؟ وفي كلمة واحدة ما مدى اهتمام الإسلام وهو دين سماوي بهذا النوع من الممارسات الحياتية عند الإنسان؟ وما دام الإبداع الأدبي جزء من الحياة، والإسلام اهتم بكل مرافق الحياة صغيرها وكبيرها وأدق من ذلك، فماذا يمكن أن يقول هذا الدين الإلهي في هذا العمل البشري؟..
هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال هذه الجولة البسيطة في رحاب القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، على قاعدة: -تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا -(4).
كيف تطرح القضية:
إن قضية "الإسلام والشعر" قضية قديمة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وطرحت بأشكال عديدة، وفي مناسبات مختلفة، وعلى منابر متباينة، وفي عصور متباعدة، إلا أن هذه القضية القديمة لوي عنقها ونظر فيها إلى الجانب السلبي منها ونفخ في صوره، وألبس أزياء جديدة وصبغ بصبغ معاصرة، وأحيط به بألفاظ ومصطلحات حديثة رنانة حتى أضحت القضية بوجهها السلبي وكأنها ابتكار حديث، أو اكتشاف جديد، أو طرح لا عهد لمن سبق بمثله.. وذلك فقط وأكرر فقط لمواجهة "الأدب الإسلامي" بشكل عام والمعاصر منه على الخصوص..
لقد استعملت بعض اجتهادات القدامى في هذه القضية لمواجهة القومة الجديدة التي بدأت تبشر في الآونة الأخيرة بأدب إسلامي معاصر له جذور عريقة وأصول يانعة متأصلة وفروع صالحة للعطاء، وتفنن المحدثون في إبراز نقط الخلاف حولها، ليصلوا إلى تهمة هذا الأدب الإسلامي المعاصر بأنه نبتة لا أصول لها، فهو في نظرهم بدعة مستحدثة، لا علاقة له بالإسلام الدين الحنيف، بله يريد أصحاب هذه الصيحة الجديدة –كما يدعي بعضهم- أن يجدوا لهم فيه مكانا، و به مكانة(5)..
والغريب في الأمر أن أبرز المواقف النقدية – وكنا نود الاستفادة منها - التي تعرضت لمفهوم أو نظرية الأدب الإسلامي بالنقد وبالنقض والمؤاخذة لم تتمكن من أن تجد لنفسها مسوغات لمواقفها، كما أن بعضها لم يرق في كتابته إلى المستوى العلمي في البحث بل أكثر من هذا منهم من لا يملك في قراءته لنظرية الأدب الإسلامي أي منهج واضح أو مضبوط أو أي رؤية نقدية مفهومة تملك مقومات وأسس معقولة، وإنما أخذ يخبط خبط عشواء –كما وقع للدكتور سعيد علوش- دون أن يضبط أدواته الإجرائية التي بها يخوض حوارا جادا وفاعلا مع هذا الكائن الذي نفض الغبار عن نفسه:غبار النكران والنسيان والعصيان(6) إن مثل هذه المواقف أصبحت لا تخفى على أحد لأنها طفحت على السطح بشكل سافر..
ولا يستطسيع أحد أن ينكر في وقتنا الراهن أن هناك محاولات مبذولة "من أتباع المذاهب الأدبية الغربية لتجاهل الأدب الإسلامي، أو إنكاره ومحاربته، والحيلولة دون ظهوره بأي صورة من الصور، مستغلين بذلك هيمنة كثير منهم على وسائل النشر والإعلام، أو احتلالهم لمراكز التدريس والتوجيه في المؤسسات التعليمية المختلفة."(7).
نعود لنقول إن هذه القضية القديمة/الجديدة: "موقف الإسلام من الشعر والشعراء" أو بأسلوبنا الجديد في هذا البحث "موقف الإسلام من الإبداع والمبدعين" ما كانت أن تقوم لها قائمة لولا وجود فريقين متقابلين على طرفي نقيض، وكل فريق يحاول أن يدلل على رأيه بما يبدو له مقنعا، ويأتي بالحجج العقلية والنقلية على الخصوص ليؤكد صواب اختياره، وليدعم ما ذهب إليه،
ويرد على مخالفيه..
وما دام هناك فريقان: فريق ينادي إن الإسلام يقول: لا للشعر ولا للشعراء.. أي لا للإبداع الأدبي ولا للمبدعين الأدباء.. وفريق يعلن أن الإسلام يقول: نعم للشعر ونعم للشعراء .. أي نعم للإبداع الأدبي، ونعم للمبدعين..
ما دام الأمر كذلك، فإن القضية في اعتبارنا تتسع لتشمل الفريقين معا .. فلا يعقل أن نناقش قضية فيها رأيان متناقضان متباينان متباعدان، وكل منهما يستدل على صحة رأيه وصواب وجهة نظره وقوة اختياره بأدلة نقلية معينة ويدعمها بما يراه أدلة عقلية أو منطقية من خلال تحليله لنصوص اشتهرت في عهد النبوة والخلافة، ثم نتعصب لرأي بذاته دون اعتبار للرأي الآخر.. فلو كان لواحد من الرأيين كل الصحة والصلاحية الواقعية لكفانا مؤونة البحث، لما ظهر الثاني على ساحة القضية، ليمثل الخصم الشرعي للآخر .. فلو سمعنا مثلا أن قوما يذكرون رجلا بأخلاقه السيئة، وأن قوما آخرين يذكرون الرجل نفسه بأخلاقه الفاضلة، وأن كل فريق يستدل على ما يدعيه بأدلة معينة مستوحاة من واقع حياة الرجل المعني .. ماذا سيكون موقفنا لو طرحنا هذا السؤال: "هل هذا الرجل رجل سوء كما يدعي أحد الفريقين أم هو فاضل كما يحكي الآخر؟ إننا بطبيعة الحال سنختلف حسب اختلاف الأحداث والوقائع ومدى صحتها وثبوتيتها ومدى قناعتنا بها .. ولكن لنضع الاستفسار التالي: "لو كان هذا الرجل سيئا كل السوء، وفي كل الأحوال وفي جميع مظاهر حياته.. لما طرحنا الشق الثاني من السؤال، والذي يقول: هل هو فاضل؟ ولو كان فاضلا كل الفضل، وفي كل الأحوال وفي جميع مظاهر حياته .. لما طرحنا أيضا الشق الآخر من السؤال: "هل هو سيء؟.. فلو لحظنا شكلا واحدا موحد من الأخلاق في حياته لما سألنا عن احتمال وجود الشكل المخالف والمغاير.. لذا فوجود السؤال نفسه دليل على أن بعضهم رأى أخلاقا سيئة ولم ير غيرها أو خفيت عليه، وأن بعضهم الآخر رأى أخلاقا فاضلة ولم يلحظ ولم ير سواها .. لأن الرجل – بكل بساطة - أبدى النوعين معا في سلوكه، وتحرك بالخلقين في حياته، ومن ثمة اختلف فيه ناظروه، وفي نوع الأخلاق التي يمكن أن يتصف بها دون غيرها .. وبالمنطق نفسه نقول في "قضية الإسلام والشعر" أو "الإسلام والإبداع الأدبي" .. فلو وجدنا نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف تقول: "لا" خالصة واضحة فيها معالم التحريم أو النهي أو التنفير أو الاشمئزاز لما سألنا هل يقول: "نعم" ؟.. ولو قال: "نعم" خالصة بينة واضحة لما تبادر إلى الذهن هل يقول: "لا"؟
هذا هو الذي دفعنا إلى القول بأن القضية تتسع لتشمل الفريقين أو الرأيين معا، لكن لكل فريق مجاله الخاص به الذي يشتغل في إطاره ويعمل به على تحقيق اختياره، لذا وجب معرفة أين يتجه سهم " لا " وأين تتربع " نعم ".. لأنه لابد من فضائين اثنين يعبر كل فريق في أحدهما عن رأيه ويدلي فيه بأدلته ويمنطق منطلقاته ويركز مرتكزاته ويقوم مقوماته.. كيف يمكن إذن أن نرصد هذا الأمر؟.. من أين سنبدأ؟.. وإلى أين سيكون المننتهي؟.. فالبداية من سورة الشعراء والنهاية عند سورة يس..
من سورة الشعراء:
لو تأملنا في كتاب الله عز وجل وبالضبط في تلك الآيات التي كانت سببا رئيسا في هذه القضية الإشكال، ومنها الآيات الأواخر من سورة الشعراء لاتضح أن الأمر يحتمل الوجهين ويتسع للرأيين من أول وهلة.. فالآيات الأولى من أواخر السورة (من 223 إلى 225) تحمل أو تتضمن ما يقصد به النفي "لا" والآية الأخيرة (226) تعلن عما ينم عن الإيجاب "نعم"، وكل هذا اجتمع بأسلوب تصويري تقريبي متكامل، وبلغة بليغة وفصيحة وعجيبة، وبرنة هادئة وساكنة ومطمئنة في قوله تعالى:- والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون - (الشعراء:...226) إن هذه الآيات خالها بعضهم طعنا مبينا ومبيتا وصريح العبارة في فن الشعر، وأنها موقف عدائي بيِّنٍ مع سبق الإصرار وواضح من الشعراء وحملة تنكيلية وتشويهية بالمبدعين وبإبداعهم وفنهم. وهؤلاء المتوهمون كانوا كمن يقف عند قوله تعالى:-يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة-(النساء:43) وقوله تعالى:-فويل للمصلين- (الماعون:4).
آيات وآية:
نعم إن من آيات الشعراء ما يعتبر طعنا صريحا في الشعر ولكن أي شعر؟ ما هي طبيعته؟ وما هي مكوناته؟ وما هي مقوماته؟ وما هي أهدافه؟ وما هي الوظيفة التي يؤديها في النفس والمجتمع؟ وما هي الغايات التي يتوخاها منه قائله؟.. وإنها لآيات تعبر عن موقف عدائي من الشعراء ولكن من هؤلاء الشعراء؟ من هم في أنفسهم؟ ما هو بناؤهم العقدي الذي يصدرون عنه؟ وما هي طبيعتهم السلوكية؟ وكيف هي حالهم العقلية؟ وما هي تركيبتهم النفسية؟ وما هو تفكيرهم؟ وما هي الأولويات عندهم؟ وما هو تصورهم الإنساني ؟ وما هو وضعهم الاجتماعي؟..
ثم إن هذا الفهم لا يعبر إلا عن معنى أحادي قاصر وهو مفهوم الجزء الأول من الآيات فقط، وحتى لو اقتصر الذكر الحكيم عليها لما تغير في الأمر أي شيء إذا كان الفهم أعمق والتأويل أصوب والرؤية أوضح وبدون خلفيات سوء، إذ هي آيات تكفي من أسلوبها الموحي وطريقتها الخاصة ودلالتها المستوحاة، تكفي نفسها بنفسها وتبين المراد والمقصود الذي من أجله أنزلت الآيات وسميت السورة.. إنها تعبر تعبيرا معجزا ومناسبا للبناء الأسلوبي القرآني الذي تميز ببيانه البلاغي الرائع وتصويره اللغوي الأخاذ الذي يملك على المتلقي لبه وفؤاده، إنها تصور القضية بالوجهين معا:" لا " و" نعم " في الآن نفسه.. وأما أسلوب الاستثناء الوارد في الآية، لا يعتبر وروده – في رأيي وأسأل الله أن أكون مصيبا فيه- إلا للمزيد من التوضيح والتبيين ودفع كل لبس، وكذلك لترغيب العناصر المؤمنة – وهذا هو المهم فالإسلام أتى ليعطي البديل الحضاري، وليس للوقوف في وجه ما هو مطروح في الواقع المعيش وقوفا سلبيا -(ثامنا) في حمل الأمانة الشعرية/الإبداعية بصفة عامة من أجل الانتصار لدين الله عز وجل بناء على قول الرسول صلى الله عليه وسلم -اهجوا بالشعر إن المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده، كأنما تنضحونهم بالنبل- (9).. إن هذا الجزء من الآيات الذي توهم منه بعض الدارسين ما توهموه من أن الإسلام يقول "لا" هو ذاته يكفي للتدليل على الرأي المخالف لرأيهم والذي يقول بـ: "نعم".. إذ لما أطلقت الآيات لفظة الشعراء قيدتها أولا بسياق دلالي يتميز بقيد محدد وواضح المعالم هيأت له السورة نفسها ابتداء من الآية رقم 210 من قبل في قوله تعالى:- وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون- إلى الآية رقم 222 التي تقول:"هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم *يلقون السمع وأكثرهم كاذبون" + والشعراء...- وثانيا بوظيفته المنبثقة بطبيعة الحال من مصدره والتي تعبر عن حالة نفسية واجتماعية.. هذا القيد الثاني جاء في الآيةعبارة عن تصوير أخلاقيات وسلوكيات نابعة من طبيعة نفسية منحرفة - .. يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ..- والأتباع يجسدون طبيعة المتبوع، والمقتدون نسخة قد تكون أقل أو أضعف من المقتدى بهم..
فإذا ما انتفى القيد السياقي الذي هو عبارة عن ذكر لمصدر الشعر في اعتقاد العرب قديما(10) - وليسوا هم السباقين في ذلك –(11) وانتفت الوظيفة التي تعبر عن الحال النفسية والاجتماعية.. إذا ما انتفت هذه الأشياء انتفت الشيطنة والغواية والضرب في كل وجهة.. ومن ثمة ترفع عن الشعراء الملامة.. ولكن يأبى الحق سبحانه إلا أن يزيد الأمر إيضاحا وتبيانا فيستثني من يشاء بأسلوب بديع معجز في قوله تعالى ليختم السورة الكريمة بعد ذكر الآيات السابقة جميعها:- إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون -.. فكأني بهذه الآيات جاءت لتفصل في أمر عظيم في زمن عظيم وفي مكان عظيم، فكأنها نزلت في جو مشحون بصراع مرير، وملئ بمواجهات حادة في واقع جديد وزمن مختلف، أضحى فيه الصراع على مستوى السنان وكذا على مستوى اللسان على مستوى تغيرت فيه الاستراتيجيات، وتبدلت فيه طبيعة أخذ المبادرة.. فبعد أن كان الصراع مفروضا من جانب واحد في العهد المكي على يد المشركين بحكم أنهم الأقوى، أصبح المسلمون في المدينة هم أصحاب المبادرة.. فكان لزاما على المسلمين – بمنطق الآية والأحداث - بموازاة مع انتصاراتهم في ميادين القتال بالسيوف والنبال والرماح أن ينتصروا في ميدان السجال بالشعر والأدب واللغة.. لهذا نلحظ في ختام الآية قوله تعالى: - وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون -.. فهذه الإشارة بالتكرار أو التركيز على مسألة الظلم يمكن اعتبارها مفتاحا لهذا النص القرآني الكريم.. فالشعراء ينقسمون بموجبه إلى فئتين: فئة ظالمة وأخرى مظلومة، فالظالمة حددت لها صفات ونعوت تعرف بها.. والمظلومة تميزت بخصائص ودلائل تفرزها..
إن الظالم كما تصوره الآية منهجه في الحياة أنه لا يرعوي ولا يتوانى في اختيار أي طريق يحقق من خلالها كل مآربه، ولو كانت على حساب الآخر لا يهمه، فهو لا يفكر في غير ذاته لذا يسلك جميع المسالك المشروعة وغير المشروعة، والمتاحة وغير المتاحة، والبسيطة والمعقدة، والنافعة والضارة، ويجتاز كل السبل ولا يبالي بالعواقب ولا يفكر في المصير أو المآل، ويتوسل ما وسعه من الوسائل دون أن يكون مقتنعا بها في أغلب الأحيان، ولكن يقوم بذلك من أجل بلوغ أهدافه والحصول على رغباته والوصول إلى غاياته وإرضاء شهواته من أقصر السبل وأسهل المسالك كما تبدو له هو ويتوهم يبني كل ذلك على قاعدة: "الغاية تبرر الوسيلة".. إنه يهيم في كل واد ويتحرك على كل الأصعدة ويمشي في كل اتجاه ويضرب على كل الأوتار ويستغل كل الظروف وينطلق من كل المستويات، وإن كان في كثير من ذلك غير مقتنع بما يعمل، بله ويكون عارفا ومتحققا من سوء ما يفعل.. ولكنه يقول ما لا يفعل، ويخالف فعله ما يقول.. فلا تجد له رأيا يستقر عليه أو مبدأ يأوي إليه أو مرتكزا يتوكأ عليه.. إنه شخصية متقلبة المزاج تنطوي على مكونات نفسية مختلفة ومتصارعة ومتناقضة لا تتركه يثبت على شكل أو يقر له قرار أو يبقى على هيأة، بل يتقلب في حياته كالماء في القدر على النار.. هذه حال من ليست له ضوابط تقيم حياته أو ترسم له رؤية فاضلة يسير وفقها، أو تبعث فيه الجوانب الإيجابية النابعة من الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، أو تحيي فيه مكامن الخير والفضيلة المبثوثة في أصل الإنسان..
إن من كانت حاله على الشكل الذي رسمته آيات الشعراء فماذا يرجى منه بعدها؟ وما الذي يمكن أن يقدمه أولا لنفسه هو؟.. وماذا يمكن أن يبذل لمن هم قريبين منه ومحيطين به من الأهل والآل؟.. وماذا يمكن أن يعطيه لقومه وعشيرته وبني جلدته؟.. ومن ثمة كيف ستكون حال الذين اتبعوا مسلكه واقتفوا أثره وانتهجوا منهجه قولا وفعلا وتأثروا به فكرا وسلوكا، بله وتأثروه في كل دقيقة وصغيرة، فأصبحت نظراتهم ورؤاهم تابعة لما أنتجه الشاعر من شعر أو الأديب من أدب؟..
شعراء.. وشعراء..:
إن لفظة الشعراء الواردة في الآيات – أو لفظة الأدباء - إذا جاءت بصيغة العموم فإنها داخل السياق وفي علاقتها بالتركيب أصبحت بصيغة الخصوص.. إنها لفظة عامة ومطلقة ولكنها في النص القرآني هذا صيغت مقيدة بمجموعة من الخصائص مما جعلها خاصة ومحددة.. فالذم والتقبيح والتشنيع ليس على اللفظة في حد ذاتها أو على عموميتها أو إطلاقيتها وإنما على ما خصصها وقيدها ونعتها ووصفها.. لذا جاءت اللفظة نفسها مستترة في سياق النص خلف الاسم الموصول الدال على الجماعة " الذين " بعد أداة الاستثناء " إلا " محمودة ومقبولة ومرغوبا فيها..
إذن لفظة "الشعراء" كما وردت في النص القرآني توحي بأنها تسير في اتجاهين حسب الصفات والعلامات.. لتدل على حالتين بشريتين متناقضتين، إحداهما مرفوضة للأسباب التي أوضحناها سلفا، والثانية مقبولة لكونها لا تقبل أن تكون إمعة على أساس قول رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: - ‏لا تكونوا ‏ إمعة، ‏تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا ‏ ‏أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا -‏(12).
http://www.odabasham.net/images/feqhebda305071.jpg


إذن هناك حالتان بشريتان أو إبداعيتان إذا شئنا القول: حالة جبلت على الشر، ولا يحلو لها غير اللعب في الماء العكر، اطمأنت إلى حياة الدعة والمجون وهتك الأعراض والخوض في كل قيل وقال، والذهاب في كل مذهب اعتقادا منها بوجوبيته، أو سلوك كل مسلك ضدا على مناوئيه، أو اللعب على كل الأوتار دون مراعاة لحسن الخلق أو تمييز بين حق وباطل أو تفرقة بين صدق وكذب، ودون التفكير في الحياة الفاضلة بالعمل على غرس الفضائل وجني المكارم.. بله كان أغلب هذه الفئة التي تعبر عن هذه الحالة البشرية، كان كل همها التنفيس عما يعتمل في نفسها ولو على حساب أنفس أخرى، والترويح عن ذاتها ولو بأذية الآخرين.. إنها حالة بشرية شاذة في سلوكها، تتوجه إلى الهاوية وتدعو غيرها إلى الكارثة، وتجرها بشتى الأساليب الجذابة والمثيرة متوسلة اللغة المكتوبة أو المسموعة أو الإشارة أو العلامة أو الصورة وكل ما هو سمعي بصري..
ثم إن المدعو نفسه قد يستجيب لهذه الدعوة بكل سهولة وبساطة ويسر ودون أي ضغط من المرسل لما يتميز به ذلك المدعو أو المتلقي بشكل عام من سرعة التفاعل مع كل مثير طواعية واستجابة لما تكنه نفسه هو الآخر، أو بدون تفكير في العواقب.. ثم هناك ما سبقت الإشارة إلى طبيعته في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "الإمعة"، لذا كان الخطاب القرآني بفعل "يتبعهم"–بتشديد التاء وبتخفيفها- للدلالة على أن الغاوين لم يكونوا كذلك لولا استعدادهم النفسي لتقبل ما ينظمه الشعراء وما ينشدونه من مضامين نابعة من صميم البيئة الجاهلية التي يعيشونها والتي تحيط بها الغواية من جوانبها جميعها.. ولولا رغبتهم في الاتباع والتقليد الذي يصل إلى حد التماهي من كثرة ما يرددونه في حالات نشاطهم وتجمعاتهم وسمرهم وحتى أتراحهم.. ولولا تعلق قلوبهم بمثل ما يروجه الشعراء أو يتحلوا به من أخلاق وأعمال تناقض الأقوال خاصة وأن عامة الناس دائما يحاولون التشبه بمن يرونه في القمة وذا بال في المجتمع.. والمشهور أن الشعراء كانوا يتبوءون أعلى الدرجات في الجاهلية وقبل انتشار الإسلام على أفق الجزيرة العربية.. يقول ابن رشيق: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنؤون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس ينتج "(13).
إذن هذه هي الحالة الأولى التي تصورها الآيات.. وفي المقابل نجد حالة بشرية أخرى تتميز فئتها بصلتها بربها جل ثناؤه والتزامها بدينه، وإيمانها بمبادئ الحق والعدل، وبيعها لنفسها ومالها من أجل الجهاد في سبيل الله تعالى ذكره، فهي تؤمن بالله عز وجل إيمانا عميقا وتوحده توحيدا تاما، وتعمل بمقتضى هذا الإيمان وهذا التوحيد، فلا يختلف فعلها عن قولها، ولا ينأى قولها عن فعلها، كما يجسد ذلك شيخ الإسلام الحسن البصري رضي الله عنه حين قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوما يتمنون على الله الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا كنا نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل" (14).. هذه هي الفئة التي تعبر عنها الآية الكريمة: -الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا-.. أمنوا وعملوا الصالحات إيمان وعمل صالح وجهان لعملة واحدة، بدون أحدهما تكون العملة مزيفة ولن تتداول في السوق ولن يكسب بها أو من ورائها أي خير.. ولكي تبقى هذه العملة جديدة ونقية من كل الشوائب: "وذكروا الله كثيرا" كيف يذكرون الله كثيرا؟ أيذكرونه في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه؟(15) أيذكرونه في شعرهم كما جاء عن ابن زيد؟(15) أم يذكرونه في جميع أحوالهم كما ورد عن أبي جعفر؟(15) لماذا "وذكروا الله كثيرا "؟ ألأنهم شعراء ومن خصال الشعراء أنهم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون مما أوجب كثرة الذكر لجب ما سبق؟ أم هي كثرة ذكرية ربانية لمواجهة كثرة شعرية مختلفة قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: - لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا - (16)؟
يبدو أن الذكر الكثير يشمل كل هذه المعاني كما جاء عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله قال: "من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا، ثم قال: لا أعني "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وإن كان منه، ولكن ذكر الله عندما أحل وحرم، فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها"
(17).
إن الذي يذكر الله كثيرا يكون قلبه بالضرورة مطمئنا أكثر لقوله تعالى ذكره وجل ثناؤه -ألا بذكر الله تطمئن القلوب-(الرعد:29 ) وإذا كان القلب مطمئنا أكثر كانت الجوارح تبعا لذلك مطمئنة أكثر، وعليه فكل ما يصدر عنها يكون مدعاة للطمئنينة أكثر، جاء من حديث طويل عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:-ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب-(ثمانية عشر) وكل عضو في الإنسان ظهر أم بطن يمكن أن ينسب إليه الإبداع سيكون تبعا وخاضعا لقاعدة هذا الحديث، وكل عضو في جسم أو حياة الإنسان إلا ويذكر الله تعالى، ويذكره بالطريقة التي تناسبه تماما كما هي الحال بالنسبة لسائر المخلوقات والكائنات التي تذكر الله وتسبحه وتوقره كل بطريقته ولكن لا نفقه تسبيحهم... قال جل ثناؤه :-يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا- (الإسراء:44 ) كل عضو أو جريحة وكل بعد في الإنسان إلا ويذكر الله بالشكل الذي يلائمه والحال التي تجلي ذلك الذكر في الشكل الذي يجب أن يتجلى فيه.. ومن ثمة يكون الإبداع خاضعا لذكر الله بمعناه الشمولي حسب مصدره الذي يتعاطى مع ذكر الله بما يناسبه.. هي إذن فئة من المبدعين تذكر الله كثيرا في كل أحوالها مما يبعدها عن الشطط، ويجعلها مطمئنة وتنتصر للحق وتدافع عن العدل بكل ما تملك من قوة وسلاح وحتى بالكلمة الملتزمة/الهادفة كما كان الشأن بالنسبة لحسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهم من الشعراء الصحابة –وما اكثرهم- الذين قال فيهم الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: -إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل-
(19)..
وبعد فيمكن أن نأخذ ما سلف ذكره على هذا الشكل ليتيسر جمع ما تفرق قبل أن نستطرد في الحديث عما يمكن أن نستخلصه من آيات سورة الشعراء:
http://www.odabasham.net/images/feqhebda305072.jpg
وننتقل الآن إلى تفكيك مضامين هذا النص القرآني الكريم لنستشف منه ما يزخر به من معان لطيفة منها:
* إن الآيات تخاطب القارئ / المتلقي ليكون على علم بوجود حالتين متناقضتين لا يجمع بينهما سوى لفظة "الشعراء" أما من حيث التوجه العقدي والمنحى الفكري والنظر العقلي والتصور الوجداني والفعل السلوكي والعلائقي فيظهر الاختلاف ويبرز التباين وتتضح الفروق إذ لكل وجهة هو موليها في إبداعه انطلاقا من وجهته العقدية ومكوناتها.. وهذه التفرقة تساعد المتلقي الملتزم على فهم طبيعة كل واحد أو كل فئة من الشعراء على حده ومن ثمة سيكتسب الأدوات التي تمكنه من معرفة الحق والباطل، والصدق والكذب، والإيمان والكفر، والعدل والظلم.. عندما يتعامل مع الإبداع الأدبي ويقومه، كما سيجعله يتعاطى مع كل المذاهب دون خوف أو وجل لأنه سيكون محصنا أو هكذا يجب أن يكون، ومن ثمة يستطيع أن يقيمها وأن يقومها دون أن يتأثر بسلبياتها، ودون أن يجعل أيضا من إيجابياتها نبراسا له إلا أن يكون قد تأكد من إيجابيتها فعلا وأصبحت في مستوى الحكمة المطلوبة، وبذلك سيحافظ على هويته الإسلامية دون أن يفقد منها شيئا وهو لا يدري.. وهذا هو الفهم الصحيح والتأسي الحقيقي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: -الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها-(20). لقد شاع نص هذا الحديث الشريف في بعض الكتابات الإسلامية المعاصرة بشكل يثير الاستغراب والعجب لما يلف فهمه وتوظيفه من غموض وعدم إدراك لحقيقة موقعه.. فالحكمة يجب فهمها انطلاقا من بنية الإسلام ككل وليس كمفردة في نص فريد.. إن الحكمة مرتبطة بالمشيئة الإلهية لذلك يجب عرض الكلمة أو الفعل الذي نحن أحق بأخذه، أن نعرضه على هذه المشيئة لمعرفة إلى أي حد هي أو هو من الحكمة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الحكمة خير كثير، ثم هي ترتبط بالألباب والعقول.. كل هذا جاء مسطرا في القرآن الكريم في قوله سبحانه: "يوتي الحكمة من يشاء * ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب"(البقرة: الآية مائتان وثمانية وستون)، وفي هذا إشارة إلى أن الذي يريد أن يجد هذه الضالة وأن يكسبها وأن يصبح مالكا لها لأنه أحق بها من غيره، فعليه أن يدرك هل فعلا ما يريده يوافق مشيئة الله تعالى من خلال الموافقة الشرعية، هذا من الناحية النقلية، وهل يحمل ذلك الخير الكثير الذي أشارت إليه الآية وهذا من الناحية الوظيفية، وهل إذا عرض على أولي الألباب تمت الموافقة عليه وهذا من الناحية العقلية.. هل ما أعتبره أنا حكمة يمكن أن يكون كذلك عند سواي.. لأن شرط الموافقة الشرعية والوظيفية والعقلية إذا تحقق في شيء لايمكن أن يختلف فيه، أما إذا اختلف فيه فقد يكون في أمر الحكمة ما ليس حكمة مطلوبة حسب درجة تحقق الشرط.. ومن ثمة فسوف نقع في مضمون ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: -مثل الذي يسمع الحكمة ويتبع شر ما يسمع ، كمثل رجل أتى راعياً فقال له:أجزرني شاة من غنمك؟ فقال:اذهب فخذ بأذن خيرها شاة، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم -.(21).
ثم إن الخير الكثير لا يثبت إلا بالتجربة أو كثرة التجارب أي الخضوع للمحك الذي يصادق على حكميتها وهو الواقعية التي هي من خصائص هذا الدين العظيم، ومفهوم التجربة في ارتباطها بالحكمة مفهوم إسلامي محض مأخوذ من الحديث الشريف - لا حكيم إلا ذو تجربة- (22).
فالحديث الشريف إذن ينفي الحكمة عمن ادعاها، إذا لم تتوفر فيه عوامل التجربة التي تعتمد على الواقع الذي من خلاله تتم عملية الممارسة التي هي الأخرى تحتاج إلى تراكم يتم بفعل تداول الأيام، ومن هنا يتمكن الممارس أو المستند إلى مماراسات الغير من الاستفادة بعد أن يحول ذلك التراكم الذي تم على مستوى الممارسة أي التراكم العملي الفعلي إلى تراكم علمي ومعرفي، وبناء عليه يستطيع معرفة ما هو إيجابي ومقبول وما هو سلبي ومرفوض..
* إن المجتمع الجديد الذي يصنع على عيني الإسلام والذي يجب أن يضبطه تصور جديد للحياة والكون والوجود والإنسان، وأن ترسخ فيه أفكار جديدة تؤطر الواقع المنشود، وأن تحكمه منظومة مخالفة تمام المخالفة لتلك التي كانت قبله من البدء والمنطلق إلى الأهداف والغايات مرورا بالإجراءات والأدوات والكيفيات.. وقد يبقى لبعض أهل هذا المجتمع الذي هو في طور الإنشاء شيء أو نوع معين من الارتباط أو الصلة أو العلاقة بمكونات الزمن البالي الذي كان قبله ولو من بعض المناحي فقط.. إما في شكل بقايا حفرت في الأنفس بفعل التقادم تحتاج إلى وقت طويل كي تجثت.. وإما في شكل تقليد لم يهتم به حتى أضحى عادة تجرى مجرى الدم يصعب التخلص منها.. وإما في شكل رؤية غير واضحة لأن معالمها لم تكتمل بعد في زمن معين.. مما جعل الشارع الحنيف يبين ويوضح في إطار اهتمامه بكل شؤون الحياة ومنها الإبداع الأدبي الذي هو جزء لا يتجزأ منها، ليضع فواصل يفصل بها بين الارتباط بالقديم في هذا المجال والتطلع إلى الجديد.. فالعرب – إن صح حديثا شريفا – "لا تدع الشعر حتى تدع الإبل الحنين"(23) ولن تدعه أبدا لأنها دأبت على الاهتمام به حتى أصبح –كما جاء عن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- "علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"(24).. وكما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه: "الشعر ديوان العرب" (25).. أو كما قال ابن سلام الجمحي: "كان ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون"(26) بله إن عبد الله بن قتيبة يذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى: "أقامه مقام الكتاب لغيرها وجعله لعلومها مستودعا ولآدابها حافظا ولأنسابها مقيدا، ولأخبارها ديوانا لا يرث على الدهر ولا يبيد على مر الزمان"(27) وهكذا بقي العربي على صلة بالشعر إنشادا واستنشادا، وعلى ارتباط وثيق بالشعراء اهتماما واحتفاء حتى بعد أن التزم بالإسلام..
لا بد أن بعض الرواسب بقيت عالقة بذهن العربي مؤثرة في سلوكه حتى بعد إسلامه، ومنها إنشاد الشعر كيفما كان، وإنشاؤه على الشكل والطريقة التي عليها كان، فجاءت الآيات في الشعراء لتوضح أن الغواية كل الغواية في اتباع الشعراء والتأثر بالشعر دون تمحيص أو فرز أو روية أو إعمال فكر أو إنعام نظر أو تحاكم إلى الشرع خصوصا وأن شعر تلك الفترة يغلب عليه ما جاء الإسلام لمحاربته ومقاومته مع الإشارة إلى – ودون أن ننسى - أن فترة ما قبل البعثة النبوية أي فترة الجاهلية كانت فيها عناصر حاولت أن تحافظ على ما تبقى من دين سيدنا إبراهيم عليه السلام كانوا يسمون الحنفاء الذين يتألهون ويتعففون - كما ذكر ابن سلام - "من الشعراء من يتأله في جاهليته ويتعفف في شعره ولا يستبهر بالفواحش ولا يتهكم في الهجاء"(ثمانية وعشرون)، ولكنها قلة قليلة لا ترقى إلى أن تكون قدوة للمتلقي الذي يعيش حياة كلها على العكس مما تعيشه هذه الطائفة من الحنفاء..
ويبدو هذا النوع من الارتباط، وتتجلى معالم هذه الصلة بالقديم المنهي عنه من خلال هذا الحدث الذي جاء على شكل حديث نبوي شريف يروى فيه:- أن جويريات كن يضربن بدفوفهن ويغنين ويندبن من قتل يوم بدر بشعر رثائي فقالت إحداهن: "وفينا نبي يعلم ما في غد" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اسكتي عن هذه وقولي التي كنت تقولين قبلها - (29).
* ثم إن في الآيات إشارة خفية إلى وجوب اتخاذ الشعر والشعراء وسيلة إعلامية إسلامية بالإضافة إلى الوظائف الأخرى المنبثقة من طبيعة العملية الإبداعية نفسها ومن الانتماء العقدي.. نستشف هذا من خلال تمعننا في مستهل الآيات الكريمات: -والشعراء يتبعهم الغاوون - لقد كان من الممكن أن تذكر الآيات الشعراء وتتحدث عنهم وتصفهم كمبدعين فتقول على سبيل المثال مباشرة دون ذكر الآية السابقة: -ألم تر أن الشعراء في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون-–وهم قلة بالمقارنة مع العامة– دون الإشارة إلى غيرهم من المتلقين ولا إلى موضوع التبعية أصلا، ولو أن الآيات فعلت ذلك لفهم منها أنها تتحدث عن المضامين والموضوعات التي يتداولها الشعراء والأدباء. وبذلك يتم النظر في ما تحمله أشعارهم وإبداعاتهم من رسائل فقط.. إلا أن القضية أوسع من ذلك، أوسع من الحديث عن المضمون أو المحتوى، على اعتبار أن المضمون أو المحتوى أو الموضوع الذي لا يأتي ممتطيا شكلا متميزا ومؤثرا، ولا يجيء ممتشقا بناء جذابا لا يعقل أن يجد له أتباعا أو متأثرين لا من بعيد ولا من قريب، ولا يمكن حينها أن تذكر الآية أولائك الغواة التابعين ولن يكونوا كذلك إلا إذا وجدوا ما يتبعون والذي لا يمكن أن يتجلى لهم إلا في شكل مغر على الاتباع.. ولكن الأهم هو ما أنتجه هؤلاء المبدعون وأبدعوه من فن القول فأمالوا به قلوبا متيمة به تأخذها أضواؤه، وأخذوا به أفئدة عاشقة له تأسرها أشكاله، فتذهب مع كل صيحة تزين وجهها بالمساحيق الخادعة، وتميل مع كل ضجة إعلامية مزركشة يقوم بها الشعر/الأدب والشعراء/الأدباء في الأسواق والأندية، أو في الأفراح والأتراح، أو في ميادين الحرب والقتال..
إن الدعاية العريضة والمكثفة موضوعاتيا، مع التفنن في اختيار وسائلها وانتقاء أبدع صورها وتوشيحها بأبهى الحلل ليؤثر أبلغ تأثير في النفس والمجتمع.. ويظهر هذا جليا في ما ورد علينا من أخبار توضح مدى تأثير الإبداع الأدبي بتركيبته الحية من المعنى والمبنى (كالماءH2O) في حياة الأفراد والجماعات، فكم من علو شأن بعد دنو تم ببيت شعر أو قصيدة سارت في الأمصار والعكس صحيح أيضا.. وهذا ما رواه المؤرخون في أخبار كثيرة تتحدث عن أناس رفعهم الشعر في الجاهلية وعن أقوام أزرى بمكانتهم، وهذا بفضل الإبداع الأدبي وسيلة إعلامية تروج للأهداف في الأسواق والمجاميع والطرقات.. وكان ممن اشتهر من الذين رفعهم الشعر بعد خمول في الجاهلية المحلق بن حنتم الكلابي..(30).
إذن يمكن اعتبار آيات الشعراء نوعا من التحريض لاتخاذ الشعر خاصة والإبداع الأدبي عامة في دولة الإسلام لاستمالة الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل وإخراجهم من الغواية إلى الهداية، ومن الضلال والتيه إلى الإيمان والاستقرار على منهج التوحيد وطريق التصور الإسلامي الصافي من كل الشوائب، ومن الخوض في المتاهات والضرب في كل الاتجاهات إلى التركيز على الهدف النبيل والغاية الفاضلة.. ولن يتحقق هذا الأمر بالمباشرة فهذا له مجال آخر يعمل فيه بأسلوب مخالف غير الإبداع الأدبي الذي لا يمكن أن يتجرد من كسائه الذي يتميز بالفنية والبلاغية المؤثرة جماليا، التي لا تنفصم عن الموضوعات والمضامين المؤثرة إقناعيا "وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا" (النساء:62).
* إن الآيات بمثابة تحريض على الجهاد، وعلى الدخول في حرب كلامية/إعلامية ضد أعداء الدين بموازاة مع الحرب العادية/السلاحية.. فلا يعقل أبدا أن يتخذ المشركون والكفار واليهود الشعر/الأدب (31) وسيلة لتشويه الرسالة وهجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومهاجمة المسلمين والتغزل بالمسلمات الطاهرات، وتحريش الأوباش ودفع العامة لمحاربة الإسلام ومنازلة معتنقيه..، ثم يبقى المسلمون مكتوفي الأيدي مبتعدين أو مبعدي أنفسهم عن أي وسيلة ناجعة من وسائل الحرب والكيد للعدو ومنازلته ومقارعته ودمغه بالحجج والأدلة ودحض أقواله ومواقفه الشنيعة ، ثم إثبات الحق وإقرار العدل وإعطاء الرأي العام حقيقة الإنسان والكون والحياة والوجود والكائنات من خلال التصور الإسلامي بجلاء ووضوح تامين عن طريق الإبداع الأدبي المتمثل آنذاك في الشعر أرقى الأجناس الأدبية وأفضلها وأحبها إلى النفس وأقربها إلى الوجدان.. والذي رافق العربي وأثر بشكل بارز في عقله ونفسه ووجدانه وتفكيره وتدبيره(32)..
ولقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على مثل هذا التأثير حين قال عليه السلام:-فلهو – أي الشعر – أسرع فيهم من نضح النبل - أو- أشد عليهم من وقع النبل- (33). وكذلك بالنسبة لكل ما هو منتم لمجال الإبداع ومتفرع عنه فإنه يدخل تحت غطاء الضمير المنفصل في الحديث الأول "هو" الذي لا يمكن أن يلبث معبرا عن الشعر وحده فقط، وإن دل على ذلك السياق، فهو ضمير منفصل حتى عن سياقه ليجعل تحت لوائه كل ما من شأنه أن يكون أسرع من نضح أو وقع النبل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل-(34) وكان صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت رضي الله عنه: "يا حسان أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس"(35) "اهج المشركين، فإن جبريل معك" (36).
فهل يعقل أن تترك هذه الطاقة الجياشة والفياضة والحيوية في الحياة البشرية وبشأنها الكبير والخطير وأثرها العميق والجليل في الإنسان بشكل عام والعربي بشكل خاص، دون أن تستغل أو أن توظف في الدعوة والجهاد والدفاع عن حياض الإسلام وأعراض المسلمين..؟؟؟ خاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف مدى تأثير هذه الوسيلة لذلك عندما أسر أبو عزة يوم بدر كافرا وكان شاعرا وكان مملقا ذا عيال فقال: يا رسول الله، إني ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك. فقال: على أن لا تعين علي
يريد شعره قال:نعم. فعاهده وأطلقه، فقال:
ألا أبـلـغ عـنـي النبي محمدا
وأنت امرؤ تدعو إلى الرشد والتقى
وأنـت امـرؤ بـوئت فينا مباءة
وإنـك مـن حـاربـته لمحارب
ولـكـن إذا ذكـرت بدرا وأهلها
بـأنـك حـق والـمـلـيك حميد
عـلـيـك مـن الله الكريم شهيد
لـهـا درجـات سـهلة وصعود
شـقـي ومـن سـالـمته لسعيد
تـأوب مـا بـي حـسرة وتعود
فلما كان يوم أحد دعاه صفوان بن أمية بن خلف الجمحي وهو سيدهم يومئذ إلى الخروج، فقال: إن محمدا قد من علي وعاهدته أن لا أعين عليه. فلم يزل به، وكان محتاجا، فأطعمه، والمحتاج يطمع (قال له صفوان يومئذ: لك الله علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر)، فخرج، فسار في بني كنانة، فحرضهم، فقال:
يا بني عبد مناة الرزام*أنتم حماة وأبوكم حام
لا تعدوني نصركم بعد العام*لا تسلموني، لا يحل إسلام
وأسر أبو عزة يوم أحد، فقال: يا رسول الله من علي.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدا مرتين.. فقتله(37).
* من جهة أخرى فإن الشعر وسيلة من الوسائل التي ترفع معنويات المسلمين وتطيب أنفسهم وتزكي وجداناتهم وتحثهم على العمل والجد وتشجع على مواصلة النشاط ونكران الذات من أجل تحقيق الصالح العام وما يخدم الدعوة إلى الله واستمرارها، فعن أنس يقول: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد
يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهــم إن العيش عيش الآخـرة* فاغفر للأنصار والمهاجرين
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا.. (ثمانية وثلاثون).
وعن سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا*ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما بقينا*وثبت الأقدام إذا لاقينا
وألقين سكينة علينا*إذا إذ أصبح بنا أبينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق؟" قالوا: عامر بن الأكوع.. قال: "يرحمه الله. قال رجل من القوم: وجب يا نبي الله.. لولا أمتعتنا به، فأتينا خيبر فحاصرناهم... (39).
*إن في هذه الآيات أيضا تلميحا إلى جعل الشعر أداة مطواعة من أدوات العمل الصالح الذي يرافق حياة المؤمن ووسيلة من وسائل ربط العبد نفسه بربه سبحانه، والإكثار من ذكر الله على كل الحالات أثناء الحرب وفي السلم وفي المجالس والمجامع .. وأيضا وسيلة من وسائل الترويح عن النفس، ولكن دائما في حدود ما هو مشروع إسلاميا، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، وينشدون الشعر ويضحكون ويبتسم صلى الله عليه وسلم(40)
ولا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم أن يستمع إلى منكر أو أن يصمت على منكر سمعه فيكون له بذلك مقرا، أو يبتسم لغير معروف، لاسيما وأن هذا الوضع تكرر مرارا ولم يكن من قبيل الصدفة أو الأمر العابر، فراوي الحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر .. الحديث.(41).
*وأخيرا وليس آخرا لا بأس من الإشارة إلى أن الجزء الذي يمثل الرفض في آيات الشعراء يتجلى في ثلاث آيات (من 223 إلى 225) مع العلم أن كل آية تمثلها جملة قصيرة، وأن القبول تمظهر في آية واحدة (226) على الرغم من أنها طويلة.. مما يوحي بأن للرفض أسبابا متعددة، وهذا هو منهج الإسلام لا يرفض من أجل الرفض، كما لا يرفض لأتفه الأسباب.. وأن الرفض يبنى انطلاقا من زاويته المحدودة الصغيرة والضيقة، فهو يتحرى في الأمر على قاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة" بحيث يتخذ فيه القرار بالرفض عندما يصبح لا مفر منه ولا غنى عنه، لتجنب كل ما يحمله في طياته من سوء .. ثم إن القبول واحد موحد لا تعدد فيه وإن طالت طبيعته، لأنه يرتكز في أسسه على الحق، والحق واحد وإن تجلى في عدة أوجه وصور إلا أنه يحمل دلالة واحدة هي "لا ضرر ولا ضرار"..
هذه ثلة من المعاني اللطيفة التي تشع من نور هذه الآيات الكريمة من سورة الشعراء والتي جعلها بعضهم دالة كل الدلالة على عداء الإسلام للشعر والإبداع ومعبرة كل التعبير عن بغضه للشعراء والمبدعين.. وصورة واضحة المعالم للتنكيل بهم والتنقيص من فنهم وإبداعهم.. وهي كما علمنا آيات لا تقف إلى جانب المانع مطلقا، وليست مع المجيز مطلقا، بل فصلت في الأمر فوضعت الحدود، ورسمت الفوارق، وأرست القواعد، وضبطت المهام المنوطة بذلك، وحددت الوظائف وبينت معالم الحق وردت أشلاء الباطل، ورسمت للمسلمين طريق الإبداع تلك الطريق الشاسعة الواسعة التي لا يستطيع أحد أن يحيط بكل شعبها ودروبها وممراتها، لكنها فقط تتنفس عبير ما اعتنقوه عقيدة وشريعة وسلوكا ومنهجا.. "فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته (...) إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن،"كما قال سيد قطب رحمه الله في تفسير الآية (42).. فما على الأدباء المسلمين إلا أن يصغوا إلى النداء المنبعث من آيات سورة الشعراء..
http://www.odabasham.net/images/adab18.gifhttp://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif
المراجع والهوامش:
1. بالجمع على اعتبار أن اللغة هي كل وسيلة يحصل بها نوع من التواصل الهادف، ومنها اللسان كما ورد في القرآن "بلسان عربي"، ومنها الإشارات والحركات والعلامات ومنها الصور والرسوم وغير ذلك..
2. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عايه الشيخان البخاري ومسلم وضعه محمد فؤاد عبد الباقي دار الباز مكة المكرمة الجزء الثالث الصفحة: 212..
3. راجع مقدمة ابن خلدون ابتداء من الفصل الثالث والخمسين فما بعد.. المرجع السابق نفسه..
4. سلسلة الأحاديث الصحيحة محمد ناصر الدين الألباني المجلد الرابع الصفحة 355 رقم الحديث 1761..
5. انظر مجلة "القاهرة" المصرية العدد:10 تاريخ 09/04/1985 والعدد:13 تاريخ 30/04/1985..
6. " نقد المركزية العقائدية في نظرية الأدب الإسلامي" لسعيد علوش دار أبي رقراق- الرباط /المغرب طبعة 2002
7. الأدب الإسلامي أصوله وسماته" محمد حسن بريغش دار البشير عمان الطبعة الأولى 1412هـ/1992م.. الصفحة:8
8. هذا المنهج "العطاء قبل الأخذ" واضح من خلال نصوص كثيرة تبدأ بـ"عليكم بـ.."وتنتهي"وبإياكم و."على قاعدة قوله تعالى:" وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..".
9. سلسلة الأحاديث الصحيحة الألباني المجلد الثاني الصفحة 436 الرقم:802
10. انظر الفصل الرابع ابتداء من الصفحة: 47 من كتاب " جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام" لأبي زيد القرشي تحقيق محمد علي البجاوي دار نهضة مصر القاهرة.
11. يقول أفلاطون في محاورته "إيون": " ..فالشاعر لا يبدع إلا أن يلهم ويخرج عن رشده ويتخلى عنه عقله.." نقلا عن كتاب الرحلة التاسعة جبرا إبراهيم جبرا المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت/لبنان الطبعة 2 السنة 1979 الصفحة 138
12. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي المباركفوري صححه عبد الوهاب عبد اللطيف دار الفكر الطبعة الثالثة 1399هـ/1979م المجلد السادس الصفحة: 145/146 رقمه:2075 هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد والنسائي..
13. العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيرواني المكتبة التجارية – القاهرة/مصر الطبعة 2 السنة 1955 الجزء 1 الصفحة 65
14. يروى حديثا بشكل آخر، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني مكتبة المعارف الرياض الطبعة الثانية 1408هـ/1988م الصفحة:217 .. إلا أنه في روايات ينسب للإمام حسن البصري رحمه الله ورضي عنه..
15. انظر أواخر سورة الشعراء في "جامع البيان في تفسير القرآن" للإمام محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310هـ..وهو مشهور بتفسير الطبري وطباعته كثيرة..
16. صحيح البخاري بحاشية السندي دار المعرفة بيروت/لبنان 3/251 و4/21. وصحيح مسلم 7/50. وتحفة الأحوذي الترمذي 8/143
17. جاء في آخر تفسير سورة الشعراء من كتاب "الميزان في تفسير القرآن" للعلامة محمد حسين الطبطبائي، وهو من علماء الشيعة..
18. "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" إعدادا محمد فؤاد عبدالباقي دار الباز/مكة المكرمة الجزء 2 الصفحة:154..
19. سلسلة الأحاديث الصحيحة مرجع مذكور المجلد الرابع الصفحة:172 الرقم 1631..
20. رواه الترمذي انظر تحفة الأحوذي المجلد السابع الصفحة:458.. قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه..
21. رواه الإمام أحمد تتمة مسند أبي هريرة حديث رقم 9007..
22. رواه البخاري موقوفا في "الأدب المفرد" دار الكتب العلمية لبنان الصفحة:83 باب التجارب.. ورواه الترمذي مرفوعا وقال حسن غريب وذكر المباركفوري أن الحديث "أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، قال المناوي في شرح الجامع الصغير إسناده صحيح.." انظر تحفة الأحوذي الجزء السادس الصفحة 182..
23. يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب" العمدة " لابن رشيق مرجع سابق الجزء الأول الصفحة 30..
24. طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي تحقيق محمود شاكر طبعة المدني/القاهرة الجزء 1 الصفحة 24..
25. العمدة لابن رشيق المرجع نفسه..
26. طبقات فحول الشعراء المرجع نفسه..
27. تأويل مشكل القرآن أبو محمد عبد الله بن قتيبة شرح ونشر أحمد صقر المكتبة العلمية-المدينة المنورة الطبعة3/1981.الصفحة:18.
28. العمدة لابن رشيق المرجع نفسه..1/41..
29. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمباركفوري 4/211.
30. "كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق الكلابي مئناثا مملقا. فقالت له امرأته: يا أبا كلاب، ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر؟ فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبه خيرا. قال: ويحك.. ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل.. قالت: الله يخلفها عليك. قال: فهل له بد من الشراب والمسوح؟ قالت:إن عندي دخيرة لي ولعلي أن أجمعها. قال: فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحد وابنه يقوده فأخذ الخطام.. فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ قال: المحلق. قال: شريف كريم، ثم سلمه إليه فأناخه،فنحر له ناقته وكشط له عن سنامها وكبدها، ثن سقاه وأحاطت بناته به يغمزنه ويمسحنه. فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك وهن ثمان شريدتهن قليلة.قال: وخرج من عنده ولم يقل فيه شيئا، فلما وافى سوق عكاظ إذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى ينشدهم:
لعمري قد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار بالـيـفاع تـحّـرق فـسلم عليه المحلق، فـقال له:مرحبا يا سيدي بسيد قومه. ونادى: يا معاشر العرب، هل فيكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم.. قال:فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها " وذلك بالأشراف من كل قبيلة، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف..انظر "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني دار الكتب العلمية لبنان مع تحقيقات واستدراكات وفهارس الطبعة 2/1992 9 /133 وكتاب "العمدة" 1/48.. وجاء في الخوف من فعل الشعر بكتاب " الأدب المفرد" للإمام البخاري عن أبي نجيد أن شاعرا جاء إلى عمران بن حصين فأعطاه.. فقيل له تعطي شاعرا؟ فقال: أبقي على عرضي" دار الكتب العلمية بيروت/لبنان الصفحة 51 – 52..
31. أو أي شكل من أشكال الإبداع التي يتوسلونها لتشويه صورة الإسلام في بعض رموزه كما وقع في هذا العصر الأغبر بالرسومات الكاريكاتورية في بعض الدول الغربية وللأسف الإسلامية أيضا..
32. انظر "كتاب الحيوان" لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون المجمع العلمي العربي الإسلامي/لبنان الطبعة الثالثة1388هـ/1969م.. الجزء الأول.. من الصفحة:364..
33. "سنن النسائي"بشرح السيوطي وحاشية السندي تصحيح المسعودي دار إحياء التراث العربي/لبنان توزيع دار الباز مكة المكرمة الجزء 5 الصفحة 212.. وانظر "الأغاني" 4/143..
34. سلسلة الأحاديث الصحيحة مرجع مذكور المجلد الرابع الصفحة:172 الرقم 1631..وجاء فيه: عن الزهري قال: أن كعب بن مالك حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر. أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت؛ وكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، وسنده صحيح.
35. صحيح البخاري بحاشية السندي الجزء 3 الصفحة 30 .. وصحيح مسلم دار الفكر-لبنان ج 3 ص 189..
36. صحيح البخاري مصدر سابق 1/90. وصحيح مسلم ج7 ص163. وجاء في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" الألباني م:4 ص:618 (عن البراء بن العازب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي فقيل : يا رسول الله ! إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقام ابن رواحة فقال : يا رسول الله ايذن لي فيه ، فقال : أنت الذي تقول : ثبت الله ... ؟ قال نعم ، قلت : يا رسول الله _ فثبت الله ما أعطاك من حسن _ تثبيت موسى ونصرا مثل ما نصروا _ . قال : وأنت يفعل الله بك خيرا مثل ذلك . قال : ثم وثب كعب فقال : يا رسول الله : ايذن لي فيه . قال : أنت الذي تقول : همت ... قال: نعم ، قلت : يا رسول الله _ همت سخينة أن تغالب ربها _ فليغلبن مغالب الغلاب _ . قال : أما إن الله لم ينس لك ذلك . قال : ثم قام حسان فقال : يا رسول الله ! ايذن لي فيه ، وأخرج لسانا له أسود ، فقال : يا رسول الله ! ايذن لي إن شئت أفريت به المزاد . فقال : الحديث).
37. وردت القصة عند محمد بن سلام الجمحي في "طبقات فحول الشعراء" 1/253و254و255..
38. صحيح البخاري م.ن 3/35.
39. صحيح البخاري م.ن 3/48.
40. سنن النسائي نفسه 3/80. و"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشعر في مجالسهم ويذكرون أمر الجاهلية فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون" الأدب المفرد.. دار الكتب العلمية لبنان باب الكبر.ص:81..
41. تحفة الأحوذي تفسه 8/142..
42. انظر "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله في تفسيره لأواخر سورة الشعراء ...
وللبحث بقية
المصدر (http://forums.arab-ewriters.net/viewtopic.php?t=2044)
حياكم الله
http://www.kaanz.com/vb/up/uploads/48f8023902.gif
http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
د. أبو شامة المغربي
http://aklaam.net/aqlam/images/e_mail.gif
kalimates@maktoob.com

المساوي
18/06/2007, 03:55 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكركم أخي الكريم على اختياركم وأتمنى لكل المهتمين بهذا المنتدى المبارك التوفيق والسداد..

أخي الفاضل "أبو شامة المغربي" سرني ما قمتم به واعتبرته تكرما من جنابكم المحترم.. وكنت أنتظر منكم تعميما للفائدة مع عدم بتر الموضوع أن تتفضلوا بنقل الأجزاء المتبقية..
ولم أرد أن أتطفل على اختياركم سيدي الفاضل فأضيف الحلقات الأخريات ليصبح الموضوع متكاملا فأرجو أن تصل إليكم رسالتي هذه وأنتم على أحسن وأتم ما ترجونه..
ولكم مني أفضل الشكر وأحسن المتمنيات
وجزاكم الله كل خير
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أبو شامة المغربي
18/06/2007, 07:09 AM
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
فقه الإبداع الأدبي في الإسلام
http://www.odabasham.net/images/abdulrazaqmasawi0507.jpg
الأستاذ
عبد الرزاق المساوي
الجزء الثالث
إلى آيات "يس":
وبعد هذه المأدبة العظيمة من سورة "الشعراء" ننتقل إلى مأدبة سورة "يس" التي جاءت في سياق ما اصطلح على تسميته بالقرآن المكي، وبذلك فهي آيات تتميز بكل الخصائص والمقومات التي تشكل طبيعة موضوع وبناء السور المكية بشكل عام، إذ الطابع الغالب على ذلك العهد وذلك الموضوع هو الاهتمام المتزايد بما يعتبر أس الإسلام ولبه، وجوهر الدين وركيزته وذلك بإعطاء الأولوية لقضية العقيدة ومبادئها ومستوياتها ومكوناتها وشعبها.. وإصلاح القلوب والنفوس والوجدانات وتنقيتها وصقلها وتطوير العقول والألباب وتزكيتها في فهمها لموضوع الإيمان وتعاملها مع كل مكوناتها وجميع تجلياتها..
إن اللحظة المكية كانت هي اللحظة الحاسمة في تشكيل الصورة التي سيكون أو سيؤول إليها الإسلام في نهاية المطاف، كيف سيكون فهمه في أذهان العرب، وكيف سيتحدد مصيره من حيث البقاء والاستمرارية عندما تنزل الآية الكريمة )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا((الأنبياء 4).. لذلك نجد هذا الدين الجديد يخوض معارك الوجود والبقاء، وقد كانت معارك ضارية على مستوى النفس والفكر والعقل والمجتمع والواقع.. حتى يتمكن من إرساء مبادئ التوحيد وترسيخ الدعامة الأولى في الإسلام والتي هي "أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" والتي من خلالها وانطلاقا منها سيتم التعاطي مع جوانب الحياة كلها.. ولقد أدرك العربي بسليقته وفطرته وفهمه للمعاني والمدركات ومعرفته بالأبعاد والمرامي والمقاصد أن هذه الدعامة التي ركزت عليها الدعوة الإسلامية منذ البداية ليست كلمة تسمعها الآذان وتقال باللسان ولا تتجاوز إلى أغوار الوجدان.. بل هي في إدراكه وفي عمق اعتقاده وفي نظرته البعيدة تغيير جذري لما رسخ في المجتمع العربي من شرك ومظاهره وكفر ومشاربه.. إنها انقلاب كبير لما طبع السلوك العربي من انحراف ورذيلة وسوء.. كما إنها تعتبر في تقديره تصد قوي لكل ملامح وصور الجاهلية في العلاقات البشرية والمالية والتدبيرية.. وبإدراك العربي لخطورة هذه الدعوة الجديدة وهذه النبتة الطرية على الشكل الذي رأينا حاول بجميع ما يملك من الوسائل وبكل ما أوتي من الأسباب وأدها وقتلها والفتك بها وهي ما تزال في مهدها.. قبل أن يشيع أمرها بين الأفراد والأسر والجماعات، وقبل أن يذيع صيتها في الحواضر والبوادي.. ولكنه لم يفلح في ذلك، ولم ينجح في صد أو الحد من المد المحرر للعقيدة والتصور والسلوك والرؤية والأفق من كل أشكال المثبطات والمعوقات الشركية عقيدة والكفرية فكرا والجاهلية سلوكا..
ولقد كان من أول الأسلحة التي استعملت في وجه هذا الدين الجديد في زمنه المكي – قبل أي نوع المواجهة كالتعذيب والقتل وكتم الأصوات والتهجير..- هو سلاح التشويه إعلاميا كما فعل أبو لهب(1)، وتسمية الأشياء بغير مسمياتها، ووضع النقاط على غير حروفها وفي غير محلها، والترويج لمصطلحات لا تعبر بشكل نقي عن حقيقة هذا الدين، ولا تدل دلالة عميقة على المعاني التي جاء يبشر بها، ولا تحمل المفاهيم الصائبة التي أراد نشرها، ولا تصور كما يجب الرؤية العقدية التوحيدية التي نزل الوحي من أجلها.. ولكي تتحقق هذه الأهداف جميعها ضربة قاضية في عمق ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.. توجه هذا التشويه الإعلامي على الخصوص إلى المركز والمنطلق والذي هو القرآن الكريم كلام الله جل في علاه، ثم إلى المبلغ عن الله محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ولذلك فإن أول مواجهة تمت بين الرؤية الجاهلية العتيقة والتصور الإسلامي الجديد كانت عبارة عن مواجهة لغوية/اسمية أو اصطلاحية لأن المصطلح "في دلالته الحضارية أن تكون أو لا تكون"(2) لما يحمل هذا المكون من إشارات ودلالات، ولما يزخر به من إيماءات وإيحاءات، فالشيء يحمل دلالاته في اسمه، ويعبر عن تصوره من خلال المصطلح الدال عليه، لأنه " على الرغم من أنه لا مشاحة –كما يقولون- في المصطلح، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن بعض المصطلحات قد مارس ضربا من التأثير السلبي فيما وضع له من مفهومات، بتضليل مقصود حينا، وبتناقض معطياتها حينا آخر، ثم باختلاف مستويات النظر إليه طبقا لاختلاف الثقافات والبيئات، وتبعا لتطور إيقاعات الزمان والمكان بصفة عامة"(3) وانطلاقا من وعي العربي بخطورة الكلمة ( اللفظة / التسمية / المصطلح ) وما توحي به من مفاهيم، وما تفوح به من معان، وما تشخص من دلالات وما تفك من رموز.. بدأ حربه ضد الإسلام في أبرز مقوماته بله في أسه وهو مفهوم "القرآن" ومفهوم "الرسول".. وذلك بمحاولته تغيير اللفظتين/المصطلحين السابقين والترويج بدلهما للفظتين/مصطلحين آخرين هما "الشعر" و"الشاعر" على قاعدة "استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير" ليشيع بين الناس أن هذا الذي يسمى "القرآن" والذي بهرهم منذ أول قراءة لآياته، ليس من عند الله، بله ما هو إلا الشعر من إنتاج الشاعر، وأن هذا الرجل الذي يدعي أنه يتلقى الوحي من السماء ما هو إلا شاعر من الشعراء العرب، مثله كمثل الذين ادعوا النبوة من قبل.. وهذا ليس لأن العرب تريد أن يسمى القرآن شعرا دون غاية أو هدف، ولكن لأن اختيار مصطلح معين بذاته هو تعبير عن الذات واختياراتها من معتقداتها وسلوكياتها التي سوف تتجلى من خلال ما ارتضته لنفسها اسما ومصطلحا.. وهذا ليس غريبا يقول الدكتور محسن عبد الحميد: "لا غرابة أن ينادي بعضهم بوجوب أن يكون للإسلام والإسلاميين مصطلحات خاصة بمدلولات خاصة في بعض المجالات المعرفية، إن لم تكن في كلها، حتى يتسنى للصحوة المعاصرة أن تعبر عن نفسها بنفسها ومن خلال ذاتيتها واختياراتها." (4)
كانت في البدء المعركة إعلامية شرسة وعلى أشدها ضد المصطلحين "القرآن والرسول".. وإن كانت غير مضمونة النتائج بالنسبة للذين أسعروها نظرا للبون الشاسع بين المستبدل والمستبدل به، ونظرا للفروق الكبيرة جدا بين القرآن والشعر.. وهذا الأمر فطن له بعضهم، فالعرب تدرك جيدا ماهية الشعر وطبيعته ووظيفته وشكله، لذلك كان رد أنيس على أخيه أبي ذر الغفاري لما أرسله ليستطلع أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر"(5) ولم يستطع آخرون كتمان هذا الأمر كما جاء على لسان أحد شيوخ قريش الذين ساهموا بالترويج لكل شائعة ضد الرسالة الجديدة، وهو الوليد بن المغيرة الذي * اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم. فقال لهم يا معشر قريش قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم) فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضكم بعضا. قالوا: فأنت با أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقل به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: هاكن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.....(6)
ومع هذا كله كان لزاما عليهم للحفاظ على مواقعهم ومصالحهم المعيشية أن يجادلوا ويروجوا لما يشوه صورة ودلالات ومعاني وآفاق ما يحمله هذا الكتاب الجديد "القرآن" وما يبشر به هذا الرجل الذي بعث فيهم ومن أنفسهم محمد الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلا أن الله سبحانه وتعالى أفحم هؤلاء وتصدى لهم بالذكر الحكيم وأبان عن نواياهم ومقاصدهم وذلك ببيانه المعجز وبلاغته الفريدة وتصويره الرائع متحديا ورادا ومحللا ومفسرا ومقنعا ومدللا وكاشفا عما يعتمل في أنفسهم في آيات قصيرة المبنى عميقة المعنى..وكان منها آية سورة " يس " التي بلغت قمة الرد المباشر على دعاويهم.. إن موضوعها يتناول قضية هامة وخطيرة جدا، وعليها قد يتحدد مصير الإسلام منذ البداية ويتحدد مستقبل الرسالة ككل فيما سيأتي.. ومن ثمة يتحدد الوضع العام للإنسان والحياة..
إنها قضية البحث عن مصطلح مناسب يكون اسما دالا على ذلك الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .. وأقول "مصطلحا" لأن "آيات يس" في اعتبارنا لا تتكلم عن الشعر فنا أو إبداعا أو قولا جماليا أو خطابا أدبيا، وإنما تشير إلى أن الإسلام يرفض الشعر مصطلحا ويرفضه تسمية ويرفضه عنوانا بمدلولاته ومفاهيمه ومضامينه وخلفياته وكل ما اكتسبه في جاهليته، يرفضه حتى لا يصبح اسما للكتاب المنزل من السماء.. لأن في هذا التغيير تعبيرا، وفي تزكيته تزكية لدلالاته، وفي السكوت عنه تسريبا لما خلفه من معان.. فبالنسبة لأهل مكة مصطلح الشعر هو المناسب لأنه سيخدم مصالحهم، وبالنسبة للخالق سبحانه مصطلح القرآن هو المناسب فهو صاحب الخطاب والأعلم بمقاصده..
ولنتساءل لماذا رفض الإسلام هذا المصطلح/التسمية ؟ أوبمعنى آخر لماذا لم يرد القرآن أن تسميه العرب شعرا ؟ أو على الأصح لماذا لم يسم الله عز وجل في علاه ما أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم شعرا كما أرادت العرب؟ لماذا أبى عليها أن تنعت ما كان يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم أناء الليل وأطراف النهار على مسامعهم بالشعر، وأصر سبحانه على تسميته بالقرآن ؟ ولماذا أبى أن يطلق على محمد صلى الله عليه وسلم اسم الشاعر؟ وفي المقابل لماذا هذا الإصرار –من الكفار- على نعت القرآن بالشعر؟ ولماذا الدعوة إلى رفض اسم القرآن مع أنه جديد عن البيئة التي حل بها؟ لماذا هذا التعنت في وسم الرسول بالشاعرية مع أنهم يعرفونه جيدا فقد تربى بين أظهرهم؟..
هناك ضرورة تاريخية واجتماعية، مدنية وحضارية وقبل هذا وذاك هناك ضرورة دينية إسلامية جامعة لكل ما سبق، جعلت هذا الدين الجديد يخوض معارك عديدة وعلى مستويات كثيرة وفي جبهات مختلفة وبأسلحة متنوعة من أجل استقطاب واسع ومكثف لكل ذي عقل سليم وقلب منيب وضمير حي، وبدأ أول ما بدأ به تحديد استراتيجية واضحة تتبنى مبدأ التوحيد بمفهومه الواسع كركيزة أساس تتفرع عنه مجموعة من التحديدات والتجليات والوظائف، وكان من بينها تحديد مفهوم الوحي والكتاب، وموحيه والقائم بأمره، والموحى إليه ومبلغه.. ووظيفة كل واحد على حده وطبيعة العلاقة بين الأقطاب الثلاث انطلاقا من تحديد الأسماء أو المصطلحات الدالة عليها.. ومن بين أول ما بدأ به هو التعريف برسالته المتمثلة في الخطاب الموحى به لأن من خلال الوقوف على تعريف خاص به يتم تحديد التعاريف الأخرى المتبقية، وهذا ما سنبحثه مع وقفة إجلال للآية التي في سورة "يس" والتي أقحمت في قضية لا علاقة لها بها من حيث الوظيفة والتي هي قضية الإسلام والشعر، وهي آية ترسم لنا معالم قضية أخرى..
ما هي القضية إذن ؟
إن القضية في آية سورة "يس" ليست كتلك التي في سورة "الشعراء"، فهي لا تبحث قضية الإسلام والشعر وموقف أحدهما من الآخر، ولا توضح علاقة الإسلام بالشعر والشعراء أو الأدب والأدباء، ولا ترسم الروابط أو الفواصل ولا تحدد المسارات ولا تقف عند المنهج كما فعلت آيات الشعراء، وإنما تبحث مسألة أخرى وهي مسألة المصطلح أو الاسم القديم الموجود قبل البعثة المحمدية بقرون وهو مصطلح " الشعر " من جهة.. ومسألة المصطلح أو الاسم الجديد الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو " القرآن " من جهة أخرى.. وسوف نبحث في هذين المصطلحين أو الاسمين انطلاقا من البحث في مشروعية أحدهما للدلالة على الكلام الذي بهر العرب عندما سمعته فلم يملك بعض فصحائها نفسه أن قال فيه: "والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه معذق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته.."(7) ومن ثمة عدم مشروعية الآخر. وذلك من خلال استقصاء بعض النصوص القرآنية التي تصور أقوال الآخر في الموضوع وتشير إلى مقاصده من وراء اختياره.. ومن هذه الآيات الكريمات قوله تعالى: )بل قالوا أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر((الأنبياء 4) وقوله سبحانه وتعالى: )ويقولون شاعر نتربص به ريب المنون((الطور 27).. وقوله عز وجل:)ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون((الصافات 36).. وقوله سبحانه: )وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون((الحاقة:41).. ثم نأتي إلى بيت القصيد وهو قوله عز من قائل: )وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لتنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين((يس 67)..
إن الجامع بين هذه الآيات القرآنية، أو القاسم المشترك بينها هو حديثها عن كلمتين أو مصطلحين أو اسمين –كما يحلو لبعضهم- اثنين هما " الشعر" أو "القرآن" و"الشاعر" أو "الرسول" في إطار قضية مختلف فيها بين الخالق سبحانه وكفار قريش تقول حيثيات هذه القضية: " إن هناك كلاما/خطابا وإن هناك شخصا/إنسانا اختلف في تسميتهما، وتحديد مصطلح دال عليهما، موضح لهويتهما وطبيعتهما وماهيتهما ووظائفهما.. فقيل – والقيل هنا لرب العزة والجلال - إن هذا الخطاب قرآن وإن ذاك الإنسان رسول.. وقيل - والقول هنا لكبراء وكفار العرب - إن هذا الكلام شعر وإن هذا الشخص شاعر.. فجاءت الآيات الكريمة لتصف الرأي القائل بالشعرية والشاعرية وتبسط خلفياته لتدحضه مقترحة البديل الجديد الذي يعتبر ذاك الخطاب قرآنا وذاك الرجل رسولا.. بمعنى أوجز إن الله/المرسل اختار لكلامه/لخطابه/لرسالته اسما دالا هو القرآن.. في حين اختارت العرب/المتلقي المفترض اسما آخر تعنتا وحربا على هذا الذي سمعوه من محمد/المتلقي المختار، فقالوا هو الشعر، وأن محمدا شاعر.. والعرب تعلم علم اليقين أن هناك فوارق شاسعة بين الأمرين لأول مقارنة بين التسميتين وما يتفرع عنهما، إلا أنها تشبثت بقولها شعرا لحاجة في نفسها لم تقضها، سنحاول الوقوف عليها في الأسطر القادمة بعد إلقاء إطلالة سريعة على هذا الشكل الجامع لما سبق:

http://www.odabasham.net/images/feqhebda3050731.jpg

فالله سبحانه وتعالى يريد أن يسمي كلامه وما أوحاه – وهو أعلم بما يقول - قرآنا.. يريد أن يعطي لما أنزل - وهو صاحبه - على عبده ورسوله اسما لم تعهده العرب من قبل ولم تألفه، ذكر السيوطي في الإتقان أن الجاحظ أوضح أن الله اختار لوحيه أسماء جديدة مخالفة لما سمت العرب به كلامهم جملة وتفصيلا ... كما يريد سبحانه أن يسمي مبعوثه الذي اختاره ليبلغ عنه هذا الكلام/الخطاب إلى الناس رسولا.. في حين يريد الملأ من قريش ومن وراءهم أن يطلقوا على هذا الكلام/الخطاب اسم الشعر وليس القرآن، وعلى من أسمعهم إياه اسم الشاعر وليس الرسول..
إذن هناك اختلاف في تحديد الهوية واختيار التسمية الدالة على طبيعتها ومقوماتها ومكوناتها وخصائصها ومميزاتها والذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف في الرؤية الناتج عن اختلاف في الخلفية العقدية والبنية الدلالية والوظيفية.. فلا أحد ينكر أن الشعر شكل أدبي يختلف اختلافا بينا عن غيره من الأشكال الأخرى من حيث الطاقة والنشاط والحيوية، ومن حيث الأثر والتأثير والفاعلية، ومن حيث المكانة والأهمية التي اكتسبها في حياة الإنسانية منذ فجر تاريخ الشعر، فقد كان له أبعد الأثر في الحياة، وأخطر تأثير في الأحياء، وأرفع مكانة في المجتمعات(9) إلا أن العالم الحكيم أدرى بما شحن به هذا المصطلح من سلبيات تراكمت بفعل التاريخ والاستعمال، واكتسب ذلك على الخصوص في الحياة العربية قيل الإسلام.. لذا فهوية الشعر والشاعر شيء وهوية القرآن والرسول شيء آخر مباين:

الهوية


الشعر / الشاعر


القرآن / الرسول
الجنون والهذيان


التعقل والتفكر


الخلفية


أضغاث أحلام


الوعي واليقظة


العقدية


الافتراء والكذب


الصدق والحق


والبنية


الموت والانقطاع


الحياة والاستمرارية


الدلالية


غير كريم وليس ذكرا مبينا


كريم وذكر مبين


والوظيفية


إنشاد ومتعة


إنذار وقول الحق
الهيام في كل واد


الانضباط والاستقامة
هذا الجدول التوضيحي مستوحى من تلك الآيات القرآنية التي تقرن بين مجموعة من الأسماء والصفات والأفعال:" شاعر، وأضغاث أحلام، وافتراه، ومجنون، ونتربص به ريب المنون، وفي كل واد يهيمون، وما تنزلت به الشياطين ".. هذا الاقتران أوالجمع بين هذه المدلولات كلها إن دل على شيء فإنما يدل على انحطاط مفهوم الشعر ووظيفته والشاعر وقيمته في الفترة الأخيرة من الزمن الجاهلي وبداية تشكل الزمن الإسلامي.. لا أقول انحطاط الشعر أسلوبا للتعبير وطريقة للتصوير، فلقد كان للشعر مكانة راقية جدا في فترة طويلة من فترات تاريخ الجاهلية ثم أصيب بما تصاب به كل مكونات الحياة من اندحار وتقهقر بعد تبوء القمة على قاعدة " لكل شيء إذا ما تم نقصان"، وعلى قاعدة فهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقوله تعالى):اليوم أكملت لكم دينكم((المائدة:3).. حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال:لما نزلت:"اليوم أكملت لكم دينكم" وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر.. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت. (10) ومما يدعم قولنا هو ما يروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال:" كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم حتى خالطهم أهل الحضر فاكتسبوا بالشعر فنزلوا عن رتبتهم" (11) وبهذا يمكن القول إن هناك انحطاطا على مستوى الوظيفة النفسية والاجتماعية التي كان يتمتع بها الشعر في الحياة العربية، وهو انحطاط ناجم عن انحطاط الخلفية العقدية والسلوكية للإنسان الجاهلي، في مقابل وظيفة القرآن والرسول والخلفية العقدية الإسلامية ..
ونلحظ في إحدى الآيات ارتباطا وثيقا في ذهن العربي بين زمنين : زمن الشعر وزمن الموت.. والعلاقة التي بينهما هي علاقة احتقار واحتكار ونكران ونسيان وسطو.. والذي يمارس هذه العلاقة بكل عنف من موقع القوة هو زمن الموت، فبقدومه وحلوله ينتهي زمن الشعر حسب فكر العربي آنذاك.. أي بموت الشاعر يموت الشعر وإن بقي على الألسنة، أو تموت وظيفته وتأثيره وفاعليته ولا تبقى منه غير الذكرى والأثر والرواية.. وهذا ما كان يقصد، أو على الأقل ما كان مرجوا.. عندما قيل في حق محمد صلى الله عليه وسلم إنه شاعر نتربص به ريب المنون.. ولكن الله أثبت أن كلامه قرآن وليس شعرا، ومن ثمة فزمنه لا ينتهي بحلول زمن موت الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ما نلحظه من تأثير الإسلام في كل العصور والأجيال تأكيدا للوعد الذي أخذه الله على نفسه حين قال في محكم كتابه: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون((الحجر:9)..وهذا هو الفهم الذي ورد على لسان أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.. " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.."
فهم وتأويل:
ونعود إلى آيات سورة "يس" لأنها أثارت نقاشات منذ القديم وما زالت محط أنظار العديد من الذين يكتبون في موضوع " الإسلام والشعر " وإن كانوا لم يخرجوا عما قيل قديما.. وبقي الاختلاف والنقاش قائمين.. ولا نريد أن نقحم أنفسنا في هذا الباب لأننا نعتبره مبنيا على أسس غير واضحة ومنطلقات غير بينة.. ويظهر أن الأمر لو أوليناه هو الآخر بعضا من التحليل وأنعمنا فيه النظر وتبصرنا أكثر لوجدنا أنه لا يحتمل كل ذلك النقاش الذي أسفر في آخر المطاف عن سيطرة تامة لفهم خاص ومبتور لقوله تعالى:)وما علمناه الشعر وما ينبغي له(.. بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الشعر ولا يعرفه ولا يفهمه ولا تربطه به أي رابطة، ولا ينبغي له ذلك بأي حال من الأحوال.. فلما وقف أصحاب هذا الرأي على بعض الأحاديث التي جاء فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنشد أو استنشد أو نقد أو شرح أو صحح.. بعض الأشعار أخذوا ينفون بعضها بحجج مختلفة، ويلتمسون لبعضها الآخر التأويل، ويأخذون بما لا يتعارض مع فهمهم للنص القرآني، فمثلا نجد المناوي يفهم الآية فهما غريبا من خلال ما ورد عنه في هذا النص *"تمثل الرسول بشعر أمية بن الصلت وصار من جملة الأحاديث.. أورده السيوطي في جامعه الصغير ورواه عن الترمذي في تفسيره وعن الحاكم في الإيمان والتوبة عن ابن عباس رضي الله عنه.. قال المنّاوي في شرحه الكبير "يجوز إنشاد الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما المحرم إنشاؤه"*(12).. وكذلك فعل المؤولون بما حكي عنه صلى الله عليه وسلم من أنه كان "في بعض المشاهد وقد دميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميتِ * وفي سبيل الله ما لقيتِ (13)
ولكن إذا تركنا كل هذا جانبا وقرأنا بشكل مختلف قوله تعالى:)وما علمناه الشعر وما ينبغي له(بدءا من قوله تعالى:)إن هو إلا ذكر وقرآن مبين(. ثم نظرنا في:"إن هو إلا " التي تقابل دلاليا "وما علمناه" تقابلا ضديا، بمعنى أن "إن هو إلا" بمثابة نفي لمعنى ودلالة التركيب السابق: "وما علمناه"، ونفي النفي إثبات كما هو معلوم، أي "وعلمناه الذكر والقرآن المبين" وبمعنى آخر إن فعل " التعليم " الظاهر حينا والخفي حينا آخر يوجد بين نفي وإثبات، وميله إلى إحداهما له دلالة خاصة ومفهوم مخالف للآخر.. فكأني بالآية تقول: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له، وإنما علمناه الذكر والقرآن المبين"..

http://www.odabasham.net/images/feqhebda3050732.jpg

نعيد القول مرة أخرى لما نود توضيحه بهذا الشكل المتشعب، وهو أن الله سبحانه علّم عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأوحى إليه كلاما وخطابا أسماه " القرآن " وأسماه " الذكر" كما هو واضح في هذه الآيات.. والعلاقة التي بين محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن المبين والذكر هي علاقة النبي بالنبوة والرسول بالرسالة.. وليست علاقة الشاعر بالشعر والأديب بالأدب.. لأن الكلام الموحى به إليه صلى الله عليه وسلم لا يسمى شعرا كما أراد الملأ من قريش أن يفهموا الناس المدعوين والمتلقين..
لكن لماذا القرآن وليس الشعر ؟ ولماذا الرسول وليس الشاعر ؟
هذا ما سوف نجيب عنه في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى..
http://www.odabasham.net/images/adab18.gifhttp://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif

هوامش ومراجع الجزء الثالث:
1- انظر الأخبار الواردة في تفسير سورة "المسد" في كتاب "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" للإمام الطبري..
2- مجلة "الأقلام العراقية العدد الأول من السنة:12/1986من مقال الدكتور عبد الحميد إبراهيم "قضية المصطلح الأدبي" الصفحة 131.
3- مجلة " فصول " المصرية العدد:3 من المجلد: 4/1984.. من مقال محمد فتوح أحمد " الحداثة من منظور اصطفائي" الصفحة:78..
4- وانظر كتاب الدكتور محسن عبد الحميد "المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري" من سلسلة "كتاب الأمة" الصادر عن مجلة الأمة القطرية.. الكتاب السادس الطبعة الأولى جمادى الآخرة 1404ه.. .. وانظر مقالة "نحو مصطلح نقدي للأدب الإسلامي" الصفحة:229 من كتاب "جمالية الأدب الإسلامي" محمد إقبال عروي الطبعة الأولى المكتبة السلفية/الدار البيضاء
5- جاء في كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة" عز الدين بن الأثير تحقيق الشيخ علي محمد معوض والشيخ أحمد عبد الموجود.. دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان الطبعة الأولى 1994م الجزء السادس(الكنى) الصفحة:97 ما يلي:"لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر..."
6- قصة الوليد بن المغيرة جاءت في كتب السيرة كسيرة ابن هشام .. وجاء في كتاب "الإتقان في علوم القرآن" للإمام جلال الدين السيوطي ما ذكره عن الحاكم عن ابن عباس من قول الوليد بن المغيرة حين قال لأبي جهل: "فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئا من هذا.." ج:2 ص:117 طبعة المكتبة التجارية الكبرى توزيع دار الفكر لبنان ..
7- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي م.ن.
8- نقلا عن كتاب "مباحث في علوم القرآن" الدكتور صبحي الصالح دار العلم للملايين بيروت/لبنان الطبعة 13/1981 الصفحة17
9- وإن كان بعضهم يقرأ نظرة أفلاطون للشعر خطأ بأنه يقصي الشعراء ويبعدهم عن المدينة الفاضلة .. في حين هو يرى أن الشعر ينبغي أن يحث الإنسان على فعل الخير، أي أنه يطلب غايات اجتماعية للفن.. انظر كتاب: "فلسفة الإلتزام في النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق" الدكتور رجاء عيد .. الناشر منشأة المعارف الاسكندرية 1988م .. الصفحة: 14.. الفصل الأول..
10-كتاب "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" للإمام الطبري مرجع سابق، ويقول محققه الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى على هامش الحديث: " إنما عنى بنقصان الدين أهل الدين، فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد، قست قلوبهم، وقل تمسك بعضهم بما أمر به، ومعاذ الله أن يعني عمر، نقصان الدين نفسه، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطوبى للغرباء".
11-"الزينة في الكلمات الإسلامية العربية" لأبي حاتم الرازي تحقيق حسين بن فيض الله الهاني طبعة القاهرة/مصر 1957 الجزء:1 الصفحة:95
12-"خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" عبدالقادر البغدادي تحقيق عبدالسلام هارون القاهرة/مصر الطبعة 2/1972 ج:2 ص:295–296.. حياكم الله
http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
د. أبو شامة المغربي
http://aklaam.net/aqlam/images/e_mail.gif
kalimates@maktoob.com

أبو شامة المغربي
18/06/2007, 07:45 AM
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
فقه الإبداع الأدبي في الإسلام
http://www.odabasham.net/images/abdulrazaqmasawi0507.jpg
الأستاذ
عبد الرزاق المساوي
الجزء الرابع
نعيد القول مرة أخرى لما نود توضيحه بهذا الشكل المتشعب، وهو أن الله سبحانه علّم عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأوحى إليه كلاما وخطابا أسماه " القرآن " وأسماه " الذكر" كما هو واضح في هذه الآيات.. والعلاقة التي بين محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن المبين والذكر هي علاقة النبي بالنبوة والرسول بالرسالة.. وليست علاقة الشاعر بالشعر والأديب بالأدب.. لأن الكلام الموحى به إليه صلى الله عليه وسلم لا يسمى شعرا كما أراد الملأ من قريش أن يفهموا الناس المدعووين والمتلقين.. لكن لماذا القرآن وليس الشعر ؟ ولماذا الرسول وليس الشاعر؟
لأن مصطلح الشعر له خلفياته ودلالاته ومفاهيمه وله خصائصه ومكوناته وطبيعته التي تبلورت في ذهنية العربي منذ زمن بعيد، بله وموغل في القدم، مما أكسبه هالة مهلهلة وكبيرة من جهة، وقداسة مزورة وظرفية من جهة ثانية، إلا أنه بدأ يفقد بعض مكتسباته ومواقعه مع تداول الأيام – كما سبقت الإشارة إلى ذلك -.. إن وراء مصطلح الشعر بكل وضوح عقيدة (وإيديولوجيا) تحول بينه وبين أن يطلق على كلام الله سبحانه.. فالعربي قديما كان يعتقد أن للشعر مصدرا معينا يعتبر بالنسبة له نوعا من الوحي أو الإلهام أو التلقي وقد ورد ذلك في أشعار كثيرة..
وفي هذا الباب أخبار كثيرة ورد ذكرها في مصادر الأدب والتاريخ، لن نطيل بجردها، فقد عقد – على سبيل المثال –أبو زيد القرشي في كتابه المشهور: " جمهرة أشعار العرب " فصلا أسماه: "في قول الجن الشعر على ألسنة العرب"(1) وقد أشارت سورة "الشعراء" نفسها إلى هذه القضية ابتداء من قوله تعالى)وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون( إلى قوله سبحانه: )هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون(.. والمهم عندنا هنا هو أن مصدر الشعر في الذهنية العربية – ككثير من الشعوب والأمم التي ترجع مصدر الشعر إلى خارج الذات المبدعة – آنذاك مخالف لمصدر القرآن.. فالأول مصدره الجن/الشياطين، أو الإنس/الشعراء.. أما الثاني – القرآن – فإن مصدره هو الحق سبحانه وتعالى الذي أوحى به إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم..وفي تحديد المصدر بطبيعة الحال تحديد لما يصدر عنه بطريقة أو بأخرى..













الــشـــعــر















الـــقــــــرآن









الـــشـــيــطــان







الـــلــــــه








هــوى الإنــســان







الــــوحـــي








الـمـــدنـــس







الـــمــقــدس








الــــعــــادي







الــمــعــجــز














ومحمد صلى الله عليه وسلم لم ينسب ما كان يتلوه على العرب حينها لنفسه، ولم ينسبه إلى الجن كما كان يتباهى بذلك الشعراء من قبل وحتى من بعد، وإنما أرجع أمره إلى الله عز وجل.. وهكذا فباختلاف المصدر تختلف المفاهيم والمعاني والدلالات وما يترتب عن ذلك، ومن ثمة يختلف المصطلح وتختلف التسمية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن واقع الشعر العربي قبل الإسلام يتنافى مع الواقع الذي ينشده القرآن للإنسان.. فهناك إذن اختلاف بين الشعر والقرآن في المصدر والرؤية، وفي المنبع والمصب وفي الواقع والآفاق.. فلكل واحد في وقته ذاك خصائصه ومميزاته ومقوماته وحياته المستقلة التي ينشدها، وكذا مقاصده وأهدافه التي يصبو إلى تحقيقها..وحتى لايحصل أي نوع من التماهي بين هذه الخصائص والمميزات وجب نفي اسم " الشعر " وإبعاده، لأنه يحمل مفاهيم محددة ورائجة ومتفق عليها بين الناس.. ويجب في المقابل إقرار وإثبات وترسيخ اسم " القرآن " الاسم الجديد لأنه يريد أن يؤسس لعصر جديد وأن يكوّن دلالة جديدة خاصة به تعبر عن رؤيته وأبعاده ومقاصده وأهدافه.. ولو اعترف الوحي أو أقر بأن الكلام الذي يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم يسمى شعرا لأثبت من خلال إقراره مجموعة من الأفكار والمعتقدات والسلوكيات المعترف بها والمتعارف عليها من طرف المجتمع الجاهلي، وبذلك يبطل كل ما سيبشر به الرسول الجديد في بنائه لعالم جديد وذلك منذ بداية دعوته.. ولكان الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا في ذهن العرب آنذاك جنيا ليس إلا، ومن ثمة لتعددت الآلهة.. لأن العرب كانت تعبد الجن من ضمن ما كانت تعبد قبل نزول الوحي الذي جاء لتحرير الإنسان من المعتقدات الشركية ومن تلك التعددية، وما يترتب عنها من نظرات للإنسان والوجود والكون والطبيعة والحياة والعلاقات بين المخلوقات جميعها بشكل عام.. يقول الله سبحانه عز من قائل عن العرب:) بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون((سبأ:41) ويقول سبحانه: ) وجعلوا لله شركاء الجن وخرقوا له بنين وبنات بغير علم((الأنعام 100 ) ويقول أيضا:) وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ((الجن:6)..
كما أن هذا الاعتراف سيؤدي إلى قضية خطيرة على الدعوة التي بعث بها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي اعتباره من الشعراء، وليس من الرسل، ومن ثمة فهو كباقي الشعراء له ما لهم وعليه ما عليهم، فقد يذكر وقد ينكر، وقد يفكر فيه وقد ينسى وقد يناقش فيما يقول وينقد، وقد يعارض فيما يقوم به، وقد يغدو جزءا من منظومة الشعراء الآخرين لا يفرقه عنهم إلا ما أتى به من جديد في إبداعاته الشعرية/الأدبية.. وبهذا يحصل التعدد ويتوزع الناس بين مجموعة من الشعراء الذين سيفتحون باب ادعاء النبوة كما وقع لبعضهم، وهكذا يهدم الركن الأساس في العقيدة الإ سلامية الذي عليه بني الإسلام كله وهو "لاإله إلا الله محمد رسول الله".. ومن المعروف وقتها أن من العرب من كره أن تكون النبوة في محمد صلى الله عليه وسلم حسدا من عند أنفسهم ومنهم الشاعر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من إنشاد شعره، وهو أمية بن أبي الصلت (2)..
كما أن هذا الإقرار لو تم لكان سيولج الكتاب الموحى به معركة صعبة وهي معركة الإنشاد التي كانت تقام بين الشعراء في الأسواق العربية المشهورة لأن الإقرار يقول بأنه "شعر" وليس "قرآنا".. وهكذا ستنتفي عنه دلالة التقديس وعلامات الإعجاز في ذهنية المتلقي، وقد يصبح عرضة للاستهزاء والتمثل والانتقاد في الأسواق والمنتديات.. والله سبحانه وتعالى يقول: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(( الإسراء 87 ))وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله. وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين(( البقرة 22 ).. فلا وجوب لذكر هذا التعجيز وهذا التحدي إذا ما أقر هو بنفسه أنه " شعر" بالمفهوم السائد حينئذ.. إذن فالقضية على ما يبدو واضحا ليست قضية الإسلام والشعر أو الإسلام والإبداع، وإنما هي قضية اسم ومصطلح وهوية ووظيفة..إلخ.. فهذا الكلام وهذا الإنسان إما شعر وشاعر، وإما قرآن ورسول، ولكل منهما مقوماته وخصائصه ومميزاته ومضامينه وتجلياته.. وهذا جدول يوضح الفروق بين الهويتين والماهيتين: هوية وماهية الشعر، وهوية وماهية القرآن..










الـهـويـة









الـشـعـر







الــقــرآن








الـمـصـدر







الشيطان / الشاعر







الله عز وجل








الـقـائـم







الــشـاعـر







الــرسـول








الـنـوعـيـة







كـلام الـمخلـوق







كـلام الـخـالـق








الـرؤيــة







عـادي / بـشـري







ربـانـي / مـعـجـز








الـحـالـة







مــدنــس







مــقــدس








الآفـــاق







مــاضــوي







مـسـتـقـبـلـي








الـمتـلـقي







الـغـاوون







الـمـلـتـزمـون









خلاصة القول إن الله عز وجل علم رسوله صلى الله عليه وسلم كلاما أطلق عليه اسم "القرآن" دليلا عليه وعلى مكوناته، ولم يطلق عليه اسم "الشعر" لأن هذا المصطلح القديم له دلالة ومصدر ومفهوم ورؤية ووظيفة وحالة وآفاق ونوعية إلخ.. جاء الإسلام لتغييرها كلها والثورة عليها والوقوف في وجه المتعاملين من خلالها، والحؤولة دون استمرارها في الزمان والمكان والإنسان.. فكان لابد من الوجهة الثقافية العامة ومن المنطق أن يحدد المنطلقات والمرتكزات والخصائص والمقومات منذ الوهلة الأولى ليؤسس عليها بناءه الديني والدنيوي –ولا تفرقة بينهما- والذي من خلاله يطرح مفاهيم جديدة يسعى إلى ترسيخها وتوطيدها وتعميقها على تلك الأسس المتينة، فبدأ بوضع مصطلح جديد لتسمية كلامه أو خطابه هو "القرآن" لتمييزه عن الخطابات الأخرى المختلفة والمتنوعة وعلى رأسها "الشعر" ذلك الكائن الذي سيطر على لب الناس وأخذ عقولهم وملك عليهم وجدانهم..
من هنا نخلص إلى القول بأن الخطاب الموحى به إلى محمد الرسول صلى الله عليه وسلم لا علاقة له البتة بالشعر لا من قريب ولا من بعيد، وإن حاول بعضهم تلمس المرتكز الموسيقي والإيقاعي للشعر في بعض الآيات القرآنية.. وبأن محمدا صلى الله عليه وسلم الإنسان قد تكون له علاقة من نوع ما ومن جهة أخرى بالشعر ولكن على أساس أنه قول آخر لم يوح إليه به من ربه عز وجل وإنما صدر عنه بما أنه هو أولا إنسان ومن البشر كما أقر القرآن الكريم ووصفه بما يجري على بني جنسه.. وأنه ثانيا ترعرع في بيئة كان الشعر فيها كما قال ابن عباس رضي الله عنه ديوان العرب.. وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه..(3) والإنسان ابن بيئته، فلا يعقل أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم بعيدا كل البعد عن بيئته أو عما يصدر عن غيره من الناس إنشادا واستنشادا أو عن الشعراء أنفسهم إبداعا وتكوينا.. وهذه العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان والشعر أو الإبداع الأدبي تضبطها ضوابط الرسالة من القرآن والوحي، ويتضح ذلك من خلال إنشاده صلى الله عليه وسلم أو استنشاده، ولولا علمه صلى الله عليه وسلم بالشعر ما استنشده بعض أصحابه ولا أصدر في حقه وحق من سبقه أو عاشره من الشعراء تلك الأقوال والمواقف المشهورة عنه صلى الله عليه وسلم.. فمواقفه وأحكامه وموازناته وتصويباته وآراؤه وحتى صمته وابتسامته وإقراراته بشكل عام – ونحن هنا ننطلق مما اتفق الجميع على صحته من الأحاديث والمرويات أو المأثورات – تنم عن معرفة تامة وإدراك كامل ووعي واضح وناضج وفهم متماسك وعلم متين بهذا النوع من القيل المختلف عن النوع الآخر الموحى إليه به والمسمى "القرآن ".. وإلا فإن الجهل به (بالشعر) لا يمكن أن يترك كل تلك الثروة من الأحاديث الحاثة والمشجعة والمصوبة والناقدة والمواقف الرائدة في تشجيع الشعراء وتقويمهم وتقييم إبداعهم والتفاعل معهم والانفعال بإنتاجاتهم.. والتي تتمثل في مثل قوله صلى الله عليه وسلم]إن من الشعر لحكمة[(4) و]أمن شعره وكفر قلبه[(5) و]إن أخا لكم لا يقول الرفث – يعني عبدالله بن رواحة –[ (6) و]إن من البيان لسحرا[ (7) و]أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد[ و]فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل[(9) و]أجدت لا يفضض الله فاك[(10).. وأحاديث كثيرة موزعة في بطون المصادر المعتمدة في التفسير والحديث والأدب واللغة والتاريخ، وهي نصوص لها أسباب وحكايات توضح كيف صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إذن فإن معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم –في اعتقادنا- وعلمه بالشعر نابعان من طبيعته الإنسانية وطينته البشرية التي لم يحرمه الله تعالى منها كما ورد في القرآن والحديث، ومن معرفته وعلمه بواقعه المعيش الذي ترعرع فيه بحكم تواجده في مجتمع ينضح شعرا وأدبا، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان موجها أو أن سلوكه كان مضبوطا بالوحي الإلهي غير المباشر قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، ثم بالقرآن والوحي المباشر بعد البعثة المباركة كما جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن خلقه(عن سلوكه) صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن"(11)]وإنك لعلى خلق عظيم[(ن:4) ]وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [(النجم:4).. هذا وليس العكس هو الذي كان كما ود بعضهم قوله لتضليل الناس وتوهيمهم بأن معرفته وعلمه صلى الله عليه وسلم بالقرآن نابعان من معرفته وعلمه بالشعر: )قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين أمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين((النحل:103)..
وفي كلمة الختام لهذه القضية في القرآن الكريم نقول إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو البشر الذي يعلم الشعر بحكم الطبيعة الإنسانية والسليقة البشرية وبحكم البيئة الجغرافية والمحيط العربي والواقع المعيش.. وهو الرسول المختار الذي يعلم القرآن بحكم الوحي والنبوة والرسالة والمهمة التي أنيطت به صلى الله عليه وسلم من قبل المولى جل وعلا.. يقول الله عز وجل:)قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلاهكم إله واحد((الكهف110). ولنتأمل مليا في الربط بين بشريته صلى الله عليه وسلم ورساليته من خلال هذه الترسيمة:



http://www.odabasham.net/images/fqhebda3406071.jpg


إذن يمكن القول إن الإسلام اعتمد فيما جاء من آيات "الشعراء" و"يس" مبدأ التمييز أداةً لتمرير الخطاب/الرسالة ولإقناع المتلقي المفترض، ففي الشعراء ميز بين أنموذجين:
من المرسلين/الباثين..و أنموذجين من الرسائل/الخطابات..وأنموذجين من المرسل إليهم/ المتلقين..
http://www.odabasham.net/images/fqhebda3406072.jpg
أما في سورة "يس" فقد تم التمييز بين مفهومين أو مدلولين أو اسمين أو علمين أو مصطلحين –متجاوزين الفوارق بين هذه الألفاظ- الأول هو القرآن والرسول، والثاني هو الشعر والشاعر، واعتبر الإسلام المفهوم الأول هو الأصوب والأجود للدلالة على الوحي كي يخرج بذلك عن مجالات الالتقاء أو الاشتراك الكلي أو الجزئي مع المفهوم الثاني الذي يعتبر هو الآخر نوعا من الخطاب/الوحي لكن مع الاختلاف الجذري في المصدر: فالأول مصدره الله عز وجل والثاني مصدره الجن أو الإنس، والفرق بين الخطابين أو الوحيين أو المفهومين كالفرق بين المصدرين..
وفي جملة موجزة إن القضية في آيات سورة "يس" ليس فيها حكم شرعي يدخلها في مجال قضية موقف الإسلام من الشعر كما في آيات سورة "الشعراء".. وإنما هي مجرد توضيح لشأن "القرآن الرسالة الموحى بها" و"محمد الرسول المتلقي لتبليغها" لمخالفتهما معا للشعر الإبداع الأدبي والشعراء المبدعين الأدباء اختلافا واضحا في ماهيتهما وطبيعتهما ومكوناتهما ومقوماتهما وخصائصهما ووظائفهما.. وهي أيضا رد مفحم على أولئك الذين يريدون أن يدخلوا كلام الله جل قوله دائرة التهوين من شأنه كمعجزة متكاملة من العقيدة إلى الأدب مرورا بالتشريع واللغة والفكر والسياسة والاقتصاد والعلوم وكل مقومات الحياة الإنسانية..



http://www.odabasham.net/images/adab18.gifhttp://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif


هوامش ومراجع:
1- "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" إعدادا محمد فؤاد عبدالباقي دار الباز/مكة المكرمة الجزء 2 الصفحة 22.
2- الصفحة 47 .. تحقيق علي محمد البجاوي دار النهضة / مصر..
3- هو أمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة بن عبد عوف من ثقيف كان يقرأ الكتب المتقدمة من الله عز وجل ورغب عن عبادة الأوثان وكان يخبر بأن نبياً يبعث قد أظل زمانه ويُؤمل أن يكون ذلك النبي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمن به حسداً له .ولما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره قال (( آمن لسانه وكفر قلبه )) وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب يأتي بها من الكتب المتقدمة..
4- نذكر بما سبق قال عمر: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" طبقات فحول الشعراء ج:1 ص:24.. ولابن عباس قوله المشهور: " الشعر ديوان العرب " العمدة 1/30 ولابن سلام في طبقاته: " كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون "1/24.. وانظر ما قاله ابن قتيبة في كتابه"تأويل مشكل القرآن" تحقيق سيد صقر القاهرة/مصر الصفحة:14..
5- البخاري 4/73.. تحفة الأحوذي نفسه 8/135..
6- الأغاني 4/130.. مسلم 7/49.. وفيه " كاد يسلم في شعره "..
7- البخاري 1/201..
8- البخاري 3/251.. و4/21..مسلم 3/12.. تحفة الأحوذي نفسه 6/175..
9- مسلم 7/49.. تحفة الأحوذي نفسه 8/141..
10- الأغاني 4/143.. النسائي 5/202و212..
11- أخرجه أبو نعيم في الدلائل 164 والبيهقي في الدلائل 6/232 انظر كتاب "أسد الغابة" الجزء الخامس الصفحة:277 ترجمة النابغة الجعدي وانظر الأغاني م.ن. 5/8..وقارن "الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء" لابن قتيبة الدينوري تحقيق الدكتور مفيد قميحه دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى-1981م الصفحة: 130.. ترجمة النابغة الجعدي..

http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
د. أبو شامة المغربي
http://aklaam.net/aqlam/images/e_mail.gif
kalimates@maktoob.com

المساوي
07/08/2007, 09:48 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكركم أخي الكريم على اختياركم وأتمنى لكل المهتمين بهذا المنتدى المبارك التوفيق والسداد..

أخي الفاضل "أبو شامة المغربي" سرني ما قمتم به واعتبرته تكرما من جنابكم المحترم.. وكنت أنتظر منكم تعميما للفائدة مع عدم بتر الموضوع أن تتفضلوا بنقل الأجزاء المتبقية..
ولم أرد أن أتطفل على اختياركم سيدي الفاضل فأضيف الحلقات الأخريات ليصبح الموضوع متكاملا فأرجو أن تصل إليكم رسالتي هذه وأنتم على أحسن وأتم ما ترجونه..
ولكم مني أفضل الشكر وأحسن المتمنيات
وجزاكم الله كل خير
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته