بنور عائشة
05/05/2007, 07:06 PM
** الغربـــاء **
بيـــن
سلطة النص و نص السلطـة
ـ روايـة ـ
للروائي* رابح خدوسي *
بقلم / عائشة بنور
روايـة الغرباء للروائي " رابح خدوسي " الصادرة عن دار الحضارة ، و الفائزة بالجائزة الأولى في المسابقة الوطنية " إقبال " إذ يعتبر محمد إقبال أشهر شعراء الفلاسفة و المفكرين المسلمـين و هو القائـل (( معذرة يا عظماء العرب لقد أراد هذا الهندي أن يقول لكـم كلمة صريحة ، فلا تقولوا أيهـا الكرام : هنــدي و نصيحة للعرب ؟ إنكم كنتم أيها السادة أسبق الأمم إلى معرفة حقيقة الدين … )) .
من هـذا المنطلق تبدأ رحلتنا مع رواية " الغرباء " و " سكينة " و حوارها مع ا لذّات المحطمـة … انهيـار نفسـي رهيــب و هـي تودع قريتها الصغيرة تاركـة وراءها أمـاً و أخاً و أبـاً ميتـاً … رحلت تجر معطف الرذيلة بنفس منكسرة تتجــرع مرارة الألم الذي افقدها عذريتهـا إثر شربها مادة أفيونية ممـزوجة بشراب " الفانتـا " في رحلة على الشاطـئ مع جارتها " نجمة " و صديقهما " هفمـان " .
"هفمان و نجمة "وجهان لعملة واحدة يفكران و يخططان و ينفـذان ، و في ذاتيتها ألقت اللوم و العتاب و ما جنتـه نفسها هو تركها الصلاة و انحرافها السلوكي الذي أفقدها التـــوازن النفسي والاجتماعي، متطلعـة إلى اللهــو و البحر و أفكار " نجمة " الجنسيـة المسمومـة التي تغرسها في ذهنها .
ثمـاني سنوات عن غياب " سكينة " و أخوها " كمــال " تعصـره الحقيقة الساكنة بمخيلتـه ( الاغتصاب )... جمدتـه … تركته مكبل اليدين و التفكير ، حلقات العتاب متواصلـة تستفهـم ذاته و تمزقه بواقع يعيشه ، و صـراع أزلي يخشى من عـدم مقاومتــه... احتـار وأختـار لحياتـه نهايـــة الهروب فامتـد إلى حبل يلفه حول عنقه ويختزل الحقيقة و حياتـــه في موت أبدي ليرتاح …
يواصل الكاتب تصوير الحدث المروع الذي عاشتـه " أم كمال" من هستيريا أفقدتها التوازن العقلي و النفسـي إثر الصدمـة الفجائية التي تلقتها من فلـذة كبدهـا " كمال"وبعبارات مثيرة و لغة قويـة متجددة استطاع الكاتب أن يشرح الحالة النفسية التي يمر بها أشخاص الرواية من جراح " سكينة " إلى كمال و إلى الأم هـذه الأم الحنون التي جُـنَّت من وقع الفاجعة ، فانهارت عندها موازين القوى وشلــت حركة تفكيرها إلى إحباط قاتل مدمر (( أم غربها الأطلسـي، و شرقها الهادي ، قلبها القدس و عقلها كمال و شرفها سكينـة…)) و أعـادت شريط الحوار الذي دار بينها و بين " كمال " معاتبة .. سائلة .. شاكية .. نائحة .. واقفـــة على مأساة الإنسانية في هيروشيما .
"قد أجدك مثل المرأة اليابانية في كوخ من النـــار ، أو كسناء الثائرة و هي تنتحر من أجل الشهادة و الوطـن ".
"و أنت يا " كمال " ماذا قدمت لأمـك ؟! سكينة شرفي و كمال ضمـيري ، فكيـــف يستطيع المرء العيش بلا شرف و لا ضمير، هي قدسي و هو عروبتي … "
و مع الأحداث المتتالية نقف مع ذاكرة " سكينة "و التي وصلت بها إلى لاجئة في العيد والشاعرة فدوى طوقان و حلم الصبــا و المدرســة في حوار لها مع الصحفي " عمر " يستفز عقلها و يدغدغ شعورها بذكاء رجل المخابرات له حياكـة الأساليب و المراوغة الكلامية و نستشف ذلك من خلال هذه المقاطــع الحوارية لما لها من دلالات معنوية ومادية تمتد إلى متعـة العقل بين الأصالـة و المعاصــرة و متعة العين الجمالية من خلال المناظر الطبيعية المرسومة بشاعرية الأمكنة .
(( دور الصحافة التنقيب عن الحقيقة مهما كان الثمن .))
((مهنة الصحافة علمتني البحث عن كل شئ …))
(( الصحافة أبواق تعز من تشاء و تذل من تشاء …
الصحراء و الشعر عالم واحد بلا حدود تسبح فيهما النفس البشرية دون عناء ..))
بعد زواج " سكينة " من " عمران " خال صديقتها أنجبت ابنا عمره ســـت سنوات ( صلاح ) و بذكاء الأطفال الفضوليين ذوي الرغبة في معرفة كل ما يدور حولهم من عالم متغيراتـه لا تخضع لمقياس تجربة المنطق و اللامنطق في غالب الأحيان ...
كان يدرك أن الرجل الذي يتحدث مع أمه ليس رجلا عاديا إذ يقول في تحديد الفرق بين المعلم و الصحفي: انه يسأل الجميع و لا يجيبهم ، ذاك هو الفـرق بين المعلـم و الصحفي،الأول يسأل و يجيب والثاني يسأل ولا يجيب ؟!
تواصل " سكينة "ذكرياتها مع الصحفي " عمر " مصورة حكم التقاليد على الفتــاة كيف يكـون شكلها و مرارة التناقض في المجتمع و كما تقول : أنها مطالبة بأشياء كثيرة ((مدرس التربية يحثنا على الحجاب بينما مدرس الرياضة يعارض ذلك … أبي يشجعني على المزيد من قدر التعلم و أمي تخالف رأيه … ))
يستمر البحث مع الصحفي " عمر " و هو محافظ الشرطة في حقيقة الأمر حول قضية " سكينة " و خصوصاً " نجمة و هفمان " يصنفه الروائـي في عنـوان آخـر ** اعترافــات جاسوسة ** هذا المغناطيس الجديد للحرب البـاردة يغــرس في قلب الأمة العربية للظفر بها كأخطبوط يلف بحباله عقول هذه الأمة بكل ميولها واتجاهها و وجـود نجمة اليهوديـة و هو رمز لعلم الكيان الصهيوني واستنطاقها في الرواية، أن كـل ما كانت تفعله نجمة هو دراسة الأمـة العربية … دراسة المجتمع دراسة سيكولوجيـة و انتروبولوجيـة و بذلك تصل إلى موَاطن الاختـلال و الصراع فيما بينهم ،و كذا قـراءة عقول الشباب وأفكارهم و تطلعاتـهم و قدرتـهم على تحمل الشدائـد ونفوسـهم المضطربة كشخصية "كمال " التي وظفها الروائي هـروباً من المواجهة .
سلب عذرية " سكينة" و كسبهـا ( نجمة ) أموالاً كثيرة دون حساب من " هفمان " و المتاجرة بالمخـدرات لتنويم عقول الشباب في سبيل تخدير مستقبل الأمة و انغماسها في اللهـو، ذلك ما يؤكده الدكتـور أحمـد بن نعمـان في قولـه :
** الحضارة البالية تمنـــح الصكوك على بياض لمن يدجن الفحول من الرجال و يتجسس علـى أفكار العلماء و يتخمن نوايا المفكرين ويوجِـد الحجج لمحاكمتهـم على ما كانـوا ينوون أن يقولـــوه أو يفعلوه أو يفكروا فيه … **1
**والحضارة البالية قد ترهن كل المستقبل من أجل بعض الحاضر …؟! **
في حوار مر تستأنف المحاكمة مداولتها ليواصل قاضي التحقيق الحوار مع نجمـة اليهوديـة و سؤاله حول الخريطة التي كانت بحوزتها ، و بصراحة مباغتة قالت :
(( إنها دولتنا بحدودها التوراتية والبقية الباقية من اليابسة للدولة القرآنية و الجـوار لا يكـون لغيـر الصليبية أولاً و الشيوعية أخيراً .))
و عن تحريفهــا لكتـاب الله ( القرآن الكريم ) تقـول :" أنها كانت تحاول أن تحدث تزاوجًا بين القرآن و التــوراة ؟! و ما قامـت به مـن تحريـف بالقلـم على كتــاب الله هــو من أجل التوراة والوطن فعلت مـا فعلـت ؟! "
* ينعقـد المؤتمر الدولي للسلام ،في قاعة المؤتمرات كان كرسي النظام مرسوم عليه شكل نجمة .
* اسم هفمان مطرز على مكان الحلفاء ، بينما اسم عدنان النفطاوي مسجلاً على كراسي حكام ( بني أميـة ) .
ستظل أم سكينة واقفة طيلة المؤتمر لخلو هذه القاعة من كرسي مخصص للأمة الإسلامية …!!
* يحضـــر " سام هنري " ما اضخم محفظته كأنها تحمل في رحمها جنينــًا اسمه ( الفيتـــو ) …!!
الضمير العربـــي ينتحر على طريقة " كمال " .
صـلاح و إخوانه يرفعون راية الجهاد بالدم و الحجارة .
و تستأنف المحاكمة مداولتها تاركة ذلـك للتاريــخ ؟
و القـــارئ لاعترافات جاسوسة و حوار مر كما هو مصنـف في الرواية، يشعر و كأنه يقرأ رواية أخرى رغم الترابط المحكـم ، أو بالأحرى وحدهما رواية أخرى لولا تعاقب الأحداث و الأشخاص واختزال كل مراحل الأمة الإسلامية في* اعترافـات جاسوســـة وحـوار مـر* الذي كشف عن كل الأقنعة التي تعيشهـا القضية الفلسطينيـة حاليــاً من المساومات ؟
و بعـد هذا العرض الوجيز تجرنا رواية الغربـــاء للروائي " رابح خدوسي " لطرح أسئلـة محورية في مضمونها .
ـ هل تمكنت الرواية أن تؤرخ واقع الأمة العربية و الإسلامية بعيدا عن تصنيفـات الأدب ، و أن كل ما يكتـب حول الإسلام يصنف في خانة إسلامي أو أدب إسلامي ؟؟
ما الذي جعل الروائي يختـار هذا النوع من الكتابة !؟ أهـو تشكيـل للتعبير عـن ذاته و همومه أم هو تحـــديد لعوامل مؤثـرة حوّلتـه من كتابة رواية الضحية الاجتماعيـة و التي تعكـس واقع المجتمع الجزائري بعد الاستقلال ، إلى رواية صنفت من قبل من قرأها برواية إسلاميـة .
ـ أي طابـع اتخذتـه الرواية حتى حددت في هذا القالب ؟
أهو اتـجاه الروائي و شتان بين رواية الضحية و الغرباء ، أم هو أمـر طبيعي لمخيلة الأديـب في أن ينحى هـــذا المنحـى و يثور على الأنظمة التقليدية في الكتابة و قد نقـرأ لـه رواية أخرى في ظل التحولات الجديدة ؟
و أن تكـون مدرسته التعبيرية مليئة بالمتغيرات الفلسفيـة و الفكريـة التي يعيشها ، و التي تميز رواية الغرباء في المحور و المحاور … أم أن عقله اللاشعوري صرخ و أعـاد صياغة حياته و أحلامه و أدرك حياة الشعوب النفسيــة و حكمت بالضرورة على إبداعه و توجهه الإيديولوجـي .
و قد تكون حالة فكرية تطورية في أمة أراد أن يستباح فيهـا كل شئ من الداخل و الخارج ، و انطلق من نزعته و من الراهن الفكري العربي سياسياً و اجتماعياً و ثقافياً لتكمن هنا إشكالية سلطة النص التي تفرض فتح الملف الديني أو الصراع الديني بمنهجية التشريـح لتراثنا و مـا نعتقـده وما نحـاول تأويلـه ، و هل بالإمكـان ذلـك من لغـة وتــاريخ و كذا رموز انتهت إلى جـدال عقيم من نظريات لم تخضع إلى دلالة العقل؟! و أصبحت جدلية النصوص تؤدي إلى المواجهة مع العقل الآخر ، و كذلك رهينة نزعـــة عقليـة فكرية تحررية تسمو إلى تفكيك آليات النصوص التي أصبحت ملكاً لا يمكن تخطيها، و من ثمة أصبحت سلطة النص أو النص له سلطته القوية على العقــول و على الحياة بصفة مطلقة لا يمكن الكشف عن أبعاده أو تشريح لمــــدلول هذه النصوص و مكاشفة وظيفتها أو توظيفها في كيفية التعامـل معها .
هذا التوظيف الإبداعي التاريخي الذي نستشفه من خـلال الرواية أعطى للنص سلطته الوظيفيـــة الإبداعية بعيدا عن ما هو مقـرر في الإطار العام مفتوحة على إعادة قراءة الراهن ، و أنه يرى كما يرى علماء الاجتماع مثل (فوكن ) و ( زالا ما نسكـي ) (( أنه من الممكن استخدام النصوص الأدبية كوثائق اجتماعية لفهم نظام اجتماعي )) .
و من منظور جديد لرواية الغرباء هو التحول الديــني الذي تعيشه المنطقة كصراع حقيقي منذ البدء بعيدا عن نص السلطة الذي يفـرض جـدال المساومة ( الأرض ) التي تمثل التناقض الصارخ بين الواقع الذي يفرض ما ورثناه من معتقد أن هذه أرض الديانات والماضي (التاريخ) الذي يعكس حقيقة الأرض و الدين و الصراع القائم و قيام الدولة …؟
فتوظيـف رواية الغرباء للأحداث كان من منطلق صـراع ديني كما تؤكده ، و أن هذه النصوص الأدبية لم تكن جوفاء بل كانت لها دلالتها الاجتماعية و السوسيولوجية ، أو هو تشريح لنصــوص دينية أدبية حملت قدسية و ملامح المعتقد الشعبي ، و لا يمكن الخوض فيه بصفة اليقين ،إذ لابد من جدلية لهذا الاعتقاد الديني التاريخي و هو أمر يحتاج إلى فلسفة و نهضة فكرية و كيفية تعامل النصوص الأدبية مع النصـوص الدينية أو المعتقد الديني الشعـبي ، بتحليلات نفسية و جهود معرفية عميقة و بتطهير العقل من الأوهام . لتصـل بنـا إلى حقيقة السؤال الذي يفرض بإلحـاح .
ـ هـل وصـل الإبداع الأدبي الحقيقـي إلى الشعبويـة البسيطـة التي تعيـش حالـة القلق و الخوف أمام طغيان العالم المادي في الكتابات التي تروج للرغبات اللاأخلاقية ؟
و هل أضاف شيئاً للفكر و القضية ؟
و بعيداً عن الأطروحات و الدراسات النقديـة في الروايـة و التي غيبت في الآونـــة الأخيرة ، و همش الناقد نفسه بنفسه ليترك الساحة الأدبية فارغـة مـن غربلة ما يكتـب و تفكيك الآليـات المنهجية للرواية العربية و الجزائرية خصوصاً و مدى تطورها في الآونة الأخيرة … إذ نجـد أنفسنا أمام كتابات متجددة تؤرخ لمرحلة معينـة .
و يبقى السؤال كبيـراً ..
ـ أين هو الناقد و ما موقفه منهـا ؟؟!
هامش: ____________
رابح خدوسي أديب جزائري له عدة مؤلفات روائية و قصصية ( الضحية ، احتراق العصافير ، ثقب في ذاكرة الأزون) و العديـــد من الكتب والدراسات الموجهة للطفل تقارب (( 20))عملا منها ( الهدية العجيبة ، الشيخ العجيب ،سباق الحيوانات ..بائعة الخبز ..اليتيمة إلخ ) مؤسـس دار الحضارة للتأليف و النشر و التوزيع ، و مدير مجلة المعلم التربوية .
* المادة مأخوذة من كتاب "قراءة سيكولوجية في روايات وقصص عربية للمؤلفة .
بيـــن
سلطة النص و نص السلطـة
ـ روايـة ـ
للروائي* رابح خدوسي *
بقلم / عائشة بنور
روايـة الغرباء للروائي " رابح خدوسي " الصادرة عن دار الحضارة ، و الفائزة بالجائزة الأولى في المسابقة الوطنية " إقبال " إذ يعتبر محمد إقبال أشهر شعراء الفلاسفة و المفكرين المسلمـين و هو القائـل (( معذرة يا عظماء العرب لقد أراد هذا الهندي أن يقول لكـم كلمة صريحة ، فلا تقولوا أيهـا الكرام : هنــدي و نصيحة للعرب ؟ إنكم كنتم أيها السادة أسبق الأمم إلى معرفة حقيقة الدين … )) .
من هـذا المنطلق تبدأ رحلتنا مع رواية " الغرباء " و " سكينة " و حوارها مع ا لذّات المحطمـة … انهيـار نفسـي رهيــب و هـي تودع قريتها الصغيرة تاركـة وراءها أمـاً و أخاً و أبـاً ميتـاً … رحلت تجر معطف الرذيلة بنفس منكسرة تتجــرع مرارة الألم الذي افقدها عذريتهـا إثر شربها مادة أفيونية ممـزوجة بشراب " الفانتـا " في رحلة على الشاطـئ مع جارتها " نجمة " و صديقهما " هفمـان " .
"هفمان و نجمة "وجهان لعملة واحدة يفكران و يخططان و ينفـذان ، و في ذاتيتها ألقت اللوم و العتاب و ما جنتـه نفسها هو تركها الصلاة و انحرافها السلوكي الذي أفقدها التـــوازن النفسي والاجتماعي، متطلعـة إلى اللهــو و البحر و أفكار " نجمة " الجنسيـة المسمومـة التي تغرسها في ذهنها .
ثمـاني سنوات عن غياب " سكينة " و أخوها " كمــال " تعصـره الحقيقة الساكنة بمخيلتـه ( الاغتصاب )... جمدتـه … تركته مكبل اليدين و التفكير ، حلقات العتاب متواصلـة تستفهـم ذاته و تمزقه بواقع يعيشه ، و صـراع أزلي يخشى من عـدم مقاومتــه... احتـار وأختـار لحياتـه نهايـــة الهروب فامتـد إلى حبل يلفه حول عنقه ويختزل الحقيقة و حياتـــه في موت أبدي ليرتاح …
يواصل الكاتب تصوير الحدث المروع الذي عاشتـه " أم كمال" من هستيريا أفقدتها التوازن العقلي و النفسـي إثر الصدمـة الفجائية التي تلقتها من فلـذة كبدهـا " كمال"وبعبارات مثيرة و لغة قويـة متجددة استطاع الكاتب أن يشرح الحالة النفسية التي يمر بها أشخاص الرواية من جراح " سكينة " إلى كمال و إلى الأم هـذه الأم الحنون التي جُـنَّت من وقع الفاجعة ، فانهارت عندها موازين القوى وشلــت حركة تفكيرها إلى إحباط قاتل مدمر (( أم غربها الأطلسـي، و شرقها الهادي ، قلبها القدس و عقلها كمال و شرفها سكينـة…)) و أعـادت شريط الحوار الذي دار بينها و بين " كمال " معاتبة .. سائلة .. شاكية .. نائحة .. واقفـــة على مأساة الإنسانية في هيروشيما .
"قد أجدك مثل المرأة اليابانية في كوخ من النـــار ، أو كسناء الثائرة و هي تنتحر من أجل الشهادة و الوطـن ".
"و أنت يا " كمال " ماذا قدمت لأمـك ؟! سكينة شرفي و كمال ضمـيري ، فكيـــف يستطيع المرء العيش بلا شرف و لا ضمير، هي قدسي و هو عروبتي … "
و مع الأحداث المتتالية نقف مع ذاكرة " سكينة "و التي وصلت بها إلى لاجئة في العيد والشاعرة فدوى طوقان و حلم الصبــا و المدرســة في حوار لها مع الصحفي " عمر " يستفز عقلها و يدغدغ شعورها بذكاء رجل المخابرات له حياكـة الأساليب و المراوغة الكلامية و نستشف ذلك من خلال هذه المقاطــع الحوارية لما لها من دلالات معنوية ومادية تمتد إلى متعـة العقل بين الأصالـة و المعاصــرة و متعة العين الجمالية من خلال المناظر الطبيعية المرسومة بشاعرية الأمكنة .
(( دور الصحافة التنقيب عن الحقيقة مهما كان الثمن .))
((مهنة الصحافة علمتني البحث عن كل شئ …))
(( الصحافة أبواق تعز من تشاء و تذل من تشاء …
الصحراء و الشعر عالم واحد بلا حدود تسبح فيهما النفس البشرية دون عناء ..))
بعد زواج " سكينة " من " عمران " خال صديقتها أنجبت ابنا عمره ســـت سنوات ( صلاح ) و بذكاء الأطفال الفضوليين ذوي الرغبة في معرفة كل ما يدور حولهم من عالم متغيراتـه لا تخضع لمقياس تجربة المنطق و اللامنطق في غالب الأحيان ...
كان يدرك أن الرجل الذي يتحدث مع أمه ليس رجلا عاديا إذ يقول في تحديد الفرق بين المعلم و الصحفي: انه يسأل الجميع و لا يجيبهم ، ذاك هو الفـرق بين المعلـم و الصحفي،الأول يسأل و يجيب والثاني يسأل ولا يجيب ؟!
تواصل " سكينة "ذكرياتها مع الصحفي " عمر " مصورة حكم التقاليد على الفتــاة كيف يكـون شكلها و مرارة التناقض في المجتمع و كما تقول : أنها مطالبة بأشياء كثيرة ((مدرس التربية يحثنا على الحجاب بينما مدرس الرياضة يعارض ذلك … أبي يشجعني على المزيد من قدر التعلم و أمي تخالف رأيه … ))
يستمر البحث مع الصحفي " عمر " و هو محافظ الشرطة في حقيقة الأمر حول قضية " سكينة " و خصوصاً " نجمة و هفمان " يصنفه الروائـي في عنـوان آخـر ** اعترافــات جاسوسة ** هذا المغناطيس الجديد للحرب البـاردة يغــرس في قلب الأمة العربية للظفر بها كأخطبوط يلف بحباله عقول هذه الأمة بكل ميولها واتجاهها و وجـود نجمة اليهوديـة و هو رمز لعلم الكيان الصهيوني واستنطاقها في الرواية، أن كـل ما كانت تفعله نجمة هو دراسة الأمـة العربية … دراسة المجتمع دراسة سيكولوجيـة و انتروبولوجيـة و بذلك تصل إلى موَاطن الاختـلال و الصراع فيما بينهم ،و كذا قـراءة عقول الشباب وأفكارهم و تطلعاتـهم و قدرتـهم على تحمل الشدائـد ونفوسـهم المضطربة كشخصية "كمال " التي وظفها الروائي هـروباً من المواجهة .
سلب عذرية " سكينة" و كسبهـا ( نجمة ) أموالاً كثيرة دون حساب من " هفمان " و المتاجرة بالمخـدرات لتنويم عقول الشباب في سبيل تخدير مستقبل الأمة و انغماسها في اللهـو، ذلك ما يؤكده الدكتـور أحمـد بن نعمـان في قولـه :
** الحضارة البالية تمنـــح الصكوك على بياض لمن يدجن الفحول من الرجال و يتجسس علـى أفكار العلماء و يتخمن نوايا المفكرين ويوجِـد الحجج لمحاكمتهـم على ما كانـوا ينوون أن يقولـــوه أو يفعلوه أو يفكروا فيه … **1
**والحضارة البالية قد ترهن كل المستقبل من أجل بعض الحاضر …؟! **
في حوار مر تستأنف المحاكمة مداولتها ليواصل قاضي التحقيق الحوار مع نجمـة اليهوديـة و سؤاله حول الخريطة التي كانت بحوزتها ، و بصراحة مباغتة قالت :
(( إنها دولتنا بحدودها التوراتية والبقية الباقية من اليابسة للدولة القرآنية و الجـوار لا يكـون لغيـر الصليبية أولاً و الشيوعية أخيراً .))
و عن تحريفهــا لكتـاب الله ( القرآن الكريم ) تقـول :" أنها كانت تحاول أن تحدث تزاوجًا بين القرآن و التــوراة ؟! و ما قامـت به مـن تحريـف بالقلـم على كتــاب الله هــو من أجل التوراة والوطن فعلت مـا فعلـت ؟! "
* ينعقـد المؤتمر الدولي للسلام ،في قاعة المؤتمرات كان كرسي النظام مرسوم عليه شكل نجمة .
* اسم هفمان مطرز على مكان الحلفاء ، بينما اسم عدنان النفطاوي مسجلاً على كراسي حكام ( بني أميـة ) .
ستظل أم سكينة واقفة طيلة المؤتمر لخلو هذه القاعة من كرسي مخصص للأمة الإسلامية …!!
* يحضـــر " سام هنري " ما اضخم محفظته كأنها تحمل في رحمها جنينــًا اسمه ( الفيتـــو ) …!!
الضمير العربـــي ينتحر على طريقة " كمال " .
صـلاح و إخوانه يرفعون راية الجهاد بالدم و الحجارة .
و تستأنف المحاكمة مداولتها تاركة ذلـك للتاريــخ ؟
و القـــارئ لاعترافات جاسوسة و حوار مر كما هو مصنـف في الرواية، يشعر و كأنه يقرأ رواية أخرى رغم الترابط المحكـم ، أو بالأحرى وحدهما رواية أخرى لولا تعاقب الأحداث و الأشخاص واختزال كل مراحل الأمة الإسلامية في* اعترافـات جاسوســـة وحـوار مـر* الذي كشف عن كل الأقنعة التي تعيشهـا القضية الفلسطينيـة حاليــاً من المساومات ؟
و بعـد هذا العرض الوجيز تجرنا رواية الغربـــاء للروائي " رابح خدوسي " لطرح أسئلـة محورية في مضمونها .
ـ هل تمكنت الرواية أن تؤرخ واقع الأمة العربية و الإسلامية بعيدا عن تصنيفـات الأدب ، و أن كل ما يكتـب حول الإسلام يصنف في خانة إسلامي أو أدب إسلامي ؟؟
ما الذي جعل الروائي يختـار هذا النوع من الكتابة !؟ أهـو تشكيـل للتعبير عـن ذاته و همومه أم هو تحـــديد لعوامل مؤثـرة حوّلتـه من كتابة رواية الضحية الاجتماعيـة و التي تعكـس واقع المجتمع الجزائري بعد الاستقلال ، إلى رواية صنفت من قبل من قرأها برواية إسلاميـة .
ـ أي طابـع اتخذتـه الرواية حتى حددت في هذا القالب ؟
أهو اتـجاه الروائي و شتان بين رواية الضحية و الغرباء ، أم هو أمـر طبيعي لمخيلة الأديـب في أن ينحى هـــذا المنحـى و يثور على الأنظمة التقليدية في الكتابة و قد نقـرأ لـه رواية أخرى في ظل التحولات الجديدة ؟
و أن تكـون مدرسته التعبيرية مليئة بالمتغيرات الفلسفيـة و الفكريـة التي يعيشها ، و التي تميز رواية الغرباء في المحور و المحاور … أم أن عقله اللاشعوري صرخ و أعـاد صياغة حياته و أحلامه و أدرك حياة الشعوب النفسيــة و حكمت بالضرورة على إبداعه و توجهه الإيديولوجـي .
و قد تكون حالة فكرية تطورية في أمة أراد أن يستباح فيهـا كل شئ من الداخل و الخارج ، و انطلق من نزعته و من الراهن الفكري العربي سياسياً و اجتماعياً و ثقافياً لتكمن هنا إشكالية سلطة النص التي تفرض فتح الملف الديني أو الصراع الديني بمنهجية التشريـح لتراثنا و مـا نعتقـده وما نحـاول تأويلـه ، و هل بالإمكـان ذلـك من لغـة وتــاريخ و كذا رموز انتهت إلى جـدال عقيم من نظريات لم تخضع إلى دلالة العقل؟! و أصبحت جدلية النصوص تؤدي إلى المواجهة مع العقل الآخر ، و كذلك رهينة نزعـــة عقليـة فكرية تحررية تسمو إلى تفكيك آليات النصوص التي أصبحت ملكاً لا يمكن تخطيها، و من ثمة أصبحت سلطة النص أو النص له سلطته القوية على العقــول و على الحياة بصفة مطلقة لا يمكن الكشف عن أبعاده أو تشريح لمــــدلول هذه النصوص و مكاشفة وظيفتها أو توظيفها في كيفية التعامـل معها .
هذا التوظيف الإبداعي التاريخي الذي نستشفه من خـلال الرواية أعطى للنص سلطته الوظيفيـــة الإبداعية بعيدا عن ما هو مقـرر في الإطار العام مفتوحة على إعادة قراءة الراهن ، و أنه يرى كما يرى علماء الاجتماع مثل (فوكن ) و ( زالا ما نسكـي ) (( أنه من الممكن استخدام النصوص الأدبية كوثائق اجتماعية لفهم نظام اجتماعي )) .
و من منظور جديد لرواية الغرباء هو التحول الديــني الذي تعيشه المنطقة كصراع حقيقي منذ البدء بعيدا عن نص السلطة الذي يفـرض جـدال المساومة ( الأرض ) التي تمثل التناقض الصارخ بين الواقع الذي يفرض ما ورثناه من معتقد أن هذه أرض الديانات والماضي (التاريخ) الذي يعكس حقيقة الأرض و الدين و الصراع القائم و قيام الدولة …؟
فتوظيـف رواية الغرباء للأحداث كان من منطلق صـراع ديني كما تؤكده ، و أن هذه النصوص الأدبية لم تكن جوفاء بل كانت لها دلالتها الاجتماعية و السوسيولوجية ، أو هو تشريح لنصــوص دينية أدبية حملت قدسية و ملامح المعتقد الشعبي ، و لا يمكن الخوض فيه بصفة اليقين ،إذ لابد من جدلية لهذا الاعتقاد الديني التاريخي و هو أمر يحتاج إلى فلسفة و نهضة فكرية و كيفية تعامل النصوص الأدبية مع النصـوص الدينية أو المعتقد الديني الشعـبي ، بتحليلات نفسية و جهود معرفية عميقة و بتطهير العقل من الأوهام . لتصـل بنـا إلى حقيقة السؤال الذي يفرض بإلحـاح .
ـ هـل وصـل الإبداع الأدبي الحقيقـي إلى الشعبويـة البسيطـة التي تعيـش حالـة القلق و الخوف أمام طغيان العالم المادي في الكتابات التي تروج للرغبات اللاأخلاقية ؟
و هل أضاف شيئاً للفكر و القضية ؟
و بعيداً عن الأطروحات و الدراسات النقديـة في الروايـة و التي غيبت في الآونـــة الأخيرة ، و همش الناقد نفسه بنفسه ليترك الساحة الأدبية فارغـة مـن غربلة ما يكتـب و تفكيك الآليـات المنهجية للرواية العربية و الجزائرية خصوصاً و مدى تطورها في الآونة الأخيرة … إذ نجـد أنفسنا أمام كتابات متجددة تؤرخ لمرحلة معينـة .
و يبقى السؤال كبيـراً ..
ـ أين هو الناقد و ما موقفه منهـا ؟؟!
هامش: ____________
رابح خدوسي أديب جزائري له عدة مؤلفات روائية و قصصية ( الضحية ، احتراق العصافير ، ثقب في ذاكرة الأزون) و العديـــد من الكتب والدراسات الموجهة للطفل تقارب (( 20))عملا منها ( الهدية العجيبة ، الشيخ العجيب ،سباق الحيوانات ..بائعة الخبز ..اليتيمة إلخ ) مؤسـس دار الحضارة للتأليف و النشر و التوزيع ، و مدير مجلة المعلم التربوية .
* المادة مأخوذة من كتاب "قراءة سيكولوجية في روايات وقصص عربية للمؤلفة .