المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدكتـــــور نجيب الكيلانـــي ...



أبو شامة المغربي
27/04/2007, 08:10 AM
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
الدكتور
نجيب الكيلاني
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/ar/6/6a/%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A% D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A.jpg (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9:%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8_ %D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A.j pg)


استطاع الأديب نجيب الكيلاني أن يقدم صورة للأدب الإسلامي المنشود، وأثبت أنه وثيق الصلة بواقع الحياة، ويقف شامخا في مواجهة الآداب الأخرى، ويرد علميًّا على الإبداعات التافهة، عبر حياة جادة كانت حافلة بالعطاءات الأدبية كما قال العلامّة "أبو الحسن الندوي (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%A8%D9%88_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%86_ %D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%8A)".
ومعروف عنه أنه الأديب الوحيد الذي خرج بالرواية خارج حدود بلده، وطاف بها ومعها بلدانا أخرى كثيرة، متفاعلا مع بيئاتها المختلفة، فكان مع ثوار نيجيريا (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A7) في "عمالقة الشمال (http://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%82%D8% A9_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84&action=edit)" وفى أثيوبيا (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7) في "الظل الأسود"، ودمشق (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82) في "دم لفطير صهيون" ، و"على أسوار دمشق (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82)"، وفي فلسطين (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86) .. "عمر يظهر في القدس (http://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=%D8%B9%D9%85%D8%B1_%D9%8A%D8%B8%D9 %87%D8%B1_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8 %B3&action=edit)"، وإندونيسيا (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D 8%A7) في "عذراء جاكرتا (http://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=%D8%B9%D8%B0%D8%B1%D8%A7%D8%A1_%D8 %AC%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%AA%D8%A7&action=edit)"، وتركستان (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%B1%D9%83%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86) في "ليالي تركستان (http://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=%D9%84%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%8A_%D8 %AA%D8%B1%D9%83%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86&action=edit)" والتي تنبأ فيها بسقوط الشيوعية منذ أكثر من ثلاثين عاما، والأديب عامة، إن لم يملك تلك القدرة على الاستشراف والتنبؤ بجوار الرؤية الفنية، فلا خير في كثير من أعماله.
يرى الدكتور جابر قميحة أن الكيلاني لديه إحساس عميق بتكثيف الجمال الفني المرتبط بالغموض أحيانًا في بعض أعماله، إلا أنه لا ينسى مسئوليته تجاه القارئ، وخوفه من أن يقع في براثن الفهم الخاطئ، فتراه في كل أعماله ينبض بخيوط الوعي المتيقظ، التي تجعل من كتاباته الروائية متعة خاصة وقتًا مكتملاً.
كما يؤكد الدكتور حلمي القاعود على أن نجيب الكيلاني كان فريدًا في فك الفضاءات المكانية والمجالات الزمانية في أعماله، عبر احترافه وحفاوته بالتحليل الدقيق والمنمنمات، واستطاع أن يملأ الساحة بالبديل الصحيح؛ حيث يعتبر أغزر الكتاب إنتاجًا على الإطلاق، بينما يأتي "نجيب محفوظ" والسحار في المرتبة الثانية من حيث الكم.
حيث قال عنه نجيب محفوظ في عدد أكتوبر عام 1989 (http://ar.wikipedia.org/wiki/1989) ميلادية "إن نجيب الكيلاني هو منظّر الأدب الإسلامي الآن"؛ ذلك لأن مقولاته النقدية، وأعماله الروائية والقصصية تشكل ملامح نظرية أدبية لها حجمها وشواهدها القوية، التي عززتها دراساته حول "آفاق الأدب الإسلامي" و"الإسلامية والمذاهب الأدبية"، و"الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق"، و"مدخل إلى الأدب الإسلامي"، و"تجربتي الذاتية في القصة الإسلامية"، وقد توفي نجيب الكيلاني يوم 7 مارس (http://ar.wikipedia.org/wiki/7_%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%B3) 1995 (http://ar.wikipedia.org/wiki/1995) ميلادية.
لقراءة المزيد حول سيرة الكاتب على الرابط التالي:
الكيلاني (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A% D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A)
http://www.palintefada.com/upload/pic/beesssss.gif
http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
د. أبو شامة المغربي
http://aklaam.net/aqlam/images/e_mail.gif
kalimates@maktoob.com

أبو شامة المغربي
27/04/2007, 08:38 AM
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
الدكتور
نجيب الكيلاني
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/ar/6/6a/%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A% D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A.jpg (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9:%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8_ %D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A.j pg)
دور السرد في البناء الفني في رواية
" قاتل حمزة"
الدكتور
محمد علي داود
من أوائل رواد الأدب الإسلامي وأبرزهم الأديب الراحل الدكتور نجيب الكيلاني
(1931-1995م) الذي خلف في هذا المجال تراثاً ضخماً، متعددا متنوعا، ما بين روايات وقصص وغيرها.
ومن رواياته الإسلامية "قاتل حمزة"، وهي رواية تاريخية (أنظر دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة، محمد حسن بريغش، 20/2)، تتخذ من تاريخ صدر الإسلام ميدانا لها، وقد بين فيها الأديب صورة من أهم صور الصراع العنيف بين الإسلام والشرك، وبين الخير والشر، وكشف عن طبيعة العلاقات التي نسجتها عنجهية الجاهلية وفساد فكرها، وقدم صورة لإشراقة الإسلام وعدالته، وسموه وسماحته، تلك السماحة التي أنجت هؤلاء الطغاة من الدمار بدخولهم ساحة الإسلام، وبما منّ الله عليهم من هداية ورشاد.
وكما أن الرواية اهتمت بتوضيح مفاهيم معينة لدى شخصياتها، فإنها ركزت على مشكلة العبودية، وقيمة الحرية، ومن خلال أحداث الرواية تتجلى صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلب المؤمن وفي عين الكافر، وما كانت تنسجه العناية الإلهية لنصرة دينه ونبيه، ومقومات الشخصية الإسلامية وما تقوم عليه من طهر وعزيمة، واتساق، وتستمر الرواية في نقل الأحداث التي تصور الصراع بأشكاله المتعددة بين وحشي بن حرب " الذي حللت الرواية شخصيته، والشخصيات الأخرى في الرواية.
ومن خلال سياحة مناسبة مع أحداث الرواية وفنياتها المختلفة أحاول رصد دور السرد في البناء الفني وتآزره في تشكيل أهم الملامح الفنية والفكرية التي تقوم بها الرواية. وبمفهوم آخر: وظيفة الوصف والحوار في البناء الروائي، ودورهما في تقديم فكر الرواية وجزئياتها وإبراز فنياتها، في ضوء التشكيل الدقيق للجوانب الفنية.
ومما لا شك فيه أن الأسلوب الروائي أو السرد فيها قد حظي بكثير من القول الذي يتناول ألوانه وطرقه نظرياً وتطبيقًا، أما ربط هذا الجانب بما يؤديه من قيمة جوهرية تبعث على التلاحم والتناسق بين عمد الرواية حتى تظهر نسيجاً متلاحما في نموه، وتؤدي دورها بصورة كلية يجليها الرونق ويسمو بها جمال الأداء فمبلغ علمي - على ضآلة قراءاتي في الرواية - أنه - أي السرد لم يحظ بما يلائمه من بحوث، لذا ظل في حاجة إلى تناولات تناسب أهميته.
ويحسن في البداية أن أقرر أن كاتب الرواية ناظم من لون خاص، والكشف عن نظمه ومهاراته يتطلب نظراً عميقاً ووعيا دقيقاً، وبصراً ينفذ به في واحته اللغوية، ويكشف عن شيء من خبراته الفنية، المستخفية بين الألفاظ، وتحت ظلال العبارات، مما جعله يورد الوصف بصورة معينة، وبكيفية مختارة.
وسأحاول في دراستي تلك اتخاذ جملة من النماذج التي ألمح فيها بروز ما أصبو إلى كشفه بشكل جليّ، مما يشير إلى اتخاذ الوصف والحوار أساسًا مهما في التلاحم بين عمد الرواية، والارتقاء بذلك إلى درجة الغوص إلى أعماق الفكر والشعور والهدف من الرواية. وفي البداية أسوق هذا الجزء من الرواية لأجلَّي به بعض مرادي، يتحدث"وحشي" مع عبلة فتقول له: - حدثني عن الحب ...". عاد يقهقه في سخرية: - وماذا بعد الحب؟" - لا شيء يا وحشي .. إنه الغاية.." مد ساقيه وحكَّ شعره المجعد، ولحيته القصيرة، ثم قال: - لو علم سيدنا بما يجري بيننا لسحق أحلامنا، وفرق بيننا إلى الأبد، ألا تفكرين في ذلك ؟؟". - إنه لم يحدث بعدُ، فلم أفكر فيه؟. - النمل يخزن طعامه للشتاء..؟ - ونحن لا نرهب الشتاء، فالطعام في بيت سيدي وفير.." - صاح في حدة: - سيدك ألعن من الشتاء.." وشردت لحظات، وأخذت تتمتم .. لقد فكرت ذات يوم أن يبعث الله إلينا برسول من عنده يشترينا، ثم يعتقنا ويهبنا الحرية .. ألم يفعل محمد وأصحابه ذلك؟؟ اشتروا بلالاً وأعتقوه .. حقاً إن بلالاً تعذّب كثيرا .. لكنه الآن ينعم بالحرية ولا يرهب المستقبل. انتفض وحشي واقفاً وصاح: - لا تطرقي هذا الحديث .." - لماذا؟؟" - إنني أكرهه.. ها أنت ذي تعودين وتتحدثين عن المستقبل وعن الحرية، والأدهى من ذلك تتحدثين عن محمد..(قاتل حمزة:8، 9).
ويحمل الجزء السابق من الرواية بعض الجوانب التي يعمل الوصف على إبرازها، ومن أهم ذلك: - الوعي بأبعاد نسيج الرواية الداخلي، ودعوة القارئ إلى التنبه إلى ما تهدف به عبلة من لقاءاتها مع وحشي، والتحفظ كيلا تعبث به الظنون من اتهامات قد تثيرها اللقاءات بين "عبلة" و"وحشي" فالمؤلف في وصفه عبلة"الأمة التي يمتلكها" جبير بن مطعم لها توجه معين، يوحي بميولها إلى استقامة التفكير وحسن التدبر، والتأكيد على نقائها منذ البداية، التلويح لوحشي بأفضل السبل لنيل هدفه الذي رصد له جهده، وغاية استعداده، وهو البحث عن الحرية الحقيقية، لقد لمحت له عبلة برسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا يحمله التلميح إلا أن هذا التلميح يكشف عن خلجاتها، وتفكيرها من أول الأمر للدخول في الإسلام، فهو خير من يمنح الحرية الحقة، وقد ظهر ذلك في حديثها عن الحب، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم.
- التأكيد على إبراز تنامي الجانب الفكري عند عبلة، هذا التنامي الذي وصل إلى قمته حيث أفصحت عن حبها للإسلام، ومحاولتها تجنيد حبها العفيف لوحشي، لتحقيق ترغيبه في الإسلام، وهذا ما أفصحت عنه فنية الوصف، ولعل هذا الهدف هو الذي دفعها إلى التقرب منه وإدعاء حبه منذ البداية، ويؤكد ذلك ما جاء في الرواية، وعند آخر لقاء بينهما في بيت جبير بن مطعم، وحين صرحت له بإسلامها، ظهر صدق ذلك في فرارها بمعتقداتها إلى البلد الطيب، وهي التي أخذت تحدث وحشياً-من قبل- عن العتق الحقيقي الذي يتجلى بأن يبعث الله رسولاً.. الخ ثم اتخذت من هذه التوطئة، تكأة للحديث عن محمد عليه السلام وعن بلال، وقد فاض حوارها معه بعد ذلك في هذه القضية، وبعد أن اعترف لها بأنه سينال حريته ويكون بشراً يفعل ما يشاء، وعرفت نيته في حرب محمد عليه السلام وقتل حمزة، وقال لها: الحرية تؤخذ ولا تعطى... الحرية بالدّم.. سواء أكان دم الشرفاء أو الأشرار.. قالت له: إنك تتخبط يا مسكين، وتقول كلمات مدمرة، وتبين عن ذات نفسك بطريقة مخيفة وإن كانت غامضة، وامصيبتي!! إنني لا أفهم شيئا مما تقول" (قاتل حمزة:13).
- كما يتنامى الوصف حتى يبرز وصول فكرة إيمانها إلى حيز التنفيذ، لقد فكرت في الذهاب إلى حيث تلتقي النسوة المؤمنات، لتنهل من النبع الطاهر، الذي ينهلن منه، وما دلالة نفورها من وحشي بعد أن أعلنت له عن إسلامها فلم يتحرك، إنه تأكيد لإدراكها حقيقة الإيمان والخروج من الظلمات إلى النور.
- مهارة الأديب في نسج الواقع، من أحداث ومواقف متنامية بدقة، تحقق مراده مما أراد تصويره على النحو الأمثل، من واقع جاهلي حاقد لتتراءى بإتقان الدوافع إلى جرم وحشي، وقد اعتمد الكاتب على فنية الوصف ودقته، وفعله في تلاحم البناء العام بجزئياته الدقيقة، فوحشي ظل مضطربا ولم يقر له قرار قبل إسلامه، وحتى بعد حصوله على حريته، التي كانت ثمنا لغدره وقتله حمزة، تلك الحرية التي أقام عمدها على الأنانية والأثرة والخسران، غير معنيّ بصواب فعلته أو ضلالها، إذ نراه يقول في مواضع متفرقة بعد أن عرض عليه سيده الحرية مقابل قتله حمزة، وقبل أن ينفذ غدره:"إنني على استعداد لأن أرتكب أية حماقة، أو آتي أي إثم لأثبت وجودي، لأحقق ذاتي، لأنفي عن نفسي وصمة العار والعبودية"(السابق 14-15)، ثم يقول بعد توسل هند إليه:"أيها الماكرون والتائهون من رجالات مكة، ليس لكم دين إلا السجود لأحقادكم وترهاتكم (السابق:16)، اللعنة على عتبة وشيبة وأبي جهل، لشد ما أنا معجب بحمزة، هذا الذي صرع أبطالكم، ومرغ كبرياءكم في الرغام، إن حمزة لعظيم، لكنني سأقتل ذلك العظيم .. لكن أينسى الناس ماضيَّ في العبودية والهوان أم سيقولون لقد قتل" العبد" وحشي حمزة عم رسول الله فأعتقه سيده جبير" (السابق17).
إنه هدف الكاتب من هذا الوصف –غير نقله الصور السيئة- التصريح والإيحاء بجملة من الأفكار، مؤداها أن دافع القتل عند وحشي ليس ما بين المسلمين والمشركين من قضايا عقدية وغيرها، وإنما دافعه التخلص من مأساته، وأن الحرية التي حصلها في غير ظلال الحق والإسلام لم تزده إلا اضطرابا، ويتضاعف الاضطراب والقلق، وتزمجر حياته بالمفارقات، حتى دخوله الإسلام، الذي تحققت له في ظله نعم جليلة كنعمة التوبة والأمان والاستقرار.
- يقدم الوصف في الرواية كشفًا واعياً للجوانب الشعورية والنفسية المختلفة من علية القوم من المشركين تجاه المسلمين، بما يحمله الوصف من صور الإيحاء التي تشير إلى لون خلجاتهم، وما تحوي من تنافر شديد، إذ لا تجمعهم سوى النفعية والحفاظ على كبريائهم، فعندما بدأ الحديث بين هند بنت عتبة وزوجها، وعكرمة بن أبي جهل، عند ذهابهم إلى المدينة للأخذ بثأرهم- كما زعموا - من محمد وصحبه، يؤكد أبو سفيان استمرار ما خلفته غزوة بدر من ألم وهم وحزن، وأن كل هذه المشاعر ستبقى أبد الدهر، يقول مخاطبا هندًا: "نار الثائر لا تنطفئ أبدًا يا هند .. أتظنين أن قتل محمد أو حمزة سيمحو تمامًا كل أثر للألم والأحزان على مصرع الأحباب؟ مستحيل أن يحدث ذلك ياهند، إننا ندافع عن كرامتنا وهيبتنا، ونعاقب المعتدين، هذا كل ما في الأمر، أما حزنك على ولدك "حنظلة" وأساك على أبيك وأخيك، ولوعة القلب على الأحبة كل هذه ستبقى أبد الآبدين يا هند .. قالت هند في شيء من الضيق:"إنك تهول الأمر.. والله لو سفك دم حمزة وقتل محمد لما تبقى في قلبي مثقال ذرة من حزن"(السابق:22) كل هذا "ووحشي يستمع إليهم في غير قليل من الشماتة والاحتقار، ويحادث نفسه أيها الأوباش التعساء إنكم جميعًا صرعى الغرور والحماقة، هياكل سادة وقلوب عبيد.. لو أن الناس بعقولهم ومشاعرهم لكنت سيدكم جميعًا.. وما أبو جهل وعتبة وشيبة وغيرهم إلا أكوام متعفنة من الجمود والعسف والحماقة، اللعنة عليهم جميعًا وعليكم أنتم" (السابق:23).
لقد كشف الوصف هنا مجموعة من العلائق النفسية، وأبان ما تضطرم به قلوب السادة والعبيد،و الأسس الهشة، وما تفيض به جوانبها من عوامل الفناء والضعف، ويتضافر في منح هذه الدلالات التصريح والتلميح، فعلى الرغم من كراهيتهم الشديدة لمحمد وصحبه، فكراهيتهم لبعضهم أشد وأكبر، إن "وحشي" يحمل لهم من الكراهية أضعاف ما يحملون لمحمد وجنوده، وذلك إنما يكشف عن أمر عمد المؤلف إلى التأكيد على ضرورته، إنها الحاجة إلى التغيير، إذ لا يمكن أن يؤسس مجتمع فاضل على هذا العفن، الذي امتزج بقلوب الكفار، وران على حياتهم، وأشاع فيها الاضطراب.
يجسد الوصف على امتداد الرواية قسوة العبودية وضراوتها، كما يلمح إلى سمو الإسلام وسماحته، وحفظه آدمية الإنسان، ودقة علاجه لهذا الجانب الاجتماعي، علاجًا ناجعًا يقوم على أسس نفسية واجتماعية وتربوية طيبة، كل ذلك يقدمه الوصف تقديمًا دقيقًا، لقد صور الوصف وقع العبودية على نفس "وحشي" هذا الواقع الرهيب المدمر حتى إنه ليشاهد في صورة يظن معها مجنوناً، إنه ليخاطب أوهامه وهواجسه، عندما قدمت إليه هند، زوج أبي سفيان الخمر ليشرب قبل الحرب، نراه يقول لماذا لا يأتي عكرمة و"أبو سفيان" و"جبير بن مطعم" ليشاركوه الشراب؟.. لم يزل عبداً لا نديم له ولا سمير، طوال حياته يشرب الخمر وحده، ويتخيل رجالاً يتسامرون معه ويحدثهم ويحدثونه" (السابق:26).
وتعبث به الأوهام وتصل به ذروتها، فيصيح بمن يتوهم أنه يحدثهم ويحدثونه، ويتدخل سيده" ماذا تفعل أيها المجنون" فيرد عليه" إنني أؤدب هؤلاء المارقين، إنهم يسخرون مني، فيرد سيده " لكني لا أرى أحدًا يا وحشي" فيقول وحشي:" إنني أراهم، إنهم يهربون يخافون أن أبطش بهم". ويشكل الوصف دقائق الغشاوة التي مسخها الكفر على بصيرة الكفار، ومنهم "وحشي بن حرب" وقتذاك، إذ لم يعد يرى من خلال قتامة الغشاوة سوى الأشكال والماديات، وعمي كل العمى عن الوصول إلى الحقيقة المعنوية، المشرقة الماثلة خلف عزيمة المؤمنين في جهادهم، تقرأ له قوله " لكن لماذا يستميت أنصار محمد هذه الاستماتة الغريبة ويتسابقون إلى الموت هذا التسابق الغريب؟؟ إنهم يطربون لما يسمونه الشهادة وريح الجنة ومسميات لا أفهمها .. أنا أعرف أن الموت هو الموت، وما وراء ذلك لا أعرف عنه شيئاً، ولا أثق به، إن ما أثق به هو وجودي..حاضري، عذابي الذي اكتوي بنيرانه، ملعونة تلك الحياة.. إنني عاجز عن فهم بعض أسرارها، ودوافعها الغريبة" (السابق:32).
الإبداع الفني والبراعة اللغوية مما يلمح في السرد الذي حمله أسلوب الرواية الذي يتخذ سبيله من المزج بين الوصف والحوار، وما يضمه ذلك من تجسيد وتشخيص، وتطويع الخيال بصورة تنبئ عن رغبة أكيدة في الوصول البارع إلى الهدف الفكري النبيل، كما تدلل على امتلاكه باقتدار ناصية اللغة يطوعها، ويرسم من خلالها ما أراد من صور ذات دلالات متنوعة، ينهض بالإفصاح الدقيق عن مراده وهو الكشف عن تلك النفسية المضطربة التي حلقت بها الآمال، وهبطت بها أوضار الواقع إلى الحضيض المضطرم، فراح يبين عما في صدره من كهوف اليأس، التي نسجت عناكبها زيف الخداع المحرق، لقد ظن أن الحياة ستخر راكعة بين يديه، وستتغير أمامه فجأة بعد غدره وقتله حمزة أسد الله، ظن أنها ستقبل عليه كعروس حسناء، تقدم إليه كل ما لديها من دلال، خاطبة- في إصرار- وده، ولم يجل بخاطره أن كل ما أسس على زور وفحش وخداع يهوي بصاحبه في فلاة اشتد بها القيظ، تساوره فيها ضآل الرقش من كل جانب،فلا يقر له قرار، وتلك سمة النفس المضطربة المظلمة التي لم تقم شخصيتها على أسس تحميها، من سلامة الفطرة، ونقاء النفس، وطهر العقيدة التي ترتوي منها.
ويتخذ الأديب من أسلوب السرد وتقنياته طريقًا إلى توضيح مراده، متردداً بين الإسقاط الشعوري آونة، ومخاطبة النفس آونة أخرى، حين يصور الأديب ما جاس بفكر وحشي بعد فعلته، وما طاف بخاطره وخامر نفسه، يقول:"يا حربتي الغالية .. لقد نهلت اليوم حتى أطفات ظمأ السنين.. لن تظمئي بعد اليوم أبداً، وكيف تظمأ من شربت من دم حمزة؟؟"، ورمى الوجود المضطرم من حوله بنظرات فاحصة، ثم تمتم" الآن أصبحت حراً ثم أخذ يصيح ويقهقه: حرًا حراً حراً هاهاها" (السابق:35).
ويحمله فكره إلى غيابات الخيال، فيرسم لنفسه واقعًا عجيبًا وغريبًا حين يحصل على حريته، فيصدم، لقد ظن أن الكون سيباركه ويشاركه البهجة والابتهاج حتى الجماد، يعبر الأديب في وصفه عن ذلك فيقول عن وحشي بعد أن "عاد ينظر إلى الوجود مرة أخرى ثم صعد أنفاسه في شيء من الارتياح". - لكن السماء هي السماء .. و"أحد" ينتصب قبالتي شامخًا دون أن يعنيه من أمري شيئاً .. الوهاد والآكام لم تتغير" كل شيء على حاله" (السابق35).
ويتابع الوصف متألقًا في كشف مجاهل هذه النفسية المضطربة من خلال سبر أغوارها ورسم ما تفيض به من بلاهة وعناد، وما ران على قلبه من خداع وكفران وأحاط بعقله من صدأ الفكر وعنجهية الجاهلية، فقد خيل إليه ما ستكون عليه ملامح العلاقة بينه وبين فتاته بعد غدره "بحمزة" قائلاً: "سترى أنني سيد نفسي" عندئذ تركع تحت قدمي الحافتين.. وتبللهما بدموع الحب والوفاء ... ولا تناديني إلا بكلمة سيدي أو مولاي"، ويتم حديثه قائلاً " أنا كل شيء .. تلك هي الحقيقة .. الذين يدافعون عن هبل لا يدافعون عن صنم .. إنهم يدافعون عن ذواتهم .. عن أمجادهم ومراكزهم .. إنني أعرف جيداً ما يفكر فيه هؤلاء الحمقى الكذابون (قاتل حمزة: 37- ثمانية وثلاثون)، وعلى هذه المشاكلة حمل الوصف تصوير الجوانب السالفة على امتداد الرواية.
ولعل مما أراد المؤلف أن يوضحه من فكر جعله يعرض هذه الجوانب من كشفه للنفسية الممزقة لوحشي، هو التركيز على ما شاع في الجاهلية من سوء وضياع، وبخاصة في محيط هذه القضية الاجتماعية الخطيرة، إن في مخاطبة وحشي لحربته واعتزازه بها بيانا جليا لما فاضت به نفسه،من إحساس بما سيعود إليه، مما يحقق له الشعور بذاته، هذا الذي عاش زمناً يفتقده، ويتلظى بلهيب الاحتقار والضياع بسبب فقدانه، وفي مخاطبته لذاته أمر عمد إليه الكاتب، فهو فوق كونه يرسم أبعاد الحدث ومسيرته ونموه، ويكشف عن أبعاد الشخصيات إلا أنه يبين عن سوء علاج الظاهرة في الجاهلية وبين الجاهليين، ويشير من طرف خفي إلى حسن علاج الإسلام لهذه القضايا، وينفض عنها ما يشقيها من عوامل التقويض التي انتشرت بين خلايا المجتمع الجاهلي، فجعلت ما يظن فيه تحقيق دوام السيادة والجبروت ما هو إلا غلالة رقيقة، ساورتها ألسنة اللهب فصيرتها هباء تذروه رياح الضياع. الحوار وتوظف تقنية المواقف في تجسيد البلاهة والسطحية والغباء لدى بعض شخصيات الرواية.
إذا كان عنوان الرواية هو "قاتل حمزة" فإن مؤلفها قد هدف من ورائها إلى أهداف كثيرة، وقد صلح لها ما أراد من توظيف الوصف من خلال الشخصية لتكون مصدراً ثرًا لإظهار جوانب عديدة منها البلاهة والسطحية والغباء عند كثير من الجاهليين حتى أصبحت أيسر مظاهر الحياة عندهم كطلمسات يعجزون عن إدراكها، فبعد أن نال وحشي حريته ولم تأته فتاته - كما ظن - ذهب إلى بيت جبير ليلا، ولم يجد الباب مفتوحا، فوثب فوق جدار منخفض ودخل، ودفع باب حجرة جانبية كانت فيها عبلة مع عدد آخر من الجواري وصحن به، فهرول صاحب الدار وعبيده، وأبناؤه، فوجدوه ينتصب في بلاهة، وخاطبه جبير وهو يفيض غيظًا: - ما الذي أتي بك الساعة إلى هنا؟؟" أطرق وحشي دون أن يجيب .. فخطا جبير نحوه وأمسك بكتفيه وهزه في عنف: - أيها الحقير .. من علمك أن تقفز فوق الجدران، تقتحم حرماتها.." - سيدي...: - اصمت أيها الآبق.. إن نفسك لن تتغير.. نفس عبد ذليل". - سيدي..." - دفعه جبير بشدة، وأشار إلى عبيده قائلاً: اقذفوا به إلى خارج البيت "(قاتل حمزة: 47).
وبعد محاورة يرد عليه وحشي: - سيدي لم تزل الدار داري، فأنا بالأمس غلامك، وسأظل طول عمري في خدمتك، لقد ساقني الولاء والحنين، وجدت الباب مغلقًا لم أستطع..، كنت أريد أن آوى إلى مكاني المعهود .. الوحدة والفراغ يكادان يحيلان ليلي إلى جحيم، تلك هي القضية ولا شيء غير ذلك .. وقهقه جبير في مرح بعد أن رق قلبه وقال: - على الرغم من حماقتك وشراستك فأنت طيب القلب، وشمخ جبير بأنفه في ثقة وقال: - لا بأس .. اذهب واقض بقية الليل مع رفاقك القدامى إلى جوار حظائر الشياه، وافترَّ ثغر وحشي عن ابتسامة ساخرة، لم تتضح معالمها في ضوء المصباح الزيتي. بينما " كان وحشي في داخل ذاته يتفجر غيظاً وحنقاً، بل تمنى في تلك اللحظات أن ينقض على عنق جبير ويقبض عليه بيديه المتشخبتين، ولا يتركه إلا جثة هامدة" (قاتل حمزة:48).
- وموقف آخر نلمحه مما يبدي البلاهة والسذاجة، التي يتجلى مظهرها في عدم الوصول إلى فهم مراد المتحدث فها هي ذي وصال "تلمِّح لوحشي أن يرحل مع عبلة، وترسم بإيحاء ما ينبغي أن يفعله حين يذهب إلى عبلة، ويستشيرها وستشير عليه، بتوجه نحو جهة لا يقبل بها جبير، وهي الوجهة التي كانت تسعى عبلة لتوجه "وحشي" إليها، غير أنه لم يفهم المراد، وربما لم تحن لحظة الهداية له" (أنظر السابق:155، 156، 157).
- دور الحوار في دقة رسم الشخصية وإبراز المفارقة بين الشخصيات.
مما لا مراء فيه أن يكون الكاتب على وعي تام بأبعاد شخصياته، وما يتصل بها ويثور بين جوانحه من وعي وشعور، وتلوح الأبعاد والسمات من خلال سبك الأحداث، وهذا ما نراه بين شخصية عبلة وشخصية وحشي، فعبلة لم تكن تبدي إعجاباً بوحشي لقوة في جسمه أو لأي جانب حسي فيه، وإنما حدثته من قبل لتلوح له بما قبع في أعماقها، ولم تكن لتبسط له أمراس ودادها وبريق حبها إلا لهدف لم يفهمه وحشي في البداية، ولما ضمهما لقاء بعد غدره وحصوله على الحرية المزعومة راح يحدثها وتجيبه بصراحة لم تعهد بين المحبين لذات الحب، إنه يتجه إليها بكل اهتمامه متسائلا: - لماذا لم تحضري في الموعد المضروب؟؟". - لم يكن لدي رغبة. لكأنما سددت إلى قلبه سهماً قاتلاً، وخرج: كيف؟؟ أتستطعين أن تقولي مثل هذا الكلام لسيدك جبير؟؟" - لا أستطيع.." - لماذا؟؟" - لأنه سيدي .. اشتراني بماله، ورباني وحماني.." - وأنا ؟؟ ألست في منزلة سيدك؟؟". - قالت في إصرار: - إنك لا تملك هذا الحق!!" - هل أفهم أن ولاءك لمن اشتراك أكثر من ولائك لمن تحبين؟؟" وشردت بعض لحظات وتمتت: - لقد أصبحت أشعر أن هناك حاجزاً ضخماً يحول بيني وبينك" (قاتل حمزة:51).
وهنا يؤكد المؤلف من خلال وصفه على نقاء الفطرة والسجية عند عبلة، وسلامة الاستعداد وصدق النية، إلى الإعداد لأمر مهم ظهر بعدُ عندما هجرت بيت وحشي، فبعد أن كشف أمر إسلامها لسيدها جبير أعطاها وحشيًا، ليذيقها صنوف العذاب، ولكنها فرت إلى نور الإيمان، ولم تكتف بذلك قبل أن تفارق "وحشي" فقالت له في حوارها معه: - دعني أفكر.." - إن سيدي نفسه لا يستطيع أن يحرمني من التفكير. - لقد أصابك مسّ من الشيطان. - أنت الشيطان نفسه .. إنك لم تعد ترى شيئاً .. لو دققت في مرآة لهالك التغيير الذي طرأ عليك" (قاتل حمزة: 53).
لقد هدف الأديب أن ينثر هذا الشذى العاطر لفكر عبلة، ومؤداه "أن السيد لا يملك من عبده سوى جهده وعمله، وعبثا يسيطر على فكره، وهذا بادرة في الإفصاح والاستعداد للدخول في الإسلام، فالعبودية لله عز وجل لا تعرف الرجوع والتقاعس والاسترخاء، وإنما تتوج بالهمة والعزة التعساء، ولا غرو فقد استنارت الفطرة لديها بألق الحق ونور الحقيقة.
أما وحشي فقد ظل فترة طويلة يتخبط في ظلمات الجهل ويهوي في دركات الشرك والكذب، فهو الذي أنكر فعلته لدى سيده، يوم أن اقتحم بيت جبير، وأقنعه بأنه ما فعل فعلته إلا لحنينه إلى المكان الأول، مما يؤكد اضطرابه ظاهرا وباطنا.
وشتان بين هذا الموقف وموقف عبلة، حين اعترفت لوحشي اعترافا يكاد يقضي عليها عندما قالت له: إن غيره قد شغل اهتمامها، دون أن ترى ضرورة للكذب عليه، لقد وثقت في الله عز وجل فلم تجد ما يدعوها إلى التحول عن التزام الصدق والحق في حديثها واعترافها، وهذا جزء من حوار دار بينهما: - إنني أحتقر حريتي وأفكارك .." قال وقد اشتعل جسده ناراً: - إن هناك رجلاً آخر ..." - أجل ..." دارت به الأرض، ولم يعد يرى شيئًا، واستحالت حرارة جسده إلى برودة وعرق، وخفقات في صدره، وتمتم في حزن بالغ: - من هو ؟؟". قالت في هدوء: - محمد.." صرخ في ارتياع: - من ؟؟" - إنني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... لم يستطع البقاء في مكانه، تراخت ساقاه وجلس على الأرض..(قاتل حمزة:56).
ويتخذ الأديب من هذا الوصف طريقاً لإظهار الصورة المشرقة للفتاة، التي تمسكت بها، وينبغي أن يحرص عليها المؤمن النموذج، تقوله له: - إنه نور انبثق في خاطري فجأة.. لا شك أن له هواجس قديمة في نفسي( انظر قاتل حمزة:60)، ويبرز الكاتب هذه المفارقة عندما يذهب وحشي إلى وصال ليعب من جحيم اللذة الآثمة، علّه ينسى تلك الطعنة النافذة، التي وجههتها إلى إليه عبلة (انظر قاتل حمزة 68، 71). وتلمس وصال في وجهه عبوسًا وتعاسة فتقول: " وبيتي هذا هو مكان العلاج لكثيرين .. إنني بغي، لكن لي رسالة سامية..." - أبغيّ وذات رسالة؟؟( قاتل حمزة:70) ففكره هنا يبدو صحيحًا ولكنه منحرف تجاه فكر عبلة وتوجهها... ويصور الأديب " وحشي" حائراً لا هدف له بعد حريته سوى الاستمتاع بماديات الحياة الفانية، ولا يتركه يعبر عن نفسه، ولكن يستبق الإيحاء إلى التدخل لإعلان ذلك(قاتل حمزة: 75).
وأما عبلة فيرتقى بها الفكر ونور الإيمان إلى آفاق الطهر، فلم يعد يشغلها سوى الإيمان، وتفضل الموت في سبيله مما جعلها تكره أن تخفى إيمانها على سيدها جبير (انظر:130: 131 السابق)، حتى صارت ترى محمداً عليه السلام بأشعة الحقيقة والإيمان، التي لا تمنعها قيود ولا تحجبها سدود، وهو الفكر الذي أراد المؤلف التأكيد عليه من خلال وصفه. وصياغته، فحين اجتمعت الإماء يتباحثن فيما بينهن، وقالت واحدة منهن: - من منكن رأت محمداً؟" ردت عبلة في فخر. - أنا!!" - كيف رأيته؟؟" - رأيت رجلاً على وجهه نور الصدق واليقين، وفي نظراته معنى التواضع والحياء..، ما سمع أحد كلامه إلا صدقه.. هكذا أظن.. يألفه الصغير والكبير، وينجذب إليه العدو والصديق..، لو سألني أحداً يوماً أتوسم فيه أن يكون نبياً فيمن لقيت من الناس طول حياتي لما اخترت غيره" (قاتل حمزة: 79).
ويمتد الحديث بين الإماء، وعبلة تسكت مرة، وتأبى إلا أن تتكلم مرة أخرى، إذ قالت عندما تحدثت إحداهن بما يوحي أن محمداً عليه السلام قاطع طريق: - يا غبيات، محمد ليس قاطع طريق، ولا ملكا طامعّا يريد أن يستذل العباد، ويوسع رقعة مملكته"( قاتل حمزة: 80). قالت إحداهن: - فماذا يكون إذن؟؟" قالت عبلة في إيجاز: - نبي.." - ماذا تعنين؟؟" - جاء يحمل لواء العدل والرحمة في ظل التوحيد لله" ( السابق:81).
وربما أباح الحوار عن رؤية عمد المؤلف إلى إظهارها، إنه يؤكد ما ترسمه الصورة لعبلة عند القارئ، وتتراءى لمحات الصورة التي رددها الحوار من آن لآخر (انظر السابق: 81، 82 وما بعدها).
- ومما تقدم من وصف لشخصية عبلة ووحشي نستشعر المفارقات الصارخة بين رؤى الروح المتعلقة بالمعنويات والقيم التي تجعل من العبيد أحرارًا يحلقون في سماوات الحرية من جهة، وتدني المادية التي تهوي بصاحبها إلى هوة العبودية السحيقة، وتحيل الحر عبدًا ذليلاً، تقوده ملاذه وتحركه جسدياته من جهة أخرى. ولعل الكاتب قد قصد الإيحاء بمعان من أهمها أن الحرية في ظلام الكفر هي عين العبودية، وأن العبودية الحقة هي عبودية الروح، وأن الهدى ينير الأرواح، فترفرف في ساحات لا تصلها أجسام هؤلاء السادة من الجاهلين الذي صاروا أذلاء، تحت وطأة أنانيتهم ولذاتهم وطغيانهم، وأن لمحات العناية الإلهية مأمن من كل المهالك.
ويتجلى مما جاء في الرواية قدرة السرد على تقديم صورة تبرز دقة الواقع المعاش، بما خط لها من أبعاد، وبما رسم من أطر، فقد لون شخصية عبلة برسوم وظلال توضح ما جمعت من كل ألوان النقاء والصفاء، التي لا يكون نبعها إلا من فيض إسلامي ثرّ، فهي التي حاولت مرارا (انظر السابق:129، 1311، 132) أن تبلغه بما لم يكن يطلع عليه حتى لو جمع البشرية للوصول إليه، وهي تعلم أن في صراحتها هلاكها، لكنها استنكفت أن تخادع كما خادع وحشي جبيراً من قبل، بل أصرت على إعلامه بإسلامها، بعد أن قاطعها أكثر من مرة، موقنًا أنها بعيدة كل البعد عن ذلك، وليست كما أبلغه وحشي بأنها فعلت ما يكرهه من الإيمان بمحمد عليه السلام، كما يتراءى من حديثها ( انظر السابق: 129، 131، 132).
وأستطيع القول بأن الوصف الضافي والحوار أضاءا دواخل شخصيات الرواية، بما قدما من جوانب اجتماعية وفكرية وسلوكية واستطاعا أن يركزا الأضواء بصورة قوية على شخصية عبلة، حتى أصبحت نموذجا طيبًا للفتاة المؤمنة، كما ضم السرد براعة التنزه بين الأساليب المختلفة، التي لون فيها حسب رؤاه العميقة للأداء ما بين سرد مشهدي، تتخفى فيه ذاتيته في كثير من الأحيان، كما تتخفى الأحداث مؤقتاً، ليعرض تداخل الشخصيات للحوار الداخلي، والاسترجاع والحوار، وتوظيف تقنية الموقف في تحليل نفسية الشخصيات وتداخلها ( انظر بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي، المغرب، 120)، وتلك مقدرة لا تتحقق غالبًا إلا لمن تفتحت مواهبهم على النهل من التراث العربي الأصيل.
- دور الحوار في تقديم الشخصية النموذج يقوم الحوار في الرواية بدور رائع دقيق، في تقديم الشخصية النموذج، في ظلال المواءمة بين الحقيقة والفن (أنظر الاتجاه الإسلامي في آثار باكثير القصصية والمسرحية، من مطبوعات جامعة الإمام 1409هـ)، فهو مولع بتمحيص أحداث التاريخ وتوظيف الصحيح منها، استشعاراً بعظمة مسئوليته تجاه رسم هذه الشخصيات تقدمة تشعر بالأهمية التاريخية للفنان، ودوره في عالمه الأدبي، ويلحظ ذلك المتمعن في جوانب الرواية، وحسبنا في ذلك أن نشير إلى رسمه للشخصيات النموذجية كما تقدمها الرواية التاريخية، بملامحها الدقيقة، في صورتها اللائقة المعبرة عن الحقيقة المستقاة من أشهر كتب التاريخ سلامة وأقربها إلى الصواب، فلقد أوحى وصف الأديب لجبير بما يعكس الشخصية ذات الهيبة والرهبة مخشية الجانب في كزازة وجبروت.
وتتراءى المرأة في السرد تحمل ملامح النموذج التطبيقي، ومن ذلك: أنه صور المرأة ذات النقاء والصفاء مستقيمة الفكر متسقة مع داخلها، وحقيقة ذلك التاريخية يجليها وصفه لشخصية عبلة، وأما النموذج المطابق للتسلط، وقوة الشخصية، ذات الجرأة في إبداء الآراء في المواقف التاريخية، والتي تشارك الرجال في اتخاذ الرأي، في أشد المواقف، يدفعها حقدها وحسدها وشدة الغيظ الذي يدفع بها عندما تعبث بها الأهواء.
هذا النموذج يتجلى في مواقف هند بنت عتبة، وأما ما قدمه الوصف في رسم الشخصية المضطربة التي تحركها الأنانية ويحجبها الجبن، ويحميها الرياء إلخ فإنه يتجلى في شخصية وحشي قبل إسلامه.
ويجمل أن نعود مرة أخرى لنجلي في قليل من القول الشخصية النموذج، في كمالها، وحزمها، وسياستها وعدلها، وشيمها وسماتها المعنوية، التي تفيض في كل المواقف، على النحو الذي سلف في حديثي عن عبلة، ومن أجل المواقف وأسماها مما حمله الحوار، هو عندما تسللت عبلة من بيت وحشي، بعد أن تحولت عبوديتها- كما زعموا- إليه واختفت عند هذه المرأة المؤمنة " أم رابح" ( قاتل حمزة: 167 وما بعدها). " الحمد لله كل شيء في سبيل الله يهون .." (السابق: 171).. وصمتت برهة ثم قالت: - لكن أمراً ما يكربني.." - ماذا..؟؟" - يجب أن يتسلم مالكي ما دفعه عند شرائي.." - أوه يا فتاتي. إن المشركين قد ابتزوا أموال المسلمين وطاردوهم، ومزقوا شملهم ودمروا تجارتهم.." قالت عبلة: - أعرف ذلك لكن الأمر يكربني ..." وقامت على ذلك بينما وحشي يبحث عنها في كل مكان ليمزقها. فأين هذا من موقف وحشي من عبلة على امتداد الرواية، ثم حقده يوم أن رأى محمداً عليه السلام وصحبه يتلألأ نور إيمانهم، وقد هزّ مجيئه أركان مكة، ثم موقفه من وصال" ( قاتل حمزة: 195/196) يوم أن طردته بعد أن هالها موقف الرسول عليه السلام وصحبه في مكة، فحطمت الكئوس، وأحرقت الفراش الملوث، واستعدت لمستقبل طاهر وطردت " وحشي" في كبرياء، وحتى خالد بن الوليد آنذاك يستصغر نفسه، ويندم على عدم سبقه إلى صحبة الرجل، وأحس بتضاؤل نفسه، وسارع إلى الدخول معه ( قاتل حمزة: 196)، أما وحشي فراح يشهّر بوصال، ويقابل عكرمة، ويتشفى في قتل الروم لزيد بن حارثة (قاتل: 207)، ويظل على جبروته وغشاوته حتى دخل في الإسلام، وبعدها راح يكفِّر عما جنت يده من قبل، حتى قتل مسيلمة الكذاب وقال: بحربتي هذه قتلت خير الناس بعد رسول الله حمزة بن عبد المطلب وشر الناس مسيلمة الكذاب (قاتل حمزة: مائتان وثمانية وستون). شعاع من الهداية الإلهية يحطم الجبروت والكبرياء ويسحق ما ران على قلوب القوم من خسران: لقد رسم الأديب أحداث النهاية الممتدة امتداد الواقع، من خلال خطين يتوازيان حتى ما قبل النهاية: الجبروت الماثل في " وحشي" فكلما توالت الأحداث المبشرة بالتغير وقوة الإسلام، زاد ذلك العناد والإصرار على المعاداة لمحمد وأصحابه عند "وحشي"، فعبلة تقول له " يا وحشي أنت حيوان مفترس" (قاتل حمزة: 149)، وتعترف له بإيمانها، وتظهر له نبؤتها في قولها" إنني انظر إلى المستقبل فأرى دولتكم تزول، وأرى أعناق الكفر في مكة تسجد وتسلم أمرها لله.... وأرى جنود الحق يهتفون بعبارات التكبير والتهليل في كل مكان، والقساة الغلاظ يفرون إلى جميع الأرجاء باحثين عن النجاة".
وتتوالى الأحداث على نحو يؤكد صدق النبؤة! إذ ذهب بعد شرائه لعبله وتأبيها عليه إلى وصال، فيرى أضواء التغير بادية في قولها وأفعالها، حتى لقد نصحته أن يرحل مع عبلة إلى حيث تشير عليه، وتأخذه العزة بالإثم، وتطارده الأوهام، ويقلقه خيال الشهيد بين الحين والآخر، وعلى غير عمد كانت ترسم عباراته أحيانًا ما ينم عن شيء داخله، فعندما ما خاطبه يهودي وساومه على قتل محمد عليه السلام قال: "أيها النتن تسخر مني... وتجعلني أداة لأطماع ملتك .. إنني أكرهكم جميعًا، كما يعترف قائلاً " إن قتل حمزة قد جلب علي شقاءّ لا مثيل له" (السابق:164) وتتلاحق الضربات التي توجهها إليه الأحداث، فحينما سمح أبو سفيان لمحمد وأصحابه بدخول مكة يستنكر وحشي ذلك في حديث بينه وبين أبي سفيان، فيرده أبو سفيان قائلاً: اذهب عني أيها المأفون ( السابق 179)، ويدعو جبيراً إلى نقض العهد وقتال محمد فينهره قائلاً: " هذا منطق العبيد والأنذال"(السابق 181) وتتلاحم خيوط الأحداث لتبرهن صدق نبؤة عبلة يوما بعد آخر، فها هو ذا " خالد بن الوليد" يصده بقوة عندما أخذ يخوض في المسلمين وضد محمد بقوله" اسمع يا عبد السوء أتعرف شيئاً عن الله" (السابق:193) ويسفه أحلامه، ويعود وحشي إلى وصال فيراها شاردة تصده عن الهوى ثم يعلم برحيلها إلى حيث لا يعلم أحد إلا الله، بعد أن مزق اعترافها بالميل إلى الإسلام دواخله، ويؤمن خالد ويذهب إلى يثرب، بعد ندم شديد على ما جناه من قبل ضد المسلمين بلا هدف، ويتقابل وحشي مع عكرمة ورجل من بكر، ويحث على نقض العهد مع خزاعة، وبعد الخيانة يرى أبا سفيان يسرع إلى المدينة مهادنا الرسول، ومعتذراً عن نقض العهد، ويعود بخفي حنين ويشاهد الموقف الخالد للرسول وصحبه عند فتح مكة، ويسلم أبو سفيان وزوجه وعكرمة وزوجه، ولا يزال وحشي يفكر في الهرب، ولا يزال سادراً في عناده وكفره، فعندما أخذ في الهرب إلى الطائف يجزعه خمسة من فرسان العرب، فيهرب بين خيوط جبنه، ويعرف أنهم من هوازن، فيسعد بهم، ويحرضهم على قتال محمد، ويحمل منهم رسالة إلى عروة بن مسعود، زعيم ثقيف، ويقابله سهيل مرة أخرى في الطائف، ويبشره بأنه مصالح للحق آخر الأمر، فيرد عليه وحشي بقوله " لن أسلم حتى يسلم أبوجهل في قبره" (السابق:245)، ويحاصر المسلمون الطائف بعد معركة مع خزاعة انتصروا في نهايتها، وتأتي الأخبار إلى الهاربين والفارين أن محمدًا يعفو عن التائبين، ويرد عليهم نساءهم ومالهم، ويسلم مالك بن عوف، ويعود عروة بن مسعود من اليمن، وينصح قومه بالدخول في الإسلام فيقتلونه، ويسر بذلك وحشي أيما سرور، وتضيق الأرض بوحشي فيقرر الانتحار بحربته، فيمنعه سهيل الذي أدركه وقابله من جديد، ويظهر البوح وترق الغلالة فجأة إذ أعلن وحشي عن مخاوفه من القصاص ويقنعه سهيل ويدور بينهما ما يلي: - سأموت..." - لسوف يعصمك الله..." - أنا لا أثق في أحد.... - لأنك لا تعرف الله...." وينطلق لسان الحق الكامن عند وحشي، أشعر أن ضوءًا قد سلطه الآن على قلبي لا أستطيع نكرانه، واشعر أن أفكاري مشكوفة ومقروءة للجميع، محمد على حق، يا سهيل أدركت ذلك بفكري وروحي منذ زمن بعيد، لكنني كنت أحاول أن أطمس الحقيقة (السابق:254) آمنت بالله ( السابق: 259)، ويغذ السير نحو السير، وهناك يقابل محمدًا عليه السلام، وتظهر دقة الإيحاء وسعته في توضيح مراد الكاتب، ونقل ما أراد تصويره يقول "وحشي" جئتك يا محمد أشهد ألا إله الله وأنك عبده ورسوله" ولأن كل المسلمين الداخلين في الإسلام يفرح بهم الرسول، نراه يبتسم، ثم يدقق النظر فتزل الابتسامة ويبدأ الألم والضيق على نفسه ويقول في تأثر: أوحشي أنت..؟". قال وحشي: نعم يا رسول الله، وبعد فترة صمت مليئة بمشاعر الألم والضيق التي لا تصورها الكلمات يعرف منه كيف قتل حمزة ويقول له القولة التي ظلت تؤلم وحشي حياته، "غيب وجهك عني"، ويتمنى أن لو قتل بيد حمزة ذاك اليوم الأسود، ولكنه يعود إلى الحب الشديد لمحمد وللإسلام ويسعد بسماعه من سيده السابق قوله له" أهلا أخي" ( السابق 262)، ويحزن حزنًا شديدا على وفاة محمد عليه السلام، وينذر نفسه للجهاد، أجل..لا نهاية للسفر.. ولن نترك إنسانًا حاقداً يطمس نور الحقيقة الكبرى" (السابق: مائتان وثمانية وستون).
وتختتم موقعة اليمامة ويصوب حربته نحو "مسيلمة الكذاب" فتهاوى الكذاب على الأرض وينتصر الحق، فيقول وحشي: بحربتي هذه قتلت خير الناس بعد محمد حمزة.. ابن عبد المطلب وشر الناس مسيلمة الكذاب، ويعود إليه الطهر الداخلي فيرى نفسه مع حمزة في الجنة، وهكذا عاش بقية عمرة مجاهدًا بطلاً، وهكذا تتراءى أضواء من القرآن الكريم خلف سرد المؤلف، كقوله تعالى: "من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء) الأنعام: 125، وقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران: 169، وهكذا شعاع من هدى الله يجعل الكافر وليًا، فمما تقدم يتجلى دور السرد الرئيسي في البناء الفني في الرواية.
نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(9-10) بتاريخ 1416 هـجرية.
المصدر (http://www.bab.com/articles/full_article.cfm?id=5027)
http://www.palintefada.com/upload/pic/beesssss.gif
http://www.mowjeldoha.com/mix-pic/borders/www.mowjeldoha.com-borders-150.gif
د. أبو شامة المغربي
http://aklaam.net/aqlam/images/e_mail.gif
kalimates@maktoob.com