المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)



د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:33 AM
يحيى حقي وجهاده في الفن:

بقلم: أحمد فضل شبلول

"جهاد في الفن" أحدث كتاب صدر من المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، عن الراحل الكبير يحيى حقي (1905 ـ 1992) إعداد الكاتب الصحفي مصطفى عبد الله الذي استثمر إحدى رحلاته مع يحيى حقي إلى روما، وقام بإعداد حوار مطول معه عن أعماله الإبداعية وآرائه النقدية ونظرته للكون والفن والحياة والناس والمجتمع، فضلا عن ملامح من سيرته الذاتية التي تضمنها هذا الكتاب الممتع حقا.
ولعل الأسئلة الذكية التي سألها مصطفى عبد الله، فتحت شهية كاتبنا الكبير للإجابة والاسترسال والتذكر والخوض في بعض قضايا الأدب والفن والترجمة التي ربما لم تكن بهذا الاتساع والعمق في كتبه الأخرى.
لقد تحدث حقي في هذا الحوار/الكتاب عن أسراره القصصية، وجهاده مع اللغة، وقاهرته، وتجربته مع الحياة، وذكرياته عندما كان رئيس تحرير مجلة "المجلة"، وعن الكتابة همسا، وصراع الكاتب مع اللغة، ونعمة الشعر، وبيضة الديك ويقصد بها "قنديل أم هاشم"، وغيرها من الموضوعات التي يمارس فيها يحيى حقي ثورته على كل لفظة أضيفت للمعنى بلا سبب، وفي هذا يقول للكتاب: "حينما تكتبون اقفلوا أفواهكم، واربطوا ألسنتكم، ولا تحركونها، لأن هناك كثيرا من الألفاظ ستخدعكم بموسيقاها".
وعن أسراره أثناء الكتابة، يقول حقي: "لا أستطيع أن أكتب بقلم رصاص".
وعن جهاده مع اللغة يقول: "إذا كان الزمن سيُنسي البعضَ آثاري ككاتب قصة وروائي، فلا أتصور أن يجور على جهادي مع اللغة، فقد خدمت العربية كثيرا، بمعنى أنني أخرجتها عن الميوعة والتشتت، واحترمتها أشد الاحترام، وقبلت يديها، وكأنها سيدتي الأولى، فهي صاحبة الفضل عليَّ".
إن يحيى حقي يذهب إلى أن الفن فوق النظريات، وأن الشعر دائما هو الأبقى، لأن الرواية أو القصة في أحيان كثيرة تختلطان بدراسات اجتماعية، فتزول الرواية إذا ما تغير المجتمع. وأن وظيفة الأدب الأولى هي الإمتاع عن طريق إحداث نشوة روحية تنتقل من الكاتب إلى القارئ.
ويعترف باعتزازه أنه قدم أربعة من شباب الأدباء في الإسكندرية، منهم محمد حافظ رجب الذي قدم له أولى مجموعاته القصصية "الكرة ورأس الرجل"، وفي الوقت نفسه يعترف أن نجيب محفوظ يعد من معالم مصر الأثرية، ويرى أنه مؤرخ الحياة المصرية في زمنه من خلال الثلاثية، واللص والكلاب وثرثرة فوق النيل.
وعند إحالة يحيى حقي الكتَّاب (ص 103) إلى بعض أمهات كتب التراث العربي مثل "المخصَّص" ذكر أنه للمبرد، وفي الحقيقة فإن المخصص بأجزائه العشرين لابن سيده الأندلسي، وليس للمبرد، وإنما كتاب "الكامل" هو الذي للمبرد.
إلى جانب ذلك ضمَّ الكتاب مجموعة مهمة من الشهادات لعدد كبير من المبدعين الذين عاصروا يحيى حقي من أمثال: نجيب محفوظ الذي يرى يحيى حقي أنه من شوامخ نهضتنا الأدبية، وفؤاد دواره الذي كان له الفضل الكبير في إعداد الكثير من أعمال حقي وإخراجها إلى النور، ود .لويس عوض، وإدوار الخراط، وفتحي غانم، وصبرى موسي الذي كتب سيناريو وحوار فيلم "البوسطجي" عن قصة "دماء وطين"، وجمال الغيطاني، وسعيد الكفراوي، وإبراهيم عبد المجيد، وعلاء الديب، وأشرف أبو اليزيد، ود. عبد الله عبد البديع، ومحمود عوض عبد العال، ومحمد روميش، إلى جانب قصيدة للشاعر د. أحمد تيمور كتبها عن يحيى حقي.
بدأ الكتاب بمقدمة مصطفى عبد الله "من روما .. إلى روما"، وكتبت كلمته الأخيرة نهى يحيى حقي التي أوضحت أن الكاتب مصطفى عبد الله كان في مقدمة من قربهم والدها إليه في سنواته الأخيرة، ومن ثم فقد أفاض إليه بالكثير من أسراره الفنية والذاتية.
وعلى ذلك فالكتاب يستعرض أهم وجوه يحيى حقي الإبداعية الثرية.
أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
*المصدر: موقع ميدل إيست أون لاين

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:34 AM
يحيى حقي وكتّاب زمانه

بقلم: جهاد فاضل

لم يكن يحيى حقي الذي تحتفل مصر في هذه الأيام بمرور مئة عام على ولادته، أديباً "مافياوياً" أو "شللياً" معنياً بتأليف قلوب المحررين الثقافيين حوله، أو زرع نفسه في وسائل الإعلام، على غرار الكثير من أدباء زماننا الراهن. ولعله كان في مثل هذا الزهد بزرع الذات، على مذهب أمين الريحاني الذي كان يتخذ من "قُلء كلمتك وامشِ" شعاراً له.. ومن ألطف ما سمعتُه عن يحيى حقي في الاحتفالية التي دعا إليها المجلس الأعلى للثقافة بمصر، أنه عندما كان رئيساً لتحرير مجلة (المجلة) التي كانت من منابر الثقافة الرفيعة، أنه كان يرفض نشر أية دراسة عنه أو عن أدبه في هذه المجلة، مع أنه كان باستطاعته أن يفعل العكس، وأن يكون رائداً لما هو سائد في المنابر الثقافية اللبنانية على سبيل المثال.. فلهذه الجهة كان يحيى حقي نموذجاً يُقتدى في إهمال الذات، كما في البحث عن خامات أدبية جديدة يقدّمها للناس. فمما أخذه عليه أساطين الأدب في عصره، أنه فتح صفحات (المجلة) لأدباء شبّان لا هم في العير ولا في النفير، بعضهم جاء إلى مكتبه "بالمجلة" من الصعيد وهو باللباس الصعيدي.. فنشر لهؤلاء، واعتنى بهم، وأرشدهم، حتى أصبحوا الآن أدباء معروفين. وعندما قيل له مرة: ولكنك كثيراً ما تُهمل أبحاث الأكاديميين لتنشر "لغيطاني" أو "الكفراوي"، كان جوابه أن مثل هذه الأبحاث الأكاديمية محلّها دوريات الجامعات، لا مجلات يفترض أن تكون مخصصة للثقافة العامة..
ويبدو أن علاقاته بقسم كبير من أدباء زمانه لم تكن على ما يرام. فأهمل بعضهم ولم يكتب عنه أو يشير إليه، ولو بحرف واحد، مثل يوسف ادريس، في حين أنه كتب عن كثيرين آخرين بقسوة حيناً، أو بغير قسوة حيناً آخر. ذلك أن من جوانب شخصيته كان هناك جانب الناقد. فكما كتب القصة - وهو قبل كل شيء قاص - كتب النقد أيضاً، وله في الجانب التطبيقي منه الكتب التالية:
- خطوات في النقد.
- فجر القصة المصرية.
- مطر الأحباب.
- أنشودة البساطة.
- هذا الشعر.
- عشق الكلمة.
- هموم ثقافية.
وقد أهمل يوسف ادريس إهمالاً كاملاً، وكأنه لم يسمع به، أو يقرأ له. وتفصح كلمة قالها مرة عنه، عن ازدرائه له ولسيرته من أساسها.. فعندما بلغه ذات يوم أن يوسف ادريس يحتج على فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل لأنه يرى نفسه - أي يوسف ادريس - أفضل منه وأحقّ بالفوز، وأنه إذا فاز كان سيحوّل الجائزة إلى أداة لمحاربة الاستعمار.. علّق يحيى حقي على ذلك بقوله: "اسدلوا الستار"! أي أن في مثل هذه الثرثرة المؤذية، ليوسف ادريس أولاً، ما يستوجب منعه من الاسترسال في تعليقات غير سوّية لا تجلب له سوى السخط والغضب.
وكما أهمل يوسف ادريس من ملاحظاته النقدية، أهمل قبله إبراهيم عبدالقادر المازني. مع أن للمازني جهوده في تحولات القصة القصيرة المصرية وما أضافه من أسلوب سلس، وتصوير حي للواقع المصري والإنساني وحسّ السخرية والتشاؤم اللذين تميزت بهما مجموعاته: "خيوط العنكبوت"، و"صندوق الدنيا" وسواهما. ولكنه تحدث مراراً عن رواية للمازني حققت شهرة عند صدورها، فقال إنها مأخوذة من رواية أوروبية. وهذا ما يفيد اشمئزازه منه..
ويبدو أنه كان هناك "شيء" بينه وبين توفيق الحكيم، فقد أخذ عليه نزعة تقليد الأجانب في لباسه وقيافته، وجلوسه طيلة يومه في المقاهي ومعه عصاه وحماره.. لقد كان ينتقد ويرفض النزعة الغربية لدى معاصريه من الكتاب والفنانين، ويسميهم "المتمصرين". ولم تكن علاقته طيبة بطه حسين أو بتوفيق الحكيم الذي كان زميله في كلية الحقوق. فقد قال لكثيرين إن توفيق الحكيم كان فيه من الشذوذ في مظهره ولبسه ما يلفت النظر، حتى قبل أن يلبس البيريه الفرنسي، إذ كان له طربوش قصير جداً على غير المعتاد كان يثير عجب يحيى حقي وهو يتطلع إليه!
كان نقد يحيى حقي الأساسي لهؤلاء الأدباء "المتمصرين" كما سمّاهم أو "المتفرنجين" كما يسمّون اليوم، ينصبّ على أن الأصالة مسألة جوهرية في الفن، وأن العمل الفني ينبغي أن ينتج من تراث وحياة الشعب الذي يعبِّر عنه، وبالتالي فإن أي استناد إلى فكرة أو موضوع من خارج هذا التراث يضعف العمل الفني ويجرده من قيمته. وبالنسبة له هو شخصياً، فقد كان حريصاً على الالتصاق بالجماهير الشعبية. وعندما تولّى إدارة مصلحة الفنون، عمد إلى إبراز الفنون الشعبية في المسرح والموسيقى.
ويبدو أنه كان في مصر في زمانه تيار من الفنانين والمثقفين يمتلك نظرة عميقة إلى الأدب والفن الغربيين، ولكن في نفس الوقت كأن مدركاً لأهمية أن يفهم الكاتب أو الفنان مجتمعه وجذوره الشعبية، وأن يكتشف سمات هذه الروح ويستقرئ فيها عمله وفكره. وكان من هؤلاء الفنانين المهندس الشهير حسن فتحي. ولم يكن غريباً أن تكون صداقته وطيدة بيحيى حقي، وكان ينشر في مجلة (المجلة) بعض مقالاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
*المصدر: صحيفة "الرياض".

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:44 AM
مئوية يحيى حقي
بقلم: وائل وجدي

أقيم في المجلس الأعلى للثقافة ؛ على مدار ثلاثة أيام – من 10 يناير إلى 13 يناير - احتفالاً بمناسبة مرور مائه عام على مولد المبدع الكبير الراحل يحيى حقي ؛ والذي ترك بصمه واضحة في الإبداع القصصي والنقدي . ويعد من المبدعين العظام ومن معلمي الأجيال ، ويدخل في كوكبة العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم. وشارك فيه 47 من الأدباء والكتاب المصريين ، و22 من المثقفين العرب ، والباحثة ميريام كوك .
وصدر على هامش الاحتفال : الأعمال الإبداعية في ثلاثة أجزاء ، وثلاثة كتب: "يحيى حقي تشريح مفكر مصري" لميريام كوك ، ترجمة خيري دومة ، "جهاد في الفن" لمصطفى عبد الله ، "عطر القناديل" لمجيد طوبيا .
ولقد ولد الكاتب الكبير يحيى محمد إبراهيم حقي في 7 يناير 1905 ، بحارة الميضه بالسيدة زينب ، وكان تعلمه الأولي في كتاب "السيدة زينب" ، وفي مدرسة أم عباس الأول خديوي مصر . حصل على الثانوية من مدرسة الخديوي الثانوية عام 1921 ؛ ثم تخرج في مدرسة الحقوق المصرية – كلية الحقوق – عام 1925 ، وبعد ذلك عمل معاون نيابة في منفلوط ، وانتقل إلى السلك الدبلوماسي ؛ حتى أنشئت مصلحة الفنون ، وعين لها مديراً عاماً ؛ وبعد ما ألغيت أصبح رئيساً لتحرير مجلة "المجلة" ؛ حتى عام 1970 . منح جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1969 ، وكرمته جامعة المنيا ، ومنحته الدكتوراه الفخرية عام 1983. وفي عام 1989 حصل على جائزة الملك فيصل في الآداب .
كتب الأديب الكبير : القصة ، الرواية ، النقد الأدبي ، وترجم عدة مؤلفات . أول قصة نشرت له ؛ كانت موسومة : "فله – مشمش – لولو" في صحيفة الفجر القاهرية في 15 /7/1926 ، تلا ذلك نشر ما كتب في الصحف والمجلات المختلفة ؛ وصدرت له : دماء وطين ، قنديل أم هاشم ، أم العواجز.. وتعتبر قصة : قنديل أم هاشم ؛ أشهر ما كتب ، ويقول الأديب الكبير يحيى حقي عنها : " .. القصة نفسها لا قيمة لها في نظري ، والحادثة ليست جديدة على المجتمع المصري ، وقد كتب عنها عبد الله النديم ، وموجودة منذ الحملة الفرنسية .. وقد يكون فيها افتعالاً .. ولكن الذي يهمني في قنديل أم هاشم أن يتنبه القارئ إلى وصفي لميدان السيدة زينب . فقد وصفته بعيون ثلاثة : عين محايدة ، وعين غاضبة ، وعين راضية ؛ فيجب أن يتأمل القارئ كيف انعكس هذا الشعور على الأسلوب ، ليس معقولاً أن نقرأ قصة أو رواية مكتوبة كلها بأسلوب واحد ونغمة واحدة مع أنها تنتقل من حالة إلى حالة ، ويجب أن يكون هناك أسلوب يتناسب مع كل حالة نفسية .. "
وبخصوص الرواية : كتب البوسطجي ، وصح النوم ، ويقول عن رواية صح النوم : " أنها أحب أعمالي القصصية على نفسي ؛ لأنها تطبيق صارم للمبدأ الذي أنادي به بضرورة التزام الدقة والعمق في أسلوب الكتابة . وكدت في هذه الرواية أن أصل إلى حد القضاء على البحبحة وأحسست أن معي أستيكة وبدلاً من أن أمسح الكلمة أخرق الورقة ‍‍‍‍‍.."
أما بالنسبة للنقد الأدبي ، فله عدة مؤلفات في هذا المجال ، منها : خطوات في النقد ، فجر القصة القصيرة ، عطر الأحباب ، هموم ثقافية .
ومن ناحية المؤلفات ؛ التي ترجمها : ترجم المسرحية ، والرواية ، منها : "مسرحية الدكتور كنوك" لجول رومان ، ورواية "لاعب الشطرنج " لستيفان زفايج .
وبحق ما دونته – في الأسطر السابقة – لا يعدو أن يكون قطرة في محيط .. وآثرنا أن نختم حديثنا بقول المبدع الكبير يحيى حقي – رحمه الله - : " وأنا أفضل وأحب أن ينسى عملي كقصصي ، ولكن لا بد أن يذكر لي أنني خدمت اللغة العربية كثيراً . بمعنى أخرجتها عن الميوعة والتشتت ، وعن المترادفات ، واحترامها أشد الاحترام ، وتقبيل يديها كأنها سيدتي الأولى ؛ فهي صاحبة الفضل علي" .
الهوامش :
1 – مجلة القصة – القاهرة – العدد 44 إبريل 1985 .
2 – مجلة الهلال – عدد فبراير 1985 .
3 – مجلة الشموع العدد الأول والثاني مارس وإبريل 1986
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصدر: عن موقع "أفق".

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:45 AM
حيى حقي ( 1905 - 1992م)
بقايا عطر الأحباب

بقلم: نهى حقي

لم يكن يحيى حقي أديبًا عاديًا, كان قارورة من عطر الأدب وشجن الكلمات. لمساته الإبداعية والنقدية والإنسانية عبقة. تبقى بعد أن يرحل كل شيء. لم يمارس فن الكتابة فقط ولكنه كشف كل أسرار موهبته وصناعته. وأمسك باللغة الدارجة التي نتحدث بها جميعًا وحوّلها فيضًا شعريًا بالغ الرقي. إن العالم العربي واليونسكو والعديد من المؤسسات الثقافية تتشارك هذا العام في الذكري المائة لمولد هذا الكاتب الكبير ولم يكن لـ (العربي) أن تتخلف عن هذه المناسبة.
أبي.. ثمرة حب
هذه الثمرة المليئة بالخبرات والذكريات, لها في نفسي شعور بالاعتزاز والفخر.
أريد أن أقدم صورة لوالدي, ولكن كيف أقدمه, وبأيّ صورة أصوّره, ومن أين أبدأ? بالطبع ليست الصورة الظاهرية التي أعنيها, لكن الصورة العميقة التي رأيتها, الإنسان قبل الفنان, الأب قبل الصديق, المفكر قبل الأديب, إنها دائرة متصلة.
فيحيى حقي يحسن استقبال ضيوفه ومريديه, يفتح لهم الباب على مصراعيه يستقبلهم بابتسامة وديعة مطمئنة, وفي ثوان معدودة يدخل قلبك ويصبح صديقًا يحتل مكانة عالية في حياتك, وهكذا كان يحيى حقي في كتاباته.
فمنذ السطر الأول تنشأ علاقة وطيدة بينه وبين قارئه, وليس هذا غريبًا على رجل مثله أن تكون له هذه المنزلة الكريمة في قلوب الناس يستوي في ذلك الأدباء والبسطاء والكادحون الذين لا صلة لهم بالأدب.
ويحيى حقي الأديب يواكب بشغف كل كلمة تخرج من محراب الفكر, بتأمل الأستاذ وحضوره في كل المحافل الأدبية والفكرية, حتى أنني لا أنسى آخر مشاركة له في مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم عام 1991 الذي أقيم ببورسعيد والذي أرسل لهم كلمته بقوله:
(أصبحت قادرًا أن أجمع أجيالاً ثلاثة في تحية واحدة أناديكم أخوتي - أبنائي - أحفادي... ولعل بينكم أبناء الأحفاد لا أناديهم لأنهم مشغولون عنا بالامتحانات.
لن يحجزني عنكم إلا الشديد القوي, والعجيب أن هذا الشديد القوي ما هو إلا وهن العمر, وعجزه, وهي يجب أن تتجمّل بالستر وترفض أن أجرجرها ورائي, وبخاصة إذا خرجت لأتفاصح وأتفلسف وأتمشدق وأبيّض الدرر, ولكني من بعيد أتمثلكم جميعًا كأنني بينكم وأقول, وهاقد وجدت أسرتك, ما أسعدك بلقائها ونحن أعضاؤها والذين يهيمون بالجذل الروحي وبالطرب للجمال!).
(هذا النادي يجمع الأحياء بأبدانهم, والسابقين بأرواحهم, وأول الأعضاء هو أحبّ أجدادي إليّ, جدي ساكن الكهوف الذي عرف أعظم النعم نعمة تذوق لذة الكشف الأول التي حرمنا منها.
فلا إبداع إلا إذا تلقى الفنان كل مافي الوجود حوله بدهشة.
وجدنا الأول ترك لنا على جدران الكهوف, فعلمنا ما هي التجربة في الفن وكأنه هو أول من قال لنا: هذا الوجود كما أراه لا كما يبدو, إنني أتوهّم ولكنه وهم مفض إلى الحقيقة. إني أتصوّر أن جدي هذا هو أول من كتب القصة حين كذب أول كذبة, فمعنى الكذب هنا أنه كان يرى كل ما في الوجود من حوله يسير على وتيرة لا دخل له فيها, ولا تخضع لإرادته, ثابتة ثبوت الأزل, فقال لهذا الوجود تريّث لحظة أستطيع بها أن أغيّر الترتيب, فأزعم أن حادثة وقعت وهي لم تقع, وأن لها نتائج بدت وهي كاذبة كأنها حقيقة واقعة).
هذا هو يحيى حقي من داخل عالمه التأملي والفكري ووجدانه نحو الوفاء الشديد للقلم.. والبحث الشديد للكلمة واحترامه لها مما يجعله يجتهد أشد الاجتهاد لكي يضعها في قالبها المطلوب فلا كلمة زائدة أو كلمة في غير مكانها, لأنه ينادي بضرورة الالتزام بالدقة والعمق في أسلوب الكتابة فلا يوجد لفظ واحد يتكرر في صفحات كاملة. هذا هو الثراء في المعاني والأحاسيس التي تتطلب ألفاظا لا تتكرر. ولأنه صاحب هذه المدرسة والتي أطلق عليها عنوان الأسلوب العلمي الحديث في الكتابة.. وبالإضافة إلى عشقه الجم للغة العربية الفصحى فهو لا ينكر العامية الرقيقة المتمثلة عنده في الأمثال والأغاني الشعبية, وعشقه الشديد لأصوات الباعة المتجولين الذين ينادون على بضاعتهم بكلمات يطرب لها بإعجاب شديد.
وعن كتاباته فقد عالج معظم فنون القول من قصة قصيرة ورواية ونقد ودراسة أدبية وسيرة أدبية ومقال أدبي, كما ترجم عددا من القصص والمسرحيات.. لكن على ما أظن تظل القصة القصيرة هي حبه الأول لأنها تقوم, كما يقول, على تجارب ذاتية أو مشاهدة مباشرة, كما أن عنصر الخيال فيها قليل جدا.
إعلاء الإرادة
إن أهم ما تميزت به قصصه الإعلاء من شأن الإرادة وجعلها أساسا لجميع الفضائل, فالعالم في نظره معركة كبيرة والسلاح الأول الذي يستخدمه الإنسان في خوضها هو الإرادة.. ما أكثر ما وصف شخصية رجل طيب ولكنه ضعيف فتكون النتيجة الحتمية أنه يجزر جزرا.
ثم الشغف الشديد بالدراسات والتحليلات النفسية وتراجم كبار الفنانين المصابين بتمزقات روحية ونفسية, ومن القصص التي يتضح فيها ذلك قصة (الفراش الشاغر) وقصة (سوسو) و(مرآة بغير زجاج), كما أنه دائما ينبهنا لمفارقات الحياة وأول هذه المفارقات جبروت الإنسان وضعفه في وقت واحد. من هنا تنشأ نغمة السخرية التي تسري في كثير من قصصه أما اهتمامه الجميل في نظري وأنا أقرأ له وصفه للحيوان (قصة (فلة مشمش) وقصة (عنتر وجولييت) ووصف الحمار في (خليها على الله) والجمل والبقرة في (صح النوم).
هذا الكاتب الإنسان, أقول بفخر, هو أول من استخدم (الفلاش باك) أي البدء بالأحداث المتأخرة في القصة, وهذا ما حدث في مجموعة (دماء وطين), كما استخدم الشكل الدائري في قصته (السلحفاة تطير) فانتهت القصة حيث بدأت.
أما المرأة عنده فقد كان رقيقا معها ويحترمها ويعاملها معاملة غاية في السمو, كما كان يحب أمه حبًا عظيمًا, ويصفها بأنها كانت المحرك الذي يحرك البيت والأم التي تعشش على الأبناء وتعمل كل ما في وسعها من أجلهم.. يحترم المرأة ويحترم فكرها ويحترم إنسانيتها.
وختاما أذكر تأملاته وكلماته.. وأقواله.. وأحب الأقوال إلى نفسي الذي كان يردده:
(أكره الأبواب الموصدة والنوافذ المغلقة والأدراج المعصلجة والشفاه المطبقة.
أحب السحابة الرقيقة التي تقبل أن تذوب وهي تقول لشمس الصيف سأكفكف من جبروتك, أحب الأصابع السرحة في راحة اليد المنبسطة مخلوقة للبذل للعزف للتربيت بحنان.
وأستمخ من نجم الحفلة من أجله ذهبت إليها وعدت مرتويا من فيضه ولكن قلبي مع الكومبارس الواقف إلى الوراء في الظل).
وهكذا الأيام تأتي وتمر..
وهكذا الدنيا تدور وتسير..
وهكذا الأحلام تخفق وتتحقق..
وهكذا الكلمات تبقى وتحيا..
وهكذا المعاني تعيش دهرا وزمنا..
وهكذا وهكذا وهكذا..
وهكذا تكون أنت يحيى حقي..
في خلجات النفس جالسا..
وفي عيون الأدب نابضا..
وفي قلب الفكر ساطعا..
وفي روح المشاعر نبعا حانيا..
وفي وجدان الراحلين حيا ذاكرا..
وفي قلب نهى نبضا حانيا..
وفي الرواية العربية فارسا مغوارا من فرسانها

بقلم: نهى حقي
.....................

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:46 AM
يحيي حقي وصانع القباقيب‏!‏

بقلم : رجاء النقاش
.......................

كانت ثوره‏1919‏ في مصر ثوره متميزه جدا‏,‏ فقد كانت ثوره شعبيه من الالف الي الياء‏,‏ وكانت هذه الثوره هي التي اوجدت زعماءها ولم يوجدها الزعماء‏,‏ فسعد زغلول ورفاقه ليسوا هم الذين صنعوا ثوره‏1919,‏ بل ان هذه الثوره هي التي صنعتهم‏,‏ لان صناعه الثوره اصلا كانت بيد الشعب‏,‏ وذلك علي العكس مما حدث في الثوره العرابيه سنه‏1882,‏ وفي ثوره يوليو سنه‏1952,‏ حيث ظهر الزعماء اولا ثم جاءت الثوره بعد ذلك‏.‏ وهذه الميزات الاساسيه لثوره‏1919‏ وعلي راسها الشعبيه والاجماع عليها بين طوائف المجتمع وطبقاته كلها والبعد التام علي اي عنصر رسمي فيها جعل لهذه الثوره الفريده انعكاسات واسعه جدا علي الاداب والفنون والافكار وحركات التجديد الاجتماعي‏.‏
وهاهو توفيق الحكيم في كتابه فن الادب يحدثنا عن جانب من جوانب هذا التاثير الشامل لثوره‏1919‏ فيقول صفحه‏52:‏ لقد انكشفت لعيني وقلبي معجزه مصر عام‏1919‏ ورايت الثوره في كل مراحلها تسفر عن روح خفيه باقيه ابد الدهر‏,‏ نابضه تسعف مصر بين حين وحين‏.‏
ظل هذا الشعور يلاحقني حتي سجلته في روايه عوده الروح فالمعروف ان الثورات لاينطبع اثرها الا علي قلب جديد ملتهب‏,‏ ولايملك هذا القلب الا الشباب في فوره شبابهم‏,‏ لهذا كان سيد درويش ابن الثوره هو قلبها الجديد الملتهب الذي تاثر بها‏,‏ واخرج فنا قاد به الموسيقي الشرقيه الي افق جديد‏.‏
هذا بعض ما قاله توفيق الحكيم في تفسيره لعبقريه سيد درويش‏,‏ ويقدم هذا التفسير علي ان سيد درويش كان ابنا لثوره‏1919‏ وثمره من ثمارها‏,‏ والحقيقه ان هذه الثوره كان لها ابناء كثيرون من نفس قماشه سيد درويش منهم توفيق الحكيم نفسه‏,‏ خاصه في روايته الرائعه والرائده عوده الروح ومنهم نجيب محفوظ في هرمه الروائي الاكبر وهو الثلاثيه‏:‏بين القصرين قصرالشوق السكريه‏.‏وانا لا امل ابدامن قراءه عوده الروح والثلاثيه فهما قمتان عاليتان في الروايه العربيه لا تزيدها الايام الا نضاره وعذوبه وصفاء فنيا غير محدود‏,‏ وكثيرا ما ارجع الي قراءه هاتين الروايتين كلما احتجت الي بعض الشفاء لنفسي الوطنيه‏,‏ او لنفسي الاخري التي تحب ان تسمع الموسيقي الصافيه مرارا وتكرارا‏.‏ وفيعوده الروح والثلاثيه كثير من هذه الموسيقي الصافيه‏.‏
ولقد كان من اكبر واعز ابناء ثوره‏1919‏ اديبنا الفنان الشاعر العازف المورخ المفكر الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده وهو يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ فقد كان يحيي حقي في تكوينه الاصلي ثمره من ثمرات ثوره‏1919,‏ وهو احد عشاقها الذين عاشوا فيها‏,‏ وقد كان في الرابعه عشره من عمره عند اشتعلت هذه الثوره ولكنه كان يشارك في المظاهرات‏,‏ وكان شغوفا بان يعرف كل شئ عن هذه الثوره‏,‏ وعندما كتب عنها في الذكري الخمسين لها‏,‏ سنه‏1969,‏ وضع يده علي بطلها الاصلي الذي لا يفوقه شخص اخر في بطولته‏,‏ واعني به المواطن الشعبي العادي الفقير صاحب الاسم المجهول والذي دفع من دمه وحياته ثمن هذه الثوره بالكامل‏.‏ ولعلي لم اقرا صوره هزت قلبي هزا عنيفا عن ثوره‏1919‏ مثل هذه الصوره التي رسمها يحيي حقي لاحد الابطال الشعبيين الشهداء في ثوره‏1919,‏ حيث يكتب تحت عنوان ابن القباقيبي من كتابه الرائع صفحات من تاريخ مصر صفحه‏233.‏
كانت ثوره‏1919‏ ثوره لان الناس بدات تالف لاول مره كلمه الشعب تنطقها بكسر الشين لاباس لم تكن ثوره مثقفين وحدهم او فلاحين وحدهم او عمال وحدهم‏,‏ بل ثوره الشعب كله اتحد في عجيه واحده زالت الفروق‏.‏
لم تعد كلمه فلاح سبه مع انها كانت كذلك منذ قليل‏,‏ لذلك كان حنقنا شديدا ونحن نسير في المظاهرات ان نجد الصحف الاوروبيه‏,‏ وبالاخص الانجليزيه تصف هذا الشعب الثائر بانه من الغوغاء وانه طغمه من الرعاع‏,‏ هكذا بلا حياء الي اليوم لا ازال اذكر الوقع الاليم لهذه الكلمات في قلبي وانا صبي‏,‏ لاشك ان كل انسان كان حاله مثل حالي‏,‏ شعور متقد يطلب الشفاء‏,‏ يطلب بطلا يخرج من صفوف الشعب‏,‏ ولم يكن يدور بخلدي ان هذا البطل سوف يكون صبيا يقيم بالقرب من داري كان في مثل عمري‏14‏ سنه‏..‏ الفارق انني ببدله فوق قميص وهو بجلابيه علي اللحم‏,‏ وانا البس حذاء وهو حاف‏,‏ رغم ان مهنه ابيه هي صناعه القباقيب‏.‏ من صفوف الرعاع في نظر الصحف البريطانيه خرج البطل الشهيد الذي ثار لكرامتنا ورد الصفعه‏..‏ ردها ايضا عن خدي انا
ثم يقول يحيي حقي عن هذا البطل الشعبي الصغير المجهول‏:‏ تعال نصل من منزلنا الي دكانه‏.‏ كنت اعرفه وامر به‏,‏ كلما ذهبت لزياره السيده سكينه والسيده نفيسه‏.‏ دكان مظلم طويل عريض‏.‏ هذا هو مصنع قباقيب الحي‏,‏ وسيله طائفه من فقراء المدينه لمقاومه الحفاء‏,‏ وبعض المتيسرين لدخول الحمام‏,‏ وينتقل يحيي حقي بعد ذلك الي لون عذب من الغزل في القبقات‏,‏ فهذا القبقاب هو تفصيله من التفاصيل الشعبيه التي كان يحيي حقي مغرما بها‏,‏ حريصا علي الوقوف امامها وتاملها والعنايه الشديده بوصفها‏.‏ وعن هذا القبقاب يقول يحيي حقي‏:‏ لا تستهن بهذا القبقاب‏..‏ لو لبسته فتاه معجبانيه اصبح في قدميها كالصاجات في يديها‏,‏ اذا مشت به كان لوقعه علي الارض نغمه كلها دلال انه ايضا يكشف الكعب المحني‏,‏ رباني لا اصطناعي‏,‏ ولصاحب الدكان ولد وحيد‏,‏ هو كل امله واعتماده اذا اعجزته الشيخوخه‏,‏ ولد تجمع نظرته بين الخوف والفرعنه‏,‏ بين الذل وحب المعابثه‏,‏ اذ ينتزع لهوه الفارغ من بين براثن وحوش مفترسه‏,‏ هي ابوه وحياه الشقاء والعناء‏.‏
ثم يصل بنا يحيي حقي الي اللحظه الفاصله في حياه هذ النموذج الشعبي فيقول‏:‏ وقع الاختيار علي هذا الولد الوحيد‏.‏ سقط قتيلا برصاص الانجليز في مظاهره امام الدكان فسار معها يردد هتافاتها‏,‏ فخرجت له جنازه مشهوره في تاريخ الثوره بانها جنازه ابن القباقيبي سار فيها الشعب كله‏,‏ من مستشارين وقضاه ومحامين‏,‏ الي الطلبه الكبار والتلاميذ الصغار‏,‏ الي صفوف غفيره اخري من ابناء الشعب‏.‏ كنا نريد بهذه الجنازه ان نقول لصحافه الانجليز‏:‏ انظري الرعاع يشيعون بطل الرعاع‏.‏ وهذه الجنازه لم تشبهها جنازه اخري طوال الثوره‏.‏
ثم يقدم الينا يحيي حقي ختام معزوفته الجميله فيقول‏:‏
ماذا كان اسمه؟ اين قبره؟‏.‏ لا احد يدري‏.‏ كم عدد شهداء ثوره‏1919‏ ؟ لم يجر الي اليوم احصاوهم مع الاسف‏,‏ ولا تخليد اسمائهم في سجل شرف‏,‏ دع عنك اقامه نصب تذكاري يفي بحقهم علينا‏.‏ تمنيت ان يقام هذا التمثال‏,‏ وان يكون تمثالا لصبي بجلابيه يمسك في يده المرتفعه فرده قبقاب‏!‏
ذلك ما نادي به يحيي حقي سنه‏1969,‏ بمناسبه الذكري الخمسين لثوره‏.1919‏ والان ونحن نحتفل بالذكري المئويه لميلاد يحيي حقي اكاد اسمعه ينادينا ويعرض علينا الفكره نفسها وهي اقامه تمثال في احد الميادين العامه لصبي بجلابيه يمسك في يده المرفوعه فرده قبقاب فهذا الصبي هو رمز حي لابن الشعب المجهول الغلبان الذي لايطلب مجدا ولا شهره ولاثروه‏,‏ ومع ذلك فهو لايتردد عن بذل روحه والتضحيه بنفسه اذا كانت هناك قضيه عادله تناديه وتحتاج اليه‏.‏ وفكره يحيي حقي رائعه‏,‏ وهي تستحق ان نويدها ونتمني تحقيقها علي يد فنان موهوب وطني من احفاد مختار‏1891‏ ‏1934‏ الذي جعل الحجاره ترقص وتغني وتعزف‏,‏ وذلك من خلال تماثيله الشعبيه التي هي سيمفونيات علي الحجاره‏,‏ وتمثال لصانع القباقيب الشهيد لايمكن ان يبدعه الا حفيد من احفاد مختار‏.‏ اليس مختار هو الذي جسد شخصيه مصر في صوره فلاحه تلبس الطرحه وتنظر بوجهها الباسم الصابر الجميل الي المستقبل؟ لو ابدع لنا فنان موهوب ذلك التمثال الذي كان يتمني يحيي حقي ان يراه‏,‏ فلن يكون عجيبا ان يظهر يحيي حقي نفسه بيننا مره اخري‏,‏ وكانه سقراط العربي الذي يحب الناس ويعشق الحوار الهادئ مع الجميع دون ان يفرض رايه عل
ي احد‏.‏ يومها سوف ينظر يحيي حقي الي تمثال صانع القباقيب ويقول‏:‏ نعم‏..‏ هذا البطل المجهول والمواطن الغلبان هو الذي يمثل مصر فصانع القباقيب عند يحيي حقي هو الاصل‏,‏ والباقي كله عاله علي هذا البطل المجهول‏.‏

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:47 AM
ثروت عكاشه ينقذنا من فضيحه ثقافيه

بقلم :رجاء النقاش

هذه قصه وقعت تفاصيلها في اواخر الخمسينات من القرن الماضي وكان موضوعها هو يحيي حقي‏,‏ اديبنا الموهوب العظيم الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده سنه‏1905‏ وقد عرفنا يحيي حقي الذي رحل عنا سنه‏1992‏ رجلا مسالما لايعادي ولا يخاصم ولا يحب لنفسه ان يكون طرفا في اي صراعات او معارك‏,‏ كما انه كان رجلا حريصا علي استقلاله‏,‏ رافضا كل الرفض للاشتغال بالسياسه والدخول في امواجها الصعبه العاتيه‏,‏ وقد اتخذ هذا الفنان الكبير لنفسه ما يشبه الشعار لحياته كلها يقول فيه‏:‏ خليها علي الله‏,‏ وهو الشعار الذي جعله عنوانا لقصه حياته او سيرته الذاتيه‏.‏
هذا الاديب الكبير المسالم‏,‏ صاحب الصدر الواسع والاخلاق المتحضره العاليه‏,‏ والنفس العفيفه التي ابتعدت به تماما عن اي منافسات من اي نوع‏,‏ لم يسلم من الاذي الذي اصابه في اواخر الخمسينات من القرن الماضي‏.‏ والقصه مولمه للنفس‏.‏ والذي يرويها وكان شاهدا عليها هو الدكتور ثروت عكاشه احد رجال الصف الاول في قياده ثوره يوليو‏1952,‏ وهو القائد الاكبر لهذه الثوره في ميدان الثقافه‏,‏ فقد كان وزيرا للثقافه في المره الاولي التي تولي فيها هذا المنصب من نوفمبر سنه‏1958‏ الي سبتمبر سنه‏1962,‏ ثم تولي نفس المنصب سنه‏1966‏ وحتي سنه‏1970.‏ والمنصفون جميعا يشهدون للدكتور ثروت بانه موسس ثقافي عظيم‏,‏ ويكفي ان اشير هنا الي عباره للشاعر والاديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي حيث يخاطب ثروت عكاشه فيقول عنه انه انسان رائع ومناضل جعل من ثقافتنا الوطنيه قلعه تحمي شرف الانسان وكبرياء القلب الذي يحلم بالمستقبل‏,‏ والذين عاشوا مثلي في العصر الثقافي لثروت عكاشه يصدقون عباره الشرقاوي حرفا حرفا وكلمه كلمه‏.‏ ولولا وجود ثروت عكاشه علي راس وزاره الثقافه في تلك الفتره‏,‏ من‏1958‏ الي‏1962,‏
ولولا شجاعته ومعرفته بالواقع الثقافي وضميره الحي لوقعت فضيحه ثقافيه كان لابد ان يسجلها التاريخ بكثير من الاسف عليها والغضب منها‏,‏ وكان لابد لهذه الفضيحه ان يكون لها صداها العالمي فتصبح فضيحه ثقافيه دوليه ومحليه في وقت واحد‏.‏ وهذه القصه يسجلها الدكتور ثروت عكاشه في كتابه الشهير مذكراتي في السياسه والثقافه الطبعه الثالثه دار الشروق صفحه‏398‏ حيث يقول‏:‏ لم يكن مضي علي تعييني وزيرا اكثر من شهرين عندما اتصل بي سكرتير رئيس الجمهوريه يدعوني الي لقاء عاجل مع الرئيس عبدالناصر الذي ما ان لقيته حتي طلب مني الاستماع الي شريط صوتي مسجل لمجموعه من الاشخاص انهالوا علي شخص الرئيس بالشتائم البذيئه ناعتين اياه باحط الصفات‏,‏ وسالته مندهشا عمن يكونون‏,‏ فذكر لي اسم احد الوزراء واسم اديب رائد مرموق‏,‏ وانه استغني عن خدمات الوزير‏,‏ وامر باعتقال الاديب الشيخ‏.‏ ولما سالته عن الغرض من دعوتي للاستماع الي ذلك التسجيل‏,‏ قال ان يحيي حقي رئيس مصلحه الفنون كان موجودا معهما ويتعين احالته الي المعاش‏,‏ فبادرته بقولي‏:‏ لكن الواضح من الشريط الصوتي انه لم يشارك في هذا السباب‏,‏ وهو رجل مشهود له بعفه اللسان ودماثه الخلق‏,‏ فضلا عن انه اديب مرموق ومحبوب‏,‏ وتوقيع العقاب ظلما علي هذا النحو سوف يكون له اثر سييء في اوساط المثقفين وعامه الشعب علي السواء‏,‏ فقال‏:‏ ولكنه كان موجودا ولم يعترض‏,‏ وهذا يكفي‏,‏ فناشدته ان يترك الامر لي حتي اعالجه باسلوب مناسب‏,‏ فوافق‏,‏ مقتنعا‏,‏ بعد الحاح‏.‏
وقد عالج الدكتور ثروت الموضوع بمنتهي الحكمه‏,‏ حيث يقول‏:‏ اسندت الي يحيي حقي الاشراف علي مركز تدريب العاملين بالوزاره‏,‏ كما اسندت اليه بجوار ذلك منصبا مهما بدار الكتب‏,‏ ثم رئاسه تحرير مجله المجله حتي لا يشعر بغربه عن عالمه في مجال الفكر والادب والفن‏,‏ فقبل مني ما عرضته عليه بدماثته المعهوده‏,‏ وطبعا كان ذلك كله بعد اعفائه من منصبه كمدير لمصلحه الفنون‏.‏
ثم يعلق الدكتور ثروت عكاشه علي ما حدث تعليقا مهما يقول فيه‏:‏ اروي هذه الواقعه لاصل الي تاملي فيما وقع من مبدئه الي منتهاه‏,‏ وانا بطبيعه الحال ارفض بذاءه القول للتعبير عن الخلاف في الراي‏,‏ ولكني ادركت من ناحيه اخري ان التجسس علي الوزراء واحصاء تحركاتهم وسكناتهم واسرارهم الشخصيه كان امرا يتساوي مع التجسس علي المجرمين والخارجين علي القانون‏,‏ وكان هذا درسا وعيته كوزير حديث العهد بالمنصب‏.‏
هذا ما قاله الدكتور ثروت عكاشه ويمكننا ان نعلق عليه بما يلي‏:‏
اولا‏:‏ لاشك ان الدكتور ثروت عكاشه بموقفه المسئول والشجاع قد انقذ مصر من فضيحه ثقافيه مدويه‏,‏ وذلك لان يحيي حقي في تلك الفتره‏,‏ واعني بها اواخر الخمسينات من القرن الماضي قد بدا يحظي بشعبيه واسعه بين جماهير المثقفين في مصر والعالم العربي‏,‏ بل انني لا ابالغ اذا قلت انه كان قد بدا يصبح معروفا ولو بصوره بسيطه في الاوساط الثقافيه الاوروبيه وخاصه في فرنسا‏,‏ وكان طرد يحيي حقي من وزاره الثقافه في ذلك الوقت لا يمكن الا ان يكون فضيحه ثقافيه كبيره لمصر في الداخل والخارج‏.‏ وصاحب الفضل في انقاذنا من مثل هذه الفضيحه هو ثروت عكاشه‏.‏ وموقفه هنا جدير بالتامل فيه والاهتداء الدائم به‏.‏
ثانيا‏:‏ المتهمان الاخران في هذه القصه هما الاديب العربي الكبير محمود شاكر‏,‏ وقد تم اعتقاله لمده تقرب من سنتين‏,‏ ولم يخرج من السجن الا برساله من شاعر السودان ورئيس وزرائها في ذلك الوقت محمد احمد محجوب‏.‏ اما المتهم الثاني فهو المفكر الاسلامي الكبير الشيخ احمد حسن الباقوري‏,‏ وقد تمت اقالته بعد هذه الحادثه من منصبه كوزير للاوقاف‏.‏
ثالثا‏:‏ كان التسجيل الذي ادين عليه الجميع قد تم في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكان تسجيلا لجلسه شخصيه خاصه بين شاكر والباقوري ويحيي حقي‏.‏
رابعا‏:‏ ان هذه الحادثه وامثالها‏,‏ اي التجسس علي الناس في حياتهم الخاصه دون سبب قوي‏,‏ ثم محاسبه الجميع علي ما قد يقولونه في بعض اوقات الاسترخاء والفضفضه‏,‏ وربما في اوقات الملل والضيق من بعض الاوضاع والمشاكل الشخصيه‏..‏ مثل هذه العمليات في التجسس علي الناس كان فيها اساءه لزعيم عظيم مثل عبدالناصر‏,‏ وكان فيها اساءه لثوره وطنيه هي ثوره يوليو‏,‏ وكان مثل هذا التجسس بهذه الطريقه من سلبيات الثوره التي يبقي لها ايجابيات اكثر بكثير من سلبياتها‏,‏ حتي لو كانت هذه السلبيات مولمه وجارحه‏.‏
‏*‏ اشرت في مقال سابق الي واحد من عظماء شيوخ الازهر الذين وقفوا في وجه الحاكم التركي الظالم منذ اكثر من مائتي سنه وهو الشيخ محمود البنوفري‏,‏ وقد سالت عن كلمه البنوفري فعرفت انها نسبه الي قريه بنوفر وتساءلت عن هذه القريه اين توجد وما هو معني اسمها‏.‏ وقد تلقيت رساله كريمه من الاستاذ الفاضل الدكتور عبدالوهاب حميده جاد استاذ الجراحه العامه والاورام في كليه طب طنطا وفي هذه الرساله يقول الاستاذ‏:‏ قريه بنوفر هي قريتي‏,‏ وتقع علي فرع رشيد‏,‏ وهي تابعه وقريبه من مركز كفر الزيات وعدد سكانها يتراوح بين سبعه وعشره الاف‏.‏ كل منزل فيها يضم رجلا من رجال الازهر او سيده ازهريه فاخي استاذ بكليه طب طنطا رغم ان والدنا كان عاملا بسيطا بشركه الملح والصودا‏,‏ ولكنه كان يحفظ القران كاملا‏,‏ حفظا وتجويدا‏,‏ وهذا يبين ان التعليم الازهري العام هو هم هذه القريه‏.‏ اما لماذا اسميت هذه القريه باسم بنوفر فانا اسمع ان بيوتها لقربها من النيل كان يغمرها الفيضان العالي فيفر الناس الي مكان امن‏,‏ ثم يعودون بعد انحسار الماء فسميت بنوا وفروا ثم تم تحويل الاسم الي بنوفر‏.‏
شكرا للدكتور عبدالوهاب جاد‏,‏ وبارك الله فيه وفي قريته الكريمه الطيبه‏,‏ وقد سمعت من الاستاذ عبدالرحمن عوض ان بنوفر قد يكون اصلها بنوفهر‏,‏ ثم اصابها شيء من التخفيف‏,‏ وفهر لغويا معناها الحجر‏,‏ وهي ايضا اسم من اسماء احد اجداد العرب‏.‏
ـ

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:48 AM
لماذا غضب عبد الناصر علي يحيي حقي؟

بقلم‏:‏رجاء النقاش

تحدثت في الاسبوع الماضي عن غضب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر علي اديبنا الكبير يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده‏,‏ وقد اعتمدت في حديثي السابق علي روايه استاذنا الجليل الدكتور ثروت عكاشه‏,‏ نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافه الاسبق‏,‏ اطال الله عمره وبارك في حياته وصحته‏,‏ بقدر ما قدم لشعبه وبلاده من خدمات جليله تنحني امامها الرووس ولا تزال تفيض علينا بالخير والنور‏.‏
وقد غضب عبد الناصر علي يحيي حقي بسبب حضوره لجلسه تعرض فيها عبد الناصر لهجوم شديد‏,‏ واستطاع ثروت عكاشه بجهد استثنائي كبير ان ينقذ يحيي حقي من الاستغناء عنه‏,‏ والاكتفاء بنقله من منصبه الكبير كمدير لما كان يسمي باسم مصلحه الفنون الي العمل كمستشار لدار الكتب‏,‏ ثم اصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير مجله المجله وظل يراس تحريرها من سنه‏1962‏ الي ان اصدر الدكتور عبد القادر حاتم قرارا باغلاق هذه المجله فور توليه لمسئوليه الاعلام والثقافه في منتصف سنه‏1971.‏
وقصه غضب عبد الناصر علي يحيي حقي التي يرويها الدكتور ثروت عكاشه في مذكراته لها روايه اخري يقدمها فضيله الشيخ الجليل احمد حسن الباقوري وذلك في كتابه بقايا ذكريات الصادر عن مركز الاهرام للترجمه والنشر في طبعته الاولي والوحيده فيما اظن سنه‏1988,‏ وفي هذه المذكرات يقول الشيخ الباقوري صفحه‏240:‏ كان من بين الندوات التي احرص علي حضورها والمشاركه فيها ندوه تجمع بين الحريصين علي المعارف والعلوم‏,‏ وخاصه ما يتعلق منها بتفسير القران العظيم‏,‏ وما يتعلق به من مباحث اللغه العربيه الشريفه‏,‏ وكان يصحبنا في هذه الندوه افاضل من ارباب الاقلام واهل البصر بشئون السياسه وشئون الدين‏,‏ ومنهم الدكتور ناصر الدين الاسد والسيد الفاضل عبد الله التل قائد معركه القدس الشريف في حرب فلسطين الاولي سنه‏1948‏ والاستاذ يحيي حقي وكانت الندوه تنعقد في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكنا في هذه الندوه كثيرا ما نجمع بين متعتين‏:‏ المتعه بالطعام الطيب والمتعه بالكلام الشريف‏.‏
ثم يقول فضيله الشيخ الباقوري‏:‏
لم يكن لمثلي في شده حرصه علي مجامله الناس ان يمتنع عن السعي لاغاثه ملهوف او العمل علي طمانه حيران‏,‏ بدليل ان الندوه مجتمعه رغبوا الي ذات يوم ان اعمل علي انقاذ الاستاذ يحيي حقي من اخراجه في حركه التطهير التي كانت تهدف الي تطهير السلك الدبلوماسي من كل من له زوجه غير مصريه‏,‏ وكان يحيي حقي سفيرا لمصر في ليبيا يومئذ وكانت زوجته فرنسيه‏.‏ واذكر انني ذهبت لمقابله اخي الفاضل الدكتور محمود فوزي ووزير الخارجيه في ذلك الوقت ورجوته ان يستثني يحيي حقي من هذا القانون‏,‏ فاجابني الرجل رحمه الله بانه لا يعدني بالاستثناء‏,‏ ولكنه يعدني بان ينقل يحيي حقي من السلك الدبلوماسي الي عمل يليق به في الوزارات التي تحتاج الي عمله‏,‏ وقد نفذ الدكتور محمود فوزي وعده وتم نقل يحيي حقي الي عمل في وزاره الثقافه لا يناسب كفايته في سعه علمه وقدرته علي صياغه القصص‏!.‏
ويواصل الشيخ الباقوري روايته فيقول‏:‏ ذات يوم اجتمعنا في الندوه بدار محمود شاكر‏,‏ ورن جرس التليفون فاذا المتحدث هو يحيي حقي‏,‏ وكان يشكو اليه اي الي شاكر من انه قد نقل الي عمل لا يناسبه‏,‏ فقال شاكر في حماسه عمياء‏:‏ وما حيلتي يا اخ يحيي في هولاء العساكر الذين يحكمون البلد وعلي راسهم جمال عبد الناصر ابن‏....,‏ وكانت كلمه مع الاسف تستوجب اقامه حد القذف لو كان القانون ياخذ بالتشريع الاسلامي‏.‏
بعد هذه الندوه التي حدث فيها الهجوم علي عبد الناصر بالطريقه التي وصفها الشيخ الباقوري‏,‏ فان من الواضح ان تسجيلا كاملا لهذه الندوه وما جري فيها قد تم اعداده عن طريق اجهزه الامن وتقديمه الي عبد الناصر‏..‏ واستدعي الرئيس عبد الناصر الشيخ الباقوري الي لقائه‏,‏ وفي هذه الجلسه حسب روايه الباقوري‏,‏ قال عبد الناصر انه امتنع عن حضور حفل زفاف ليلي بنت الباقوري بسبب ما بلغه من ان الباقوري يحضر مجالس تنتقد الثوره‏,‏ كما علمت اي عبد الناصر من بعض التقارير ان بعض الاخوان المسلمين في سوريا‏,‏ وفي سائر الاقطار العربيه كانوا يبعثون اليك اموالا لتعين اسر الاخوان المسلمين‏,‏ فاجبته بان ذلك كان ايام محنه الاخوان قبل الثوره بثلاث سنوات علي الاقل‏,‏ وهذا صحيح‏..‏ ولكن ذلك شئ والتامر علي الثوره مع الاخوان شئ اخر‏,‏ ولم يجب عبد الناصر علي هذه الكلمات فرجوته ان ياذن لي بورقه اكتب فيها استقالتي من الوزاره‏,‏ ولكنه اجابني‏:‏ انت تعرف حد استقال عندي قبل كده؟‏!‏ وفي صباح يوم الاربعاء الحادي عشر من فبراير سنه‏1959‏ نشرت الصحف نبا قبول استقالتي‏.‏
تلك هي روايه الشيخ الباقوري للقصه التي غضب فيها عبد الناصر علي يحيي حقي والتي نتج عنها اقاله الباقوري من الوزاره ودخول محمود شاكر الي السجن‏,‏ وركن يحيي حقي في هامش وظيفي محدود‏.‏ وفي التعليق علي هذه القصه يمكن تسجيل مجموعه من الملاحظات‏.‏
اولا‏:‏ ان الشيخ الباقوري يعترف بان كلمات الهجوم علي الرئيس عبد الناصر علي لسان الاستاذ شاكر كانت بذيئه وكانت تستحق العقاب القانوني‏.‏
ثانيا‏:‏ يقول الشيخ الباقوري انه لم يشترك في الهجوم‏,‏ او هذا ما يمكن فهمه بوضوح تام من روايه الباقوري للقصه‏,‏ وهذا ما يخالف روايه الدكتور ثروت عكاشه للقصه في مذكراته حيث يقول ان الباقوري قد اشترك بلسانه في الهجوم علي عبد الناصر‏,‏ وانه اي ثروت عكاشه سمع هذا التسجيل بنفسه في مكتب عبد الناصر‏,‏ مع ملاحظه ان ثروت عكاشه لم يذكر الشيخ الباقوري بالاسم‏,‏ ولكنه اشار اليه بانه احد الوزراء‏,‏ ولم يكن هناك وزير له علاقه بالقصه سوي الباقوري‏.‏ وحسب شهاده الدكتور ثروت عكاشه فان الباقوري قد شارك في الهجوم العنيف علي عبد الناصر‏.‏
ثالثا‏:‏ من روايه الباقوري وروايه ثروت عكاشه نعلم ان يحيي حقي لم يشارك في الهجوم علي عبد الناصر ولكن علاقته القويه بصاحب الندوه محمود شاكر كانت تهمه له اوشكت ان تطيح به من عمله في وزاره الثقافه اواخر سنه‏1958‏ لولا تدخل الوزير ثروت عكاشه بحكمه وشجاعه لانقاذه‏.‏
رابعا‏:‏ حسب روايه الشيخ الباقوري فان الندوه كانت منتظمه‏,‏ وكانت تضم شخصيات مهمه منها الباقوري نفسه وكان وزيرا للاوقاف‏,‏ ومنها قائد عسكري سابق في الاردن هو عبد الله التل‏,‏ ومنها شخصيه علميه وثقافيه معروفه هي الدكتور ناصر الدين الاسد الذي اصبح وزيرا للتعليم العالي في الاردن بعد ذلك‏.‏ ومثل هذا التجمع‏,‏ وخاصه في حاله تكراره لا يمكن‏,‏ كما اتصور‏,‏ ان يفلت من متابعه اجهزه الامن‏,‏ وخاصه في اجواء سنه‏1958,‏ وهي السنه الاولي لدوله الوحده المصريه السوريه‏,‏ وقد كانت هذه الدوله محاطه بكثير من الاعداء والمتربصين بها‏.‏ والتجسس بكل صوره ملعون‏,‏ ولكنه في حساب اجهزه الامن مشروع وخاصه في اوقات الازمات‏.‏
ولاشك ان هناك عبره نهائيه في مثل هذه الاحداث التي تقوم علي الاصطدام بين الادباء والمفكرين واصحاب الراي من جهه وبين السلطه من جهه اخري‏,‏ والعبره هي ان المناخ الديمقراطي وحده يمكن ان يوفر الحمايه للجميع فيقول كل صاحب راي رايه علنا ولا تحتاج السلطه الي جواسيس او اجهزه تسجيل‏.‏

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:49 AM
بين يحيي حقي وسيد قطب

بقلم: رجاء النقاش
.....................

عندما سال الناقد الكبير الراحل فواد دواره‏1928‏ ‏1996‏ صديقه واستاذه يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ عن تفسيره لاهتمام الناس اهتماما استثنائيا بروايته القصيره قنديل ام هاشم قال له يحيي حقي‏:‏ غريب حقا اهتمام الناس بهذه القصه علي هذا النحو‏.‏ كانني لم اكتب غيرها‏.‏ اتعرف لماذا؟‏..‏ لقد خرجت من قلبي مباشره كطلقه الرصاص‏,‏ فكان ان استقرت في قلوب الناس‏.‏ هكذا اجاب يحيي حقي علي سوال فواد دواره‏,‏ وكانت اجابته اقرب ما تكون الي العباره الشائعه التي كثيرا ما نرددها في احاديثنا اليوميه وهي ان ما يخرج من القلب يدخل الي القلب‏.‏
والحقيقه ان قنديل ام هاشم كان يمكن ان تبقي في الظل لفتره طويله فلا يلتفت اليها احد‏,‏ لولا ان ناقدا كبيرا احس بقيمتها وادرك اهميتها وانفعل بما فيها من جمال وصدق وعمق وبساطه واسلوب جديد قائم علي الايجاز والتركيز‏.‏
وقد احس الناقد الكبير بهذا كله بعد صدور القصه سنه‏1944‏ في سلسله اقرا التي تصدر عن دار المعارف‏.‏ وهذا الناقد الكبير الذي احس بقيمه قنديل ام هاشم هو سيد قطب‏1906‏ ‏1966‏ الذي كان في ذلك الوقت‏,‏ اي في اربعينيات القرن الماضي‏,‏ من اكبر نقاد الادب العربي‏,‏ وكانت كلمته مسموعه وموثوقا بها في صفوف الادباء وبين جماهير القراء علي السواء‏.‏ وقد ظل سيد قطب يحتل مكانه الرفيع في مجال النقد الادبي حتي سافر الي امريكا حوالي سنه‏1949‏ في بعثه دراسيه قصيره‏,‏ عاد بعدها لينفض يده من الادب والنقد ويدخل ميدان العمل السياسي والدعوه الدينيه‏,‏ وهي المرحله المليئه بالعواصف التي انتهت بمحاكمته واعدامه سنه‏1966‏ بتهمه الاشتراك في زعامه تنظيم عسكري يهدف الي قلب نظام الحكم في مصر بالقوه‏,‏ وفي هذه الفتره التي تمتد من سنه‏1950‏ الي نهايه حياته سنه‏1966‏ خرج سيد قطب تماما من عالم النقد الادبي الذي كان فيه احد النجوم اللامعه الساطعه في اربعينيات القرن الماضي‏.‏
عندما صدرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ كانت الحرب العالميه الثانيه قد اوشكت علي الانتهاء‏,‏ ومن الواضح ان يحيي حقي كتب قصته اثناء هذه الحرب‏,‏ اي في الفتره ما بين‏1939‏ و‏1944,‏ ورغم ان القصه ليس فيها اي اشاره الي اجواء الحرب العالميه‏,‏ الا انها كانت تحاول الاجابه علي سوال مهم جدا طرحته هذه الحرب علي وجدان الناس وتفكيرهم‏,‏ خاصه بين المتعلمين والمثقفين منهم‏,‏
وهذا السوال هو ببساطه‏:‏ ماذا نفعل مع الحضاره الغربيه الجديده التي تدق ابوابنا بعنف؟ هل نلغي انفسنا لكي نكون نسخه طبق الاصل من هذه الحضاره؟ او ان واجبنا يفرض علينا شيئا اخر وتصورا للامور يختلف عن تصور الغربيين؟ ولقد قامت قصه يحيي حقي علي محاوله بديعه ورائعه للاجابه علي السوال الاساسي عن موقفنا من الغرب‏,‏ وما يتفرع عن هذا السوال من اسئله اخري عديده‏.‏
وجاءت قنديل ام هاشم اجابه فنيه مليئه بالحياه والحراره‏,‏ خاليه من المناقشات الجافه والافكار المجرده‏,‏ وهي علي بساطتها قصه غنيه بالتلميحات والاشارات والايحاءات‏,‏ بقدر ما هي بعيده كل البعد عن الخطابه والوعظ والتعقيدات الفكريه‏.‏ انها قصه تاخذك بسحرها من يدك‏,‏ وتتحدث معك في همس جميل‏,‏ ولا تقول لك كل شيء بل تتركك وحدك مع نفسك لتتامل وتفكر وتصل الي ما تشاء من نتائج‏,‏ هي ثمره اجتهادك وليست ثمره املاء الفنان صاحب القصه عليك‏,‏ وهذا هو ما يضمن للفن قوته وجماله وتاثيره المستمر القوي علي الناس‏,‏
لان فن الخطب والزعيق لا يعيش‏,‏ وانما يعيش الفن الهامس الذي يخرج من قلب الفنان وليس من حنجرته‏.‏
عندما ظهرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ لم يكن يحيي معروفا الا في دائره محدوده جدا من اصدقائه ومعارفه‏,‏ ولا شك ان من اهم اسباب ذلك انه كان يعمل لفتره طويله في السلك الدبلوماسي امتدت حوالي ربع قرن‏,‏ منذ سنه‏1928‏ تقريبا وحتي سنه‏1954,‏ وقد تنقل خلال هذه الفتره بين جده واستامبول وروما وطرابلس في ليبيا‏,‏ يضاف الي هذا الغياب الطويل عن مصر ما يقوله يحيي حقي عن نفسه من ميل الي الانطواء والعزله‏,‏ وهذا الميل لم يكن صفه شخصيه خاصه به وحده‏,‏ بل كان كما يقول هو نفسه صفه من صفات عائلتي التي كانت تميل الي الانطوائيه لاننا كنا اسره موظفين من اصل تركي وليس لنا املاك الا القليل‏.‏
ولذلك كله كان من الطبيعي ان يجد يحيي حقي صعوبه في نشر كتابه الاول اي روايته القصيره قنديل ام هاشم‏.‏ وهو يشير الي ذلك في حديثه مع الناقد فواد دواره‏,‏ وهو الحديث الشامل المهم المنشور في كتاب دواره عشره ادباء يتحدثون طبعه كتاب الهلال‏,‏ وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي صفحه‏109:‏ لقد تعبت جدا في العثور علي ناشر لقصه قنديل ام هاشم والفضل في نشرها في سلسله اقرا العدد‏18‏ في يونيو‏1944‏ يعود الي الاستاذ محمود شاكر‏,‏ الذي قدمها للمشرفين علي هذه السلسله في دار المعارف‏,‏ ثم يعود الي الدكتور طه حسين الذي قراها ورشحها للنشر‏.‏
كان يحيي حقي عند ظهور قنديل ام هاشم في التاسعه والثلاثين من عمره‏,‏ وكان قد اصبح موظفا كبيرا في وزاره الخارجيه‏,‏ ولكنه في الحياه الادبيه كان مجهولا او شبه مجهول‏,‏ وكان من الممكن ان تبقي قنديل ام هاشم في الظل‏,‏ والا يلتفت اليها احد لولا موقف سيد قطب الذي اشرنا اليه‏,‏ فقد كتب عنها بعد ظهورها بقليل مقالا قويا مهما في مجله الرساله ثم نشر هذا المقال بعد ذلك في كتابه النقدي الشهير كتب وشخصيات الطبعه الاولي سنه‏1946‏ صفحه‏190,‏ وفي هذا المقال يكاد سيد قطب يصرخ اعجابا بيحيي حقي وتنبيها للراي الادبي العام بان هناك مولودا فنيا جديدا رائعا اسمه قنديل ام هاشم‏,‏ ويبدا سيد قطب حديثه عن يحيي حقي بمشاغبه ادبيه يحتفي فيها بيحيي حقي ويهاجم محمود تيمور فيقول‏:‏ اوه‏!‏ يحيي حقي‏!‏
اين كانت هذه الغيبه الطويله؟ وفيم هذا الاختفاء العجيب؟ لست اذكر متي قرات له اول اقاصيصه‏.‏ انه عهد طويل‏.‏ حتي لقد نسيته لولا قنديل ام هاشم‏.‏ كل ما اذكره انه من زملاء محمود تيمور الاوائل في بناء الاقصوصه‏.‏
وتيمور ويحيي حقي برهان علي ان النبوغ وحده لا يكفي‏,‏ ولا العبقريه ايضا‏.‏ لابد من الداب والثبات والمثابره ليكون الانسان شيئا مذكورا‏,‏ والا فاين فن تيمور من فن حقي‏!‏ ثم اين مكانه حقي من مكانه تيمور‏.‏ حقي رجل كسول‏.‏ مهمل‏.‏ يستحق اللوم علي تفريطه في موهبته الفذه‏.‏ وتيمور رجل دووب مجتهد‏.‏ يكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ولابد ان يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شيء ذو قيمه‏.‏ ثم يقول سيد قطب‏:‏ في قنديل ام هاشم ثمره حلوه ناضجه عبقريه‏.‏ كانت البذره في عوده الروح وفي عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم‏,‏ وهي هنا الثمره في قنديل ام هاشم‏.‏ الروح المصريه الصميمه العميقه تطل كما هي في اعماقها من قنديل ام هاشم‏.‏ وهي تطل من خلال اللمسات السريعه الرشيقه الموحيه‏,‏ ومعها الحيويه والفن والشاعريه والابداع‏.‏ وفي خلال اثنتين وخمسين صفحه فقط من حجم الجيب يتم تصوير الروح المصريه الكامنه العميقه العريقه‏,‏ ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب‏,‏ ويتم انتصار الايمان المبصر علي العلم الجاحد‏.‏ ثم يقول سيد قطب عن اسلوب يحيي حقي‏:‏ انه اسلوب فذ مبتكر‏.‏
تلك كانت صرخه الناقد سيد قطب عندما التقي لاول مره بعبقريه الفنان يحيي حقي‏,‏ فاعلن الناقد علي الناس في صوت قوي موثر ظهور فنان جديد في عمل رائع هو قنديل ام هاشم‏,‏ وتلك ولا شك وقفه نقديه تعطينا صوره عن واقع حياتنا الادبيه منذ ستين عاما عندما ظهرت قنديل ام هاشم‏.‏ والوقفه النقديه القويه الجريئه تستحق منا ان نذكرها للتاريخ بكل التقدير‏.‏ اما قنديل ام هاشم نفسها فانها تستحق حديثا اخر‏.‏

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:50 AM
لماذا قال يحيي حقي عن نفسه‏:‏ انا‏..‏ قليل الادب؟‏!‏

بقلم : رجاء النقاش

قنديل ام هاشم كما هو معروف تقوم علي شخصيه اسماعيل ابن السيده زينب الذي تعلم في انجلترا‏,‏ وعاد بعد سبع سنوات ليعمل طبيبا للعيون‏,‏ واذا به يجد ابنه عمه فاطمه مريضه بعينيها ومهدده بان تفقد بصرها‏,‏ وكانت امها تعالجها بزيت ماخوذ من قنديل ام هاشم وام هاشم طبعا هي السيده زينب‏,‏ ويغضب اسماعيل‏,‏ وذهب الي مقام السيده‏,‏ ويحطم القنديل‏,‏ وينهال الناس علي اسماعيل ضربا واهانه عقابا له علي جريمته في حق مقام السيده‏,‏ ويستمر الصراع حتي يتنبه اسماعيل الي انه مخطيء‏,‏ وانه يريد ان يفرض علي ابناء بلده بالقوه طريقه الحياه والتفكير في الغرب‏,‏ وقد اكتشف طبيب العيون ان هذا لايجدي‏,‏ وان الذي يجدي حقا هو ان يتعاطف مع اهله‏,‏ وان يساعدهم علي الخروج من تخلفهم بالحسني‏,‏ والمحبه واحترام تراثهم الروحي والعقلي‏,‏ وبعد ان اهتدي اسماعيل الي ذلك استطاع ان يعالج فاطمه‏,‏ وان يرد اليها البصر‏,‏ لانها وثقت به واطمانت اليه واحست بما يحمله لها من تعاطف ومحبه‏,‏ وتنتهي القصه بان يتزوج اسماعيل من فاطمه وان يجد السعاده التي كان يبحث عنها‏,‏ ويحلم بها‏,‏ وان يتفاهم مع اهله وبيئته‏,‏ وان يحظي بالاحترام من جانب الجميع ورغبتهم في الانتفاع بعلمه كطبيب للعيون بعد ان اصبح انسانا حكيما يعرف كيف يتعامل مع الناس باخلاص وصدق ونيه طيبه‏.‏
ذلك هو ملخص سريع للقصه المعروفه‏,‏ ونحن اذا اخذنا القصه علي وجهها الظاهر فسوف نراها قصه ساذجه‏,‏ وربما نراها ايضا قصه غير معقوله‏,‏ وان بينها وبين الواقع مسافه كبيره‏,‏ وقراءه القصه علي هذا الوجه الظاهر خطا‏,‏ والصواب هو قراءتها علي ان لها وجها اخر فيه اشارات رمزيه رقيقه شفافه‏,‏ وهنا سوف نسمع فيها صوتا عميقا موثرا يقول لنا‏:‏ ان التطور المفاجيء العنيف لابد ان ينتهي الي الاصطدام والانهيار‏,‏ اما التطور الذي اخذ الواقع بعين الاعتبار‏,‏ ويقترب منه في محبه وعاطفه صادقه وفهم انساني صحيح للنفوس‏,‏ فهو وحده التطور القادر علي ان ينهض بالناس ويفتح امامهم ابواب التقدم والقدره علي مواجهه الحياه‏,‏ وخلاصه هذه القصه البديعه هي ان الطبيب اذا كان كارها للمريض الذي يعالجه‏,‏ محتقرا له‏,‏ فانه من المستحيل ان يستطيع مساعده هذا المريض علي الشفاء‏,‏ والطبيب هنا هو رمز للسياسي والمفكر والاديب والفنان وكل من له دور في قياده المجتمع والناس‏.‏
علي ان هناك قضيه حساسه جدا اثيرت ضد يحيي حقي وقصته قنديل ام هاشم فقد راي البعض ان في هذه القصه تعبيرا عن مشاعر عدائيه ضد شعب مصر‏,‏ مما يشير الي ان يحيي حقي يكره المصريين ولا يشعر نحوهم باي حب او تعاطف‏,‏ ومن المدهش حقا ان يحيي حقي تاثر بهذه الاراء فانتقد نفسه نقدا بالغ القسوه والعنف‏,‏ وجاء ذلك علي لسانه في حوار اذاعي طويل اجراه معه المذيع المثقف عادل النادي بتاريخ‏25‏ ابريل سنه‏1991,‏ اي قبل وفاه يحيي حقي بعام واحد وثمانيه شهور‏,‏ حيث انه توفي في‏10‏ ديسمبر سنه‏1992,‏ وهذا الحديث نشرته مجله الاذاعه والتليفزيون في عده حلقات بعد ذلك‏.‏
وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي عن نفسه‏:‏ انني الان عندما اعيد قراءه مقاطع مما كتبته في قنديل ام هاشم اقول انني كنت قليل الادب وكنت بذيئا لانني شتمت الشعب المصري شتائم فظيعه جدا‏,‏ وانا شديد الخجل بسبب ذلك‏,‏ فعندما اقول عن الشعب ان بوله فيه دم وديدان اي انه مصاب بالبلهارسيا والانكلستوما او اقول عن الناس انهم يسيرون كالقطيع‏,‏ فليس فيهم من يسال او يثور‏...‏ في مثل هذا الكلام بذاءه شديده ولابد من الاعتذار عنها‏.‏
ذلك ما قاله يحيي حقي بلسانه عن نفسه‏.‏
ونحن هنا نقف مع يحيي حقي ضد يحيي حقي‏,‏ ففي الادب الصادق الجميل فان الزعل مرفوع اي اننا لايجوز ان نزعل من اديب فنان قلبه علينا‏,‏ ومن حق اديب كبير‏,‏ موهوب وحساس ونبيل‏,‏ مثل يحيي حقي‏,‏ ان يقول ما قاله عن شعبه عندما وجد في هذا الشعب احوالا لاترضيه في النصف الاول من القرن العشرين والغاضب الناقد الناقم هنا وهو يحيي حقي‏,‏ يريد بشعبه خيرا ولايريد به السوء‏,‏ وقد كان الاديب الروسي انطون تشيكوف‏1860‏ ‏1904‏ يقول‏:‏ ان بلدنا روسيا بلد سخيف غليظ القلب ولم يتهمه احد بالبذاءه او قله الادب او انعدام الوطنيه بل ان الذين يفهمون معني الغضب المقدس عند الادباء والفنانين العظماء قد اعتبروا ما قاله تشيكوف صرخه من اجل نهضه شعبه وبلاده‏,‏ وهكذا نعتبر نحن كلمات يحيي حقي‏,‏ او يجب علينا ان نعتبرها كذلك‏,‏ فقد كانت كلها كلمات مبنيه علي حسن النيه والمشاعر الطيبه النبيله والرغبه في ان يتحرك اهل مصر من نومهم واستسلامهم لظروفهم الصعبه السيئه‏.‏
تلقيت من الاستاذ الفاضل ابراهيم بدوي سكرتير الدكتور عبدالقادر حاتم برقيه هذا نصها‏:‏ لقد اسات الي الدكتور حاتم بقولك في مقال سابق لك ان الدكتور حاتم قد اغلق مجله‏,‏ المجله عندما كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للاعلام سنه‏1971‏ والحقيقه ان الدكتور حاتم لم يكن مسئولا عن مجله المجله التي كانت تابعه لوزير الثقافه ونرجو التصحيح‏.‏
وردي علي الاستاذ الفاضل صاحب البرقيه هو ان اخر عدد صدر من مجله المجله كان عدد اكتوبر سنه‏1971,‏ كما هو ثابت في دار الكتب المصريه وبذلك يكون اغلاق المجله قد تقرر بعد صدور هذا العدد الاخير وبالرجوع الي كتاب الدكتور محمد الجوادي عن وزراء مصر بين‏1952‏ و‏1997‏ نجد ان الدكتور حاتم كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافه والاعلام في وزاره الدكتور محمود فوزي الرابعه والتي تم تشكيلها في‏19‏ سبتمبر سنه‏1971‏ وبعد اثني عشر يوما من تولي الدكتور حاتم لمنصبه صدر العدد الاخير من مجله المجله وبذلك تكون المجله قد تم اغلاقها في عهد الدكتور حاتم‏,‏ ونحن نكن للدكتور حاتم كل الاحترام والتقدير‏,‏ ونعترف له بفضله وبما له من انجازات كبيره لاينكرها احد‏,‏ ولكن هذا كله لايمنعنا من تسجيل الحقيقه التاريخيه التي لامهرب منها‏,‏ وهي ان اعلاق مجله المجله المهمه والمحترمه كان من القرارات الثقافيه الخاطئه‏.‏

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:51 AM
يحيي حقي .. منارة لا مرآة

بقلم: محمد شاهين

ما زلت أذكر تلك الأيام _ عندما كنت طالبا في كلية الآداب، انتظر وزملائي موعد صدور الملحق الأدبي لجريدة المساء. وما زلت اذكر ما كان يدفعنا لملاحقة ذلك الملحق قبل أن ينفد من الأسواق. كان شوقنا إلي قراءة ما يكتبه يحيي حقي هو أكثر ما يدفعنا إلي السعي وراء ملحق المساء. لم نكن نعلم آنذاك بالضبط لماذا وكيف كانت كتابات يحيي حقي تجذبنا إليها جاذبية خاصة، وتشيع في نفوسنا نوعا من الرضا لا تشيعه كتابات أخري. كان يحيي حقي يشدنا إلي قراءته مباشرة بعد الأسطر الأولي ويظل هذا الرباط منيعا إلي ما بعد الإنتهاء من آخر كلمة في المقالة، وهذا ما كان يبعث الشوق فينا علي تجديد اللقاء به فيما بعد، ومن هنا نشأت صلة الوصل بيننا وبين زاد المساء علي مدي السنوات في بداية الستينات.
كان يحيي حقي يطل علينا من صفحات المساء حاملا معه ما تشتهيه النفس من صدق وصراحة وبساطة _ كركائز ثابتة تنطلق منها رؤيته للواقع. ولاؤه كان للكلمة­ لحقٌها عليه وحقيقتها عنده. لم يكن منحازا لمؤسسة أو لشلة. لم يكن مهللا للفرنجة ولا متعصبا للتراث. لم يكن منغلقا علي نفسه في شرنقة الماضي، ولا مبهورا ¢بشيفون¢ الحاضر. كان رحمه الله لا يعادي من اختلفت مشاربهم عنه، ولا يباهي بمن اتفقت أهواؤهم معه. ومع كل هذا لم يتخذ موقفا وسطا أو وسطيا كوسيلة سهلة للحفاظ علي استقلاليته. كان يدخل للحق والحقيقة مدخل صدق يستشف القاريء منه إيمانه بما يقول وما يفكر وما يفعل، فتنساب الحجة إلي نفوسنا بتلقائيتها التي سرت في نفسه من قبل، فتعبر إلينا بيسر وأمان دون إجهاد أو إجهاض.
غاب عنا يحيي حقي، لكن روحه ظلت حاضرة في فكره وأدبه، تطل علينا كلما عاودنا الشوق إلي تجسيم صورة الخلود التي كانت أبدا مصدر إلهامه واستمرار بقائه. وهذه كتاباته خير شاهد علي تخليد ذكريات الحياة فنا وفكرا.
من بين الكتابات التي أذكرها بشوق خاص مقالة ظهرت في ذلك الملحق في شهر شباط عام 1961 بعنوان ¢أضواء علي القصة الحديثة¢. وقد سعدت عندما وجدت المقالة تنشر في المجلد الخامس عشر من أعمال يحيي حقي الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (1987) وعنوانه ¢أنشودة البساطة¢. وعندما عاودت قراءة المقالة تذكرت علي الفور كيف أن يحيي حقي انبري كعادته للدفاع عن قضية الأزل: قضية التراث والحداثة بسحر البساطة التي تتحول علي يديه إلي بيان أخٌاذ نفٌاذ.
وتذكرت أيضا كيف أن يحيي حقي كان يواجه بتلك الأسطر القليلة المؤثرة معركة حامية الوطيس دون أن يكون نصيرا أو تابعا لطرف أو آخر. وقبل أن أبدأ بتقييم لموقف يحيي حقي، أود أن أوجز خلفية النزاع في ذلك الحين الذي سما يحيي حقي فوقه بأنشودته البسيطة.
يذكر جيل الستينات، وطلاب كليتي الآداب في جامعة القاهرة وعين شمس علي الأقل الصراع الذي كانت تدور رحاه حول الحداثة. كان زعيم ذلك الصراع رشاد رشدي الذي أنشأ حول نفسه ما يسمي بالإنجليزية ¢cult¢، حيث التف حوله عدد من الأتباع والمؤازرين تزودوا من زاده الغربي الحديث الذي حماه عند رجوعه من بريطانيا إلي القاهرة في الخمسينات الأخيرة. واستطاع رشاد رشدي أن يحوز علي سلطة المؤسسة الثقافية مما ساهم في جعل صوته مسموعا من خلال أجهزة الثقافة والإعلام المختلفة. اذكر في يوم من الأيام عندما وصل الصراع مداه أنني سألت أستاذي عبد القادر القط عما كان يجري علي صفحات المساء من أخذ ورد بين رشاد وأنصاره من جهة، وبقية الخلق من جهة أخري، فأجاب الأستاذ القط ¢فلان طالع فيها¢، وعندما لاحظ أن التعبير ضل سبيله استطرد قائلا: بالمناسبة هذا التعبير المصري هو أدق ترجمة للكلمة الإنجليزية (snob)، وكان رحمه الله أستاذا بارعا في الترجمة. كان الأستاذ رشاد رشدي رحمه الله، كما ذكر الأستاذ القط، يحاضر في الصباح، ويذيع محاضرته أو محاضراته في المساء وينشرها في الصحف في اليوم التالي وما هي إلا أسابيع قليلة حتي تخرج المحاضرات في كتاب!
علي كل حال لا تهمنا تفاصيل ذلك الصراع الذي أصبح تاريخا. لكن ما يعنينا هو أين كان يقف يحيي حقي من هذا الصراع؟ كان يحيي حقي بطبعه لا يميل إلي معاداة أحد ولا يغضب من اختلاف في الرأي بينه وبين غيره، ولكنه كان يغار علي الحق ولا يقبل الإنسحاب من معركة يري فيها جورا واضحا. لم يتخذ من التراث سورا يحتمي خلفه، بل آثر أن يجعل من نفسه سورا لحماية التراث. كل هذا مبعثه الإعتقاد الراسخ في نفسه أن الحقيقة أهم من الشخص الذي يسعي إلي تشويه الحقيقة، وأن الحق قوٌام حتي علي من يدافع عنه. أو لو نظرنا إلي المقالة المذكورة أعلاه لوجدناها توضح ما نعلم عن يحيي حقي من صمود وثبات أمام الحق والحقيقة. هكذا تبدأ المقالة:
¢ اشتركت أخيرا في ندوة أدبية بالإذاعة مع الصديقين العزيزين: أستاذي الدكتور محمد مندور والدكتور رشاد رشدي، فوجدتني في ختام الندوة _ وكأنما عن غير عمد أو تحضير مني _ أحاول أن أعبر عن ضيق يجثم علي في الأيام الأخيرة، مبعثه شعوري وسط معارك النقد المحتدمة في الوقت الحاضر ودورانها حول القصة وحدها أننا نحدث بترا فاصلا بين ماضي أدبنا وحاضره، فالمتتبع لهذه المعارك معذور إذا وقر في نفسه أن أدبنا لم يولد إلا قبيل الحرب العالمية الأولي _ يا له من تراث ضئيل.
وحاولت في الندوة بإيجاز وتلجلج أن أتلمس الوسيلة لإيجاد ولو خيط يصل بين حاضرنا وماضينا.
وبعد أيام قليلة _ لكأن هناك عفريتا يلاحقني ويعاتبني _ رجعت إلي داري ذات ليلة وأنا أشد ضيقا وحزنا، فقد حضرت مجلسا في قبو يتصدره شاب من أنبه كتاب القصة عندنا يتحلق حوله نفر من أصدقاء يحبونه ويعلقون عليه أكبر الآمال. قال لنا بملء فمه _ وكدأبه دائما _ بوثوق شديد بالنفس، وعزم لا يقبل أي اعتراض أو مناقشة ¢ أنه كقصصي لا يجد في الأدب العربي القديم كله أية ذرة من النفع له. ولم يدر أنه يزيد من هزئه بتراثنا حين أردف متفضلا علي هذا الأدب العربي القديم كله إن الكتاب الوحيد الذي قد يمده ببعض النفع هو كتاب ¢ألف ليلة وليلة¢ ثم رمي قفازه متحديا وقال: إنه في غني عن الأدب العربي القديم كله فلنشربه نحن حلالا علينا، أما هو فإنه يجد روحه عند تشيكوف وموبسان¢.
ماذا يفعل يحيي حقي في بقية المقالة؟ إنه يدخل إلي الموضوع من ثلاثة محاور رئيسية بسيطة، ولكنها تكون بيت القصيد في أي معالجة ناجحة للموضوع. وقد دعاه تواضعه أو أسلوبه السهل الممتنع إلي عدم شرح هذه المحاور أو الإطناب في وصفها، فجاءت إشارات لماحة تستحق منا الشرح والتفصيل لذلك علي قدرة الكاتب في الإيجاز والتعبير.
المحور الأول يتعلق باللغة، حيث يبين يحيي حقي للشباب المندفع وراء بريق الحداثة، أن المرتكز الأساسي للحداثة هو اللغة أو ما يسميه تشومسكي استعمال اللغة (competence) كنشاط يميز اللغة عن كونها مجرد معرفة أو أداة لتوصيل معرفة أو رسالة مقصودة، ويندرج هذا النشاط عند أشهر المحدثين الغربيين وخصوصا بارت تحت اسم بارول (Parole) وهو نشاط لغوي متجدد لا ينتهي عند حد في استعمالات مختلفة للغة في ظل نظام لغوي محكم يعرف بالفرنسية ب (Langue§)، وكلا النشاط والنظام فرعان لما يعرف اصلا باللغة (Language) أي أن يحيي حقي كان يعرف مصدر الحداثة دون التحدث عنها أو التشدق بمصطلحات غير مصطلحاتها، وهكذا نجد يحيي حقي يكتفي بموجز معبر عن كنه الموضوع عندما يقول ¢وأسألهم _ بل واستحلفهم _ وهم يقرأون في مادة النقد الغربي الحديث، هل رأوا ناقدا واحدا فصل بين الأدب واللغة؟ هل رأوا ناقدا واحدا لا يضني نفسه أولا بالتمكن من معرفة أسرار لغته، وبفضل هذه الأسرار يوزع نقده علي الكتاب؟ هل اقتصر نقد شكسبير علي فنه المسرحي أو كان عماده تأمل لغته ووسائل تعبيره؟¢
ومن الجدير بالذكر أن اعتقاد يحيي حقي هذا الذي عبر عنه في أوائل الستينات ما زال يعتبر ركنا من أهم أركان الحداثة. ألم يقل فيرلين أن الثورة الأدبية في القرن العشرين ما هي إلا ثورة الكلمة، بمعني أن الحداثة لا تكمن في مضمون ولا في موتيف ولا تقنية؟ نحن نعلم أن الغرب طلع علينا بقصة قصيرة ورواية حديثتين في هذا القرن، ليس باعتماده علي التراث بل باستعمال جديد للغة، فيها اللحمة بين الكلمة والمعني، وفيها اللغة متجددة (generative) بتجدد المناسبة والموضوع. فالناظر إلي التراث الأدبي الغربي في القرن العشرين مقارنة مع تراث القرن التاسع عشر لا يجد في الحاضر ذلك الإمتداد أو الإعتماد علي الماضي. إن التراث كما يعتقد يحيي حقي والمحدثون يكمن في اللغة نفسها وفي تنشيطها لتعبر عن مكنوناتها التي تنتظر التفعيل علي يد الكاتب أولا ثم علي يد القاريء ثانيا. أما النقطة التي انتبه اليها يحيي حقي فهي أن اللغة تصل الينا عبر الزمن وهي محملة بالشحنات الحضارية والثقافية منتظرة الكاتب والقاريء ليقوم بتحريك هذه الشحنات وتفجير طاقاتها كما يقول باختين. أي أن الكاتب والقاريء لا يبدآن من فراغ عند حصول التماس بينهما وبين اللغة. وكأن يحيي حقي أراد أن يقول أن اللغة العربية ليست كأي لغة من آلاف اللغات الإفريقية أو مئات اللغات الهندية التي كتبت لها استمرارية معينة دون تراث. عندما آثر سينجور زعيم الصومال السابق أن يكتب بالفرنسية فأنه فعل ذلك بعد أن وجد أن اللغة الأفريقية التي يعرفها مفرٌغة من التراث.
من الواضح أن يحيي حقي تنبه إلي حقيقة هامة هنا وهي أن الحداثة والتراث والأدب مصدرها واحد، ألا وهو اللغة التي تتفرع منها كل هذه الأشياء. فأدب شكسبير وعصره الاليزابيثي يختلف عن أدب القرنين السابع والثامن عشر. وأدب هذه العصور الثلاثة يختلف عن أدب القرن العشرين بكل ما فيه من حداثة. ومرجع هذا الإختلاف هو استعمال اللغة. لم يقدٌم جويس الحداثة من خلال استعمال أسطورة الاوديسا ولم يقدمها لأنه حفيد شكسبير ولكنه قدمها من خلال استعمال جديد للغة الإنجليزية التي نحت منها لغة جعلته من رواد الحداثة في هذا العصر.
ونقطة أخري هامة فطن اليها يحيي حقي وهو المحور الثاني في حواره، وهي أن الحداثة أكبر من أن يحدها أو يحددها جنس أدبي كالقصة القصيرة أو الرواية مثلا. والمثل الذي يقتطفه من ديوان عمر بن ربيعه يوضح أن الفن القصصي يتخطي حدود الجنس الأدبي، ففي الشعر مثلا قصص لا يقل روعة عما هو في النثر. وربما لم يكن يحيي حقي علي وعي بأن حديثه هذا يصب في صلب الحداثة. فقد نادي النقاد الغربيون منذ أواخر الماضي بضرورة الغاء الحواجز بين الأجناس الأدبية (genre)، وفي العقود الأخيرة الماضية ظهرت دراسات بعنوان ¢القصة في مسرحيات شكسبير¢ وكتبت فيرجينيا وولف رواية (الأمواج) وكأنها قصيدة. وبعد أن يشير للشباب الغاضب علي التراث إلي وجود قصة قصيرة جميلة في شعر عمر بن أبي ربيعة الذي يبدأ بالبيت المشهور:
أمن آل نجعم انت غاد فمبكر غداة غد أو رائح فمهجر
بعد أن يفعل يحيي حقي ذلك يقول: ¢هذه القصيدة تصلح لأن تكون حكاية علي غرار حكايات بوكاشيو، لأن الشاعر يصف مغامرة غرامية سأرويها لكم..¢ ثم يخلص إلي القول: ¢ تنتهي الحكاية هنا بانتهاء المغامرة، عرض علينا عمر حوادثها بترتيب وتسلسل، لها بداية ووسط ونهاية، ونقل لنا صورة ذكية لطبع الرجال والنساء وحديثهن وجو الليل والترقب والحذر والحب والمتعة¢.
من الواضح أن يحيي حقي اختار هذا المثل وفي ذهنه الضجة الكبري التي أقامها رشاد رشدي حول فن القصة القصيرة التي اعتبرها فنا غربيا لا مثيل له في التراث العربي وساق الأمثلة كلها من قصص غربية ترجمها لهذا الغرض، وهي في الواقع ليست بذات قيمة حتي في أدب القصة الغربية القصيرة. ومن بين القصص التي ركز عليها رشاد رشدي قصة موباسان ¢تحت ضوء القمر¢، ومن بين التقنيات التي تكرر ذكرها في حديث رشاد رشدي هي أن القصة القصيرة عمادها بداية ووسط ونهاية.
ولا بد وأن طبع يحيي حقي السمح كان يمنعه من أن يقول صراحة لزميله وصديقه رشاد رشدي، إن كل سحر في قصة موباسان موجود في قصة عمر بن أبي ربيعة، بل وأكثر. وأنه لو صح العزم وخلصت النية لعثر علي مثل واحد علي الأقل من التراث العربي.
كان طبعه رحمه الله يصرفه عن المواجهة الشخصية إيمانا أن المعالجة الحقيقية أهم من التصدي للمعتدي عليها. فبدلا من الصراحة التي كان يمكن أن تؤدي إلي خصومة راح يحيي حقي يوضح أن القصة القصيرة هي أكثر من بداية ووسط ونهاية. وبيٌن أن المشهد الأخير في قصة عمر بن أبي ربيعة يفوق التقنية ¢المتسلسلة¢ إن صح التعبير، وهي نهاية تفوق كل نهاية مرتبطة ببداية ووسط. وبهذا نصل إلي المحور الثالث الذي يدخل منه لمعالجة الموضوع. يقول يحيي حقي:¢ تعالوا معي إذن نري كيف أنهي عمر قصيدته، نعلم من الأبيات الأخيرة أن مغامراته لا تنسيه عناء مخلوق هو أول عون له علي قضاء مأربه وهي ناقته التي سخرها لأسفاره..¢ ثم يستشهد ببيت القصيد:
فساقت وما عافت وما رد شربها عن الري مطروق من الماء اكدر
إنها فعلا نهاية جميلة يلاحظها يحيي حقي، فهي توازي بين محنة عمر ومحنة ناقته موازاة فنية رائعة: كلاهما قسا عليه الظرف وتركه ظمآنا. وهكذا يتضح لنا الظمأ المحسوس وتتداخل أجزاء الصورة بعضا ببعض بشكل عفوي وعضوي يفوق تلك ¢البنية العضوية¢ التي سلطها رشاد رشدي سيفا هش به علي التراث الذي رآه خاليا منها.
وأبلغ مثل علي عمق البساطة هذه هو قصته ¢قنديل أم هاشم¢ التي كتبها يحيي حقي بلغة تفوق الوصف في عباراتها المكثفة وايقاعها الذي يطرب الأذن وسردها الذي ينساب دون أي تكلف. تقرأ القصة وتشعر أنها قصيدة نثر جميلة من القصائد التي يتحدث عنها ملارميه أو بودلير، والتي ترصد الحركة الداخلية لتموجات العاطفة عند الشخصية. وينسحب هذا بشكل عام علي أعمال يحيي حقي التي يطوقها اسلوبه بكل هذه البساطة المؤثرة التي ينتقل سحرها إلي السامع والقاريء بتأثير بالغ.
سألت جبرا مرة عن السبب الذي قاده إلي كتابة روايته الأولي باللغة الإنجليزية، فأجاب أنه أحجم عن الكتابة بالعربية لأنه اعتقد أن اللغة الخاصة التي تحتاجها الرواية لم تكن متوفرة بعد في لغتنا العربية، وأن نماذج النثر الفني عند العقاد والمنفلوطي وغيرهم لا تسعف الروائي علي اشتقاق لغة روائية. أي أن جبرا اشتكي من غياب الأنموذج الذي كان يمكن أن يقتدي به من أجل أن يستعين به قبل أن يشرع بكتابة الرواية. لست أدري كيف اختفي عنه نور ¢قنديل أم هاشم¢.
لكن دهشتي من ملاحظة جبرا خفت قليلا بعد أن حضرت الندوة التي أقامها المجلس الأعلي للثقافة بالإشتراك مع منظمة اليونسكو في يناير من هذا العام احتفالا بمرور مئة عام علي مولد يحيي حقي. فقد لاحظت أن الندوة لم تول اللغة الروائية الإهتمام الذي تستحقه، بل إن ¢وجوه يحيي حقي¢ وهو عنوان الندوة لا يمكن أن يجستدل عليها بدون التنقيب عن اللغة الروائية في كتابات يحيي حقي.
هذه أمثلة أسوقها لماما من ¢قنديل أم هاشم¢ تبيٌن بوضوح القدرة علي اشتقاق لغة روائية تفي بما هو مطلوب من السرد الروائي أن يحققه:
¢في هذا الزيت مورد رزق متسع للشيخ درديري، ومع ذلك لا تظهر عليه آثار النعمة. فجلبابه القذر هو هو، وعمامته الغبراء هي هي. وماذا يفعل بنقوده! هل يكنزها تحت بلاطة؟ يتهمه زملاؤه أنه يحرقها في الحشيش، بدليل سعاله الذي لا ينقطع وبدليل ما في طبعه من ميل (للقفش) والتنكيت، والحقيقة أنه مزواج لا يمر العام إلا ويبني ببكر جديدة. عرفه اسماعيل من تردده علي المقام واعتاد أن يمر عليه في أغلب الليالي بعد صلاة العشاء ليتندر بحديثه. ومال الرجل للفتي واختصه بحنانه، هذا الحنان هو الذي حمله ذات ليلة علي الإفضاء إليه بسر لم يفض به إلي أحد غيره.......
نحس ونحن نقرأ هذا العرض أن الشيخ درديري يمثل أمامنا مظهرا ومخبرا. لو قال الراوي مثلا أن الشيخ درديري ينفق فلوسه في الحشيش لكان القول باهتا. لكنه آثر أن يقول أنه ¢يحرقها¢ في الحشيش، مما يعطي التشبيهية والحسية.
أما المفارقة الرائعة في هذا المقتطف الذي يذكرنا علي الفور بتجربة اساسية في رواية جويس ¢صورة الفنان في شبابه¢ عندما يواجه ستيفان ديدالاس بنت الهوي ويدخل في تجربة جديدة في حياته. ومع أن اسماعيل كان غائب الذهن، يفكر في الفتاة السمراء التي تزم شفتيها إلا أنه كان غير غافل عن سحر الشيخ وقنديله، ومنذ تلك اللحظة التي تحدث إليه الشيخ التحم اسماعيل بالقنديل ليصبح جزءا هاما من تكوينه. كل هذا يحدث دون أن يدرك اسماعيل فعلا كنه الموضوع ¢ وانتفض اسماعيل، لا يدري ما هذا الذي سحر قلبه¢.
وبهذه العبارة الموجزة نقف علي حالة اسماعيل ونحن مثله في حيرة لا ندري ما الذي مس قلبه، أهو القنديل أم الفتاة أم الإثنين معا. ومن الواضح أن كلمة ¢مس¢ تحمل أكثر من معني أقربها الجنون.
وفي مشهد آخر مؤثر يصف اسماعيل الفتاة وهي تقبٌل سور المقام، وبعبارة سحرية يشفع لها أمام مقامات الصالحين، وأكثر من ذلك فإن هذه الشفاعة تتضمن أقصي درجات التعاطف الإنساني: ¢ ليست هذه القبلة من تجارتها¢، وكأن التجارة الضمنية قد تخلفت عن صاحبتها خلف السور. هكذا يتطهر الناس من ذنوبهم وهم يسعون إلي العتبات المقدسة. وكأن الراوي الذي يقف موقف الملاحظ يقول هنا ¢ إنما الأعمال بالنيات¢ وليس بالتجارة التي يراها الراوي ضمنيا مهنة عابرة في ظرف عابر يمكن أن يتحرر منها المرء وهو في حضرة مقام الصالحين. ولولا أن الراوي تخيل أن الفتاة تحررت فعلا من تجارتها لما بادر بالقول ¢ومن ذا الذي يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلي السور، وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة؟¢
من التعليقات التي سمعتها في ندوة يحيي حقي عن ¢قنديل أم هاشم¢ أن الروائي يختزل الحوادث كثيرا لأنه يرغب في الوصول إلي هدفه بأقصي سرعة، بدليل أنه اختزل حياة اسماعيل في الغرب إلي أقصي درجات الإختزال، إذ ينتهي القسم الخامس من الرواية بعبارة ¢وسافرت الباخرة¢ ويبدأ القسم الذي يليه مباشرة بعبارة ¢ومرت سبع سنوات وعادت الباخرة¢.
لكن يحيي حقي يستعيض عن العنصر الحكائي باللغة الروائية المكثفة التي تعطي القاريء مجالا يتخيل من خلاله ما حدث دون أن يسمع تتابع الأحداث من الراوي. وهنا نأتي إلي أهم مساهمة قدمها يحيي حقي للرواية، وهي المشاركة الفعلية للقاريء التي مردها إلي إيمان يحيي حقي بحرية القاريء ودوره الفعال في العملية الروائية برمتها. كل هذا بفضل الإستعمال الخاص للغة، الذي يغنينا عن تتبع الأحداث ويقلل من سلطة الراوي علي القاريء باختزال تعليقاته وتفسيراته وفرض وجهة نظره علي القاريء. كان يحيي حقي حداثيا قبل أوان الحداثة، علي الأقل في العالم العربي، إذ إنه اهتدي مبكرا إلي أن اللغة في الرواية عنصر أساسي، وأن الثورة الكبري في عالم الأدب الغربي كانت من خلال التطور الهائل الذي طرأ علي اللغة التي لم تعد مجرد اداة تنقل الحدث وتحكيه ثم تختفي بعد وصول الحدث الينا. ففي ¢قنديل أم هاشم¢ علي سبيل المثال نجد أن وعي اسماعيل في المراحل المختلفة من حياته بما يدور حوله هو الذي يشكل الحدث طوعا من خلال التعبير الذي يصل الينا، وكل ما في لغة السرد من ايقاع ينبع اصلا من تموجات الوعي المختلفة التي يحس بها اسماعيل، وهي تموجات يغلب فيها الإحساس (sensation) علي الإدراك (comprehension). ويظل الإحساس متحديا للإدراك لأنه لا يخضع لمنطقه ولا يمكن أن يكون التعبير عنه كافيا أو مرضيا علي الأقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصدر: أخبار الأدب، في 17/4/2005م

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:52 AM
ظاهرة أدبية فريدة:
الرصاصة التي انطلقت من قلب يحيى حقي

بقلم: فؤاد دوارة

" لم يحدث في تاريخ الأدب العربي كله، وربما في تاريخ الأدب العالمي - في حدود علمي - أن استطاعت قصة في أقل من سبعين صفحة، أن تنتقل وحدها بمؤلفها من عالم المجهول إلى قمة الشهرة، ليصبح كاتبا معروفا، بعد ان كان نكرة لا يعرفه أحد، هذا هو ما حدث بالضبط مع رواية يحيى حقي القصيرة "قنديل أم هاشم" فقد ضمها أول كتاب نشر له في أبريل سنة 1994، مع أربع قصص قصيرة، ومجموعة من مقطوعات الشعر المنثور بعنوان "بيني وبينك"، وكلها رفيعة المستوى، وإن تفردت الرواية القصيرة التي عرف الكتاب باسمها بقوة التأثير الهائلة، التي حولت اسم كاتبها المجهول إلى علم يشار إليه بالبنان، ويحرص القراء على متابعة كل ما يكتب.
"لقد احتفى النقاد والدارسون بهذه الرواية، فكتبوا عنها كثيرا، واجتهدوا في تحليلها وتعداد مزاياها، حتى ذاعت شهرتها، بدرجة كاد يضيق بها يحيى حقي، وصرح بذلك في حوار أجريته معه سنة 1964، قال فيه: "إن اسمي لا يكاد يذكر إلا ويذكر معه "قنديل أم هاشم"، كأني لم أكتب غيرها .. "
"ما سر هذه الرواية القصيرة التي حققت لكاتبها ما لم تحققه عشرات الكتب لغيره من كبار المؤلفين؟
"شغلني البحث عن السر وأنا أعيد قراءتها للمرة السابعة أو الثامنة - لا أذكر - وبينما أنا غارق في البحث والتأمل، تذكرت أن يحيى حقي نفسه وضع في أيدينا عدة مفاتيح مهمة قد تساعدنا في الاهتداء إلى هذا السر.
"أول هذه المفاتيح يتمثل في قوله في نفس الحوار الذي أشرت إليه حالا:
"حين أحاول البحث عن سبب قوة تأثير "قنديل أم هاشم" لا أجد ما أقوله سوى أنها خرجت من قلبي مباشرة كالرصاصة، وربما لهذا السبب استقرت في قلوب القراء بنفس الطريقة .." مؤكدا بذلك عنصر الصدق في الرواية ، الصدق الواقعي، والصدق الفني، صدق العاطفة، وصدق الانفعال، وهو ما فسره في سيرته الذاتية الموجزة التي أضيفت إلى مؤلفاته الكاملة، التي بدأ إصدارها عام 1975، فقال عن سنوات الاغتراب الخمس التي قضاها في روما: "طوال تلك السنوات لم أنقطع عن التفكير في بلادي وأهلها. كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم. وحين عدت إلى مصر سنة 1939 شعرت بجميع الأحاسيس التي عبرت عنها في "قنديل أم هاشم .." لم يكن من قبيل المصادفات إذن أن يحدثنا أيضا في سيرته الذاتية عن معايشته المستمرة حتى اليوم لشخصيات حي السيدة زينب التي عرفها في طفولته من أمثال "الست ما شاالله"، بائعة الطعمية، والأسطى حسن حلاق الحي، وبائع الدقة الذي لا يبيعك إلا إذا بدأته بالسلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء، وجموع الشحاذين والدراويش الملتفين حول مقام "الست"...
"وهي نفس الشخصيات التي يصفها على صفحات الرواية وبنفس أسمائها، وهو ما يجعلنا نقطع بأنه لم يكن يؤلف رواية خيالية بقدر ما يسجل جانبا من سيرته الذاتية، وحياته الواقعية في حي السيدة زينب، فإذا اختلفت بعض تفصيلات حياته كما نعرفها عما جاء في الرواية، فأهم من ذلك الموقف العام، والمشاعر والأحاسيس التي أكد أنه عاشها جميعا.
لوثة عاطفية
المفتاح الثاني الذي وضعه يحيى حقي في أيدينا ليساعدنا على الاقتراب من فهم سر هذه الرواية العبقرية يتمثل في قوله:
"إنها قصة غريبة جدا كتبتها في حجرة صغيرة كنت أستأجرها في حي عابدين، وعشت فيها لوثة عاطفية مثيرة عبرت عنها في أناشيد "بيني وبينك" التي تجدها في نهاية كتاب "قنديل أم هاشم".."
وحين نراجع تلك الأناشيد الغزلية، نلاحظ أنها تتحدث عن تجربة عاطفية انقضت، ويكفي أن نقرأ فقرة واحدة من فقراتها الثلاث والثلاثين - بعدد حبات المسبحة - لندرك مدى تعلقه بتلك الحبيبة الهاجرة، ومدى السعادة التي ذاقها معها، ولتكن تلك التي يقول فيها: "ماذا تظنين؟ أحسبت يوم اختفائك أنني سآوي إلى عشنا فأمكث أترقب ميعادك، فإذا مضى تشاغلت بكتاب أقرأه ولا أفهم منه شيئا، ونظرت إلى الساعة مرة وتثاءبت أخرى حتى إذا ما انتبهت إلى مشاغلي التي أهملتها من أجلك، هبطت الدرج سريعا، وانطلقت إلى الدروب والمسالك، واختلطت بالناس.. أو يدور بخلدك أنني عندئذ أنسى كل شيء؟
هيهات لخيالك مهما سكر وعربد، أن يدرك ما فعلت .. لبثت انتظرك ساعة، ثم ليلة، ثم يوما ويومين، أسبوعا وأسبوعين، شهرا وشهورا .. وما زلت انتظرك وأنا أعلم أنك لن تعودي، ولكني أخشى - إذا لم أنتظرك وشاء القدر أن تعودي، أو أن ألقاك في الطريق - أخشى حينئذ أن تكون لهفتي على رؤيتك قد طواها النسيان، وأطفأ أوارها. ولست أريد إلا أن أقابلك مشبوب العاطفة، وإله القلب، ظامئ العين، فأنت - لو تعلمين - عزيزة علي، وهيهات لي أن ابتذل قدرك عندي .. فلأحتمل الألم طول الدهر خوفا من إساءتك في لحظة عابرة.. قد تأتي وقد لا تأتي ..". لعل هذه الفقرة تكفي وحدها للتعبير عن مدى السعادة التي عاشها مع تلك الحبيبة عقب عودته من أوربا عام 1939، وهو ما أسماه بعد ذلك بسنين طويلة "لوثة عاطفية" استمرت عاما وبعض عام، هي الفترة التي استغرقها في كتابة رائعته "قنديل أم هاشم" .. أي أنه كتبها وهو غارق في حالة توهج عاطفي نادر نكاد نلمسه في تأجج مشاعره وتوفز أعصابه في كل عبارة خطها في الرواية.
"دواق" ليلة الدخلة
على أن هذا التوهج العاطفي لا يرجع في الحقيقة إلى تلك "اللوثة العاطفية" وحدها، بل إلى لوثة أخرى أقوى وأشمل، عاشها يحيى حقي منذ طفولته المبكرة في بيت متواضع أرضعه التدين والوطنية وحب الأدب والقراءة، ازداد حبه لبلاده التهابا وتأججا خلال سنوات غربته، فلم ينقطع تفكيره فيها وفي أهلها، وحنينه الدائم إليهم، مما انعكس على تصويره لهم في الرواية، وفي غزله المشبوب ببلاده مثل:" .. في ذهنه مصر عروس الغابة التي لمستها ساحرة خبيثة بعصاها، فنامت عليها "دواق" ليلة الدخلة. لا رعى الله عينا لم تر جمالها، ولا أنفا لا يشم عطرها، متى تستيقظ؟ .."
وقد أصاب يحيى حقي حين وصف بطله بأنه "شاب يريد أن يهز الشعب المصري هزا عنيفا ويقول له: اصح.. تحرك، فقد تحرك الجماد!"
تستبد به تلك الرغبة الملحة في إيقاظ الشعب لدرجة تدعوه إلى هجائه بقسوة لم يجرؤ عليها أعدى أعدائه، لكأنه من فرط حبه ينخزه بلا رحمة لكي يخرجه من سباته:" .. هؤلاء المصريون جنس سمج ثرثار أقرع أمرد، عار حاف، بوله دم، وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه. ومصر؟ قطعة مبرطشة من الطين أسنت في الصحراء، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض، ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من الجاموس نحيل.."
وهذا الحب المتأجج ليس مشاعر مجردة أو عاطفة مثالية معلقة في الهواء، بل هو شديد الارتباط بالمكان والناس الذين نشأ بينهم يحيى حقي وبطله في حي السيدة زينب وأحس بآلامهم وشاركهم جدهم ولهوهم، وتعمق في تفهم نفسياتهم مما نلمس آثاره بوضوح في صفحات الرواية.
تعمد يحيى حقي أن يدفع ببطله إلى السيدة في ثلاثة مواقف حاسمة في الرواية. في المرة الأولى قبل احتدام الأحداث، بل قبل بدايتها، وإسماعيل لا يزال صبيا يرى ويسجل أدق التفصيلات والأحاسيس دون أن يكون له موقف محدد إزاءها ".. هو خبير بكل ركن وشبر وحجر، لا يفاجئه نداء بائع، ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صور متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد في روحه أقل مجاوبة لا يتطلع ولا يمل. لا يعرف الرضا ولا الغضب. إنه ليس منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح، لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب، والنفوذ إليه خفية، والاستقرار فيه، والرسوب في أعماقه، فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأية حياة.. نظرة سليمة، كل عملها أن تبصر."
القنبلة الأولى
وسافر إسماعيل إلى إنجلترا وتفوق في دراسة طب العيون، وعاش قصة حب جارفة مع زميلة إنجليزية، عرفت كيف تخرجه "من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق"، ونجحت في تحريره من كثير من مشاعره الشرقية المسرفة الضارة، ومن بينها حبه المفرط لها. وعاد إلى بلاده واثقا من نفسه وعلمه مهيأ لخدمة بلده وأهله، فإذا به يواجه في أول ليلة له في بيته، بأمه، تعالج ابنة عمه وخطيبته "فاطمة النبوية" بسكب قطرات من زيت قنديل أم هاشم في عينيها المصابتين بالرمد، فتلهبها وتكويها بدلا من أن تشفيها. ثار وفقد أعصابه، وانتزع زجاجة الزيت من يد أمه "بشدة وعنف، وبحركة سريعة طوح بها من النافذة. وكان صوت تحطمها في الطريق كدوي القنبلة الأولى في المعركة".
ها هي ذي الأحداث قد تتابعت وتأزمت وأوشكت أن تصل إلى قمتها، وها هو ذا المؤلف يدفع ببطله إلى ميدان السيدة مرة ثانية فكيف رآه؟ .. فلنقرأ: "أشرف على الميدان فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة، وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد. هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة، ليس لها ما تفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر. ما هذا الصخب الحيواني؟ وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه؟ يتطلع إلى الوجوه فلا يرى إلا آثار استغراق في النوم كأنهم جميعا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى إنساني ..." ويندفع إسماعيل لمنازلة الخرافة في عقر دارها، فيحطم قنديل أم هاشم، فإذا بالجموع تكاد تفتك به. وحين يشفى من جراحه يندفع مرة ثانية في علاج "فاطمة النبوية" بالأساليب العلمية التي أتقنها في إنجلترا، وشفى بها مئات العيون المريضة. ولكنها في حالتنا هذه تفشل فشلا ذريعا، فينهار إسماعيل ويفقد ثقته في نفسه وفي علمه، ويعيش أزمة ضارية تكاد تقضي عليه، وتدفعه للهرب إلى أوربا، لولا ارتباطه الوثيق بميدان السيدة وبأهله، وتردده المستمر عليه، حتى استعاد سكينة نفسه، وبدأ يدرك فيما يشبه الكشف الصوفي أن العلم دون الإيمان لا يساوي شروي نقير، وأن فاطمة النبوية لم تشف لأنها فقدت إيمانها بإسماعيل وبأساليب علاجه.
بهذه الروح الجديدة تغيرت نظرة إسماعيل للميدان ولناسه: "وجاء رمضان فما خطر له أن يصوم. ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر: في الجو، في الهواء، في المخلوقات، في الجمادات، كلها بها شيء جديد لم يكن فيها من قبل. كأن الوجود خلع ثوبه القديم واكتسى جديدا. علا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف ... ودار بعينيه في الميدان، وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها، وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل إلى سمعه، فتذكره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه ... ما يظن أن هناك شعبا كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين. ابن البلد يمر أمامه كأنه خارج من صفحات الجبرتي.
اطمأنت نفس اسماعيل وهو يشعر أن تحت قدميه أرضا صلبة"... إلخ إلخ...
يؤمن يحيى حقي بأن "الأدب الصادق هو الأدب الذي - وإن سجل وحلل وكتب بأسلوب واقعي - لا يكتفي بذلك بل يرتفع إلى حد التبشير، وهذا ما وجدته في الأدب الروسي فسحرني.." وفي اعتقادي أن سرا من أهم أسرار قوة تأثير " قنديل أم هاشم" هو ارتفاعها إلى مستوى التبشير القوى للتصالح بين العلم والإيمان، من أجل النهوض بجموع الشعب المستكينة المستسلمة لمصيرها التعس، ويزيد من قيمة هذا التبشير وقوته أنه تحقق بأسلوب فني درامي ودون أي قدر من الخطابة والمباشرة، وقد تمثل في حرص إسماعيل بطل الرواية على شفاء ابنة عمه وخطيبته فاطمة النبوية، وحرصه كذلك على أن يتزوجها، بعد أن يعلمها كيف تأكل وتشرب وكيف تجلس وتلبس، ويجعلها بنى آدم. أحسن في هذه العلاقة وفاء المثقف المصري، الذي يمثله إسماعيل، لشعبه المريض الجاهل وقيامه بواجبه نحوه، ويرتبط به بهذا الرباط المقدس الذي لا ينفصم. يؤكد هذا الفهم ويزكيه ما فعله إسماعيل بعد ذلك حين افتتح عيادة بسيطة لعلاج مرضة العيون بحي البغالة، وجعل الزيارة بقرش واحد لا يزيد .. " استمسك من علمه بروحه وأساسه، وترك المبالغة في الآلات والوسائل. اعتمد على الله، ثم على علمه ويديه، فبارك الله في علمه ويديه. ما ابتغى الثروة ولا بناء العمارات وشراء الأطيان، وإنما قصد أن ينال مرضاه الفقراء شفاءهم على يديه." إنها رواية تتخذ موضوعها من حياة جموع الناس، وتدعو أبناءهم المثقفين إلى التفاني في خدمتهم وتجميل حياتهم، فهل يدهشنا بعد ذلك أن تستقر في قلوب الناس بنفس القوة التي خرجت بها من قلب مؤلفها؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصدر: مجلة "العربي" ـ أبريل 1996م.

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:52 AM
يحيى حقي.. الأديب والإنسان
(في ذكرى مولده: 1 من ذي القعدة 1322هـ)

سمير حلبي

يعد الأديب المبدع يحيى حقي رائد فن القصة القصيرة العربية؛ فهو أحد الرواد الأوائل لهذا الفن الذي يدين له بالكثير مما وصل إليه من نضج، وما بلغه من انتشار واسع، وقد خرج من تحت عباءة ذلك الرائد المبدع الذي كان يعمل في صمت ويكتب في هدوء كثير من الكتاب والمبدعين في العصر الحديث، وكانت له بصمات واضحة في أدب وإبداع العديد من أدباء الأجيال التالية.
المولد والنشأة
ولد "يحيى محمد حقي" في [1 من ذي القعدة 1322هـ=7 من يناير 1905م]، ونشأ في "درب الميضة" بحي "السيدة زينب"، وكانت عائلته ذات جذور تركية قديمة، وقد استوطنت مصر نحو عام [ 1282هـ=1865م].
وشب "يحيى حقي" في جو مشبع بالأدب والثقافة، فقد كان كل أفراد أسرته يهتمون بالأدب مولعين بالقراءة، فخاله "حمزة بك" كان يشغل وظيفة رئيس القلم العربي في ديوان الخديو إسماعيل، وله نماذج من الإنشاء حواها كتاب "جواهر الأدب"، وعمه هو "محمود طاهر حقي" الذي امتلك في شبابه مجلة "الجريدة الأسبوعية"، وكان أحد رواد فن الرواية، وقد كتب عدة روايات منها: "عذراء دنشواي"، و"غادة جمانا".
أما والده "محمد حقي" فقد كان موظفًا بوزارة الأوقاف، وكان محبًا للقراءة والثقافة، وكان مشتركًا في عدد كبير من المجلات الأدبية والعلمية والثقافية، وكانت أمة كذلك حريصة على قراءة القرآن الكريم ومطالعة الكتب الدينية.
في هذا الجو الديني الذي يظله الحب ويشع فيه التفاهم وترفرف فيه السعادة نشأ "يحيى حقي" لتتشبع روحه ووجدانه بالقيم الدينية الأصيلة، وتتشرب بالأخلاق الفاضلة، والقيم الإنسانية النبيلة والمثل العليا.
أسماء الأنبياء
وكان "يحيى حقي" ثالث سبعة إخوة: خمسة ذكور، وبنتان، وكان إخوته الذكور يحملون جميعًا أسماء أنبياء؛ فأكبرهم "إبراهيم" الذي بدأ حياته بالكتابة الأدبية في مجلة "السفور"، وثاني إخوته "إسماعيل" الذي عمل بالتدريس في بعض المعاهد المصرية وجامعة الملك سعود، وترجم كتبًا في الفلك والفضاء، ثم "زكريا" الذي عمل طبيبًا، و"موسى" الذي تخرج في كلية التجارة ثم حصل على ماجستير في السينما، أما الأختان فهما "فاطمة"، و"مريم".
في هذا الجو نشأ "يحيى حقي" متأثرًا بالأدب القديم والحديث، فقرأ لعدد كبير من أدباء العرب القدامى كالجاحظ وأبي العلاء، كما تأثر بعدد من الكتاب الغربيين مثل "فرجينيا وولف"، و"أناتول فرانس".
يحيى حقي في صعيد مصر
عمل "يحيى حقي" معاونًا للنيابة في الصعيد لمدة عامين من [1346هـ=1927م] إلى [1347هـ=1928م]، وكانت تلك الفترة على قصرها أهم سنتين في حياته على الإطلاق، وهو يفسر ذلك بقوله: "أتيح لي أن أعرف بلادي وأهلها، وأخالط الفلاحين عن قرب، وأهمية هاتين السنتين ترجع إلى اتصالي المباشر بالطبيعة المصرية والحيوان والنبات، والاتصال المباشر بالفلاحين والتعرف على طباعهم وعاداتهم".
وقد انعكس ذلك على أدبه، فكانت كتاباته تتسم بالواقعية الشديدة وتعبر عن قضايا ومشكلات مجتمع الريف في الصعيد بصدق ووضوح، وظهر ذلك في عدد من أعماله القصصية مثل: "البوسطجي"، و"قصة في سجن"، و"أبو فروة".
كما كانت إقامته في الأحياء الشعبية من الأسباب التي جعلته يقترب من الحياة الشعبية البسيطة ويصورها ببراعة وإتقان، ويتفهم الروح المصرية ويصفها وصفًا دقيقًا وصادقًا في أعماله، وقد ظهر ذلك بوضوح في قصة "قنديل أم هاشم"، و"أم العواجز".
في السلك الدبلوماسي
والتحق "يحيى حقي" بعد ذلك بالسلك الدبلوماسي، وقضى نحو خمسة عشر عامًا خارج مصر، وقد بدأ عمله الدبلوماسي في جدة، ثم انتقل إلى تركيا، ثم إلى روما، وعندما عاد إلى مصر إبان الحرب العالمية الثانية عين سكرتيرًا ثالثًا في الإدارة الاقتصادية لوزارة الخارجية، وظل بها نحو عشر سنين.
وفي تلك الفترة تزوج من السيدة "نبيلة" ابنة "عبد اللطيف بك سعودي" عضو مجلس النواب، وكان ذلك في [ذي الحجة 1362هـ=ديسمبر 1943م].
وبدخوله هذه الأسرة وجد "يحيى حقي" نفسه في غمار التاريخ، يقول: "دخلت في هذه الأسرة فإذا بي أدخل في بحر خضم لا شاطئ له من تاريخ مصر وأجيال مصر منذ حكم إسماعيل إلى الفترة التي أعيش فيها، تروى لي بأدق التفاصيل وبأدق الأسرار من حمايا المرحوم الأستاذ عبد اللطيف سعودي.. فكان لهذا الرجل فضل كبير علي في أنه بصرني بأشياء كثيرة لا يعلمها إلا هو في تاريخ مصر الحديث".
ميلاد ووفاة
تعرضت السيدة "نبيلة" لمتاعب شديدة في شهور حملها الأخيرة، وكانت قد أصيبت في صغرها بحمى روماتيزمية، فأثرت عليها في شبابها، وقد نالت منها في شهور حملها؛ وهو ما أجهدها، خاصة وقد تبين إصابتها بالتهاب عضلة القلب الذي لم يكن له علاج، حتى ظهرت تباشير علاج جديد اسمه "البنسلين"، وكان علاجًا نادرًا يصعب الحصول عليه إلا عن طريق وزارة الخارجية أو قوات الحلفاء، كما أن سعره كان مرتفعًا للغاية، ولكن استطاع يحيى حقي –من خلال عمله بوزارة الخارجية- الحصول على هذا الدواء، ولكن بعد فوات الأوان، فقد وصلت حالة الزوجة إلى مرحلة حرجة خطيرة لا تستجيب معها للعلاج، وما لبثت الزوجة أن ماتت بعد أن وضعت مولودتها "نهى" بستة أشهر.
وبالرغم من زواج "يحيى حقي" من السيدة "جان" الإنجليزية بعد وفاة زوجته الأولى بفترة طويلة فإنه ظل يذكر تلك السيدة التي عرف معها السعادة ولم تجنِ غير الألم، وكان كلما تذكرها بكى بحزن وتأثر، وكأنها لم تمت إلا في تلك اللحظة.
بين يحيى وشاكر
كان "يحيى حقي" متواضعًا أشد ما يكون التواضع، عطوفًا على أصدقائه مخلصًا في صداقته لهم، وقد ربطته صداقات وطيدة بعدد كبير من أعلام عصره، من أجيال مختلفة واتجاهات متعددة، ولكن كان الحب دائمًا هو الرباط الذي يجمع بينهم، والأدب هو الصلة التي تضمهم، ومن هؤلاء: محمود محمد شاكر، وعثمان عسل، ومحمد عصمت، وفؤاد دوارة، ومصطفى ماهر، وعطية أبو النجا، ونعيم عطية، وسامي فريد، وسمير وهبي، وأحمد تيمور وغيرهم.
وكان شاكر من أكثرهم قربًا منه فقد عرفه منذ عام [1358هـ=1939م] واستمرت صداقتهما لأكثر من (53) عامًا.
فقد كان لشاكر أكبر الأثر في الارتقاء بلغة يحيى حقي، وتحويله من رجل تتعثر يده لم يتعمق علمه بالعربية إلى ذلك الأديب المبدع الذي تشي كتاباته بأسرار العربية في تمكن واقتدار، ويكشف "يحيى حقي" بحب وتواضع عن جوانب خفية في علاقته بصديقه "شاكر" فيقول:
"من سنة 1939 إلى الآن هذه الصداقة متصلة، بل له علي فضل كبير، فهو الذي يدفع لي فاتورة التليفون، وهو الذي يدفع عني كثيرًا من الديون، وإذا تعثرت في الفلوس يعطيني لوجه الله".
ويقول عن تأثيره فيه وتأثره به:
"أثناء عملي بديوان وزارة الخارجية توثقت صلتي بالمحقق البحاثة الأستاذ محمود شاكر، وقرأت معه عددًا من أمهات كتب الأدب العربي القديم ودواوين شعره. ومنذ ذلك الحين وأنا شديد الاهتمام باللغة العربية وأسرارها، وفي اعتقادي أنها لغة عبقرية في قدرتها على الاختصار الشديد مع الإيحاء القوي".
وقد أشاد "شاكر" بموهبة حقي الأدبية وبراعته وحسه الأدبي المرهف "وتنبهه إلى جمال العبارة العربية، واكتشافه المبكر لأسرار بلاغة العرب، وقدرته الفائقة على اختزان كل ما يعرف وتمثله فيما يكتب بأسلوبه وعباراته بغير محاكاة أو تقليد، وإنما باقتدار وفن. براعة جعلته لا يقع فيما يقع فيه غيره من النقاد والأدباء، وهو ما أكسبه شخصية متميزة ومستقلة قائمة بذاتها.
ريادة فن القصة القصيرة
وبالرغم من قلة الأعمال القصصية ليحيى حقي فإنه يعد بحق هو الرائد الأول لفن القصة القصيرة، كما أثرى فن اللوحة الأدبية في مقالاته الأدبية العديدة التي لا تقل فنًا وبراعة عن القصة.
وقد صدرت الأعمال الكاملة ليحيى حقي في (2http://arresalahonline.com/vb/images/smiles/icon_cool.gif مجلدًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقام بإعدادها ومراجعتها الناقد "فؤاد دوارة".
وقد ترجمت بعض قصصه إلى الفرنسية، فترجم "شارل فيال" قصة "قنديل أم هاشم"، وترجم "سيد عطية أبو النجا" قصة "البوسطجي"، وقدمت تلك القصة الأخيرة في السينما وفازت بعدد كبير من الجوائز.
ومن أشهر أعمال "يحيى حقي": مجموعته القصصية "دماء وطين"، و"قنديل أم هاشم"، و"يا ليل يا عين"، و"أم العواجز"، و"خليها على الله"، و"عطر الأحباب"، و"تعالى معي إلى الكونسير"، و"كناسة الدكان".
يحيى حقي.. نبض للحياة
كان "يحيى حقي" أكثر أدباء جيله تأثيرًا على الأجيال اللاحقة من الكتاب، فقد كرَّس حياته لإرساء القيم الأدبية والفكرية والأخلاقية، وظل يرسي تلك المبادئ والقيم ويبثها في تلاميذه من خلال إبداعاته حتى آخر لحظة في حياته.
ولقد كان "يحيى حقي" ذاكرة حية لواقع الحياة المصرية، وقد سجلت كتاباته نبض الحياة المصرية، وعكست أنماط الحياة والتقاليد الاجتماعية في صعيد مصر وريفها، كما حرص على نقد الواقع الاجتماعي للأمة.
واستطاع كذلك أن يرسي أسس الدرس النقدي منذ وقت مبكر، فكان كتابه "فجر القصة المصرية" – على صغر حجمه – تأصيلاً مبكرًا للأسس الفنية للنقد الأدبي لفن القصة.
وكان للإبداع الأدبي لدى "يحيى حقي" قيمة فنية وفكرية وجمالية، فقد كانت لديه قدرة عجيبة على استشراف آفاق المستقبل الأدبي، كما كان متمكنًا من الأداة اللغوية، عارفًا بتراث أمته وتاريخها، وهو ما أضفى على أدبه سحرًا فريدًا.
فهو يجمع بين جمال الصياغة وروعة الفكرة والإحساس المرهف، مع الاهتمام بالقيم الدينية والأخلاق السامية وإعلاء المثل العليا.
وقد خرجت كتاباته في لغة قصصية متميزة في إيقاعها وتراكيبها، متوهجة بالمشاعر والأحاسيس، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، ذات قدرة فائقة على الإيحاء والتجسيد، والتأثير في المتلقي.
وتأثير "يحيى حقي" واضح على القصة العربية ليس فقط في مصر وحدها، وإنما في الأدب العربي عامة، ودوره في إرساء تقاليد هذا الفن الأدبي وإنضاجه هام وكبير بالرغم من قلة أعماله، وذلك لا يعني ضيق عالمه أو محدوديته، وإنما على العكس فقد كان يحيى حقي مدرسة لكثير من الأدباء، وعالمًا رحبًا حلق فيه العديد من الأدباء ينهلون من فنه وأدبه.
وتوفي "يحيى حقي" في [سنة 1412هـ=1992م] عن عمر بلغ سبعًا وثمانين سنة، بعد رحلة معاناة مع المرض، ولكنه كان دائمًا ثابت الجنان راضيًا مستسلمًا لقضاء الله.
* من مصادر الدراسة:
رسائل يحيى حقي إلى ابنته: نهى حقي – إبراهيم عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1422هـ=2001م].
سيناريو فيلم البوسطجي: صبري موسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1422هـ=2001م].
كناسة الدكان: [كتاب الهلال]، يحيى حقي، دار الهلال – القاهرة.
وصية صاحب القنديل: صلاح معاطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1415هـ=1995م].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصدر: موقع "إسلام أون لاين.

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:53 AM
المئوية لـ يحيى حقي

بقلم: د. السيد نجم
....................

بالتنسيق بين منظمة "اليونسكو" والمجلس الأعلى للثقافة بمصر، تقرر أن يكون عام 2005م هو مئوية ميلاد الأديب "يحيى حقي". وبهذه المناسبة فقد بدأ المجلس بالاحتفالات التي ستستمر طوال العام خلال شهر يناير الماضي. كما احتفل "قصر التذوق" بالإسكندرية بالمناسبة نفسها خلال الأسبوع الحالي. وينتظر خلال الشهر القادم تقيم "مكتبة الإسكندرية" عدد من المحاضرات والندوات حول "حقي".
أما ندوة الإسكندرية الأخيرة، فقد تتحدث فيها "نهى حقي" ابنة الكاتب، والكاتب "مصطفى عبدالله" رئيس قسم الأدب بجريدة الأخير، والناقد "شوقي يوسف"، وقد أدارها الأديب "السيد نجم".
"يحيى حقي" يعد من رواد القصة القصيرة العربية تحديدا، وان كتب الرواية والدراسات النقدية. ولد عام 1905م، درس الحقوق، عمل في التحقيقات التابعة لوزارة الداخلية في حينه وهو ما يمثل أعمال النيابة العامة الآن، لمدة سنتين..وقد قال "حقي" عنها أنها أهم سنتين في حياته، ومن خبرتها كتب روايته القصيرة "قنديل أم هاشم" التي تعد من أهم الأعمال الإبداعية خلال القرن الماضي، ربما لكونها أول رواية تناقش علاقة الشرق بالغرب في بدايات القرن الماضية، ومنها ندخل إلى قضية "الهوية" أو "الآخر".كما أن الكاتب نشر أول قصة له في عام 1926م، بمجلة الفجر.
ثم انتقل "حقي" للعمل في السلك الدبلوماسي بسفارات مصر في العديد من الدول العربية والأجنبية، منها..ليبيا وتركيا، وفرنسا وغيرها.
عاد "حقي" إلى القاهرة، وقد استقال من الخارجية، يكون أول مدير لمصلحة الفنون الجديدة، ومنها كانت نشاطاته في رعاية كافة الفنون، والانفتاح على الفنون الغربية الحديثة مثل الباليه والموسيقى الغربية وغيرها.
وفى كل المواقع التي عمل فيها، كانت هناك خبرات مضافة أفادت الكاتب، بل ومصر..حيث وضع أسس الكثير من المؤسسات الثقافية والفنية.
من أهم أعماله الروائية والقصصية والنثرية في مقالات ودراسات.. قنديل أم هاشم 1945م – دماء وطين 1945م – أم العواجز 1955م – عنتر وجولييت 1960م – صح النوم – خليها على الله..مع العديد من الترجمات عن الفرنسية والإنجليزية.
كتب عن أعماله في دراسات نقدية.. طه حسين، على الراعي، غالى شكري، لويس عوض، سيد قطب، سيد حامد النساج، محمد مندور..وآخرون.
وقد تفرغ الناقد "فؤاد دوارة" لجمع تراث الكاتب في مجال المقال والدراسات الأدبية، حيث أخرج 28 كتابا تتضمن أعمال، والتي يعقد البعض ومنهم السيدة "نهى" أنه توجد كتابات أخرى لم تجمع.
أما آخر ما كتب عنه فهو كتاب "جهاد في الفن" بقلم "مصطفى عبدا لله"، وهو يتكون من حوار مطول تم بين الكاتب والمؤلف خلال زيارة إلى مدينة روما، وجزء يتضمن "شهادات" لمن عاصروه، وجزء آخر يتضمن "ببليوجرافي" لمجمل أعمال "حقي"، بالإضافة إلى ملزمة من الصور الهامة للكاتب. وقد صدر الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة.
أما الناقد "شوقي بدر" فقد عرض لكتاب من أهم كتب "حقي" بل والتأريخ الأدبي للقصة العربية القصيرة، وهو كتاب "فجر القصة القصيرة". صدر الكتاب في 1964م. وقد ناقش الناقد سبب بداية التأريخ للقصة بعام 1908م، ويظن أن الفترة السابقة كانت زاخرة بالإنتاج الفني النثري الجديد، وان كانت المعايير الفنية تختلف عن رؤيتنا الآن.
ولم تنته الاحتفالية قبل أن توجه السيد نجم بأهمية إعداد برنامج احتفالي لمدة يومين، لعرض الإنتاج الفني في السينما (مثلا) لإدارة المناقشات حولها..وكيف أن العمل الأدبي الجيد ينتج عملا سينمائيا ناجحا، وهو ما تلاحظ في فيلم "البوسطجي" المأخوذ عن قصة للكاتب يحيى حقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
*المصدر: ميدل ايست اونلاين

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:56 AM
كناسة دكان يحيى حقي

بقلم: فؤاد دوارة

هذه تجربة فريدة في أدبنا العربي، كانت ثمرة علاقة بين كاتبين تفصلهما سنوات العمر، ويجمعهما عشق الكلمة. الأول هو أديبنا الكبير يحيى حقي الذي كنا نحسبه أديبا مقلا، والثاني هو الناقد فؤاد دوارة الذي حاول أن يثبت العكس فوهب الكثير من وقته وسنوات عمره كي يجمع ليحيى حقي اثني عشر كتابا كانت ضائعة وسط الصحف والمجلات الدورية وليقدم لنا يحيى حقي آخر غير الذي كنا نعرفه.
صدر أخيرا كتاب " كناسة الدكان " للأديب الكبير يحيى حقي، وهو الكتاب الثامن والعشرون من مؤلفاته الكاملة التي تصدرها " الهيئة المصرية العامة للكتاب " وبهذا الكتاب تكون مؤلفات الأديب الكبير قد اكتملت، وأحمد الله أني عشت حتى صدر هذا الكتاب، وأحمده أكثر أنه صدر في حياة مؤلفه، فاكتحلت عيناه بظهور مؤلفاته جميعا وهو على قيد الحياة.
ولصدور مؤلفات يحيى حقي قصة جديرة بأن تروى وفاء لتاريخنا الأدبي ، وتعريفا للأجيال الطالعة من أدبائنا بواقع الجيل السابق عليهم، وواجبهم نحوه، ونحو إبداعاته وتراثه القيم. فقد شاء حسن طالعي أن يربط بيني وأستاذنا الكبير حين قدر لي أن أعاونه في تحرير مجلة " المجلة" سبع سنوات خلال يقظة الستينيات، وما أكثر ما تعلمته منه خلال تلك السنوات وما شهدته من مواقفه المشرفة والمتفانية في خدمة الأدب والأدباء والمثل العليا، مما يتطلب حديثا طويلا، بل أحاديث وأحاديث، يكفيني أن أسجل له هنا وقفته الشجاعة إلى جواري في وجه ثورة الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة وقتها على بعض كتاباتي التي اعتبرها نقدا لسياسته في الوزارة، فإذا بيحيى حقي يتحمل مسئوليتها كاملة معي ، ويقرر بهدوء أنه مسئول عن كل حرف كتبته لأنه قرأه وأجاز نشره ، ويشفع ذلك بالثناء الكريم على شخصي وقلمي فتهدأ ثورة الوزير الغاضب، وإن أصر مع ذلك على نقلي.
كتب ضائعة وعرض مجحف
ومنذ أوائل السبعينيات قلت كتابات يحيى حقي حتى توقفت تماما سنة 1973، وكان قد صدر له ستة عشر كتابا مؤلفا غير الترجمات والمراجعات، فاعتبر كاتبا مقلا بالقياس إلى غزارة إنتاج كبار أدبائنا كالعقاد والمازني والحكيم. وحتى هذه الكتب الستة عشر لم تكن متوافرة في المكتبات لقدم العهد ببعضها، ولصدور بعضها الآخر في طبعات شعبية مثل " كتاب الهلال " أو " كتاب الجمهورية " أو " كتاب اليوم " مما جرت العادة على أن يطرح مع باعة الصحف بضعة أيام، ثم يختفي من الأسواق بعدها، وكان ذلك يسبب حرجا ليحيى حقي كلما طلبت منه مؤلفاته ولم يستطع تقديمها لمن يطلبها.
ومن شدة لهفة يحيى حقي على وجود كتبه في المكتبات، وخاصة بعد توقفه عن الكتابة، وافق على عرض مجحف من أحد الناشرين بإعادة طبعها كلها مقابل ألف جنيه لا غير. وبعد توقيع العقد إذا بهذا الناشر "الشاطر"، وقد أطمعه تساهل الأديب الكبير يحاول مضاعفة "شطارته" وأرباحه، وينزل بالمبلغ إلى النصف، مما اضطر يحيى حقي إلى الرفض.
ثم عرض د. حمدي السكوت على الأستاذ يحيى أن تقوم الجامعة الأمريكية بإعادة نشر كتبه مقابل ألفي جنيه، فاتصل بي يستشيرني.
وكان من رأيي أن الجامعة الأمريكية ليست جهة نشر، ولا نعرف أنها نشرت كتبا أدبية قبل ذلك ثم إن الدولة لها دار نشر هي " الهيئة المصرية العامة للكتاب " فلتم لا نعرض عليها إعادة طبع هذه الكتب، فإذا امتنعت، أصبحنا في حل أن ننشرها في الجامعة الأمريكية.
وتعهدت ليحيى حقي بأن أنوب عنه في هذه المهمة، إذ كان الدكتور محمود الشنيطي - رئيس هيئة الكتاب وقتها - صديقا وزميلا قديما.
لم يتردد د. الشنيطي في الموافقة، ولكنه اشترط ألا تدفع الهيئة أكثر من ألف وستمائة جنيه أي مائة جنيه عن كل كتاب، واشترط أن نصدر الكتاب الأول بسيرة ذاتية ليحيى حقي، وأن نضيف إلى بقية الكتب مواد جديدة لم يسبق نشرها ليساعد بذلك على رواجها.
ورحب يحيى حقي، ووقع العقد، ونص فيه - دون استشارتي- على أن أتولى أنا تقديم أصول الكتب والإضافات ومراجعة تجارب المطبعة وتوقيع أوامر الطبع، وهي ثقة كبيرة لم أستطع رفضها، بل حاولت النهوض بها على خير صورة ممكنة.
وهكذا وجدتني - دون أي ترتيب أو تفكير مسبق - غارقا في مؤلفات يحيى حقي ومقالاته وأحاديثه الصحفية وما كتب عنه، واستطعت في وقت قصير نسبيا أن أجمع له المادة اللازمة لسيرته الذاتية، وقرأتها عليه، فنقحها، وحذف منها، وأضاف إليها مقدمة ومؤخرة، وأسماها " أشجان عضو منتسب"، وهي التي تصدرت الكتاب الأول من مؤلفاته، وكنت قد اخترت " قنديل أم هاشم " لشهرته وشعبيته. وهو أول كتاب صدر ليحيى حقي، وكان ذلك سنة 1944، ومن عجب أنه رغم حجمه كان سببا في ذيوع شهرته.
وفي غمرة الحماسة لنجاح هذا المشروع الثقافي وإخراجه في أفضل صورة ممكنة أقنعت الأستاذ يحيى بإضافة عدد من الهوامش لشرح ما غمض من التعبيرات أو الاستعارات أو الأساطير، ومن أهل تلك الهوامش ما ذكره لي من أنه ظل أكثر من أسبوع يبحث عن الكلمات التي يضعها على لسان بطله " إسماعيل" في لحظة ثورته على الخرافة وتحطيمه لقنديل أم هاشم، وكيف أنقذه من حيرته تذكره لما قرأه عن الفيلسوف الألماني "نيتشه" حين أصيب بلوثة من الجنون فهبط من بيته وهو يصرخ (أنا.. أنا.. أنا).
وعهد الدكتور محمود الشنيطي إلى الفنان السكندري الكبير سيف وانلي برسم الكتاب، فرسم لوحة طريفة ليحيى حقي تصدرته، ومجموعة من " الموتيفات " الصغيرة الفاتنة لبدايات الفصول ونهاياتها، فخرج الكتاب تحفة فنية شكلا ومضمونا.
فضلت أن يصدر كل كتاب من كتب يحيى حقي مستقلا ليحتفظ بشخصيته ويباع بثمن في متناول عامة القراء، على أن أضيف للكتب الصغيرة الحجم مادة جديدة تتفق معها بحيث تتقارب أحجام الكتب قدر الإمكان. وهو ما واجهني في الكتاب الثاني " فجر القصة المصرية " لصغر حجمه مع جليل قدره، فأضفت إليه ست دراسات أخرى عن نفس المرحلة، كتبها يحيى حقي في فترات مختلفة منها ثلاث عن صديقه وزميل دربه في " المدرسة الحديثة " وريادة القصة القصيرة محمود طاهر لاشين، ودراسة بعنوان " القصة ماضيها ومستقبلها " زينت بها مجلة "المجلة" عددها الأول الصادر في يناير 1957، والمقدمة التي كتبها سنة 1964 لرواية عمه محمود طاهر حقي: " عذراء دنشواي "، ثم الدراسة الوحيدة عن اللوحات القصصية التي كتبها الشيخ مصطفى عبد الرازق بعنوان "مذكرات الشيخ فزارة" ولم يلتفت إليها تاريخ أدبنا الحديث.
يكفي كتابان أو ثلاثة
كان لا بد من وضع خطة تصدر الكتب بموجبها بطريقة منظمة، بحيث تختلف نوعياتها من كتاب لآخر، فتجتذب أكبر عدد ممكن من القراء مختلفي الاهتمامات. وحين أعدت النظر في الكتب الستة عشر وجدتها تنقسم إلى ثلاث نوعيات رئيسية هي: القصص، والكتابات النقدية، ثم المقالات الأدبية. فاتبعت هذا الترتيب لا إصدارها، فبدأنا - كما أشرت - بالقصص ممثلة في "قنديل أم هاشم" ثم ثنينا بالكتابات النقدية في " فجر القصة المصرية " وقد صدر سنة 1975، ثم أتبعناهما بكتاب "فكرة فابتسامة" الذي يمثل المقالات الأدبية، ولم يكن بحاجة إلى أي إضافة من حيث الحجم أو المادة، فاقتصر فيه دوري على المراجعة والتصحيح، وتحديد مكان نشر كل مقال وتاريخه وهو ما ينطبق أيضا على الكتابين التاليين: رواية " صح النوم " و " خطوات في النقد " اللذين أعيد نشرهما ومعهما "فكرة فابتسامة" سنة 1976.
وأثناء مراجعتي لمقالات وكتابات يحيى حقي التي لم تجمع في كتب من قبل لأختار منها ما أضيفه إلى بقية الكتب، وجدتني أمام ثروة من الإنتاج الأدبي القيم موزعة بين مختلف الصحف والمجلات على مدى أكثر من نصف قرن، وأحسست بعجزي عن الاختيار السليم ما لم توضع أمامي كل هذه الكتابات مجتمعة لكي أقارن بينها، وأحسن اختيار المادة المناسبة لكل كتاب.
وبتوجيهات الأستاذ يحيى حددنا أهم المجلات التي نشرت كتاباته ابتداء من "الفجر" و"السياسة الأسبوعية" و "البلاغ" في العشرينيات وانتهاء بـ "المساء" و "التعاون" و "المجلة" في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وقمت بمراجعة مجموعات دار الكتب المصرية وتحديد الأعداد وتواريخها وأرقام الصفحات التي نشرت فيها هذه الكتابات بدقة. ولم تكن آلات التصوير والنسخ الحديثة قد انتشرت، فاضطررنا إلى الاعتماد على أسلوب "الميكروفيلم" الموجود بهيئة الكتاب بآلاته العتيقة، فصورت معظم المقالات في أفلام حمضت ثم كبرت، فبدت باهتة تحتاج إلى النسخ من جديد، وهو ما قمت به فعلا بعد أن رفضت المطبعة تسلم تلك الصور الباهتة.
وضح أمامي أن الكتابات التي اجتمعت لدي تكون ما لا يقل عن عشرة كتب مختلفة الموضوعات، من بينها مجموعة قصص كاملة لم يسبق نشرها في كتاب ولاحظت أن مستواها الفني جيد، بحيث يندر تحققه في أمثال هذه الكتابات التي تنشر عادة في الصحف والمجلات.
وحينما فاتحت الدكتور الشنيطي في الأمر، قال باستهانة:
- يكفي كتابان أو ثلاثة، بالإضافة للكتب الأصلية
وبناء على ذلك أعلنت في نهاية الكتاب الأول أن مؤلفات يحيى حقي تصدر تباعا في عشرين كتابا.
حتى يحيى حقي نفسه لم يكن مقتنعا بأن كتاباته يمكن أن تكون مثل هذا العدد الكبير من الكتب، وظل غير مقتنع حتى صدرت الكتب فعلا، وأثنى عليها النقاد والأصدقاء، فاطمأن بعد طول القلق والشك، وازداد اطمئنانه حين منح سنة 1989 جائزة الملك فيصل عن القصة القصيرة.
إعادة شباب بعض الكتب
قلت إني حرصت بالنسبة للكتب التي سبق صدورها على الاحتفاظ بطابعها، والإضافة إلى صغار الحجم منها ما يتفق مع مادتها الأصلية، وتم ذلك كله بالتشاور مع يحيى حقي، فأضفنا إلى كتاب " دمعة فابتسامة " ست مقالات كان قد كتبها سنة 1930، أثناء عضله أمينا للمحفوظات بقنصليتنا بجدة، ونشرها بجريدة البلاغ بعنوان " الدعابة في المجتمع المصري " وبتوقيع " الحاج يحيى.. " وهي ثمرة قراءته لتاريخ الجبرتي وتعلقه به وتأمله في وقائعه.
وأضفنا إلى كتاب " تعال معي إلى الكونسير" مجموعة مقالات كتبها لجريدة " التعاون " عن " الكاريكاتير في موسيقى سيد درويش "، وإلى "حقيبة في يد مسافر " عددا آخر من رحلات قام بها إلى الصين وإيطاليا والغردقة، وإلى " دماء وطين " قصصا أخرى تدور أحداثها في الصعيد، وإلى " ناس في الظل " شخصيات أخرى من سكان الظل، وإلى " يا ليل يا عين " مقالاته عن السيرك والمولد، وهكذا.
كتابان فقط من الكتب القديمة سمحت لنفسي بالتدخل في مادتهما الأصلية: " عطر الأحباب " الذي احتفظت بنصفه الأول كما هو حيث حدد فيه يحيى حقي منهجه وأسلوبه في النقد الأدبي وطبقه بعد ذلك على ثلاثية نجيب محفوظ مع مقارنتها بـ " اللص والكلاب " فأضفت إلى ذلك ما تجمع لدي من مقالات في نقد للرواية المصرية والعالمية، ثم أنشأت قسما ثالثا لمقالاته التي تحدث فيها عن المازني وباكثير ومحمد عبده الزيات وغيرهم، ليظل عنوان الكتاب - وهو " عطر الأحباب " - منطبقا على مادته أو جزء منها.
والكتاب الآخر الذي غيرت في بنائه الأصلي هو " أنشودة للبساطة "، فقد وجدته يتحدث بالتفصيل عن فن القصة، والقصة القصيرة بالذات، فرأيت من المناسب أن أردف هذا الحديث الطويل بتطبيقات عملية من مقالات يحيى حقي عن مجموعات القصص القصيرة، ومقدماته لبعضها الآخر.
سوء تفاهم مع يحيى حقي
لا أنسى سوء التفاهم الذي حدث بيننا بسبب خطأ مطبعي في الطبعة الأولى من كتابه " أم العواجز"، في مستهل القصة الثانية "مرآة بغير زجاج" عبارة طبعت هكذا: "وأخذ الأشجار ربؤ خانق"، وقفت عند كلمة "ربؤ" واتصلت بيحيى حقي أسأله عنها فلم يحر جوابا وأثناء تقليبنا للأمر بمختلف احتمالاته، قلت له: هذه نتيجة كثرة تقليبك في المعاجم التي تضعها على مكتبك! فغضب إذ ظنني أتهمه بأنه يعتمد على المعاجم في اختيار مفرداته. واحتاج الأمر إلى بضعة أيام لكي تصفو نفسه، ولكي ندرك أن الكلمة التي حيرتنا ليست سوى " ربو " بدون همزة. وما أكثر الأمثلة والنوادر التي يمكن أن أرويها مما واجهنا خلال السبع عشرة سنة التي استغرقها نشر هذه المجموعة.
إني مؤمن بأننا لسنا أحرارا في اختيار أهلنا وأصدقائنا وظروف حياتنا والفرص التي تتاح لنا خلالها، ولكننا نتمتع بكامل حريتنا في حسن الإفادة مما يتاح لنا من كل ذلك، وأحمد الله على أن أنعم علي بنعمة صداقة أستاذنا يحيى حقي، وشرف العمل معه، والتتلمذ المباشر عليه فنيا وخلقيا، ثم أنعم علي أيضا بفرصة لرد بعضا جمائله وأفضاله عليّ.
ولا أستطيع أن أكتمك سعادتي بما بذلته من جهد في إعداد هذه الكتب ومراجعتها، وفخري بها حققته من سعادة لمبدعها وثناء المثقفين والنقاد. فلم يعد يحيى حقي بعدها كاتبا مقلا كما كان يقال عنه أحيانا، إذ أصبح له ثمانية وعشرون كتابا بعد أن كانت ستة عشر، منها سبع مجموعات قصصية وروايات، وتسعة كتب في فن المقال الأدبي، منها كتاب في التاريخ، وآخر في التأملات الدينية، وثالث في نقد الروتين الحكومي، بالإضافة إلى اثني عشر كتابا في النقد الأدبي والفني، منها كتاب خاص باللغويات - عشق الكلمة - وثان عن الشعر، وثالث عن المسرح، ورابع عن السينما وخامس عن الموسيقى والفن التشكيلي والعمارة، وسادس عن مشكلاتنا الثقافية بشكل عام ، وهكذا.
كل ذلك ولم أحدثك بعد عن كتاب " كناسة الدكان " آخر كتب هذه المجموعة، وهو الذي أثار صدوره في ذهني هذه الخواطر والذكريات، فلعلي أفعل ذلك في مناسبة قريبة إن أذن ربك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصدر: مجلة "العربي" ـ أكتوبر 1991م.

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:58 AM
جهادٌ في الفن..
يحيى حقي يرصد تجربته الذاتية في الإبداع

بقلم: خلفان الزيدي
.....................


هذا النص تسجيل أمين لحديث ارتجالي امتد ساعات طويلة بدون انقطاع توطئة لأن يحتويه كتاب، وقد حرصت على أن ينشر كما هو وكما جاء بتلقائية، ولذلك قد يحس القارئ بأنه قد لحقه بعض عيوب الارتجال مثل الاستطراد والمراجعة والعودة إلى ما سبق.
بهذه الكلمات يصّدر الكاتب والأديب الراحل يحيى حقي كتاب (جهادٌ في الفن ـ حوارات مع يحيى حقي) الذي اصدره حديثا الكاتب الصحفي مصطفى عبدالله، متزامنا مع احتفالية مئوية ميلاد صاحب القنديل، مضمنا إياه ـ الكتاب ـ محاورة قصد بها حقي أن تكون شاهدا على سيرته الفكرية، بالاضافة الى مجموعة من الشهادات القصيرة لمحبيه بينها شهادة للأديب جمال الغيطاني يصف فيها علاقته بحيى حقي الفنان الرقيق، المتوهج، الحي، الإنساني.. ويشير: لحسن حظي أنني عرفته منذ بداياتي الأولى، ربما كان ذلك في الخامسة عشر من عمري، أو السادسة عشر، أرسلت إليه قصصا ورسائل إلى (27 عبد الخالق ثروت).. عنوان مكتبه عندما كان يرأس تحرير المجلة، وتلقيت عليها كلها ردودا، مازلت أحتفظ ببعضها كوثائق نادرة.. كان يبدي رأيه في صبر، ويقول ما يقرأه، ينقده مترفقا، والأهم أنه يخط ذلك في رسالة طويلة مفصلة ويرسلها بنفسه إلى مبتدئ، مغمور، مازال بعد دون بداية الطريق.. علق بذهني من رسائله الأولى إلىّ، حرصه على تنبيهي إلى اللغة، إلى أهمية إتقانها، إلى القراءة بعمق.. إلى المعاناة في التكوين.
ونعود الى تصدير الكتاب، لنلتمس فيه روح يحيى حقي الانسان البسيط الذي أكد تواضعه، ملتمسا عذر قرائه اذ هم يطلعون على تجربته وافكاره، كونه اراد ان يعبر لا عن نظريات مجردة، أو عن تجارب الآخرين، بل عن تجربته الذاتية.. فكان لا مفر لي ـ والكلمات ليحيى حقي ـ من أن استخدم كلمة (أنا) مع احترامي والتزامي بالحكمة القديمة: (أعوذ بالله من قولة أنا).
ولكن أرجو ألا يتهمني القارئ بما ينسب إلى أم كلثوم بأنها كانت إذا أنشدت همست لنفسها.. وربما إلى سامعيها قائلة: يا سلام.. يا سلام.. يا سلام. هذا هو الجزاء الوحيد الذي أنتظره من القارئ، أن يحسن الظن بي، وإلا لخجلت خجلا شديداً أو رميت نفسي من شاهق.
وفيما يصف مؤلف الكتاب مصطفى عبدالله لقاءاته بالأديب الراحل يحيى حقي انها نبع لا ينضبُ ماؤه، يتجدَّدُ بالحياة كلما نهلتُ منه، ويقول عن بداية جمع هذه المحاورة: اختارني الأديب الكبير لأكون ضيفه الأسبوعي ـ في شقته رقم (5) بالمنزل الذي تمتلكه والدة عازفة البيانو الشهيرة مشيرة عيسى رقم (3) بشارع الغزالي في مصر الجديدة الذي اكتشفت أنه كان يجاور مدرستي الثانوية.
ومع التاسعة صباح كل جمعة، كنت قبل أن أدق جرس الباب يصلني صوته: مصطفى.. كيفما أصبحت؟ وفي مكتبته التي خلت من الكتب ـ إلا بعض المراجع الأجنبية ـ بعد أن أهداها لجامعة المنيا، أجلس إليه مجلس التلميذ من أستاذه نحو الساعتين ليملي عليّ ـ تحت ضوء قنديل المحبة للإنسان والحنو على اللغة ـ مذكراته في الإبداع التي أرادها أن تحمل عنوان (جهاد في الفن).
وما بين المحاورة والشهادات، نلتمس روح يحيى حقي وسيرته مع الكتابة والادب، ونطلع على ارائه ورؤاه، ويوثق بعضا من تجاربه في الحياة.. ويستذكر بكل ود اصدقاءه الذين أضاءوا حياته ومنحوه السعادة.. وما بين هذا وذاك تأتي شهادة ابنته في ختام الكتاب نهى حقي لتكتب شهادة في الكتاب.. تقول فيها: لقد نجح مصطفى في أن يأخذني في رحلة أبحر فيها نحو الماضي، فجعلني أستعيد أيام شبابي في عاصمة الفن وأنا أسير معه في شوارع روما وميادينها، عندما رحنا نبحث عن البيت الذي عشت فيه في هذه المدينة في منتصف الثلاثينيات، ونتطلع إلى تمثال النيل الذي رمزوا له بالنخلة، في بياتزا نافونا أو نتأمل مسلة رمسيس الثاني في بياتزا ديل ببلو أو (ميدان الشعب).. ومن فرط شغفي بما رواه لي أبي عن هذه الرحلة تمنيت لو كنت معهما.
وأتصور أن هذا الكتاب، الذي يهديه مؤلفه إلى روح أبي ونحن نحتفل بمرور مائة عام على مولده، سيكون فرصة لتقديم وجوه أبي الجميلة لمن لم تتح لهم فرصة الاقتراب منه في حياته.. وكان الكتاب كذلك.. كما اراد له مؤلفه وتمنت ابنة الاديب.. فرصة لتقديم وجوه يحيى حقي الجميلة لمن لم تتح لهم فرصة الاقتراب منه في حياته..

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 07:59 AM
كتاب ومفكرون مصريون وأجانب
ينتقدون تجاهل يحيى حقي وإبداعاته

بقلم: حمدي عابدين

انتقد كتاب ومفكرون مصريون وأجانب حالة التجاهل التي تعرض لها الكاتب المصري يحيى حقي أثناء حياته وبعد مماته، وأشاروا الى ان حقي رغم ما قدم من إبداعات قصصية وروائية بالإضافة الى إسهاماته المتنوعة الأخرى في مجالات الترجمة والموسيقى والنقد، لم يحظ بالاهتمام الجدير به.
وأشار الدكتور جابر عصفور أمين المجلس الأعلى للثقافة، في مؤتمر «وجوه يحيى حقي»، الذي عقده المجلس في الفترة من 10 إلى 12 يناير (كانون الثاني) الجاري بالقاهرة، بالتعاون مع منظمة اليونسكو، إلى أن وجود يحيى حقي في الثقافة المصرية كان له أثر كبير في تكوين اكثر من جيل إبداعي بما قدمه من إسهامات ثقافية وإبداعية متنوعة، وأشاد بدوره في رعاية عدد كبير من المبدعين الذين قدم أعمالهم الأولى الى القراء. وذكر عصفور أن حقي كان واحدا من جيل الليبراليين العظام، وكان يفصله عن مولد طه حسين والعقاد والمازني 16 عاما، وعن مولد توفيق الحكيم 7 سنوات، وقد تأثر بليبرالية هؤلاء الرواد والمبدعين الذين كان ينتمي لهم وجدانيا وفكريا.
* المثقف الشمولي
* وتحدث المحاضر عن تأثر حقي بمبادئ ثورة 1919 التي بشر بها هؤلاء الرواد، مشيرا الى انه كان يشبههم حتى في موسوعيته، وذلك بما أبدع من نقد ورواية وقصة وسيرة ذاتية، بالإضافة إلى كتابته في الموسيقى والسينما والفنون التشكيلية.
وكان اكثر وجوه حقي تميزا، كما يرى عصفور، وجه المبدع، وهذا يتجلى واضحا في رواياته ومجموعاته القصصية التي تجلت فيها عناصر إنسانية تجاوزت بها اقليميتها إلى آفاق العالمية.
وتحدث عصفور عن ملامح سياسية في أدب يحيى حقي، استطاع ان يمررها من دون ان يتعرض له النظام في ذلك الوقت. ولعل رواية «صح النوم» ابلغ مثل على ذلك في تعبيرها عن ديكتاتورية الأخ الأكبر وتسلطه على باقي أعضاء أسرته. وما دفع حقي الى استخدام الرمز في التعبير عن آرائه ووجهات نظره السياسية، الممارسات القمعية ضد المبدعين والكتاب بعد قيام الثورة.
* القيم الإنسانية في أعماله
* وقالت الكاتبة الأميركية مريام كوك، ان يحيى حقي كان علما من أعلام الثقافة والإبداع في مصر والعالم العربي والغربي، وقد تجاوز بإبداعاته حدود اللغة وعوائقها الى العالمية بسبب القيم الإنسانية التي عكسها في أعماله. وذكرت كوك ان حقي بما قدم من إبداعات دحض مقولة «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا»، وعاش يتحدى هذه المقولة في كل ما قدم من أعمال إبداعية.
* رعايته للمبدعين الشباب
* وتحدث الكاتب العراقي فؤاد التكرلي، عن رعاية يحيى حقي له ولإبداعاته من دون أن يلتقي به، وذكر ان حقي نشر له قصته في عام 1970 بعنوان «الغراب» في مجلة «المجلة» المصرية التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت، وقدم لها بمقدمة شرح فيها الكثير من الألفاظ المحلية التي استخدمها التكرلي، واتبع ذلك بنصيحة إلى الكتاب الشباب بعدم استخدام الألفاظ ذات الصبغة المحلية في الأعمال الإبداعية التي يقدمونها للقراء.
وذكر الروائي المصري خيري شلبي، ان يحيى حقي اكثر رواد الأدب المصري حضورا في الواقع الثقافي الحديث، لأنه كان رمزا لمقاومة الرفض والابتذال، ولأنه أسس للحداثة العربية في القصة العربية والمصرية، بما قدم من إبداعات أدبية حقيقية.
وقال شلبي إن دور يحيى حقي وحضوره في الأدب الحديث توازى مع دخوله في جدل وحوارات مع الكثير من المبدعين الشباب في أيام إشرافه على مصلحة الفنون والكثير من المجلات المصرية. وقد أثمر ذلك عن تقديم عدد كبير من المبدعين اللامعين إلى الحياة الأدبية المصرية.
وأشار المحاضر إلى ان حقي كان نموذجا للفنان المبدع المتكامل، فقد اهتم بالموسيقى الكلاسيكية السيمفونية وبالفنون الشعبية، وقد دفعه ذلك الى إبداع أوبرا «نهر العروسة» ليعبر بها عن مصرية خالصة كان ينشدها لتمصير فن الأوبرا.
تميزت فعاليات المؤتمر الى جانب الدراسات النقدية التي وصل عددها الى اكثر من 41 دراسة غطت جوانب الإبداع المختلفة عند يحيى حقي بمشاركة عدد من النقاد والمبدعين بشهادات ركزت على تاريخهم مع يحيى حقي وعلاقتهم به، والكثير من الأحداث التي كان لها آثار بالغة في حياتهم وحياة غيرهم من الكتاب والمبدعين الشباب، ومنها شهادة للأديب صبري موسى الذي كتب السيناريو لفيلم «البوسطجي» الذي اخذ عن رواية له بهذا الاسم، كتبها حقي أثناء عمله في فترة الستينيات في أسيوط. كما شارك في الشهادات الدكتور عبد الغفار مكاوي وسامي فريد إحسان كمال.
* المعاني والألفاظ
* وتحدث الأديب ادوار الخراط في دراسة «العقيدة اللغوية عند يحيى حقي»، وما أسماه هو نفسه الحتمية في الأسلوب أو الأسلوب العلمي. وقال ان جوهر هذه العقيدة عند حقي، ان هناك كلمة واحدة فقط تؤدي معنى بذاته، وهناك لفظ أو تركيب لغوي واحد فقط يفي بمقتضيات إحساس أو موضوع ما.
وقال الخراط ان هذه العقيدة اللغوية تقوم على أساس متضمن ومفترض، وليس موضوعا للمناقشة عند صاحبها، يتمثل في ان هناك معنى أو إحساسا أو موضوعا موجودا وقائما هناك، وان هناك في الوقت ذاته كلمة أو لفظا أو تركيبا لغويا على الكاتب ان يبحث عنه ويجده للتعبير عن المعنى أو الإحساس أو الموضوع الذي يتصدى له.
ويعتقد المحاضر ان ليس هناك فصل حاسم بين عالم المعاني وعالم الألفاظ، وان الكلمة عنده تسهم إسهاما جوهريا في إيجاد المعنى وتكوينه، وفي خلق الحس أو الانفعال الذي لا يوجد حقا أو فعلا إلا بها، كما ان الصياغة بذاتها مقوم جوهري من مقومات المعنى ليست تابعة له.
* الشخصية والمكان
* وتحدثت الناقدة جيهان كيرة عن ارتباط المكان بالعناصر الطبيعية في بعض قصص يحيى حقي، مشيرة الى انه اهتم بتحليل النفس البشرية المعقدة، وتحدث عن الشعور واللاشعور، وبرع في تقديم قصص بأسلوب شيق للغاية عكس براعته في تناول شخصيات أعماله. وقد ظهر هذا واضحا في رواياته القصيرة، مثل «دماء وطين» و«البوسطجي» و«قنديل أم هاشم»، كما ظهر واضحا أيضا في قصصه القصيرة التي استطاع فيها ان يضع تأثير المكان على شخصياته، ودوره في تحديد سماتهم.
وقد استطاع يحيى حقي ان يبرز صور التربة والماء، وما يرتبط بها من أحاسيس العمق أو الرخاوة التي تشكل الجو العام الذي تتحرك فيه الشخصيات في القصص.
* السرد في «قنديل أم هاشم»
* وعلى خصوصية الرؤية السردية في قصة «قنديل أم هاشم»، ارتكزت ورقة الناقد حميد محمداني التي حاول خلالها تحديد زاوية النظر المستخدمة في الرواية، وأشار إلى أنها تمزج بين التصوير الذاتي والموضوعي. لكن الرؤية الذاتية للسارد تبقى الغالبة في مجموع النص مع ما يرتبط بها من وسائل تعبيرية أخرى أهمها استخدام اللغة الشعرية بما فيها من إشعارات تمثيلية استخدمها حقي بهدف جذب انتباه القارئ.
وقال ان حقي بروايته وضع لبنات الرواية العربية واستطاع تطويع اللغة العربية للتعبير القصصي بعيدا عن دائرة المقامات، وقد عالج بها موضوعا حساسا في تلك الفترة من تاريخ المجتمع العربي وقدم رواية ذات نزعة وطنية تنتقد تخلف المجتمع المصري وتحاول تغييره بعلم الغرب.
وقال محمداني ان النظر الى الرواية يجعلنا نخرج بمقاصد إجمالية أخرى كثيرة تختلف باختلاف زاوية النظر إليها، وهو ما يجعل منها عملا أدبيا حقيقيا قادرا على عبور الأفق المحلي للبيئة التي دارت أحداثها فيها.
وانتقد الناقد شريف شمس الدين، عدم اهتمام كثير من النقاد بأدب يحيى حقي. وخصص شريف دراسته لبحث صورة المرأة في قصص يحيى حقي، التي حظيت بمكانه بارزة في إبداعاته القصصية.
* حقي والمرأة
* وقال شريف، ان يحيى حقي ربط بين نماذج المرأة في قصصه وبين المجتمع، وما طرأ عليه من تحولات حضارية أثرت في المرأة تأثيرا واضحا. وذكر ان حقي صور المرأة في بيئات متنوعة شعبية وغير شعبية، وربط ذلك بالمكان والزمان في كل بيئة تحدث عنها، وكان الحوار معبرا عن كل شخصية والخصوصية التي تتميز بها، وكان مرآة صادقة لنفسية كل منها.
وركز الناقد المغربي عبد الفتاح الحجمري دراسته على قراءة الأبنية الفنية، ومضامين يحيى حقي الحكائية في قصصه، مشيرا الى ان التخييل القصصي عنده شكل أفقا للمبادرة والابتكار، وتجاوز الرتابة الاجتماعية والواقعية الفجة. وقال ان الشخصية القصصية ذات الملمح التخييلي تتوارى في حكاياته لصالح الإنسان، حيث يستخدم في التعبير عنها سردا تعبيريا وتصويريا، راسما الحدث والمشهد معا. وقد جعل ذلك الكتابة القصصية عنده كتابة واقعية انتقادية تمزج العام بالخاص عبر السخرية والاحتفال بالموقف النبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
*المصدر: صحيفة "الشرق الأوسط" ـ في 17/1/2005م

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:00 AM
مئوية يحيى حقي:
عاش حرا

بقلم: سمير عطا الله
......................


ما الفارق بين يحيى حقي وتوفيق الحكيم والعقاد ويوسف ادريس وسواهم؟ يحيى حقي كان انسانا. الآخرون كانوا افرادا. حقي عاش مع الناس وحاول ان يدرب اجيالا من الكتاب وان يساعد كل من طرق بابه في الحصول على فرصة. وحوّل «المجلة» التي عاشت نحو ثماني سنين الى كلية للمواهب القادمة. ولم يعزل نفسه إلا في حكم العمر وعتي الكبر. ولم يساوم في قناعاته ورؤيته الانسانية. وظل أبطاله واشخاصه وهمومه من الطبقات الفقيرة ورفاق السيدة زينب وحي الميضة والمدرسة الخديوية. وفي هذا المعنى، او في هذا الاطار، لم يخرج يحيى حقي على اصول المدرسة الكبرى التي انتمى اليها الرواد. وهذه المدرسة اسمها تكرارا مصر.
اختلف يحيى حقي عن بقية رفاقه من جيل الرواد بالتجربة الطويلة التي عاشها في الخارج، كديبلوماسي عامل، وليس كطالب علم مثل طه حسين وتوفيق الحكيم، اللذين طبعت التجربة الخارجية بعض اعمالهما ايضا. وقد بدأ عمله الديبلوماسي في جدة اواخر العشرينات، المدينة التي تلتقي فيها الشعوب والأمم في الطريق الى مكة، ثم عمل في اسطنبول، عندما كانت حملة كمال اتاتورك لعلمنة تركيا في ذروتها. وقد ضايقته القسوة الاتاتوركية في الاكراه والفرض. وأثارته محاولة اتاتورك استرضاء الغرب. وكتب يقول انه مهما فعل اتاتورك فلن يرضي احدا. وسوف يظل الشرق شرقا والغرب غربا كما قال روديارد كيبلنغ. وشدد حقي في تلك الأيام على ان تركيا ليست جزءا من اوروبا ولن تكون. وليته كان حياً لكي يشهد ما يجري حاليا في هذا الشأن.
كان واسع الثقافة كثير الشفافية ومأخوذا بحركة التطوير والتنوير. وكان غيورا على اللغة التي احبها. وفي سنواته الأخيرة رأى ان ما يكتب في الصحافة الحديثة جريمة لغوية «فوضى ومسطحات بلا معنى». واعتبر ان مسؤولية الانهيار تبدأ في المدارس: «وفي حين رفع الفقراء مستواهم وصار في امكانهم ان يقرأوا، تدنى مستوى النخبة ومقاييسها».
تتولى وزارة الثقافة المصرية الآن الاحتفالات بمئوية يحيى حقي. لكن المثقف المصري الكبير كان يدعو الى حصر دور الوزارة والحكومة في العمل الثقافي: « لست أرى أي دور للدولة سوى في رعاية المشاريع التي هي في طبيعتها وطنية وغير خاضعة لقانون الربحية. الدولة يجب ان تحصر عملها في المشاريع الضخمة التي لا يقوى عليها احد آخر، كالموسوعات وكتب التراث وما شابه».
اعتبر يحيى حقي ان ثورة 23 يوليو حققت الكثير من اجل الفقراء. لكنه قال قبل وفاته في حديث «للأهرام ويكلي»: «لا استطيع ان اسامح عبد الناصر على بدء مرحلة ما بعد الثورة بإعدام العمال في كفر الدوار. ولا استطيع ان اسامحه على اعدام سيد قطب. ولا على معسكرات الاعتقال التي دب فيها النظام اهل اليسار. هذه هي مشكلة جميع الديكتاتوريات العسكرية. وهي قضية عالجتها في روايتي «صح النوم». انها احب اعمالي اليّ لأنها تحذير ضد الديكتاتورية».
قال تي.اس. ايليوت عن عزرا باوند انه «الحِرَفي الأفضل». هكذا كان يحيى حقي، الذي اخفق في شيء واحد، وهو ان يعلم تلامذته كيف يقتدون اسلوبه المتفرد ولغته المغردة فوق الغصون. واعظم ما في يحيى حقي كان موضوعيته الشجاعة، وقدرته الانسانية على الانصاف. والا من هو الذي يستنكر في وقت واحد اعدام العمال في كفر الدوار واعدام سيد قطب وزج اليساريين في السجون. كان حرا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
*المصدر: صحيفة "الشرق الأوسط" ـ في 16/1/2005م

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:01 AM
يحيى حقي..
انحاز للمهمشين المصريين رغم أصوله التركية

بقلم: حمدي عابدين

احتفلت لجنة القصة بالمجلس الاعلى للثقافة حديثا بذكرى الكاتب المصري الراحل يحيى حقي، وعلى مدى يومين، تحت عنوان «يحيى حقي ظاهرة ثقافية»، وشارك في الندوة أكثر من 20 مبدعا وناقدا ناقشوا آثار يحيى حقي الابداعية، التي لم تتوقف عند حدود الكتابة القصصية بل تجاوزتها الى مجالات الكتابة النقدية والمقالات والخاطرة الأدبية والنقد السينمائي والموسيقى. وتحدث د. جابر عصفور عن الاهمية الأدبية والثقافية لما خلفه حقي من اعمال قصصية، وعشقه للحارة الشعبية والمهمشين من ابناء المجتمع المصري رغم اصول حقي التركية. وذكر عصفور انه يضع الاديب يحيى حقي في مصاف الكتاب المصريين الكبار اصحاب الانجازات الكبيرة والدور البارز في حياتنا الثقافية والابداعية.
وفي محور الندوة الخاصة بعلاقة السينما بأدب حقي تحدث الكاتب صبري موسى عن تجربته في تحويل رواية «قنديل أم هاشم» و«البوسطجي» الى فيلمين يعتبران علامتين بارزتين في تاريخ السينما المصرية. وذكر موسى انه التزم باحداث الروايتين وكان مخلصا لهما اخلاصا تاما وذلك انطلاقا من احترامه لابداع حقي وإعتبر موسى ان كاتب السيناريو يجب ان يلتزم بالعمل الروائي حتى يخرج الفيلم السينمائي معبرا عن العمل المكتوب بشكل حقيقي. واشار الكاتب محمد جبريل في دراسة ضخمة حملت عنوان الندوة «يحيى حقي ظاهرة ثقافية» الى اجتهاد حقي الابداعي واسهامه بقسط في كل مجال من مجالات الفن، وذلك لم يأت ببساطة» لأن حقي اعد نفسه اعدادا شاقا لكي يكون قادرا على الدخول في غمار اكثر من فن والابداع فيه تفوق في اكثر من مجال منها مجال القصة القصيرة التي يعتبر احد روادها حيث نشر اول قصة له في عام 1925، وكان ابرز اساتذة المدرسة المصرية الحديثة في القصة القصيرة والتي ضمت محمود طاهر لاشين ومحمد تيمور وابراهيم المصري وغيرهم، وقد كتب حقي عن معظم افراد هذه المدرسة وما قدموه من ابداعات قصصية.
وذكر جبريل ان اشهر اعماله «قنديل أم هاشم» يصعب تصنيفها كرواية ويمكن الحديث عنها بوصفها قصة قصيرة مطولة، ونفس الحكم يمكن ان ينطبق على رواية حقي «صح النوم» لأنها اقرب الى مجموعة قصص قصيرة منها الى الرواية، وتبدو كما لو كانت لوحات لا رابط بينها سوى الزمان والمكان. وتحدث جبريل عن رؤى يحيى حقي الابداعية، ورؤيته لفني الرواية والقصة ، مشيرا الى ان حقي كان يعنى بالشخصية اكثر من عنايته بالحدث، فكان ينشغل بابراز ملامح ابطاله ومشكلاتهم ونوازعهم النفسية وتأثيرات البيئة عليهم.
كانت القصة القصيرة لدى يحيى حقي، كما يضيف، تعني التحديد والحتمية اما الرواية فتعتمد حسب رأي حقي نفسه على الصدفة والتجريد المصطنع. وذكر ان القصة القصيرة عند حقي تحاول ان تكشف بعضا من جوانب النفس الانسانية حيث تنقل قارئها من الصورة الجزئية المباشرة الى المعنى الكلي خلفها وقد اخذ حقي موقف الراوي في معظم قصصه مستفيدا من تكنيك القصص الشعبية والملاحم وهو ما جعل روايته «رائقة الصوت»، متعاطفة مع ابطال القصص، وأدى في النهاية الى خروجها بحميمية أكثر الى القارئ، وكان حقي مغرما بالمكان من اجل تكملة اللوحة التي يتحرك فيها الابطال، وهذا ظهر واضحا في وصف ميدان السيدة اكثر من مرة في لوحات «قنديل أم هاشم» كما اجاد وصف الاجواء الصعيدية بسبب اقامته لفترة طويلة هناك، وهذا ما تجلى في قصص مجموعته «دماء وطين» وسيرته الذاتية «خليها على الله».
واشار محمد جبريل الى مساهمات يحيى حقي في أدب السيرة الذاتية، وقدرته على التعبير، من خلال كتابه «خليها على الله» عن التطور النفسي والفني له ولابداعاته فضلا عن تصويرها الجيد للبيئات المختلفة التي عاش فيها حقي، ولم يغفل جبريل خلال حديثه كتابات حقي النقدية وما قدمه في مجال ادب الرحلات بالاضافة الى مقالاته وخواطره الادبية وترجماته التي قدمها للمكتبة العربية عبر أعمال مهمة مثل «دكتور كنوك» لجول رومان، و«العصفور الازرق» لمكوريس ميترلنك و«الاب الضليل» دايث سوندرز.
وتحدث الكاتب يوسف الشاروني مقرر لجنة القصة منظمة الاحتفال بحقي عن سيرته الذاتية وروافدها القصصية مشيرا الى انه وفر على نقاده مهمة البحث وراء سيرته، فقدم كتابه «خليها على الله» عام 1956 ثم «كناسة الدكان» في اوائل التسعينيات، وفيهما احتفل حقي بالصورة واللوحة القصصية والاستطراد وفن البورتريه، كما اهتم حقي بتصوير الشخصيات التي يتحدث عنها وابرازها داخليا وخارجيا.
وأسهب الشاروني، عبر دراسته الطويلة، في الحديث عن شخصيات يحيى حقي في اعماله القصصية المختلفة مقارنة بغيرها من الشخصيات في أعمال أدباء مثل توفيق الحكيم وحسين مؤنس وفتحي غانم، وذلك عبر دراسة السيرة الذاتية لكل منهم.
وقد ضمت فعاليات ندوة يحيى حقي شهادات أخرى لكتاب تحدثوا عن اعماله ودوره في تشكيل وعيهم الأدبي والجمالي، كما عرض في اطار الفعاليات فيلمان الاول عن حياة حقي وهو من اخراج احمد راشد والثاني فيلم «البوسطجي» الذي كتب السيناريو له صبري موسى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
*المصدر: صحيفة "الشرق الأوسط" ـ في 17/3/2005م

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:02 AM
في قنديل أم هاشم ليحيي حقي:
أزمة المثقّف العائد من الغرب

بقلم: رشاد أبوشاور

لفتت هذه الرواية القصيرة، المركزّة، المشحونة، انتباه النقّاد والقرّاء منذ صدورها ـ وزادها شهرة نقلها إلي السينما وتقديمها في فيلم حقق نجاحاً جماهيرياً ـ حتي باتت كما يقال موضع التركيز عند الحديث عن الكاتب الكبير يحيي حقي، وهو ما كان يضايقه، فهذا المبدع الكبير، القاص، الناقد، كاتب السيرة، صاحب المقال الأنيق المعطّر الجذّاب، المترجم، متعدد المواهب، رأي أنه يتّم الغّض من قيمة منجزاته بالتركيز علي قنديل أم هاشم.
وأم هاشم هي السيّدة زينب، ابنة الإمام علي، شقيقة سيدنا الحسين، ولها مسجد وميدان في القاهرة يعرفه كل من زارها، حيث تري هناك حركة الحياة اليومية الشعبية، ومدي انجذاب البسطاء من عامة الشعب المصري، قاهريين وريفيين، الوافدين لزيارة السيدة والتبرك بمقامها، والصلاة في مسجدها.
ما هي هذه الرواية الصغيرة التي تركت كل هذا الأثر، وتمتعت بكل هذا الحضور الطاغي؟
يروي (أم هاشم) حفيد للجد رجب عبد الله، التقي المؤمن البسيط، الذي يحضر من الريف لزيارة السيدة صحبة والده، يدفعه والده في المقام ليبوس العتبة التي يدوس عليها زوار المقام، وسط دهشة نظرات القاهريين الذين يرون في الأمر مبالغة عاطفية من فلاّحي الصعيد الطيبين.
ينتقل الجد رجب بأسرته إلي القاهرة، ويقيم علي مقربة من مقام (أم هاشم) بحيث تكون (الميضئة) قبالة البيت. يفتتح له دكّاناً يسترزق منه.
هذا مفتتح الرواية، والمدخل إلي عالمها البسيط، فالأحداث فيها محدودة، والشخصية المركزية هو اسماعيل الذي تدور (الحكاية ) حوله، بحيث تتضاءل بقيّة الشخصيات التي يؤدي حضورها لخدمة تطوّر الشخصية الرئيسة والأحداث، كالجد الذي هو والد بطل القصّة ـ هو جد الراوي، والد اسماعيل ـ والأم، والفتاة فاطمة النبوية ابـنــــة العم التي تعاني من رمد العيون وهي مقطوعة ليس لها أحد ســــــــوي عائلة عمها الذي كفلها، والراوي الذي نقـــــرأ كلماته ولا نعرف عنه شيئاً سوي أنه حفيد الجد رجب، وابن شقـــــــيق إسماعيل. شقيقا إسماعيل اللذان يرد ذكرهما بشـــــــكل عابر لا نعود نعلم عنهما شيئاً، فالحــــــــكاية (مسددة) كالطلـــــقة لتذهب إلي هدفها، تخرج من القلب ـ كما قال الكاتب الكبير يحيي حقي في معرض تفسيره للاهتمام الذي حظيت به أم هاشم ـ لتصل إلي القلب، من قلب الكاتب إلي قلب القارئ مباشرة.
إسماعيل هو الوحيد الذي أفلح في الدراسة، ولذا أراد والده له أن يتعلم وأن يكون طبيباً، ولكن علامات إسماعيل عند نجاحه في (الثانوية) كانت ضعيفة مّما يعني عدم قبوله في الجامعة المصرية كدارس للطب.
أحد أصدقاء الشيخ رجب ينصحه بإرسال ابنه إلي بلاد برّه، إلي أوربة، فهناك في بريطانيا سيتمكن من دراسة الطب . الفكرة تدور في رأس الرجل، يقلبها وتقلب علي نارها فيقرر ،مع معرفته بمدي التضحية المطلوبة من الأسرة، أن يرسل إسماعيل إلي بلاد برّه لدراسة الطب.
سيحتاج إسماعيل إلي خمسة عشر جنيهاً في الشهر تكاليف دراسة ومعيشة، وهذا يعني أن تعيش الأسرة علي الخبز الحاف، أو الخبز والفجل، وهو ما تحملته الأسرة عن طيب خاطر.
يسافر إسماعيل إلي بريطانيا، وهناك يدخل الجامعة، وبعد سبعة أعوام يتخرج طبيباً مختصاً في علاج العيون، يلمع إسماعيل، وتعرض عليه الجامعة العمل ولكنه يقرر العودة إلي الوطن.
كان أستاذه يمازحه وقد أعجب بنباهته وتفوّقه:
ـ أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصّت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك، فهي بلد العميان.
ولأن بلاده بحاجة إليه فقد عاد، ولكن العودة لم تكن بسهولة السفر، فالبداية هي بداية شاب (خام) بريء، سليل أسرة صعيدية قاهرية متدينة، والعائد هو طبيب عاش لسبع سنوات في بريطانيا.
ماذا جري لإسمــــاعيل هناك، ما مدي تغيّره؟ هل بقي كما سافـــــر، هل حفــظ وصيّة والده وســــارت حياته علي هدي بساطتها وسذاجتها؟ هل كان بمقدور وصيّة والده له بالعفّة والحيطة من بنات أوربة، والحفاظ علي دينه، أن تشكّل سوراً يقي روحه من المؤثرات الحضارية الغربية؟!
هناك، كما يعلمنا (الراوي) حفيــــد الحاج رجب، وابن أخ الدكتـــــور إسماعيل، عـــــرف اسماعيل النــــساء، وقع في قصّة حب مع (ماري) زميلــــــته في الجامعة، التي علّمته فنون الجســــد، وهزّت مفاهيمه عن الشرف، وسخرت من عواطفه المبالغ بها . ماري التي أعادت صقله تتمرّد علي العادة والروتين، ولذا تتركه وتنشئ علاقة مع واحد من بني جنسها، كأنما أنهت مهمتها في تبديله وتغييره.
عندما حان موعد سفر إسماعيل حنّ اليها، طلبها فاستجابت، ومنحته من جديد جسدها للمرة الأخيرة، هو الراحل نهائياً علي شرقه القديم!
لم يكن الانفتاح الجنسي وسهولة العلاقة بين الرجل والمرأة هو ما أحدث التغيّر الذي سنراه، فأساليب التفكير العلمي ـ ولا ننسي أنه طبيب ـ ونمط الحياة، ومدي الحريّة الفردية، كلها أحدث ما سيتسبب له بالأزمة الرهيبة التي ستنفجّر بينه وبين بيئته مباشرة ـ كما سنري ـ مع أول لحظة لالتقائه بها.
عاد إسماعيل إلي مصر، إلي القاهرة، إلي بيته في السيدة زينب حيث والده ووالدته وفاطمة النبوية، فهاله ما يري من فقر هو الغائب في أوربة والذي قضي سبعة أعوام (سمان) أنسته واقع الحال، سبع سنوات مكتنزات بالعلم والمعرفة، والمتعة، وراحة البال، وتلقن عادات وثقافة مجتمع آخر قطع شوطاً بعيداً علي درب الحضارة والعلم، مجتمع مختلف تماماً، يمنح الفرد حريّته، ويصون حقوقه، ويجعل من العلم دينه الجديد.
لم نر إسماعيل وهو في لندن، رأينا لندن فيه بعد عودته، لأن الكاتب أراد أن يضع (إسماعيل) العربي المسلم، ابن السيدة زينب، بعد غيبة سبعة أعوام، وجهاً لوجه مع مجتمعه كما هو، ولكن كيف ؟
ابنة العم المنتظرة، الخطيبة التي عقد له الأب عليها قبل سفره لتكون زوجته عند عودته، هاله ليلة وصوله رؤيته لأمه وهي تقطر في عينيها زيت قنديل أم هاشم، هو طبيب العيون المتفوّق القادم من لندن، الذي يؤمن بما يقدمه العلم لا الهبل والسذاجة والجهالة .
يخطف الزجاجة من يد أمه ويلقي بها بعيداً وهو في ثورة كاسحة تدفعه للخروج إلي مقام السيدة القريب من البيت ، ليقتحم المقام، ويمسك بالزيت المبارك فيرميه، وإلي الشموع المنذورة فيطفئها، صارخاً بكلمة واحدة لم يكملها : أنا.. أنا.. أنا... أنا ماذا؟ لم يقل...
طبعاً يهجم الناس عليه ويطرحونه أرضاً، ولولا اندفاع الشيخ (الدرديري) خادم المقام الذي يتعرف عليه ـ وقد كان يعرفه منذ أقام وأسرته في حمي (أم هاشم) ـ وينقذه من بين أيدي العّامة قبل أن يهلكوه دوساً بالأقدام.
يصدم والده ووالدته من سلوكه ويتمنون لو أنه لم يعد، أو لم يسافر لطلب هكذا علم أفقده دينه وعقله، وتلوذ الخطيبة فاطمة بحزنها هي المتعلّقة به، ويبدأ في معالجتها بالأدوية والقطرات والأساليب التي تعلمها وأبدع في تطبيقها هناك في لندن، ولكن حالة فاطمة تتفاقم وهو ما يدفعه لليأس ومغادرة البيت والإقامة في (بانسيون) قريب تملكه سيدة يونانية جشعة تستل من إسماعيل كل قرش ممكن سرقته ـ ليست صدفة المرور بهذه الشخصية، لأن الروائي ينبهنا إلي أنه ليس كل أوروبي إنسانا متحضرا، نظيف النفس، حسن السلوك، فالإنسان هو الإنسان، والناس معادن ـ يعتزل فيه وهو علي حافة الجنون.
لقد تعلّم في لندن كيف يعالج العيون المريضة بالأدوية الحديثة، وعرض ما فعل لفاطمة علي زملائه الأطباء المصريين فأيدوا طريقته في العلاج، وأوصوه أن يواصل، ولكنه فشل فعينا فاطمة يكاد نورهما أن ينطفئ.
البانسيون قريب من ساحة أم هاشم، وهو يدور يومياً حول المقام، وفي ليلة (القدر) وكل شيء مشعشع بالأنوار، تطمئن نفس إسماعيل فيدخل المقام ويلتقي بالشيخ الدرديري، ويطلب منه زيتاً مباركاً.
يستقبله الشيخ (الدرديري) ببشاشة وترحاب :
ـ والله أنت بختك كويس... دي ليلة القدر ؟ وليلة الحضرة كمان .
ويخرج إسماعيل وبيده الزجاجة وهو يقول في نفسه للميدان وأهله :
ـ تعالوا جميعاً إلي ! فيكم من آذاني، ومن كذب علي، ومن غشّني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطك، فأنتم منّي وأنا منكم. أنا ابن هذا الحي، أنا ابن هذا الميدان، لقد جار عليكم الزمان، وكلّما جار واستبّد، كان إعزازي لكم أقوي وأشّد.(ص55)
يأخــــذ الزيت ويتوجه إلي بيت العائلة، ينادي علي فاطمة :
ـ تعالي يا فاطمة ! لا تيأسي من الشفاء . لقد جئتك ببركة أم هاشم، ستجلي عنك الداء، وتزيح الأذي، وترّد إليك بصرك فإذا هو جديد ...
ويشّد ضفيرتها وهو يقول لها :
ـ وفوق ذلك سأعلّمك كيف تأكلين وتشربين، وكيف تجلسين وتلبسين، سأجعلك من بني آدم. (ص 56)
يبدأ الدكتور اسماعيل ابن حارة السيدة زينب (أم هاشم) رحلة علاج فاطمة التي تحبّه وثق به، والتي انتظرته . عاد من جديد إلي علمه وطبّه يسنده بالإيمان ...
عالج فاطمة بالزيت المبارك وبالأدوية الحديثة معاً، فتشفيت، وتزوج منها، وأنجب.
افتتح عيادة في حارة (البغّالة ) الشعبية، وأخذ يعالج فيها الفقراء بقرش واحد بالأدوية الحديثة وزيت أم هاشم.
الدكتور إسماعيل فهم السر، فمناطحة المعتقدات، ومحاولة تغيير المجتمع بضربة ساحر، تؤدي إلي الفشل، إلي الانفصام والانفصال والفراق بين المتعلّم المستنير ومجتمعه.
بالعلم والإيمان، بالفهم والحب، بالتواضع والصبر وطول النفس يمكن أن يؤدي (المتعلم المثقف) دوره في إعادة البصر لمرضاه ليروا، لبصيرتهم لتتقد، ليصيروا من بعد(من بني آدم).
مثقفون كثيرون سقطوا في الامتحان، عادوا متفوقين من (الغرب) ولكنهم اندفعوا دون ترو في الاصطدام مع يرونه جهلاً وتخلّفاً، وإلي الغرب عادوا وهناك اندمجوا وانتهي أمرهم !
في بلادنا أحزاب فشلت بعد أن فقدت دورها نتيجة لجهلها بالواقع، ونهجها أساليب قطعت العلاقة بينها وبين (الجماهير)، واندثرت ولم يتعلم غيرها من درس فشلها .
ثمّة قوي حزبية اصطدمت أول ما اصطدمت بالدين، فأضاعت أي إمكانية للتواصل مع الناس، لأنها اعتدت علي مقدسهم، ولذا تاهت الشعارات علي أهميتها، وتبددت الطاقات في جدل فارغ ومناطحة بدلاً من تقديم النموذج الذي بخطاه الواعية العارفة يرسم ملامح الطريق و(يجعل الناس الجهلة بني آدمين)، يخلّصهم من جهلهم بحكمة وصبر وأناة ودون تحقير .
إسماعيل في ختام (أم هاشم) هو المثقف المتصالح وليس المناطح، وهو بالتأكيد ليس المهادن، ولكنه صاحب الرسالة الذي لا يبحث عن المال، ولذا فهو يعالج ويعيش في حي فقير متواضع، ويقبل بالقروش القليلة، ويسعد بشفاء زواره الذين بلغتهم شهرته وصيته فصاروا يفدون غليه من خارج القاهرة.
الراوي، ابن شقيق الدكتور إسماعيل ينهي الرواية بنبأ موت اسماعيل الذي تكرّش وما عاد يأبه بلباسه والذي كان يشفي الفقراء، وما عليه من مأخذ، اللهم سوي غمز ودود مّمن يترحمون عليه أن من يترحمون عليه بتسامح لـ.. حبّه للنساء!.. يرحمه الله.
هذه الرواية القصيرة، المتقنة، التي كتبت بدون زوائد، بلغة مقتصدة فصيحة سلسبيل، بقليل من المفردات الشعبية التي يتقنها يحيي حقي، تضع المثقف أمام الخيار : يا إسماعيل أمامك أن تقفل عائداً إلي الغرب وتعيش (حياتك) الشخصية، وتحقق خلاصك الفردي هناك.. أو أن تتعامل مع مجتمعك بمعرفتك وعلمك و..دون أن تصطدم بمعتقدات الناس وتحقّرها، بل تحوّلها إلي عامل مساعد في شفائهم بحيث تري عيونهم وتبصر، أي تختار لنفسك أن تكون صاحب رسالة و(دور)!
(أم هاشم) برأيي ليست عن صراع الشرق والغرب، ولكنها رواية المثقف المتعلّم في لحظة الاختيار، ولهذا قفز يحيي حقي عن تصوير الحياة في لندن، وجعل بعض جوانبها عناصر مؤججة للصراع الداخلي في نفس إسماعيل.
إسماعيل مرّ في (التجربة) ونجا منها . كاد يفقد حياته، وأوشك أن يفقـــــــد عقله، وانعـــزل، وتأسف الذين ضحّوا وأكلــوا الفجل والخبز الحاف ليعود من غربته بعلم ينفعهم.
في (قنديل أم هاشم ) وفي (البوسطجي ) لم يبتعد يحيي حقي كثيراً عن فن القصة القصيرة، فهو يعرف إلي أين يذهب، موظّفاً كل كلمة، ولفتة، وشخصية مهما ضؤل دورها، ليصل إلي غرضه.
وهو كاتب لا يغيب عن باله أنه يكتب أدباً، وأنه قاص وحكّاء، وأن ما يكتبه يجب أن يمتع، وأن يكون عميقاً وإن بدا سهلاً قريباً.
يحتفي بيحيي حقي هذه الأيام ـ ولد عام 1905، وتوفي عام 1992 ـ بمرور مئة عام علي ولادته، وهو واحد برأيي من أكبر الكتّاب العرب الجديرين بالحفاوة عربياً لا إقليمياً مصرياً.
صدرت (قنديل أم هاشم) في عدّة طبعات، وقد عدت وقرأتها في طبعة تضمها مع عدّة قصص قصيرة أصدرتها (دار المعارف) في القاهرة عام 89.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: منتدى القصة العربية.

الرابط: http://www.arabicstory.net/forum/index.php?act=ST&f=4&t=1758&hl=يحيى+حقي& (http://www.arabicstory.net/forum/index.php?act=ST&f=4&t=1758&hl=يحيى+حقي&)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:02 AM
جولة الفكر
إيمان يحيي حقي بقيادة "المستبد العادل".. لم يمنع فصله في بداية الثورة

بقلم : أحمد عباس صالح
.............................

تابعت يحيي حقي في عدة انتقالات فقد رأيته وهو يترك الخارجية المصرية ليعمل في دار الكتب وهي الفترة التي أنجز فيها كتابه عن تاريخ القصة القصيرة المصرية وفيه كشف لأول مرة عن الطلائع الأولي للكتاب المصريين الذين أبدعوا في هذا الجنس الأدبي منذ بواكير القرن العشرين. وكانت هذه فترة غامضة في تاريخ الأدب الحديث ولم يطرقها أحد قبله.. وشاهدته عندما عينته حكومة الثورة الجديدة مديراً لمصلحة الفنون وفيها كان اهتمامه بالفن الشعبي والموسيقي واستطاع ان يفتح الطريق أمام نوع من العرض المسرحي الموسيقي وعلي الرغم من نجاح التجربة إلا أنها لم تستمر طويلاً بعد ذلك.
كانت هناك رغبة في تطوير الفنون وتنظيمها وكانت هذه اتجاهات وزير الارشاد القومي "انظر إلي كلمة ارشاد وما فيها من استاذية علي الناس" وهو الاستاذ فتحي رضوان الذي كان سياسياً مقرباً من ضباط الجيش وكان سياسياً راديكالياً اشترك في تشكيل حزب مصر الفتاة مع الزعيم أحمد حسين ثم انشق عليه وأنشأ الحزب الوطني الجديد وهي تركيبة معقدة أجد لها شبها في شخصية يحيي حقي. ولعل أبرز ما فيها هو الايمان بالثورة علي الأنظمة القائمة وتشكيل نظام جديد يقوده في الغالب مصلح "مستبد عادل" وفي هذا التصور تكمن فكرة النظام الابوي الذي يظهر فيه القائد السياسي في صورة الأب المحب ولكن البصير بحقيقة الأمور والتي ينبغي ان يطاع حتي لو لم يستطع الأبناء ان يروا الحكمة الخافية وراء تصرفاته وكانت هذه الفكرة بعيدة- كما تري- عن المفهوم الديمقراطي الذي يتساوي فيه الناس ويشتركون معا في اتخاذ القرارات والي جانب ذلك كان هناك ادراك قوي للهوية الوطنية والاسلامية وبالتالي تمسك بالتراث مع محاولة تنقيته وتصحيحه. ولعل أبرز ما في هذا الاتجاه هو منحاه القومي والذي كان مختلطا بالتراث الديني الاسلامي كمحور أساسي في تشكيل الكيان القومي.
كان فتحي رضوان ويحيي حقي أميل إلي الاتجاه الاول الذي يعتد بالرابطة الدينية باعتبارها المعلم الأساسي للهوية القومية. كما كان مؤمنا بالزعامة الأبوية وامكانية ظهور الشخصية القيادية الكبري بمفهوم "المستبد العادل" وفي هذه الفترة كتب يحيي حقي رواية "صح النوم" والتي كان محورها بطلا فردا رائعا سماه بالاستاذ. ولم يكن خافيا ان هذا الاستاذ ليس إلا تجسيدا لجمال عبدالناصر كما يتمناه يحيي حقي.
علي أن يحيي حقي تعرض بعد ذلك إلي الفصل من وظيفته بسبب سكوته علي النقد الشديد الذي جري ضد جمال عبدالناصر في بيت الاستاذ محمود شاكر بحضور الشيخ الباقوري الذي كان وزيرا للاوقاف في هذا الوقت علي ما أذكر وكانت السلطات تتوقع ان ينبري يحيي حقي بالدفاع عن الاستاذ ضد هذا الهجوم.
لست أذكر كيف انتقل هذا الحديث الخاص إلي السلطات والذي أسفر عن اقالة وزير الاوقاف وفصل يحيي حقي من وظيفته واعتقال الشيخ شاكر الذي كان أكثر رفاقه هجوما علي الأستاذ.
طوال هذه الفترة كنت التقي بيحيي حقي في جلسات لجنة القصة في المجلس الأعلي للثقافة والفنون في هذا الوقت وقليلاً ما كنت القاه في مناسبات أخري.. علي ان قصة فصله من وظيفته ظلت طي الكتمان ولا يعرفها الا القليلون في الوسط الأدبي علي أنه في نفس الفترة عين رئيساً لتحرير مجلة "المجلة" التي صدرت عن وزارة الثقافة في هذا الحين ونجحت هذه المجلة نجاحا ملحوظا من حيث عمق الدراسات والابداعات التي تقدم فيها ويبدو ان مصالحة ماقد قامت بين جماعة يحيي حقي ان صحت العبارة والسلطة اذ كان في استطاعته ان يستكتب الاستاذ محمود شاكر في المجلة بعد الافراج عنه والآن حين أتذكر المجلة- وكنت أتابعها عدداً بعدد- أري أنها كانت تبتعد عن السياسة علي الرغم من اختراق السياسة لكل شيء في حياتنا في هذا الوقت وكانت أدبية خالصة بمعني الكلمة وأعتقد ان افتتاحيات يحيي حقي في هذه المجلة كانت قطعة رائعة من الفكر الثاقب الذي ينطوي علي تلك الروح الناقدة والمتطلعة إلي التغيير في اطار الثقافة بشكل عام.
كنت أزوره في المجلة أحيانا وكان قد أحاط نفسه بمجموعة من الشباب وربما كان مسئولا عن تقديم الكثير من كتاب القصة الذين اشتهروا بعد ذلك عندما كانوا يبدأون الكتابة.
كان حياد المجلة السياسي غريباً اذ كنا جميعا نندفع في كل شيء نحو السياسة في الأدب والفن والفكر وفي جوانب الثقافة وكنا نشعر أننا في معركة ضد قوي كبري خارجية وقوي أخري داخلية وكانت مرحلة بالغة التعقيد من الصعب تصورها من قبل الشباب الآن وكنا ندفع إلي الاصلاح السياسي في حدود سلطات مطلقة للقيادة السياسية وكان من الصعب ان يتخلي الانسان عن الأمل في التغيير وكانت الظروف الدولية والداخلية تساعد علي ذلك. وبالفعل حدثت بعض التحولات في اتجاه تحسين الأوضاع ولكن يحيي حقي ظل علي حياده وفي هذه الفترة كتب يحيي حقي أجمل مقالاته النقدية وشيئاً من سيرته الذاتية وقد لجأ بعد ذلك إلي مجلة هامشية يكتب فيها مقالاته الرائعة هذه.
وعلي الرغم من ميله إلي الانزواء ونفوره من التقحم والدعاية لنفسه الا ان المجتمع المصري لأسباب لا أكاد أعرفها إلي اليوم كان دائماً يعرف مقداره ويعرف كيف ينتخب كتابه وفنانيه ومفكريه وحتي اليوم مازلت اندهش حين أري ان كاتبا أو فنانا لم يتصدر أي مجال من مجالات الذيوع ينتشل فجأة من وسط ركام الاهمال والتنكر ويوضع في الصدارة التي يستحقها. وكذلك يحيي حقي الذي مازال موجودا بيننا علي الرغم من كل ظروف الاحباط التي نعيشها وسحابات الخرافة واللاعقلانية السوداء التي تظلل حياتنا.
وحين أتذكر الآن كيف سارت علاقتي به طوال هذه السنين فأري أنني علي الرغم من مخالفتي لاتجاهاته الفكرية ظللت مفتونا بكتاباته وبشخصيته الانسانية البالغة النضوج. وأذكر أنني في حرب سنة 1956 وفي احدي الغارات وبسبب الاظلام التام صدمتني أنا وصديقاً اخر كنا نمشي معا في احد الميادين بالدقي سيارة وأسقطتنا علي الارض لكن دون أن نصاب اصابات خطيرة وخرجت من هذه الحادثة بعرج خفيف في احدي ساقي ولسبب لا أذكره ذهبت لزيارة يحيي حقي في شقته التي انتقل إليها في مصر الجديدة وحين رآني أعرج بعد ان عرف قصتي استوقفني وقادني إلي مكان في شقته جمع فيه مجموعة من العصيان واستخرج عصا جميلة من بينها وأهداني اياها. وحين أردت ارجاعها بعد أن شفيت ساقي طلب مني أن احتفظ بها.
في الايام الأخيرة كان يحيي حقي مغرما بالعصي وكنت أراه دائماً ممسكاً بعصا طويلة ملفتة للنظر وهو يسير بها وكأنه يتحسس الطريق.
وهكذا عندما نتحدث عن هذا الكاتب الرائع نتحدث في الواقع عن مصر ليس في حياته فقط بل اليوم أيضاً فهو جزء راسخ من ثقافتنا وجهازنا العصبي ولعله أحد الذين يكسبوننا شيئاً من المناعة ضد عناصر التدهور التي تهاجم حياتنا الآن.
.....................
*المصدر: الجمهورية ـ في 2/2/2006م.

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:08 AM
النص الكامل لروايته القصيرة « قنديل أم هاشم » :

1
كان جدي الشيخ رجب عبد الله إذا قدم القاهرة وهو صبي مع رجال الأسرة ونسائها للتبرك بزيارة أهل البيت, دفعه أبوه إذا أشرفوا على مدخل مسجد السيدة زينب - وغريزة التقليد تغني عن الدفع - فيهوي معهم على عتبته الرخامية يرشقها بقبلاته, وأقدام الداخلين والخارجين تكاد تصدم رأسه. وإذا شاهد فعلتهم أحد رجال الدين المتعالمين أشاح بوجهه ناقمًا على الزمن, مستعيذًا بالله من البدع والشرك والجهالة, أما أغلبية الشعب فتبسم لسذاجة هؤلاء القرويين - ورائحة اللبن والطين والحلبة تفوح من ثيابهم - وتفهم ما في قلوبهم من حرارة الشوق والتبجيل, لا يجدون وسيلة للتعبير عن عواطفهم إلاّ ما يفعلونه: والأعمال بالنيات. هاجر جدّي - وهو شاب - إلى القاهرة سعيًا للرزق; فلا عجب أن اختار لإقامته أقرب المساكن لجامعه المحبب. وهكذا استقر بمنزل للأوقاف قديم, يواجه ميضأة المسجد الخلفية, في الحارة التي كانت تسمى "حارة الميضة". [كانت] لأن معول مصلحة التنظيم الهدام أتى عليها فيما أتى عليه من معالم القاهرة. طاش المعول وسلمت للميدان روحه, إنما يوفق في المحو والإفناء حين تكون ضحاياه من حجارة وطوب! ثم فتح جدّي متجرًا للغلال في الميدان أيضًا. وهكذا عاشت الأسرة في ركاب "الستّ" وفي حماها: أعياد "الستّ" أعيادنا, ومواسمها مواسمنا, ومؤذن المسجد ساعتنا.
اتسع المتجر وبورك لجدّي فيه - وهذا من كرامات أم هاشم - فما كاد يرى ابنه الأكبر يتم دراسته في الكتّاب حتى جذبه إلى تجارته ليستعين به. وأما ابنه الثاني فقد دخل الأزهر, واضطرب فيه سنوات وأخفق, ثم عاد لبلدتنا ليكون فقيهها ومأذونها. بقي الابن الأصغر - عمي إسماعيل آخر العنقود- يهيئه القدر واتساع رزق أبيه لمستقبل أبهى وأعطر. لعله خشي في مبدإ الأمر, عندما أجبره أبوه على حفظ القرآن أن يدفع به إلى الأزهر, لأنه يرى صبية الميدان تلاحق الفتية المعممين بهذا الهتاف البذيء:
- شدّ العمة شدّ, تحت العمة قرد.....
ولكن الشيخ رجب سلمه, بقلب مفعم بالآمال, إلى المدارس الأميرية, وعندئذ أعانته تربيته الدينية وأصله القروي, فسرعان ما امتاز بالأدب والاتزان وتوقير معلميه, مع حشمة وكبير صبر. إن حُرِم التأنق لم تفته النظافة. وهو فوق ذلك أكثر رجولة, وأقوم لسانًا, وأفصح نطقًا من زملائه "المدلعين" أولاد الأفندية المبتلين بالعجمة وعجز البيان, فما لبث أن بذّ الأقران وتلألأت على سيمائه نجابة لا تخطئُها العين, فتعلقت به آمال أسرته.
أصبح, وهو لم يزل صبيًّا, لا ينادى إلاّ بـ"سي إسماعيل" أو إسماعيل أفندي, ولا يعامل إلاّ معاملة الرجال. له أطيب ما في الطعام والفاكهة.
إذا جلس للمذاكرة خفت صوت الأب, وهو يتلو أوراده إلى همس يكاد يكون ذوب حنان مرتعش, ومشت الأم على أطراف أصابعها. حتى فاطمة النبوية - بنت عمه, اليتيمة أبًا وأمًّا - تعلمت كيف تكف عن ثرثرتها وتسكن أمامه في جلستها صامتة كأنها أمَة وهو سيدها. تعودت أن تسهر معه كأن الدرس درسها, تتطلع إليه بعينيها المريضتين المحمرتي الأجفان, وأصابعها تعمل في حركة متصلة لا تنقطع في بعض أشغال "التريكو". من ذا الذي يقول لإسماعيل: تنبه إلى هاتين اليدين كيف دبت فيهما خلسة حياة غريبة وحساسية يقظة, ولمس متعرّف? ألا تفهم ألا تفطن إلى أن دليل اقتراب عاهة العمى في السليم هو أن تبدأ يده في الإبصار?
- قومي نامي يا فاطمة.
- لسه بدري ما جاليش نوم.
بين حين وآخر تحيل دمعة مترقرقة شخصه إلى شبح مبهم فتمسحها بطرف كمها وتعود إلى تطلعها. الحكمة عندها تتمثل في كلامه إذا نطق.
يالله! كيف تحوي الكتب كل هذه الأسرار والألغاز? وكيف يقوى اللسان على الرطانة بلغة الأعاجم? وكلما كبر في نظرها انكمشت أمامه وتضاءلت. قد يعلق بصره بضفيرتيها فيتريث ويبتسم. هؤلاء الفتيات! لو يعلمن كم هي فارغة رؤوسهن!
إذا أوى إلى فراشه فعندئذ, وعندئذ فحسب, تشعر الأسرة أن يومها قد انقضى, وتبدأ تفكر فيما يلزمه في الغد. كل حياتها وحركاتها وقف على توفير راحته. جيل يفني نفسه لينشأ فرد واحد من ذريته. محبة وصلت من قوتها إلى عنفوان الغريزة الحيوانية. الدجاجة القلقة ذات النظرة المتجسسة الحذرة ترقد على بيضها مشلولة الحركة ذليلة العين, كأنها راهبة تصلي. هل هي هبات من فيض كرم? أم جزية جبار مستبد, إرادته حديد, له في كل عنق طوق, وفي كل ساق قيد? تعلق هذه الأسرة بولدها تعلق مسلوب الحرية والإرادة! فأين بربك جماله? جواب هذا السؤال عند قلبي. فما من مرة تمثلت فيها هذه الأيام البعيدة إلاّ وجدته يخفق بذكراها, ويبدو لي وجه جدي الشيخ رجب وحواليه هالة من وضاءة ونور. أما جدتي - الست عديلة- بسذاجتها وطيبتها, فمن السخف أن يقال إنها من البشر, وإلاّ فكيف إذن تكون الملائكة?! ما أبشع الدنيا وأبغضها لو خلت من مثل تسليمها وإيمانها!
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:10 AM
2
سنة بعد سنة وإسماعيل يفوز بالأولوية, فإذا أعلنت النتيجة دارت أكواب الشربات على الجيران, بل ربما شاركتهم المارة أيضًا, وزغردت "ما شاالله" بائعة الطعمية والبصارة, وفاز الأسطى حسن - الحلاق ودكتور الحي - بحُلوانه المعلوم, وأطلقت الست عديلة بخورها وقامت بوفاء نذرها لأم هاشم. فهذه الأرغفة تُعَدُّ وتملأ بالفول النابت وتخرج بها أم محمد تحملها في مَقْطَف على رأسها: ما تهل في الميدان حتى تختطف الأرغفة, ويختفي المقطف, وتطير ملاءتها, وترجع خجلة تتعثر في أذيالها غاضبة ضاحكة من جشع شحاذي السيدة, وتصير حادثتها فكاهة الأسرة بضعة أيام يتندرون بها.
وكذلك نشأ إسماعيل في حراسة الله ثم أم هاشم. حياته لا تخرج عن الحي والميدان, أقصى نزهته أن يخرج إلى المنيل ليسير بجانب النهر أو يقف على الكوبري. إذا أقبل المساء, وزالت حدة الشمس, وانقلبت الخطوط والانعكاسات إلى انحناءات وأوهام, أفَاقَ الميدان إلى نفسه وتخلص من الزوار والغرباء. إذا أصختَ السمعَ وكنتَ نقي الضمير فطنت إلى تنفس خفي عميق يجوب الميدان لعله سيدي العتريس بواب الست - أليس اسمه من أسماء الخدم? - لعله في مقصورته ينفض يديه وثيابه من عمل النهار, ويجلس يتنفس الصعداء. فلو قُيِّضَ لك أن تسمع هذا الشهيق والزفير فانظُر عندئذ إلى القُبّة. لألاء من نور يطوف بها, يضعف ويقوي كومضات مصباح يلاعبه الهواء. هذا هو قنديل أم هاشم المعلق فوق المقام. هيهات للجدران أن تحجب أضواءه. يمتلئ الميدان من جديد شيئًا فشيئًا. أشباح صفر الوجوه منهوكة القوى, ذابلة الأعين, يلبس كل منهم ما قدر عليه, أو إن شئت: فما وقعت عليه يده من شيء فهو لابسه. نداءات الباعة كلها نغم حزين.
- حراتي يا فول.
- حلّي وع النبي صلّي.
- لوبية يا فجل لوبية.
- المسواك سُنّة عن رسول الله.
ما هذا الظلم الخفي الذي يشكون منه? وما هذا العبء الذي يجثم على الصدور جميعها? ومع ذلك فعلى الوجوه كلها نوع من الرضا والقناعة. ما أسهل ما ينسون! تتناول أيد كثيرة قروشًا وملاليم قليلة. ليس هنا قانون ومعيار وسعر, بل عرف وخاطر وفصالٍ وزيادة في الكيل أو طبّة في الميزان. وقد يكون الكيل مدلسًا والميزان مغشوشًا, كله بالبركة. صفوف تستند إلى جدار الجامع جالسة على الأرض, وبعضهم يتوسد الرصيف. خليط من رجال ونساء وأطفال, لا تدري من أين جاءوا ولا كيف سيختفون, ثمار سقطت من شجرة الحياة فتعفنت في كنفها. هنا مدرسة الشحاذين. حامل كيس اللقم يثقل الحمل ظهره ينادي:
- لقمة واحدة لله يا فاعلين الثواب, "جاعان".
والشابة التي تنبت فجأة وسط الحارة عارية أو شبه عارية:
- ياللي تكسي الولية يا مسلم, ربنا ما يفضح لك ولية!
صوتها الصارخ يجذب الوجوه للنوافذ, وعيناها الساحرتان تستهويان المطلات, فتمطر عليها أكوام من الخرق ورث الثياب. في لحظة واحدة تذوب وتختفي, فلا تدري أطارت, أم ابتلعتها الأرض فغارت.
وهذا بائع الدقة الأعمى الذي لا يبيعك إلاّ إذا بدأته السلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء.
ينقضي النهار فيودّع "كرش" الطرشجي بقية براميله, وتترك أقدام الخراط عملها اليومي وأدواتها, لتعود بصاحبها إلى الدار. لا يزال الترام هنا وحشًا مفترسًا له في كل يوم ضحية غريرة. يتقدم المساء ينعشه نسيم ذو دلال. تسمع من القهاوي ضحكات غضة وأخرى غليظة "حشّاشي". وإذا دلفت من الميدان إلى مدخل شارع مراسينا سمعت ضجيج السكارى في خمارة أنسطاسي التي يلقبها أهل الحي بفكاهتهم خمارة "آنسْت". يخرج منها سكير هائج يتطوح ويتعرض للمارة:
- ورّوني أجعص فتوة .
- جتك لهوة يا بعيد.
- سيبوه في حاله دا غلبان.
- ربنا يتوب عليه.
أشباح الميدان الحزينة المتعبة يحركها الآن نوع من البهجة والمرح, ليس في الدنيا همّ. والمستقبل بيد الله, تتقارب الوجوه بود, وينسى الوجيع شكايته. ويبذر الرجل آخر نقوده في الجوزة أو الكتشينة وليكن ما يكون: تقل أصوات اصطدام كِفَف الموازين, وتختفي عربات اليد, وتطفأ الشموع داخل المشنّات, عندئذ تنتهي جولة إسماعيل في الميدان. هو خبير بكل ركن وشبر وحَجر, لا يفاجئه نداء بائع, ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صور متكررة متشابهة اعتادها, فلا تجد في روحه أقل مجاوبة, لا يتطلع ولا يمل. لا يعرف الرضا ولا الغضب. إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبينه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات, وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح, لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب, والنفوذ إليه خفية, والاستقرار فيه, والرسوب في أعماقه, فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأي حياة. نظرة سليمة, كل عملها أن تبصر.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:12 AM
(3)
اقتربت المراهقة وأخذ جسده يفور, وكأنه مرغم, فهو فريسة ممزقة بين قوي دافعة وأخرى جاذبة. يهرب من الناس ويكاد يجن لوحدته. بدأ يشعر بلذة غريبة في أن يندس بين المترددات على المسجد, ولا سيما يوم الزيارة. في هذا الزحام كان معنى اللباس عنده أنه فواصل بين الأجسام العارية, يحس بها من صدمة هينة أو احتكاك وامض. في وسط هذه الأجسام كان يشعر بلذة المستحم في تيارٍ جار لا يبالى نقاء الماء. روائح العرق والعطر لا تكربه, بل يتشممها بخيشوم الكلاب. لا يخلو يوم الزيارة من بعض المومسات - فسيدي العتريس مأمور أن لا يصدّ أحدًا عن الساحة - يفدن لتقديم شمعة للمقام أو للوفاء بنذر, عسى الله أن يتوب عليهن, ويمحو ما على الجبين من مقدر مسطور. كان يراهن من قبل فلا يفطن إليهن, أما الآن فهو يتبعهن وتعلق نظرته بهن وتتريث. واختص بانتباهه فتاة تأتي كل يوم زيارة. سمراء جعدة الشعر, رقيقة الشفتين. هذه هي نعيمة. تمتاز عن زميلاتها بصمتها وقوامها الأهيف. الكلُّ يمشي مشية المتخاذل المنحل غير مكترث. أما هي, فكأنما تسير إلى غرض, مالكة كيانها وروحها. ذراعاها ممدودتان إلى جانبها, يواجهك باطن كوعها ولو دققت النظر لما وجدت من مومس إلاّ ذراعين مكسورتين من أثر السقوط, وإن كانت الثنية عندها سر الخلاعة!
يبتسم إسماعيل عندما يرى الشيخ درديري - خادم المقام - وسطهن كالديك بين الدجاج. يعرفهن واحدة واحدة ويسأل عن الغائبات, يأخذ من هذه شمعتها, ويوسع لأخرى طريق صندوق النذور. يتبدل رضاه فجأة, فيزجرهن ويدفعهن دفعًا إلى الخارج. تأتي إليه أيضًا نسوة ورجال يسألونه شيئًا من زيت قنديل أم هاشم, لعلاج عيونهم أو عيون أعزائهم. يشفى بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان. فلا بصر مع فقد البصيرة. ومن لم يشْف فليس لهوان الزيت, بل لأن أم هاشم لم يسعها بعد أن تشمله برضاها. لعله عقاب آثامه, ولعله هو لم يتطهر بعد من الرجس والنجاسة, فيصبر وينتظر ويتردد على المقام. فإن كان الصبر أساس مجاهدة الدنيا, فإنه أيضًا الوسيلة الوحيدة للآخرة.
في هذا الزيت مورد رزق متسع للشيخ درديري, ومع ذلك لا تظهر عليه آثار النعمة; فجلبابه القذر هو هو, وعمامته الغبراء هي هي. وماذا يفعل بنقوده?! هل يكنزها تحت بلاطة? يتهمه زملاؤه أنه يحرقها في الحشيش, بدليل سعاله الذي لا ينقطع وبدليل ما في طبعه من ميل "للقفش" والتنكيت. والحقيقة أنه مزواج لا يمر العام إلاّ ويبني ببكر جديدة. عرفه إسماعيل من تردده على المقام, واعتاد أن يمر عليه في أغلب الليالي بعد صلاة العشاء ليتندر بحديثه. ومال الرجل للفتى واختصه بحنانه, هذا الحنان هو الذي حمله ذات ليلة على الإفضاء إليه بسر لم يفض به إلى أحد غيره:
- تعرف يا سي إسماعيل ليلة الحضرة يجيء سيدنا الحسين, والإمام الشافعي, والإمام الليث. يحفون بالسيدة فاطمة النبوية والسيدة عائشة والسيدة سكينة. وفي كوكبة من الخيل, ترفرف عليهم أعلام خضر, ويفوح من أردانهم المسك والورد, يأخذون أمكنتهم عن يمين الست وعن يسارها. وتنعقد محكمتهم وينظرون في ظلامات الناس. لو شاءوا لرفعوا المظالم جميعها ولكن الأوان لم يَئِنْ بعد. فما من مظلوم إلاّ وهو ظالم أيضًا, فكيف الاقتصاص له? في تلك الليلة, هذا القنديل الصغير الذي تراه فوق المقام, لا يكاد يشع له ضوء, ينبعث منه عندئذ لألاء يخطف الأبصار. إني ساعتها لا أطيق أن أرفع عيني إليه. زيته في تلك الليلة فيه سر الشفاء - فمن أجل ذلك لا أعطيه إلاّ لمن أعلم أنه يستحقه من المنكسرين.
كان إسماعيل غائب الذهن, يفكر في الفتاة السمراء التي تزم شفتيها. وانتبه إلى الشيخ درديري وهو يشير بإصبعه إلى القنديل: وسنان كالعين المطمئنة رأت, وأدركت, واستقرت. يضفو ضوءُه الخافت على المقام, كإشعاع وجه وسيم من أم تلقم رضيعها ثديها فينام في أحضانها. ومضات الذبالة خفقات قلبها حنانًا, أو وقفات تسبيحها همسًا. يطفو فوق المقام كالحارس مبتعدًا تبجيلاً. أما السلسلة فوهم وتعلة. كل نور يفيد اصطدامًا بين ظلام يجثم وضوء يدافع, إلاّ هذا القنديل. فإنه يضيء بغير صراع! لا شرق هنا ولا غرب. ما النهار هنا ولا الليل, لا أمس ولا غد.
وانتفض إسماعيل, لا يدري ما هذا الذي مس قلبه!
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:13 AM
(4)
ووافقت المراهقة سنة البكالوريا . وخرج إسماعيل من الامتحان وقلبه واجف مفعم بالشكوك. وأعلنت النتيجة فإذا به يفوز ولكن في ذيل الناجحين.
لقد كان أمله ورجاء الأسرة كلها أن يدخل مدرسة الطب, فإذا بها تصده عن أبوابها. واقترب العام الجديد ولم يستقر على قرار. ليس أمامه إلاّ أن يدخل مدرسة المعلمين إن شاء, أو أن يدرس للبكالوريا من جديد, ويضيع سنة من عمره, وكلا الأمرين بغيض إلى نفسه. لم يكن الشيخ رجب بأقل من ابنه قلقًا وحيرة, ولكم توقع بعض معارفه أن يكتفي بتعليم ابنه إلى الحد الذي بلغه ويوظفه بالبكالوريا, إن لم يكن للمساعدة, فللتخفيف عنه. آه لو علموا كيف عقد الشيخ رجب نيته على أن يدفع بابنه إلى الصفوف الأولى!! يذهب هنا وهناك يسأل عن حل. لا أدري من الذي قال له:
- لماذا لا ترسل ابنك إلى أوربا?
بات الشيخ رجب ليلته يتقلب على جنبيه.
علم أن هذا الحل سيكلفه من عشرة إلى خمسة عشر جنيهًا في الشهر, غير ما يلزم لابنه في أول الأمر من نفقات الطريق وثياب تقيه برد الشمال? أيفارق ابنه? وهل ترضى أمه? أم سيقف حنانها في سبيل مستقبل إسماعيل? وهل يقوي على دفع هذا المبلغ بانتظام كل شهر? إنه لو فعل لما بقي للأسرة كلها إلاّ ما تعيش به على الكفاف والشظف. وإلى متى? ست سنوات أو سبعًا, والزمان قاس يدور دورة عكس. كما سمع أذان العشاء سمع أذان الفجر, ثم أخذته غفوة هتف به خلالها صوت رقيق:
- توكل على الله ...
استيقظ من نومه وقد عقد عزمه. وفهمت الأم أن لا مهرب من الفراق, فرضيت صامتة وإن لم ينقطع بكاؤها. إلى أين? بلاد برة! كلمة لها رنين وسحر, تتسلل كروح مبهمة لا يطمئن لها, إلى المنزل الذي لا تنقطع فيه تلاوة القرآن, وحيث الشرع هو الحق والعلم جميعًا. وثوت هذه الروح في ركن صغير من الدار وغطت رأسها وتمطت. ونامت منتصرة قريرة العين. "بلاد بَرّه!" ينطق بها الأب كأنها إحسان من كافر لا مفر من قبوله لا عن ذلة, بل للتزود بنفس السلاح. أما الأم, فمنذ الآن تركبها رعدة المحيط وتأخذها رجفة البرد. تتصور (بلاد بره) في نهاية سلم عالٍ ينتهي إلى أرض تغطيها الثلوج, ويسكنها أقوام لهم حيل الجن وألاعيبهم. أما فاطمة النبوية فقلبها واجف تسمع أن نساء أوربا يسرن شبه عاريات وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء. فإذا سافر إسماعيل, فلا تدري كيف يعود إن عاد!
وجمع الأب كل ما استطاع جمعه من مال, وباعت الأم حليها, واشتريت تذاكر السفر والملابس الثقيلة التي تقي من برد أوربا, واقترب موعد السفر وحل الوداع.
واجتمعت الأسرة صامتة حزينة. قلوب خافقة, وعيون دامعة. وأنشأ الأب يقول لابنه:
- وصيتي إليك أن تعيش في "بلاد برّه" كما عشت هنا, حريصًا على دينك وفرائضه, وإن تساهلت مرة فلن تدري إلى أين يقودك تساهلك, ونحن يا بني نريدك أن ترجع إلينا مفلحًا لتبيض وجوههنا أمام الناس. أنا رجل قد أوشكت على الكبر, وقد وضعت كل آمالنا فيك وإياك أن تغرك نساء أوربا, فهُنَّ لسنَ لكَ وأنتَ لستَ لهنَّ.
ثم صمت الأبُ قليلاً وعاد يقول:
- واعلم أن أمك وأنا قد اتفقنا على أن تنتظرك فاطمة النبوية, فأنت أَحقُّ بها وهي أحق بك. هي بنت عمك وليس لها غيرك. وإن شئت قرأنا الفاتحة معًا يومنا هذا, عسى أن يصحب سفرك البركة واليمن.
لم يسعه إلاّ القبول. فوضع يده في يد أبيه, وقرأ الفاتحة, بينهما أم تبكي, وفتاة حيرى بين الأسى والفرح.
كان إسماعيل يعلم أن هذه الفاتحة ستأتي في يوم, ولكنه لم يتوقعها في تلك الليلة. فلقد نشأ مع فاطمة النبوية أخوين, وقلما نظر إليها كما نظر إلى فتاته السمراء.
قرأ الفاتحة وهو شارد اللب. إرضاء لأبيه, وقلبه يقول له: "احفظ عهدك!" فيجيبه: "لماذا? لماذا?!" كل هذه أشياء غامضة, لأنه حتى اليوم ما يزال طاهرًا عفيفًا, لم يقترب من امرأة. وإنه لكاذب - وإسماعيل لا يكذب - إذا أنكر أنه جوعان إلى فتاته السمراء, إلى النساء جميعًا, ولا سيما أخيرًا: إلى نساء أوربا.

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:24 AM
(5)
وخرج إسماعيل يودع بعض أصدقائه, ثم انتهى إلى الميدان وقد اقترب الغروب. تتلقف آذانه ما أمكنها من نداءات الباعة التي ألفها, وخيل إليه أن في الميدان حركة غير التي عهد. كأن القوم أصبحوا أسرع مشية. ما لهم لا يلوون على شيء? أفليست الحياة إلاّ سباقًا? كم ودّ لو وقف واحد من المندفعين وبادله الحديث. لم يلتفت إليه أحد. في الميدان حركة النمل تتعارض وتتحاذي وتضرب في كل اتجاه. قادته قدماه إلى المقام, فوجده ساكنًا على غير عادته. الشيخ درديري واقف مطأطئ الرأس, كأنما هو متعب أو تسلط عليه خوف ورهبة. دار إسماعيل حول المقام, حتى إذا جاء للسور الذي يفصل مكان النساء عن الرجال, انتبه إلى شبح واقف وراءه. هي فتاته السمراء ألصقت جبينها على السور. سمِّر إسماعيل في مكانه وسمعها تقول هامسة:
- يا أم هاشم: يا ستارة على الولايا, لا تغضي عينيك ولا تشيحي بوجهك. تمد إليك يد مسترحمة فخذيها. إن الله طهرك وصانك وأنزلك الروضة. وإن قلبك لرؤوف. إذا لم يقصدك المرضى والمهزومون والمحطمون, فمن غيرك يقصدون? إذا نسينا فاذكري أنت! متى يُمحى المقدر علي? أيرضيك أن جسدي ليس مني, فما أشعر بالألم وهو ينهشه نهشًا, ها هي روحي على عتباتك تتلوى وتتمرغ مصروعة. تريد أن تفيق, منذ غادرني رضا الله وأنا كالنائم يركبه الكابوس, يقبض في يد واحدة على الموت والحياة! رضيت لحكمه وأسلمت نفسي, ولن أضيع وأنت هنا معنا. أفيطول الأمد, أم رحمة الله قريب? نذرت لك يوم يتوب المولى عليّ أن أزين مقامك الطاهر بالشموع. خمسين شمعة, يا أم هاشم يا أخت الحسين!
ووضعت الفتاة شفتيها على سور المقام. ليست هذه القبلة من تجارتها, بل من قلبها. ومن ذا الذي يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة?
هم إسماعيل أن يخرج من المسجد ليلحقها ويكلمها, فلم تتحرك قدماه. أراد أن يفضي لها بكل ما في نفسه, إن لحظة الانتزاع من الأسرة والوطن, لمواجهة الغربة والوحدة والمجهول تضني أعصابه وتهصر قلبه, لماذا يهتز لمرآها دون سائر النساء? أَواهم هو? إلاّ أن صوتًا خفيًّا يريد أن ينطق في قلبه ويتكلم ويرشده إلى السر, ولكن هناك ألف غطاء وغطاء تكتم هذا الصوت وتخفته, ولعل الفتاة لم تره ولم تشعر به. وهرب إسماعيل من حيرته إلى الشيخ درديري وحديثه الثرثار ينزل بلسمًا على فؤاده. وقفته في صمت أمام المقام وتحت ضوء القنديل, ويده معلقة بالسور تارة, ماسحة على وجهه تارة أخرى, هي آخر ما يذكره عن رحيله من القاهرة. فكل ما حدث له بعد خروجه من المقام شمله من أخمص قدميه إلى رأسه, كالتيار المندفع العنيف, يتأرجح فيه ملقى القياد, مقلوب الوضع, فقد خلاله الزمن ترتيبه, والمرئيات اعتدالها, والأصوات صدقها وفروقها. وداع الأسرة, وما أمره! في الدار وسط النحيب والبكاء, والمحطة, والقطار ثم الميناء وحركته والباخرة المجهولة وصفيرها. إني أتخيله صاعدًا سلم الباخرة شابًّا عليه وقار الشيوخ, بطيء الحركة, غرير النظرة, أكرش, ساذجًا, كل ما فيه ينبئ أنه قروي مستوحش في المدينة. أقسم لي عمي إسماعيل فيما بعد أنه كان يحمل في أمتعته قبقابًا, فقد سمع الشيخ رجب أن الوضوء في أوربا متعذر لاعتياد الناس لبس الأحذية في البيوت. كما وصف لي وهو يبتسم سراويله وطولها وعرضها وتكتها المحلاوي . وكان معه أيضًا سلة ملأى بالكعك و"المنين" من عمل أمه وفاطمة النبوية.
وسافرت الباخرة.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:25 AM
(6)
ومرّت سبع سنوات, وعادت الباخرة.
من هذا الشاب الأنيق السمهري القامة, المرفوع الرأس, المتألق الوجه, الذي يهبط سلم الباخرة قفزًا? هو والله إسماعيل بعينه. أستغفر الله! هو الدكتور إسماعيل, المتخصص في طب العيون, والذي شهدت له جامعات إنجلترا بالتفوق النادر, والبراعة الفذة. كان أستاذه يمزح معه ويقول له:
- أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك, فهي بلد العميان.
رأى فيه دراية كأنها ملهمة, وصفاء هو سليل نضج أجيال طويلة, ورشاقة أصابع هي وريثة الأيدي التي نحتت من الحجر الصلد دمًى تكاد تحيا.
أقبل يا إسماعيل, فإنّا إليك مشتاقون. لم نرك منذ سبع سنوات مرت كأنها دهور. كانت رسائلك المتوالية, ثم المتراخية, لا تنفع في إرواء غلتنا. أقبل إلينا قدوم العافية والغيث, وخذ مكانك في الأسرة, فستراها كالآلة وقفت بل صدئت لأن محركها قد انتزع منها. آه! كم بذلت هذه الأسرة لك! فهل تدري?
لم يَنم إسماعيل ليلة الوصول إلاّ غرارًا. قفز إلى ظهر الباخرة مع الفجر يريد ألاّ يفوته أول ما يبدو من شاطئ الإسكندرية لا يرى شيئًا على الأفق, ولكن خياشيمه تتشمم في النسيم رائحة لم يألفها من قبل, أول من لقيه من وطنه, مخلوقٌ الكون كله وطنه, طائر أبيض منفرد يحوم حول السفينة, طليق متعال نظيف, وحيد. لماذا تتعمد البواخر كل هذا التلكؤ عند الوصول, وما كان أسرعها عند الفراق? إنها تتهادى بدلال العودة, فما لها وللركاب وما يشعرون! كتم إسماعيل عن أهله موعد الباخرة حتى لا يكلف أباه الشيخ مشقة السفر للإسكندرية. في عزمه أن يبرق إليهم بموعد وصول قطاره للقاهرة, هذا هو الفنار المتمنطق, وهذا هو الشاطئ الأصفر يكاد يكون في مستوى الماء. أنت يا مصر راحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلاّ بانبساطها. ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة, ولا على شاطئك جبال تصد, أنت دار كل ما فيها يوحي بالأمان.. ها هو أول قارب يظهر, فيه شيخ قد وخط الشيب لحيته, مقوس الظهر, أَقْعَى كالقرد في مقدم قاربه يصطاد, جلبابه الأزرق, أو الذي كان أزرق, ممزق مرقع. وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره, فرآها مطلة على الصياد مغرورقة عيناها بالدموع وسمعها تتمتم:
- مصر! مصر!
كيف ينتبه لها الصياد, وهو لم ينتبه للباخرة كلها?! مثلها كثيرات داخلات خارجات تكاد تصدم قاربه, ولكن هيهات لها أن تصدم عالمه المقفل. عالم يجري على وتيرة واحدة متكررة يومًا بعد يوم. هم إسماعيل أن ينادي هذا الشيخ ويلقي عليه السلام أو يلوح له بمنديل. كيف تسقط المقاييس وينهزم المنطق في مثل تلك اللحظات التي تتأجج فيها العواطف وتصفو القلوب! ورنّ جرس إيذانًا بموت الباخرة, فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشري يهاجمها. جنود وضباط, وإخواننا المحتلون ولو أنهم أخلاط مطربشون, وحمالون وصيارفة وزوار. ثم اندلق الزحام والتدافع, وتعالت النداءات, وكثر العناق والتقبيل. وإسماعيل وسط التيار غير مغمور يلتقط بنهم كل ما يصل إليه. وعلى شفتيه ابتسامة حلوة مطمئنة. له أذن فارزة واعية, ونظرة حية يقظة تريد أن ترى كل شيء, وتفهم كل شيء. إذا دققت النظر إليه وجدت تكورات وجهه قد زالت, وشُدّ شدقاه في أخدودين, كانت شفتاه مرتخيتين, قلما تنطبقان, أما الآن فقد ضمهما عزم ووثوق. يجتاز الجمارك. وفي العربة يستمع لوقع عجلاتها بين الأسفلت والبلاط, فيذكره تنافر النغم وتناوبه بيوم السفر. كم يبدو له هذا اليوم مترديًا في هوة من ماض بعيد. بعيد كالحلم.... كيف تقوى ذكرى هذا اليوم على البقاء بعد سبع سنوات قضاها في إنجلترا قلبت حياته رأسًا على عقب? كان عفًّا فغوى, صاحيًا فسكر, راقص الفتيات وفسق. هذا الهبوط يكافئه صعود لا يقل عنه جدة وطرافة. تعلم كيف يتذوق جمال الطبيعة ويتمتع بغروب الشمس - كأن لم يكن في وطنه غروب لا يقل عنه جمالاً - ويلتذ بلسعة برد الشمال.
إن لم يكن له في هذه الفترة سوى "ماري" زميلته في الدراسة لكفى بها في نسيان ماضيه. لقد أخذ هذا الفتى الشرقي الأسمر بلبها فآثرته واحتضنته. عندما وهبته نفسها, كانت هي التي فضّت براءته العذراء, أخرجته من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق, فتحت له آفاقًا يجهلها من الجمال: في الفن, في الموسيقى, في الطبيعة, بل في الروح الإنسانية أيضًا.
قال لها يومًا:
- سأستريح عندما أضع لحياتي برنامجًا أسير عليه.
فضحكت وأجابت:
- يا عزيزي إسماعيل, الحياة ليست برنامجًا ثابتًا, بل مجادلة متجددة.
يقول لها: "تعالي نجلس", فتقول له: "قم نسِر". يكلمها عن الزواج, فتكلمه عن الحب. يحدثها عن المستقبل, فتحدثه عن حاضر اللحظة. كان من قبل يبحث دائمًا خارج نفسه عن شيء يتمسك به ويستند إليه: دينه وعبادته, وتربيته وأصولها, هي منه مشجب يعلق عليه معطفه الثمين. أما هي, فكانت تقول له: "إن من يلجأ إلى المشجب, يظل طول عمره أسيرًا بجانبه يحرس معطفه. يجب أن يكون مشجبك في نفسك". إن أخشى ما تخشاه هي: القيود. وأخشى ما يخشاه هو: الحرية. كانت هبتها له في مبدإ الأمر محل حيرته, فكانت حيرته محل سخريتها. كان يتجافى الناس ويقدر احتمالات وُدِّهم, ويهتم كيف يكون حكمهم عليه, وإذا لقي من تريحه المجاملة لا يجد بأسًا في مجاملته, وقلبه غير مشارك. التعارف عنده اصطدام بين الشخصيات يخرج منه ظافرًا أو خاسرًا. أما هي, فتهيم بالناس جميعًا, ولا تهتم بهم جميعًا. التعارف عندها لقاء, والودّ متروك للمستقبل, ومع تساوي وُدِّها للناس جميعًا, كانت بتارة في إقصاء الضعيف, والسخيف, والمتعالم, والرذل, والحزين, والمنافق. فلما تخلصت من هذه الأوشاب, أصبحت لا ينجذب إليها إلاّ من تطمئن لصحبتهم.
رأته يطيل جلسته بجانب الضعفاء من مرضاه, ويخصّ بعطفه من يلحظ فيه آثار تخريب الزمن للأعصاب والعقول - وما أكثرهم في أوربا, يجلس صامتًا ينصت لشكواهم. وكان أكبر كرم منه أن يماشي منطقه منطقهم المريض. لحظته "ماري" وحلقة المرضى والمهزومين تطبق عليه يتشبثون به. كل يطلبه لنفسه. فأقدمت وأيقظته بعنف:
- أنت لست المسيح بن مريم! "من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم!" و"الإحسان أن تبدأ بنفسك". هؤلاء الناس غرقى يبحثون عن يد تمد إليهم, فإذا وجدوها أغرقوها معهم! إن هذه العواطف الشرقية مرذولة مكروهة; لأنها غير عملية وغير منتجة, وإذا جردت من النفع, لم يبق إلاّ اتصافها بالضعف والهوان, إنما هذه العواطف قوتها في الكتمان لا في البوح!
كانت روحه تتأوه وتتلوى تحت ضربات معولها. كان يشعر بكلامها كالسكين يقطع من روابط حية يتغذي منها, إذ توصله بمن حوله. واستيقظ في يوم, فإذا روحه خراب لم يبق فيها حجر على حجر. بدا له الدين خرافة لم تخترع إلاّ لحكم الجماهير, والنفس البشرية لا تجد قوتها, ومن ثم سعادتها, إلاّ إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها. أما الاندماج فضعف ونقمة.
لم تقْو أعصابه على تحمل هذا التيه الذي وجد نفسه غريقًا وحيدًا في خلائه, فمرض وانقطع عن الدراسة, وافترسه نوع من القلق والحيرة, بل بدت في نظرته أحيانًا لمحات من الخوف والذعر.
وكانت "ماري" هي التي أنقذته, أخذته في رحلة إلى الريف بإسكتلندة, يجولان بالنهار مشيًا أو على الدراجة بين الحقول أو يصطادان السمك, وبالليل تذيقه من متعة الحب أشكالاً وألوانًا. من حسن حظه أنه استطاع أن يجتاز هذه المحنة التي يتردى فيها الكثيرون من مواطنيه الشباب في أوربا وخلص منها بنفس جديدة مستقرة ثابتة واثقة. إن اطرحت الاعتقاد في الدين فإنها استبدلت إيمانًا أشد وأقوى بالعلم. لا يفكر في جمال الجنة ونعيمها, بل في بهاء الطبيعة وأسرارها. ولعل أكبر دليل على شفائه أنه بدأ يتخلص من سيطرة "ماري" عليه. أصبح لا يجلس بين يديها جلسة المريد أمام القطب, بل جلسة الزميل إلى زميله. لم يدهش, ولم يتألم كثيرًا, عندما رآها تبتعد عنه وتنصرف إلى زميل من جنسها ولونها. إنها ككل فنان يمل عمله حين يتم. شفي إسماعيل ففقد كل سحره, وأصبح كغيره ممن تعرفهم, فلتجرب إذًا صديقها الجديد. على أن إسماعيل لم يقْو على مغادرة إنجلترا دون أن يسعى إلى لقائها لآخر مرة. دعاها فلم ترفض وجاءته. ولم يسأل نفسه: أعلى عِلمٍ من صديقها الجديد, أم على غفلة منه? ووهبت له نفسها مرةً أخرى, فهذه العلاقة ليست عندها بذات بال ولا خطر. كانت ضمّتها له نوعًا من المصافحة وسلام الوداع,
وهتفت به وهي تنصرف على دراجتها:
- آمل أن أراك في مصر يومًا من الأيام, ومن يدري? فإلى اللقاء إذًا, ولا أقول وداعًا.
نساء العصر الحديث! كم ذا يواجهن الاحتمالات بقلوب ثابتة. شجرة الحياة أمامهن مثقلة بالثمر منوّعته. لهن شهية مفتوحة فلم التأسي والبكاء على ثمرة, والشجرة مفعمة?
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:45 AM
( 7 )
والظاهرة العجيبة التي لا أستطيع تفسيرها أن إسماعيل أفاق من حبه "لماري" فوجد نفسه فريسة حب جديد. ألأن القلب لا يعيش خاليًا? أم أن "ماري" هي التي نبهت غافلاً في قلبه فاستيقظ وانتعش? كان إسماعيل لا يشعر بمصر إلاّ شعورًا مبهمًا, هو كذرة الرمل اندمجت في الرمال واندسّت بينها, فلا تمييز منها, ولو أنها مع ذلك منفصلة عن كل ذرة أخرى. أما الآن فقد بدأ يشعر بنفسه كحلقة في سلسلة طويلة تشده وتربطه ربطًا إلى وطنه. في ذهنه مصر عروس الغابة التي لمستها ساحرة خبيثة بعصاها فنامت. عليها الحلي, و"دواق" ليلة الدخلة. لا رعى الله عينًا لم تر جمالها, ولا أنفًا لا يشم عطرها! متى تستيقظ? متى? وكلما قوي حبه لمصر, زاد ضجره من المصريين. ولكنهم أهله وعشيرته, والذنب ليس ذنبهم. هم ضحية الجهل والفقر والمرض والظلم الطويل المزمن. إنه حدق في الموت مرارًا, وجس المجذوم, واقترب فمه من فم المحموم. ترى هل ينكص الآن عن لمس هذه الكتلة البشرية التي لحمه من لحمها ودمه من دمها? قد عاهد نفسه في حبه لمصر ألاّ يرى منكرًا إلاّ دفعه. علمته "ماري" كيف يستقل بنفسه, وهيهات لهم بعد ذلك أن يجرعوه خرافاتهم وأوهامهم وعاداتهم. ليس عبثًا أن عاش في أوربا وصلّى معها للعلم ومنطقه. علم أن سيكون بينه وبين من يحتك بهم نضال طويل, ولكن شبابه هوّن عليه القتال ومتاعبه. بل كان يتشوق إلى المعركة الأولى. وسرح ذهنه فإذا هو كاتب في الصحف أو خطيب في أحد المجتمعات يشرح للجمهور آراءه ومعتقداته.
وتحرك القطار بإسماعيل ولم يرسل برقيته, لا يدري لماذا ضعف عن لقائهم بالمحطة وسط الضجيج والضوضاء وعلى أعين الناس, وربكة المتاع. إنه يود أن يلقى أعزاءه في دارهم, وعلى نجوة من الغرباء. ولم يقدّر وقع المفاجأة على أبيه وأمه العجوز. ذكرهما فوجف قلبه. هل يستطيع أن يؤدي لهما بعض ما هو مدين به? إنه قادم مزود بنفس السلاح الذي أراده له أبوه, وسيشق لنفسه بهذا السلاح طريقه إلى أول الصفوف. وسيعرض عن خدمة الحكومة ويفتح عيادة في أرقى أحياء القاهرة. وسيدهش القاهريين أولاً ثم المصريين جميعًا بما أتقنه من فن واكتسبه من خبرة. فإذا تدفق عليه المال أعفى أباه الشيخ من العمل, واشترى له أرضًا في بلدهم ليعيش مستريحًا. ثم وجم إسماعيل. لقد تذكر أنه لم يأت معه من أوربا بهدية لأسرته, وسُرِّي عنه إذ قال لنفسه:
- ماذا في أوربا كلها يصلح لأبي وأمي?
وفاطمة النبوية? ذكراها تثير في نفسه بعض الاضطراب لم يزل مرتبطًا بوعده, وقد عاد حرًّا, فلا عذر له إذا اعتذر. هذه مسألة معقدة فلنتركها للمستقبل.
وأطل من النافذة فرأى أمامه ريفًا يجري كأنما اكتسحته عاصفة من الرمل, فهو مهدم معفر متخرب. الباعة على المحطات في ثياب ممزقة, تلهث كالحيوان المطارد, وتتصبب عرقًا.
ولما سارت العربة من المحطة, ودخلت شارع الخليج الضيق الذي لا يتسع لمرور الترام, كان أبشع ما يتصوره أهون مما رآه: قذارة وذباب, وفقر وخراب, فانقبضت نفسه, وركبه الوجوم والأسى, وزاد لهيب الثورة في قرارة نفسه, وزاد التحفز.
ووقف أمام البيت, وتناول مطرقته, وتركها تسقط, فاختلطت دقتها بدقات قلبه. سمع صوتًا رقيقًا ينادي بلهجة نساء القاهرة:
- مين?
- أنا إسماعيل! افتحي يا فاطمة!
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:46 AM
( 8 )
يا إسماعيل. ما أقساك! وما أجهل الشباب!
كادت أمه يغمى عليها, وانعقد لسانها وهي تضمه وتقبل وجهه ويديه, تشهق وتبكي. يا لله! كم شاخت وتهدلت وضعف صوتها وبصرها! إن الغائب في وهم, يتوقع أن يعود لأحبابه فيجدهم كما تركهم منذ سنوات. صوت يهمس في قلبه:
- ليست لها من الشخصية نصيب! ليست إلاّ كتلة من طيبة سلبية.
وجاءه أبوه تفيض عليه ابتسامة هادئة. اشتعل شيبه وإن لم تنحن قامته, في عينيه نظرة مشوبة من إعياء وصبر, من راحة ضمير وشعور بالحمل الثقيل. سيعلم إسماعيل فيما بعد أن الأزمة كوته بنارها فانتكست أموره, ومع ذلك لم يتأخر في يوم ما عن موعد إيداع النقود بالبنك لابنه. لم يذكر لإسماعيل ما يعانيه أو يدعوه إلى الاقتصاد أو يستعجله للعودة. يلهو إسماعيل في إسكتلندة مع رفيقته, يأكل البفتيك, وأبوه قعيد داره, عشاؤه طعمية أو فجل.
لإسماعيل نظرة من طرف عينيه تطوف في الدار, فإذا هي أضيق وأشدّ ظلمة مما كان يذكر. أما يزال ضوءُهم من مصباح البترول? قطع الأثاث بالية متناثرة تبدو - رغم مر السنين وطول الصحبة - كأنها مهاجرة في دار غربة, ولماذا هم على البلاط? وأين البساط?
هذه أم محمد ترتبك كعادتها بين الأطباق والحلل وهي تزغرد فيزجرها ويقول لها:
- بس بلاش خوْته , يا وليه اعقلي.
ولكن أين فاطمة النبوية? أقبلت, فإذا أمامه فتاة في شرخ الصبا. ضفيرتاها, وأساورها الزجاجية الرخيصة, وحركاتها, وكل ما فيها وما عليها, يصرخ بأنها قروية من أعماق الريف. هل هذه هي الفتاة التي سيتزوجها? علم منذ اللحظة أنه سيخون وعده وينكث عهده, وما لها معصوبة العينين? فهي ترفع ذقنها لتستطيع أن ترى وجهه. لم يدعها الرمد منذ سافر وساء حالها يومًا بعد يوم.
وأُعِد العشاء وجلسوا, ولعلهم جلسوا من أجله حول مائدة لهم من الخشب الأبيض, لم يأكل عليها أحد. لم يأكلوا هم من حدة الفرح, ولم يأكل هو من صدمة اليقظة. اعترف لي إسماعيل فيما بعد بأنه - حتى في اللحظة التي كان يجب أن تشغله سعادة العودة إلى أحضان والديه عن القياس والمقارنة والنقد - لم يملك نفسه عن التساؤل! كيف يستطيع أن يعيش بينهم?! وكيف يجد راحته في هذه الدار?!
وأعد الفراش. وأبي الشيخ رجب إلاّ الانصراف إلى غرفته ليترك ابنه يستريح من عناء السفر. وهذه أمه تجذب نفسها جذبًا وتهم بتركه, ولكنها تشير إلى فاطمة وتقول:
- تعالي يا فاطمة, قبل أن تنامي, أقطر لك في عينيك.
ورأى إسماعيل أمه وفي يدها زجاجة صغيرة, وترقد فاطمة على الأرض وتضع رأسها على ركبة الأم, فتسكب من الزجاجة في عينيها سائلاً تتأوه منه فاطمة وتتألم.
سألها إسماعيل:
- ما هذا يا أمي?
- هذا زيت قنديل أم هاشم, تعودت أن أقطر لها منه كل مساء.
لقد جاءنا به صديقك الشيخ درديري. إنه يذكرك ويتشوق إليك. هل تذكره? أم تراك نسيته?
قفز إسماعيل من مكانه كالملسوع. أليس من العجيب أنه - وهو طبيب عيون - يشاهد في أول ليلة من عودته, بأية وسيلة تداوى بعض العيون الرمداء في وطنه?
تقدم إسماعيل إلى فاطمة فأوقفها, وحلّ رباطها, وفحص عينيها, فوجد رمدًا قد أتلف الجفنين وأضر بالمقلة, فلو وجد العلاج المهدئ المسكن لتماثلت للشفاء, ولكنها تسوء بالزيت الحار الكاوي,
فصرخ في أمه بصوت يكاد يمزق حلقه:
- حرام عليك الأذية. حرام عليك. أنت مؤمنة تصلين, فكيف تقبلين أمثال هذه الخرافات والأوهام?
وصمتت أمه وانعقد لسانها, تحاول أن تتمتم ولا تبين.
ورأى إسماعيل شبح أبيه على الباب, في جلباب أبيض قصير وعلى رأسه طاقية تحتها وجه مربد. هل يتوقع قلبه الحنون مكروهًا? ماذا? لعل في تصرفات إسماعيل وحركاته ونظراته ما أيقظ في نفسه منذ اللحظة الأولى بعض الريبة. ما هذا الصراخ? ماذا حدث?
ونطقت أمه أخيرًا تستعيذ بالله وتقول له:
- اسم الله عليك يا إسماعيل يا ابني. ربنا يكملك بعقلك هذا غير الدوا والأجزا. هذا ليس إلاّ من بركة أم هاشم.
وإسماعيل كثور هائج لوحت له بغلالة حمراء.
- أهي دي أم هاشم بتاعتكم هي اللي حتجيب للبنت العمى, سترون كيف أداويها فتنال على يديّ أنا الشفاء الذي لم تجده عند الست أم هاشم.
- يا ابني ده ناس كثير بيتباركوا بزيت قنديل أم العواجز جربوه وربنا شفاهم عليه. إحنا طول عمرنا جاعلين تكالنا على الله وعلى أم هاشم. ده سرها باتع.
- أنا لا أعرف أم هاشم ولا أم عفريت.
هبط على الدار صمت مقبض. في هذا البيت تعيش قراءة القرآن والأوراد, وصدى الأذان. كأنها جميعًا استيقظت وانتبهت, ثم أطرقت وانطفأت, وحل محلها ظلام ورهبة. لا عيش لها مع هذه الروح الغريبة التي جاءت لهم من وراء البحار.
وسمع صوت أبيه كأنما يصل إليه من مكان سحيق:
- ماذا تقول?! هل هذا كل ما تعلمته في "بلاد بره"? كل ما كسبناه منك أن تعود إلينا كافرًا?
كل ما فعله إسماعيل بعد ذلك يدل على أن المرض العصبي القديم قد عاوده فجأة, وانفجر بشدة من جديد. فقد وعيه وشعر بحلقه يجف, وبصدره يشتعل, وبرأسه يموج في عالم غير هذا العالم; شب على قدميه واقفًا. لا شك أن في نظرته ما يخيف, فقد تضاءلت الأم أمامه, وابتعد الأب عن طريقه. هجم إسماعيل على أمه يحاول أن ينتزع منها الزجاجة, فتشبثت بها لحظة ثم تركتها له. فأخذها من يدها بشدة وعنف, وبحركة سريعة طوح بها من النافذة.
وكان صوت تحطمها في الطريق كدوي القنبلة الأولى في المعركة.
ووقف إسماعيل حائرًا لحظة, له نظرة تجوب ما حوله وتنتقل من وجه أمه وفاطمة إلى وجه أبيه. وجد إشفاقًا وعطفًا ولم يجد تسامحًا وفهمًا. ربما استشف في نظرتهم بعض الرعب, فتزايد هياجًا وانطلق إلى الباب. وفي طريقه وجد عصا أبيه فأخذها ثم هرب من الدار جريًا. لن ينكص عن أن يطعن الجهل والخرافة في الصميم طعنة نجلاء - ولو فقد روحه.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:47 AM
9)
أشرف على الميدان, فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة, وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد. هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة, ليس لها ما تفعله إلاّ أن تعثر بها أقدام السائر. ما هذا الصخب الحيواني? وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه? يتطلع إلى الوجوه فلا يرى إلاّ آثار استغراق في النوم كأنهم جميعًا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى إنساني. هؤلاء المصريون: جنس سمج ثرثار أقرع أمرد, عار حاف, بوله دم, وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه. ومصر? قطعة "مبرطشة" من الطين أسنت في الصحراء, تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض, ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من الجاموس نحيل. يزدحم الميدان ببائعي اللب والفول, وحب العزيز , ونبوت الغفير , والهريسة والسمبوسكة , بمليم الواحدة. في جنباته مقاه كثيرة على الرصيف بجوار الجدران, قوامها موقد وإبريق وجوزة . أجساد لم تعرف الماء سنين. الصابون عندها والعنقاء سواء. تمر أمامه فتاة مزججة الحواجب, مكحلة العينين, شدت ملاءتها لتبرز عجيزتها وطرف ثوبها, وتحجبت ببرقع يكشف عن وجهها. وما معنى هذه القصبة التي تضعها على أنفها? أف! ما أبشع رياء هذا المنظر وما أقبحه! سرعان ما بدأ الناس يتحككون بها كأنهم كلاب لم يروا في حياتهم أنثى! هنا جمود يقتل كل تقدم وعدم لا معنى فيه للزمن, وخيالات المخدر, وأحلام النائم والشمس طالعة.
لو استطاع إسماعيل لأمسك بذراع كل واحد منهم وهزه هزة عنيفة وهو يقول:
- استيقظ. استيقظ من سباتك وأفِق, وافتح عينيك. ما هذا الجدل في غير طائل? والشقشقة والمهاترة في سفاسف? تعيشون في الخرافات, وتؤمنون بالأوثان, وتحجّون للقبور وتلوذون بأموات!
وعثرت قدمه بطفل ملقى على الرصيف, والتف حوله جموع من الشحاذين يعرضون عليه عاهات يرتزقون منها رزقًا حلالاً. كأنها من نعم الله عليهم, أو مِهَن وصناعات.
وشعر إسماعيل بأن هذه الجموع أشلاء ميتة تطبق على صدره وتكتم أنفاسه, وتُبهِظُ أعصابه. يصطدم به بعض المارة كأنهم عُمْي يتخبطون. هذا الرضا عجز, وهذه الطيبة بلاهة, وهذا الصبر جبن, وهذا المرح انحلال.
انفلت إسماعيل من الزحام, وجرى إلى الجامع ودخله واجتاز الصحن إلى الحرم. المقام يتنفس بدل الهواء أبخرة ثقيلة من عطور البرابرة. هذا هو القنديل قد علق التراب بزجاجه واسودّتْ سلسلته من "هبابه". تفوح منه رائحة احتراق خانقة. أكثر ما ينبعث منه دخان لا بصيص ضوء. هذا الشعاع إعلان قائم للخرافة والجهل. يحوم في سقف المقام خفاش اقشعر له بدنه. حول المقام أناس كالخشب المسندة وقفوا مشلولين متشبثين بالأسوار. فيهم رجل يستجدي صاحبة المقام شيئًا لم يفهمه إسماعيل وإنما وعى أنه يستعديها على خصم له, ويسألها أن تخرب بيته وتيتم أطفاله. والتفت إسماعيل إلى ركن في المقام فوجد الشيخ درديري يناول رجلاً معصوب الرأس بمنديل نسائي زجاجة صغيرة في حرص وتستر. كأنما هي بعض المهربات. لم يملك إسماعيل نفسه. فقد وعيه, وشعر بطنين أجراس عديدة, وزاغ بصره, ثم شب, وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه وتناثر زجاجه, وهو يصرخ:
- أنا... أنا... أنا..
ثم لم يستطع أن يتم جملته. (ومن يدري ماذا كان سيقول?) هجمت عليه الجموع, وتهدمت فوقه, فخرّ على الأرض مغمى عليه. ضربوه, وداسوه بالأقدام, وجرح رأسه, وسال الدم على وجهه, ومزقت ثيابه.
علمنا بعد ذلك أنه أشرف على الموت تحت الأقدام لولا أن تعرف عليه الشيخ درديري, فأنقذه واستخلصه من غضب الناس وعنفهم, وهو يقول:
- اتركوه! إنني أعرفه. هذا سي إسماعيل ابن الشيخ رجب من حتتنا . اتركوه. ألا ترون أنه "مريوح" ?!.
واحتمله إلى الدار, ووضعوه على الفراش, واجتمعت الأسرة في ليلة الفرح بعودته تبكي صوابه المفقود.
لعن الله اليوم الذي سافرت فيه يا إسماعيل! ليتك ظللت بيننا ولم تفسدك أوربا فتفقد صوابك, وتهين أهلك ووطنك ودينك.
صكت الأم وجهها, وتأوه الأب وكتم ألمه وغيظه وسكبت فاطمة دموعها مدرارًا.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:47 AM
10)
ومرت أيام كثيرة وإسماعيل لا يغادر الفراش. ركبه العناد فأدار وجهه للجدار لا يكلم أحدًا ولا يطلب شيئًا. ولما أفاق قليلاً بدأ يفكر: هل يعود إلى أوربا ليعيش وسط أناس يفهمون الحياة? إن الجامعة عرضت عليه منصب مساعد أستاذ فرفضه بغباوة, ولعلهم يقبلونه الآن إذا طلب. ولم لا يتزوج هناك, ويبني لنفسه أسرة جديدة بعيدًا عن هذا الوطن المنكود? لماذا ترك إنجلترا بريفها الجميل, وأمسياتها الهنية, وقسوة شتائها الجبار, وجاء لبلد يفرون فيه من بعض الرذاذ كأنما تحيق بهم نكبة أو يدهمهم طوفان? أما يدرون أن هناك وجوهًا صامتة ونظرة ثابتة, تسير تحت المطر والثلوج, تقاوم الأعاصير? وما فائدة الجهاد في بلد كمصر ومع شعب كالمصريين,
عاشوا في الذل قرونًا طويلة فتذاوقوه واستعذبوه?
ثم أخذته غفوة, واختلط عليه الأمر. إنه كالطير قد وقع في فخ, وأدخلوه القفص, فهل له من مخرج? يشعر بجسمه وقد شد إلى هذه الدار التي لا يطيقها, وربط إلى هذا الميدان الذي يكرهه, فمهما حاول فلن يستطيع فكاكا.
واستيقظ إسماعيل ذات صباح وهو يشعر بنشاط عجيب. في مثل هذه الأحوال يقفز الشخص من النقيض إلى النقيض فجأة وبلا سبب ظاهر. وخرج من الدار مبكرًا, وعاد يحمل حقيبة, ملأى بالزجاجات والأربطة والمراود, وبدأ علاجه لفاطمة كما يقتضيه طبه وعلمه. لقد عالج في أوربا أكثر من مائة حالة مثلها فلم يخنه التوفيق في واحدة. فلماذا لا ينجح مع فاطمة أيضًا? وسلمت الفتاة إليه نفسها مطمئنة, لا يهمها مرضها بقدر ما يهمها أن تكون بين يديه, موضع عنايته ورفقه. وتجنبه أبوه وأمه ولم يعودا يعارضانه في شيء إشفاقًا على صحته.
في الصباح تجلس فاطمة بين يديه وقبل النوم. ومر يوم وثان وثالث ورابع, وأسبوع وآخر, وعيون فاطمة على حالها. ثم إذا بها تسوء فجأة وتلتهب, ويختلط سوادها بالبياض.
ضاعف إسماعيل عنايته, وكرر أنواع الأدوية, وقلب جفونها ومسّ, وقطر ومرهم, وكشط ومسح, فما أجدى طبه نفعًا. إنه ليس بالجاهل, يرى أمامه فاطمة اقتربت من العمى ولا ينقذها في علمه حيلة.
أخذها إلى زملائه في كلية الطب, وعرضها على الأساتذة فوافقوه على طريقته في العلاج, ونصحوه بالاستمرار.
فقاوم وثابر, وأخيرًا استيقظت فاطمة على صباح وهي تفتح عينيها ولا ترى. لقد انطفأ آخر بصيص تتعزّى به.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:48 AM
(11)
هرب إسماعيل من الدار, لم يستطع الإقامة فيها وفاطمة أمامه, وعماها دليل على عماه. عيون أبيه وأمه تلومانه. ما الذي حدث? لماذا أخفق? إنه لا يفهم شيئًا. أين يذهب? لم يبدأ بعد عملاً, ولا هو بقادر ولا راغب في الالتجاء للحكومة لتعيينه في إحدى القرى النائية. باع كتبه وبعض الأدوات التي أحضرها معه من أوربا, وسكن في غرفة ضيقة في بنسيون مدام إفتاليا, وهي سيدة يونانية بدينة أخذت تستغله منذ أول وقوعه في يدها حتى لتكاد تضع في كشف الحساب تحية الصباح, أو تستقضيه خطوتها إذا قامت وفتحت له الباب. حاسبته مرة على قطعة سكر استزادها في إفطار. يحس بابتسامتها أصابع تفتش جيوبه. أهداها بعض الفطائر والسجائر فأخذتها نهمة متلهفة, وفي الصباح سألته ألا يطيل السهر في غرفته حرصًا على الكهرباء. لا شك في أن الإفرنج في مصر من طينة أخرى غير التي رآها في أوربا. كان يحبس نفسه في غرفته, فطردته هذه المعاملة إلى الشوارع يجوبها من الصباح إلى منتصف الليل. وفي كل ليلة يجد نفسه - ولا يدري كيف - وسط ميدان السيدة يجوب حول داره, يتطلع إلى نوافذها, يريد أن يرى وجه فاطمة أو يسمع صوتها. فاطمة ضحيته, ومع ذلك لم تثر... لم تشك... لم تلمه. أسلمت إليه نفسها عن رضا فأوردها التلف, فما قالت لذابحها تريث. وهكذا يظل واقفًا في الميدان, ساعات طويلة, سارح الذهن شارد اللب, تتسرب إلى أذنه النداءات القديمة. هي هي لم تتغير, ماذا? لعل كل والد أورث ابنه مهنته وصوته وموضعه في الميدان: مساكين! كل مَن خدمهم مَنَّ عليهم واستعجلهم الجزاء أضعافًا مضاعفة. لم يخدمهم أحد لله أو حبًّا فيهم, ومع ذلك جروا وراء كل من توهموا فيه الإخلاص وتشبثوا بأذياله, ورفضوا أن يروا ضعفه أو خيانته. هذا شعب شاخ فارتد إلى طفولته. لو وجد من يقوده لقفز إلى الرجولة من جديد في خطوة واحدة, فالطريق عنده معهود والمجد قديم, والذكريات باقية.
تساءل إسماعيل: هل في أوربا كلها ميدان كالسيدة زينب? هناك أبنية ضخمة جميلة, وفن راق, وأناس وحيدون فرادى, وقتال بالأظافر والأنياب, وطعن من الخلف واستغلال بكل الوسائل. مكان الشفقة والمحبة عندهم بعد العمل وانتهاء النهار, يروحون بهما عن أنفسهم كما يروحون عنها بالسينما والتياترو.
ولكن. لا. لا. لو أسلم نفسه لهذا المنطق لأنكر عقله وعلمه. من يستطيع أن ينكر حضارة أوروبا وتقدمها, وذل الشرق وجهله ومرضه? لقد حكم التاريخ ولا مردّ لحكمه, ولا سبيل إلى أن ننكر أننا شجرة أينعت وأثمرت زمنًا, ثم ذوت.
يفر إسماعيل من الميدان إلى غرفته, ويقضي ليلته يفكر كيف يهرب لأوربا من جديد, ولكنه لا يلبث أن يعود إلى موقفه المعهود بميدان السيدة في مساء الليلة التالية.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:49 AM
(12)
وجاء رمضان, فما خطر له أن يصوم. ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر: في الجو, في الهواء, في المخلوقات, في الجمادات كلها شيء جديد لم يكن فيها من قبل. كأن الوجود خلع ثوبه القديم واكتسى جديدًا. علا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف.
يحدث إسماعيل نفسه: لماذا خاب? لقد عاد من أوربا بجعبة كبيرة محشوة بالعلم, عندما يتطلع فيها الآن يجدها فارغة, ليس لديها على سؤاله جواب. هي أمامه خرساء ضئيلة, ومع خفّتها فقد رآها ثقلت في يده فجأة.
ودار بعينيه في الميدان. وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها, وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل إلى سمعه فتذكره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه. ما يظن أن هناك شعبًا كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين. "ابن البلد" يمر أمامه كأنه خارج من صفحات "الجبرتي". اطمأنت نفس إسماعيل وهو يشعر بأن تحت أقدامه أرضًا صلبة. ليس أمامه جموع من أشخاص فرادى, بل شعب يربطه رباط واحد: هو نوع من الإيمان, ثمرة مصاحبة الزمان والنضج الطويل على ناره. وعندئذ بدأت تنطق له الوجوه من جديد بمعان لم يكن يراها من قبل. هنا وصول فيه طمأنينة وسكينة والسلاح مغمد. وهناك نشاط في قلق وحيرة, وجلاد لا يزال على أشده والسلاح مسنون. ولم المقارنة? إن المحب لا يقيس ولا يقارن وإذا دخلت المقارنة من الباب, ولى الحب من النافذة.
وحلت ليلة القدر. فانتبه لها إسماعيل, ففي قلبه لذكراها حنين غريب. ربي على إجلالها والإيمان بفضائلها, ومنزلتها بين الليالي, لا يشعر في ليلة أخرى - حتى ولا ليالى العيد - بمثل ما يشعر به من خشوع وقنوت لله. هي في ذهنه غرة بيضاء وسط سواد الليالي. كم من مرة رفع فيها بصره إلى السماء فبهره من النجوم جمال لا يراها تنطق به بقية العام.
وغاب لحظة عن أفكاره, فإذا به ينتبه على صوت شهيق وزفير عميقين يجوبان الميدان. هذا هو سيدي العتريس ولا ريب رفع بصره. القُبّة في غمرة من ضوء يتأرجح يطوف بها. انتفض إسماعيل من رأسه إلى أخمص قدميه. أين أنت أيها النور الذي غبت عني دهرًا? مرحبًا بك! لقد زالت الغشاوة التي كانت ترين على قلبي وعيني. وفهمت الآن ما كان خافيًا عليّ. لا علم بلا إيمان. إنها لم تكن تؤمن بي, إنما إيمانها ببركتك أنت وكرمك ومَنِّك. ببركتك أنت يا أم هاشم.
ودخل إسماعيل المقام مطأطئ الرأس فأبصره يرقص عليه ضوء خمسين شمعة زينت جوانبه, والشيخ درديري يتناولها واحدة واحدة من فتاة طويلة القامة سمراء اللون, جعدة الشعر. هي نعيمة! قد زال انطباق شفتيها وبدت لها أسنان. وإن تكلمت فصف من أسنان بيض كاللؤلؤ. تكفي النظرة إليها أن تنسي وجود كل قبيح.
لقد صبرت وآمنت, فتاب الله عليها, وجاءت توفي بنذرها بعد سبع سنوات. لم تقنط, ولم تثر, ولم تفقد الأمل في كرم الله.
أما هو - الشاب المتعلم, الذكي المثقف - فقد تكبر وثار وتهجم وهجم, وتعالى فسقط.
ورفع إسماعيل بصره, فإذا القنديل في مكانه يضيء كالعين المطمئنة التي رأت, وأدركت, واستقرت. خيل إليه أن القنديل. وهو يضيء, يومئ إليه ويبتسم.
وجاءه الشيخ درديري يسأله عن صحته وأخباره, فيميل عليه إسماعيل يقول:
- هذه ليلة مباركة يا شيخ درديري, أعطني شيئًا من زيت القنديل.
- والله أنت بختك كويس. دي ليلة القدر? وليلة الحضرة كمان.
وخرج إسماعيل من الجامع وبيده الزجاجة وهو يقول في نفسه للميدان وأهله:
- تعالوا جميعًا إليّ! فيكم من آذاني, ومن كذب عليّ, ومن غشّني, ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطكم, فأنتم مني وأنا منكم. أنا ابن هذا الحي .. أنا ابن هذا الميدان. لقد جار عليكم الزمان, وكلما جار واستبد, كان إعزازي لكم أقوى وأشد.
ودخل الدار ونادى فاطمة:
- تعالى يا فاطمة! لا تيأسي من الشفاء. لقد جئتك ببركة أم هاشم! ستجلي عنك الداء, وتزيح الأذى, وترد إليك بصرك فإذا هو حديد...
وشدّ ضفيرتها واستمر يقول:
- وفوق ذلك, سأعلمك كيف تأكلين وتشربين, وكيف تجلسين وتلبسين, سأجعلك من بني آدم.
وعاد من جديد إلى علمه وطبه يسنده الإيمان. لم ييأس عندما وجد الداء متشبثًا قديمًا, يجادله بعناد ولا يتزحزح. ثابر واستمر ولاحت بارقة الأمل. ففاطمة تتقدم للشفاء على يديه يومًا بعد يوم, وإذا بها تكسب في آخر العلاج ما تأخرته في مبدئه, فهي تقفز أدواره الأخيرة قفزًا.
ولما رآها ذات يوم أمامه سليمة في عافية, فتش في ذهنه وقلبه عن الدهشة التي كان يخشاها, فلم يجدها.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
25/04/2007, 08:53 AM
(13)
وافتتح إسماعيل عيادته في حي البغالة بجوار التلال, في منزل يصلح لكل شيء إلاّ لاستقبال مرضى العيون. الزيارة بقرش واحد لا يزيد. ليس من زبائنه متأنقون ومتأنقات, بل كلهم فقراء, حفاة وحافيات, والغريب أن شهرته استقرت في القرى المجاورة للقاهرة دون القاهرة ذاتها, فاكتظت داره بالفلاحين والفلاحات, يجيئون بهدايا من البيض والعسل والبط والدجاج.
كم من عملية شاقة نجحت على يديه, بوسائل لو رآها طبيب أوربا لشهق عجبًا. استمسك من علمه بروحه وأساسه, وترك المبالغة في الآلات والوسائل. اعتمد على الله, ثم على علمه ويديه, فبارك الله في علمه ويديه. ما ابتغى الثروة ولا بناء العمارات وشراء الأطيان , وإنما قصد أن ينال مرضاه الفقراء شفاءهم على يديه.
وتزوج إسماعيل فاطمة, وأنسلها خمسة بنين وست بنات.
وكان في آخر أيامه ضخم الجثة, أكرش, أكولا نهما, كثير الضحك والمزاح والمرح, ملابسه مهملة, تتبعثر على أكمامه وبنطلونه آثار رماد سجائره التي لا ينفك يشعل جديدة من منتهية. وأصيب بالربو, فاحتقن وجهه وتندى العرق على جبينه, وانقلب تنفسه إلى نوع من الموسيقى. وأصبح من يشاهده لا يدري أهو متعب أم مستريح. فلما احتبست ضحكاته في حلقه, اجتمعت في عينيه, فليس هناك عيون أقوى على التعبير من عيون المصدورين يكاد يقفز منها إليك شيطان لعوب, كلها حب وفهم, فيها خبث وطيبة, وتسامح وإعزاز, وكأنها تقول لك قبل كل شيء:
- ليس كل ما في الوجود أنا وأنت, هناك جمال وأسرار ومتعة وبهاء. السعيد من أحسها, فعليك بها عليك...
إلى الآن يذكره أهل حي السيدة بالجميل والخير, ثم يسألون الله له المغفرة. مم? لم يفضِ إليّ أحد بشيء, وذلك من فرط إعزازهم له. غير أنني فهمت من اللحظات والابتسامات أن عمي ظل عمره يحب النساء, كأن حبه لهن مظهر من تفانيه وحبه للناس جميعًا.
رحمه الله
[ 1939 - 1940 ]
(انتهت الرواية)