أسامة جودة
17/04/2007, 11:34 AM
برواز قديم
وضعت أحمالها وحطت رحالها منهكة بعد عمل يوم طويل شاق، كادت تختنق من رائحة العرق النتنة التى تحاصرها أينما ذهبت، نظرت إلى الساعة المصلوبة على الحائط، تلك الساعة المارقة التى تسرق منها عمرها أمام أعينها ولا تستطيع ردها، الموعد قد اقترب فقامت تبدل ملابسها وارتدت عباءة رقيقة من ملابسها الصيفية، دخلت مطبخها وفتحت الراديو وبدأت تفرغ الأكياس والجعب والقراطيس التى بها حاجيات الطعام لتبدأ فى طبخ وجبة الغداء وأثناء فحصها للخضروات التى غلى ثمنها رغم ما بها من إعطاب استوقفتها صورة فى ورقة، إنها صورة لوحة زيتية لفنان عربى، جذبتها الصورة كالمغناطيس وجعلتها تغلق الراديو وتترك الطعام لتتفرغ للتمعن فى الصورة، الصورة كانت لشيخ عجوز يستند على عصاه ويمسك فى يده بطفلة صغيرة، يمشى على جسر ترابى بين حقلين يانعين، أرجعتها تلك الصورة إلى الوراء كثيرا ً هناك فى القرية الموطن والأصل، يوم فتحت عيناها على الدنيا فوجدت أباها شيخ كبير كهذا الشيخ، إنه نفس الجلباب والعمامة، حتى تضاريس الوجه واليدين هى نفسها بشقوقها العميقة والتجاعيد والخشونة، لا تستطيع أن تنسى ملمس يديه وهى تضغط على يديها، ضغطات لم تبغضها لأنها ضغطات حب وحماية، عطف وحنان، أما الجسر فهو ذاك الجسر المصفوف جانبيه بأشجار الكافور والتوت والذى كان يربط بين حقول القرية وبيوتها المجتمعة على جانب منها وهو أيضا ً ساحة اللعب الكبرى، فهناك كان ركوب الجحش الصغير والركض وراء الماعز والأغنام ولعب (الإستغمايه) و(السبع طوبات)، مازالت تذكر طعم التوت الناضج بألوانه الذى كانوا يجمعونه من التراب أسفل أشجار التوت الكبيرة التى كانوا يقذفوها بالأحجار فتسقط لهم ما لذ وطاب، كم هى كريمة تلك الأشجار؟وكم تشتاق هى اليوم لأكلة توت مثل هذه؟!
تذكرت جدائلها السوداء الطويلة التى تميزت بها وسط بنات القرية، الضفائر الحريرية التي كانت تبالغ فى العناية بها فتضع عليها زيت الزيتون النقى مرة أو مرتين فى اليوم فيضفى عليه بريقا ً ولمعانا ً مميزا ً، وتذكرت يوم راحت لأمها تبكى من جراء تصديقها لمداعبة أحد رجال القرية لها قائلا ً:
عينيكِ الخضراء تلك ستطيب غدا ً وستجدينها سوداء.
لبراءة الطفولة رقة وسعادة وأمان، مشاعر لا تتكرر طيلة العمر إلا فيما ندر.
بينما هى تستمتع بتلك اللحظات الروحانية حيث تتنزل عليها السكينة والطمأنينة التى كانت تشتاقها، أفاقها واقعها المرير التى كانت رأسها مصدره لتنتقل بسرعة البرق من حاله لنقيضها تماما ً فبعد الأمان قلق وبعد الفرح بسر، من يأتيها الآن بأمواج المحيطات ليطفئ نيران براكين آلامها الموقدة؟
أنا من فعلت هذا بنفسى!! فأنا من غرنى جمالى وفتنتى فأصابنى الكبر والغرور.تكبرت على الناس وعلى نفسى!!
وبخت نفسها بجمل من هذا القبيل حيت استرجعت ذكرى يوم رفضت الزواج ممن كانت ترضى دينه وخلقه دون استخارة بحثا ً منها عن هذا الوجيه الذى سيسكنها القصور ويلبسها التيجان وظلت ترفض وتنتظر وترفض حتى ذبلت زهرة جمالها وبدأ اللماذون والنمامون فى بث سمومهم عبر إشاعات دنيئة كادت تقتلها، فقد انقضى عليها عاما ً كاملا ً لم يأتها ليدخل بيتها عريس واحد، هذا العام جعلها تقبل أول من دق بابها وكان هو أبو أولادها، رجل لا يعيبه عيب وتتمناه أى فتاة فقد آتاه الله حسن الخَلق والخُلق وجعله من الأثرياء، صفات جعلتها لا تتردد فى قبوله بيد أنها اليوم لم تعد راضية بالسكنة معه لولا مظهرها الإجتماعى وأبنائها فهى لم تسعد معه رغم كل ما وفره لها هذا الوجيه من ماديات ومعنويات فقد انتقل بها من بيتها القديم المطل على الحقول إلى قصره المشيد فى المدينة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من الزينة والجاه والخدم والحشم وفى فترة الإعداد للزواج تودد إليها كثيرا ً بأعذب كلمات الرحمة والحب لكن أول حجر فى قبر علاقتهم وضع عند ليلة الدخول عندما طلبت العروس الجميل من زوجها أن يخلع عنه لحيته الطويلة فقد رأت فيها خشونة وتقشف، وأنها تظلم وجهه وشعرت أنه سيكون من دونها جميلا ً،صدمه الموقف لأنه كان يتصور عندما تزوجها أنها ستراعى تدينه الواضح وأنها مع الوقت وبتوفيق الله ستعبر تلك الهوة الدينية بينها وبينه إلا أن الرجل عبر الوقف بهدوء واضح وابتسامة هادئة ثابتة حين تركها ليصلى العشاء، هذا الهدوء الذى استشاطها غضبا ً حتى أنها لم تلبى دعوته للصلاة عنادا ً له.
استمتعت معه بحلاوة أول أيام الزواج القليلة ثم ما لبث الوضع أن تبدل شىء فشيئا ً فمرة يلح عليها لستر ما اعتادت أن تكشفه من مواطن الفتنة فى جسدها الأمر الذى قاومته بشدة فهى تقدر قيمة جمالها وتطوق وتتلذذ بنظرات الإعجاب من المحيطين إناثا ً أو ذكورا ً وتطور الأمر ليكاد يطلقها قبل مرور شهرين علي زواجهم مما جعلها ترضخ مرغمة لطلبه خوفا ً وحفاظا ً على مظهرها الاجتماعى، ومرة مشاجرة حول انتظامها فى الصلاة وفى قراءة القرآن وأخرى حول برامج التلفاز وأفلامه التافهة وفى كل مرة كانت تكابر وتعاند ثم مع إصراره وصبره كانت تشعر بخطئها وتضعف وتنصاع، ومرة بعد مرة حاصرها إحساسها بأن أفعالها كلها خطايا وأنها أصبحت قرينة الشيطان وأرجعت السبب فى ذلك لزوجها المدعى للملائكية فبدأت تبغضه حتى صارت لا تطيق قربه وتتمنى فراقه ولكن كيف بعد هذه السنين وبعد أن رزقت منه بأطفالها؟
مكرهة بقيت معه حتى حدث ما لم تكن تتوقعه فقد أفلست تجارته الكبيرة فجأة واضطر لبيع محلاته العديدة وقصره المشيد لتنتقل معه متحسرة على عمرها الضائع إلى شقة بسيطة فى منطقة شعبية تكاد تفقد عقلها من هول الحدث الجلل، وبثبات وصبر تقبل زوجها التاجر الكبير أن يصبح عامل فى متجر عند أحد أصدقائه، يعمل طول النهار ويرجع بيته منهكا ً ولكن عندما يجمع أولاده ليقرأهم القرآن ويحدثهم عن الجنة ينسى الدنيا وما فيها، حمل نفسه ما لا يطيق من أجل توفير متطلبات بيته لكن المعيشة صعبة والطلبات لا نهاية لها، وهنا وجدتها هى فرصة للخلاص ولو جزئيا ً من حصارها فعرضت عليه فكرة عملها لتساعده على توفير لوازم البيت ولكنه رفض بشدة وشب بينهما شجار حامى الوطيس بسبب هذا الموضوع حتى وجد فرصة عمل جيدة تناسبها مع بعض النسوة فى قسم جديد للملابس النسائية فى المتجر الذى يعمل به وبالفعل عملت هناك بائعة تقف طوال الوقت حتى تورمت قدماها من الوقوف وهى الكريمة المتعالية!!
صوت صرير باب البيت الذى انفتح فجأة أيقظها وكأنما من سبات طويل نظرت فى ساعة يدها فعرفت أنه زوجها رجع من عمله وقد مر الوقت دون أن تعد الطعام، شعرت بثقل جاثم على صدرها وصارت تتنفس بصعوبة بالغة عندما توقعت غضبه عندما يعلم بعدم الانتهاء من إعداد الطعام وقد ملت هى التوبيخ والشعور بالذنب بل ملت الحياة الزوجية وملت العمل وربما الحياة بأكملها فاستجمعت قواها وعندما ظهر لها وجهه وقبل أن ترد عليه سلامه قالت بغضب :
- طلقنى يا مفترى، طلقنى.
هادئا ً ابتسم ورد عليها قائلا :
- استخيرى الله أولا ً.
وضعت أحمالها وحطت رحالها منهكة بعد عمل يوم طويل شاق، كادت تختنق من رائحة العرق النتنة التى تحاصرها أينما ذهبت، نظرت إلى الساعة المصلوبة على الحائط، تلك الساعة المارقة التى تسرق منها عمرها أمام أعينها ولا تستطيع ردها، الموعد قد اقترب فقامت تبدل ملابسها وارتدت عباءة رقيقة من ملابسها الصيفية، دخلت مطبخها وفتحت الراديو وبدأت تفرغ الأكياس والجعب والقراطيس التى بها حاجيات الطعام لتبدأ فى طبخ وجبة الغداء وأثناء فحصها للخضروات التى غلى ثمنها رغم ما بها من إعطاب استوقفتها صورة فى ورقة، إنها صورة لوحة زيتية لفنان عربى، جذبتها الصورة كالمغناطيس وجعلتها تغلق الراديو وتترك الطعام لتتفرغ للتمعن فى الصورة، الصورة كانت لشيخ عجوز يستند على عصاه ويمسك فى يده بطفلة صغيرة، يمشى على جسر ترابى بين حقلين يانعين، أرجعتها تلك الصورة إلى الوراء كثيرا ً هناك فى القرية الموطن والأصل، يوم فتحت عيناها على الدنيا فوجدت أباها شيخ كبير كهذا الشيخ، إنه نفس الجلباب والعمامة، حتى تضاريس الوجه واليدين هى نفسها بشقوقها العميقة والتجاعيد والخشونة، لا تستطيع أن تنسى ملمس يديه وهى تضغط على يديها، ضغطات لم تبغضها لأنها ضغطات حب وحماية، عطف وحنان، أما الجسر فهو ذاك الجسر المصفوف جانبيه بأشجار الكافور والتوت والذى كان يربط بين حقول القرية وبيوتها المجتمعة على جانب منها وهو أيضا ً ساحة اللعب الكبرى، فهناك كان ركوب الجحش الصغير والركض وراء الماعز والأغنام ولعب (الإستغمايه) و(السبع طوبات)، مازالت تذكر طعم التوت الناضج بألوانه الذى كانوا يجمعونه من التراب أسفل أشجار التوت الكبيرة التى كانوا يقذفوها بالأحجار فتسقط لهم ما لذ وطاب، كم هى كريمة تلك الأشجار؟وكم تشتاق هى اليوم لأكلة توت مثل هذه؟!
تذكرت جدائلها السوداء الطويلة التى تميزت بها وسط بنات القرية، الضفائر الحريرية التي كانت تبالغ فى العناية بها فتضع عليها زيت الزيتون النقى مرة أو مرتين فى اليوم فيضفى عليه بريقا ً ولمعانا ً مميزا ً، وتذكرت يوم راحت لأمها تبكى من جراء تصديقها لمداعبة أحد رجال القرية لها قائلا ً:
عينيكِ الخضراء تلك ستطيب غدا ً وستجدينها سوداء.
لبراءة الطفولة رقة وسعادة وأمان، مشاعر لا تتكرر طيلة العمر إلا فيما ندر.
بينما هى تستمتع بتلك اللحظات الروحانية حيث تتنزل عليها السكينة والطمأنينة التى كانت تشتاقها، أفاقها واقعها المرير التى كانت رأسها مصدره لتنتقل بسرعة البرق من حاله لنقيضها تماما ً فبعد الأمان قلق وبعد الفرح بسر، من يأتيها الآن بأمواج المحيطات ليطفئ نيران براكين آلامها الموقدة؟
أنا من فعلت هذا بنفسى!! فأنا من غرنى جمالى وفتنتى فأصابنى الكبر والغرور.تكبرت على الناس وعلى نفسى!!
وبخت نفسها بجمل من هذا القبيل حيت استرجعت ذكرى يوم رفضت الزواج ممن كانت ترضى دينه وخلقه دون استخارة بحثا ً منها عن هذا الوجيه الذى سيسكنها القصور ويلبسها التيجان وظلت ترفض وتنتظر وترفض حتى ذبلت زهرة جمالها وبدأ اللماذون والنمامون فى بث سمومهم عبر إشاعات دنيئة كادت تقتلها، فقد انقضى عليها عاما ً كاملا ً لم يأتها ليدخل بيتها عريس واحد، هذا العام جعلها تقبل أول من دق بابها وكان هو أبو أولادها، رجل لا يعيبه عيب وتتمناه أى فتاة فقد آتاه الله حسن الخَلق والخُلق وجعله من الأثرياء، صفات جعلتها لا تتردد فى قبوله بيد أنها اليوم لم تعد راضية بالسكنة معه لولا مظهرها الإجتماعى وأبنائها فهى لم تسعد معه رغم كل ما وفره لها هذا الوجيه من ماديات ومعنويات فقد انتقل بها من بيتها القديم المطل على الحقول إلى قصره المشيد فى المدينة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من الزينة والجاه والخدم والحشم وفى فترة الإعداد للزواج تودد إليها كثيرا ً بأعذب كلمات الرحمة والحب لكن أول حجر فى قبر علاقتهم وضع عند ليلة الدخول عندما طلبت العروس الجميل من زوجها أن يخلع عنه لحيته الطويلة فقد رأت فيها خشونة وتقشف، وأنها تظلم وجهه وشعرت أنه سيكون من دونها جميلا ً،صدمه الموقف لأنه كان يتصور عندما تزوجها أنها ستراعى تدينه الواضح وأنها مع الوقت وبتوفيق الله ستعبر تلك الهوة الدينية بينها وبينه إلا أن الرجل عبر الوقف بهدوء واضح وابتسامة هادئة ثابتة حين تركها ليصلى العشاء، هذا الهدوء الذى استشاطها غضبا ً حتى أنها لم تلبى دعوته للصلاة عنادا ً له.
استمتعت معه بحلاوة أول أيام الزواج القليلة ثم ما لبث الوضع أن تبدل شىء فشيئا ً فمرة يلح عليها لستر ما اعتادت أن تكشفه من مواطن الفتنة فى جسدها الأمر الذى قاومته بشدة فهى تقدر قيمة جمالها وتطوق وتتلذذ بنظرات الإعجاب من المحيطين إناثا ً أو ذكورا ً وتطور الأمر ليكاد يطلقها قبل مرور شهرين علي زواجهم مما جعلها ترضخ مرغمة لطلبه خوفا ً وحفاظا ً على مظهرها الاجتماعى، ومرة مشاجرة حول انتظامها فى الصلاة وفى قراءة القرآن وأخرى حول برامج التلفاز وأفلامه التافهة وفى كل مرة كانت تكابر وتعاند ثم مع إصراره وصبره كانت تشعر بخطئها وتضعف وتنصاع، ومرة بعد مرة حاصرها إحساسها بأن أفعالها كلها خطايا وأنها أصبحت قرينة الشيطان وأرجعت السبب فى ذلك لزوجها المدعى للملائكية فبدأت تبغضه حتى صارت لا تطيق قربه وتتمنى فراقه ولكن كيف بعد هذه السنين وبعد أن رزقت منه بأطفالها؟
مكرهة بقيت معه حتى حدث ما لم تكن تتوقعه فقد أفلست تجارته الكبيرة فجأة واضطر لبيع محلاته العديدة وقصره المشيد لتنتقل معه متحسرة على عمرها الضائع إلى شقة بسيطة فى منطقة شعبية تكاد تفقد عقلها من هول الحدث الجلل، وبثبات وصبر تقبل زوجها التاجر الكبير أن يصبح عامل فى متجر عند أحد أصدقائه، يعمل طول النهار ويرجع بيته منهكا ً ولكن عندما يجمع أولاده ليقرأهم القرآن ويحدثهم عن الجنة ينسى الدنيا وما فيها، حمل نفسه ما لا يطيق من أجل توفير متطلبات بيته لكن المعيشة صعبة والطلبات لا نهاية لها، وهنا وجدتها هى فرصة للخلاص ولو جزئيا ً من حصارها فعرضت عليه فكرة عملها لتساعده على توفير لوازم البيت ولكنه رفض بشدة وشب بينهما شجار حامى الوطيس بسبب هذا الموضوع حتى وجد فرصة عمل جيدة تناسبها مع بعض النسوة فى قسم جديد للملابس النسائية فى المتجر الذى يعمل به وبالفعل عملت هناك بائعة تقف طوال الوقت حتى تورمت قدماها من الوقوف وهى الكريمة المتعالية!!
صوت صرير باب البيت الذى انفتح فجأة أيقظها وكأنما من سبات طويل نظرت فى ساعة يدها فعرفت أنه زوجها رجع من عمله وقد مر الوقت دون أن تعد الطعام، شعرت بثقل جاثم على صدرها وصارت تتنفس بصعوبة بالغة عندما توقعت غضبه عندما يعلم بعدم الانتهاء من إعداد الطعام وقد ملت هى التوبيخ والشعور بالذنب بل ملت الحياة الزوجية وملت العمل وربما الحياة بأكملها فاستجمعت قواها وعندما ظهر لها وجهه وقبل أن ترد عليه سلامه قالت بغضب :
- طلقنى يا مفترى، طلقنى.
هادئا ً ابتسم ورد عليها قائلا :
- استخيرى الله أولا ً.