المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عودة



قارورة
16/04/2007, 03:36 PM
خرجت الآنسة منى من المدرسة كما دخلت، متسللة بين الطالبات دون أن تشعِر بها أحداً. كانت هاربة من المديرة التي ستطالبها بتبرير غيابها يوم أمس، ومن الموجهة التي ستسألها عن أوراق المذاكرات المصححة (وهي لم تصحح شيئاً بعد)، ومن أمينة المكتبة التي تطالبها بالكتاب منذ أشهر، ومن أمينة السر التي طلبت صورة عن هويتها منذ أسابيع، ومن المستخدم الذي يطالبها بحساب القهوة والشاي. كان الكل غاضباً منها وهي غاضبة منهم بسبب إزعاجها المستمر بطلباتهم، أو بعبارة أدق "بواجباتها". تنفست الصعداء عندما ابتعدت عن المدرسة. كانت تشعر بألم فظيع في رأسها، وكانت تشعر بالنزق بسبب الجو الحار.

صعدت في حافلة صغيرة، وكان المقعد بجوارها فارغاً. كان صداعها يزداد سوءاً، وهي تحاول أن تلهي نفسها بالنظر من شباك الحافلة. توقفت الحافلة وصعد رجل جلس بجانبها. وفوراً هاجمت أنفها رائحة عرق مقرفة ضاعفت من ألم رأسها، فسارعت إلى فتح الشباك وأطلت برأسها منه طلباً لبعض الهواء متمنية ألا يبصق "متحضر" ما في هذه الأثناء من أحد الشبابيك أمامها. جلس الرجل وفتح رجليه بشكل مزعج محتلاً مقعده وبعضاً من المساحة الخاصة بالآنسة منى. "أعرف أن لديك شيئاً بارزاً هناك لكن إن كنت تعتقد بأن حجمه يتناسب طرداً مع مقدار فتحة رجليك فأنت مخطئ! اجلس على قدر مقعدك يا حمار وأبعد رجلك عني! واغتسل قبل أن تخرج من زريبتك وتختلط ببني البشر" هكذا تمنت الآنسة منى أن تقول للرجل، لكن أفكارها ظلت حبيسة رأسها المصاب بالصداع، ووحده وجهها عبر عن حالة القرف والألم التي سيطرت عليها.

راح الرجل يتحدث إلى فتاتين كن أمامه، وكان حديثهم وطريقتهم في الحديث تشبه غالبية طلاب وطالبات السنة الأولى في الجامعة عندما يختلطون للمرة الأولى بعد فصل استمر سنوات في المدارس. كانوا سخفاء وهم يصطنعون الضحك ويتحادثون بلهجة مدنية تشوبها لكنة قروية. ألقت الآنسة منى نظرة على الرجل بجانبها ثم على الفتاتين. كان وجه الرجل من نوع الوجوه القروية التي لا يليق لها المزاح، كما لا يليق للدب الرقص، لذلك كان يبدو مصطنعاً جداً وهو يحاول ممازحة الفتاتين. بدت إحدى الفتيات أكبر سناً، ولم تشارك في الحديث كثيراً، أما الأخرى فكانت قد سكبت على وجهها كل ما تملك من مساحيق التجميل على ما يبدو، ولبست كنزة أحد إخوتها الصغار بعد أن مزقتها من الصدر والبطن، وكانت أظافرها طويلة ومطلية بلون أبيض. لمحت الآنسة منى الطرف السفلي لأظافر الفتاة عندما كانت ترجع شعرها خلف أذنها، تجمع تحت أظافرها لون أصفر وأسود. حولت الآنسة منى نظرها إلى الشباك وهي تشعر بألم شديد في رأسها وقد ترافق الآن برغبة في التقيؤ. لم تعرف ما الذي أثار غثيانها بالضبط، أهي رائحة الرجل أم أظافر الفتاة أم ألم رأسها أم أغنية شعبية مزعجة كان السائق يسمِعها للمسافرين بالإكراه ويطير بالحافلة على أنغامها الشجية.

- ع اليمين.

صاح الرجل بجانبها، ونزل هو والفتاتين. وحيث أن الآنسة منى لم تستطع أن تتنفس الصعداء لأن رائحة الرجل ما زالت تعبق في جو الحافلة، انتقلت إلى المقعد الأول علّ الهواء هناك يكون أنظف، وفتحت الشباك وأطلت برأسها منه. لكن رائحة زكية هذه المرة جذبت رأسها وجعلتها تستدير تلقائياً إلى مصدر الرائحة. كان شاباً وسيماً يجلس أمامها الآن وجهاً لوجه. تأملته الآنسة منى ببطء من رأسه حتى قدميه، و دون شعور منها بدأت ترتب هندامها وتنفض غبار الطبشور عن أكمامها ويديها اللتين بدتا كيدي عامل بناء. حاولت الآنسة منى أن تتخلص أيضاً من عبوس وجهها الذي يسببه الصداع، لكن الصداع كان قوياً جداً فلم تستطع تسوية وجهها العابس، لذلك تمنت أن ينزل الشاب في الحال على أن يراها في هذا المنظر. وفي الحال تحققت أمنيتها، وراقبت بحسرة الشاب وهو ينزل من الحافلة تاركاً وراءه غمامة من العطر الزكي.

وأخيراً وصلت الآنسة منى إلى الشارع حيث تقيم مؤقتاً في بيت استأجرته. طلبت من السائق أن يتوقف، فتوقف السائق على بعد شارعين من المكان الذي طلبت فيه النزول. نزلت الآنسة منى وهي تشتم السائق، كان التلفظ بالشتائم يخفف من غضبها، وكانت شتيمتها المفضلة هي "كلب ابن الكلب" حيث أنها تفرغ كل ما في جعبتها من حنق مع انفجار حرف الكاف في حلقها. وصلت إلى بيتها وبحثت عن المفتاح في حقيبتها فلم تجده. بدأت تتوتر وبدأت أنفاسها تتسارع وتقصر وهي تبحث ثانية في الحقيبة وترمي كل ما تجده داخلها على الأرض بشكل هستيري. لقد نسيت المفتاح على خزانتها في المدرسة! وقبل أن تعي لنفسها كانت الآنسة منى تخبط على الباب بيديها الاثنتين وتبكي بصراخ كالأطفال.

أسامة جودة
18/04/2007, 08:17 AM
واقعية رائعة بأسلوب جميل
مع دوام التوفيق