المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محنة التاريخ الإسلامي



طارق شفيق حقي
04/04/2007, 01:09 AM
محنة التاريخ الإسلامي


(2-3)




بقلم :أد يحيى هاشم حسن فرغل

yehia_hashem@ hotmail .com
التشويه



اتخذ الغزو الثقافي في مجال التاريخ كما ذكرنا في مقال سابق : ثلاثة اتجاهات ، اتجاها لتجميل الصورة - الشائهة أصلا- لتاريخ الأعداء واتجاها إلى تشويه مالا يمكن محوه من تاريخنا ، واتجاها إلى المحو ، حيث يكون ذلك ممكنا
و نتحدث هنا عن الاتجاه الثاني : في تشويه مالا يمكن محوه ، حيث نجده في تاريخ الصحابة ، وتاريخ الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والحملة الفرنسية أيضا .
ففي تاريخ الصحابة : بدأ الغزو هنا بالتركيز على الصحابة والتابعين ، كأنما لم يجد الغزاة مجالا يكتبون فيه بحوثهم الرشيقة ، أو مقالاتهم الرصينة أو قصصهم الجذابة إلا فترات الفتنة التي لا تتعدى بضع سنين هنا أو بضع سنين هناك :
إنهم يكتبون عن " الفتنة الكبرى " ، ويهمشون السيرة النبوية بجعلها أساطير كأساطير اليونان، ويكتبون عن " الحسين ثائرا " أو ثأر الله " ، ويكتبون عن عليّ رضي الله عنه : " إمام المتقين" ، فماذا يكون محمد صلى الله عليه وسلم إذن ؟ ويكتبون عن يزيد ، والحجاج .. وقرأناهم ، واستمتع بعضنا بهم..وانزلق بعض رجال الدعوة الإسلامية – وهذا هو موطن الخطر – ووقعوا في الفخ ، وصاروا يوجهون سهام نقدهم إلى فترات التاريخ الإسلامي ، ولا يجدون فيه – انسياقا مع هذا المخطط - فترة تستحق الاحترام غير الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم ، أو بعضهم في بعض الأحيان . فسهلوا على الغزاة اقتحام بقية الحصون . وصار المسلم المعاصر يشعر بالعار أمام تاريخه الطويل .وجاء العلمانيون – أخيرا – ليحصدوا الثمار قائلين : ها لقد فشل الإسلام تاريخيا، فعليكم أن تواروه التراب .
لو كنا على وعي كاف بأبعاد المعركة لوقفنا جميعا ضد هذا التيار ، ودافعنا عن الصحابة ، من منطلق إيماننا واستنادنا إلى ما هو أقوى من رواياتهم المكذوبة بحكم المنهج العلمي الصحيح .
فالله سبحانه وتعالى يقول : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )، ويقول : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) ، ويقول : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) ،ويقول ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، ) ، والمراد بمن معه – عن ابن عباس رضي الله عنهما – من شهد الحديبية ، أهل بيعة الرضوان ، الذين بايعوه تحت الشجرة ، وكان عددهم 1115 صحابيا . وقال جمهور العلماء : المراد بهم جميع أصحابه صلى الله عليه وسلم . وفي الصحيحين ( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وروى الترمذي بسنده عنه صلى الله عليه وسلم قوله : ( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ،فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ) .
. ويقول صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ولا أعلم له علة .
وفي الصحيحين ( خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ،وقد جمعهم الله تعالى في آية واحدة هي قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ، ولا يرضى الله إلا عمن علم حسن خاتمتهم ووفاتهم على المحجة البيضاء

وفي قوله صلى الله عليه وسلم ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) نجد طائفتين من الأئمة والعلماء : من يستشهدون به على فضل الصحابة .
ومن يحكمون بضعفه – أو بوضعه – لكن بعض هؤلاء يقبل معناه ،استنادا إلى حديث آخر صحيح أخرجه مسلم بسنده عن أبي بردة عن أبيه قال : صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء ، قال فجلسنا فخرج علينا فقال ما زلتم ههنا ؟ قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلى معك العشاء ، قال أحسنتم أو أصبتم . قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، فقال : النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )
وممن استشهد بحديث ( أصحابي كالنجوم ) ابن عبد البر في كتابه التمهيد ج 4 ص 263- 267 بعد حكايته خلافا بين ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم في حكم غسل رأس المحرم : ورجوعهما في ذلك إلى أبي أيوب الأنصاري ، وأخذهما بما نقل أبو أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال ابن عبد البر : ( وهذا يبين لك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : أصحابي كالنجوم ) هو على ما فسره المزني من أهل النظر أن ذلك في النقل ، لأن جميعهم ثقات مأمونون عدل ، فواجب قبول ما نقل كل واحد منهم ، وشهد به على نبيه ) .
وفي تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ج10ص155 –156 بعد شرح حديث" أنا دار الحكمة وعلي - أي ابن أبي طالب رضي الله عنه - بابها " أي الذي يدخل منه إليها ، وأنه لا يعني أن عليا بابها الوحيد يقول : ( ومما يدل على أن جميع الأصحاب بمنزلة الأبواب قوله صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " )

وجاء في المغني لابن قدامة المقدسي ج 3 ص 269 بعد أن ذكر قضاء الصحابة في بعض أحكام الصيد في حالة الإحرام : ( ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم ) وقال ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) ولأنهم أقرب إلى الصواب وأبصر بالعلم فكان حكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي ).
وقال القاري في شرح قوله صلى الله عليه : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به ..كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) – فيما نقله عنه المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي ج10-ص196 : ( والمراد بالأخذ عنهم التمسك بمحبتهم .. وهو لا ينافي أخذ السنة من غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) .
أما الحافظ ابن حجر العسقلاني فبعد أن يذكر أوجه الضعف في سند الحديث يذكر ما قاله الإمام البيهقي في صحة معناه ، لتطابقه مع معنى الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم بلفظ ( النجوم أمنة أهل السماء ) إلخ : ثم يقول : قلت : صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة ، وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض والله المستعان اهـ



في موقع الصدر الأول بين المثالية والواقعية يخوض الخائضون في اختلاف الصحابة ، ويمارسون ما يمارسون من تشويه التاريخ الإسلامي

ونذكر هنا ردا على ذلك ما روي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول : ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة " ، ويقول الإمام الخطابي في غريب الحديث : والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام : الأول في إثبات الصانع ووحدانيته وإنكاره كفر ، والثاني في صفاته ومشيئته وانكارهما بدعة ، والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها ؛ فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء ، وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة . انتهى .
و أخرج الخطيب عن هارون الرشيد قوله لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب يعني مؤلفات الإمام مالك ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة . قال يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكل على هدى وكل يريد الله تعالى. أهـ من كشف الخفاء .
يقول الإمام ابن حجر : ( اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة أنه يجب على كل أحد تزكية جميع الصحابة ، وإثبات العدالة لهم ، والكف عن الطعن فيهم ، مع الثناء عليهم فقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز ) . وقد اعتبر علماء المسلمين – ومنهم الإمام مالك رضي الله عنه – أن القدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح في الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتلفيق الروايات في مثالبهم وخلافاتهم لا يعدو أن يكون القصد منه الرسالة المحمدية ،والذي جاء بها ، والذي جاء فيها .

ونحن نقول : - وبناء على ما تقدم من تحقيق منهجي في مكانة الصحابة يصبح - على المسلم أن يرفض أي رواية تاريخية تخالف ذلك لأنها كاذبة في منهجه العلمي والإيماني معا
إنه من الغريب أن بعض هؤلاء الذين يشككون في الصحابة يتساهلون إلى أبعد حد في قبول بعض أخبار التاريخ ، وقد يكون نبأ من فاسق ، وهو الأمر الذي جر الويلات في طعن تاريخنا في الصميم .
وإنه ليغيب عن الكثير منا أن التاريخ الإسلامي لم يكن يكتب في حينه ولكن في ظل الدولة الجديدة ، وقد تولى كتابته نماذج مختلفة من المؤرخين ، يتباينون في اتجاهاتهم ، ودوافعهم ، ومهم مؤرخون ثقات ، أمثال ابن جرير الطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، وقد وضع هؤلاء لأنفسهم منهجا علميا معلنا : هو أن يذكروا أسماء الرواة الذين ينقلون عنهم ، وأن يذكروا الأخبار كلها من مختلف المصادر ، ثم يتركون لمن بعدهم أن يميز بين الصحيح وغير الصحيح .
ثم لحق التشويه بمنهج هؤلاء ممن جاء بعدهم حيث ذكروا رواياتهم بعد أن جردوها من الأسانيد ، وضموا الروايات بعضها إلى بعض للاختصار ، أو لأغراض خاصة ، فاختلط الحابل بالنابل ، وأصبح من الصعب على قرائهم أن يفرقوا بين روايات الثقات ، وروايات أصحاب الأهواء ، فنشأ من ذلك ترديد لكثير من الأخبار التي اختلقها أعداء الإسلام ، ووصل الأمر – حديثا - إلى نقل الأخبار من مراجع السمار ، كالذي انساق إليه الكتاب المحدثون من الأخذ من كتاب " الأغاني " لأبي الفرج الأصفهاني ، واعتباره مصدرا للتاريخ ، ودرة للتراث !!

وإن المرء ليستغرب من هؤلاء المحدثين لو أنهم كانوا يهدفون إلى متعة البحث ، أو إلى متعة الفن ، أو إلى متعة الصراع بين الحق والباطل ، ( الدراما ) فقد كان أمامهم متسع لا يلتقون فيه بالشبهات ، ولا يحركون فيه مواجع المسلمين ، ولا يدفعونهم إلى تأجيج نار الثأر ، وتحريك عوامل الفرقة والتمزق ، لقد كانت أمامهم : حروب الردة التي اشتعلت في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحروب مدعي النبوة من أمثال : الأسود بن كعب بن عوف العنسي ، ومسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خالد الأسود ، وذي التاج لقيط ين مالك الأزدي .
وفي حروب الدولة الإسلامية مع فرقة الراوندية التي ابتدأ خروجها منذ أواخر الدولة لأموية وامتدت في عهد المنصور : وقد كانوا يطوفون بقصره قائلين ( هذا قصر ربنا ) فلما صدهم عن ذلك ثاروا عليه وحاربوه .
وفي الحرب البابكية التي استمرت أكثر من عشرين عاما ، من عهد المأمون ، (201) هـ إلى عهد المعتصم (223) هـ ، وكانت حربا فارسية ضد الإسلام ، تحالفت في الوقت نفسه مع الدولة البيزنطية .
وفي حروب المسلمين مع الدولة الرومانية التي لم تهدأ قط منذ ظهور الإسلام ، مرورا بالحروب الصليبية إلى نكبة الأندلس ، إلى العصر الحاضر حيث تعتبر أوربا نفسها وريثة تلك الدولة الرومانية ، في ثأرها ضد من أزاحوها من جنوب البحر الأبيض وشرقه . وحيث تعتبر أوربا نفسها في صراع مستمر مع الإسلام الذي أزاحها من هذه المناطق .
في كل ذلك وفي غيره مجالات لا تنفد لمن يريد استنطاق التاريخ دروس الحق والخير والجمال . . لكن أولئك يجدون أنفسهم مزنوقين في حوادث الفتنة بين الصحابة والتابعين لأغراض لا تخفى على أحد .

وأخيرا جاءت الطبعة الأخيرة من المحاربين للإسلام ليقولوا : ( إن التجارب التاريخية – في الحكم الإسلامي – لم تكن إلا سلسلة طويلة من الفشل .. )
ونحن نقول : إنه إذا كان من المسلم به أن عصر الخلفاء الراشدين كان هو الأقرب إلى مثالية النظام الإسلامي ، فإن هذا لا يعني أنه كان عصرا عقيما لا ينجب ، ولكن يعني أنه - وبالنظرة العلمية أيضا – قابل للتكرار ، وفقا لقانون السبب والنتيجة ، فكلما حصل السبب كان لابد للنتيجة أن تحصل ، وليس في الأمر خصوصية فرد ، أو معجزة عصر ، ولكن حيث يتوفر القبول للنظام الإسلامي والرغبة فيه يظهر الإنسان المشابه والعصر المشابه لعصر الخلفاء الراشدين .
ومهما يكن من أمر فإنه ليصح القول بأن النظام الذي يثمر أبا بكر وعمر ولو على سبيل الندرة المطلوبة لهو أفضل – تاريخيا وعمليا - من الأنظمة التي لم تثمر شيئا من ذلك ، إن الندرة – مع كونها كذلك – تظل مقياسا تقاس به طبيعة الأنظمة ، ومدى ما تصل إليه في مدارج الصلاح أو الفساد على مدى التاريخ .
فالنظام الذي يكون أعظم ما يصل إليه – بالندرة – أن يقدم شخصية عمر غير النظام الذي يكون أقصى ما يصل إليه شخصية الإسكندر ، أو شخصية هتلر ، أو شخصية كلينتون ، أو بوش ، أو توني بلير ، أو شخصية " مايكل جاكسون " المغني المخنث ذائع الصيت ، مع دخول أولئك جميعا في خانة الندرة المطلوبة ، لكن لكلِّ دلالته على فضيلة عصره أو خسته.



إن الأمويين عموما كما يقرر المؤرخون أصحاب دعوة إسلامية : تمرنوا على قيادة الجيوش ، وحكم الناس ، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان أكثر عماله منهم ، وقد امتد ملك الإسلام في عهدهم من سواحل الأطلنطي إلى بلاد الصين ، ومن جبال القوقاز ، إلى خط الاستواء وما وراءه . ودخلت الإسلام في عهدهم أمم الأرض كلها : من العرب والسريان ، والفرس ، والكلدان ، والمصريين ، والنوبيين ، والبربر، والسودان ، واليونانيين ، والهنود ، والترك والتتار ، وأمست آي القرآن تتلى في سمرقند كما تتلى في قرطبة ، وكاد الإسلام أن يستقر في جنوب فرنسا بعد أن اجتاحها .
هذا الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ينصبونه هدفا لطعناتهم للتاريخ الإسلامي وإفراغه من محتواه يقول عنه الدكتور عمر فروخ : ( لما جاء الحجاج إلى العراق كانت حروب الفتن قد خربت الدور ، وطمرت الأفنية ، فخلت المزارع من فلاحيها ، وهجر معظم أهل القرى قراهم ، فلم يبدأ الحجاج إصلاح البلاد وتنظيم الإدارة بإصدار المراسيم ، والقوانين ، ولكنه أعاد بناء البلد وأصلح الطرق ، وأعاد حفر الأقنية ، بعدئذ أمر أهل القرى بالرجوع إلى قراهم ، وأخذ بجمع الضرائب وإرسال الجيوش إلى الفتوح ، فانتشر الأمن في طول البلاد وعرضها ، حتى كانت المرأة تنام وحيدة في بيتها ، وباب بيتها مفتوح ، ولما مات الحجاج بن يوسف خلف مصحفا وسيفا ، وعشرة دراهم فضة . )
وماذا عن الدولة الأموية بالأندلس ؟ ألم تكن هي التي استقرت هناك ثم أرسلت الحملة إثر الحملة لفتح فرنسا ، حتى تمكنت على يد الوالي القائد عبد الرحمن الغافقي – الذي عين واليا على الأندلس من قبل هشام بن عبد الملك عام 112 هـ – من دخول فرنسا وفتح النصف الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر والاستيلاء على بواتييه وإن وقعت هزيمته فيها والخروج منها بعد ذلك ؟
وما ذا عن الدولة العباسية ؟ لا خلاف على أن كانت جماع التقدم البشري شعرا وأدبا وعلما دينيا وعلوما دنيوية ، وسياسة ، وقوة ، وهيبة ، واتساعا ، ومستوى معيشة أصبح يرمز إليها في وجدان الغرب بعالم ألف ليلة وليلة . يقول الأستاذ محمد كرد علي في كتابه عن الحضارة الإسلامية : ( في القرون التي كانت فيها العرب تنعم بلذائذ العقل والعمل والمال وتأخذ من مسرات الحياة الفاضلة بأوفر نصيب ، ويهاب سطوتها البدو والحضر ، وتؤلف أمة متحضرة وحكومات ناهضة ، كان الغربيون – بمواريثهم اليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية – متوحشين جاهلين لا يعرفون الترف ، ولا يتذوقون عيش الرفاهية ، لا أمن ولا إدارة ، ولا ملوك يعرفون واجبهم في إقامة العدل ، وتوطيد الأمن )

وما ذا عن الدولة العثمانية المفترى عليها ؟ إن هذه الدولة – كما يقرر المؤرخون المتخصصون ومنهم أد أحمد عبد الرحيم مصطفى – استطاعت أن تعيد لدار الإسلام حضورها وهيبتها ومنعتها بعد ما لحق بها من التفرق والانحسار ، وأن تحمي حياض المسلمين من البرتغاليين الذين غزوا شرق الجزيرة العربية توطئة لدخول البحر الأحمر والزحف إلى مكة المكرمة وهدم الكعبة .
وظل العثمانيون طوال ستة قرون الدرع الواقية للأمة الإسلامية ضد أطماع الاستعمار الأوربي ، وكانوا الذين فتحوا باسم الإسلام مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، وأطلقوا عليها اسم إسلامبول ، ومنها انطلقوا يرفعون راية الإسلام ، في قلب أوربا : في يوجوسلافيا ، وبلغاريا ، وألبانيا ، ورومانيا ، واليونان .
وكان العثماني يعتبر امبراطوريته التي ما لبثت أن ضمت كل المراكز الإسلامية الكبرى وكأنها الإسلام ذاته ، بحيث أصبح الإسلام في العهد العثماني – وفي أوج قوة الدولة – على مستوى رفيع من الأهمية والنفوذ .
في تلك الدولة – كما يقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى - تغلغل الإسلام في كيان الأمة حتى لم يعد لمصطلح " عثماني " مدلول قومي ، وبحيث ظل العثمانيون حتى القرن التاسع عشر يعتبرون أنفسهم مسلمين في المحل الأول ، وكان الإسلام هو الشرط الأساسي للتمتع بالسلطة والامتياز .
ولم يكن لفظ " تركي " يستعمل في أوج العصر العثماني إلا قليلا للإشارة إلى " التركمان " ثم بعد ذلك إلى الفلاحين الخشنين الجهلة ، الذين يتكلمون اللغة التركية ، ويقطنون قرى الأناضول ، وحتى القرن التاسع عشر لم يتخذ التركي لقب تركي .
وحين استعمل الأوربي هذه الكلمة كان يعني في الواقع " مسلما أو كافرا " ، ويشهد التاريخ بأن الدولة العثمانية كانت حتى قبل توسعها في العالم العربي تطبق الشريعة الإسلامية بدلا من القانون البيزنطي القديم في المناطق التي لا يجد سكانها صعوبة في فهمها ، ثم ما لبثت بعد أن استقرت في استامبول عام 1453م أن أخذت بالقوانين الإسلامية دون غيرها حتى انهيارها في الحرب العالمية الأولى .
ورغم أن السلطان العثماني كان يتمتع بسلطة لا يقيدها قانون مدني إلا أنه لم يكن بذلك حاكما مطلقا كما يقال ، وذلك لأنه لم يكن ليستطيع خرق الشريعة الإسلامية ، علنا على الأقل ، ولم يكن يتمتع بالجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بالمعنى الصحيح لهذا المصطلح لتقيده الأساسي بالشريعة الإسلامية ، وكانت القوانين التي يصدرها لا مفر من أن تكون متفقة مع القرآن والسنة والمذاهب الفقهية الأربعة .
ومنذ أواخر القرن الخامس عشر كان السلاطين قد أقاموا هيئة من أهل العلم الفقهاء والتي كان رؤساؤها شيخ الإسلام ، وكبار القضاة ، يستشارون فيما يمس شئون الدولة الهامة ، وكانت مشروعات القوانين تعرض على شيخ الإسلام قبل إقرارها لكي يدرس مدى مطابقتها للشريعة الإسلامية ، وكان هو المختص بأن يصدر الفتوى - قبل إعلان الحرب – بأن أهدافها لا تتعارض مع الدين ، كما كان له الرأي في علاقة الدولة بالدول غير الإسلامية وقوانين الضرائب ، ولم تكن هذه الإجراءات صورية ، فكثيرا ما أدى رفض المفتي إلى إرغام السلطان على العدول عن مشروعاته ، بل إن تصريح المفتي بأن السلطان لا يحترم مبادئ الشريعة يعني مباشرة انه غير صالح لتولي الحكم ، وكان ذلك كفيلا بالتمهيد لخلعه . ولم يكن هذا النفوذ الشرعي محاصرا في شخصية المفتي الأكبر ، أو شيخ الإسلام ، وإنما كان يمثل القاعدة الشعبية للدولة ، إذ أنها حرصا منها على المحافظة على الشريعة أبدت اهتماما رفيعا بالفقهاء الدينيين الذين أدخلتهم في جهاز الدولة .. ، ومن ثم كان الوزراء العثمانيون الأوائل من الفقهاء ، وما لبث تنظيم الفقهاء أن امتد إلى جهاز الدولة بأسرها بحيث تطرق إلى أدنى المستويات في الولايات ، فقد كان كل سنجق يضم قضاة ومفتين لابد من استشارتهم في كل المسائل التي تتعلق بالشريعة ، وكانت أحكامهم بمثابة قوانين لا يحد من فعاليتها سوى الرجوع إلى استامبول.

ومن التشويه ما يشاع ضد الدولة العثمانية من أن تعصبها للإسلام أدى بها إلى اضطهاد المسيحيين ، وذلك بغرض تكريس النهج العلماني في البلاد الإسلامية ، وغلق باب التفكير في إعادة هيمنة الإسلام على الدولة ، ويرد الأستاذ الدكتور أحمد طربين استاذ التاريخ الإسلامي بجامعة دمشق على ما جاء من ذلك بكتاب " أزمة الفكر ومشكلات السلطة السياسية " لمحمد مخزوم نشر بيروت عام 1968 ، فيقول : ( إن عديدا من المؤرخين المنصفين يرون أن الدولة العثمانية حافظت على أملاكهم وحرية عبادتهم وكنائسهم ، وفتحت لهم أوسع أبواب العمل الحر في الزراعة والصناعة والتجارة . فانتظموا في سلك الحرف المختلفة على قدم المساواة مع زملائهم المسلمين ، وكانوا معهم في تعاطف وود ، بل إنهم برزوا في ميدان التجارة الخارجية لصلتهم مع الأوربيين ، وتكونت منهم طبقة بورجوازية غنية ، وتشهد بذلك سجلات المحاكم الشرعية في مختلف الحواضر العربية ) أنظر المجلة العربية للعلوم الإنسانية التي تصدر عن جامعة الكويت العدد 31 ص 269

ومن السهام الهدامة الموجهة ضد تاريخنا في مجمله – وفي سياق تقويم الدولة العثمانية بالذات – ما يجري من محاكمة هذا التاريخ باسم مذاهب سياسية محدثة كالقومية والوطنية ، ومن ذلك القول بأن مصر لم تعرف الاستقلال الوطني والحكم بيدي مصري منذ عشرات القرون إلا بعد الثورة المصرية عام 1952 .
ويرد على هذا أصحاب هذا القول : بأن جميع الشعوب كانت كذلك إلى عهد قريب ، انجلترا وفرنسا ،وإيطاليا وألمانيا إلخ ، ونقول لهم ما قاله مارستون بيتس في كتابه ( الانفجار السكاني ) وهو بصدد تقسيم البشر إلى أنواع ، ومقاييس هذا التقسيم : هل هو العنصر أو السلالة ، أو الجغرافيا ، أو الثقافة ؟ حيث يقول : ( كلما أمعنا في التفكير في هذا الأمر ازداد غرابة في نظرنا ، " فالحكومة الوطنية " هي اختراع حديث العهد من الوجهة التاريخية . ويحمل الناس أحيانا الثورة الفرنسية وما تلاها من المغامرات النابليونية وزر هذا الاختراع .
أما إيطاليا وألمانيا فلم تظهرا على المسرح كأمتين إلا في عام 1870 مـ
ومما لا ريب فيه أن أمما كثيرة مثل فرنسا وانجلترا كان لها تاريخ عريق في السيادة الوطنية على مناطق لا تكاد تختلف عن حدوده الحالية ، ولكن هذا الأمر يبدو نتيجة لسلسلة من الأحداث التاريخية والجغرافية أكثر منه ظاهرة وطنية .
ومن جهة أخرى فليست هناك دولة وطنية تطابق مجموعة عنصرية واحدة .
وهناك عدد من الأمم متجانسة السكان تقريبا من وجهة النظر العنصرية ، ولكنها لا تمثل في الحقيقة إلا شطرا صغيرا من العنصر الذي يعيش فيها ، لأن القسم الأعظم من الأشخاص الذين ينتمون إلى ذلك العنصر ينتشر ما بين الأمم الأخرى .
ولقد أصبحت الخصائص الوطنية مؤخرا من المواضيع التي يوليها علماء الأجناس البشرية كل اهتمام في دراساتهم ، ويبدو أن فكرة " الرجل الإنجليزي " و" الرجل الإمريكي " أو الرجل الألماني " أصبحت الآن حقيقة واقعة ، لا تختلف بشيء عن فكرة وجود عنصر خاص أو حضارة قبلية ) الانفجار السكاني ص 79-80
والمتأمل في هذه الحقائق يجد أنه من الخطأ والظلم معا محاكمة التاريخ الإنساني السابق على هذه المفاهيم الوطنية أوالعنصرية ، وبخاصة لو أدركنا بخصوص الحضارة الإسلامية أن أبناءها كانوا في مرحلة حضارية قد تجاوزت من الناحية القيمية هذه المفاهيم ، ولو عرضت عليهم لرفضوها كما رفضوا الشعوبية ، والتجزئة ، والقبلية والعنصرية ، استمساكا منهم بالأفق الأسمى المفتوح أمامهم بتعاليم لإسلام ، والذي يطبق مفهوما ساميا من العالمية ينبني على الأخوة في الإسلام .

مهما يكن من أمر فإن أحدا لا ينكر أن النظام الإسلامي لم يصل قط إلى مرتبة التطبيق الكامل الذي يحلو لبعض العلمانيين أن يحاكموه عليه
.وهكذا الأمر في كل الأنظمة عند التطبيق وطنية أو قومية أو ديموقراطية أوغيرها :
على أن ذلك لا يحسب على الإسلام ضد صلاحيته التاريخية ، ولكنه يحسب له باعتباره هدفا خالدا لهذا التطبيق في سياق التاريخ .
إن سرا عظيما من أسرار بقاء الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان يكمن في أنه يعلو دائما فوق كمال التطبيق ، ليظل مثلا أعلى تسعى البشرية إلى الاقتراب منه وتجاهد في الوصول إليه.
إن أي نظام – في التطبيق – لا يجد التطبيق الأمثل الأكمل ، حتى هؤلاء المبهورون بنظم الغرب لا يجسرون على القول بأنها نظم شاهدت اكتمال التطبيق ، سواء النظم الديموقراطية ، أو الاشتراكية أو العلمانية ، وهاهو فوكوياما في مقاله الأخير وفي معرض دفاعه عن الديموقراطية الليبرالية يقرر أن عجزها التطبيقي في بعض المواقع لا يدل على فشلها . ويقول روجيه جارودي الفيلسوف الفرنسي الذي دخل في الإسلام : ( لقد أطلق مؤرخونا بحق على الأعاصير العاصفة – مثلا – التي بناها تيمورلنك بسبعمائة ألف جمجمة بعد احتلاله أصفهان : اسم الغزوات البربرية .
ولكن مما يدعو إلى العجب أن هذه التسمية تتغير حينما يقوم الأوربيون بمثل هذه الغزوات ، فماذا نقول إذن عن إبادة الهنود الحمر في أمريكا على يد الفاتحين الأوربيين أصحاب المدافع ؟
وما ذا نقول عن تخريب أفريقيا بانتزاع عشرة ملايين إلى عشرين من سكانها السود ، وهذا يعني أن عدد الضحايا بلغ مائة مليون إلى مائتين إذ كان أسر كل أسير يكلف عشرة أفراد ؟
وماذا نقول عن مذابح آسيا وحرب الأفيون والمجاعات التي فتكت بملايين الهنود بفضل الاستعمار وفرض الضرائب ؟
وما ذا نرى في ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية ؟
وماذا نرى في حرب فيتنام ؟
وماذا نرى في تشريد الشعب الفلسطيني ليحل محله شذاذ الآفاق من اليهود والصهاينة؟
وماذا نسمي النظام العالمي للسيطرة الغربية وقد أنفق – في عام واحد – هو عام 1980 – أربعمائة وخمسين مليارا من الدولارات على التسليح ؟ وتسبب في العام نفسه في موت خمسين مليونا من البشر في العالم بسبب المجاعة ولعبة المبادلات التجارية الظالمة ؟
وهكذا يعتبر الغرب – كما يقول روجيه جارودي – إلى أبد الآبدين أكبر مجرم في التاريخ .
ويذهب إلى هذا التقدير أيضا نعيم تشومسكي في كتابه " ماذا يريد العم سام " ترجمة عادل المعلم

ولذلك فإننا نقول للمسلمين بعامة - والدعاة منهم بخاصة – حذار ، حذار من الوقوع في الفخ ، حذار من مسايرة النقد الأعمى للتاريخ الإسلامي . إن تاريخنا هو ذاتنا في الماضي ، وهو قلعتنا في الحاضر ، وهو زادنا نحو المستقبل .
إن من حقنا أن ننظر إلى تاريخنا بعين الفاحص ، ونقد المحقق ، ووعي المتبصر ، ولكن من واجبنا أن تكون عيننا الأخرى على مؤامرات الغزو الثقافي ، ومن أهم أهدافه اقتلاعنا من جذورنا الإسلامية عن طريق تشويه تاريخنا الإسلامي .

وإذا كان لأحد أن يتساءل : لماذا ينكر الجاحدون مجد الإسلام وقوة نظامه ، أو يتعمدون انتقاء الروايات الضعيفة المتهافتة من كتب الأسمار والحكايات ، ويتركون الروايات الدقيقة الصحيحة التي خدمها رجال الحديث – مثلا – على أعلى مستويات النقد ؟ فالجواب على ذلك بسيط : إنها العمالة في عملية الغزو الثقافي للإسلام ، ولكن وبالإضافة لذلك – فإن الأمر كما يقول الأمير شكيب أرسلان : ( هذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه وطعن آبائه بأنهم كانوا سافلين وأنه يبرأ منهم .. لا يصدر إلا عن الشخص الخسيس ، وضيع النفس ، أو عن الذي يشعر بأنه في وسط قومه دنيء الأصل ، فيسعى هو في إنكار أمته بأسرها ، لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ، ليس له نصيب من تلك الأصالة ) .

طارق شفيق حقي
04/04/2007, 01:21 AM
محنة التاريخ الإسلامي (3-3)
عمليات المحو



بقلم :أد يحيى هاشم حسن فرغل *

yehia_hashem@ hotmail .com






تحدثنا من قبل عن اتجاهين في قضية التاريخ الإسلامي : قضية تجميل تاريخ العدو ، واتجاه تشويه التاريخ الإسلامي
أما اتجاه المحو فنجده في الجهل المطبق للمسلم المعاصر بحضارته وتاريخه عموما وبتاريخ فلسطين ، وتاريخ القدس بخاصة . .
إن المسلم المعاصر لو سئل عن العام الهجري الذي يعيش فيه لكانت النتيجة مؤسفة ، يقول الكاتب الصحفي سامح كريم ( في رمضان سأل المذيع عددا من الناس عن عامنا الهجري فأجمعت كل الإجابات على أخطاء مؤسفة محصلتها أن الجميع لا يعرفون في أي عام هجري نكون ، وليست هذه الأخطاء مقصورة على معرفتنا بالشهور الهجرية والأعوام ، وإنما تمتد إلى تاريخنا وثقافتنا وتراثنا وحضارتنا العربية الإسلامية ، فمن الصعب أن يعرف البعض منا الأحداث التاريخية الكبرى ، وأصعب أن يعرفوا تراث أجدادهم ، وأشد صعوبة أن يعرفوا معطيات حضارتهم العربية .)
ومن هذه المعطيات الحضارية التي لم يكتف البعض بجهلها ولكن تم دفع بعضهم إلى احتقارها ما كشف عنه الأستاذ محمود محمد شاكر في مقدمته لكتاب " أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني " من كتب التراث ( عن نظرة الشيخ محمد عبده إلى ماضينا وكيف أثرت هذه النظرة في تلاميذه ومريديه لتجري أقلامهم بما يؤثر في حياتنا المعاصرة وتكون النتيجة تفريغ الأمة من تاريخها .. في البداية حيث حقق الشيخ رشيد رضا كتاب " أسرار البلاغة " للجرجاني واستهله بمقدمة استهانت بعدد من علماء العرب الأقدمين إلى درجة أنه سمى أعمال أحدهم بأنها " الرسوم الميتة التي سماها الجهل علما " ليجيء الشيخ البرقوقي من بعده ويكتب مستهينا بعلماء العرب الأقدمين ، ثم تبين فيما بعد للأستاذ محمود شاكر أن ما قاله الشيخان " رشيد رضا والبرقوقي " ترديد لما كان يقوله الشيخ محمد عبده ، في دروسه ومجالسه في ذم الكتب التي كان طلبة العلم في الأزهر يدرسونها فتلقفوا عنه هذا الطعن دون فحص أو نظر ) !
ويواصل الأستاذ محمود محمد شاكر قائلا : " ولم يقتصر ذم الشيخ محمد عبده على كتب البلاغة وحدها ، بل تناول بالطعن الجارح كل الكتب التي كانت تدرس في الأزهر على اختلاف أنواعها من بلاغة وفقه ونحو ..وذاع هذا الطعن وتناقلته ألسنة المحيطين به من صغار طلبة الأزهر وغيرهم من الطوائف ، فكان هذا أول صدع في تراث الأمة العربية الإسلامية ، وأول إسقاط لتاريخ طويل من التأليف إسقاطا كاملا ، يتداوله الشباب بألسنتهم مستقرا في نفوسهم ، وهم في نضارة الشباب لا يطيقون التمييز بين الخطأ والصواب ، وليس عندهم من العلم ما يعينهم على الفصل في المعركة التي دارت بين شيوخ الأزهر والشيخ محمد عبده ،وليس في أيديهم سوى ما قاله الشيخ في التجريح والطعن الذي صدهم صدا كاملا عن هذه الكتب وأورثهم الاستهانة بها ) الأهرام 22\5\1992
وتكون النتيجة تفريغ الدراسة بالأزهر على النحو الذي أصبحنا نشكو منه أخيرا ، وتتضاعف النتائج عند تلاميذ الشيخ من العلمانيين ، ومن يأتي من تلاميذهم ، ثم تكون النتيجة أيضا حصاد أطفال الفتوى الذين يرددون ما قاله أبو حنيفة ومالك والشافعي ، وابن حنبل قائلين : نحن رجال وهم رجال ، وهات يافتوى .. !!

وفي مجال التاريخ السياسي يعرف الكثيرون منا معرفة غائمة شيئا عن الإسلام في الأندلس ، لكن هل يعرف المسلم المعاصر شيئا عن فتح الإسلام لنصف فرنسا الجنوبي في القرن الثاني الهجري بهدف تنويرها إسلاميا ، ثم انحسارهم عنها لظروف من الميل لعرض هذه الحياة الدنيا ؟
لقد سبق إلى محاولة فتح فرنسا السمح بن مالك الخولاني الذي أقامه عمر بن عبد العزيز واليا على الأندلس (100هـ - 719 م) ، حيث قام بحملة شاملة على فرنسا اخترقت جبال ألبرت من الشرق – وهي تفصل جبال البرانس التي تمتد جنوب غرب فرنسا وتفصل بينها وبين الأندلس ، وتعد حاجزا طبيعيا بين البلدين ، وسيطر على عدد من القواعد هناك واستولى على سبتمانيا ، وأقام حكومة إسلامية جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وفقا للرسالة الحضارية التي جاء بها المسلمون إلى الأندلس آنذاك في هذا الوقت المبكر ، واتخذ من " أربونة " قاعدة للجهاد وراء ألبرت ، ثم استشهد في معركته مع قوى الظلام ، عند تولوز ، في يوم عرفة من سنة 102 هـ 721 ، وفقدت فرنسا بذلك من ثم أول فرصة للتنوير الإسلامي عرضت لها . ثم عرضت فرصة التنوير الإسلامي مرة أخرى إذ دخلها عنبسة بن سحيم الكلبي والي الأندلس الذي كان قد عين عليها عام 103 هـ حيث عبر بجيوشه جبال البرت وتمكن من بسط سلطان التنوير الإسلامي في شرق جنوب فرنسا ، وفي أثناء عودته داهمته جموع الفرنجة – قوى الظلام آنذاك – فأصيب عنبسة في المعركة ثم توفي عام 107 هـ - 725 مـ وفقدت فرنسا فرصة أخرى للتنوير الإسلامي .
ثم جاء عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وكان من كبار رجالات الأندلس عدلا وصلاحا وتنويرا وقدرة وكفاءة ، عين واليا على الأندلس مرتين ، الأولى في عام 102 هـ– 721 م، لمدة عام ، والثانية من قبل والي أفريقيا مؤيدا من الخليفة هشام بن عبد الملك في صفر عام 112 هـ وفي أوائل عام 114 هـ –732 هـ سار الغافقي بجيوشه نحو الشمال وعبر جبال ألبرت – او البرانس – من طريق بنبلونة ، ودخل فرنسا حيث فتح نصف فرنسا الجنوبي كله ، من الشرق إلى الغرب ، في بضعة أشهر ، بعد معارك ناجحة ضد قوى التخلف والظلام ، وواصل زحفه ، حتى أشرف بجيشه على نهر اللوار ، وهناك احتشد له شارل مارتل بجيش ضخم من الفرنج ، والمرتزقة نصف العراة ، الذين يتشحون بجلود الذئاب ، و تنسدل شعورهم الجعدة على أكتافهم العارية ، هناك استولى جيش التنوير الإسلامي على بواتييه ، وتوروز وعبر جيش الظلام الفرنجي نهر اللوار ، وعسكر غربي الجيش الإسلامي ، ثم عزم الغافقي على لقاء أعداء التنوير على الرغم من أن بعض قبائل البربر في جيشه كانت تتوق للانسحاب ، وأن عدد جنوده كان قد قل ، بسبب تخلف حاميات كثيرة في المدن والقرى المفتوحة ، ودامت المعركة تسعة أيام ، دون أن يحقق الفريقان نصرا حاسما ، وفي اليوم العاشر ، أبدى كلا الطرفين غاية الجلد ،وظهر الإعياء على الفرنج الظلاميين ، وبدت علامات الانتصار لقوى المسلمين – لكن حدث أن افتتح الفرنج ثغرة في غنائم المسلمين فظهرت على أفقهم غمامة من غمامات الظلام التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثالهم منها في غزوة أحد ، من قبل ، فارتدت قوات منهم إلى الوراء واختلت صفوف المسلمين ، وبينما كان الغافقي يحاول إعادة النظام إلى جيشه أصابه سهم فأرداه شهيدا ، فعم الاضطراب بين المسلمين ، وكثر القتل فيهم ، واشتد الفرنج عليهم ، لكنهم صبروا حتى جن الليل وافترق الجيشان دون فصل في المعركة ، وذلك في أوائل رمضان 114 هـ 21 أكتوبر 732 م ، ثم انسحب المسلمون نحو مراكزهم في سبتمانيا ، وفي فجر اليوم التالي تقدم شارل مارتل بحذر فوجد معسكرات المسلمين خالية إلا من الجرحى الذين لم يتمكنوا من مرافقة جيشهم ، فأخذهم أسرى ثم ذبحوهم بنذالة واضحة ، وخشي شارل مارتل من أن يتتبع المسلمين مظنة الخديعة منهم ، فاكتفى بانسحابهم ، ولم يتعقبهم ، كما حدث من قبل من قوى الظلام الجاهلي في أحد تماما ، وآثر العودة بجيشه ، إلى الشمال ، وبهذا أخفقت آخر محاولة بذلها المسلمون لتنوير العالم الغربي ، وفقدت فرنسا بالذات فرصتها الحضارية المبكرة الكبرى للخروج من عصور الظلام كما خرجت أسبانيا ، ودخلت في عصر البيات الظلامي لمدة عشرة قرون ، منذ محاولة الغافقي التي أهديت إليها ففشلت في اغتنامها إلى أن جاء عصر النهضة الأوربية .
ماذا تعرف أجيالنا المعاصرة من ذلك ؟

وماذا يعرف المسلم المعاصر عن بلغراد المدينة الإسلامية عاصمة جمهورية الصرب حاليا ( يوغوسلافيا سابقا ) ؟
لقد فتح العثمانيون بلغراد في 26 رمضان 927 هـ الموافق 29 \8\1521 ولم تكن آنذاك غير قلعة ضخمة في قسمها المرتفع ، وعدة أحياء سكنية في القسم المنخفض ، بحيث كان من الصعب تقدير عدد سكانها بأكثر من عدة آلاف ، وبعد قرن واحد من الفتح الإسلامي كانت قد تطورت تطورا مثيرا حيث أصبحت في بداية القرن السابع عشر – كما يقول المؤرخ المعاصر د . بوبو فيتش - تشبه دمشق أو غيرها من مدن الشرق ، بسكانها ومنشآتها وثقافتها وتقاليدها ، حتى إنها اشتهرت لدى الرحالين الأوربيين باسم بوابة "الشرق" ، وفي ظل الحكم العثماني كما يذكر الرحالة الإنكليزي " براون " أصبحت بلغراد جزءا من عالم يختلف تماما عن الغرب ، جزءا من ذلك العالم الآخر الذي يمتد إلى الصين وأعماق آسيا . ويقول الدكتور محمد الأرناؤط : إذا استثنينا استامبول وبالتحديد القسم الأوربي منها كانت بلغراد في تلك الفترة أكبر وأهم مركز للحضارة الإسلامية في أوربا الوسطى ، وكانت بالتالي نموذجا للمدينة الإسلامية بالمعنى الحضاري .
وبالإضافة إلى ما كانت تقوم به بلغراد من دور تجاري تبادلي مع مصر ودمشق وصيدا وبيروت في ظل الإسلام بلغ ذروته في القرن السابع عشر فقد كانت بوابة أيضا لهذه التجارة مع المجر وبولونيا وتشكوسلوفاكيا والسويد والبندقية ، وكان قسم كبير من الأقمشة يصل من البلاد العربية لحاجات السكان في بلغراد الذين بغالبيتهم الإسلامية كانوا يعيشون ويتزيون على النمط الإسلامي ، حتى إن المسيحيين من سكان بلغراد أصبحوا مع الزمن يقلدون المسلمين في حياتهم و لباسهم .
ومع اتساع المدينة وتطور المجتمع نشأت فيها حرف كثيرة جديدة لتلبية الحاجات الجديدة لسكان المجتمع ورفاهيتهم ، وكان ذلك كله يخضع للنظم والشريعة الإسلامية ، و للدلالة على ذلك يكفي أن نشير هنا إلى أن العالم منيريري البلغرادي المتوفى عام 1616 ألف لهذا الغرض كتابه بعنوان " نصاب الانتساب وأدب الاكتساب " يعرض فيه لموقف الشريعة من الاقتصاد على ضوء تجربة ما كان يسمى نظام الأصناف " في بلغراد : ويقصد به أصناف الحرفيين من الدباغين والسراجين إلخ
ومما ساعد على تطور التجارة والحرف في بلغراد المنشآت المختلفة التي كانت ترتبط بالطابع المميز للمدينة الشرقية الإسلامية والتي لم يكن لها مثيل في البلاد المجاورة ، ومن أهم هذه المنشآت كانت استراحات القوافل القادمة من الخارج ، والتي اشتهرت باسم " كارافان ساراي " وكانت على قسمين قسم منها يتبع الأوقاف الإسلامية ويقدم خدماته مجانا ،والقسم الآخر مقابل خدمات رمزية . وإلى جانب هذا كان في بلغراد أيضا " البزستان " وهو ما كان يثير إعجاب الأوربيين ، لكونه يجمع الأصناف الكثيرة من البضائع ، والخانات التي كانت تستخدم كاستراحة للمسافرين وكبيوت للتجارة ، وتجدر الإشارة إلى أن بلغراد كمدينة إسلامية تميزت بما يسمى " العمارة " التي هي عبارة عن مطعم شعبي مجاني تابع للأوقاف ، وفي هذه العمارة كان يمكن لأي إنسان أن يدخل ويأكل وجبة كاملة دون أن يدفع قرشا واحدا . ومن المنشآت الاجتماعية في المدينة كانت " دور العزاب " وهي دور كبيرة مجانية مخصصة للشباب الحرفيين الذين كانوا يعيشون حياة العزوبية بانتظار الزواج والانتقال إلى بيوت خاصة بهم .
وكان المسلمون في بلغراد متمسكين بالدين ، ويتبعون المذهب الحنفي ، وقد أشاد الرحالة بنسائهم ووصفوهن بالعفة والتدين كأن الواحدة منهن "رابعة العدوية " !.
ومن أهم المناسبات الإسلامية الاجتماعية التي كان يقام لها الاحتفال : المولد النبوي والعودة من حج ، وتشييد بيت ، والوفاء بنذر ، والشفاء من مرض ، وختن الأولاد .
وإذا كان من عادة العثمانيين حين يدخلون فاتحين إحدى المدن أن يحولوا إحدى الكنائس فيها إلى جامع ليقيموا به الصلاة فورا رمزا لانتصارهم ، فقد أدى ذلك إلى تشويه سلوكهم واتهامهم بأنهم قاموا فور دخولهم بهدم أو تحويل الكنائس إلى جوامع ، بينما الحقيقة أنه خلال الحكم العثماني زاد عدد الكنائس ووصل إلى ثمان في منتصف القرن السابع عشر ، وذلك في مقابل مائتين وسبعين جامعا ومسجدا تقريبا ، تعكس تركيب السكان بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية بلغ مجموعهم تقريبا مائة ألف نسمة ، وعلى كل حال فإن ما قام به العثمانيون من تحويل كنيستين إلى مسجدين يعتبر – كما يقول الدكتور محمد الأرناؤط - في قمة التسامح إذا ما قارناه بما حدث بعد ذلك لجوامع بلغراد خلال حرب الاسترداد .
وكان كل مسجد يشتمل على كتَّاب ، وفي هذه الكتاتيب كان الشيخ يعلم أطفال المسلمين اللغة العربية ليتمكنوا من قراءة القرآن الكريم ، وبالإضافة لهذه الكتاتيب كانت المدارس العامة العليا التي أنشئت لتوفير ما تحتاج إليه الجوامع من كوادر دينية ، وقد استمر عدد هذه المدارس حتى وصل في منتصف القرن السابع عشر إلى ثمان مدارس . وفي إطار الجامع والمدرسة كانت المكتبة وما تشتمل عليه من مخطوطات للأساتذة والطلاب ، وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر كان في بلغراد بالتأكيد آلاف المخطوطات في مكتبات الجوامع والتكايا والمكتبات الخاصة . وفي المدرسة العليا كان الطالب يتعمق في علوم اللغة العربية من النحو والصرف والعروض والبلاغة وعلوم الشريعة من الفقه والتفسير والحديث والعقائد ، وبالإضافة لذلك كان هناك ما يسمى "دار القراء " التي تتخصص في القرآن الكريم ، وكان بناء الواحدة منها يحتوي على عشرين قاعة للطلاب ، بالإضافة إلى قسم داخلي يتألف من أربع عشرة غرفة ، وكان لكل طالب غرفة ومصروف خاص ، وكانت هناك أيضا دار الحديث ،ووصل عددها إلى تسع دور ، وكان ينفق عليها من طرف الأوقاف . ومع تطور بلغراد وتضخم عدد السكان فيها انتشرت أبرز الطرق الصوفية وفروعها المعروفة في العالم العربي والإسلامي من مثل البكتاشية ، والرفاعية ، والقادرية ، والنقشبندية ، ألخ .
وتجدر الإشارة هنا إلى الشاعر حسين باشا البلغرادي الذي توجد له ترجمة وافية في " خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر " حيث يصفه المحبي بأنه " واحد الدهر على الإطلاق " ،والذي عين قاضيا ، ثم انتقل إلى القاهرة وقضى بها بقية حياته إلى أن توفي في شهر رجب ( 1023 - 1614 ) ، وكما يقول بعض الدارسين لشعره ( كان شاعرا جيدا في ذلك الوقت ) ،وبالإضافة إلى الشعر برز في بلغراد عدد من العلماء كالمؤرخ ورجل الدولة فريدون بك ، وشيخ الإسلام عبد الرحيم أفندي ، وعدد من كبار العلماء " لايجاريهم أحد في الامبراطورية العثمانية " أنظر كتاب " الإسلام في يوغوسلافيا من بلغراد إلى سيراييفو" للدكتور محمد الأرناؤط نشر دار البشير بعمان الأردن ، الطبعة الأولى ص 23- 34- 37 ، 49- 51 – 54- 58 – 60 -62
وكان المسلمون الذين يشكلون أغلبية السكان .. من مناطق مختلفة ، وكان الأتراك يمثلون أقلية ، وفي مقابل هؤلاء كان السلاف الجنوبيون من البوسنة يمثلون العدد الأكثر من بين المسلمين ، ويأتي من بعدهم الألبانيون من حيث العدد ، ومن هذا يتضح أن أغلبية المسلمين في بلغراد كانوا من البلقان من البوسنيين والألبانيين ، ومع هذا فقد درجت العادة على وصف كل المسلمين في بلغراد بالأتراك لتبرير القضاء عليهم فيما جاء بعد ذلك من حرب الاسترداد . وبهذا كانت بلغراد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر مركزا من مراكز الثقافة الإسلامية .و نموذجا للمدينة الإسلامية .
وبعد حوادث قاسية جرت للمسلمين في عام 1862 أصبحت المدينة خالية من المسلمين بعد أن استمروا بها أكثر من ثلاثة قرون ، واستمرت عملية الاسترداد الحضاري الكامل حتى تمت بذلك حلقة كاملة من حلقات الإبادة البشرية للمسلمين المصدر السابق ص 44 ، 63 – 103
فهل عرفت أجيالنا المعاصرة شيئا عن ذلك ؟ ولم ؟

وما ذا يعرف العربي المعاصر عن فلسطين العربية منذ فجر التاريخ ؟ إنه لمن أخطر مواقع الغزو ذلك الذي استهدف محو ذاكرة العربي فيما يخص تاريخ فلسطين
يقول الدكتور إدوارد سعيد : ربما تكون المعركة الأكبر التي خضناها نحن الفلسطينيين كشعب دارت على حقنا في الوجود ، ومع ذلك الوجود حقنا في تملك واستعادة حقيقتنا التاريخية . ويقدم كتاب ( اختراع إسرائيل القديمة : إسكات التاريخ الفلسطيني ) للبروفسور الاسكتلندي كيث وتلام 1996 بوضوح مذهل – كما يقول إدوارد سعيد – مدى تعمد وتواصل الهجوم الصهيوني على التاريخ الفلسطيني . ويقدم وتلام صورة بالغة الإثارة عن الطمس التدريجي لتاريخ فلسطين القديمة بتاريخ مخترع إلى حد كبير لإسرائيل القديمة ، وهي في حقيقتها كيان سياسي لم يلعب سوى دور صغير في فلسطين التاريخية .
وحسب وتلام فإن فلسطين القديمة كانت موطئا لليبوسيين والكنعانيين وقدماء الفلسطينيين وغيرهم ، لكن بداية القرن الماضي شهدت إسكات هذا التاريخ وطرحه جانبا ، لكي يصبح تاريخ القبائل الإسرائيلية ، ومكن ذلك من إخراس التاريخ الفلسطيني المحلي .
ويذهب دبليو أف البرايت أحد أهم مؤرخي فلسطين القديمة في أوائل القرن الجاري إلى حد الموافقة على تدمير الحضارات الفلسطينية المحلية على يد " القوم المتفوقين " ويكتب : " يبدو في أحيان كثيرة لفيلسوف التاريخ من منظوره المحايد أن من الضروري لشعب من نوع أدنى بشكل ملحوظ ( أي الفلسطينيين الكنعانيين ) الزوال أمام شعب متفوق الإمكانات ، لأن هناك حدا لابد للتمازج العرقي إذا تخطاه أن يتحول إلى كارثة ) .
ويقول دكتور إدوارد سعيد ( مهمتنا كعرب وكفلسطينيين أن نبذل جهدا أكبر في سيرتنا التاريخية ، وذلك ليس كترف فكري لا فائدة حقيقية فيه ، أو كشيء يمكن دوما تأجيل البدء فيه ، لأننا في افتقارنا إلى تاريخ يأتي نتيجة البحث الجاهد والتأليف كقصة متماسكة أشبه بالأيتام الذين لا والد لهم أو مأوى ) الحديث الأسبق لإدوارد سعيد .
ولننظر كيف يجهل أبناؤنا تاريخ فلسطين إلى الحد الذي لا يجدون في ثقافتهم اليوم ما يقاومون به الدعاية الإعلامية التي تكرر على مسامعهم ادعاء اليهود أن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض .. وأن اليهود هم أصحاب الحق التاريخي في هذه الأرض …سم يصب في رءوسهم ، فهل حصناهم ضده بالتاريخ ؟ :
عرفت أرض فلسطين في التاريخ القديم وحتى عام 1200 ق م بأرض كنعان ، وإطلاق هذا الاسم عليها جاء فيما يسمى اليوم التوراة ، في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين ، كما أطلق هذا الإصحاح نفسه عليها " أرض فلسطين ". وفي هذه الأرض نشأ إبراهيم وأبناؤه عليهم السلام ، حتى نزح منها حفيده يعقوب عليه السلام ، هو وأبناؤه قاصدين مصر . وهنا تنقطع صلتهم بهذه الأرض حتى جاءوها غزاة بقيادة يوشع حيث استولى على أريحا وقتل جميع سكانها ، ودمرها وقومه عن آخرها ، وذلك في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وتذكر التوراة – أو ما يسمى التوراة – أن غزوهم لفلسطين صادف مقاومة باسلة عنيدة من الكنعانيين ، أو الفلسطينيين أصحاب البلاد ، ويذكر سفر صموئيل الأول 4: 2 " واصطف أصحاب البلاد للقاء إسرائيل ، واشتبكت الحرب ، فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا " ويذكر هذا السفر أيضا أن بني إسرائيل " هربوا كل واحد إلى خيمته وكانت الضربة عظيمة جدا وسقط من بني إسرائيل ثلاثون ألف رجل " .
فإذا أردنا أن نعرف بدء علاقتهم – أي العبرانيين – بمدينة بيت المقدس بالذات فإننا نجد أن هذه المدينة كان لها وجود حافل قبل أن يدخلها العبرانيون بألفي عام . فهي مدينة قديمة يرجع تاريخها إلى أكثر من ثلاثين قرنا قبل الميلاد ، وقد عاصرت حضارات كثيرة ، وكان لها مع كل منها شأن ، ونظرة عابرة إلى أسمائها التي عرفت بها في التاريخ تشير إلى تلك الحقيقة ، فهي يبوس كما ورد اسمها في سجلات الفراعنة ، وهي أوروسالم كما كان اسمها عند الكنعانيين ، وهي أورشليم كما سماها العبرانيون ، وهي يروساليم كما هي عند اليونانيين ، وهي هيروسلما أو سوليموس أو إيليا عند الرومان ، وهي القرية أو بيت المقدس أو البيت المقدس أو القدس كما سماها العرب والمسلمون تاريخ القدس للسيد عارف العارف ص 11 وما بعدها
وكانت مدينة القدس في ابتداء أمرها صحراء خالية بين أودية وجبال ، وكان أول من اختطها (ملكيصادق ) ومعناها بالعبرية ملك الصدق ، والصحيح أن ملكيصادق متأخر في الزمن عن الجيل الأول الذي عاش في هذه البقعة المباركة ، ففي أول الأمر كان المقيمون بها قبائل تعيش في حالة من البداوة الأولى ، وكان ذلك قبل أن يفكر ملكيصادق في تخطيط مدينته على أي شكل من الأشكال . وكما يذكر المؤرخون فإن أول من أقام بها بطن من بطون العرب الأوائل التي عاشت في فجر التاريخ في الجزيرة العربية .ويذكر المؤرخون أنهم كانوا يسمون اليبوسيين ، تسمية أطلقها عليهم الفراعنة كما يظهر في آثارهم ، ولقد رحل هؤلاء اليبوسيون إلى أرض مدينة القدس حوالي 3000 سنة قبل الميلاد ، واستوطنوا بها وارتبطوا بترابها ، حتى إنهم كانوا بعد ذلك أصحابها الشرعيين ، صدوا عنها غارات المصريين ، كما صدوا عنها غارات قبائل العبرانيين التائهة في صحراء سينا . ولقد نجحوا في بناء مدينتهم وعمارتها ونجحوا في صد الغزاة عنها أزمانا طوالا عند ما كانوا متحدين ، فلما تفرقت كلمتهم اشتد طمع العبرانيين فيهم مما اضطرهم إلى التحالف مع المصريين ، وطلبوا عون تحتمس الأول في القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، فلبى رغبتهم ، وساعدهم في صد غارات القبائل العبرانية ، وأدت بهم هذه الاستعانة إلى نوع من الخضوع لسلسلة من فراعنة مصر لمدة قرنين من الزمان ، ، وجدير بالذكر أن هذه الاستعانة أو هذا الخضوع لم يفقدهم كيانهم كشعب متماسك يمارس حياة خاصة ، ويحتفظ بحقه في حكم نفسه ، إذ كان المصريون يكتفون بتحصيل الجزية من أهلها .
ولما كان العبرانيون يبحثون لهم عن مستقر لهم يقيهم تيه الصحراء فإنهم استمروا في محاولتهم دخول يبوس وأخيرا وبعد لأي تمكنوا من ذلك في عهد داود عليه السلام حوالي 1049 ق م ، وهنا جاء ت بداية الوجود العبراني في مدينة القدس " يبوس " : حدث بعد أكثر من ألفي عام من وجودها أنظر تاريخ القدس للسيد عارف العارف ، والأنس الجليل بناريخ القدس والخليل لأبي اليمن مجير الدين الحنبلي .
[1][1] أنظر القدس لسامي حكيم ص 13 وما بعدها
وتؤكد التوراة – أو ما يسمي بذلك – أيضا غربة اليهود عن القدس ، ففي سفر القضاة 19: 11و13 نجد قصة رجل غريب وفد مع جماعة له إلى مشارف يبوس – بيت المقدس – ( وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جدا قال الغلام لسيده : تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها ، فقال له سيده : لا نميل إلى مدينة غريبة ، ليس أحد من بني إسرائيل هنا ) .

كل الدلائل تشير إلى أن فلسطين قد عمرها اليبوسيون العرب قبل أن يظهر اليهود في يبوس (القدس ) بألفي عام ، ثم دخل اليهود يبوس في عصر جد متأخر ، على يد داود عليه السلام واضطر أهل البلاد الأصليين إلى التعايش مع الغزاة ، ،ويؤكد المؤرخ برستيد أنه حتى في الفترة التي كان لإسرائيل فيها كيان ونفوذ في يبوس وفي عصرهم الذهبي كان ملك إسرائيل بمثابة وال على فلسطين تحت السيادة المصرية أنظر القدس لسامي حكيم ص 13 وما بعدها
ومما سبق يتبين أن داود وسليمان عليهما السلام لم يكونا مؤسسي مدينة القدس ، وإنما كانا فاتحين لها بعد ألفي ستة من وجودها ، وكانت عمارتهما لها هي كما يقول صاحب الأنس الحليل ( .. تجديد البناء القديم )
والأهم من ذلك هو إلى متى استمر الكيان السياسي لليهود في فلسطين ؟
بعد موت سليمان عليه السلام حوالي 975 ق م انقسمت المملكة إلى شطرين : شطر يسمى إسرائيل وعاصمتها نابلس دامت نحو مائتين وخمسين عاما ، وانتهت عام 721 ق م ، حيث قضى عليها ملك آشور ، ولم تقم لها قائمة بعدها ، والشطر الثاني : يسمى أورشليم ، مملكة يهوذا في الجنوب ، وقد عاشت أكثر من أختها ، وفي عام 599 ق م دمرها بنوخذ نصر وسبى جميع أهلها وأرسلهم إلى بابل ، وراح اليهود يعيشون بعد مملكتهم هذه التي استمرت ما يقرب من أربعة قرون فحسب كطائفة دينية يرأسها كاهن ، حتى ظهر المكابيون وقاموا بثورتهم واستولوا على أورشليم عام 167 ق م وظهر منهم الرؤساء والملوك . وبعد فترة وجيزة كانوا خاضعين للحكم اليوناني مرة وللروماني مرة أخرى رازحين تحت عبء التنازع السياسي والفساد الداخلي ، وذاقوا الدمار ثلاث مرات متوالية على يد الأباطرة : بومبي ، وتيطس ، وأدريانوس ، وكان أن قضي على دويلتهم الهزيلة ، ولم يقم لهم دولة أوكيان بعد ذلك خطر الصهيونية على الإسلام والمسلمين لعبد الله التل ص 23 وما بعدها.
ومما تقدم يتبين أن وجودهم بها حدث واستمر كغزاة ، تقوم العلاقة بينهم وبين أصحاب الأرض الأصليين على هذا الأساس ، كما يتبين أيضا أن كيانهم السياسي لم يقم بهذه الأرض إلا في فترة متأخرة جدا ، ولبضعة قرون لا تكاد تتعدى في عددها أصابع اليد الواحدة من بين خمسين قرنا مرت على هذه الأرض وهي مأهولة متحضرة بأهلها الأصليين .
وليس أدل على ضعف ارتباطهم بها من أن زعماء الصهيونية في العصر الحديث عندما بدأوا يفكرون في بناء وطن قومي لهم ، ساغ لبعضهم أن يتجهوا بتفكيرهم إلى بلاد أخرى غير فلسطين ، فهذا البارون هيرشي اليهودي الألماني الثري يرى أن الأرجنتين هي أصلح مكان يمكن إقامة دولة اليهود عليه ، بل إن هيرتزل نفسه كان على استعداد لقبوله في سورية أو البرتغال ، أو سيناء أو قبرص أو العريش أو موزمبيق أو طرابلس أو أوغندا أو الكونغو - أنظر القدس لسامي الحكيم ص 36 وما بعدها - لولا أن بادرت المصالح الاستعمارية إلى ربط عجلتها بالمطامع الصهيونية فتكاتفا على إحداث المأساة .

وما ذا يعرف المسلم المعاصر عن إسلامية بيت المقدس منذ فجر التاريخ ؟
لقد تحققت هذه الإسلامية منذ وجود إبراهيم عليه السلام بها ومن بعده ذريته من الأنبياء أنبياء الإسلام وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولقد أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها بأكرم وأرفع وأخلد مجموعة عرفها هذا الكون من البشر ومن الملائكة اجتمعت لأول مرة بقيادته ليلة الإسراء والمعراج ، ووضعت حجر الأساس في الوجود الإسلامي المحمدي في المنطقة ، ولقد تابع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تنفيذ هذه الغزوة الملائكية بغزوة تبوك ، وسار من بعده على الدرب أصحابه ، فأذن عمر رضي الله عنه لقائد جيشه على الشام بفتح بيت المقدس فأرسل أبو عبيدة بن الجراح – وقد عسكر بالأردن – إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها سلاما ودعوة إلى الإسلام : ( فإن شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وذراريكم وكنتم لنا إخوانا وإن أبيتم فأقروا لنا بأداء الجزية ) الأنس الجليل ج2 ص 246 وما بعدها
وبعد القتال أرسلوا إليه يطلبون الصلح على أن يعطيهم الخليفة نفسه الأمان والعهد ، وقد انتقل إليهم الخليفة عمر بن الخطاب حقنا للدم وتوفيرا للجهد ، وتوقيا من التطاول في الأمر ، وأعطاهم العهد الذي جاء به شرطان : أن لا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وأن يخرجوا منها الروم . وأغلب الظن أن الشرط الأول لم يكن محض استجابة من عمر رض الله عنه لرغبة أبداها البطريرك ولكنه كان إلهاما عمريا دفعه إلى هذا الشرط كما دفعه إلى الشرط الثاني ، ونكبة فلسطين التي نعيشها اليوم بأقسى ظروفها إنما كانت نتيجة الإخلال بهذين الشرطين ، فقد سمح لليهود ، وسمح للاستعمار بأن يدوسا بأقدامهم تلك الأرض المطهرة وتلك بداية الكارثة.
ولقد كان طلب البطريرك دليلا على عدم وجود اليهود بتلك الأرض ، ولكن اليهود تسللوا بعد ذلك من نافذة التسامح ، بل نقول من ثغور التساهل الذي كان المظهر المنحرف للتسامح الحكيم ، فقد سمح لبعض اليهود أن يكونوا بين خدام المسجد الأقصى يسرجون مصابيحه بعد أن بناه عبد الملك بن مروان ، ثم منع عمر بن عبد العزيز ذلك من بعد الأنس الجليل ج1 ص 218 وما بعدها
ولقد استمر بيت المقدس بأيدي المسلمين من حين الفتح العمري إلى سنة 492 هـ عندما استولى الفرنجة على بيت المقدس ، وقد قصدوه في نحو مليون مقاتل ، وحاصروه نيفا وأربعين يوما ، واستولوا عليه في شعبان من تلك السنة ، ولبث الإفرنج يمارسون عملية قتل المسلمين بالقدس أسبوعا ، وقتل آنذاك داخل المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف مسلم ، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وساداتهم وعبادهم وزهادهم ، وحصروا الباقين ودعوهم إلى الخروج قبل ثلاثة أيام على الأكثر ،وإلا قتلوهم عن آخرهم ، فسارع الناس إلى الخروج ، وقتل في زحام الخروج خلق كثير ، لايحصيهم إلا الله سبحانه ، ومارس الفرنجة النهب بعد أن فرغوا من القتل ، وذهب الناس مطرودين من الشام إلى العراق الأنس الجليل ص 305 وما بعدها
واستمر بيت المقدس وما جاوره من السواحل بيد الفرنجة إحدى وسبعين عاما حتى استرد البيت صلاح الدين عام 583 هـ ، ثم استرجعوه في عام 626 هـ ،وتم استرداده مرة أخرى على يد الملك الصالح عام 642 هـ .


إن المسجد الأقصى الذي يزاحمه الصهاينة ويتهددونه بأوهامهم عما يسمونه هيكل سليمان فيجب أن يعرف المسلم أن له تاريخا أقدم من تاريخ داود عليه السلام . قال الإمام أبو العباس القرطبي : يجوز أن يكون بناه الملائكة بعد بنائه البيت المعمور بإذن الله تعالى وظاهر الحديث يدل على ذلك . والإمام القرطبي يشير في هذا إلى ما رواه المحدثون عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : " قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا ؟ قال : قلت : ثم أي ؟ قال : بيت المقدس قال : قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون عاما .) أخرجه الإمام أحمد وغيره
ومن العلماء من قال: بناه آدم عليه السلام ، ومنهم من قال : بناه سام بن نوح عليهما السلام ، ومن من قال : أو ل من بناه وأري موضعه يعقوب بن إسحاق عليهما السلام . وقد تأول بعض العلماء معنى الحديث الشريف الوارد في أن بناء المسجد الأقصى كان بعد بناء المسجد الحرام بأربعين سنة على أن المراد به بناء يعقوب عليه السلام للمسجد الأقصى بعد بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة الشريفة .
والصحيح ما ذكره صاحب الأنس الجليل في تعليقه على ما تقدم بقوله : وهذه الأقوال تدل على أن بناء داود وسليمان عليهما السلام إياه إنما كان على أساس قديم لا أنهما المؤسسان له ، بل هما مجددان ، وكل قول من الأقوال الواردة في بناء المسجد الأقصى لا ينافي ذلك : على أساس أن يكون بناه الملائكة أولا ، ثم جدده آدم عليه السلام ، ثم سام بن نوح عليهما السلام ، ثم يعقوب بن إسحاق عليهما السلام ، ثم داود وسليمان عليهما السلام ، فإن كل نبي منهم بينه وبين الآخر مدة يحتمل فيها ان يجدَّد البناء المتقدمُ الأنس الجليل ج1 ص 7 وما بعدها
هذا المسجد كان موجودا قبل داود عليه السلام ، بدلالة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن هذه المنطقة كانت معمورة قبله ، وكان ممن عمرها من يعبد الله على حق من الأنبياء واتباعهم ، فهل عاش هؤلاء جميعا دون أن يبنوا لله مسجدا بالأرض التي عاشوا فيها تأسيسا كان بناؤهم أو تجديدا ؟
الصحيح أنه كان لإبراهيم عليه السلام نصيب في بناء مسجد لله في الأرض التي عاش فيها في فلسطين ، وعند ما يأتي داود عليه السلام فإننا نتوقع أن يبحث عن بناء أقامه أجداده ليجدده ، ثم بعد ذلك عندما نتدبر جمع الأنبياء للصلاة بالمسجد الأقصى في الإسراء فإننا نحس بأنهم جمعوا في المكان الذي صلوا فيه .
وإذن فالصحيح أن البيت أقدم من داود عليه السلام وأنه يمتد إلى زمن إبراهيم ثم إلى أقدم منه . إذ يكون أول بيت وضع للناس للذي ببكة وضعه الملائكة ، أو بناه آدم ، - ولا يصح افتراض أن لا يكون في هذا العهد بيت للناس إلى أن يأتي إبراهيم عليه السلام ، - ثم يكون البيت الثاني قريبا من هذا الوقت ؛ وقت آدم ، لأن ما بينه وبين البيت الحرام لا يتعدى أربعين عاما كما هو صريح الحديث الشريف ، إذن فإن ما فعله إبراهيم أو داود عليهم السلام لم يكن إلا التجديد لما تهدم بمضي الزمان .
وعلى أي حال فليس لإسرائيل اليوم أن تزعم لنفسها حقا في هذا المكان المقدس .
أولا : لأن هيكل داود وسليمان عليهما السلام ليس له أثر على الإطلاق ، بعد أن دمر أكثر من مرة وأقيم مكانه معبد الإله جوبيتر .
ثانيا : لأن المسلمين أولى بداود وسليمان لأنهما صاحبا دعوة إلى الإسلام شأن جميع الأنبياء .
ثالثا : لأن اليهود هم الذين دنسوا من قبل معبدهم . ذلك أن الملك يهواش ملك إسرائيل أغار على المدينة واستباح هيكلها وغنم ما فيه من التحف والآنية ، ثم قفل إلى السامرة ، وجاء في العهد القديم خبر وفاته على النحو المقبول في عقيدتهم ، فقيل : إنه اضطجع مع آبائه ، أي قضى غير مغضوب عليه .
ولقد دنسوه أيضا إذ قبلوا في فترة من الفترات بوضع الأصنام به ، وشاركوا في عبادتها كما تخبر بذلك التوراة نفسها .
أما المسلمون فقد كانت عنايتهم بالمسجد وتقديسهم له نابعا من شعورهم الديني العميق الأصيل بوحدة الأنبياء ووحدة الدين .
لقد وجد عمر رضي الله عنه المكان ممتلئا بالقمامة التي وضعتها النصارى فيه ، ذلك أن الملكة هيلانة عند ما زارت إيليا وبنت فيها كنيسة القيامة عام 325 م - تاريخ القدس لعارف العارف ص 38 -
جعلت مكان الصخرة مطرحا لقمامات المدينة ، وفي الفتح العمري جعل عمر يكنس القمامة بيده والمسلمون معه ، وبعد أن فرغ من ذلك صلى هناك ، وبعد أن فرغ من ذلك صلى هناك ، وهناك أقيم المسجد ، ثم جاء عبد الملك بن مروان فبنى في نفس المكان مسجد قبة الصخرة ثم أعاد بناء المسجد الأقصى ورتب له الخدم والقوام ، واستمرت عناية الدولة الإسلامية به على توالي العصور حتى مجيء نكبة فلسطين على يد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

نقف هنا لنسأل : ماذا كان عدد اليهود في فلسطين ؟
في الفتح العربي لم يكن بها أحد من اليهود . فإذا انتقلنا سريعا إلى وقت الاحتلال الصليبي عرفنا أنه لم يكن بها غير المسلمين والمسيحيين ،وأنه لم يكن بها يهودي واحد ، وعندما فتحها صلاح الدين لم يكن بها يهودي واحد كذلك .
وفي عهد السلطان محمد الرابع 1670 م كان بها من اليهود عدد لا يزيد على مائة وخمسين ، ثم إن عددهم أخذ يتزايد منذ أواخر القرن قبل الماضي مما دعا الحكومة التركية عام 1882 م إلى إصدار قانون حرمت فيه الهجرة اليهودية وشراء اليهود للأراضي ثم عدلته بعد ذلك بسبب مسعى أمريكي ، وأعطت اليهود حق الدخول إلى فلسطين والبقاء فيها لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر .
ولكن الذي حدث إثر ذلك هو أنهم دخلوا الأرض المقدسة وأقاموا بها وتكاثروا وأنشأوا الكنائس . ولما استقر الأمر للاحتلال البريطاني أخذت الهجرة اليهودية تتزايد ، ولم يكن لها شيء يبررها في غير منطق الاستعمار الاستيطاني تاريخ القدس للسيد عارف العارف ص 191 ، 236 ، وما بعدها

ومما عرضناه يظهر وفقا للحقائق التاريخية أصالة الوجود الإسلامي العربي وعراقته بهذه الأرض المقدسة وهي تثبت في الوقت نفسه عرضية الوجود الإسرائيلي بها وقيامه على الغزو و الطغيان الموقوت نسبيا ، ولم تكن العوامل التي مكنت لإسرائيل في العصر الحديث راجعة لشيء بقدر رجوعها إلى جهل المسلمين بتاريخهم وتخاذلهم في واجباتهم ، وتفريطهم في حقوقهم ، ثم إلى قيام التحالف بين الصهيونية الاستيطانية ، والمسيحية المتصهينة والاستعمار الغربي ، وهو لم يكن قط تحالفا إنسانيا ، ولكنه محض تصفية حساب تاريخي بين أوربا وبين الإسلام .


-----------------------

* عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا

نوف
22/05/2007, 10:34 PM
المقال جميل
أرجح أنه تحقيق وليس مقال ....
قرأت الجزء الأول من المقال وشدني طريقة العرض وذكر بعض الآراء خاصة لأمير البيان "شكيب أرسلان"
ولم يتسنى لي قراءة الجزء الثاني "لصغر الخط"pp\"
على العموم
بالنسبة للتارخ الهجري" بشرى سعيدة" في مدارس بلادي "المملكة العربية السعودية" نؤرخ بالهجري
لكن لم يكن هذا هدف مقالك !!
للتنويه" هل هناك فرق بين تاريخ الإسلام .... وتاريخ المسلمين ؟؟؟!
أرجح أنك هناك فرق بين المسميين كثيرًا .. وأتمنى من المختصين في سوق المربد أن يدلونني على بعض الكتاب الذي أثروا في هذا المجال

هناك أمر خطر ببالي عند قرائتي لمقالك وهو
"أن تاريخ المسلمين يشبه كثيرًا البورصة " وأعني بذلك أنه في طلوع ونزول
ألفٌ وأربعمائةٍ مرت بدايتها صفحة بيضاء تخللتها بعض النقاط السوداء
وآخرها عصر حروب صليبية وانتكاسة وسقوط وأقصد أنها غمامة سوداء تخللها بياض ينبؤ بأمل وهو أن نصر الله قريب

طارق شفيق حقي
25/05/2007, 07:00 PM
"أن تاريخ المسلمين يشبه كثيرًا البورصة " وأعني بذلك أنه في طلوع ونزول


أرى ان نميز بين تاريخ الحكام والخلفاء وؤرساء الدول , وفتنهم ودسائسهم وانقلاباتهم وانقسامهم, وبين تاريخ الحضارة الإسلامية
فالحضارة نتاج شعب كامل لا أشخاص كالخلفاء والحكام

الحضارة الإسلامية كانت زاهية وستبقى , رغم ظهور الكثير من الفتن والحروب والتي كانت تنشأ نتيجة اختلافات سياسية وحب السلطة من قبل البعض

واليوم نرى استغلال الدين للوصول لغايات سياسية من قبل البعض

فتستغل المذاهب دون استثناء من قبل البعض للمحافظة على الكرسي, فيشوه التاريخ لخدمة هذه الغاية, وتسن الفتاوي لخدمة هذه الغاية, وتحدث الحروب الطائفية خدمة لهذه الغاية,
بينما عرف عبر التاريخ زهد علماء المسلمين والفقهاء بالمنصب وعرفت القاعدة : من طلب الولاية عزل
وأخص من كان على هذا المذهب آل البيت , فجمهورهم واسع وأقوالهم تصل للقلوب وتنتشر, لكن نرى هناك من استغل حب الناس لهم للوصول للمنصب الدنيوي, ونرى تقديس مذاهب أخرى في ذات الهدف المحافظة على المنصب

الحضارة الإسلامية غير تماماً وهي بعيدة عن هذه الساحات

لها ساحات خاصة تولد فيها الأفكار , وتنتشر في المجتمع لخدمته ورقيه فترى الخلافة بين الناس قبل أن تكون في الحكم
وتغير في الخليفة اكثر كذلك حين تصبح درجة بين الناس وعرفاً سائداً , ولذلك نرى من عرف هذه المور من الخلفاء يساير المجتمع وعاداته وتقاليده كعبد الملك بن مروان الذي طلب من الشعراء أن يمدحوه بما يعجب الشعب , بأنه إمام عادل يقرأ القران ويصلي كثيراً , ولو وجدنا في هذا بعض سياسة منه لكنه سياسة تؤكد قوة المجتمع وتأثيرها على الخلفاء

واليوم مشكلتنا في ضعف المجتمع قبل الحكام

ولو صلح المجتمع لصلح الحاكم.