طارق شفيق حقي
04/04/2007, 01:09 AM
محنة التاريخ الإسلامي
(2-3)
بقلم :أد يحيى هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com
التشويه
اتخذ الغزو الثقافي في مجال التاريخ كما ذكرنا في مقال سابق : ثلاثة اتجاهات ، اتجاها لتجميل الصورة - الشائهة أصلا- لتاريخ الأعداء واتجاها إلى تشويه مالا يمكن محوه من تاريخنا ، واتجاها إلى المحو ، حيث يكون ذلك ممكنا
و نتحدث هنا عن الاتجاه الثاني : في تشويه مالا يمكن محوه ، حيث نجده في تاريخ الصحابة ، وتاريخ الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والحملة الفرنسية أيضا .
ففي تاريخ الصحابة : بدأ الغزو هنا بالتركيز على الصحابة والتابعين ، كأنما لم يجد الغزاة مجالا يكتبون فيه بحوثهم الرشيقة ، أو مقالاتهم الرصينة أو قصصهم الجذابة إلا فترات الفتنة التي لا تتعدى بضع سنين هنا أو بضع سنين هناك :
إنهم يكتبون عن " الفتنة الكبرى " ، ويهمشون السيرة النبوية بجعلها أساطير كأساطير اليونان، ويكتبون عن " الحسين ثائرا " أو ثأر الله " ، ويكتبون عن عليّ رضي الله عنه : " إمام المتقين" ، فماذا يكون محمد صلى الله عليه وسلم إذن ؟ ويكتبون عن يزيد ، والحجاج .. وقرأناهم ، واستمتع بعضنا بهم..وانزلق بعض رجال الدعوة الإسلامية – وهذا هو موطن الخطر – ووقعوا في الفخ ، وصاروا يوجهون سهام نقدهم إلى فترات التاريخ الإسلامي ، ولا يجدون فيه – انسياقا مع هذا المخطط - فترة تستحق الاحترام غير الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم ، أو بعضهم في بعض الأحيان . فسهلوا على الغزاة اقتحام بقية الحصون . وصار المسلم المعاصر يشعر بالعار أمام تاريخه الطويل .وجاء العلمانيون – أخيرا – ليحصدوا الثمار قائلين : ها لقد فشل الإسلام تاريخيا، فعليكم أن تواروه التراب .
لو كنا على وعي كاف بأبعاد المعركة لوقفنا جميعا ضد هذا التيار ، ودافعنا عن الصحابة ، من منطلق إيماننا واستنادنا إلى ما هو أقوى من رواياتهم المكذوبة بحكم المنهج العلمي الصحيح .
فالله سبحانه وتعالى يقول : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )، ويقول : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) ، ويقول : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) ،ويقول ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، ) ، والمراد بمن معه – عن ابن عباس رضي الله عنهما – من شهد الحديبية ، أهل بيعة الرضوان ، الذين بايعوه تحت الشجرة ، وكان عددهم 1115 صحابيا . وقال جمهور العلماء : المراد بهم جميع أصحابه صلى الله عليه وسلم . وفي الصحيحين ( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وروى الترمذي بسنده عنه صلى الله عليه وسلم قوله : ( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ،فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ) .
. ويقول صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ولا أعلم له علة .
وفي الصحيحين ( خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ،وقد جمعهم الله تعالى في آية واحدة هي قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ، ولا يرضى الله إلا عمن علم حسن خاتمتهم ووفاتهم على المحجة البيضاء
وفي قوله صلى الله عليه وسلم ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) نجد طائفتين من الأئمة والعلماء : من يستشهدون به على فضل الصحابة .
ومن يحكمون بضعفه – أو بوضعه – لكن بعض هؤلاء يقبل معناه ،استنادا إلى حديث آخر صحيح أخرجه مسلم بسنده عن أبي بردة عن أبيه قال : صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء ، قال فجلسنا فخرج علينا فقال ما زلتم ههنا ؟ قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلى معك العشاء ، قال أحسنتم أو أصبتم . قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، فقال : النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )
وممن استشهد بحديث ( أصحابي كالنجوم ) ابن عبد البر في كتابه التمهيد ج 4 ص 263- 267 بعد حكايته خلافا بين ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم في حكم غسل رأس المحرم : ورجوعهما في ذلك إلى أبي أيوب الأنصاري ، وأخذهما بما نقل أبو أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال ابن عبد البر : ( وهذا يبين لك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : أصحابي كالنجوم ) هو على ما فسره المزني من أهل النظر أن ذلك في النقل ، لأن جميعهم ثقات مأمونون عدل ، فواجب قبول ما نقل كل واحد منهم ، وشهد به على نبيه ) .
وفي تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ج10ص155 –156 بعد شرح حديث" أنا دار الحكمة وعلي - أي ابن أبي طالب رضي الله عنه - بابها " أي الذي يدخل منه إليها ، وأنه لا يعني أن عليا بابها الوحيد يقول : ( ومما يدل على أن جميع الأصحاب بمنزلة الأبواب قوله صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " )
وجاء في المغني لابن قدامة المقدسي ج 3 ص 269 بعد أن ذكر قضاء الصحابة في بعض أحكام الصيد في حالة الإحرام : ( ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم ) وقال ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) ولأنهم أقرب إلى الصواب وأبصر بالعلم فكان حكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي ).
وقال القاري في شرح قوله صلى الله عليه : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به ..كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) – فيما نقله عنه المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي ج10-ص196 : ( والمراد بالأخذ عنهم التمسك بمحبتهم .. وهو لا ينافي أخذ السنة من غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) .
أما الحافظ ابن حجر العسقلاني فبعد أن يذكر أوجه الضعف في سند الحديث يذكر ما قاله الإمام البيهقي في صحة معناه ، لتطابقه مع معنى الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم بلفظ ( النجوم أمنة أهل السماء ) إلخ : ثم يقول : قلت : صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة ، وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض والله المستعان اهـ
في موقع الصدر الأول بين المثالية والواقعية يخوض الخائضون في اختلاف الصحابة ، ويمارسون ما يمارسون من تشويه التاريخ الإسلامي
ونذكر هنا ردا على ذلك ما روي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول : ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة " ، ويقول الإمام الخطابي في غريب الحديث : والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام : الأول في إثبات الصانع ووحدانيته وإنكاره كفر ، والثاني في صفاته ومشيئته وانكارهما بدعة ، والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها ؛ فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء ، وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة . انتهى .
و أخرج الخطيب عن هارون الرشيد قوله لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب يعني مؤلفات الإمام مالك ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة . قال يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكل على هدى وكل يريد الله تعالى. أهـ من كشف الخفاء .
يقول الإمام ابن حجر : ( اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة أنه يجب على كل أحد تزكية جميع الصحابة ، وإثبات العدالة لهم ، والكف عن الطعن فيهم ، مع الثناء عليهم فقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز ) . وقد اعتبر علماء المسلمين – ومنهم الإمام مالك رضي الله عنه – أن القدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح في الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتلفيق الروايات في مثالبهم وخلافاتهم لا يعدو أن يكون القصد منه الرسالة المحمدية ،والذي جاء بها ، والذي جاء فيها .
ونحن نقول : - وبناء على ما تقدم من تحقيق منهجي في مكانة الصحابة يصبح - على المسلم أن يرفض أي رواية تاريخية تخالف ذلك لأنها كاذبة في منهجه العلمي والإيماني معا
إنه من الغريب أن بعض هؤلاء الذين يشككون في الصحابة يتساهلون إلى أبعد حد في قبول بعض أخبار التاريخ ، وقد يكون نبأ من فاسق ، وهو الأمر الذي جر الويلات في طعن تاريخنا في الصميم .
وإنه ليغيب عن الكثير منا أن التاريخ الإسلامي لم يكن يكتب في حينه ولكن في ظل الدولة الجديدة ، وقد تولى كتابته نماذج مختلفة من المؤرخين ، يتباينون في اتجاهاتهم ، ودوافعهم ، ومهم مؤرخون ثقات ، أمثال ابن جرير الطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، وقد وضع هؤلاء لأنفسهم منهجا علميا معلنا : هو أن يذكروا أسماء الرواة الذين ينقلون عنهم ، وأن يذكروا الأخبار كلها من مختلف المصادر ، ثم يتركون لمن بعدهم أن يميز بين الصحيح وغير الصحيح .
ثم لحق التشويه بمنهج هؤلاء ممن جاء بعدهم حيث ذكروا رواياتهم بعد أن جردوها من الأسانيد ، وضموا الروايات بعضها إلى بعض للاختصار ، أو لأغراض خاصة ، فاختلط الحابل بالنابل ، وأصبح من الصعب على قرائهم أن يفرقوا بين روايات الثقات ، وروايات أصحاب الأهواء ، فنشأ من ذلك ترديد لكثير من الأخبار التي اختلقها أعداء الإسلام ، ووصل الأمر – حديثا - إلى نقل الأخبار من مراجع السمار ، كالذي انساق إليه الكتاب المحدثون من الأخذ من كتاب " الأغاني " لأبي الفرج الأصفهاني ، واعتباره مصدرا للتاريخ ، ودرة للتراث !!
وإن المرء ليستغرب من هؤلاء المحدثين لو أنهم كانوا يهدفون إلى متعة البحث ، أو إلى متعة الفن ، أو إلى متعة الصراع بين الحق والباطل ، ( الدراما ) فقد كان أمامهم متسع لا يلتقون فيه بالشبهات ، ولا يحركون فيه مواجع المسلمين ، ولا يدفعونهم إلى تأجيج نار الثأر ، وتحريك عوامل الفرقة والتمزق ، لقد كانت أمامهم : حروب الردة التي اشتعلت في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحروب مدعي النبوة من أمثال : الأسود بن كعب بن عوف العنسي ، ومسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خالد الأسود ، وذي التاج لقيط ين مالك الأزدي .
وفي حروب الدولة الإسلامية مع فرقة الراوندية التي ابتدأ خروجها منذ أواخر الدولة لأموية وامتدت في عهد المنصور : وقد كانوا يطوفون بقصره قائلين ( هذا قصر ربنا ) فلما صدهم عن ذلك ثاروا عليه وحاربوه .
وفي الحرب البابكية التي استمرت أكثر من عشرين عاما ، من عهد المأمون ، (201) هـ إلى عهد المعتصم (223) هـ ، وكانت حربا فارسية ضد الإسلام ، تحالفت في الوقت نفسه مع الدولة البيزنطية .
وفي حروب المسلمين مع الدولة الرومانية التي لم تهدأ قط منذ ظهور الإسلام ، مرورا بالحروب الصليبية إلى نكبة الأندلس ، إلى العصر الحاضر حيث تعتبر أوربا نفسها وريثة تلك الدولة الرومانية ، في ثأرها ضد من أزاحوها من جنوب البحر الأبيض وشرقه . وحيث تعتبر أوربا نفسها في صراع مستمر مع الإسلام الذي أزاحها من هذه المناطق .
في كل ذلك وفي غيره مجالات لا تنفد لمن يريد استنطاق التاريخ دروس الحق والخير والجمال . . لكن أولئك يجدون أنفسهم مزنوقين في حوادث الفتنة بين الصحابة والتابعين لأغراض لا تخفى على أحد .
وأخيرا جاءت الطبعة الأخيرة من المحاربين للإسلام ليقولوا : ( إن التجارب التاريخية – في الحكم الإسلامي – لم تكن إلا سلسلة طويلة من الفشل .. )
ونحن نقول : إنه إذا كان من المسلم به أن عصر الخلفاء الراشدين كان هو الأقرب إلى مثالية النظام الإسلامي ، فإن هذا لا يعني أنه كان عصرا عقيما لا ينجب ، ولكن يعني أنه - وبالنظرة العلمية أيضا – قابل للتكرار ، وفقا لقانون السبب والنتيجة ، فكلما حصل السبب كان لابد للنتيجة أن تحصل ، وليس في الأمر خصوصية فرد ، أو معجزة عصر ، ولكن حيث يتوفر القبول للنظام الإسلامي والرغبة فيه يظهر الإنسان المشابه والعصر المشابه لعصر الخلفاء الراشدين .
ومهما يكن من أمر فإنه ليصح القول بأن النظام الذي يثمر أبا بكر وعمر ولو على سبيل الندرة المطلوبة لهو أفضل – تاريخيا وعمليا - من الأنظمة التي لم تثمر شيئا من ذلك ، إن الندرة – مع كونها كذلك – تظل مقياسا تقاس به طبيعة الأنظمة ، ومدى ما تصل إليه في مدارج الصلاح أو الفساد على مدى التاريخ .
فالنظام الذي يكون أعظم ما يصل إليه – بالندرة – أن يقدم شخصية عمر غير النظام الذي يكون أقصى ما يصل إليه شخصية الإسكندر ، أو شخصية هتلر ، أو شخصية كلينتون ، أو بوش ، أو توني بلير ، أو شخصية " مايكل جاكسون " المغني المخنث ذائع الصيت ، مع دخول أولئك جميعا في خانة الندرة المطلوبة ، لكن لكلِّ دلالته على فضيلة عصره أو خسته.
إن الأمويين عموما كما يقرر المؤرخون أصحاب دعوة إسلامية : تمرنوا على قيادة الجيوش ، وحكم الناس ، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان أكثر عماله منهم ، وقد امتد ملك الإسلام في عهدهم من سواحل الأطلنطي إلى بلاد الصين ، ومن جبال القوقاز ، إلى خط الاستواء وما وراءه . ودخلت الإسلام في عهدهم أمم الأرض كلها : من العرب والسريان ، والفرس ، والكلدان ، والمصريين ، والنوبيين ، والبربر، والسودان ، واليونانيين ، والهنود ، والترك والتتار ، وأمست آي القرآن تتلى في سمرقند كما تتلى في قرطبة ، وكاد الإسلام أن يستقر في جنوب فرنسا بعد أن اجتاحها .
هذا الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ينصبونه هدفا لطعناتهم للتاريخ الإسلامي وإفراغه من محتواه يقول عنه الدكتور عمر فروخ : ( لما جاء الحجاج إلى العراق كانت حروب الفتن قد خربت الدور ، وطمرت الأفنية ، فخلت المزارع من فلاحيها ، وهجر معظم أهل القرى قراهم ، فلم يبدأ الحجاج إصلاح البلاد وتنظيم الإدارة بإصدار المراسيم ، والقوانين ، ولكنه أعاد بناء البلد وأصلح الطرق ، وأعاد حفر الأقنية ، بعدئذ أمر أهل القرى بالرجوع إلى قراهم ، وأخذ بجمع الضرائب وإرسال الجيوش إلى الفتوح ، فانتشر الأمن في طول البلاد وعرضها ، حتى كانت المرأة تنام وحيدة في بيتها ، وباب بيتها مفتوح ، ولما مات الحجاج بن يوسف خلف مصحفا وسيفا ، وعشرة دراهم فضة . )
وماذا عن الدولة الأموية بالأندلس ؟ ألم تكن هي التي استقرت هناك ثم أرسلت الحملة إثر الحملة لفتح فرنسا ، حتى تمكنت على يد الوالي القائد عبد الرحمن الغافقي – الذي عين واليا على الأندلس من قبل هشام بن عبد الملك عام 112 هـ – من دخول فرنسا وفتح النصف الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر والاستيلاء على بواتييه وإن وقعت هزيمته فيها والخروج منها بعد ذلك ؟
وما ذا عن الدولة العباسية ؟ لا خلاف على أن كانت جماع التقدم البشري شعرا وأدبا وعلما دينيا وعلوما دنيوية ، وسياسة ، وقوة ، وهيبة ، واتساعا ، ومستوى معيشة أصبح يرمز إليها في وجدان الغرب بعالم ألف ليلة وليلة . يقول الأستاذ محمد كرد علي في كتابه عن الحضارة الإسلامية : ( في القرون التي كانت فيها العرب تنعم بلذائذ العقل والعمل والمال وتأخذ من مسرات الحياة الفاضلة بأوفر نصيب ، ويهاب سطوتها البدو والحضر ، وتؤلف أمة متحضرة وحكومات ناهضة ، كان الغربيون – بمواريثهم اليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية – متوحشين جاهلين لا يعرفون الترف ، ولا يتذوقون عيش الرفاهية ، لا أمن ولا إدارة ، ولا ملوك يعرفون واجبهم في إقامة العدل ، وتوطيد الأمن )
وما ذا عن الدولة العثمانية المفترى عليها ؟ إن هذه الدولة – كما يقرر المؤرخون المتخصصون ومنهم أد أحمد عبد الرحيم مصطفى – استطاعت أن تعيد لدار الإسلام حضورها وهيبتها ومنعتها بعد ما لحق بها من التفرق والانحسار ، وأن تحمي حياض المسلمين من البرتغاليين الذين غزوا شرق الجزيرة العربية توطئة لدخول البحر الأحمر والزحف إلى مكة المكرمة وهدم الكعبة .
وظل العثمانيون طوال ستة قرون الدرع الواقية للأمة الإسلامية ضد أطماع الاستعمار الأوربي ، وكانوا الذين فتحوا باسم الإسلام مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، وأطلقوا عليها اسم إسلامبول ، ومنها انطلقوا يرفعون راية الإسلام ، في قلب أوربا : في يوجوسلافيا ، وبلغاريا ، وألبانيا ، ورومانيا ، واليونان .
وكان العثماني يعتبر امبراطوريته التي ما لبثت أن ضمت كل المراكز الإسلامية الكبرى وكأنها الإسلام ذاته ، بحيث أصبح الإسلام في العهد العثماني – وفي أوج قوة الدولة – على مستوى رفيع من الأهمية والنفوذ .
في تلك الدولة – كما يقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى - تغلغل الإسلام في كيان الأمة حتى لم يعد لمصطلح " عثماني " مدلول قومي ، وبحيث ظل العثمانيون حتى القرن التاسع عشر يعتبرون أنفسهم مسلمين في المحل الأول ، وكان الإسلام هو الشرط الأساسي للتمتع بالسلطة والامتياز .
ولم يكن لفظ " تركي " يستعمل في أوج العصر العثماني إلا قليلا للإشارة إلى " التركمان " ثم بعد ذلك إلى الفلاحين الخشنين الجهلة ، الذين يتكلمون اللغة التركية ، ويقطنون قرى الأناضول ، وحتى القرن التاسع عشر لم يتخذ التركي لقب تركي .
وحين استعمل الأوربي هذه الكلمة كان يعني في الواقع " مسلما أو كافرا " ، ويشهد التاريخ بأن الدولة العثمانية كانت حتى قبل توسعها في العالم العربي تطبق الشريعة الإسلامية بدلا من القانون البيزنطي القديم في المناطق التي لا يجد سكانها صعوبة في فهمها ، ثم ما لبثت بعد أن استقرت في استامبول عام 1453م أن أخذت بالقوانين الإسلامية دون غيرها حتى انهيارها في الحرب العالمية الأولى .
ورغم أن السلطان العثماني كان يتمتع بسلطة لا يقيدها قانون مدني إلا أنه لم يكن بذلك حاكما مطلقا كما يقال ، وذلك لأنه لم يكن ليستطيع خرق الشريعة الإسلامية ، علنا على الأقل ، ولم يكن يتمتع بالجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بالمعنى الصحيح لهذا المصطلح لتقيده الأساسي بالشريعة الإسلامية ، وكانت القوانين التي يصدرها لا مفر من أن تكون متفقة مع القرآن والسنة والمذاهب الفقهية الأربعة .
ومنذ أواخر القرن الخامس عشر كان السلاطين قد أقاموا هيئة من أهل العلم الفقهاء والتي كان رؤساؤها شيخ الإسلام ، وكبار القضاة ، يستشارون فيما يمس شئون الدولة الهامة ، وكانت مشروعات القوانين تعرض على شيخ الإسلام قبل إقرارها لكي يدرس مدى مطابقتها للشريعة الإسلامية ، وكان هو المختص بأن يصدر الفتوى - قبل إعلان الحرب – بأن أهدافها لا تتعارض مع الدين ، كما كان له الرأي في علاقة الدولة بالدول غير الإسلامية وقوانين الضرائب ، ولم تكن هذه الإجراءات صورية ، فكثيرا ما أدى رفض المفتي إلى إرغام السلطان على العدول عن مشروعاته ، بل إن تصريح المفتي بأن السلطان لا يحترم مبادئ الشريعة يعني مباشرة انه غير صالح لتولي الحكم ، وكان ذلك كفيلا بالتمهيد لخلعه . ولم يكن هذا النفوذ الشرعي محاصرا في شخصية المفتي الأكبر ، أو شيخ الإسلام ، وإنما كان يمثل القاعدة الشعبية للدولة ، إذ أنها حرصا منها على المحافظة على الشريعة أبدت اهتماما رفيعا بالفقهاء الدينيين الذين أدخلتهم في جهاز الدولة .. ، ومن ثم كان الوزراء العثمانيون الأوائل من الفقهاء ، وما لبث تنظيم الفقهاء أن امتد إلى جهاز الدولة بأسرها بحيث تطرق إلى أدنى المستويات في الولايات ، فقد كان كل سنجق يضم قضاة ومفتين لابد من استشارتهم في كل المسائل التي تتعلق بالشريعة ، وكانت أحكامهم بمثابة قوانين لا يحد من فعاليتها سوى الرجوع إلى استامبول.
ومن التشويه ما يشاع ضد الدولة العثمانية من أن تعصبها للإسلام أدى بها إلى اضطهاد المسيحيين ، وذلك بغرض تكريس النهج العلماني في البلاد الإسلامية ، وغلق باب التفكير في إعادة هيمنة الإسلام على الدولة ، ويرد الأستاذ الدكتور أحمد طربين استاذ التاريخ الإسلامي بجامعة دمشق على ما جاء من ذلك بكتاب " أزمة الفكر ومشكلات السلطة السياسية " لمحمد مخزوم نشر بيروت عام 1968 ، فيقول : ( إن عديدا من المؤرخين المنصفين يرون أن الدولة العثمانية حافظت على أملاكهم وحرية عبادتهم وكنائسهم ، وفتحت لهم أوسع أبواب العمل الحر في الزراعة والصناعة والتجارة . فانتظموا في سلك الحرف المختلفة على قدم المساواة مع زملائهم المسلمين ، وكانوا معهم في تعاطف وود ، بل إنهم برزوا في ميدان التجارة الخارجية لصلتهم مع الأوربيين ، وتكونت منهم طبقة بورجوازية غنية ، وتشهد بذلك سجلات المحاكم الشرعية في مختلف الحواضر العربية ) أنظر المجلة العربية للعلوم الإنسانية التي تصدر عن جامعة الكويت العدد 31 ص 269
ومن السهام الهدامة الموجهة ضد تاريخنا في مجمله – وفي سياق تقويم الدولة العثمانية بالذات – ما يجري من محاكمة هذا التاريخ باسم مذاهب سياسية محدثة كالقومية والوطنية ، ومن ذلك القول بأن مصر لم تعرف الاستقلال الوطني والحكم بيدي مصري منذ عشرات القرون إلا بعد الثورة المصرية عام 1952 .
ويرد على هذا أصحاب هذا القول : بأن جميع الشعوب كانت كذلك إلى عهد قريب ، انجلترا وفرنسا ،وإيطاليا وألمانيا إلخ ، ونقول لهم ما قاله مارستون بيتس في كتابه ( الانفجار السكاني ) وهو بصدد تقسيم البشر إلى أنواع ، ومقاييس هذا التقسيم : هل هو العنصر أو السلالة ، أو الجغرافيا ، أو الثقافة ؟ حيث يقول : ( كلما أمعنا في التفكير في هذا الأمر ازداد غرابة في نظرنا ، " فالحكومة الوطنية " هي اختراع حديث العهد من الوجهة التاريخية . ويحمل الناس أحيانا الثورة الفرنسية وما تلاها من المغامرات النابليونية وزر هذا الاختراع .
أما إيطاليا وألمانيا فلم تظهرا على المسرح كأمتين إلا في عام 1870 مـ
ومما لا ريب فيه أن أمما كثيرة مثل فرنسا وانجلترا كان لها تاريخ عريق في السيادة الوطنية على مناطق لا تكاد تختلف عن حدوده الحالية ، ولكن هذا الأمر يبدو نتيجة لسلسلة من الأحداث التاريخية والجغرافية أكثر منه ظاهرة وطنية .
ومن جهة أخرى فليست هناك دولة وطنية تطابق مجموعة عنصرية واحدة .
وهناك عدد من الأمم متجانسة السكان تقريبا من وجهة النظر العنصرية ، ولكنها لا تمثل في الحقيقة إلا شطرا صغيرا من العنصر الذي يعيش فيها ، لأن القسم الأعظم من الأشخاص الذين ينتمون إلى ذلك العنصر ينتشر ما بين الأمم الأخرى .
ولقد أصبحت الخصائص الوطنية مؤخرا من المواضيع التي يوليها علماء الأجناس البشرية كل اهتمام في دراساتهم ، ويبدو أن فكرة " الرجل الإنجليزي " و" الرجل الإمريكي " أو الرجل الألماني " أصبحت الآن حقيقة واقعة ، لا تختلف بشيء عن فكرة وجود عنصر خاص أو حضارة قبلية ) الانفجار السكاني ص 79-80
والمتأمل في هذه الحقائق يجد أنه من الخطأ والظلم معا محاكمة التاريخ الإنساني السابق على هذه المفاهيم الوطنية أوالعنصرية ، وبخاصة لو أدركنا بخصوص الحضارة الإسلامية أن أبناءها كانوا في مرحلة حضارية قد تجاوزت من الناحية القيمية هذه المفاهيم ، ولو عرضت عليهم لرفضوها كما رفضوا الشعوبية ، والتجزئة ، والقبلية والعنصرية ، استمساكا منهم بالأفق الأسمى المفتوح أمامهم بتعاليم لإسلام ، والذي يطبق مفهوما ساميا من العالمية ينبني على الأخوة في الإسلام .
مهما يكن من أمر فإن أحدا لا ينكر أن النظام الإسلامي لم يصل قط إلى مرتبة التطبيق الكامل الذي يحلو لبعض العلمانيين أن يحاكموه عليه
.وهكذا الأمر في كل الأنظمة عند التطبيق وطنية أو قومية أو ديموقراطية أوغيرها :
على أن ذلك لا يحسب على الإسلام ضد صلاحيته التاريخية ، ولكنه يحسب له باعتباره هدفا خالدا لهذا التطبيق في سياق التاريخ .
إن سرا عظيما من أسرار بقاء الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان يكمن في أنه يعلو دائما فوق كمال التطبيق ، ليظل مثلا أعلى تسعى البشرية إلى الاقتراب منه وتجاهد في الوصول إليه.
إن أي نظام – في التطبيق – لا يجد التطبيق الأمثل الأكمل ، حتى هؤلاء المبهورون بنظم الغرب لا يجسرون على القول بأنها نظم شاهدت اكتمال التطبيق ، سواء النظم الديموقراطية ، أو الاشتراكية أو العلمانية ، وهاهو فوكوياما في مقاله الأخير وفي معرض دفاعه عن الديموقراطية الليبرالية يقرر أن عجزها التطبيقي في بعض المواقع لا يدل على فشلها . ويقول روجيه جارودي الفيلسوف الفرنسي الذي دخل في الإسلام : ( لقد أطلق مؤرخونا بحق على الأعاصير العاصفة – مثلا – التي بناها تيمورلنك بسبعمائة ألف جمجمة بعد احتلاله أصفهان : اسم الغزوات البربرية .
ولكن مما يدعو إلى العجب أن هذه التسمية تتغير حينما يقوم الأوربيون بمثل هذه الغزوات ، فماذا نقول إذن عن إبادة الهنود الحمر في أمريكا على يد الفاتحين الأوربيين أصحاب المدافع ؟
وما ذا نقول عن تخريب أفريقيا بانتزاع عشرة ملايين إلى عشرين من سكانها السود ، وهذا يعني أن عدد الضحايا بلغ مائة مليون إلى مائتين إذ كان أسر كل أسير يكلف عشرة أفراد ؟
وماذا نقول عن مذابح آسيا وحرب الأفيون والمجاعات التي فتكت بملايين الهنود بفضل الاستعمار وفرض الضرائب ؟
وما ذا نرى في ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية ؟
وماذا نرى في حرب فيتنام ؟
وماذا نرى في تشريد الشعب الفلسطيني ليحل محله شذاذ الآفاق من اليهود والصهاينة؟
وماذا نسمي النظام العالمي للسيطرة الغربية وقد أنفق – في عام واحد – هو عام 1980 – أربعمائة وخمسين مليارا من الدولارات على التسليح ؟ وتسبب في العام نفسه في موت خمسين مليونا من البشر في العالم بسبب المجاعة ولعبة المبادلات التجارية الظالمة ؟
وهكذا يعتبر الغرب – كما يقول روجيه جارودي – إلى أبد الآبدين أكبر مجرم في التاريخ .
ويذهب إلى هذا التقدير أيضا نعيم تشومسكي في كتابه " ماذا يريد العم سام " ترجمة عادل المعلم
ولذلك فإننا نقول للمسلمين بعامة - والدعاة منهم بخاصة – حذار ، حذار من الوقوع في الفخ ، حذار من مسايرة النقد الأعمى للتاريخ الإسلامي . إن تاريخنا هو ذاتنا في الماضي ، وهو قلعتنا في الحاضر ، وهو زادنا نحو المستقبل .
إن من حقنا أن ننظر إلى تاريخنا بعين الفاحص ، ونقد المحقق ، ووعي المتبصر ، ولكن من واجبنا أن تكون عيننا الأخرى على مؤامرات الغزو الثقافي ، ومن أهم أهدافه اقتلاعنا من جذورنا الإسلامية عن طريق تشويه تاريخنا الإسلامي .
وإذا كان لأحد أن يتساءل : لماذا ينكر الجاحدون مجد الإسلام وقوة نظامه ، أو يتعمدون انتقاء الروايات الضعيفة المتهافتة من كتب الأسمار والحكايات ، ويتركون الروايات الدقيقة الصحيحة التي خدمها رجال الحديث – مثلا – على أعلى مستويات النقد ؟ فالجواب على ذلك بسيط : إنها العمالة في عملية الغزو الثقافي للإسلام ، ولكن وبالإضافة لذلك – فإن الأمر كما يقول الأمير شكيب أرسلان : ( هذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه وطعن آبائه بأنهم كانوا سافلين وأنه يبرأ منهم .. لا يصدر إلا عن الشخص الخسيس ، وضيع النفس ، أو عن الذي يشعر بأنه في وسط قومه دنيء الأصل ، فيسعى هو في إنكار أمته بأسرها ، لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ، ليس له نصيب من تلك الأصالة ) .
(2-3)
بقلم :أد يحيى هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com
التشويه
اتخذ الغزو الثقافي في مجال التاريخ كما ذكرنا في مقال سابق : ثلاثة اتجاهات ، اتجاها لتجميل الصورة - الشائهة أصلا- لتاريخ الأعداء واتجاها إلى تشويه مالا يمكن محوه من تاريخنا ، واتجاها إلى المحو ، حيث يكون ذلك ممكنا
و نتحدث هنا عن الاتجاه الثاني : في تشويه مالا يمكن محوه ، حيث نجده في تاريخ الصحابة ، وتاريخ الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والحملة الفرنسية أيضا .
ففي تاريخ الصحابة : بدأ الغزو هنا بالتركيز على الصحابة والتابعين ، كأنما لم يجد الغزاة مجالا يكتبون فيه بحوثهم الرشيقة ، أو مقالاتهم الرصينة أو قصصهم الجذابة إلا فترات الفتنة التي لا تتعدى بضع سنين هنا أو بضع سنين هناك :
إنهم يكتبون عن " الفتنة الكبرى " ، ويهمشون السيرة النبوية بجعلها أساطير كأساطير اليونان، ويكتبون عن " الحسين ثائرا " أو ثأر الله " ، ويكتبون عن عليّ رضي الله عنه : " إمام المتقين" ، فماذا يكون محمد صلى الله عليه وسلم إذن ؟ ويكتبون عن يزيد ، والحجاج .. وقرأناهم ، واستمتع بعضنا بهم..وانزلق بعض رجال الدعوة الإسلامية – وهذا هو موطن الخطر – ووقعوا في الفخ ، وصاروا يوجهون سهام نقدهم إلى فترات التاريخ الإسلامي ، ولا يجدون فيه – انسياقا مع هذا المخطط - فترة تستحق الاحترام غير الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم ، أو بعضهم في بعض الأحيان . فسهلوا على الغزاة اقتحام بقية الحصون . وصار المسلم المعاصر يشعر بالعار أمام تاريخه الطويل .وجاء العلمانيون – أخيرا – ليحصدوا الثمار قائلين : ها لقد فشل الإسلام تاريخيا، فعليكم أن تواروه التراب .
لو كنا على وعي كاف بأبعاد المعركة لوقفنا جميعا ضد هذا التيار ، ودافعنا عن الصحابة ، من منطلق إيماننا واستنادنا إلى ما هو أقوى من رواياتهم المكذوبة بحكم المنهج العلمي الصحيح .
فالله سبحانه وتعالى يقول : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )، ويقول : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) ، ويقول : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) ،ويقول ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، ) ، والمراد بمن معه – عن ابن عباس رضي الله عنهما – من شهد الحديبية ، أهل بيعة الرضوان ، الذين بايعوه تحت الشجرة ، وكان عددهم 1115 صحابيا . وقال جمهور العلماء : المراد بهم جميع أصحابه صلى الله عليه وسلم . وفي الصحيحين ( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وروى الترمذي بسنده عنه صلى الله عليه وسلم قوله : ( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ،فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ) .
. ويقول صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ولا أعلم له علة .
وفي الصحيحين ( خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ،وقد جمعهم الله تعالى في آية واحدة هي قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ، ولا يرضى الله إلا عمن علم حسن خاتمتهم ووفاتهم على المحجة البيضاء
وفي قوله صلى الله عليه وسلم ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) نجد طائفتين من الأئمة والعلماء : من يستشهدون به على فضل الصحابة .
ومن يحكمون بضعفه – أو بوضعه – لكن بعض هؤلاء يقبل معناه ،استنادا إلى حديث آخر صحيح أخرجه مسلم بسنده عن أبي بردة عن أبيه قال : صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء ، قال فجلسنا فخرج علينا فقال ما زلتم ههنا ؟ قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلى معك العشاء ، قال أحسنتم أو أصبتم . قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، فقال : النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )
وممن استشهد بحديث ( أصحابي كالنجوم ) ابن عبد البر في كتابه التمهيد ج 4 ص 263- 267 بعد حكايته خلافا بين ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم في حكم غسل رأس المحرم : ورجوعهما في ذلك إلى أبي أيوب الأنصاري ، وأخذهما بما نقل أبو أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال ابن عبد البر : ( وهذا يبين لك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : أصحابي كالنجوم ) هو على ما فسره المزني من أهل النظر أن ذلك في النقل ، لأن جميعهم ثقات مأمونون عدل ، فواجب قبول ما نقل كل واحد منهم ، وشهد به على نبيه ) .
وفي تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ج10ص155 –156 بعد شرح حديث" أنا دار الحكمة وعلي - أي ابن أبي طالب رضي الله عنه - بابها " أي الذي يدخل منه إليها ، وأنه لا يعني أن عليا بابها الوحيد يقول : ( ومما يدل على أن جميع الأصحاب بمنزلة الأبواب قوله صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " )
وجاء في المغني لابن قدامة المقدسي ج 3 ص 269 بعد أن ذكر قضاء الصحابة في بعض أحكام الصيد في حالة الإحرام : ( ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم ) وقال ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) ولأنهم أقرب إلى الصواب وأبصر بالعلم فكان حكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي ).
وقال القاري في شرح قوله صلى الله عليه : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به ..كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) – فيما نقله عنه المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي ج10-ص196 : ( والمراد بالأخذ عنهم التمسك بمحبتهم .. وهو لا ينافي أخذ السنة من غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) .
أما الحافظ ابن حجر العسقلاني فبعد أن يذكر أوجه الضعف في سند الحديث يذكر ما قاله الإمام البيهقي في صحة معناه ، لتطابقه مع معنى الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم بلفظ ( النجوم أمنة أهل السماء ) إلخ : ثم يقول : قلت : صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة ، وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض والله المستعان اهـ
في موقع الصدر الأول بين المثالية والواقعية يخوض الخائضون في اختلاف الصحابة ، ويمارسون ما يمارسون من تشويه التاريخ الإسلامي
ونذكر هنا ردا على ذلك ما روي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول : ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة " ، ويقول الإمام الخطابي في غريب الحديث : والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام : الأول في إثبات الصانع ووحدانيته وإنكاره كفر ، والثاني في صفاته ومشيئته وانكارهما بدعة ، والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها ؛ فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء ، وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة . انتهى .
و أخرج الخطيب عن هارون الرشيد قوله لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب يعني مؤلفات الإمام مالك ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة . قال يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكل على هدى وكل يريد الله تعالى. أهـ من كشف الخفاء .
يقول الإمام ابن حجر : ( اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة أنه يجب على كل أحد تزكية جميع الصحابة ، وإثبات العدالة لهم ، والكف عن الطعن فيهم ، مع الثناء عليهم فقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز ) . وقد اعتبر علماء المسلمين – ومنهم الإمام مالك رضي الله عنه – أن القدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح في الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتلفيق الروايات في مثالبهم وخلافاتهم لا يعدو أن يكون القصد منه الرسالة المحمدية ،والذي جاء بها ، والذي جاء فيها .
ونحن نقول : - وبناء على ما تقدم من تحقيق منهجي في مكانة الصحابة يصبح - على المسلم أن يرفض أي رواية تاريخية تخالف ذلك لأنها كاذبة في منهجه العلمي والإيماني معا
إنه من الغريب أن بعض هؤلاء الذين يشككون في الصحابة يتساهلون إلى أبعد حد في قبول بعض أخبار التاريخ ، وقد يكون نبأ من فاسق ، وهو الأمر الذي جر الويلات في طعن تاريخنا في الصميم .
وإنه ليغيب عن الكثير منا أن التاريخ الإسلامي لم يكن يكتب في حينه ولكن في ظل الدولة الجديدة ، وقد تولى كتابته نماذج مختلفة من المؤرخين ، يتباينون في اتجاهاتهم ، ودوافعهم ، ومهم مؤرخون ثقات ، أمثال ابن جرير الطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، وقد وضع هؤلاء لأنفسهم منهجا علميا معلنا : هو أن يذكروا أسماء الرواة الذين ينقلون عنهم ، وأن يذكروا الأخبار كلها من مختلف المصادر ، ثم يتركون لمن بعدهم أن يميز بين الصحيح وغير الصحيح .
ثم لحق التشويه بمنهج هؤلاء ممن جاء بعدهم حيث ذكروا رواياتهم بعد أن جردوها من الأسانيد ، وضموا الروايات بعضها إلى بعض للاختصار ، أو لأغراض خاصة ، فاختلط الحابل بالنابل ، وأصبح من الصعب على قرائهم أن يفرقوا بين روايات الثقات ، وروايات أصحاب الأهواء ، فنشأ من ذلك ترديد لكثير من الأخبار التي اختلقها أعداء الإسلام ، ووصل الأمر – حديثا - إلى نقل الأخبار من مراجع السمار ، كالذي انساق إليه الكتاب المحدثون من الأخذ من كتاب " الأغاني " لأبي الفرج الأصفهاني ، واعتباره مصدرا للتاريخ ، ودرة للتراث !!
وإن المرء ليستغرب من هؤلاء المحدثين لو أنهم كانوا يهدفون إلى متعة البحث ، أو إلى متعة الفن ، أو إلى متعة الصراع بين الحق والباطل ، ( الدراما ) فقد كان أمامهم متسع لا يلتقون فيه بالشبهات ، ولا يحركون فيه مواجع المسلمين ، ولا يدفعونهم إلى تأجيج نار الثأر ، وتحريك عوامل الفرقة والتمزق ، لقد كانت أمامهم : حروب الردة التي اشتعلت في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحروب مدعي النبوة من أمثال : الأسود بن كعب بن عوف العنسي ، ومسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خالد الأسود ، وذي التاج لقيط ين مالك الأزدي .
وفي حروب الدولة الإسلامية مع فرقة الراوندية التي ابتدأ خروجها منذ أواخر الدولة لأموية وامتدت في عهد المنصور : وقد كانوا يطوفون بقصره قائلين ( هذا قصر ربنا ) فلما صدهم عن ذلك ثاروا عليه وحاربوه .
وفي الحرب البابكية التي استمرت أكثر من عشرين عاما ، من عهد المأمون ، (201) هـ إلى عهد المعتصم (223) هـ ، وكانت حربا فارسية ضد الإسلام ، تحالفت في الوقت نفسه مع الدولة البيزنطية .
وفي حروب المسلمين مع الدولة الرومانية التي لم تهدأ قط منذ ظهور الإسلام ، مرورا بالحروب الصليبية إلى نكبة الأندلس ، إلى العصر الحاضر حيث تعتبر أوربا نفسها وريثة تلك الدولة الرومانية ، في ثأرها ضد من أزاحوها من جنوب البحر الأبيض وشرقه . وحيث تعتبر أوربا نفسها في صراع مستمر مع الإسلام الذي أزاحها من هذه المناطق .
في كل ذلك وفي غيره مجالات لا تنفد لمن يريد استنطاق التاريخ دروس الحق والخير والجمال . . لكن أولئك يجدون أنفسهم مزنوقين في حوادث الفتنة بين الصحابة والتابعين لأغراض لا تخفى على أحد .
وأخيرا جاءت الطبعة الأخيرة من المحاربين للإسلام ليقولوا : ( إن التجارب التاريخية – في الحكم الإسلامي – لم تكن إلا سلسلة طويلة من الفشل .. )
ونحن نقول : إنه إذا كان من المسلم به أن عصر الخلفاء الراشدين كان هو الأقرب إلى مثالية النظام الإسلامي ، فإن هذا لا يعني أنه كان عصرا عقيما لا ينجب ، ولكن يعني أنه - وبالنظرة العلمية أيضا – قابل للتكرار ، وفقا لقانون السبب والنتيجة ، فكلما حصل السبب كان لابد للنتيجة أن تحصل ، وليس في الأمر خصوصية فرد ، أو معجزة عصر ، ولكن حيث يتوفر القبول للنظام الإسلامي والرغبة فيه يظهر الإنسان المشابه والعصر المشابه لعصر الخلفاء الراشدين .
ومهما يكن من أمر فإنه ليصح القول بأن النظام الذي يثمر أبا بكر وعمر ولو على سبيل الندرة المطلوبة لهو أفضل – تاريخيا وعمليا - من الأنظمة التي لم تثمر شيئا من ذلك ، إن الندرة – مع كونها كذلك – تظل مقياسا تقاس به طبيعة الأنظمة ، ومدى ما تصل إليه في مدارج الصلاح أو الفساد على مدى التاريخ .
فالنظام الذي يكون أعظم ما يصل إليه – بالندرة – أن يقدم شخصية عمر غير النظام الذي يكون أقصى ما يصل إليه شخصية الإسكندر ، أو شخصية هتلر ، أو شخصية كلينتون ، أو بوش ، أو توني بلير ، أو شخصية " مايكل جاكسون " المغني المخنث ذائع الصيت ، مع دخول أولئك جميعا في خانة الندرة المطلوبة ، لكن لكلِّ دلالته على فضيلة عصره أو خسته.
إن الأمويين عموما كما يقرر المؤرخون أصحاب دعوة إسلامية : تمرنوا على قيادة الجيوش ، وحكم الناس ، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان أكثر عماله منهم ، وقد امتد ملك الإسلام في عهدهم من سواحل الأطلنطي إلى بلاد الصين ، ومن جبال القوقاز ، إلى خط الاستواء وما وراءه . ودخلت الإسلام في عهدهم أمم الأرض كلها : من العرب والسريان ، والفرس ، والكلدان ، والمصريين ، والنوبيين ، والبربر، والسودان ، واليونانيين ، والهنود ، والترك والتتار ، وأمست آي القرآن تتلى في سمرقند كما تتلى في قرطبة ، وكاد الإسلام أن يستقر في جنوب فرنسا بعد أن اجتاحها .
هذا الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ينصبونه هدفا لطعناتهم للتاريخ الإسلامي وإفراغه من محتواه يقول عنه الدكتور عمر فروخ : ( لما جاء الحجاج إلى العراق كانت حروب الفتن قد خربت الدور ، وطمرت الأفنية ، فخلت المزارع من فلاحيها ، وهجر معظم أهل القرى قراهم ، فلم يبدأ الحجاج إصلاح البلاد وتنظيم الإدارة بإصدار المراسيم ، والقوانين ، ولكنه أعاد بناء البلد وأصلح الطرق ، وأعاد حفر الأقنية ، بعدئذ أمر أهل القرى بالرجوع إلى قراهم ، وأخذ بجمع الضرائب وإرسال الجيوش إلى الفتوح ، فانتشر الأمن في طول البلاد وعرضها ، حتى كانت المرأة تنام وحيدة في بيتها ، وباب بيتها مفتوح ، ولما مات الحجاج بن يوسف خلف مصحفا وسيفا ، وعشرة دراهم فضة . )
وماذا عن الدولة الأموية بالأندلس ؟ ألم تكن هي التي استقرت هناك ثم أرسلت الحملة إثر الحملة لفتح فرنسا ، حتى تمكنت على يد الوالي القائد عبد الرحمن الغافقي – الذي عين واليا على الأندلس من قبل هشام بن عبد الملك عام 112 هـ – من دخول فرنسا وفتح النصف الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر والاستيلاء على بواتييه وإن وقعت هزيمته فيها والخروج منها بعد ذلك ؟
وما ذا عن الدولة العباسية ؟ لا خلاف على أن كانت جماع التقدم البشري شعرا وأدبا وعلما دينيا وعلوما دنيوية ، وسياسة ، وقوة ، وهيبة ، واتساعا ، ومستوى معيشة أصبح يرمز إليها في وجدان الغرب بعالم ألف ليلة وليلة . يقول الأستاذ محمد كرد علي في كتابه عن الحضارة الإسلامية : ( في القرون التي كانت فيها العرب تنعم بلذائذ العقل والعمل والمال وتأخذ من مسرات الحياة الفاضلة بأوفر نصيب ، ويهاب سطوتها البدو والحضر ، وتؤلف أمة متحضرة وحكومات ناهضة ، كان الغربيون – بمواريثهم اليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية – متوحشين جاهلين لا يعرفون الترف ، ولا يتذوقون عيش الرفاهية ، لا أمن ولا إدارة ، ولا ملوك يعرفون واجبهم في إقامة العدل ، وتوطيد الأمن )
وما ذا عن الدولة العثمانية المفترى عليها ؟ إن هذه الدولة – كما يقرر المؤرخون المتخصصون ومنهم أد أحمد عبد الرحيم مصطفى – استطاعت أن تعيد لدار الإسلام حضورها وهيبتها ومنعتها بعد ما لحق بها من التفرق والانحسار ، وأن تحمي حياض المسلمين من البرتغاليين الذين غزوا شرق الجزيرة العربية توطئة لدخول البحر الأحمر والزحف إلى مكة المكرمة وهدم الكعبة .
وظل العثمانيون طوال ستة قرون الدرع الواقية للأمة الإسلامية ضد أطماع الاستعمار الأوربي ، وكانوا الذين فتحوا باسم الإسلام مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، وأطلقوا عليها اسم إسلامبول ، ومنها انطلقوا يرفعون راية الإسلام ، في قلب أوربا : في يوجوسلافيا ، وبلغاريا ، وألبانيا ، ورومانيا ، واليونان .
وكان العثماني يعتبر امبراطوريته التي ما لبثت أن ضمت كل المراكز الإسلامية الكبرى وكأنها الإسلام ذاته ، بحيث أصبح الإسلام في العهد العثماني – وفي أوج قوة الدولة – على مستوى رفيع من الأهمية والنفوذ .
في تلك الدولة – كما يقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى - تغلغل الإسلام في كيان الأمة حتى لم يعد لمصطلح " عثماني " مدلول قومي ، وبحيث ظل العثمانيون حتى القرن التاسع عشر يعتبرون أنفسهم مسلمين في المحل الأول ، وكان الإسلام هو الشرط الأساسي للتمتع بالسلطة والامتياز .
ولم يكن لفظ " تركي " يستعمل في أوج العصر العثماني إلا قليلا للإشارة إلى " التركمان " ثم بعد ذلك إلى الفلاحين الخشنين الجهلة ، الذين يتكلمون اللغة التركية ، ويقطنون قرى الأناضول ، وحتى القرن التاسع عشر لم يتخذ التركي لقب تركي .
وحين استعمل الأوربي هذه الكلمة كان يعني في الواقع " مسلما أو كافرا " ، ويشهد التاريخ بأن الدولة العثمانية كانت حتى قبل توسعها في العالم العربي تطبق الشريعة الإسلامية بدلا من القانون البيزنطي القديم في المناطق التي لا يجد سكانها صعوبة في فهمها ، ثم ما لبثت بعد أن استقرت في استامبول عام 1453م أن أخذت بالقوانين الإسلامية دون غيرها حتى انهيارها في الحرب العالمية الأولى .
ورغم أن السلطان العثماني كان يتمتع بسلطة لا يقيدها قانون مدني إلا أنه لم يكن بذلك حاكما مطلقا كما يقال ، وذلك لأنه لم يكن ليستطيع خرق الشريعة الإسلامية ، علنا على الأقل ، ولم يكن يتمتع بالجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بالمعنى الصحيح لهذا المصطلح لتقيده الأساسي بالشريعة الإسلامية ، وكانت القوانين التي يصدرها لا مفر من أن تكون متفقة مع القرآن والسنة والمذاهب الفقهية الأربعة .
ومنذ أواخر القرن الخامس عشر كان السلاطين قد أقاموا هيئة من أهل العلم الفقهاء والتي كان رؤساؤها شيخ الإسلام ، وكبار القضاة ، يستشارون فيما يمس شئون الدولة الهامة ، وكانت مشروعات القوانين تعرض على شيخ الإسلام قبل إقرارها لكي يدرس مدى مطابقتها للشريعة الإسلامية ، وكان هو المختص بأن يصدر الفتوى - قبل إعلان الحرب – بأن أهدافها لا تتعارض مع الدين ، كما كان له الرأي في علاقة الدولة بالدول غير الإسلامية وقوانين الضرائب ، ولم تكن هذه الإجراءات صورية ، فكثيرا ما أدى رفض المفتي إلى إرغام السلطان على العدول عن مشروعاته ، بل إن تصريح المفتي بأن السلطان لا يحترم مبادئ الشريعة يعني مباشرة انه غير صالح لتولي الحكم ، وكان ذلك كفيلا بالتمهيد لخلعه . ولم يكن هذا النفوذ الشرعي محاصرا في شخصية المفتي الأكبر ، أو شيخ الإسلام ، وإنما كان يمثل القاعدة الشعبية للدولة ، إذ أنها حرصا منها على المحافظة على الشريعة أبدت اهتماما رفيعا بالفقهاء الدينيين الذين أدخلتهم في جهاز الدولة .. ، ومن ثم كان الوزراء العثمانيون الأوائل من الفقهاء ، وما لبث تنظيم الفقهاء أن امتد إلى جهاز الدولة بأسرها بحيث تطرق إلى أدنى المستويات في الولايات ، فقد كان كل سنجق يضم قضاة ومفتين لابد من استشارتهم في كل المسائل التي تتعلق بالشريعة ، وكانت أحكامهم بمثابة قوانين لا يحد من فعاليتها سوى الرجوع إلى استامبول.
ومن التشويه ما يشاع ضد الدولة العثمانية من أن تعصبها للإسلام أدى بها إلى اضطهاد المسيحيين ، وذلك بغرض تكريس النهج العلماني في البلاد الإسلامية ، وغلق باب التفكير في إعادة هيمنة الإسلام على الدولة ، ويرد الأستاذ الدكتور أحمد طربين استاذ التاريخ الإسلامي بجامعة دمشق على ما جاء من ذلك بكتاب " أزمة الفكر ومشكلات السلطة السياسية " لمحمد مخزوم نشر بيروت عام 1968 ، فيقول : ( إن عديدا من المؤرخين المنصفين يرون أن الدولة العثمانية حافظت على أملاكهم وحرية عبادتهم وكنائسهم ، وفتحت لهم أوسع أبواب العمل الحر في الزراعة والصناعة والتجارة . فانتظموا في سلك الحرف المختلفة على قدم المساواة مع زملائهم المسلمين ، وكانوا معهم في تعاطف وود ، بل إنهم برزوا في ميدان التجارة الخارجية لصلتهم مع الأوربيين ، وتكونت منهم طبقة بورجوازية غنية ، وتشهد بذلك سجلات المحاكم الشرعية في مختلف الحواضر العربية ) أنظر المجلة العربية للعلوم الإنسانية التي تصدر عن جامعة الكويت العدد 31 ص 269
ومن السهام الهدامة الموجهة ضد تاريخنا في مجمله – وفي سياق تقويم الدولة العثمانية بالذات – ما يجري من محاكمة هذا التاريخ باسم مذاهب سياسية محدثة كالقومية والوطنية ، ومن ذلك القول بأن مصر لم تعرف الاستقلال الوطني والحكم بيدي مصري منذ عشرات القرون إلا بعد الثورة المصرية عام 1952 .
ويرد على هذا أصحاب هذا القول : بأن جميع الشعوب كانت كذلك إلى عهد قريب ، انجلترا وفرنسا ،وإيطاليا وألمانيا إلخ ، ونقول لهم ما قاله مارستون بيتس في كتابه ( الانفجار السكاني ) وهو بصدد تقسيم البشر إلى أنواع ، ومقاييس هذا التقسيم : هل هو العنصر أو السلالة ، أو الجغرافيا ، أو الثقافة ؟ حيث يقول : ( كلما أمعنا في التفكير في هذا الأمر ازداد غرابة في نظرنا ، " فالحكومة الوطنية " هي اختراع حديث العهد من الوجهة التاريخية . ويحمل الناس أحيانا الثورة الفرنسية وما تلاها من المغامرات النابليونية وزر هذا الاختراع .
أما إيطاليا وألمانيا فلم تظهرا على المسرح كأمتين إلا في عام 1870 مـ
ومما لا ريب فيه أن أمما كثيرة مثل فرنسا وانجلترا كان لها تاريخ عريق في السيادة الوطنية على مناطق لا تكاد تختلف عن حدوده الحالية ، ولكن هذا الأمر يبدو نتيجة لسلسلة من الأحداث التاريخية والجغرافية أكثر منه ظاهرة وطنية .
ومن جهة أخرى فليست هناك دولة وطنية تطابق مجموعة عنصرية واحدة .
وهناك عدد من الأمم متجانسة السكان تقريبا من وجهة النظر العنصرية ، ولكنها لا تمثل في الحقيقة إلا شطرا صغيرا من العنصر الذي يعيش فيها ، لأن القسم الأعظم من الأشخاص الذين ينتمون إلى ذلك العنصر ينتشر ما بين الأمم الأخرى .
ولقد أصبحت الخصائص الوطنية مؤخرا من المواضيع التي يوليها علماء الأجناس البشرية كل اهتمام في دراساتهم ، ويبدو أن فكرة " الرجل الإنجليزي " و" الرجل الإمريكي " أو الرجل الألماني " أصبحت الآن حقيقة واقعة ، لا تختلف بشيء عن فكرة وجود عنصر خاص أو حضارة قبلية ) الانفجار السكاني ص 79-80
والمتأمل في هذه الحقائق يجد أنه من الخطأ والظلم معا محاكمة التاريخ الإنساني السابق على هذه المفاهيم الوطنية أوالعنصرية ، وبخاصة لو أدركنا بخصوص الحضارة الإسلامية أن أبناءها كانوا في مرحلة حضارية قد تجاوزت من الناحية القيمية هذه المفاهيم ، ولو عرضت عليهم لرفضوها كما رفضوا الشعوبية ، والتجزئة ، والقبلية والعنصرية ، استمساكا منهم بالأفق الأسمى المفتوح أمامهم بتعاليم لإسلام ، والذي يطبق مفهوما ساميا من العالمية ينبني على الأخوة في الإسلام .
مهما يكن من أمر فإن أحدا لا ينكر أن النظام الإسلامي لم يصل قط إلى مرتبة التطبيق الكامل الذي يحلو لبعض العلمانيين أن يحاكموه عليه
.وهكذا الأمر في كل الأنظمة عند التطبيق وطنية أو قومية أو ديموقراطية أوغيرها :
على أن ذلك لا يحسب على الإسلام ضد صلاحيته التاريخية ، ولكنه يحسب له باعتباره هدفا خالدا لهذا التطبيق في سياق التاريخ .
إن سرا عظيما من أسرار بقاء الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان يكمن في أنه يعلو دائما فوق كمال التطبيق ، ليظل مثلا أعلى تسعى البشرية إلى الاقتراب منه وتجاهد في الوصول إليه.
إن أي نظام – في التطبيق – لا يجد التطبيق الأمثل الأكمل ، حتى هؤلاء المبهورون بنظم الغرب لا يجسرون على القول بأنها نظم شاهدت اكتمال التطبيق ، سواء النظم الديموقراطية ، أو الاشتراكية أو العلمانية ، وهاهو فوكوياما في مقاله الأخير وفي معرض دفاعه عن الديموقراطية الليبرالية يقرر أن عجزها التطبيقي في بعض المواقع لا يدل على فشلها . ويقول روجيه جارودي الفيلسوف الفرنسي الذي دخل في الإسلام : ( لقد أطلق مؤرخونا بحق على الأعاصير العاصفة – مثلا – التي بناها تيمورلنك بسبعمائة ألف جمجمة بعد احتلاله أصفهان : اسم الغزوات البربرية .
ولكن مما يدعو إلى العجب أن هذه التسمية تتغير حينما يقوم الأوربيون بمثل هذه الغزوات ، فماذا نقول إذن عن إبادة الهنود الحمر في أمريكا على يد الفاتحين الأوربيين أصحاب المدافع ؟
وما ذا نقول عن تخريب أفريقيا بانتزاع عشرة ملايين إلى عشرين من سكانها السود ، وهذا يعني أن عدد الضحايا بلغ مائة مليون إلى مائتين إذ كان أسر كل أسير يكلف عشرة أفراد ؟
وماذا نقول عن مذابح آسيا وحرب الأفيون والمجاعات التي فتكت بملايين الهنود بفضل الاستعمار وفرض الضرائب ؟
وما ذا نرى في ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية ؟
وماذا نرى في حرب فيتنام ؟
وماذا نرى في تشريد الشعب الفلسطيني ليحل محله شذاذ الآفاق من اليهود والصهاينة؟
وماذا نسمي النظام العالمي للسيطرة الغربية وقد أنفق – في عام واحد – هو عام 1980 – أربعمائة وخمسين مليارا من الدولارات على التسليح ؟ وتسبب في العام نفسه في موت خمسين مليونا من البشر في العالم بسبب المجاعة ولعبة المبادلات التجارية الظالمة ؟
وهكذا يعتبر الغرب – كما يقول روجيه جارودي – إلى أبد الآبدين أكبر مجرم في التاريخ .
ويذهب إلى هذا التقدير أيضا نعيم تشومسكي في كتابه " ماذا يريد العم سام " ترجمة عادل المعلم
ولذلك فإننا نقول للمسلمين بعامة - والدعاة منهم بخاصة – حذار ، حذار من الوقوع في الفخ ، حذار من مسايرة النقد الأعمى للتاريخ الإسلامي . إن تاريخنا هو ذاتنا في الماضي ، وهو قلعتنا في الحاضر ، وهو زادنا نحو المستقبل .
إن من حقنا أن ننظر إلى تاريخنا بعين الفاحص ، ونقد المحقق ، ووعي المتبصر ، ولكن من واجبنا أن تكون عيننا الأخرى على مؤامرات الغزو الثقافي ، ومن أهم أهدافه اقتلاعنا من جذورنا الإسلامية عن طريق تشويه تاريخنا الإسلامي .
وإذا كان لأحد أن يتساءل : لماذا ينكر الجاحدون مجد الإسلام وقوة نظامه ، أو يتعمدون انتقاء الروايات الضعيفة المتهافتة من كتب الأسمار والحكايات ، ويتركون الروايات الدقيقة الصحيحة التي خدمها رجال الحديث – مثلا – على أعلى مستويات النقد ؟ فالجواب على ذلك بسيط : إنها العمالة في عملية الغزو الثقافي للإسلام ، ولكن وبالإضافة لذلك – فإن الأمر كما يقول الأمير شكيب أرسلان : ( هذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه وطعن آبائه بأنهم كانوا سافلين وأنه يبرأ منهم .. لا يصدر إلا عن الشخص الخسيس ، وضيع النفس ، أو عن الذي يشعر بأنه في وسط قومه دنيء الأصل ، فيسعى هو في إنكار أمته بأسرها ، لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ، ليس له نصيب من تلك الأصالة ) .