المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين قطارين.



مروان قدري عثمان مكانسي
02/04/2007, 09:22 PM
بين قطارين
آه كم تمنيت ركوب القطار يوم أن كنت حدثاً ! أمتطي صهوته مجاوراً نافذة إحدى غرفه ، ليمخر بي عباب الفضاء الرحب ، مخترقاً الأدغال والجبال ، فأرسل نظراتي هنا وهناك ، ويداعب النسيم وجناتي ويعبث بخصال شعري المرسل على جبهتي فأكون ساعتها قد ملكت الدنيا بين قبضتي اليافعتين .
لكن أمنيتي تلك لم تتحقق إلا بعدما ودَّعت سنوات الطفولة والشباب ، فجاءتني صاغرة بعدما رغبت عنها ، ونسيت هواها ، وملت عن الشغف بها ، بل عُرضتْ أمامي بسخاء منقطع النظير ، حيث وجدت نفسي بين قطارين اثنين لا قطار واحد . كيف كانت الحكاية ؟ إليكها من البداية :
في يوم من أيام الشهر الفضيل الذي أُنزل فيه القرآن الكريم ، وددت السفر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ، فعمرة في رمضان تعدل حجة ـ كما جاء في الأثر ـ فاتفقت مع صاحبيَّ : نذير وأحمد أن ننطلق من المدينة المنورة مساء الخميس بعد صلاة التراويح بسيارة الأول ، وآثرنا الإدلاج ليلاً لشدة قيظ النهار ...
لكن الصاحبين تخلفا عن الموعد دون سبب يُذكر ولم يعتذرا مني ولم يُرسلا لي أحدًا ينتشلني من ورطة الانتظار وأنا في لباس الإحرام وقد عقدت النية وعزمت على السفر .
ماذا كنتَ تفعل لو كنتَ مكاني وأنت لا تملك سيارة خاصة ؟ لا شك أنك ستتوجه إلى مجمَّع الحافلات وتقفز في أول حافلة تواجهك لتحملك إلى وِجهتك . وهذا ما فعلته تماماً . انطلقت إلى ساحة الحافلات فرأيت ما أدهشني وأفزعني ...
لقد رأيت الساحة خالية من كل وسائل النقل إلا من قطارين كبيرين ، أجل قطاران ممتدان، غرفهما مشرعة الأبواب ، والمعتمرون يتقاطرون عليهما من كل الجهات ويصعدون مهللين مكبرين ويأخذون أماكنهم مستبشرين فرحين ..
شيء واحد أزعجني من هذين القطارين ، وهو كيف يرسلان أبواقهما المزعجة ونحن في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ وكلما اقتربت من القطارين خطوة ازدادت وتيرة الصوت صارخة حتى أصمَّتْ أذني .
قررت في نفسي أن أنصح السائق بإقفال صوت المنبه احتراماً للمكان عندما أصل إليه .. بَيْدَ أنَّ أمراً جللاً وقع لم يكن بالحسبان ..
وجدت نفسي بين القطارين وقد همَّا بالانطلاق وقد تملَّكتني الحيرة في أيِّهما أركب ؟ وكلما اقتربت من قاطرة أُوصد الباب في وجهي ، فأتحول إلى القطار الآخر ،فيحدث لي ما حدث في الأول ، حتى طفت على الحجرات كلها في القطارين دون أن أحظى بالركوب في أحدهما ، وقد انطلقا أمامي وخُيِّل إليَّ أنهما يشمتان بي ، وأمام صخبهما الهادر وحرماني من الركوب بأحدهما تسرَّبتْ من عينيَّ فيوض الدمع وحوقلت واسترجعت و ...
أفقت من رقدتي لأجد نفسي في استراحة على طريق العودة من مكة ، وقد أعيانا السهر والجهد بعد أداء العمرة والبقاء في أحضان الحرم المكي حتى صلاة الفجر ـ نحن الثلاثة ـ فلجأنا إليها نبتغي قسطاً من الراحة ، بعدما قطعنا ما يقرب من نصف الطريق .
لم يكن صخب القطارين سوى شخير الصاحبين الذي قضَّ مضجعي وأيقظني من نومي، فقد كنت لسوء حظي أنام بينهما ... أيقظتهما من نومهما لأنقذ نفسي من عزفهما المزدوج ولنتابع السير إلى طيبة الطيبة وأنا أحكي لهما رؤياي قال لي أحدهما : ليت المسؤولين على النقل في المملكة تبلغهم رؤياك فيعملون على إنشاء قطارات بين الحرمين الشريفين .