المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المحبرة- سميرة الوردي



طارق شفيق حقي
23/03/2007, 06:39 PM
المحبرة
سميرة الوردي

رفعت قدميها كعادتها عندما تصل الى بوابة الحديقة، لتستطلع وضع البيت، وتستقرئ أحداثه في
غيابها من خلال النوافذ الواسعة المطلة عليها، فترى إن كان الأولاد قد عادوا، وجدته كعادته
لا يبدو منه سوى شعره الذي شاب مبكرا، أختفى جسمه خلف الأشجار وصندوق كبير صنعه عند النجار
كمنضدة للتصميم الطباعي ولكن بسبب ظروف الحرب وشحة الألوان وافلاس الناس اُُلغي المشروع وبقي
جهاز التصميم يُستخدم كمخزن لما تبقى من أدوات الرسم والتصميم معا .
منذ زمن بعيدلم يمسك بفرشاته فقد مرت عدة أشهر منذ أن انتهى من آخر لوحة رسمها بالزفت على
ورق أسمر وجده مصادفة في مخزنه، فقد شحت الوانه والرغبة للرسم تنهشه .
كان يوما هادئا على غير العادة فقد أُسدلت الستائر على النوافذ، وهذا يدل على نوم الأولاد
بعد عودتهم من المدرسة، منذ بدء الحرب والمدينة ترزح تحت قصف يومي متواصل، مما اضطر كثير من
الناس الى ترك منازلهم أو بيعها بثمن بخس، أما هما فلم يستطيعا التضحية بالبيت ، فقد عانا
كثيرا في بنائه واعتادا عليه، مواردهما الماليه لاتسمح بإيجاد بديل مثله أو أفضل منه، دخلت
الدار كانت الساعة تقارب الخامسة عصرا، تبادلا التحية، أبلغها أن الأولاد لم يتناولوا
غداءهم وقد فضلوا النوم انتظارا لعودتها من المدرسة، هيأت لهم الطعام، أيقظتهم ولكنها لم
تستطع مشاركتهم فمزاجها متعكر منذ يوم أمس حينما سقط صاروخ قرب مدرستها وأباد عائلة أحد
طلابها ولم ينج من الموت سواه لتواجده في المدرسه . أزدحمت الاحداث أمامها ولم تسمعها من
أحد فقد ذهبت الى موقع الحدث مع مجموعة من زملائها وزميلاتها فصادف أن جيء بجثمان أحد
الشهداء من جبهة القتال الى ذات الموقع الذي سقط فيه الصاروخ ليسلموه الى أهله ولكن الأهل
سبقوه في الرحيل, مما أضطر ممن تبقى أحياء من المحلة الى دفنه بجوارهم، واقامة الحداد
عليهم . الشارع الذي امتدت البيوت على جانبيه وعلت خضرة الأشجار من اسيجة حدائقه حوّله
الصاروخ الى هوة وركام هائلين . انتفضت بطولها الفارع من بين الأنقاض منتصرة على الموت
ساخرة منه نافضة التراب عن جسدها وساقيها وما أن وصلت لذراعيها حتى صرخت مذعورة كأنها تذكرت
شيئا : ولدي ثم تلفتت يمينا وشمالا باحثة ! مواصلة صراخها وبصوت أقوى أولادي ! انطلقت
كالمجنونه فوق الركام تحفره بأصابعها .
لماذا لاتنامي إنك منذ يوم امس لم تغفي ولم تأكلي، جفلت وكأنها سُحبت قسرا من عالم آخر،
فاجأته بقولها : لماذا لا نرحل ؟ قطب جبينه كعادته، وسألها، الى أين ؟ قالت : لا أدري،
ولكن الى أي مكان يُحترم فيه الأنسان . ضحك ساخرا، في بلادنا وبكل امتدادتنا التاريخية
ومؤهلاتنا لم نستطع التأقلم مع واقعنا، فكيف إذا رحلنا وبدأنا من نقطة الصفر .
تركته عائدة الى المطبخ ثم خرجتْ الى الحديقة فقد بدأتْ ثمار النبق الناضجة تثير الرغبة في
قطفها . مدتْ يدها للثمرات القريبة مسحتْ احداهن راغبة في أكلها الا انها سرعان ما رمتها،
عافتْ نفسها كل أنواع الأكل منذ امس وهي تعاني مما شاهدته ، بكتْ بكاءً مرا تحت ظلال شجرة
النبق لكنه لم يُزِل موجة الكآبة واليأس التي أنتابتها.
ناداها زوجها طالبا منها مساعدته في البحث عن بقايا الوان متيبسة أحتفظ بها من باب الاحتياط
وتحسبا من انقطاعها عنه وعدم مقدرته على شرائها، نظرتْ اليه بأشفاق ، يمارس هوايته باصرار
رغم كل الظروف .
توسلتْ بهما ابنتهما ابنة الثمانية اعوام أن يخرجوا من البيت قبل القصف الذي اعتادوا حدوثه
في الثامنه مساء كل يوم كما خيل لهم، ولكن في بعض الأيام يشتد ليصبح مرتين في الصباح وفي
المساء كيوم أمس . ركبوا السيارة التي لم تُبَع بعد، وحملوا طعام العشاء وتجولوا في طرقات
كثيرة محاولين قتل الوقت لحين تجاوز موعد اطلاق الصاروخ ، مرت الساعات ثقيلةً مُتعِبةً وما
أن حلت التاسعة حتى عادوا الى دارهم واملهم أن يكون القصف قد انتهى، ما أن وصلوا عتبة الدار
حتى دوى في المكان إنفجار مرعب هز أركان البيت حتى بدا كأنه زحف الى الأمام ثم عاد لمكانه،
صرخت الأبنة ذات الثمانية أعوام أما بقية أخوتها فقد أخرسهم الخوف أحتظنتها امها وهدأتها
فالقصف لم يكن عليهم بل على مقربة منهم .
سكن الاولاد وناموا من شدة الاعياء حاملين رعبهم معهم، اما الأبوان فقد عادا ليصففا مخزن
التصميم الذي تركاه مبعثرا محاولين ايجاد مواد تصلح للرسم فوجدا بقايا الوان وقليل من حبر
متيبس في قاع محبرة قديمة (أكل الدهر عليها وشرب )، أخذ الأب غنيمته وذهب تاركها تتمم لملمة
بقية ماتناثر من اشياء، أنجزت مهمتها ثم لحقت بأولادها بعد أن انستها أحداث اليوم أحداث
الأمس .
استيقظت متأخرة هذا الصباح، نظرت الى صغارها بحب وخوف ورهبة من المجهول، زوجها مازال مستيقظا
أمام لوحة جميلة انجزها وهم نيام، نهضت اللوحة من بين الركام مجسدة موضوعا ابتسمت لنفسها
رغم الامها، خيط رفيع من الامل في هذه الحياة .