المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاستهلال( تصدير من الشعر للقصة)



طارق شفيق حقي
16/02/2007, 06:47 PM
الاستهلال في القصة





طارق شفيق حقي


1- تمهيد.



الاستهلال مصطلح نقدي تراثي نصدره من الشعر للنثر.





كليني لهم يا أميمة ناصب.....وليل أقاسيه بطيء الكواكب





- لعل ليل النابغة الذبياني ليس بأقسى عليه منا , وليلنا ليالي وليله ليل واحد, وليله بكواكب وليلنا بلا قمر ولا كواكب وربما بلا ليلى كذلك ولا أميمة.

رغم ذلك سنقف عند قدرة النابغة على الاستهلال بل, وأكثر من ذلك سنتعداه لتصدير هذا الاستهلال لفن من فنون النثر وهو السيدة قصة.
-وقد يقول قائل : ما الدافع لهذا الأمر, ونحن لدينا الكثير من المصطلحات الغربية التي تفي بنقد القصة. ؟!
-نجيب: يضيف بعض النقاد خيبة فوق خيبة القصاص باستيرادهم لمصطلحات نقدية نشأت في بيئة تخص هذه المصطلحات ولن تنجم بذرتها في غير أرضها , وكما ساهم بعض النقاد في تغريب فنون العرب , فابتعد الشعر عن مركزه الشعبي الأول وصار نخبوياً, كذلك صارت إليه القصة التي كانت تتداول في المجالس العامة ,وفي المقامة الواحدة للجماعة, صارت فناً خاصاً بالنخب , وجمهور القصة هم القصاص أنفسهم لا غير, اللهم إلا القليل.
- ونحن حتماً لا نلغي دور المثاقفة , ولا نتعصب تعصباً أعمى للتراث , بل ندعو أن ننطلق منه ونطوره لأنه لباسنا الحقيقي الأمثل , وفي ذلك لعمري رسالة يجب أن يلتزم بها كل باحث , وفي بحثنا هذا حاولنا أن نفعل فعلتنا , ونجرب تجربتنا , ونخترق القاعدة , وما محاولتنا هنا إلا تلمس لما نريد, وقد تلمست من خلال البحث قدرة قصصية لدى بديع الزمان الهمذاني فامتلك ناصية فن القصة الحديثة لكن بروحها العربية, وكان لديه القدرة الفذة على التحليل النفسي لشخوصه, والتحليل الاجتماعي لمجتمعه , واستطاع أن يجمع في كتاب واحد فناً جميلاً , وتكلم عن موضوع واحد وهو الكدية وقد ****** بذلك من تقدموه بمئات السنين , ووقفنا عند الاستهلال في بعض قصصه, ونحن نقول عنها قصصاً لا مقامة,وسنبين أنها قصص بكل ما تعنيه الكلمة من معايير فنية .
-وقد بدأنا مع الاستهلال , وهو نهج أكثر منه محاولة بكر, وقد أكمل بقية المصطلحات وقد يكملها غيري, لنقيم معماراً جديداً يليق بروح القصة العربية .

خليد خريبش
20/02/2007, 09:45 PM
قرأت الموضوع تبادر إلى ذهني السؤال التالي استهلال الشعر،مقدمة القصة القصيرة،أية علاقة؟احتواء ،تضمين،انتماء،التقاء ،افتراق...مشكور على الجهد المبذول.

طارق شفيق حقي
20/02/2007, 11:14 PM
- تعريف القصة القصيرة


إن لفظة قصة ليست من الألفاظ الجديدة التي دخلت اللغة العربية حديثاً، وإنما ورد ذكرها في التراث الأدبي والعلمي القديم، وإن كنا نؤكد أن مدلولها المعنوي والفني قد طرأ عليه تغييرات كثيرة نتيجة للاتصال بالثقافات الأجنبية.
" نعرف فن القصة القصيرة بأنه جنس أدبي حديث النشأة يرتكز على صفات وخصائص فنية كوحدة الحدث والشخصية وقصر المدة الزمنية: يعتمد على تكثيف العبارة واللغة الإيحائية وهو لا يعدو أن يكون ومضة مشعة من الحياة." ص 21 شريبط أحمد شريبط - تطوّر البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة. منشورات اتحاد كتاب العرب


فمادة(قصص): في لسان العرب المحيط تعني تتبع أثر الشيء،

شيئاً بعد شيء وإيراد الخبر ونقله للغير، وتعني أيضاً الجملة

من الكلام وفي القاموس المحيط للفيروز أبادي معان كثيرة

لكلمة"قصَّ" متفقة في معظمها مع ما ورد في لسان العرب

المحيط، ومنها:( قصّ أثره قصاً وقصيصاً تتبعه، والخبر

أعلمه، [فارتدا على آثارهما، قصصاً] أي رجعا من الطريق الذي سلكاه).

وجاءت لفظة"قص" في دائرة المعارف لفؤاد أفرام البستاني بهذا المعنى:

((تتبع وتقصي أخبار الناس وفعالهم شيئاً بعد شيء، أو حادثة
بعد حادثة)).

والقصة لغة: ((أحدوثة شائقة. مروية أو مكتوبة يقصد بها الإقناع أو الإفادة" وبهذا المفهوم الدلالي، فإن القصة تروي حدثاً بلغة أدبية راقية عن طريق الرواية، أو الكتابة، ويقصد بها الإفادة، أو خلق متعة ما في نفس القارئ عن طريق أسلوبها، وتضافر أحداثها وأجوائها التخييلية والواقعية.
-والقصة عند الكاتب الإنجليزي: هـ. تشارلتون H.B. TCHARLETON إن لم تصور الواقع فإنه لا يمكن أن تعد من الفن. " ص 10 شريبط أحمد شريبط - تطوّر البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة. منشورات اتحاد كتاب العرب
وقد تعددت أنواع القصة, وسنرى مع الزمن تكاثراً لفروعها بحكم تأثرها بالفنون الأخرى.
" لقد اعترف شلوفسكي , وهو من أبرز منظري فن القصة , أنه وقبل كل شيء لم يعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة. ولو نظرنا في أي قاموس لمصطلحات الأدب فإننا نقع على تعريفات كثيرة لفن القصة ومصطلحاتها , فهناك القصة story والقصة وحيدة الحدث novella والقصة داخل القصة story within story والقص الخيالي fiction والقص الرمزي allegory والقص الشعري ballade والقصة القصيرة short story والقة الحكاية ............" ص 32 عبد الله أبو هيف القصة العربية الحديثة والغرب
" القصة مصطلح يدل على أي سرد لحدث أو أحداث , وفي القصص الأدبي نجد القصة غالباً ما تظهر في شكل صراع بين قوتين متضادتين في سبيل الوصول إلى هدف " ص 33 القصة العربية
وتعرف كذلك على أنها " حكاية أدبية تدرك لتقص قصيرة نسبياً ذات خطة بسيطة , وحدث محدد , حول جانب من الحياة لا في وقوعها العادي والمنطقي , وإنما طبقاً لنظرة مثالية ورمزية , لا تنتمي أحداثاً وبيئات وشخوصاً , وإنما توجز في لحظة واحدة حدثاً ذا معنى كبير " ص 38 القصة العربية
وهذا كان عرضاً موجز لبعض تعريفات القصة, ولنعود لفن القصة في التراث لنرى عماده هناك.

طارق شفيق حقي
04/03/2007, 03:08 PM
3- القصة في التراث :

لعل حاجة السرد حاجة تشترك بها كل المجتمعات, وقد امتازت القصة في التراث العربي وربما أغناها القران الكريم, والحديث الشريف , فقصص الأولين لم تعرف لمجتمعات أخرى , ثم تعرض الرسالة لكثير من المحن دفع بالقصة لمكانة مرموقة لما فيها من سلوان وتأثير في النفس البشرية لتأخذ بعبر قصص الأمم السابقة .

وقد"حرص الخلفاء الراشدون على الاهتمام بالقصص، فعمر بن الخطّاب أذن لقاص بأن يقص على الناس يوماً في الأسبوع، وأمر بترجمة قصص العدل والسياسة، وأذن عثمان لقاص بأن يقص على الناس يومين في الأسبوع، وأجاز علي بن أبي طالب للحسن البصري أن يقص في المسجد. وفي عهد الدولة الأموية أجاز معاوية القص لجماعة من القصاصين، كما أنه اصطفى شيخاً من شيوخ القصص وأمره بتدوين ما يرويه، ثم اتخذه قاصّاً له" ص 12 المصدر ذاته خريبط

وهذا الموروث القصصي لعمري موروث ضخم كبير, رغم ضياع الكثير من مصادر التراث , وخذلان الدارسين لتراثهم الثر.
"وأوحى هذا التراث القصصي لبعض الدارسين العرب المحدثين بأن يعدوه أصولاً فنية ومصادر للفن القصصي العربي الحديث، ورفعوا مكانته الأدبية والفنية في بعض الأحيان على كثير من الأعمال القصصية المعاصرة. يقول يوسف الشاروني: ((لقد عرف التراث العربي المجموعات القصصية التي تمتاز عن كثير من مجموعاتنا المعاصرة، بأنها كانت تندرج تحت موضوع واحد، مثل: كتاب البخلاء للجاحظ(160- 255هـ) و"المكافأة وحسن العتبى" للتنوخي(337- 384هـ"
ص 13 خريبط
هذا شأنه بعضهم ولنرى شأن صنف أخر :
"يذهب بعض الباحثين، والمهتمين بتاريخ الأدب العرب الحديث إلى أن جذور القصة العربية الحديثة لا ترجع إلى التراث العربي القديم وإنما تعود إلى الأدب القصصي الغربي الحديث، يقول الدكتور محمد طه الحاجري: "فالقصة في الأدب العربي الحديث عند هؤلاء النقاد أمر بدع، لا ميراث له يمت إليه. ولا أصل له في الأدب العربي القديم يمكن أن ينتسب إليه بصورة ما، وإنما هو تقليد محض لذلك الفن عند الأوروبيين صدرنا به عنهم، كما صدرنا بكثير من علمهم، وأنماط فنونهم" ص 14 المصدر ذاته خريبط
- ولعل بداية الكلام للحاجري صحيحة , لكن نهايته خاطئة وسوف نثبت من خلال بحثنا رسوخ فنيات القص الحديث في تراثنا من خلال مثال قصص الهمذاني, والتي فاق بها زمانه.
" وقد وقع خلاف بين مؤرخي الحركة الأدبية العربية الحديثة حول أول قصة قصيرة، فنية ظهرت في الأدب العربي((فالمستشرق الروسي(كراتشوفسكي). والألماني(بروكلمان) والفرنسي(هنري بيرس) يرون أن قصة"في القطار" لمحمد تيمور التي نشرت عام 1917 في جريدة"السفور" هي أول قصة تحمل المعنى الفني، ويخالف هذا الرأي الأستاذ عباس خضر في كتابه الأقصوصة في الأدب العربي الحديث، فيذهب إلى أن قصة"سنتها الجديدة" التي نشرت عام 1914 للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة هي أول قصة فنية في الأدب العربي، أما الدكتور محمد يوسف نجم فيرى أنها قصة"العاقر" لميخائيل نعيمة أيضاً التي نشرها عام 1915." ص 15 المصدر ذاته خريبط
لكننا يجب أن نؤكد أن هذا الشكل من الفنية تخص القصة الغربية الروح , والتي لن يفيد ترجمة قالبها لنكتب نسخة طبق الأصل, ولكننا يمكن أن نفيد منها من باب المثاقفة ونقارنها بالقصة العربية الروح ,والتي تسبق القصة الغربية بمئات السنين وتزيدها تنوعاً وهي تؤكد على أصالتها القومية والثقافية والروحية فلدينا المسامرة والسيرة والمقامة والخبر والحكايات والطرائف والنوادر والملح والليالي ولدينا القصة الطويلة والقصيرة بل والقصيرة جداً ,والتي عرفها المجتمع حديثاً وهي تكثر في القران الكريم والحديث الشريف وملح الخلفاء (وسيكون لنا عندها وقفة بإذن الله) , ولا نقول ذلك من باب التعصب للأصول لكن وعياً لذاتنا الحضارية وسعياً نحو تطويرها, وعلى كل الكتاب أن يكفوا عن محاكاة الفنية الغربية , لأن الفن يولد نتيجة لعدة عوامل نفسية اجتماعية تاريخية وقد يكون سياسية تتعلق بذات المنطقة , لن يصلح تصدير أسس هذا الفن بحذافيره لمجتمع يختلف من ناحية التراث والتاريخ والثقافة, وندعو كل كاتب أن يبحث عن ذاته وعن روحه الأصلية المنسية ويعبر بها ولو كانت غائمة الآن ,لكنها سترسخ مع التجربة, ولعلنا سنشير لأصول القصة العربية وروحها ونتلمس هذه الروح ومورثاتها في تراثنا الثر, ونشير للحاجة الماسة تطوير هذه الفنيات لتواكب العصر وتسد لهاث الوجدان العربي المتعطش للروح الأصيلة والتي أنهكتها الطعومات الفنية الهجينة التي لا روح لها .

طارق شفيق حقي
21/06/2007, 08:15 PM
4- القصة حديثاً:

سنأتي على تعريف القصة القصيرة مستلهمين أفكار كتاب الدكتور رشاد رشدي فن القصة القصيرة ,وهو من أكثر الكتب دقة في الإلمام بهذا الفن توصيفاً وشرحاً وتطبيقاً.

- القصة القصيرة فن حديث العهد ( المقصود بهذه القصة, القصة التي حاكت القصة الغربية story ) وقد كتب كثير من الأدباء تحت عباءة هذا الفن كتابات افتقدت لأصول كتابة القصة القصيرة,

إذ أن القصة القصيرة تصور حدثاً كاملاً له وحدة ومع ذلك تظل قصة قصيرة من ناحية الحجم فقط لا من ناحية الشكل , فلكي تكتمل للقصة القصيرة مقومات الشكل يجب أن تصور حدثاً متكاملاً يجلو موقفاً معيناً , فكانت القصة القصيرة لا تعني سرد تاريخ حياة أو إلقاء أضواء مختلفة على أحداث مختلفة , أو الإبانة عن زوايا

متعددة الأحداث أو الشخصيات كما يفعل كاتب الرواية لأن كاتب القصة القصيرة ينظر للحدث من زاوية معينة لا من عدة زوايا , ويلقي عليهم ضوءاً معيناً لا عدة أضواء , وهو يهتم بتصويره موقف معين في حياة فرد أو أكثر لا بتصوير الحياة بأكملها فالذي يعنيه أن يجلو هذا الموقف,أي يستشف منه معنى يريد إبرازه للقارئ.
يقول د . رشاد رشدي في كتابه فن القصة القصيرة الذي يقول في تقديم كتابه:" القصة القصيرة فن حديث العهد , لم تعرفه الآداب

الغربية إلا منذ حوالي قرن فقط... وهذه الدراسة الموجزة لا تعني بتاريخ هذا الفن عنايتها بأصوله وقوانينه..... ثم يتابع بعد سطور " ولقد اتبعت في دراستي لهذه التقاليد منهج الاستقراء والتحليل والمقارنة فيجد القارئ أمثلة من القصص العالمية , حللتها و قارنتها بغيرها من القصص مما يساعد على إيضاح الأسس الفنية لكتابة القصة القصيرة".

"يرى أدجار ألان بو أن أساس القصة القصيرة هو تميزها بوحدة الانطباع، وأحادية الحدث والزمن والشخصية. أما الناقد الإنجليزي ألان فورستر فيرى الحكاية(TALE- CONTE) أساساً للقصة القصيرة وفي رأي القاص الإنجليزي: سومرست موم أن القصة قطعة من الخيال لها وحدة في التأثير، وتقرأ في جلسة واحدة". إن معظم هذه الآراء النقدية، تلح على ضرورة توفير وحدة الانطباع ووحدة الشخصية والتركيز.

ويعلي الناقد الإرلندي فرانك ألافور شأن القصة، فيرفعها من الحالات النثرية إلى الحالات الشعرية، فهي تعبر عن موقف الفنان من محيطه ولذا فهي تقترب من التجربة الفردية التي تمتاز بها القصيدة الغنائية وأن أبرز خصائصها هو وعيها الشديد بالتفرد الإنساني. وهكذا تنوعت تعاريف القصة القصيرة بين النقاد الغربيين، كما اختلفوا حول طولها وقصرها، والمدة الزمنية التي يجب أن تقرأ خلالها. فالناقد الإنجليزي ويلز يحدد زمن قراءة القصة بنصف ساعة فقط، بينما القاص الأمريكي أدجار ألان بو يحدد زمن القراءة بساعتين

وللناقد موزلي رأي في عدد كلمات القصة القصيرة، فهو عنده ألف وخمس مائة كلمة أو عشرة آلاف" ص 19 خريبط

- شهد الغرب عدة محاولات لكتابة القصة القصيرة ,لكنها كانت قصصاً قصيرة من ناحية الحجم فقط لا من ناحية الشكل, فالقصة القصيرة ليست القصة التي تقع في صفحات قليلة , لكنها جنس أدبي حديث له خصائصه وميزاته الشكلية, ولعل بداية نشوء القصة القصيرة والتي كانت تفتعل للتسلية واللهو ,كانت من حجرة من حجرات قصر الفاتيكان كانوا يطلقون عليه مصنع الأكاذيب , ويستدل القارئ على قصديتها واحتوائها على معنى ديني أو
خلقي ,لكنها كانت بسيطة التعبير وتستهدف التسلية ,وبدأت خطوة أخرى في مجال القصة القصيرة في القرن الرابع عشر في إيطاليا قام بها جيوفاني بكاتشيو صاحب قصص الديكارمرين أو المائة قصة لكنها كانت أطول من قصص مصنع الأكاذيب حتى جاء

موباسان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ,وكان يعتقد أن الحياة تختلف عما ترسمه القصص فليس أهم ما فيها هو الفراق والزواج , ولم يكن من الضروري في رأي موباسان أن يتخيل الكاتب مواقف أو شخصيات غريبة ,ليخلق قصة ما , بل على العكس يكفيه أن يصور أفراداً عاديين في مواقف عادية كي يفسر الحياة تفسيراً سليماً ويبرر ما فيها من معان خفية, وكان هم موباسان هو الواقعية في كتاباته فوجد أن الرواية لا تصلح للتعبير عن هذه الواقعية الجديدة , واهتدي إلى الحل : إن هذه اللحظات العابرة القصيرة المنفصلة لا يمكن أن تعبر عنها إلا القصة القصيرة وكان هذا اكتشافاً خطيراً بل هو من أهم الاكتشافات الأدبية في العصر الحديث , لا لأن القصة القصيرة كانت تلائم مزاج "

موباسان" وعبقريته , بل لأن القصة القصيرة تلائم روح العصر كله فهي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة التي لا تهتم بشيء أكثر من اهتمامها باستكشاف الحقائق من الأمور الصغيرة والعادية المألوفة , والقصة عند موباسان تصور حدثاً معيناً لا يهتم الكاتب لما قبله ولما بعده , وهذا الشكل الذي اتخذته القصة القصيرة منذ موباسان إلى يومنا هذا , ولقد أكده وأبرزه جميع من أتى بعده من كبارا لقصة القصيرة أمثال أنتوني تشيخوف وكاترين مانفيلد وأرنست همنجواي ولويجي بيراند لو.

الخبر والقصة : يجب أن يكون للقصة أثر كلي , لكي لا تكون مجرد خبر وبحسب أن الخبر الذي ترويه القصة يحوي تفاصيل أو أجزاءً متصلة بعضها ببعض , بحيث يكون لمجموعها أثراً أو معنى ً كلياً, يقول رشدي رشاد" لكن هذا الأثر أو المعنى الكلي لا يكفي وحده لكي يجعل من الخبر قصة... فلكي يروي الخبر قصة يجب أن يتوفر فيه شرط أخر وهو أن يكون للخبر بداية ووسط ونهاية أي أن يصور ما نسميه " الحدث".

- و النهاية التي تصل إليها كل الخيوط اصطلح على تسميتها النقاد نقطة التنوير, وهي التي تكسب الحدث معناه وهي التي تمثل نهاية الحدث .

- يخطأ كثير من النقاد ممن يظن أن الخبر مستمد من الواقع والقصة من الخيال, ولعل قصص الأخبار هي أحط القصص فنياً, وقد تغشنا كثير من القصص في جمع أخبار متناقضة في زعم أن الخلاصة التي تحدث من جمع خبرين أو أكثر متناقضين تحدث أثراً فنياً وهي لو دققنا ليست بقصة قصيرة.
الشخصيات:
في كثير من الأحيان يتكون الحدث من موقف ما , ثم يتطور إلى نهاية معينة ورغم ذلك يبقى هذا الحدث غير مكتمل , وانتقاله من نقطة لأخرى يفسر لنا كيف وقع , ولا يفسر لنا لما وقع , والبحث عن الدوافع يتطلب التعرف على الشخوص,فهم الذين فعلوا الحدث أو تأثروا به, ولعل القصة تبرز قدرة القاص على سبر النفس البشرية وإدراك دوافعها وأسبابها.

- المعنى : حدث القصة هو تصوير الشخصية وهي تعمل,وحيث أن تصوير الشخصية وهي تعمل لا يكفي بحد ذاته لاكتمال الحدث , فالحدث المتكامل هو تصوير الشخصية وهي تعمل عملاً له معنى, وهذا المعنى ينشأ من الحدث نفسه هو جزأ لا يتجزأ منه , وبدون المعنى لا يمكن أن يتحقق للحدث الاكتمال لأن أركان الحدث الثلاثة وهي الفعل والفاعل والمعنى وحدة لا يمكن تفكيكها , فليس للفعل والفاعل قيمة إن لم تكشف عن معنى ( الذي يجب أن يوجد في جميع مراحل القصة من بداية الحدث لنهايته).

- نقطة التنوير ( أو لحظة التنوير) :

هذه النقطة هي النقطة التي تتجمع فيها خيوط القصة وتنتهي كلها بلحظة واحدة هي نقطة التنوير, هذه اللحظة التي تكسب الحدث معناه الذي يريد الكاتب الإبانة عنه , ولعلي أسميها بالقفلة القصصية ,والتي تكون مدهشة أحياناً , وأحياناً توافق الترتيب الذي أظهرته القصة وتعطي جمالية التوقع لدى القارئ.
نسيج القصة : وهذا النسيج جزء من القصة القصيرة له وظيفته التي يؤديها بالاشتراك مع غيره من الأجزاء اشتراكاً بالضرورة

والحتمية, وهذه الوظيفة هي في النسيج كما هي في البناء , فكل ما في نسيج القصة من تصوير ولغة ووصف وحوار وسرد , يجب أن يقوم على خدمة الحدث فيساهم في تصوير الحدث وتطويره بحيث يصبح كالكائن الحي له شخصية مستقلة يمكن التعرف عليها, ويجب أن لا يكون الوصف في القصة مجانياً, بل يخدم كيان القصة ككل ويجب أن يكون الوصف قريباً من لغة الشخصية لا بلغة القاص إذ أن القاص لا يشترك في الحدث بل يصوره ويحاكيه ولذلك كان من الخطأ أن يفرض القاص على شخوصه لغته التي يحب , بل يجب أن تناسب هذه الشخوص , ويجب أن يبتعد القاص عن التقرير ما لم توحي الأحداث بذلك , وتصل إليه الشخوص من خلال تطور القصة .
وحدة البناء والنسيج :
لقد اتضح من الأقسام السابقة أن القصة القصيرة تهدف من ناحية البناء والنسيج لتصوير حدث متكامل له بداية ووسط ونهاية, ولذلك كان من الخطأ أن نتكلم عن نسيج القصة منفصلاً عن بنائها لأن النسيج والبناء شيء واحد. فالقصة القصيرة وحدة مستقلة لها كيان ذاتي لا يمكن تجزئتها إلى بناء ونسيج.

طارق شفيق حقي
21/06/2007, 08:17 PM
7- مصطلح الاستهلال:

- الاستهلال هو الطليعة الدالة على ما جاء بعدها , لو أحسن القاص استهلاله لجذب المتلقي ولو أهمل تجويدها لفارقه المتلقي ولو كان في قصته فناً من أجود الفنون , فالمطلع هو الرائحة والشكل الذي يجذب المتلقي للقصة.

"الاستهلال= الابتداء = المطلع : هو مطلع النص الأدبي , ويعطي الانطباع الأولي للنفس . فهو عامل مهم في إثارة التخييلات المناسبة. وقد سماه ابن المعتز ( حسن الابتداء) . وسمي بعده(براعة الاستهلال) , وكمال الاستفتاح.

وقد عني النقاد العرب بمطلع القصيدة عناية فائقة , فطالبوا الشعراء بإتقانه , علماً منهم بقوة الأثر والأول في النفس , وأنه يدفع السامع إلى التنبه والإصغاء إن كان جيداً آسراً , وإلى الفتور والانصراف إن كان ضعيفاً. وشرطوا للمطالع أن تكون واضحة لا غموض فيها, سهلة لا تعقيد فيها... متسقة مع ما بعدها .


من أجمل المطالع مرثية أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعاً..........إن الذي تحذرين قد وقعا.
وقول السموءل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه.....فكل رداء يرتديه جميل.
وقد أكد النقاد وجوب خلو المطالع من الصور التي تثير انفعالاً منفراً, وعلى أن تكون الافتتاحيات ملائمة لظروف الحال,
وقد وضع البلاغيون والنقاد عناصر يجب أن تتوفر في الاستهلال الجيد , منها : الصورة المثيرة , والتشويق , والاعتدال, والملاءمة.
الاعتدال: شرط في حجم الاستهلال يناسب طول القصيدة.

الملائمة: أن يلائم المطلع الغرض الذي صيغ من أجله.
يقول حازم القرطاجني :" إن الاستهلالات هي الطليعة الدالة على ما جاء بعدها, المنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة, تزيد النفس بحسنها ابتهاجاً ونشاطاً لتلقي ما بعدها,وربما غطت بحسنها على كثير من التخون الواقع بعدها".
صــ 29 مصطلحات نقدية من التراث الأدبي العربي لـ محمد عزام بتصرف .

- ولعلنا نضيف هنا على ما جاء من كلام النقاد أن عنوان القصة هو جزء من الاستهلال .
كثيراً ما أشكل على النقاد موضوع تفكير الكاتب بالمتلقي وتضاربت الآراء
وتحديداً في الاستهلال نقول يجب على القاص أن يتقن استهلال قصته , ويفكر بوقعها على المتلقي , لكن هذا الإتقان يجب أن يكون لحظات ولادة الفكرة القصصية ,ونخص الكتابة اللاشعورية التي يندفع فيه القلم فيكتب دون تفكير, لأن الانصراف لإتقان المطلع هنا يفقدك إشراق الفكرة القصصية من جهة , ويستنفذ طاقتك الإبداعية, أما حين تنتهي كتابة إشراق روحك وفكرك فإنك تفرح بمولدك الجديد وتسعى أن يظهر بأجمل مظهر فإنك تفكر باسمه والاسم هو المطلع. مع ذلك نقول فإن الانصراف لتجويد المطلع يعود لعدة عوامل هي اللحظة الشعورية والقدرة على الإمساك بها, وهذا يصرفنا لقدرة القاص وجودة أدواته , ولربما يحيك القاص في ذهنه استهلاله فيبنيه بناء عضوياً منسجماً مع تواتر ولادة الفكرة الإبداعية.

محاذيرنا بعد ذلك أنك لو وجدت أن اللحظة الشعورية والفكرة القصصية ستفر منك وستفقد طاقتك الإبداعية, فدع تجويد الاستهلال وعد إليه حين تنتهي قصتك.
للنظر لقول النابغة :
كليني لهّمٍ يا أميمة ناصب....وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وكيف يستحوذ على القلب والعقل في هم أصابه , وقد أتقن صورته فمجرد التفكير بها تقف مذهولاً لطاقة النابغة الروحية التي تحس وتتحد مع هذا الكون – وليل أقاسيه بطيء الكواكب_ ما هذا الهم الذي أصاب النابغة كلنا سيفكر , وجمال هذه الصورة سيزيد فينا السؤال وسنقتص أثر هذا الهم في بقية قصيده , إذن من تشويق وصورة أمسك بنا النابغة واستحوذ على قلوبنا
وهذا الهم الذي بدأ به هم مبهم لم يصلنا منه غير أنه كالليل البطيء الكواكب

- من منفرات الاستهلال الغموض المستغلق والغوص في الإيحاءات الذاتية, ذات المعاني الخاصة التي لا يجد في رموزها أي متلقي معنى يشده كالصور السريالية والتهويمات الذاتية.
- مما ينفر كذلك الصور الدادئية كان تقول : كانت الأفعى تسير على صدري نظرت في عيني وأخرجت لسانها ثم لسعتني في وجهي.
- تكثيف العبارة والاعتدال فيها,فقوة المطلع في كثافتها ,فمجمل الأدب له صبغة مكثفة موحية لا مستفيضة مترهلة, فكيف مطلع القصة فهو فرصتك خلال كلمات قليلة أن تجذب المتلقي فتدله عبر براعتك لبقية الحدث والقصة.

- التشويق : ولعل المطلع المشوق هو الفن الأجمل
ومن المطالع ما يفضي بك لأول الحدث , ومنه ما يفضي بك لمنتصفه ثم يعود بك لأوله ومنه من يفضي بك لأخره , مهما كان التقديم والتأخير فيجب أن يكون الاستهلال استهلالاً بارعاً يشد ويشوق.
ومن ما عرفت من بعض المطالع ما له رابط بنهاية القصة فترى الجملة مشتركة أو الكلمة . ومن المطالع ما تكامل مع النهاية ومن النهايات ما ألغى البداية ومنها ما نفاها وأحرقها .
- المجانية :المجانية تعبر عن ذاتها جلية واضحة منفرة فترى في بعض القصص مجانية في الوصف , مجانية في الجملة , مجانية في الصور.

طارق شفيق حقي
21/06/2007, 08:19 PM
7- الاستهلال في القرآن الكريم:

مادة قصص وردت في القران في أكثر من موضع وسنوردها كلها:
قال الله تعالى في القرآن الكريم:

" إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم"ُ 62 آل عمران.

"نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" 3 يوسف

"فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" 25 القصص

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176الأعراف


77 وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ 78 غافر

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا 164 النساء

175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176الأعراف

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 5 يوسف

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 111 يوسف

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا 63 قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا 64 الكهف

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ 11القصص

سنتناول استهلال قصة يوسف:

" إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ4 قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 5 وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 6 لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ 7 يوسف

الاستهلال كان دخولاً مباشراً في القصة في جذب الأذهان وشغل القلوب مع هذه الرؤيا تقترب بنا كاميرا التصوير من مشهد الابن وأبيه "إذ قال يوسف لأبيه" ولو لاحظنا أن القصة لم تذكر لنا صفات يوسف ,بل تركت لنا حرية التخيل له ولأبيه بل وللمكان كذلك دخول الابن في لب الموضوع دون ترهل ولا إطالة فلم يقل سأخبرك يا أبي خبراً أشغلني وأهمني وكان من العجب العجاب أنني رأيته في المنام , وهذا ما يحدثه كثير من القصاص في التطويل والشرح والملل الذي يدخل لقلب القارئ قبل حدثه وقصته وفنه , ثم جاء رد الأب رداً مباشراً وأدخل عنصر جديد للقصة, حيث أضاف أن هناك شر نجهله وهو كيد الأخوة و حفزنا لمعرفته, ثم أبقى على سر رؤيا الابن رغم معرفته لعظمها ,وزاد فينا الحيرة والتشويق لمعرفة سر هذا الخبر, وتكمن سر القدرة الإلهية في تقديم الحكم الربانية للإنسان من خلال التجارب البشرية والقصص التي تظهر له شريعة الله وحكمته , وأنه ما نهاك إلا لمعرفته وذلك جلي في قوله " إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" ونحن في أول القصة لا نعلم إن كان الشيطان عدو مبيناً فلم يظهر من القصة بعد هذا العدوان لكنه الله يعلمنا ويربينا تربية غيبية ,فذكر الحكمة أول القصة تذّكر بالعبارة في أذهاننا, ثم تنصرف السورة لذكر القصة التي ستثبت لنا من عجائبها أن هذا الشيطان عدو مبين للإنسان وسنقول حين نتابع تفاصيل القصة بلا شعور إنه فعل الشيطان العدو المبين , وهذا جمال التوقع ,وهذا الأسلوب يرسخ فينا التسليم بالغيب لأنه سيحدث كما حدث في هذه القصة, ثم يؤكد من خلال الحدث الحكمة والقول الرباني.

نعود لاستهلال قصة يوسف" إني رأيت..." لنجد فيما بعد أن هذه الاستهلال سيكون خاتمة القصة وتأكيداً لقول الله ولحكمه على لسان بطل القصة النبي يوسف" فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ 99 وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 100 رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 101" يوسف
ونرى أنه في النهاية :
1- الرجوع لاستهلال القصة فكانت القصة بين دفتين الرؤيا :(الاستهلال) ,وتفسيرها وحدوثها(الخاتمة والنهاية).
2- التأكيد على قول الله أن الشيطان عدو (قوله في أول القصة).
3- التأكيد على فضل الله ونعمته على يوسف وأبيه وأخوته التي ذكرها في أول القصة.

ثم تبدأ القصة من قوله تعالى: إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ 8 اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ 9
وكان الاستهلال مرتبطاً ارتباطاً وثيقة بعناصر القصة كما وضحنا.
...
أما في سورة الكهف :

"أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا 9 إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا 10 فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا 11 ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا 12 نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى13" سورة الكهف
نهاية القصة:

"سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا "22 سورة الكهف

ولو لاحظنا أن العلاقة بين استهلال القصة وقفلتها علاقة قوية جداً, ولا تبدأ القصة إلا وهي تعرف كيف تنتهي ولا تنتهي إلا وقد عرفت كيف بدأت , ولو لاحظنا نهاية سورة الكهف التي تصلح أن تكون بداية للقصة , وذلك من أساليب القران الكريم المتنوعة في هذا الفن القصصي الشيق, وفي هذا الأسلوب إعادة للقيمة الجمالية التي بثها في الاستهلال, وذلك من خلال إعادة شحن المتلقي بالطاقة الغرائبية, وهي من أساليب التخييل كي تتولد لديه مرة أخرى الرغبة في تقليب هذه القصة العجيبة المذهلة.

- ولو انتبهنا لاستهلال قصة أهل الكهف لوجدنا فيها استهلالاً يعقب الاستهلال الأول فأرى في قوله تعالى: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى13 " استهلالاً يتبع الاستهلال الأول:" أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا9 "
وكان استهلال قصة ذي القرنين يبدأ بقصة وينهي بقصة
وكأنها قصة ضمن قصة
"وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا 83 الكهف
فكان الاستهلال بداية مع قصة ذي القرنين وكانت النهاية مع يأجوج ومأجوج التي لم تنته قصتهم لحد الآن كما يشير القران الكريم بل يخبرنا بنهايتهم بعد أجل.

واستهلال قصة موسى مع الخضر كانت:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا 60 الكهف
ثم عودة الحياة للحوت وعودته للماء بشكل عجيب ,ثم رؤيتهما للخضر وتبدأ قصة نبي الله موسى معه بسؤال موسى له الصحبة وجواب الخضر المتحدي:" قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا 67 وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا 68 الكهف

وكان عبد الله الخضر يبين سبب عدم قدرة نبي الله موسى على الصبر وهو عدم الإحاطة بالخبر والسر والسبب , وهو بذلك يعطينا سلفاً مبرراً لسؤال نبي الله موسى الذي لا ينقص منه ومن علمه شيئاً .
وجاءت خاتمة قصة نبي الله موسى مع الخضر بتفسير هذا الجواب
"...ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا" 82 الكهف
وفي ذلك تنوع جميل في القرآن الكريم لفنون الاستهلال وتعلقه بخاتمة القصة.

طارق شفيق حقي
21/06/2007, 08:20 PM
7- الاستهلال في الحديث الشريف:

لننظر لفن القصة في الحديث الشريف وسنجد هذا الحديث كمثال, وهذا الحديث لهو قصة بكل معايير القصة الفنية وفيها من الغرابة والتشويق ما يشد المتلقي ,ولا يدعه حتى ينهي القصة, وقد أثر فيه هذا الأسلوب البليغ , ناهيك عن الدور التعليمي والقيمة الدينية للحديث, فنحن نتناول هذا الحديث كفن من فنون القص, تجلت فيه قدرة الحديث وبراعته على إتقان تقانات القص , لا مجرد سرد المعنى دون جمال الشكل.

" بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب. شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فاسند ركبتيه إلى ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت. قال فعجبنا له. يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: "أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان". قال ثم انطلق. فلبثت مليا. ثم قال لي: "يا عمر! أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"." صحيح مسلم ص 24

استهلال القصة هنا استهلال غرائبي , من خلال وصف الشخصية التي دخلت المجلس, فهو رجل غريب عنا ورغم ذلك فلا يرى عليه آثار السفر ,وكأنه خرج من غرفة من غرف المسجد , ولعل وصف هذه الشخصية هو وصف دقيق يجذب ويشد فالرجل رغم أنه شديد سواد الشعر, فثيابه شديدة البياض , وهنا هذا التباين الشكلي يسمى في تقانات القص الحديث بالمصغرة, والمصغرة وصف ما متقدم, يدل على سير القصة كلها ويدل على مجراها , فهو يحرك إحساس المتلقي وحدسه لما سيأتي دون أن يخبره بالتفاصيل, ومثيله كأن نقول:" الغيوم السوداء قد تجمعت في السماء , وتصادمت مع الرياح العاتية وضمهم ليل بهيم." وهذه تسمى مصغرة تدل بشكل غير مباشر على أمر مقلق سيحدث, ثم نكمل القصة وتحدث مشاجرة عنيفة في منزل العائلة وهكذا.

- وكذلك فإن المصغرة الاستهلالية في الحديث والتباين في وصف الرجل جاء في فعله كذلك, فهو يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم , ثم يصدقه, والصحابة يستغربون يسأل ويصدق. ثم في قفلة القصة نكون المفاجأة , إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم انطلق. فلبثت ملياً. ثم قال لي: "يا عمر! أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"
وللنظر للتكثيف في القصة ," بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل"

بينما نحن إذ طلع علينا رجل, فصفات المكان لا تهم, ووصف الزمان لا يهم بل سيكون مجانياً حتماً, ووصف الحضور لا يهم , فكلمة بينما نحن كافية كي تخلي المكان لجوهر القصة , كي يكون بأقوى قدرته على التأثير ولا يتشتت المتلقي في الوصف المجاني.
لم تبدأ القصة وتقول : نزل إلينا مرة جبريل بشكل رجل وصار يسأل رسول الله ...."

ولننظر للفارق الرهيب بين الشكلين. الأول يعلم بشكل فني بديع رائع, والثاني يلغي الفنية وعوامل الدهشة والغرائبية , وتحريك الحدس والتكثيف التي ظهرت في الشكل الأول.
وهذا مثال على الاستهلال في أقصوصة من القص النبوي والأمثلة كثيرة جداً.

طارق شفيق حقي
21/06/2007, 08:23 PM
8 - الاستهلال في مقامات بديع الزمان الهمذاني.

- المقامة هي حكاية تقال في مقام معين وتشتمل على الكثير من درر اللغة وفرائد الأدب، والحكم والأمثال والأشعار النادرة التي تدل على سعة إطلاع وعلو مقام على طريقة السجع وصنعة الكلام.
- فن المقامة يتلمس علاج المجتمع في حلة من اللفظ، إن المتلقي يعجب بالصياغة، وحسن السبك، وجمال السجع، فينشغل بها ولا يفرغ لما تهدف إليه المقامة في مضمونها إلا بعد اكتمال المقامة وعمق التفكير في المضمون.

وفن المقامة يقوم على الراوي ْ وهو في مقامات بديع الزمان الهمذانيْ عيسى بن هشام، وعلى البطل، وهو في مقامات البديع أبو الفتح الإسكندري، وجل مقامات بديع الزمان الهمذاني في الكدية والبطل في تلك المقامات لديه القدرة على التلون، والخداع، في سبيل الحصول على المال، فهو يلجأ إلى ضروب من الحيل، ليظهر بمظهر المستحق، ولديه الطرق المتنوعة، التي يصل عن طريقها إلى قلوب الناس، فيستدر عطفهم، ويحصل على المال، والمقامات وان كان جلها في الكدية إلا أنها تعالج موضوعات أخرى، فنجد بعض المقامات تتناول القضاء، وبعض المقامات تعالج موضوع الخرافات السائدة في المجتمع,

هل المقامة قصة :

- أجد أن كثيراً من مقامات بديع الزمان ما هي إلا قصص , ويرقى الكثير منها لقصة العصر بكل تقاناتها وفنونها, وتظهر براعة بديع الزمان في بناء الشخوص وقدرته على التحليل النفسي والاجتماعي, وسخريته الواضحة, وقفلاته الفنية , وبناء المقامات كي تؤلف موضوعاً واحداً يتكلم عن الكدية وما ذلك إلا تقدم في التفكير الفني .

"يذهب شوقي ضيف في كتابه المقامة إلى أن المقامة ليست قصة وإنما هي حديث أدبي بليغ . وهي أدنى إلى الحيلة منها إلى القصة فليس فيها من القصة إلا ظاهر فقط. ..... ومن هنا جاءت غلبة اللفظ على المعنى في المقامة. فالمعنى ليس شيئاً مذكوراً وإنما هو خيط ضئيل تنشر عليه الغاية التعليمية. ولعل ذلك ما جعل المقامة منذ ابتكرها بديع الزمان تنحو نحو اللفظ وحب لذاتها فالجواهر فيها ليس أساساً وإنما الأساس العرض الخارجي والحيلة اللفظية"
يقول فاروق سعد الكاتب الذي قدم لمقامات بديع الزمان : " ولكن هذا لا يعني أن المقامات خالية جميعها من السياق القصصي بل وحتى من البناء الدرامي , فالواقع أن كلا من المقامات : المضيرية , الحلوانية , البغدادية , البشرية, الموصلية تقدم على السرد المنطوي على تسلسل وتطور حدث أو أحداث حتى الذروة بنسيج في عقدة متماسكة لا تلبث أن تنحل . وقد كان بطرس البستاني منصفاً في كتابه" أدباء العرب في الأعصر العباسية "عندما أشار إلى ما تحفل به إحدى هذه المقامات وعنى المقامة المضيرية التي حوت " جمال القصص وروعة الفن ودقة الوصف وحسن الانتقال واتساق الأفكار. وفيها السحر والفكاهة والنكتة. لذلك يكون مارون عبود هو الأقرب إلى الواقع في كلمته الأخيرة في المقامات : " بقي علينا أن نقول كلمة أخيرة وهي جواب على هذا السؤال الذي كثيراً ما يرد : هل المقامة قصة ؟ نعم يا سيدي , إنها قصة .والفرق بينها وبين قصص اليوم كالفرق بين هندامك وهندام جدك , رحمه الله , ورحمني معه. ولكن ليست كل مقامات البديع قصصاً . فقسم منها لا شيء , والقسم الآخر شيء عظيم , وحسب الرجل ما خلق .إنها لفنان بديع" كذلك ما خلص إليه أحمد علي في بحثه " القصة في مقامات بديع الزمان" عندما قال :" أنه من الضلال أن نلزم المقامات الهمذانية شروط القصة العصرية الناجحة فالمرحلة التي كتبت فيها المقامات كانت مرحلة أولية في تطور القصة عند العرب" ص 27 مقامات بديع الزمان.

- حقيقة المقامة فن رائع , وبديع الزمان يتمتع بذهن قاص يتقن رسم شخوصه, ويتقن حبك الأحداث, بل يدخل الخيال لمقاماتها فنراه يزعم أن عيسى بن هشام يحضر مجلس سيف الدولة في المقامة الحمدانية , في المقامة الغيلانية يجتمع بعصمة الفزاري صاحب ذي الرمة , وبينهما فقط حوالي ثلاثمائة سنة.

- بناء الشخوص كان بديعاً: فشخصية عيسى بن هشام هي شخصية الرواي الذي يدخل أحيانا في أحداث القصة ,ويكون دائماً متخفياً متنكراً , وهو يجوب الآفاق يتتبع الإسكندري من سوق إلى سوق ومن بلد إلى بلد وغايته كشفه وكشف حيله وكأنه رجل تحري أو مخابرات أمثال من حفلت بهم قصص الجاسوسية والبوليسية الحديثة حيث يكشفون طرائدهم في اللحظات الأخيرة.

وشخصية أبو الفتح الإسكندري هي شخصية ترمز لنموذج المكدي الواسع العلم والثقافة والدارية , الشديد الحيلة , وهو شخصية عجيبة غريبة وصناعة الكدية المحرك الأكبر لأعماله , يجند في سبيلها كل وسائله في الخداع والمكر وصار يسعى للكدية بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة, وربما لم يعد همه المال بل الانتصار لمكره وخداعه بهذه الوسائل المتجددة , وهو متنكر في قصة يغير لباسه وطماره ويلبس لبس المكدي البالي وبذلك نرى له أدوار عديدة ونستمتع حين نعرف أخر القصة أنه هو صاحبنا صاحب الكدية. وهذا أسلوب قصصي بارع لدى الهمذاني.

العنوان جزء من الاستهلال :

يرتبط عنوان المقامة في أغلب الأحيان باستهلال المقامة
فيكون عنوان المقامة البلد الذي يستهل قصته , ويخبر عنه خبره مثلاً :
المقامة الجرجانية والأهوازية و الْأَصْفَهَانِيَّةُ و الأَذْرَبِيجَانِيَّةُ و الْبَغْدَاذِيَّةُ و الْبِصْرِيَّةُ و الفَزَارِيَّةُ و المَقَامَةُ البُخَارِيَّةُ و المَقَامَةُ القَزْوِينيَّةُ و المَقَامَةُ المُوْصِلِيةُو المَقَامَةَ العِرَاقِيَّةُو المَقَامَةُ الرَّصَافِيَّةو المَقَامَةُ الأَرْمَنِيَّةَو المَقَامَةُ النَّيْسابُورِيَّةُ"
المَقَامَةُ الْأَصْفَهَانِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسَى ْبنُ هِشَامٍ قَالَ :
كُنْتُ بِأَصْفَهَانَ، أَعْتَزِمُ المَسِيرَ إِلى الرَّيِّ، فَحَلَلْتُهَا حُلُولَ أَلْفَيِّ، أَتَوَقَّعُ الْقَافِلةَ كُلَّ َلْمَحةٍ، وَأَتَرَقَّبُ الرَّاحِلَةَ كلَّ صّبْحَةٍ، فَلَمَّا حُمَّ مَا تَوَقَّعْتُهُ نُودِيَ لِلصَّلاةِ نِدَاءً سَمِعْتُهُ، وتَعَيَّنَ فَرْصُ الإِجَابَةِ،............" وهذا حال ما ذكرنا من الأمثلة
ص 122 – مقامات بديع الزمان الهمذاني – دار الآفاق الجديدة – بيروت
1982
- ونرى الأمر ذاته في مقامات الحريري يرتبط العنوان بالاستهلال فيكون جزءاً منه كمقامة
المقامة الصنعانية
حدّثَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: لمّا اقتَعدْتُ غارِبَ الاغتِرابِ. وأنْأتْني المَترَبَةُ عنِ الأتْرابِ. طوّحَتْ بي طَوائِحُ الزّمَنِ. إلى صنْعاء اليَمَنِ. فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ. باديَ الإنْفاضِ..." مقامات الحريري
وعناوين بعض المقامات تأتي كالتالي:
المقامة الدّمياطيّة و المقامة الكوفيّة و المقامة المَراغيّة و المقامة المعَرّيَّة و المقامة الإسكندريّة
المقامة الرّحبيّة و المقامة السّاويّة و المقامة الدّمشقيّة و المقامة البغدادية و المقامة المكّيّة
و المقامة المغربيّة المقامة السِّنْجاريّة و المقامة النّصيبيّة.
- الاستهلال لدى بديع الزمان:
- واستهلال المقامة عند بديع الزمان يبدأ بـ حدثنا عيسى بن هشام والتي أرى أنها ليست استهلال المقامة الحقيقي, لأنها أصبحت لازمة تزينية في كل المقامات, بل الاستهلال الحقيقي ما جاء بعدها, لكننا لو بحثنا لوجدنا رتابة كذلك في كل استهلال جديد لمقامة جديدة, فالبداية تبدأ من المكان وقد يشير اسم المقامة لذلك كالمقامة الكوفية والبصرية , فيعرف المتلقي أن أحداث القصة وبدايتها ستكون من اسم المكان المذكور في العنوان.
ولو اعتبرنا تلك كذلك لازمة تتقدم الاستهلال الحقيقي : سنصل لجمال القصص لدى بديع الزمان الهمذاني, وبطل قصصه هو أبو الفتح الإسكندري
لنرى استهلال المقامة المضيرية:
-
"كُنْتُ بِالبَصْرَةِ، وَمَعِي أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ رَجُلُ الفَصَاحَةِ يَدْعُوهَا فَتُجِيبُهُ، وَالبَلاغَةِ يَأَمُرُهَا فَتُطِيعُهُ، وَحَضَرْنَا مَعْهُ دَعْوَةَ بَعْضِ التُّجَّارِ، فَقُدِمَتْ إِلَيْنَا مَضِيرَةٌ، تُثْنِي على الحَضَارَةِ، وَتَتَرَجْرَجُ في الغَضَارَةِ، وَتُؤْذِنُ بِالسَّلاَمَةِ، وَتَشْهَدُ لِمَعَاوِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ بِالإِمَامَة،ِ فِي قَصْعَةٍ يَزِلُّ عَنْهَا الطَّرْفُ، وَيَمُوجُ فِيهَا الظَّرْفُ، فَلَمَّا أَخَذَتْ مِنَ الخِوانِ مَكانَهَا، وَمِنَ القُلُوبِ أَوْطَانَهَا، قَامَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ يَلْعَنُهَا وَصَاحِبَهَا، وَيَمْقُتُهَا وَآكِلَهَا، وَيَثْلِبُهَا وَطَابِخَهَا، وَظَنَنَّاهُ يَمْزَحُ فَإِذَا الأَمْرُ بِالضِّدِّ، وَإِذَا المِزَاحُ عَيْنُ الجِدِّ، وَتَنَحَى عَنِ اُلْخِوَانِ، وِتِرِكِ مُسَاعَدَةَ الإِخْوَانِ، وَرَفَعْنَاهَا فَارْتَفَعَتْ مَعَهَا القُلُوبُ، وَسَافَرَتْ خَلْفَهَا العُيُونُ، وَتَحَلَّبَتْ لَهَا الأَفْوَاهُ، وَتَلَمَّظَتْ لَهَا الشِّفَاهُ، وَاتَّقَدَتْ لَهَا الأَكْبَادُ، وَمَضَى فِي إِثْرِهَا الفُؤَادُ، وَلكِنَّا سَاعَدْنَاهُ على هَجْرِهَا، وَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَ:" ص 174 مقامات بديع الزمان
- الاستهلال يبدأ مع نوع من الطعام يدعى المضيرية , وصاحبنا لهذه الدعوى هو بطل قصصنا أبو الفتح الإسكندري الذي رغم حيله ومكره للوصول لمبتغاه , لكنه هنا والطعام قد حضر يرفضه ويصيح ويلعنها, على غير عادته وكأنها لا يأكل إلا مما احتالت يده, لكن هذه البداية كانت مشوقة للجميع لمعرفة سر هذا الصياح والرفض رغم طمع البطل, وعناصر الاستهلال لا تدع للقارئ ترك هذه القصة مهما كان, فالعناصر متوفرة منذ البداية خاصة وقد حضر أبو الفتح الإسكندري من أول القصة ,فوجوده لا بد أن يكون له حكاية, ثم رفضه الطعام بهذا الشكل رغم لذته لا بد أن وراءه سراً, وهذا يدفع القارئ لمتابعة القصة سطراً فسطراً بل كلمة فكلمة حتى الثمالة.
- ولو استطردنا بعيداً عن الاستهلال سنجد في هذه القصة عناصر قصصية بديعة, فحضر أول ما حضر التشويق , وتقنية الخطف خلفاً, ثم بناء الشخصيات وخاصة الرجل الذي دعى أبا الفتح للوليمة, فبناء الشخصية يعبر عن براعة في التحليل النفسي, فكان هذا الرجل ثرثاراً مهذاراً, يقف عند كل دقيقة ويصفها ويصف جمالها وموطنها , ويطيل فيها الشرح والوصف , وهنا قد يفكر المتلقي بأنه غنمها بجهده وكده وتعبه, لكن بديع الزمان يفاجئنا أن الرجل ما هو إلا محتال, بل ولا ينفك أن يبوح بمواقف مكره واحتياله للوصول لهدفه , وأخذه بأرخص الأثمان مع انه يساوي الكثير, وكأن إطالته لوصف هذه الأشياء ما هي إلا وصف ثانوي لمكره الذي يجده ذكاءً وحذاقة, وقد نطل عنا بتحليل اجتماعي يفضح شريحة أخذت تنتشر في المجتمع , وقد انقلبت لديها القيم والمعايير وأصبح المكر والخداع شطارة وبراعة وحسن تدبير, واستطاع الهمذاني ببراعته القصصية تصوير هذه الشخوص , ونراه يعبر عن دقة في النسيج القصصي , ولنر ردود أبا الفتح الساخرة على هذا الرجل المهذار ونلمح تدخل الخاص في بناء الحوار , لا تركه يسرد كالخبر العادي يقول: " قِصَّتِي مَعَهَا أَطْوَلُ مِنْ مُصِيبَتي فِيهَا، وَلَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِهَا لَمْ آمَنِ المَقْتَ، وَإِضَاعَةَ الوَقْتِ، قُلْنَا: هَاتِ: قَالَ: دَعَاني بَعْضُ التُّجَّارِ إِلَى مَضِيرَةٍ وَأَنَا بِبَغْدَادَ، وَلَزِمَنِي مُلاَزَمَةَ الغَريمِ، وَالكَلْبِ لأَصْحَابِ الرَّقِيمِ، إِلَى أَنْ أَجَبْتُهُ إِلَيْهَا، وَقُمْنَا فَجَعَلَ طُولَ الطَّرِيق ِيُثَنِي عَلَي زَوْجَتِهِ، وَيُفَدِّيهَا بِمُهْجَتِهَ، وَيَصِفُ حِذْقَهَا فِي صَنْعَتِهَا، وَتَأَنُّقَهَا فِي طَبْخِهَا وَيَقُولُ: يَا مَولاْيَ لَوْ رَأَيْتَهَا، وَالخَرْقَةُ فِي وَسَطِهَا، وَهْيَ تَدُورُ فِي الدُّورِ، مِنَ التَّنُّورِ إِلَى القُدُورِ وَمِنَ القُدُورِ إِلَى التَّنُّورِ......... ، وَمِنْ سَعَادَةِ المَرْءِ أَنْ يُرْزَقَ المُسَاعَدَةَ مِنْ حَلِيلَتِهِ، وَأَنْ يَسْعَدَ بِظَعِينَتِهِ، وَلاَ سِيَمَّا إِذَا كانَتْ مِنْ طِينَتِهِ، وَهْيَ ابْنَةُ عَمِّي لَّحَا، طِينَتُها طِيِنَتِي، وَمَدِينَتُهَا مَدِينَتي، وَعُمُومَتُهَا عُمُومَتِي، وَأَرُومَتَها أَرُومَتي، لَكِنَّها أَوْسَعُ مِنِّي خُلْقاً، وَأَحْسَنُ خَلْقاً وَصَدَّعَنِي بِصِفَاتِ زَوْجَتِهِ "
حَتَّى انْتَهَينَا إِلَى مَحَلَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَوْلاي تَرَى هَذِهِ المَحَلَّةَ? هِيَ أَشْرَفُ مَحَالِّ بَغْدَادَ، يَتَنَافَسُ الأَخْيَارُ في نُزُولِها، وَيَتَغايَرُ الكِبَارُ فِي حُلُولِهَا، ثُمَّ لاَ يَسْكُنُهَا غَيْرُ التُّجَّارِ، وَإِنَّمَا المَرْءُ بِالْجَارِ وَدَارِى فِي السِّطَةِ مِنْ قِلادَتِهَا، وَالنُّقْطَةِ من دَائِرتَهَا، كَمْ تُقَدِّرُ يَا مَوْلايَ أُنْفِقَ عَلى كُلِّ دَارٍ مِنْهَا? قُلْهُ تَخْمِيناً إِنْ لَمْ تَعْرِفُهُ يَقِيناً، قُلْتُ: الكَثِيرُ، فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَكْبَرَ هَذا الغَلَطَ! تَقُولُ الكَثِيرَ فَقَطْ? وَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ مَنْ يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ، وَانْتَهَيْنَا إِلَى بَابِ دَارِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي، كَمْ تُقَدِّرُ يَا مَوْلايَ أَنْفَقْتُ على هذِهِ الطَّاقَةِ? أَنْفَقْتُ واللهِ عَلَيْهَا فَوْقَ الطَّاقَةِ، وَوَرَاءَ الفَاقَةِ، كَيْفَ ترى صَنْعَتَهَا وَشَكْلَهَا? أَرَأَيْتَ باللهِ مِثْلَهَا?.............. عَمَّرَكِ اللهُ يَا دَارُ وَلاَ خَرَّبَكَ يَا جِدَارُ، فَمَا أَمْتَنَ حِيطَانَكِ، وَأَوْثَقَ بُنْيَانَكِ، وَأَقْوى أَسَاسَكِ، تَأَمَّلْ بِاللهِ مَعَارِجَهَا، وَتَبَيَّنْ دَواخِلَهَا وَخَوارِجَهَا، وَسَلْني: كَيْفَ حَصَّلْتَهَا? وَكَمْ مِنْ حِيلَةٍ احْتَلْتَهَا،"
حتى ينفد صبر أبي الفتح ويقول :" قَالَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ فَجَاشَتْ نَفْسِي وَقُلْتُ قَدْ بَقِيَ الخَبْزُ وآَلاتُهُ وَالخُبْزُ وَصِفاتُهُ وَالحِنْطَةُ مِنْ أَيْنَ اشْتُرِيَتْ أَصْلاً، وَكَيْفَ اكْتَرى لَهَا حَمْلاً، وَفِي أَيِّ رَحىً طَحَنَ، وَإِجَّانَةٍ عَجَنَ، وَأَيَّ تَنُّورٍ سَجَرَ، وَخَبَّازٍ اسْتَأْجَرَ، وَبَقِيَ الحَطَبُ مِنْ أَيْنَ احْتُطِبَ، وَمَتَى جُلِبَ? وَكَيْفَ صُفِّفَ حَتَّى جُفِّفَ? وَحُبِسَ، حَتَّى يَبِسَ، وَبَقِيَ الخَبَّازُ وَوَصْفُهُ، وَالتِّلْمِيذُ وَنَعْتُهُ، وَالدَّقِيقُ وَمَدْحُهُ، وَالْخَمِيرُ وَشَرْحُهُ، وَالمِلْحُ ومَلاَحَتُهُ وَبَقِيَتِ السُّكُرَّجاتُ مَنِ اتَّخَذَها، وَكَيْفَ انْتَقَذَهَا، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهاَ،? وَمَنْ عَمِلَها? والخَلُّ كَيفَ انْتُقِى عِنَبُهُ،.."
ولنرى كيف انتهت القصة" فَقُلْتُ: كُلْ أَنْتَ مِنْ هَذا الجِرابِ، لَمْ يَكُنِ الكَنِيفُ فِي الحِسابِ، وَخَرَجْتُ نَحْوَ البَابِ، وَأَسْرَعْتُ فِي الذَّهَابِ، وََجَعَلْتُ أَعْدُو وَهُوَ يَتْبَعُني وَيَصِيحُ: يَا أَبَا الفَتْحِ المَضِيرَةَ، وَظَنَّ الصِّبْيَانُ أَنَّ المَضِيرَةَ لَقَبٌ لِي فَصاحُوا صِياحَهُ، فَرَمَيْتُ أَحَدَهُمْ بِحَجَرٍ، مِنْ فَرْطِ الضَّجَرِ، فَلقِي رَجُلٌ الحَجَرَ بِعِمامَتِهِ، فَغَاصَ فِي هامَتِهِ، فَأُخِذْتُ مِنَ النَّعَالِ بِما قَدُمَ وَحَدُثُ، وَمِنَ الصَّفْعِ بِمَا طَابَ وَخَبُثَ، وَحُشِرْتُ إِلَى الحَبْسِ، فَأَقَمْتُ عامَينِ فِي ذلكَ النَّحْسِ، فَنَذرْتُ أَنْ لا آكلَ مَضِيرَةً ما عِشْتُ، فَهَلْ أَنَا فِي ذَا يَالَهَمْدَانَ ظَالمُ?.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقَبِلْنَا عُذْرَهُ، وَنَذَرْنَا نَذْرَهُ، وَقُلْنا: قَدِيماً جَنَتِ المَضِيرةُ عَلَى الأَحْرَارِ، وَقَدَّمَتِ الأَرَاذِلِ عَلى الأَخْيارِ."
- ولنقف وقفة أخرى عند المقامة البغدادية تبدأ القصة بالاستهلال التزيني حدثنا عيسى بن هشام, ثم يبدأ استهلال القصة الحقيقي" اشتهيت الأزاد وأنا ببغداد وليس معي عقد على نقد فخرجت أنتهز محاله......."
- وهنا نلاحظ أن الذي كان راوي في بقية القصص( عيسى بن هشام) أصبح في هذه القصة بطل القصة وبدأ يظهر حيله وأساليبه , ونرى القاص بديع الزمان يحلل اجتماعياً في هذه القصة ويعبر عن إدراكه لبساطة أهل القرية أو السواد كما ذكر , على غير أهل المدينة, ورغم ذلك لن تكون البساطة مفتاح الحيلة فلا بد من أمر أخر, والذي استطاع إدراكه وتحليله نفسياً والتعبير عنه وهو يقول عن الرجل حين استدرجه ودعاه للطعام " : ، فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ القَرَمِ(شدة شهوة أكل اللحم)، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ، وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ"

- ثم يأتي عيسى بن هشام بالشواء اللذيذ والحلوى والطعام الفاخر , وإتيان عليه كله , لكنا نعرف مهارة القاص حين نتلمس براعته ونرى إشارته الفنية" فحين ينادي صاحب الشواء يؤكد على اسم الرجل متلمساً طمعه,وويزيد في مرارته بعد ذلك , حيث الرجل يريد أن يقول له أنه أبو عبيد لكن لطمعه يسكت وكأن ابن هشام يستغله ويعرف نقطة ضعفه, ويسخر منه أيما سخرية في هذا النداء " فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ، واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ( خبز رقيق)، وَرُشَّ عَلَيْهِ شَيْئَاً مِنْ مَاءِ السُّمَّاقِ، لِيأَكُلَهُ أَبُو زَيْدٍ هَنيَّاً،"
ثم تأتي نهاية الحيلة وفاصلتها البارعة , فالرجل قد عطش وما أحوجه لماء بارد فنرى ابن هشام يسارع للقول "ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ( مصنوع ليلاً)، وَيَفْثأَ ( العطش)هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ"
- بل لا يكتفي بالهرب , ولعل غايته لم تكن فقط الطعام بل الاستمتاع بالتحايل على الرجل السوادي , واستغلال طمعه والتشفي به من ناحية لا يراه فيها.
نهاية القصة كانت في طلب صاحب الشواء نقوده, فعرف السوادي أنه قد احتيل عليه ويقول " كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ( تصغير قرد)، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ."
ولعله كذلك يوجه الكلام لنفسه في داخله فهو يقول ليتني لم أقبل أن أكون أبا زيد, ويجلد ذاته حين لا ينفعه تأنيب الضمير, فحين صاح ابن هشام" فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ" سكت السوادي وقد ظفر بغنيمة, وهي لعمري نصيحة ذهبية أن لا يطمع المرء بما ليس له, فقد يكون شركاً يقع فيه.
القصة هي قصة فنية بكل أدواتها , وربما يضيف عمق المعنى للقصة أحد أركانها التي لا تعرفها القصة الحديثة .
ونعرض هنا القصة كاملة
" المَقَامةُ الْبَغْدَاذِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيَسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ ( تمر من نوع جيد)، وأَنَا بِبَغْدَاذَ، وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حَتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ( محلة ببغداد تقع في غربها)،فَإِذَا أَنَا بِسَوادِيٍّ( نسبة إلى ريف العراق حيث الخضرة منتشرة والتي تبدو من بعيد بلون السواد) يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيَطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ.
فَقُلْتُ: ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ? وَأَيْنَ نَزَلْتَ? وَمَتَى وَافَيْتَ? وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ،
فَقَالَ السَّوادِيُّ: لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ،
فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ، وَاتْصَالُ البُعْدِ.
فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ ? أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي?
فَقَالَ: َقدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ (آثار بيته)، وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلاَ حَوْلَ ولاَ قُوةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيم، وَمَدَدْتُ يَدَ البِدَارِ(المسارعة)، إِلي الصِدَارِ(القميص)، أُرِيدُ تَمْزِيقَهُ، فَقَبَضَ السَّوادِيُّ عَلى خَصْرِي بِجِمُعْهِ (قبضة يده).
وَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللهَ لا مَزَّقْتَهُ، فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ القَرَمِ(شدة شهوة أكل اللحم)، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ، وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ، ثُمَّ أَتَيْنَا شَوَّاءً يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقا( المقصود دهن اللحم عندما يسيل على الشواء)ً، وَتَتَسَايَلُ جُوذَابَاتُهُ(خبز تنور) مَرَقاً.
فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ، واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ( خبز رقيق)، وَرُشَّ عَلَيْهِ شَيْئَاً مِنْ مَاءِ السُّمَّاقِ، لِيأَكُلَهُ أَبُو زَيْدٍ هَنيَّاً، فَأنْخّى الشَّواءُ بِسَاطُورِهِ، عَلَى زُبْدَةِ تَنُّورِهِ، فَجَعَلها كَالكَحْلِ سَحْقاً، وَكَالطِّحْنِ دَقْا، ثُمَّ جَلسَ وَجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ وَلا يَئِسْتُ، حَتَّى اسْتَوفَيْنَا، وَقُلْتُ لِصَاحِبِ الحَلْوَى: زِنْ لأَبي زَيْدٍ مِنَ اللُّوزِينج( نوع من الحلواء يصنع من الخبز ودهن اللوز) رِطْلَيْنِ فَهْوَ أَجْرَى فِي الحُلْوقِ، وَأَمْضَى فِي العُرُوقِ، وَلْيَكُنْ لَيْلَّي العُمْرِ، يَوْمِيَّ النَّشْرِ، رَقِيقَ القِشْرِ، كَثِيفِ الحَشْو، لُؤْلُؤِيَّ الدُّهْنِ، كَوْكَبيَّ اللَّوْنِ، يَذُوبُ كَالصَّمْغِ، قَبْلَ المَضْغِ، لِيَأْكُلَهُ أَبَو َزيْدٍ هَنِيَّاً، قَالَ: فَوَزَنَهُ ثُمَّ قَعَدَ وَقَعدْتُ، وَجَرَّدَ وَجَرَّدْتُ، حَتىَّ اسْتَوْفَيْنَاهُ.
ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ( مصنوع ليلاً)، وَيَفْثأَ ( العطش)هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ السَّوادِيُّ إِلَى حِمَارِهِ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ? فَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ: أَكَلْتُهُ ضَيْفَاً، فَلَكَمَهُ لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ: هَاكَ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ? زِنْ يَا أَخَا عِشْرِينَ، فَجَعَلَ السَّوَادِيُّ يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ بِأَسْنَانِهِ وَيَقُولُ: كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ( تصغير قرد)، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ، فَأَنْشَدْتُ:
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلـهْ لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَـالَـهْ
وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِـيَمةٍ فَالمَرْءُ يَعْجِزُ لاَ مَحَالَهْ
" ص 129 مقامات بديع الزمان الهمذاني
- ولعلنا نقف وقفة سريعة عند المقامة الموصلية فالاستهلال يبدأ عند صحبة ابن هشام لأبي الفتح الإسكندري يبحثان عن لذة الحيلة كالعادة, وكأن ابن هشام وضع صوب عينيه كشف حيل السكندري , ولم يعد يأمن لظاهر الوضع بل صار يبحث وقد نفد صبره لعدم اكتشافه لحيلة جديدة , وقد أصبح هدفه الكشف عن فنون الحيل: يقول لصاحبه أين نحن من الحيلة, وهذا الاستهلال استهلال مشوق كالعادة, يمسك القارئ حتى يكشف عن سر هذه الحيلة, ورسالة الاستلال لدى الهمذاني تقول, الكشف عن مغزى القصة لا يعني التخفيف من القدرة على جذب المتلقي, بل بالعكس سنرى أسالب عجيبة وغريبة مع صاحبنا السكندري.
- السخرية تطل هنا عبر تعامل السكندري مع الميت , وخاصة حين جاء القوم بعد المدة وقد أخبرهم أنه يستطيع أن يعيده للحياة
- " فَلَمَّا ابْتَسَمَ ثَغْرُ الصُّبْحِ وانْتَشَر جَناحُ الضَّوِّ، في أُفُقِ الجَوِّ، جاءَهُ الرِّجَالُ أَفْوَاجاً، والنِّساءُ أَزْوَاجاً، وَقَالوا: نُحِبُّ أَنْ تَشْفِيَ العَلِيلَ، وَتَدَعَ القَالَ والقِيلَ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: قُومُوا بِنا إِلَيْهِ، ثُمَّ حَدَرَ التَّمَائِمَ عَنْ يَدِهِ، وَحَلَّ العَمائِمَ عنْ جَسَدِهِ، وَقَالَ: أَنِيمُوهُ على وَجْهِهِ، فَأُنِيمَ، ثُمَّ قَالَ: أَقِيمُوهُ على رِجْلَيْهِ، فَأُقِيمُ، ثُمَّ قَالَ: خَلُّوا عَنْ يَدَيْهِ، فَسَقَطَ رأَسْاً، وَطَنَّ الإِسْكَنْدَرِيُّ بِفِيهِ وَقَالَ: هُوَ مَيِّتٌ كَيْفَ أُحْيِيهِ? فَأَخَذَهُ الخُفُّ، وَمَلَكَتُهُ الأَكُفُّ، وَصَارَ إِذَا رُفِعَتْ عَنْهُ يَدٌ وَقَعَتْ عَلَيْهِ أُخْرَى، ثُمَّ تَشَاغَلوا بِتَجْهيزِ المَيِّتِ، فانْسَللْنَا هَارِبينَ"
- حسن التخلص هنا و السخرية التي تعامل معها السكندري كانت بديعة, فلم يخبر صديقه ابن هشام أنه خالي الوفاض هذه المرة, والرجل قد أصيب بثقة عارمة من تخلصه من كل مشكلة , بفضل حيله ومكره, وصار يتعامل تلقائياً مع المواقف ويخترع البدايات منتظراً الإلهام في حل النهايات, لكنه هذه المرة أخفق ولم يأتيه المكر , وإذ به يقول بسخرية معتقة "الرجل ميت كيف أحييه؟" وسؤال ابن هشام لماذا ورطتنا وأنت تعرف أنك خالي الحيلة, وهذا يرتبط مع استهلال القصة , حيث اخترق ابن هشام الإيهام القصصي, وحاول أن يشرك القارئ الفكرة ,فقال بعد أن أحس بخلوه من إحساس الكشف" أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الحِيلَةِ" , فجاءت النتيجة على غير العادة خالية من الحيلة, وكانت حيلة الإسكندري خالية الوفاض على غير العادة , ورغم ذلك يحتوي القصة على المباغتة والسخرية اللطيفة, وتعبر عن دقة فن القاص , لكنه يتابع في القصة حتى يصل لقوم وينال منهم بمكره ويهرب مع صاحبه, وتكون قفلة القصة مع الحيلة , في التفاف وعودة القصة لمجراها الذي سارت عليه أخواتها.
المَقَامَةُ المُوْصِلِيةُ
حدَّثَنا عيسَى بْنُ هِشَامٍ قالَ:
لَمَّا قَفِلْنَا مِنَ المُوصِلِ، وَهَمَمْنَا بِالْمَنْزَلِ، وَمُلِكَتْ عَلَيْنَا القَافِلةُ، وَأَخَذَ مِنَّا الرَّحْلُ والرَّاحِلةُ، جَرَتْ ِبي الحُشَاشَةُ إِلَى بَعْضِ قُرَاهَا، وَمَعِي الإِسْكَنْدَِيُّ أَبُو الفَتْحِ، فَقُلْتُ: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الحِيلَةِ? فَقَالَ: يَكْفِي اللهُ، وَدُفِعْنَا إِلَى دَارٍ قَدْ مَاتَ صَاحِبُها، وَقَامَتْ نَوادِبُهَا، واحْتَفَلتْ بِقَوْمٍ قَدْ كَوَى الجَزعُ قلوبَهُمْ، وَشَقَّتِ الفَجِيعَةُ جُيُوبَهُمْ، ونِسَاءٍ قد نَشَرْنَ شعُورَهُنَّ، يَضْرِبْنَ صُدُورَهُنَّ، وَشَدَدْنَ عقُوُدَهُنَّ، يَلْطِمْنَ خدُودَهُنَّ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: لَنَا فِي هَذا السَّوادِ نَخْلَةٌ، وَفِي هذا القَطِيعِ سَخْلَةٌ، وَدَخَلَ الدَّارَ لِيَنْظُرَ إِلى المَيِّتِ وَقَدُ شُدَّتْ عِصَابَتُهُ لِيُنْقَلَ، وَسُخِّنَ ماؤُهُ لِيُغْسَلَ، وهُيِّئَ تَابُوتُهُ لِيُحْمَلَ، وَخِيطَتْ أَثْوَابُهُ لِيُكَفَّنَ، وَحُفِرَتُ حُفْرَتُهُ لِيُدْفَنَ، فَلَمَّا رَآهُ الإِسْكَنْدَرِيُّ أَخَذَ حَلْقَهُ، فَجَسَّ عِرْقَهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ اتَّقُوا اللهَ لا تَدْفِنُوهُ فَهْوَ حَيٌّ، وإِنَّمَا عَرَتْهُ بَهْتَةٌ، وَعَلتهُ سَكتَةٌ، وَأَنَا أُسَلِّمُهُ مَفْتُوحَ العَيْنَيْنِ، بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ لَكَ ذَلِكْ? فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذا ماتَ بَرَدَ إبطه، وَهذَا الرَّجُلُ قَدْ لَمْستُهُ فعَلِمْتُ أَنَّهُ حَيٌّ، فَجَعَلوا أَيْدِيَهُمْ تحت إبطه، فَقَالوا: الأَمْرُ على مَا ذَكَرَ، فَافْعَلُوا كَمَا أَمَرَ، وَقَامَ الإِسْكَنْدَرِيُّ إِلى المَيِّتِ، فَنَزَع ثِيابَهُ ثُمَّ شَدَّ لهُ العَمَائِمَ، وَعَلَّقَ عَليْهِ تَمائِمَ، وَأَلعَقَهُ الزَّيْتَ، وَأَخْلَى لَهُ البَيْتَ، وَقَالَ: دَعُوهُ وَلا تُرَوِّعُوهُ، وَإِنْ سَمِعْتُمْ لَهُ أَنِيناً فَلاَ تُجِيبُوهُ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ شَاعَ الخَبَرُ وانْتَشَرَ، بِأَنَّ المَيِّتَ قَدْ نُشِرَ، وَأَخَذَتْنَا المَبارُّ، مِنْ كُلِّ دَارٍ، وَانْثَالَتْ عَلَيْنا الهَدَايا مِنْ كُلِّ جَار، حَتَّى وَرِمَ كِيسُنَا فِضَّةً وَتِبْراً وامْتَلأَ رَحْلُنَا أَقِطاً وَتَمْراً، وَجَهَدْنا أَنْ نَنْتَهِزَ فُرْصَة في الهَرَبِ فَلَمْ نَجِدْهَا، حَتَّى حَلَّ الأَجَلُ المَضْرُوبُ، واسْتُنْجِزَ الوَعْدُ المَكْذُوبُ فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: هَلْ سَمِعْتُمْ لِهَذَا العُلَيِلِ رِكْزاً، أَوْ رَأَيْتُمْ مِنْهُ رَمْزاً? فَقَالوا: لا، فَقالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ صَوَّتَ مُذْ فَارَقْتُهُ، فَلَمْ يَجِيئْ بَعْدُ وَقْتُهُ، دَعُوهُ إِلَى غَدٍ فَإِنَّكُمْ إِذا سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، أَمِنْتُمْ مَوْتَهُ، ثُمَّ عَرِّفُونِي لأَحْتَالَ في عِلاجِهِ، وإِصْلاحِ ما فَسَدَ مِنْ مِرَاجِهِ، فَقَالوا: لا تُؤَخِّرْ ذَلِكَ عَنْ غَدٍ، قَالَ: لا، فَلَمَّا ابْتَسَمَ ثَغْرُ الصُّبْحِ وانْتَشَر جَناحُ الضَّوِّ، في أُفُقِ الجَوِّ، جاءَهُ الرِّجَالُ أَفْوَاجاً، والنِّساءُ أَزْوَاجاً، وَقَالوا: نُحِبُّ أَنْ تَشْفِيَ العَلِيلَ، وَتَدَعَ القَالَ والقِيلَ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: قُومُوا بِنا إِلَيْهِ، ثُمَّ حَدَرَ التَّمَائِمَ عَنْ يَدِهِ، وَحَلَّ العَمائِمَ عنْ جَسَدِهِ، وَقَالَ: أَنِيمُوهُ على وَجْهِهِ، فَأُنِيمَ، ثُمَّ قَالَ: أَقِيمُوهُ على رِجْلَيْهِ، فَأُقِيمُ، ثُمَّ قَالَ: خَلُّوا عَنْ يَدَيْهِ، فَسَقَطَ رأَسْاً، وَطَنَّ الإِسْكَنْدَرِيُّ بِفِيهِ وَقَالَ: هُوَ مَيِّتٌ كَيْفَ أُحْيِيهِ? فَأَخَذَهُ الخُفُّ، وَمَلَكَتُهُ الأَكُفُّ، وَصَارَ إِذَا رُفِعَتْ عَنْهُ يَدٌ وَقَعَتْ عَلَيْهِ أُخْرَى، ثُمَّ تَشَاغَلوا بِتَجْهيزِ المَيِّتِ، فانْسَللْنَا هَارِبينَ حَتَّى أَتَيْنَا قَرْيةً على شَفِيرِ وَادٍ السَّيْلُ يُطَرِّفُها وَالمَاءُ يَتَحَيَّفُها. وأَهْلُهَا مغْتَمُّونَ لا َيمْلِكُهُم غُمْضُ الَّليْلِ، مِنْ خَشْيَةِ السَّيْلِ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: يَا قَوْمُ أَنَا أَكْفِيكمْ هَذا المَاءَ وَمَعَرَّتَهُ، وأَرَدُّ عَنْ هذهِ القَرْيَةِ مَضَرَّتَهُ، فَأَطيعوني، ولا تُبْرِمُوا أَمْراً دُونِي، فَقَالوا: ومَا أَمْرُكَ? فَقَالَ: أذْبَحُوا في مَجْرَى هَذا المَاءِ بَقَرَةً صَفْرَاءَ، وأَتُونِي بِجَارِيةٍ عَذْراءَ، وَصَلُّوا خَلْفِي رَكْعَتَيْنِ يَثْنِ اللهُ عَنْكُمْ عِنان هذا المَاءِ، إِلى هَذِهِ الصَّحْراءِ، فَإِنْ لَمْ يَنْثَنِ المَاءُ فَدَمِي عَلَيْكُمْ حَلالٌ، قَالوا: نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَذَبَحُوا البَقَرَةَ، وَزَوَّجُوهُ الجَارِيَةَ، وَقَامَ إِلى الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِما، وَقَالَ: يَا قَوْمُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ يَقَعْ مِنْكُمْ فِي القِيامِ كَبْوٌ، أَوْ فِي الرُّكُوعِ هَفْوٌ، أَوْ في السُّجُودِ سَهْوٌ، أَوْ فِي القُعُودِ لَغْوٌ، فَمَتَى سَهَوْنَا خَرَجَ أَمَلُنَا عَاطِلاً، وَذَهَبَ عَمَلُنا بَاطِلاً، وَاصْبِرُوا عَلى الرَّكْعَتَينِ فَمَسَافَتُهُمَا طَوِيلَةٌ، وَقَامَ لِلْرَكْعَةِ الأُولَى فَانْتَصَبَ انْتِصَابَ الجِذْعِ، حَتَّى شَكَوا وَجَعَ الضِّلْعِ، وَسَجَدَ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ هَجَدَ ولمْ يَشْجُعُوا لِرَفْعِ الرُّؤُوسِ، حَتَّى كَبَّرَ لِلْجُلُوسِ، ثُمَّ عَادَ إِلى السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَوْمَأَ إِلَيَّ، فَأَخَذْنَا الوَادِيَ وَتَرَكْنَا القَوْمَ سَاجِدينَ، لاَ نَعْلَمُ مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمْ، فَأَنْشَأَ أَبُو الفَتْحِ يقُولُ:رَى هَذا المَاءِ بَقَرَةً صَفْرَاءَ، وأَتُونِي بِجَارِيةٍ عَذْراءَ، وَصَلُّوا خَلْفِي رَكْعَتَيْنِ يَثْنِ اللهُ عَنْكُمْ عِنان هذا المَاءِ، إِلى هَذِهِ الصَّحْراءِ، فَإِنْ لَمْ يَنْثَنِ المَاءُ فَدَمِي عَلَيْكُمْ حَلالٌ، قَالوا: نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَذَبَحُوا البَقَرَةَ، وَزَوَّجُوهُ الجَارِيَةَ، وَقَامَ إِلى الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِما، وَقَالَ: يَا قَوْمُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ يَقَعْ مِنْكُمْ فِي القِيامِ كَبْوٌ، أَوْ فِي الرُّكُوعِ هَفْوٌ، أَوْ في السُّجُودِ سَهْوٌ، أَوْ فِي القُعُودِ لَغْوٌ، فَمَتَى سَهَوْنَا خَرَجَ أَمَلُنَا عَاطِلاً، وَذَهَبَ عَمَلُنا بَاطِلاً، وَاصْبِرُوا عَلى الرَّكْعَتَينِ فَمَسَافَتُهُمَا طَوِيلَةٌ، وَقَامَ لِلْرَكْعَةِ الأُولَى فَانْتَصَبَ انْتِصَابَ الجِذْعِ، حَتَّى شَكَوا وَجَعَ الضِّلْعِ، وَسَجَدَ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ هَجَدَ ولمْ يَشْجُعُوا لِرَفْعِ الرُّؤُوسِ، حَتَّى كَبَّرَ لِلْجُلُوسِ، ثُمَّ عَادَ إِلى السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَوْمَأَ إِلَيَّ، فَأَخَذْنَا الوَادِيَ وَتَرَكْنَا القَوْمَ سَاجِدينَ، لاَ نَعْلَمُ مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمْ، فَأَنْشَأَ أَبُو الفَتْحِ يقُولُ:
لاَ يُبْعِدُ اللهُ مِثْلـي وَأَيْنَ مثْلِي أَيْنَـا?
للهِ غَـفْـلَةُ قَـوْمٍ غَنِمْتُهَا بِالْهُوَيْنَـا!
اكْتَلْتُ خَيْراً عَلَيْهِمْ وَكِلْتُ زُوراً وَمَيْناً
ص 167 المصدر ذاته.
****
- القصص تحمل من أدوات القص وتقاناته الحديثة الكثير, ولو عدنا لفنيات القصة التي سردناها في كتاب رشدي رشاد , ولجدنا معظمها قد توفر لدى بديع الزمان, فالحبكة والنسيج والبناء العام وبناء الشخصيات والمقدمة والوسط ونقطة التنوير والأثر الكلي للقصة والمعنى كلها توفرت لدى القاص البديع في قصصه البديعة, بل كانت وحدة البناء قاسماً مشتركاً في كل مقاماته , وهي تدور حول الكدية وتصور حيلهم, والمعنى العام هو تحليل لمفرزات المجتمع الجديد فخرج إلينا كتاب عام في موضوع واحد متقن الأساليب جميل العبر ظريف الفنون.

طارق شفيق حقي
21/06/2007, 08:25 PM
10 – خاتمة.


قد أعجبنا خلال بحثنا بفن القصة العربية واتسعت الافاق لتفضي لبحوث جديدة , فكانت القصة القصيرة جداً (أو الأقصوصة) موجودة في القران الكريم وفي الحديث الشريف وبحاجة للدرس والبحث, كذلك قد وجدت لدى الهمذاني شخصية قصصية تستحق أن نقف عندها مطولاً ونستخلص كل فنون قصصها , وقد وقفنا عند بعض المواضع الفنية في قصصه واستطردنا بعيداً عن الاستهلال , رغم أنه يرتبط بشكل من الأشكال بالاستهلال, وأرى أن الاقتراب من روح التراث يبعث على ثبات الخطوات وتأكيد الفكرة بأن هذا التراث يحمل في طياتها الكنوز التي يجب أن نجلو عنها

ونستخرجها ونسلتهم منها , ونتابع مسيرتها النيرة في معمار هذه الحضارة الباسقة, قد بدأنا مع مصطلح الاستهلال الذي صدرناه من الشعر للقصة , والطريق بحاجة لتصدير بقية مصطلحات القص , لنكون بذلك خلفية نقدية لفن القصة , فترى طريقها الصحيح وتعود لمشيتها الأولى.


والله من وراء القصد.

طارق شفيق حقي

د.ألق الماضي
03/08/2007, 11:06 PM
المتألق طارق شفيق
رائع ما دون هنا...
والأروع هو استنتاجاتك وتحليلك...
بل الأكثر روعة هو إصرارك ، وحبك لهذه اللغة وتراثها...
اتكل على الله ، وسر فيما عزمت عليه...
وفقك الله...وكلل جهدك بالنجاح...

د.مصطفى عطية جمعة
09/08/2007, 09:44 AM
الكاتب والباحث / طارق شفيق حقي
تحياتي إليك
شكرا لجهودك الطيبة في البحث ، وهي جهود تعبر عن نفس وثابة طامحة للبحث النقدي ، واسمح لي أن أناقشك وأحاورك فيما كتبت ، فالهدف الاستفادة المشتركة ، والنمو المعرفي .
أولا : أنت مشغول بقضية التراث العربي وتميزه ، وضد التغريب والنظريات التغريبية الوافدة ، ولكن أحب أن أوضح لك نقطة ، أن هذا الهاجس لا وجود له عمليا ، فالأدب العربي القديم والمعاصر أدب عالمي ومميز ، وهناك أقسام وكورسات في الجامعات العالمية تعنى بالأدب العربي ، ولا تحتقره أدبيا ، فقد سقطت في العالم نظرية مركزية الحضارة الأوروبية ، والآن السائد هو تعدد الحضارات وثرائها : قديما وحديثا .
ثانيا : ارتباطا بالنقطة السابقة ، فنحن لا نحتقر أبدا تراثنا الأدبي : القصصي والشعري وغيرهما ، ولكن لدينا قناعة أن كل عصر له أشكاله وأجناسه الأدبية ، فهل كانت المقامة موجودة قبلا في الأدب العربي ، أبدا ، إنما هي مستحدثة . وهكذا ألف ليلة وليلة ، وللعلم فقد استفاد الغرب والعالم من آداب العرب كثيرا خاصة كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة ، ونحن نتعامل مع الغرب بنظرية الند ، لا التابع وهذا هو الجديد الآن . ولا عقدة في نفوس النقاد العرب المعاصرين نحو الغرب .
-ثالثا : عنونت بحثك بعنوان الاستهلال في القصة ، وهذا جيد ، ولكن تفرعت في كثير من المباحث الفرعية التي تعمقت فيها كثيرا ، دون طائل ، خاصة أن هناك عشرات الكتب التي تناولتها ، مثل : قضية القصة ومفهومها قديما وحديثا ، هذه قُتِلَت بحثا ، والآن النظريات النقدية الحديثة تعنى بمفهوم السرد ومنهجه ، وهو يشمل كل أشكال القص والحكي : مقامة ، قصة ، سيرة شعبية ، رواية ، شعر قصصي ، ورسالتي للدكتوراه عن كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي ، وهو كتاب قصصي رائع وقد درسته وفقا لمنهج السرد البنيوي ، واكتشفنا أنه نص رائع ومبتكر ، دون عقدة القديم والجديد .( نشر الكتاب عام 2006م بعنوان أشكال السرد في القرن الرابع الهجري ، كتاب الفرج بعد الشدة نموذجا ) عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة.
لذا ، أقترح الاقتصار على الاستهلال في القصة : القرآنية ، والحديث الشريف ، والمقامة ، يكون عنوان البحث كالتالي: الاستهلال المفهوم والأثر الفني ( دراسة تطبيقية على القص القرآني والقص النبوي والمقامة ) ، اي يجمع البحث الشق النظري : تعريف الاستهلال ، والشق التطبيقي على القرآن والحديث والمقامة ، وسيكون بحثا مميزا محددا ، واضحا ، وأرجو تعميق مفهوم الاستهلال في المقامة ، وأثره الدلالي ، وعدم إطالة الاستشهاد بل تكتفي بالإشارة والاستشهاد القصير .
رابعا : أشير إلى أن كل عصر أدبي له ذائقته ، ويستفيد الأدباء مما يجري في العالم ، وهناك منهج الأدب المقارن في هذا الشأن ، فأهلا بكل شكل أدبي جديد ، مسرح ، قصة ، قصيدة ، المهم أن يتم بروح مجتمعنا ، وثقافتنا ، وأهلا بكل من يعرفنا بالجديد في العالم ، حتى نناقشه ، ونستفيد منه ، ونطور ثقافتنا وإبداعنا ، فالإبداعات البشرية ملك جميع الشعوب والحضارات .
- ـأخيرا : هناك كتاب بعنوان : الاستتهلال فن البدايات الأدبية ، للباحث / ياسين النصير ، صدر في مصر ( هيئة قصور الثقافة في مصر ) وصدر في بيروت أيضا ، وهو يدرس هذا الفن بشكل موثق ومعمق ، ممكن أن يفيدك أكثر.
تحياتي والنقاش موصول بيننا ، وشكرا لدعوتك الكريمة لي .

طارق شفيق حقي
11/10/2007, 02:59 AM
الكاتب والباحث / طارق شفيق حقي
تحياتي إليك
شكرا لجهودك الطيبة في البحث ، وهي جهود تعبر عن نفس وثابة طامحة للبحث النقدي ، واسمح لي أن أناقشك وأحاورك فيما كتبت ، فالهدف الاستفادة المشتركة ، والنمو المعرفي .


حياك وبياك

أولا : أنت مشغول بقضية التراث العربي وتميزه ، وضد التغريب والنظريات التغريبية الوافدة ، ولكن أحب أن أوضح لك نقطة ، أن هذا الهاجس لا وجود له عمليا ، فالأدب العربي القديم والمعاصر أدب عالمي ومميز ، وهناك أقسام وكورسات في الجامعات العالمية تعنى بالأدب العربي ، ولا تحتقره أدبيا ، فقد سقطت في العالم نظرية مركزية الحضارة الأوروبية ، والآن السائد هو تعدد الحضارات وثرائها : قديما وحديثا .


ما يهمني من التراث العربي , ليس تهميش المراكز الغربية له , وأعلم أن ملايين المخطوطات تكرم في مكاتبها (رغم أنهم سارقون لها ويخفون منها الكثير)
لكن المراد هو عودة العقل العربي لنشاطه ولهويته, فترانا نتخبط بين معاني العديد من المصطلحات رغم أننا نعني المعنى ذاته لكن اللفظ مختلف وكل بحسب ترجمته
وهذا ما رمى إليه د عناني حيث أحجم عن ترجمة الكثير من المصطلحات لأنه وجدها متغيرة في مصدرها. وانتقد صغار المترجمين أمثال جابر عصفور
الذين يستخدمون كلمات رنانة طنانة في ترجماتهم.




ثانيا : ارتباطا بالنقطة السابقة ، فنحن لا نحتقر أبدا تراثنا الأدبي : القصصي والشعري وغيرهما ، ولكن لدينا قناعة أن كل عصر له أشكاله وأجناسه الأدبية ، فهل كانت المقامة موجودة قبلا في الأدب العربي ، أبدا ، إنما هي مستحدثة . وهكذا ألف ليلة وليلة ، وللعلم فقد استفاد الغرب والعالم من آداب العرب كثيرا خاصة كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة ، ونحن نتعامل مع الغرب بنظرية الند ، لا التابع وهذا هو الجديد الآن . ولا عقدة في نفوس النقاد العرب المعاصرين نحو الغرب .


أعتقد العقدة قائمة بل ومستشرية والانبهار بحضارة الغرب متغلغل في النفوس , ولا ننكر قيمة حضارتهم , لكننا ندعو للانطلاق الصحيح , والظاهرة علنية في الساحة النقدية والترجمات على قدم وساق , ومنها ما انتهت صلاحيته في بلد المنشأ للأسف ولازال العقل العربي يجتره.




-ثالثا : عنونت بحثك بعنوان الاستهلال في القصة ، وهذا جيد ، ولكن تفرعت في كثير من المباحث الفرعية التي تعمقت فيها كثيرا ، دون طائل ، خاصة أن هناك عشرات الكتب التي تناولتها ، مثل : قضية القصة ومفهومها قديما وحديثا ، هذه قُتِلَت بحثا ، والآن النظريات النقدية الحديثة تعنى بمفهوم السرد ومنهجه ، وهو يشمل كل أشكال القص والحكي : مقامة ، قصة ، سيرة شعبية ، رواية ، شعر قصصي ، ورسالتي للدكتوراه عن كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي ، وهو كتاب قصصي رائع وقد درسته وفقا لمنهج السرد البنيوي ، واكتشفنا أنه نص رائع ومبتكر ، دون عقدة القديم والجديد .( نشر الكتاب عام 2006م بعنوان أشكال السرد في القرن الرابع الهجري ، كتاب الفرج بعد الشدة نموذجا ) عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة.
لذا ، أقترح الاقتصار على الاستهلال في القصة : القرآنية ، والحديث الشريف ، والمقامة ، يكون عنوان البحث كالتالي: الاستهلال المفهوم والأثر الفني ( دراسة تطبيقية على القص القرآني والقص النبوي والمقامة ) ، اي يجمع البحث الشق النظري : تعريف الاستهلال ، والشق التطبيقي على القرآن والحديث والمقامة ، وسيكون بحثا مميزا محددا ، واضحا ، وأرجو تعميق مفهوم الاستهلال في المقامة ، وأثره الدلالي ، وعدم إطالة الاستشهاد بل تكتفي بالإشارة والاستشهاد القصير .


أما عن ذكر صفحات عن القصة ونشأتها فأقول ربما لا يضير ذكرها البحث , وعن موضوع الاستهلال , أني لم أبدأ بعد في البحث دراسة منهجية, ولازلت أبحث في المادة التطبيقية ,بعد أن وجدت أن المقامات قد لا تكون مثالاً متكاملاً يفي بأنواع الاستهلال.


أما القران الكريم فأجد أن الأدباء قديماً وحديثاً لم يفقهوا فنيات القص ولم يحذوا حذوها , والأمثلة رائعة وكثيرة وبحاجة لبحث مطول , كذلك الحديث الشريف.




رابعا : أشير إلى أن كل عصر أدبي له ذائقته ، ويستفيد الأدباء مما يجري في العالم ، وهناك منهج الأدب المقارن في هذا الشأن ، فأهلا بكل شكل أدبي جديد ، مسرح ، قصة ، قصيدة ، المهم أن يتم بروح مجتمعنا ، وثقافتنا ، وأهلا بكل من يعرفنا بالجديد في العالم ، حتى نناقشه ، ونستفيد منه ، ونطور ثقافتنا وإبداعنا ، فالإبداعات البشرية ملك جميع الشعوب والحضارات .


قد قلت هنا زبدة الكلام أهلاً بكل فن يولد بروح مجتمعنا , لكنني أرى أن الفنون قد ضاع روحها وضاعت هويتها , وقد ساهمت كتيبة من النقاد في التمهيد لهذا الضياع وغطته بشكل إعلامي انكشف للجميع مؤخراً.




- ـأخيرا : هناك كتاب بعنوان : الاستهلال فن البدايات الأدبية ، للباحث / ياسين النصير ، صدر في مصر ( هيئة قصور الثقافة في مصر ) وصدر في بيروت أيضا ، وهو يدرس هذا الفن بشكل موثق ومعمق ، ممكن أن يفيدك أكثر.
تحياتي والنقاش موصول بيننا ، وشكرا لدعوتك الكريمة لي .


أما عن هذا الكلام فلك جميل الشكر لأني أجد المصادر قليلة في هذا الباب


تحياتي القلبية لك د مصطفى والشكر موصول

محمد طالب
03/12/2007, 02:14 AM
جزاكم الله خير الجزاء.....
هل استهلال يمكن ان نقول فن من فنون النثر...؟

طارق شفيق حقي
05/01/2008, 09:25 PM
جزاكم الله خير الجزاء.....
هل الاستهلال يمكن ان نقول فن من فنون النثر...؟


أخي الكريم الاستهلال يختص بكل الأجناس الأدبية

لكننا نعنى بما يتعلق بالقصة منه
حياك الله