PDA

View Full Version : مومو الكبيرة



قارورة
08/02/2007, 05:22 PM
أيقظت الأم مومو الصغيرة بالقوة وهي تصرخ بها وتصفعها، بعد أن باءت كل محاولاتها لإيقاظ الصغيرة ذات السنوات الأربع بالفشل. نهضت مومو وهي تبكي. ألبستها الأم ثياب الخروج رغماً عنها، وغسلت الوجه الصغير، ثم هددتها بأن الضرب المبرح سيكون نصيبها إن اتسخ ثانية بدموعها.

خرجت الأم مع مومو وابنتها الكبرى فوفو التي تبلغ تسع سنوات، وتوجهت نحو بيت أم هاني جارة أختها، التي تقيم صبحية دعت إليها كل أقاربها وجيرانها وجيران جيرانها وأقاربهم. كان هدفها هو عرض الأساور الذهبية الثمينة التي اشتراها لها زوجها بعد أن سرت شائعة بين النساء بأن أبو هاني طلق أم هاني وتزوج بأخرى صغيرة السن. وكانت هذه الصبحية بمثابة مؤتمر لتكذب الشائعات وتكيد العذال والحاسدين بالأساور الثمينة.

وصلت الأم والبنتان إلى بيت أم هاني التي استقبلتهم بقبلات حارة وقد ارتدت كل ما تملكه من حلي ذهبية في جيدها ويديها. كانت مومو تراقب كل شيء باستغراب من مكانها في الأسفل، كان هنالك عدد كبير من النساء والأولاد، وكان الضجيج يعم المكان. فهنا نسوة ترقص، وهناك امرأة ترضع ابنها وتتفرج على الحشد، وأخرى تضرب ولداً لها وتنهره. استطاعت مومو أن تتعرف على خالتها التي كانت تبتسم لها من بعيد، ثم اقتربت الخالة وقالت لمومو:
"هيا تعالي وارقصي يا مومو"
"نعم يا مومو هيا ارقصي" قالت الأم وهي تدفع بالطفلة إلى فسحة الرقص، لكن مومو رفضت وظلت متمسكة بثوب أمها بعناد.

لم يكن السبب هو الخجل كشأن معظم الفتيات، ولكن مومو لم تكن تفهم غاية للرقص. كانت ترى الفتيات والنساء يرقصون وهن مبتسمات فتستغرب من سعادتهن، إذ كانت تعتقد بأن لا شيء يدعو للسعادة في الوقوف وسط الناس وتحريك الجسم، وبصورة أدق، كانت تعتبر ذلك غباءً لا ترضى على نفسها القيام به.

بدأت مومو تشعر بالضجر من هذا الهرج والمرج، فراحت تلح على أمها للعودة إلى المنزل، وأمها تتجاهلها تارة، وتنهرها تارة أخرى، ولكن مومو، ككل الأطفال، ظلت تلح بإصرار وتتظاهر بالبكاء بين الفينة والأخرى بالرغم من تهديدات الأم بالعقاب الشديد فور الوصول للمنزل.

بعد قليل جاءت إحدى صديقات فوفو وأخبرتها بأن الفتيات متجمعات في الزقاق للعب. طلبت فوفو من الأم أن تسمح لها بالخروج إلى الزقاق، لكن الأم رفضت. فبدأت فوفو بالإلحاح على أمها هي الأخرى، ولما لم تستطع الأم أن تتحمل إلحاح البنتين معاً فقد قررت أن تتخلص من الاثنتين دفعة واحدة، فسمحت لفوفو بالخروج مضيفة:
"خذي معك أختك"
اعترضت فوفو قائلة "لكن يا أمي.."
"اخرسي وخذيها معك"

انسحبت فوفو غاضبة وسحبت معها مومو الصغيرة التي كانت ثقلاً كبيراً على كاهلها يمنعها من اللعب. رأت صديقاتها في الخارج فهرعت إليهن مبتسمة تاركة مومو التي ركضت بدورها خلف أختها وهي تصيح:
"انتظريني"

"لماذا أحضرت أختك معك؟" قالت إحدى الفتيات بتأفف
"أمي أجبرتني"
"أريد أن ألعب معكم" قالت مومو ببراءة شديدة
"حسناً، سندعك تلعبين معنا، ستكونين الحارس على الكنز، ستقفين هنا أمام بيت أم هاني وتحرسين الكنز" قالت فوفو
"ولكن أين الكنز؟" سألت مومو
أخرجت فوفو من جيبها قطعة سكر وقالت "هذا هو الكنز، لكننا سنذهب لإحضار المزيد من الكنوز لكي تحرسيها، ابقي هنا ولا تتحركي، ولا تأكلي الكنز مفهوم؟"
"نعم" ردت مومو وعينها على الكنز اللذيذ الذي صار في يدها.

ركضت الفتيات بمرح وتابعتهن مومو بنظرها حتى غبن في آخر الزقاق، وقفت مومو طويلاً في مكانها وشعرت بالوحدة، فجلست أمام الباب وأسندت رأسها بيديها الصغيرتين، وراحت تراقب سرباً من النمل كان يتحرك أمامها على الأرض.

"ماذا تفعلين هنا؟" جاءها صوت من فوقها. رفعت رأسها فرأت فتاة بعمرها وقد أدخلت إصبعها في أنفها وراحت تحركها. لم يعجب هذا التصرف مومو، فتجاهلت الفتاة وعادت لتنظر إلى النمل أمامها. ومن دون دعوة جلست الفتاة أمام الباب جانب مومو وراحت تحدق فيها. نظرت إليها مومو فرأتها تخرج شيئاً ما من أنفها وتضعه في فمها، فقطبت حاجبيها وقالت للفتاة:
"لا تفعلي هذا، لا يجوز"
"ومن قال لا يجوز؟"
"أمي"
"ولماذا لا يجوز؟"
"لأنه عيب!" صرخت مومو
"إنه لذيذ، طعمه مالح لذيذ، هل تريدين القليل منه؟" وأخرجت الفتاة إصبعها من أنفها وقد تكوم عليها شيء أخضر صغير مقرف وقدمتها لمومو التي رفضتها ونهضت لتركض بعيداً عن هذه الفتاة المقرفة.

ركضت مومو حتى آخر الزقاق هرباً من الفتاة ثم خطر لها أن تبحث عن أختها لتخبرها بأنها لم تعد تريد اللعب بهذه اللعبة. بحثت عن أختها في كل الاتجاهات دون جدوى. كانت كل البيوت والأزقة متشابهة بالنسبة لها ولم تعد تعرف أي بيت هو بيت أم هاني لتعود إلى أمها، ولا حتى استطاعت أن تعرف أي الطرق تؤدي إلى منزلها حتى تعود إلى المنزل. شعرت بالخوف وهي تمشي وحيدة في الأزقة الخالية، ثم ظهر أمامها فجأة صبي صغير.

"قفي!" صرخ الصبي "هذا الشارع ملكي"
رفضت مومو التوقف وحاولت أن تهرب من الصبي لكنه عاد ووقف أمامها وصرخ بها
"ماذا تحملين في يدك؟ هيا أعطني ما في يدك! إنه ملكي"

غضبت مومو من الصبي الذي حاول خطف الكنز من يدها. وضعت يدها خلف ظهرها وراحت تصرخ، لكن الصبي شد شعرها ودفعها أرضاً، فسقطت وسقطت قطعة السكر من يدها. خطفها الصبي وركض بعيداً. فتحت مومو فمها على اتساعه وراحت تبكي، لم تكن قد تعلمت بعد كيف تبكي بفم مغلق ودون صراخ كالكبار، ثم تذكرت أن أمها قالت لها يوماً "إن ضربك أحد فلا تجلسي وتبكي وتدعيه يفلت، بل اركضي واضربيه" فنهضت فوراً وركضت بالاتجاه الذي ركض فيه الصبي. نسيت كل شيء وانصب جل تفكيرها على إيجاد الصبي وضربه واستعادة الكنز، بحثت عن الصبي في كل مكان لكنها لم تجده.

كانت قد وصلت إلى شارع كبير مزدحم بالناس والسيارات. وقفت على الرصيف ونظرت إلى يدها وركبتها التي كانت تنزف بسبب السقطة المؤلمة، وإلى ثوبها الذي اتسخ، ثم نظرت حولها إلى الناس الذين يمرون دون أن يكترثوا بها وراحت تبكي بأعلى صوتها دون أن يلتفت إليها أحد في ذلك الشارع المزدحم. وهكذا مشت مومو الصغيرة في شوارع المدينة الكبيرة وحيدة، بثياب متسخة وشعر أشعث وأنف يسيل: هيئة ما كانت أبداً لترضى بها في الظروف العادية. كانت تبكي دون توقف حتى تعبت من البكاء أخيراً وشعرت بالجوع والنعاس.

وقفت أمام محل يبيع الخبز والمعجنات وراحت تنظر إلى الخبز في الواجهة الزجاجية وتبكي. تنبه إليها صاحب المحل فخرج إليها وبادرها بالسؤال:
"لماذا تبكين يا صغيرتي؟"
لكن مومو لم تحرك نظرها عن الخبز وتابعت بكاءها
"أين هي أمك" سألها ثانية

وعند هذا السؤال تغضن وجه مومو أكثر وطفقت تبكي بحرقة وقد أغمضت عينيها وراحت تدعكهما بيديها الصغيرتين، لذلك لم تر الرجل وهو يدخل إلى المحل ويخرج وبيده بعض الخبز.

"خذي، كلي هذا"
توقفت مومو عن البكاء قليلاً وهي تنظر إلى الخبز في يد الرجل دون أن تأخذه، فقد تذكرت أن أمها منعتها أن تأخذ الطعام من الناس دون إذنها.
"لا بأس خذيه، إنه لك، هيا كلي"

نظرت مومو في وجه الرجل وأخذت الخبز ووضعته في فمها ببطء، وبعد أن ابتلعت اللقمة الأولى انبسطت ملامحها ونسيت كل شيء فصارت قطعة الخبز اللذيذة محور تفكيرها. كانت مومو من الأطفال الذين ينسون كل شيء عندما يأكلون، وكثيراً ما استغلت أمها هذا الطبع، فبعد أن تبالغ في ضربها وتندم ويرق قلبها على طفلتها الصغيرة كانت تصالحها بشيء من الطعام، فتقبله مومو بسعادة غامرة ناسية الضرب الموجع الذي تلقته قبل قليل.

"ما اسمك يا صغيرتي" قال الرجل
"مومو"
"مومو ماذا؟"
صمتت مومو قليلاً ثم قالت: "مومو فقط"
"حسناً ما اسم أبيك؟"
قالت مومو بعد تفكير: "اسمه بابا"

كانت مومو طفلة ذكية جداً، وكانت تعرف اسم أبيها واسم عائلتها جيداً فقد علمتها إياهم أمها، ولكنها أحياناً لشدة ذكائها تبالغ في تحليل الأمور فلا تستطيع الإجابة على أبسط الأسئلة بشكل صحيح، ولذلك تبدو غبية جداً. فعندما سألها الرجل "مومو ماذا" فكرت بأن اسم الشخص هو ما يناديه به الناس، وبما أن الناس ينادونها "مومو" فقط، إذن لا بد أن يكون اسمها مومو فقط، وسيكون من الخطأ إذن أن تجيب بأن اسمها مي عبد الأحد لأن لا أحد يناديها بهذا الاسم. ولما سألها عن اسم والدها تذكرت أن أباها ضربها مرة لأنها نادته "نبيل" وقال لها "اسمي بابا وليس نبيل أفهمت!" ولأنها طفلة لا تخالف أوامر والديها مطلقاً (خوفاً من العقاب) فلم تخالف كلام والدها وأجابت الرجل بأن اسم والدها هو "بابا".

نعود إلى الرجل الذي احتار في أمره بعد هذه الأجوبة، فقرر أخيراً أن يأخذ مومو إلى مركز الشرطة، فقال لها:
"هيا معي يا صغيرتي، سآخذك إلى أمك"

وما أن نطق الرجل بهذه الجملة حتى تغيرت ملامح مومو وبدا عليها الخوف بشكل واضح، فقد حذرتها أمها ألا تمشي مع أحد إن قال لها "أمك عندنا" أو "سآخذك إلى أمك" لأنه سيخطفها ويذبحها. ولذلك ما إن سمعت مومو بتلك الجملة حتى هربت من أمام الرجل ولشدة ذعرها نزلت عن الرصيف لتصبح أمام إحدى السيارات المارة. تعثرت وسقطت أمام السيارة التي توقفت في الوقت المناسب تماماً قبل أن تدهسها.

هرع السائق إلى الطفلة وصاح بالناس المتجمهرين: "أقسم أنني لم أدهسها، لقد أوقفت السيارة قبل أن أصدمها، أقسم لكم لقد سقطت من تلقاء تفسها...". لم يستمع الناس للسائق المذعور، بل حملوا الطفلة ووضعوها في سيارته وانطلق بهم إلى أقرب مشفى.

"مومو، أهذا أنت يا مومو؟"
سمعت مومو صوتاً يتحدث إليها، ففتحت عينيها لترى أمامها خالها. كان يرتدي صدرية بيضاء ويحدق فيها باستغراب. فرحت مومو لرؤية شخص تعرفه أخيراً، فضمت خالها وقالت بصوت متهدج:
"لا تتركني يا خالي"
"لن أتركك يا عزيزتي ولكن... كيف وصلت إلى هنا!!!"
لم تعرف مومو من أين تبدأ، وماذا تحكي لخالها، كانت تنتابها شتى أنواع المشاعر في نفس الوقت لدرجة لم تستطع التركيز لتنطق بجملة واحدة، فما كان منها إلا أن فتحت فمها على اتساعه وبدأت تبكي بصراخ ملأ المكان. حملها خالها، وركب في سيارة أجرة. كانت مومو طوال الوقت تحدق بأضواء المدينة من شباك السيارة وقد هدأت قليلاً بعد أن داعبها خالها، وفجأة توقفت السيارة، وحملها الخال ونزل.

هناك كان والدها يقف أمام باب البناء مكفهر الوجه ينظر إليها نظرات توعد مخيفة. لم تكن مومو قد فكرت حتى الآن بأن عقاباً ينتظرها إن عادت إلى البيت، كان كل ما فكرت به وهي تائهة هو كم اشتاقت لوالديها وبيتها وأحضان دافئة تستقبلها. اقتربت مومو من والدها الذي هم بصفعها لولا أن أوقفه خالها برفق، ودفعها برفق أيضاً نحو البناء، قائلاً: "هيا اذهبي إلى أمك". نظرت مومو إلى خالها بيأس وهي تعرف أن أمها لن تكون أحن عليها من أبيها! صعدت الدرج ببطء ووجل، ووصلت إلى باب الشقة، ولم تمتلك الشجاعة الكافية لتدق الباب فجلست عنده وراحت تبكي بصمت لأول مرة كالكبار.

طارق شفيق حقي
09/02/2007, 11:09 PM
رائع

قصة جميلة بحق
تحرك فينا النوازع النفسية
ولعمري انها قصة نقتص أثر البطلة ونتحرى أين سيصل بها الطريق

الجميل في الموضوع قدرة القاصة على التحليل النفسي

ذات البطلة وربما ذات القاص ذات متفردة عرفت حدود ذاتها وغاصت في تفاصيل النفس البشرية
وربما تركت ما اعتاد عليه الناس كالرقص لا لشىء إنما لعدم حريتها في اختيار رغباتها

وهذا مؤشر كبير على حريتها المنطلقة الرافضة لكل شىء ما لم يوافق هواها

لبرائتها تراها تتصرف في القصة كالأطفال وتذكر تصرفاتهم :


"إنه لذيذ، طعمه مالح لذيذ، هل تريدين القليل منه؟



بعض القصاص يعمدون لتصوير الحالة لبطل القصة والتلميح بالتحليل الذاتي


لم يكن السبب هو الخجل كشأن معظم الفتيات، ولكن مومو لم تكن تفهم غاية للرقص

قد يعتبر البعض خروج القصة عن القص للمباشرة وقد يجيزه البعض

بكل الأحوال أرى أن التلميح للتحليل يزيد في القارىء التأمل في النص فيزداد التأثير وتصبح البطلة شخصية مبنية على تحليلات نفسية للقاصة.

قارورة
10/02/2007, 05:11 PM
الأستاذ طارق
شكراً لمرورك..
فيما يتعلق بالتلميح بالتحليل فأنت على حق، وأنا نفسي دائماً أخشى أن أغرق فيه فأخرج عن القصة (وأحياناً أفعل)، ولكن مع ذلك أحتاج إليه وأستخدمه أملاً أن تصقل الممارسة استخدامي له.

خليد خريبش
10/02/2007, 11:16 PM
تحية مجددا إلى الأخت الكريمة والأخ طارق ،حقيقة أنا كنت عكس رأيه هنا حيث كان إعجابي أكبر بقصة فيروز حيث الوعي الاجتماعي والسياسي يفرض نفسه بقوة ولي عودة إلى مغامرات مومو التي لم تحب الرقص في طفولتها ولم تفهم لماذا ترقص النساء مبتسمات.