المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طاووس الرسم المصري حامد ندا



يوسف ليمود
02/01/2007, 05:26 AM
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=178

في مساء الخامس والعشرين من ابريل 1990 انقطع التيار الكهربائي عن ارض مصر بكاملها بسبب عاصفة رملية ضربت المولد الرئيسي في السد العالي ، في تلك الساعة كان الفنان المصور حامد ندا وحيدا بمرسمه في مبني وكالة الغوري العتيق فخرج متلمسا طريقه في الظلام لتخونه احدي درجات السلم ويرتطم رأسه بحافة درجة أخري ويظل ساعات ينزف قبل أن يكتشفه أحد ، كان قد أصيب بشلل نصفي مات علي إثره بعد أيام .. علقت إذاعة البي بي سي العربية وقتها بسخرية علي انشغال وسائل الإعلام المصرية بتلاوة الأرقام التي خسرتها مصر بسبب انقطاع التيار دون أن تذكر فداحة فقدانها ذلك الفنان العظيم .

غالبا ما تلعب اللحظة التاريخية دور البطل في تشكيل مسار بعض النابغين ، فلولا الاحتلال الانجليزي للهند مثلا لما سمعنا عن غاندي وعظمته ولولا الظرف التاريخي لبيكاسو لما برز بذلك الشكل المعروف .. الكلام هنا عن مسار ندا ومرتفعاته وليس عن شهرته ( إذ ان الرجل رغم اسمه المسجل في أكثر من موسوعة عالمية لم يصدر عنه في مصر حتى ولا كتالوجا تعيسا أو موقعا الكترونيا لدرجة التساؤل عن علاقة وزارة الثقافة المصرية بالثقافة أصلا) و يبدو إن الظرف التاريخي الذي هداه إلي طريقه المتفرد هو نفسه الظرف الذي طواه في النسيان ، فأعمال الرجل معروفة وحاضرة في ذائقة الخاصة وبعض الدارسين ذوي الذوق الرفيع وليس أكثر .. فقد ولد الرجل عام 1924 الوقت الذي كان يبحث فيه المثقفون المصريون عن هوية وطنهم الحبيب في الفن والأدب والسياسة ، نشأ في أحد الأحياء الشعبية (حي الخليفة) المتشبعة ببخور الخرافات والسحر ودخان الحشيش وحكايات الجن وممارسات العلاج بالزار والأحجبة وعوالم الشحاذين والقوادين وبهلوانات السيرك والأفراح البلدية والمقاهي ، تلك العوالم التي استلهمها بنوع من الاستاتيكية والجمود في بدايات تجاربه الفنية التي تشابهت حد التماهي مع أعمال صديقه الذي رحل شابا عبد الهادي الجزار بتوجيه من المفكر حسين يوسف أمين مكتشف المواهب وراعيها في ذلك الوقت بحنو وأبوة فنية نادرا ما نجد مثلها هذه الأيام معلما إياهم دور الفنان في محاولته تقديم الواقع بهدف نقده وتغييره وليس لمجرد نقله .. هذا إلى جانب التيارات الفكرية التي كان يموج بها العالم في الأربعينيات ويتردد صداها في مصر بأصوات مثقفين مخضرمين وثائرين مثل رواد جماعة (الفن والحرية) : الرسام المفكر رمسيس يونان والشاعر جورج حنين وكامل التلمساني وفؤاد كامل وغيرهم ممن أسسوا السريالية المصرية وكانوا علي صلة شخصية بمؤسسها في باريس اندريه بريتون ، وسط هذه العوالم المشحونة والباحثة والطامحة للتغيير بدأ يتبلور وعي ندا الفني والسياسي وتظهر شخصيته وتفردها خصوصا بعد ملاحقة رواد (الفن والحرية) سياسيا وحل جماعتهم ومغادرة معظمهم ارض الوطن في يأس تام وكان قد ارتبط معهم برباط سريالي لا تنفك عراه إلا وقت وقوفه وحيدا مواجها بياض اللوحة المخيف .

http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=175

كان اكتشاف ندا للتصوير المصري القديم مع بداية الخمسينيات يمثل نقلة كبرى في تاريخ إبداعه إذ يبدو انه وجد ضالته الفنية إن لم نقل هويته (وهل هوية الفنان إلا نتاجه وإنتاجه نفسه؟) ، والمفارقة الطريفة هنا أنه بث في استلهاماته لذلك التراث الاستاتيكي الرتيب والذي يتناول غالبا عالم الموت وما بعده ، بث فيه ديناميكية وصخب اقرب إلي روح الرقص والموسيقي وهو الذي كان قد بدأ مسيرته الفنية اساتيكيا قريبا من حالة التحنيط ، فبدأ مخزونه الواعي وغير الواعي من طقوسية الواقع وغيبوبته في ممارسات طوطمية وبدائية يصب أشكالا وأجسادا تتماس مع وتذكر برسوم الكهوف بتحويرات في شكل الجسم الآدمي تذهب بالتعبير إلي أغوار تبتعد عن السريالية كمفهوم بقدر ما تقترب منها كحقيقة ووجود وشعر فالعازف يصبح هو الآلة الموسيقية ويصبح الموسيقي نفسها والمرأة هي الإلهة حتحور وهي الغانية وهي الجوهر الذي تتناثر منه وحوله كل تلك الأشلاء الدائخة في نشوة الرقص والحركة .

(العمل الذي يخلو من السريالية هو عمل ناقص) يقول ندا وهذا حقيقي شرط أن يكون اللاوعي صادرا من الأنا الكبيرة وليس من الأنا الضيقة أو ال (إيجو) ، اللاوعي هو حالة فالتة هاربة أبدا ومن العبث محاولة الإمساك به وهو بذلك يجسد ويحيل إلي اللغز الوجودي للحياة عندما يجد ممرات شفافة يتسرب ويترشح من خلالها في ثنايا العمل الفني الذي نال حظه الكامل من حسابات الوعي وتهذيبه لأشكاله ..جماليا ، وبقدر ما كبرت الأنا الواعية بقدر ما عمق اللاوعي ، ونظرة علي ذينك الجانبين في لوحات حامد ندا ننبهر بالقدرة الرفيعة علي العزف بالخط وإخضاع الشكل لعقلية خارقة في حساباتها الرياضية وصرامتها وفي المقابل نري كيف تقترب تلك الرياضية بتحويراتها وتفرعاتها وخفتها وشاعريتها وعفويتها..كيف تقترب من وتلامس معاني الوجود البكر وسط موسيقي ورقص وعناق المفردات المختلفة الأجناس والأنواع لبعضها البعض في عالم جوهره هو نفسه هذا العالم الذي نعيش فيه ونسكن حضيضه إلا أن المستوي الوجودي المتعالي الذي تنبع منه لوحاته وتعكسه يظل مفتوحا علي كل إمكانيات التفسير ومطروحا كإمكانية تحقق ووصول .

http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=174


ولو استثنينا بعض الأعمال القليلة التي تناول فيها هماٌ سياسيا لم يفارقه كموقف طوال سنوات إبداعه فسوف نواجه بزخم لا مثيل لثراء مفرداته وتنوع مستويات تلك المفردات من حجوم وزوايا المنظور وحركية لا تهدأ ولا تدع فرصة للعين لتتوقف عند جزئية أو مفردة بعينها ، من ذلك اللهاث يتولد البعد الزمني في اللوحة بمستويات وطبقات يبدو الإحساس به (الزمن) مختلفا في كل مرة تعود فيها العين لتأمل العمل نفسه ، وهذه هي المفارقة التي ينطوي عليها وهم اللوحة (عمل لازمني يتم إدراكه في لمحة باستطاعته التلاعب بالزمن تمديدا أو تجميدا ، و خلق أزمنته الخاصة) ، فبعض اللوحات تبدو وكأنها إحدى مقابر وادي الملوك وقد ثارت الشخوص والقرابين والجدران والزوايا والسقف والأقواس علي سكونية الموت الطويل ذاك لتعاود الرقص والركض علي تراب أزمنة منسية تتبادل فيه الكائنات والجمادات أدوار بعضها البعض وأعضاء بعضها البعض في دوران محموم هو جوهر الطاقة الحيوية للعالم بعد ما تخلصت من أسباب علائقها النفعية الرخيصة ووصلت إلي محطة وراء الخير والشر، فليس عجيبا هنا أن يقف الثور علي البيانو ولا أن يحلم الديك بالمرأة ولا أن يرقص الحمار سكرانا ولا أن يحوم الطاووس حول المرأة ليقبلها ولا أن تعوم السمكة الضفدع في بطن البنت الجميلة ولا أن تنصت القرود خاشعة للربابة ويتجول القط كإله مخمور في درب الهوى ذاك .

مع ازدياد فقدانه لحاسة السمع والتي تبدو وكأنها رغبة عميقة غير واعية منه لإسكات أصوات الواقع القبيح وحماية موسيقاه الداخلية منها بدأ توحده مع ذلك الهدير الصامت للون وللخط ولشفافية لم يعرفها التصوير المصري منذ عهود الفراعنة ارتفع فيها بأدخنة المجتمع وهبابه إلي سحب مضيئة وارتقي بتشنجات الزار إلي إيماءات حب بين أجساد تفيض بالنشوة وحول فيها شعوذات الواقع وسحره الأسود إلي سحر الوجود نفسه في أخف حالاته وأبهاها .

لم يتسن لي إلا مرات قليلة الاقتراب من ذلك المايسترو والاستماع له خلال سنوات دراستي في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة في الثمانينيات ، كنا نكتب أسئلتنا علي ورقة أو نقترب من سماعة أذنه اليسرى وهو يجيب بصوته المبحوح الآتي من بعيد والمندفع إلى بعيد ولكني أذكر جيدا مشيته الطائرة وهيأته الملكية ، كانت كائنات خفية مشعة تتقافز من كيانه الفخم حتى وهو ساكن .

.............................

Youssef Limoud

http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=176

http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=177

طارق شفيق حقي
03/01/2007, 01:09 PM
سلام الله عليك أستاذ يوسف

وكل عام وأنت بخير

قلت ألقي عليك التحية ثم اعود لموضوعك الثر