المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عمر ابو ريشة ودوره الشعري في حركة النهضة



رزاق الجزائري
29/12/2006, 05:08 PM
ربما اكون متطفلا على هذا الباب كوني لست على علاقة بالادب من قريب او بعيد لكن اعجابي بالشاعر و الدبلوماسي عمر ابو ريشة و ما تكره شعره من اثر في تكويني دفعني الى التطفل فقد قرأت ما كتبه الاستاذ طارق عن الشاعر و كان ناقصا ووجدت هذا البحث فأردت ان أثري به صفحات المربد الكريم.


عمر أبو ريشة

ودوره الشعري في حركة النهضة

ملخص الورقة المقدمة إلى ندوة

{دور حلب في حركة النهضة القرن (19-20)}

التي ستقام أيام 5-6-7 نوفمبر 2006م

بمناسبة

اختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006م



المقدمة :

في الخامس عشر من تموّز الفائت يوليو لهذا العام 2006م حلت الذكرى السابعة عشرة لوفاة الشاعر العربي الكبير عمر أبو ريشـة الذي توفي في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية 1990م ،ودُفن في مدينة حلب في الثامن عشر من تموز الساعة السابعة والنصف مساء بحضور عدد كبير من أصدقائه ومحبي شعره .

ولد عمر أبو ريشة في منبج بلدة أبي فراس الحمداني في سوريا عام 1910م ونشأ يتيماً وتلقى تعليمه الابتدائي في حلب . أكمل دراسته الجامعية في بيروت في الجامعة الأمريكية وحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم عام 1930م ثم أكمل دراسته في لندن في صناعة النسيج ، وهناك قام بدعوة واسعة للدين الإسلامي بلندن .

لعمر أبو ريشة - إلى جانب الشعر - مجموعة من المسرحيات ، أبرزها : رايات ذي قار "و "علي " والحسين " وتاج محل "والطوفان " . صدر له "الجزء الأول من ديوانه "عن دار العودة في بيروت عام 1971م ، ثم صدر له ديوان "غنيّت مأتمي عام 1974 م .

ثار على بعض الأوضاع السياسية في بلاده بعد الاستقلال ، وآمن بوحدة الوطن العربي ، وانفعل بأحداث الأمة العربية بشدة .

شغل عدة مناصب ، منها :

· عضو المجمع العلمي العربي دمشق

· عضو الأكاديمية البرازيلية للآداب كاريوكا- ريودي جانيرو

· عضو المجمع الهندي للثقافة العالمية

· وزير سوريا المفوض في البرازيل 1949 م 1953 م

· وزير سوريا المفوض للأرجنتين والتشيلي 1953 م 1954 م

· سفير سوريا في الهند 1954 م 1958 م

· سفير الجمهورية العربية المتحدة للهند 1958م 1959 م

· سفير الجمهورية المتحدة للنمسا 1959 م 1961م

· سفير سوريا للولايات المتحدة 1961 م 1963م

· سفير سوريا للهند 1964 م 1970 م

· يحمل الوشاح البرازيلي والوشاح الأرجنتيني والوشاح النمساوي والوسام اللبناني برتبة ضابط أكبر ، والوسام السوري من الدرجة الأولى ، وآخر وسام ناله وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى ، وقد منحه إياه الرئيس اللبناني إلياس الهراوي .



يشكل عمر أبو ريشة (1910-1990م ) حالة شعرية مميزة خلال القرن العشرين لعدة أمور : أولها أنه وُجد في مفصل تاريخي سياسي حاسم بالنسبة إلى وطنه والبلدان العربية . فهو من الناحية التاريخية وُجد بين مرحلتي الاحتلال والتحرر ، وبداية تشكّل الوعي القومي ، ومن الناحية السياسية والفكرية وُجد ضمن زحمة نشوء مجموعة كبيرة من التيارات الفكرية والإيديولوجيات المتناقضة ، والأمر الثاني أنه وجد بين مرحلتين فنيتين مثّلهما التياران التقليدي والرومانسي .

وسوف تتم مناقشة دور عمر أبو ريشة وأثره من خلال مجموعة من الأسس التي أرساها .

سوف نثير في هذه الورقة ثلاثة محاور رئيسية ، هي :

- موقع عمر أبو ريشة ضمن مفاصل تاريخية حاسمة ، وكيف قرأ ذلك ؟

- دور عمر أبو ريشة (الشاعر) في عصره :

· الخاص والعام ( الذاتي والموضوعي)

· المرأة بوصفها أنموذجاً ذا جمال مطلق

· الموقف الفلسفي وتغليب عناصر الذات على مفردات الموضوع

· شعرية النص والطابع العضوي

· جماليات الصورة الفنية

- المُثُل الجمالية في شعر عمر أبو ريشة

الهدف : إضاءة جوانب التفرد في شعره ، وإبراز أهميته ليس بوصفه شاعراً فحسب وإنما بوصفه ظاهرة إبداعية كان لها أثرها الكبير في عصرها .



المثل الجمالي والنقد الأدبي

إن كل إنسان يُنتج بحسب حاجته إلى الأشياء . وينتج هذه الأشياء وُفق المقاييس التي تنظِّمُ طبيعتَها ، ولكنه يسعى - دائماً - إلى تطوير ما يُنتج ضمن المقاييس التي يرغب فيها ، أي في أن تكون عليه . وهذه المقاييس هي التي تكوِّن " المثل الجمالي " الذي يرغب فيه .

إن " المَثل الجمالي " هو المقياس الذي يُنتج الإنسان أشياءه وفق معطياته . والفنان ينتج فنّه ضمن التصورات التي يرغب فيها . وهذه التصورات ما هي إلا ذلك " المَثل الجمالي " الذي ينـزع إليه ، ويستقر فيه . وبمعنى آخر : إن " المَثل الجمالي " يقدّم فائدتين هامتين إلى الفنان - ومعه الأديب طبعاً - لا يمكن الاستغناء عنهما ، إذ بدونهما يتراجع الفن و الأدب ، ويضعف دورهما ، وربما يتلاشى .

فهو في الحالة الأولى يُشكِّل مقياساً لإنتاج إبداع الفنان وُفق المقاييس التي تشكّل لديه هذا المَثَل . وهو حين يكتب أو يرسم أو يشكّل عملاً فنياً ما يقوم ببنائه على ضوء النموذج الفني الذي كوّنه لديه " المثل الجمالي " .

فالمسرح في عصر النهضة الأوربي شدّد كثيراً على الالتزام بالوحدات الثلاث، وعلى عدم الخلط بين " التراجيدي " " و الكوميدي "، وعدم " الإسفاف " في استخدام لغة العامة " أي لغة الشعب " ، واعتبار اللغة اليونانية هي الأسمى والأكثر نقاء ، وأكّد على أن الموضوع القديم هو الموضوع الأساسي الذي يصلُحُ لكي يكون مادةً للمسرح . وهذه السمات التي أصبحت فيما بعـد قوانين للمسرح الكلاسيكي في أوربـة وُضِعـت بناءً على النموذج المسـرحي اليونانـي الذي أرساه و يوربيدس ، ورَسَم قواعده أرسطو . وهذا النموذج اليوناني كان يشكّـل – بالنسبة إلى المسرح الأوربي في عصر النهضة – "المَثل الجمالي " ، أي المعيار الذي يُصبح العمل المسرحي جميلاً كلّما اقترب منه ، أو من تحقيق أبرز ما فيه ، ويُصبح قبيحاً كلّما ابتعد عن محاكاته 0

و " المَثَل الجمالي " يشكّل في الحالة الثانية حافزاً مهمّاً لا بدّ منه لكي يُنتج الفنانُ فنَّه ، والأديب إبداعاته 0 فعن طريق إيمان الفنان " بمَثَلٍ جمالي " أو أكثر ؛ فإنه يسعى إلى نقْله من حيّز المفهوم إلى حيّز القيمة ؛ أي يجعله مجموعةً من القيم الجمالية من خلال تمريره له عبر ذاته ، وأدواته الفنية التي يمتلكها 0 و" المَثَل الجمالي " حين ينتقل إلى " قيم جمالية " يكون قد أدّى دور الحافز الأقوى لممارسة المبدع لإبداعه 0

ومقابل ذلك حين لا يكون هناك " مُثُل جمالية " لدى المبدع ؛ أو بمعنى أكثر دقّة حين تهتزُّ تلك المُثُل الجمالية في ذهنه ، فإنّه يتراجع ؛ لأنّه لا يجد شيئاً مهمّاً يكتبُ عنه ، أو يدفعه إليه ، أو يسعى إلى تجسيده 0 وهذا ما يحدث حينما تهتزّ " المُثُل الجمالية " في مرحلة معيّنة ، حيث تتشابه أصوات المبدعين فنانين أو شعراء أو ما سواهم ، ويختفي التميّز والخصوصية ، والتفرّد وتلفظ حرارة الفن أو" شعرية الفن " أنفاسها 0 ولعلّ كلّ ذلك يشكّل أبرز مظاهر الأزمة التي يُعاني منها الشعر العربي الجديد " شعر فترتي الثمانينيّات ، والتسعينيّات " ، حتى ليمكن تعميم ذلك على الأزمات التي يعيشها المسرح والأغنية والفن العربي المعاصر بشكل عام (1) .

والفن يكون أقوى في مرحلة من أخرى ؛ لأنّ " المُثُل الجمالية " أكثر وضوحاً ، وإيمان المبدعين بها أكبر من تلك ، وهذا هو الذي يدفعهم ؛ لأن يكتبوا ويعبّروا ويتميّزوا ويتفرّدوا 0

ممّا تقدّم نلاحظُ أنّه حتى ينمو الإبداع ويتميّز لا بدّ من وجود " مُثُل جمالية " لتحفزَه على ذلك ، وليكتب ضمن مقاييسها 0

هذا بالنسبة إلى أثر " المَثَل الجمالي " في الفنان ، أمّا أثرُه في الناقد فيتمثّل من خلال سعي الناقد إلى تقويم الخطاب الإبداعي ضمن معطيات ذلك " المَثَل "0 فيسعى إلى دراسة ذلك الخطاب والحكم عليه جميلاً أو قبيحاً ، تراجيدياً أو كوميدياً أو جليلاً ضمن المعايير التي يصوغها " المَثلَ الجمالي " الذي يتبناه 0

لقد كان المَثَل الجمالي موجوداً سابقاً لكن " علم الجمال " هو الذي اكتشفه ، وأسّس له ، وبلوره 0

ولا بدّ للناقد اليوم من الاعتماد على معطياته في دراسة كافة أشكال الخطاب الإبداعي التي تواجهه ؛ لأنّ معرفةَ حدود ذلك المَثَل في ظاهرة من الظواهر بالقياس إلى الفترة التي أنتجتها يُساهم في الأمور التالية :



أولاً- تُعزّز معرفةُ " المَثَل الجمالي " قدرةَ الناقد على فَهم تلك الظاهرة من خلال اكتشاف قوانينها العامّة ، والحدود الأساسيّة التي تتحرّك ضمنها الظاهرة الأدبية في ذلك العصر 0 فمعرفةُ الناقد للمُثُل الجمالية السّائدة في عصر النهضة العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يُساهم في معرفة " المرجعيّات " الأساسيّة للتيّار التقليدي في الخطاب الشـعري السـّائد في تلك الفترة ، وفي معرفة القوانين التي تحكمه 0

ثانياً- توفّر معرفةُ " المَثل الجمالي "في الظاهرة الإبداعية للناقد السُّبل للتعرّف إلى القيم الجمالية السّائدة في العصر المعني 0 علمـاً بأنّه يمكن أن تُساهم القيم بالتوصّل إلى معرفة ملامح المَثَل ؛ لأن التداخلُ بينهما واردٌ وطبيعي 0

ثالثاً- تُسهِمُ معرفةُ الناقـد " للمَثَل الجمالي " في الظاهرة في فهم بِنية النصّ الإبداعي 0 فالمَثل الجمالي في التيار الإحيائي ومن ثَمّ في التيار التقليدي في الشعر العربي الحديث هو عمود الشعر 0 وتعرّفُ الناقـد إلى طبيعة هذا العمود ، وتفاصيله في الشعر العربي القديم هو تعرّفٌ أكيدٌ ومباشر لبنية التيار الشعري الإحيائي والتقليدي ، وبنائه المعماري 0

رابعاً- وتُفيدُ معرفة الناقد " للمَثل الجمالي " أيضاً في معرفة المؤثّرات التي ساهمت في تكوين النص أو الظاهرة المدروسة ؛ أي معرفة النصوص التي دخلت في عمليّة تناص مع النص المدروس 0 وهو بذلك يوفّرُ للناقد معرفة الجديد الذي قدّمَه المبدع بعد معرفة النصوص الأخرى 0 وكلُّ ذلك يُساعد بدوره على تحديد موقع المبدع أو الظاهرة الإبداعية في موقعهـا التاريخي الصحيح ، وبخاصّة إذا أجرى الناقد الدراسةَ على مجموعـة مـن النصوص المختلفـة التي تنتمي إلى ذلك العصر 0

ممّا تقدّم نلاحظ الفائدة الكبيرة التي يُقدّمها " المَثَل الجمالي" إلى كلٍّ من المبدع والناقد 0

ويمكن للناقد السعي إلى دراسة بعض الظواهر الإبداعية في الخطاب الشعري العربي من اتكائه في ذلك على معطيات " علم الجمال " ، و" المَثل الجمالي " ، وما يمكن أن يُقدّماه من إمكانات ، نظنّ أنها كبيرة 0



المحور الأول : موقع عمر أبو ريشة ضمن مفاصل تاريخية حاسمة ، وكيف قرأ ذلك ؟

عمر أبو ريشة شهد أو عاش مرحلة الصراع بين الرومانسية والكلاسية . عاش ازدهار الرومانسية وتألق الكلاسيكية ، وصنع توازناً بينهما في شعره . كما عاش مرحلة ازدهار الرمزية والواقعية والوجودية ، وعايش بداية ظهور شعر التفعيلة ، وتطوره ، وأولَ الحداثة بوصفها مفهوماً ومُثلاً وقيماً منذ صدور العدد الأول من مجلة شعر ، وكذلك قصيدة النثر منذ منتصف الثلاثينيات حتى الماغوط وأنسي الحاج حتى نزيه أبو عفش ورياض الصالح الحسين .

كما أن أبو ريشة وُجد إلى جانب كل ذلك في مفصل تاريخي سياسي أيديولوجي حاسم بالنسبة إلى بلده سورية والبلدان العربية الأخرى . فهو من الناحية التاريخية عاش مرحلتي الاحتلال والتحرر والانتكاسات الوطنية الداخلية ، وشهد بداية تطور الوعي القومي ، ومن الناحية السياسية عاش مرحلة الانقلابات والسعي إلى استحواذ السلطة وفوق كل هذا وذاك فأبو ريشة وجد قسراً ضمن زحمة نشوء مجموعة كبيرة من التيارات الفكرية والإيديولوجيات المتناقضة : التيار القومي العربي والقومي الاجتماعي والأممي والتيارات الدينية المختلفة . وشهد إفلاس أغلب هذه التيارات من خلال الانتكاسات المباشرة على الأرض مع العدو الصهيوني 48 و67 أو على صعيد الاستقرار الداخلي ، وكذلك القلق القومي من خلال الانفصال عام 61 .

والأسئلة المحورية لكل ما سبق : كيف كان عمر أبو ريشة يقرأ العالم في تلك الفترة ، وكيف جسّد الذات والموضوع في شعره ؟ وهل صالح بينهما ؟ وأيهما : الذات أم الموضوع استحوذ على المساحة الكبرى في شعره ؟ ولا ننس أن أبوريشة وُجد بين مرحلتين شبه متناقضتين أولاهما تُعلي الموضوع على الذات والرؤية على الرؤيا ، وهي مرحلة هيمنة الوعي الجمالي التقليدي على الفن والإبداع ، والمرحلة الثانية أعلت من شأن الذات على الموضوع ، والرؤيا على الرؤية ، وفيها هيمن الوعي الجمالي الرومانسي . وقد شهدت هذه المرحلة أيضاً ظهوراً قويـاً للوعي الجمالي الواقعي والوجودي والرمزي ، وتدفقاً قوياً للوعي الجمالي الحداثي الذي أنتج شعر التفعيلة وقصيدة النثر .

ضمن زحمة هذه التحولات التي مرَّ بها الوطن العربي في النصف الأول من القرن العشرين ظهر " عمر أبو ريشة " ليعكس بشعره تلك التحوّلات من خلال تجسيده لأبرز الظواهر الهامّة فيها . وأبو ريشةلم يكن آنذاك أو خلال حياته شاعراً عادّياً على الرغم من أنه ظهر في فترة صعبة مرّ بها الشعر العربي ، حيث كان الصراع ،كما ذكرنا ، قائماً بين أنصار القد يم والجديد ، وكان قائماً بين المذاهب ا لأدبية المختلفة ، والتيارات الفكرية المحلية والوافدة.

وقد أدّت التحولات المذكورة والصراعات الثقافية المختلفة إلى اضطراب في الأذواق واختلاف في مستويات التلقّي بشكل بارز وحادّ . وكان من الصعب أن يظهر شاعرٌ في مثل تلك الفترة يستطيع أن ينال حظوةً لدى جمهور كبير، ويُرضي المقاييس النقدية المتضاربة ، ولكنّ أبو ريشة اكتسب - على الرغم من ذلك كلّه - شعبيةً واسعة ، حتى ليمكن القول : إنّه احتكر معظمَ جمهور تلك الفترة .

ولم يكن أبو ريشة كذلك لولا تميّزُ شعره بمجموعة من الميزات يمكن أن نذكر أبرزها ضمن المحور الثاني :

المحور الثاني - : دور عمر أبو ريشة (الشاعر) في عصره :

1- احتوى شـعر عمر أبو ريشة بين طيّاته الخاصّ والعام ، وجمع - ضمن هذا الإطار - بين ما هو ذاتيّ ، وما هو موضوعي .

ويبرز الجانب الموضوعي في شعره من خلال تجسيده للقضايا الوطنية والقومية التي مرّت بها الأمة العربية في العصر الحديث ، ومن خلال عودته إلى التراث ، واستحضار أمجاد الماضي ، وكذلك من خلال تمجيدِه لأبرز شهداء الأمة ، ورثائه لبعض الأسماء البارزة في الشعر . ومن أبرز نصوصه الشعرية التي تناولت الموضوعات المذكورة : " بعد النكسة ، حماة الضيم ، بسمة التحدي ، حكاية سمار ، بنات الشاعر ، شطآن بلادي ، في طائرة ، شاعر وشاعر" .

ومن يطّلع على ديوان عمر أبو ريشة يمكن أن يقرأ تاريخَ أمّة ضمن أبرز المحطات التي مرّت فيها ،كما يمكن أن يتعرّف إلى طبيعة الشخصية العربية من خلال رسْمِه لها عبر نماذج مختلفة مستقاة من الشخصيات التراثية والحديثة : قُوّاداً ، وسياسيين ، وشعراء ، ومجاهدين . وسأورد على ذلك بعضَ النصوص :

يقول في الحفلة التذكارية التي أُقيمت في حلب ابتهاجاً بجلاء الفرنسيين عن سورية:

يا عروس المجد تيهي ، واسحبي فـي مـغانينا ذيـول الـشهب

لـن تـري حـفنة رمل فوقها لـم تـعطر بدما حـر أبـيّ

درج الـبـغي عـليها حـقبة وهــو ى دون بـلوغ الأرب

وارتـمى كـبر الـليالي دونها لـين الـناب كـليل الـمخلب

لا يـموت الـحق مهما لطمت عـارضيه قـبضة المغتصب

مـن هـنا شـق الهدى أكمامه وتـهادى مـوكبا فـي موكب
وأتـى الـدنيا فـرقّت طـربا وانـتشت مـن عبقه المنسكب

وتـغـنت بالمروءات الـتي عـرفتها فـي فـتاها العربي

أصـيد ضـاقت به صحراؤه فـأعـدته لأفــق أرحــب

هـب لـلفتح فـأدمى تـحته حـافرُ الـمهر جـبينَ الكوكب

وأمـانيه انـتفاض الأرض من غـيهب الـذل وذل الـغيهب

وانـطلاق الـنور حتى يرتوي كـل جـفن بـالثرى مختضب

حـلم ولـى ولـم يُـجرح به شـرفُ المسعى ونبلُ المطلب

يـا عروس المجد طال الملتقى بـعدما طـال جوى المغترب

سـكرت أجـيالنا فـي زهوها وغـفت عـن كـيد دهر قلّب

وصـحـونا فــإذا أعـناقنا مـثـقلات بـقيود الأجـنبي

فـدعوناكِ فـلم نـسمع سوى زفـرة مـن صـدرك المكتئب

قـد عـرفنا مـهرك الغالي فلم نـرخص الـمهر ولم نحتسب

كـم لـنا مـن ميسلون نفضت عـن جـناحيها غـبار التعب

كـم نـبت أسـيافنا في ملعب وكـبت أفـراسنا فـي ملعب

مـن نـضال عاثر مصطخب لـنـضال عـاثر مـصطخب

شرف الوثبة أن ترضي العلى غـلب الـواثبُ أم لـم يغلب

ويقول في موقع آخر مصوّراً مأساة فلسطين ، وما حلَّ بالأطفال ، والنساء ، والشيوخ من مشكلات وكوارث من خلال تمجيده للجندي العربي :

أمّتي هل لكِ بين الأممِ منبرٌ للسّيف أو للقلمِ ؟

أسمعي نوحَ الحَزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمي

أيّها الجنديُّ يا كبشَ الفدا يا شعاعَ ا لأمل المبتسمِ

ما عرفتَ البخل بالروح إذا طلبتها غصصُ المجد الظمي

بُوركَ الجرحُ الذي تحملُه شرفاً تحت ظلال العلم

ولم يتوقف عمر أبو ريشة عند القضايا الوطنية والقومية فحسب ، و إ نما تطرّق إلى المشكلات التي يعاني منها ا لمجتمع العربي . يقول في قصيدة "هؤلاء" مجسّداً حالات الخدر والثبات والتعب والإحباط التي يعيشها المجتمع العربي المعاصر بعد نكسة حزيران :

تتساءلينَ على مَ يحيا هؤ لا ءِ ا لأشقيا ءْ

المتعبون و در بُهم قفرٌ ، و مرماهم هَباءْ

الذاهلونَ الواجمون أمام نعشِ الكبرياءْ

العابرون على ا لجراح المطرقون على الحياءْ

أنستهمُ ا لأيام ما ضحكُ الحياةِ وما البكاءْ

أزرتْ بدنياهم ولم تترك لهم فيها الرجاءْ

تتساءلينَ وكيفَ أعلمُ ما يَرَونَ على البقاءْ

امضي لشأنكِ اسكتي أنا واحدُ من هؤلاءْ

وقد توقّف عمر أبو ريشة إلى جانب كل ما تقدّم عند أبعاد الشخصية العربية وسماتها إمّا من خلال الحديث عنها بشكل مباشر ، وإما من خلال العودة إلى الماضي المشرق . يقول في قصيدة " في طائرة "على لسان الفتاة الإسبانية التي تعتزّ بأصلها العربي ، ولم تكن تعرفُ جنسيّةَ مَنْ تحدّث :

قلتُ يا حسناءُ مَنْ أنتِ ومِن أ يّ دوح أفرع الغصنُ وطالا

و أ جابت أنا من أندلسٍ جنّة الدنيا سهولاً و جبالاً

وجدودي ألمحَ ا لدهرُ على ذكرهم يطوي جناحيه جلالا

حملوا الشرق سناءً و سنىً وتخطّوا ملعبَ الغرب نضالا

فنما ا لمجد على آثار هم وتحدّى بعدما زالوا الزوالا

هؤلاء الصيدُ قومي فانتسبْ إن تجد اكرمَ من قومي رجالا

يُلاحظ مما تقدم أنّ القضايا الموضوعية التي تخصّ الواقع العربي المعاصـر والشخصية العربية ، وما إلى ذلك شغلت مساحةً كبيرةً في شعر عمر أ بو ريشة . ويمكن القول : إن اهتمام الشاعر بهذه القضايا يؤكّد شيئين أساسيين :

- أو لهُما أنّ عمر أبو ريشة كان ملتزماً بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي عاش فيه ، وهذا دليلُ صحّةٍ ووعي . وقد يكون اقترابُه من واقعه وقضايا أمته سبباً من أسباب انتشاره وشعبيته .

- والأمرُ ا لثاني أ نّ التزام عمر أبو ريشة بتلك القضايا يدلّ على شدّة التزامه بشؤون أمّته العربيّة ، وإحساسه بمشكلاتها .

ومثلما احتوى شعر عمر أبو ريشة الجانبَ الموضوعي ، فإنّه لم يقصّر في تناول القضايا الذاتية التي برزت في تجسيده لمشكلاته الذاتية بدءاّ بأناشيد الفرح والاغتراب وانتهاءً بالمرأة . ويمكن القول : إنّ هذا الجانب الذاتي متفوّقٌ في "مستوى شعريته" على الجانب السابق / الموضوعي الذي تكاد تَغلِبُ عليه سِمتا المباشرة والتقريرية ، وذلك بما يتناسب وطبيعة تلك الموضوعات . والنصوص ذات الطابع الذاتي كثيرة ؛ منها قصيدة "عودي " التي يقول فيها :

قالتْ مللتُكَ اذهب لستُ نادمةً على فرا قكَ إ نّ الحب ليس لنا

سقيتك المر من كاسي شفيت بها حقدي عليك وما لي عن شقاك غنى لن أشتهي بـعد هذا اليوم أمنية لقد حملت إلـيها الـنعش والكفنا

قالت وقالت ولم اهمس بمسمعها ما ثار من غصصي الحرّى وما سكنا

تركتُ حجرتها والدفءَ منسرحاً و العطرَ منسكباً و العمرَ مرتهنا

وسرتُ في وحشتي والليلُ ملتحفٌ بالزمهريرِ وما في الأفق ومضُ سنا

ولم أَكَدْ اجتلي دربي على حدَسٍ وأستلينُ عليه المركب الخشنا

حتى سمعتُ ورائي رجعَ زفرتها حتى لمسـتُ حيالي قدّها اللّدنا

نسيتُ ما بي هزّتني فجاء تُها وفجّرت من حناني كل ما كمُنا

وصحتُ يا فتنتي ما تفعلينَ هنا ا لبردُ يؤذيكِ عودي لن أعودَ أنا

وفي ختام هذا ا لمحور الهام في شعر عمر أبو ريشة يمكن القول : إ ن جمعَه بين العام ، والخاص ، الذاتي والموضوعي ، وصهرَهما ضمن رؤية واحدة يضعُه في مرحلة متقدّمة ضمن شعراء جيلهِ .

2- وممّا يتميز به شعر أبو ريشة أيضاً أنه عكس الجانبين الذاتي والموضوعي ضمن فاعلية الصورة الفنية الحية . ومن أبرز ملامحالصورة في شعره : الطبيعة الحسية " التي تبدو من خلال التركيز على المكان والتجسيد والتشخيص "، والحركة ، والاستقلال ، والتفاعل ، والاسـتغراق بعناصر الطبيعةواسـتغلالها اسـتغلالاً موظفاً بما يخدم الحالـة الشـعرية وحرارة الموقف .

وتتّسم الصورة الفنية لديه أيضاًبالذاتية والإيحاء والانسيابية والتنامي والاحتواء على عناصر الحلم والدهشة .ومن نصوصه المتميزة في هذا ا لمجال قصيدة " طلل " التي يقول فيها:

قفي قدمي إ نّ هذا ا لمكان يغيبُ به المرءُ عن حسّهِ

رمالٌ وأنقاضُ صرحٍ هوَت أعاليهِ تبحثُ أ سّـهِ

حوافرُ خيلِ الزمان المشتِّ تكادُ تحدّثُ عن بؤسه

وتلـك العناكبُ مذعورةً تريدُ التّفلّتَ من حبسِه

لقد تعبتْ منه كفّ ا لدمار وباتت تخافُ أذى لمسِه

3- : تعامل عمر أبو ريشة في شعره مع المرأة بوصفها أنموذجاً ذا جمال مطلق 0 وأبرزُ ملامح هذا الجمال : الخصـوبةُ والتجدّد والكمال 0 والمرأة ضمن هذا الإطار مصدرٌ للإخصاب ، وهي المأوى للرجل أو الملاذ الذي يحتويه أوقات الشدة . وهي – ضمن الجمال الحسي – تتميز بالتناسب والتوازي ، والقوام الفارع والصدر الممتلئ عطراً وحيويةوإثارة ، والكلام الذي ينثر‘ الطيبَ يمينا وشمالا ، والشَّعر الأسود الطويل حتى الينابيع 0 يقول مجسداً جمال المرأة العربية في قصيدة (في طائرة) :

وثبتْ تستقربُ النجمَ مجالا وتهادت تسحب‘الذيلَ اختيالا

و حيالي غادةٌ تلعب في شعرها ا لمائج غنجاً ودلالا

طلعةٌ رياّ و شيءٌ باهرٌ أجمالٌ ؟ جلّ أن يُسْمَى جمالا

فتبسّمتُ لها ، فابتسمت وأجالت فيّ ألحاظاً كُسالا

كلّ حرفٍ زلّ عن مرشفها نثرَ ا لطيبَ يميناً و شمالا

ويدعم ذلك أيضاً في قصيدة (طهر) بقوله :


ألـفـيـتها سـاهـمة شـــاردة تــأمـلا
طـيف عـلى أهـدابها كـسـرهـا تـنـقـلا
شـق وشـاح فـجرها خـمـيـلة وجــدولا
ومـا ج فـيها رعـشة حـرى وشـوقامـنزلا
نـاديـتـها فـالـتفتت نـهدا وشـعرا مـرسلا
والـلحظ فـي ذهـوله مـغـرورق تـمـلملا
طـوقـتها يـا لـلشذا مـطـوقـا مـقـبـلا
فـمـا انـثنت حـائرة ولا رنـــت تـدلـلا
ولا درت وجـنـتـهـا مــن خـجـل تـبدلا
كـأنـها فـي طـهرها أطـهر مـن أن تخجلا

ويجسّد جمالها من خلال ارتباطها بالآخر في قصيدة (من أنتِ؟) :


من أنت كيف طلعت في دنـياي ما أبصرت فيا
فـي مقلتيك أرى الحياة تـفيض يـنبوعا سخيا
وأرى الـوجـود تـلفتا سـمحا وإيـماء شـهيا
ألـممت أحـلام الصبا وخـلعت أكـرمها عليا
مـهلا فـداك الـوهم لا تـرمي بـمئزرك الثريّا
أنا في جديب العمر أنثر مـا تـبقى فـي يـديّا
عودي إلى دنياك واجني زهـرها غـضا زكـيا
يـكفيك مني أن تكوني فـي فـمي لـحنا شجيّا

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الشاعر كان يركّز في تجسيده للمرأة على الجانب الحسي فيها . وموجز القول : إن المرأة في شعر عمر أبو ريشة لم توجد إلا لتكون أيقونةً أو " مثَلاً جمالياً " يُحتذى . ونادراً ما نجد أثراً للمرأة العادية في شعره . ونعتقد أنه - أي أبو ريشة - اعتمد في صياغة نموذج المرأة ذات الجمال المطلق على مخزون اللاشعور الجمعي لديه . وقد كان للرموز البدئية ذات الطابع الانبعاثي " عشتار ، وإنانا وأفروديت ، وعناة ، وفينوس ، وفاطمة وعُنيزة ، وعبلة ، وليلى " مساهمة كبيرة في بناء ذلك .

4-:- يتجلًى الموقف الفلسفي الذي تبنّاه عمر أبو ريشة ، وجسّده في شعره من خلال تغليبه لعناصر الذات على الموضوع ، أو رؤية الموضوع من خلال الذات . وتبدو الذاتية في شعره بارزة ليس من خلال حديثه عن مشكلاته الذاتية وعلاقته بالمرأة فحسب ، وإنما من خـلال رؤيته الذاتية للأشياء . و تبدو الذاتية في شعره من خلال طغيان الجانب العاطفي على طرح القضايا الذاتية والموضوعية ، كما تبدو أيضاً من خلال اعتداده الدائم بالفرد ، وتجسيده للنموذج الفردي " المرأة ذات الجمال المطلق ، والرجل القائد ، أو الشاعر أو المنقذ " ، كما تبدو من خلال " الثنائية المتجلية في علاقات التقابل بين الفرد والمجتمع ، والرجل والمرأة ، والوطن والاستعمار " .

وقد تكون هذه الثنائية وراء مقولة الاغتراب التي طالما عزفها عمر أبو ريشة في شعره . هـذا الاغتراب الذي برز ضمن أشكال متعددة ، مثل : القلق والتأزّم والشعور بالعزلة عن المحيط ، وتأكيد الألم والحزن .

ومما قوّى هذا الجانب "الاغترابي " في شعره وأكّده إلى جانب الذاتية المذكورة الإخفاقات التي مرّت بها الأمة العربية في العصر الحديث ، وغربة الشاعر عن بلاده التي دامت أكثر من عشرين عاماً ، والحساسية المفرطة التي يمتلكها الشاعر .

فهو في قصيدة " نسر " يجسّد من خلال النسر اغتراب الفرد المعاصر ، وألمه وشعوره بالوحدة ، وبأنه متروك ومهمل من قبل المجتمع . ولا ينسى الشاعر في هذه القصيدة أن يعتدّ بفرديته وشموخه يقول :

أصـبح الـسفح ملعباً للنسور فاغضبي يا ذرا الجبال وثوري

وقفَ النسرُ جائعاً يتلوّى فوق شلوٍ على ا لرمال نثيرِ

وعجافُ البغاث تدفعُه بالمخلب الغضّ والجناح القصيرِ

فسَرتْ فيه رعشةٌ من جنونِ الكِبر و اهتزّ هزّةَ ا لمقرورِ

ومضى ساحباً على ا لأفق ا لأغ برِ أ نقاضَ هيكلً منخورِ

وإذا ما أتى الغياهبَ واجتاز مدى الظنّ من ضمير ا لأثير

جلجلت منه زعقةٌ نشّتِ الآفاقَ حرّى من وهجها ا لمستطير

وهوى جثةً على الذروة ا لشّماء في حضنِ وكْرِه المهجورِ

أيـها النسر هل أعود كم عدت أم السفح قـد أمات شعوري

وعمر أبو ريشة - كما هو ملاحظ في هذا النص - لم ينسَ الاعتداد بفرديته وشموخه الذاتي على الرغم من اغترابه ، وشعوره بأنه متروك و مهجور .

5 - : و مما يميّز شعرَ عمر أبو ريشة بعامة أنه ذو طابع عضوي ، فعلى الرغم من اعتماده على جمالية المفردة أحياناً ، والصورة الجزئية غالباً ، فإنّ نصوصه كانت تحمل قيمتَها من خلال التكامل والتفاعل والتوازن بين عناصرها وجزئياتها ، بمعنى أن " شعرية " هذه النصوص ترتكز أساساً على جمالية الكل التي توفرها الوحدة العضوية 0

يقول في قصيدة "يا شعب " التي كتبها عام 1943م :

يا شعبُ لا تشكُ ا لشقاءْ و لا تُطِلْ فيهِ نُواحَكْ

لو لم تكنْ بيديكَ مجروحاً لضمّدنا جراحَكْ

أنتَ انتقيتَ رجالَ أمركَِ وارتقبتَ بهم صلاحَكْ

فـإذا بـهم يُـرخون فوق خسيسِ دنياهُم وشاحَك
كـم مـرةً خفروا عهودَك واستقَوا بـرضاكَ راحَك

أيسيلُ صدرُك من جراحتِهم و تُعطيهِم سلاحَكْ

لهفي عليكَ ، أهكذا تَطوي على ذُلٍّ جناحَكْ

لو لم تُبِحْ لهواكَ علياءَ الحياةِ لما استباحَكْ

إن أبرز ما يميز هذا النص الوحدة العضوية التي تمثلت في احتوائها على الموضوع الواحد، والتنامي الداخلي في تشكيل الصورة الكلية ، والتفاعل بين الصور الجزئية ، ووحدة الرؤية والرؤيا ، ووظيفية اللغة والتركيب 0 ومما يدعم الوحدة العضوية في شعر عمر أبو ريشة أيضاً البيت الأخير في معظم قصائده . وهو يتميز لدى هذا الشاعر بميزتين أساسيتين :

الأولى قوتُه النابعة من تشكيله الداخلي الذي يتميز بالتكثيف والاقتصاد في اللغة والتركيز والدهشة المبنّية على عدم التوقع . وتتجلّى الميزة الثانية للبيت الأخير في ارتباطه المحكم بالأبيات السابقة التي تربطهُ بها وحدةٌ عضوية 0 انظر مثلاً قصيدتي " في طائرة ، وعودي ".

المحور الثالث : المثل الجمالية في شعره :

اعتمد عمر أبو ريشة على مجموعة من المفاهيم شكّلت بمجملها المثل الجمالية التي استند إليها وهي مفاهيم البطولي والجميل والقبيح والتراجيدي والجليل أو المقدس.

وقد تم تجسيد هذه المثل في قيم جمالية هي :

- قيمة البطولي : جسد عمر أبو ريشة قيمة البطولي متكئاً على حاملين : الأول الفرد ، تجسيد صورة الفرد المدافع عن بلده ووطنه حتى القطرة . هذه هو المفهوم . وقد قدم أبو ريشة هذا القيمة من خلال الطقوس الاحتفالية التي قدم من خلالها البطل الفرد . فارتقى بهذا المفهوم إلى قيمة البطولي ، والحامل الثاني للبطولي سوى الفرد هو الطقوس الملحمية التي كان يقدمها أبو ريشة إلى شخصياته .

- قيمة الجميل : وقد حُملت هذه القيمة على جانبين : الجانب المجرد المفهومي مثل الخير والحق والسلوك الطيب والتعاطي الحسن ، وبرز الجانب الآخر الحسي من خلال التوازن بين العناصر التي تصوغ هذا الجمال ، ومن خلال ثبات هذه العناصر . ولعل أكثر ما كان يحمل هذا الجانب تجسيد أبو ريشة للمرأة ذات الجمال المطلق . فلا نكاد نعثر على المرأة العادية في شعره . وقد استقى هذه القيمة من المرأة العربية التي جسدها الشعر الجاهلي ومن أساطير إنانا وأفروديت وعشتار وفينوس . فأنوثة المرأة عند أبو ريشة مستمرة ودائمة وخلاقة .

- قيمة القبيح : حملت قيمة القبيح على مفاهيم الغدر والخيانة ولم يجعل أبو ريشة خلفية حسية لقيمة القبيح كما قيمتي الجميل والبطولي وأعتقد أن تأثر أبو ريشة بمفهوم القبيح الذي جسده الشعر العربي القديم من خلال الواشي فزرع آنذاك مفاهيم له ولم يجسده في قالب حسي هو المصدر الأول لقيمة القبيح عند أبو ريشة . أما المصدر الثاني لقيمة القبيح فاستنهضها الشاعر من الخيبات القاسية التي عايشها ، النكبة 48 والانفصال 61 والنكسة . وقد حُملت قيمة القبيح على العدو ، والصديق الخائن وكلاهما أديا إلى الحامل الثالث للقبيح هو : الواقع الرديء.

- قيمة التراجيدي : برزت من خلال أمرين : موت الجميل ( اغتصاب الوطن ، موت البطل ، موت العلاقة الجميلة ... ) . والأمر الآخر : انكسار الحلم ، عدم القدرة على تحقيق الهدف ....

الخلاصة :

نستنتج من كل ما تقدم أن عمر أبو ريشة عكس - ضمن الرؤية - ما كان يحيطُ به من مشكلات وقضايا موضوعية وذاتية . وقد كان له موقف صريح من كل ذلك ، كما أنه عبّر - ضمن الرؤيا - عن مطامح الشعب العربي ، فأكّد الوحدة العربية بوصفها بديلاً موضوعياً لواقع التجزئة ، كما أنه عكس - ضمن الرؤيا الاجتماعية والإنسانية - مفاهيمَ المحبة والتواصل والسلام بوصفها بدائل لواقع الكره والفساد والتفسّخ .

وقد جسّد عمر أبو ريشة رؤيته ورؤاه - على اختلاف مضامينهما - ضمن فاعلية الصورة الفنية الحّيـة التي تؤكد حتماً شاعرية فذّة ذاتَ خصوصية متميزة .

لقد ذكرنا في بداية حديثنا أنّ الفترة التي عاشها عمر أبو ريشة وبخاصة النصف الأول من القرن العشرين كانت تشهدُ تناحراً بين القديم والحديث ، بين الأصالة والمعاصر ، بين التيار التقليدي والرومانسي . وعمر أبو ريشة كان مجدداً على أصعده مختلفة منها : الصورة الفنية ، والوحدة العضوية ، وطبيعة اللغة والتركيب ، والبيت الأخير ، والطابع الذاتي ، ولكنه لم يتجاوز أصالة الشعر العربي ، أو لغته ، أو متانة تراكيبه ، وما إلى ذلك .

و أخيراً لابدّ من القول : إنّ عمر أبو ريشة جمع جمعاً عضوياً بين ما هو أصيل وما هو جديد فأبدع وأمتع . ومن هنا يفهم الدارسُ السّر الذي كان وراء إبداعه المتميز .

وصية عمر أبو ريشة :

أُدخل الشاعر المستشفى لإجراء عملية قلب فكتب وصية وغلفها وأعطاها لزوجته وطلب منها عدمفتحها الا بعد خروجه وظن أنه سيموت ولما خرج سألها عن الرسالة ففتحتها وإذا فيهاالوصية التالية :

رفـيقتي لا تُـخبري إخوتي كيف الردى كيف عليّ اعتدى

إن يـسألوا عني وقد راعَهم أن أبـصروا هيكلي الموصدا

لا تـقلقي لا تُـطرقي خشعةً لا تسـمحي للحزن أن يولدا
قـولي لـهم سافرَ قولي لهم إن لـه فـي كـوكبٍ موعدا

المصادر :

مصدر جميع النصوص الشّعريّة الواردة في هذه الورقة هو :

ديوان عمر أبو ريشة ، الجزء الأول ، دار العودة ، بيروت ،1971م

المصدر
http://faculty.kfupm.edu.sa/ias/aassaf/slide-1.htm (http://faculty.kfupm.edu.sa/ias/aassaf/slide-1.htm)