يوسف ليمود
20/12/2006, 06:56 PM
وجوه الفيوم .. وجوه اليوم
1
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=170
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=169http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=168
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=166
هذه نماذج من وجوه جنائزية عبرت المكان من قرون بعيدة ولم يبق مايذكّر بها غير مستطيل خشبي (أيقونة) رسم عليه بألوان وأكاسيد ترابية الوجهَ الذي غاب صاحبه ليُثَبَّت على المومياء مكان الوجه الميت وفْق منظومة معقدة من تداخلات عقائدية امتزج فيها الفرعوني بالإغريقي بالمسيحي لتحفظ للميت ذاكرته فيسهل علي روحه التعرف على صورتها في العالم الآخر فتنجو.
يحدث, ليس نادرا, أن تبرق في عالم المرء الداخلي في لحظة من لحظات الكشف: أثناء نزول درجات سلم المترو أو في لحظة الجلوس على مقهي شعبي أو اثناء المشي الطويل في الحواري والأحياء التي لاتنتهي, يحدث أن تبرق الرؤيا الكاشفة التي تمزج الحاضر المتحرك بالماضي الأبعد فتتلبس وجوهَ المكان وجوهٌ عبَرت, ويُرى الحاضرُ بعين غير زمنية, ويكشِف المكانُ عن طبقاته الزمانية المتراكمة المتراكبه فيبدو وكأن ألم الأمس هو نفسه ألم الآن, وأن الوجوه المقهورة المسلوبة التي تترنح أمامنا وتتهاوى هي نفسها ذات الوجوه التي سجلتها ريشة فنان مجهول لم يعد له وجود من قرون مضت, مع فارق ان وجوه اليوم لم يعد لها حظ أو رفاهية بقائها ولو خطوطا وألوانا على لوح خشبي حتى تتعرف على نفسها هنا أو هناك, وكأن ضياعها هنا مرة وهناك أخري هو القدر الذي من أجله تجيء الدنيا وتعبُر.
2
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=171
بعد قرون طويلة من رقود وجوه الفيوم في صدور توابيتها تعود نفس الريشة التي تحفظ جيدا مقاييس الموت وخرائط الألم في التقاسيم والملامح الي تسجيل صورة شخصية أَعتبرها من أبدع ما أنتجه الفن المصري الحديث في فن البورتريه (للسكندري محمود سعيد, ابن الباشا الذي امتزج بالشعبي رغم طبقته المتعالية على الشعب). يكاد المتأمل في صورته أن يلمس حلقات السلسلة التي تربط القرون والسلالات في ذات المكان, بل يكاد المرء أن يلمس روح المكان نفسه عبر الأزمنة. لقد حول الفنان صورته الشخصية إلى موضوع هو أكثر الموضوعات الوجودية حضورا ونخرا في تربة مكان كمصر وفي شخصية كالمصرية - الموت. فخلفية الصورة شبكة رقيقة من البيوت والأسطح يتصادى فيها صمت حميمي وكأنه مناجاة لسماء مجهولة, والنظرة التأملية لصاحب الصورة ترتفع عن المكان وعن الزمان وتسجل وعيا ذاتيا بامتزاج هُويات متداخلة ووعيا مُدينا بالشرط الإنساني المفقود. يقود هذا إلى بؤرة الإلهام الحقيقية في الصورة وهي الجنازة البليغة في الشارع الخلفي بالمنظور العلوي الذي صُوِّرت منه وهي تصعد ببطء على كتف الرسام. إن مصدر الحيوية والجمال هنا هو ذلك الذهاب والإياب بين الوجه المعبِّر بيقظته وروحيته في مقدمة الصورة وبين ذلك الرمز المحمول على الأعناق في الخلف بعيدا, ورغم عدم التناسب في الحجم والمساحة بين الرمزين –الوجه|الجنازة\ الحياة|الموت– إلا أن تفاعلهما المتبادل يشبه ميزانا دقيقا تتأرجح كفتاه الخفيفتان في أثير اللامعني, ومن دون أن نغفل المفارقة التي تجعل حيوية الصورة تتغذي على موضوعها الميت.
3
كثيرا ما تخيلت صورة الواقع اليومي المصري منذ تاريخه وحتي اليوم وكأنه جنازة لاتنتهي تمضي في حارة لا تنتهي من غير أن تلوح في الأفق مقبرة أو حتى حفرة يتوقف عندها طقس الموت هذا, أو أن تحدث معجزة -كما في قصص الأولياء- يطير النعش في الهواء أو يتوقف رغما عن حامليه ويتجمد في الفراغ فنُقيم ضريحا ثم نعود بعدها إلى الإلتفات لإثراء الحياة بما يليق بالوجود فيها كبشر. وأتساءل هل يكون الحضيض الذي انتهينا اليه وما يحدث الآن من مهانة بداية نفض الجثة الجاثمة عن أعناقنا, وفضِ الجنازة التي نسير في غيبوبتها من ألاف السنين؟ ألن يلوح في الأفق قريبا شاهد قبر ندفن تحته الجثة, أم ترانا نبحث دون أن ندري عمن يدفننا نحن مع الجثة ومعها وجوهنا, وجوه الماضي والمستقبل؟؟
..............
يوسف ليمود
youssef_limoud@hotmail.com (youssef_limoud@hotmail.com)
*اكتُشف الجزء الأكبر من هذه الوجوه او البورتريهات في مقابر رومانية بمنطقة الفيوم ومنطقة سقارة ويزيد عدد ما اكتشف منها على الألف ويرجع تاريخها في الغالب من القرن الأول الي الثالث الميلادي ويذكر أن عالم النفس فرويد كان يمتلك اثنين منها حيث تم تهريب العديد من هذه الأيقونات من وقت اكتشافها سنة 1888. مزيدا من صور هذه الوجوه في هذا الموقع الرائع:
http://portraits.fayoum.free.fr
1
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=170
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=169http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=168
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=166
هذه نماذج من وجوه جنائزية عبرت المكان من قرون بعيدة ولم يبق مايذكّر بها غير مستطيل خشبي (أيقونة) رسم عليه بألوان وأكاسيد ترابية الوجهَ الذي غاب صاحبه ليُثَبَّت على المومياء مكان الوجه الميت وفْق منظومة معقدة من تداخلات عقائدية امتزج فيها الفرعوني بالإغريقي بالمسيحي لتحفظ للميت ذاكرته فيسهل علي روحه التعرف على صورتها في العالم الآخر فتنجو.
يحدث, ليس نادرا, أن تبرق في عالم المرء الداخلي في لحظة من لحظات الكشف: أثناء نزول درجات سلم المترو أو في لحظة الجلوس على مقهي شعبي أو اثناء المشي الطويل في الحواري والأحياء التي لاتنتهي, يحدث أن تبرق الرؤيا الكاشفة التي تمزج الحاضر المتحرك بالماضي الأبعد فتتلبس وجوهَ المكان وجوهٌ عبَرت, ويُرى الحاضرُ بعين غير زمنية, ويكشِف المكانُ عن طبقاته الزمانية المتراكمة المتراكبه فيبدو وكأن ألم الأمس هو نفسه ألم الآن, وأن الوجوه المقهورة المسلوبة التي تترنح أمامنا وتتهاوى هي نفسها ذات الوجوه التي سجلتها ريشة فنان مجهول لم يعد له وجود من قرون مضت, مع فارق ان وجوه اليوم لم يعد لها حظ أو رفاهية بقائها ولو خطوطا وألوانا على لوح خشبي حتى تتعرف على نفسها هنا أو هناك, وكأن ضياعها هنا مرة وهناك أخري هو القدر الذي من أجله تجيء الدنيا وتعبُر.
2
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=171
بعد قرون طويلة من رقود وجوه الفيوم في صدور توابيتها تعود نفس الريشة التي تحفظ جيدا مقاييس الموت وخرائط الألم في التقاسيم والملامح الي تسجيل صورة شخصية أَعتبرها من أبدع ما أنتجه الفن المصري الحديث في فن البورتريه (للسكندري محمود سعيد, ابن الباشا الذي امتزج بالشعبي رغم طبقته المتعالية على الشعب). يكاد المتأمل في صورته أن يلمس حلقات السلسلة التي تربط القرون والسلالات في ذات المكان, بل يكاد المرء أن يلمس روح المكان نفسه عبر الأزمنة. لقد حول الفنان صورته الشخصية إلى موضوع هو أكثر الموضوعات الوجودية حضورا ونخرا في تربة مكان كمصر وفي شخصية كالمصرية - الموت. فخلفية الصورة شبكة رقيقة من البيوت والأسطح يتصادى فيها صمت حميمي وكأنه مناجاة لسماء مجهولة, والنظرة التأملية لصاحب الصورة ترتفع عن المكان وعن الزمان وتسجل وعيا ذاتيا بامتزاج هُويات متداخلة ووعيا مُدينا بالشرط الإنساني المفقود. يقود هذا إلى بؤرة الإلهام الحقيقية في الصورة وهي الجنازة البليغة في الشارع الخلفي بالمنظور العلوي الذي صُوِّرت منه وهي تصعد ببطء على كتف الرسام. إن مصدر الحيوية والجمال هنا هو ذلك الذهاب والإياب بين الوجه المعبِّر بيقظته وروحيته في مقدمة الصورة وبين ذلك الرمز المحمول على الأعناق في الخلف بعيدا, ورغم عدم التناسب في الحجم والمساحة بين الرمزين –الوجه|الجنازة\ الحياة|الموت– إلا أن تفاعلهما المتبادل يشبه ميزانا دقيقا تتأرجح كفتاه الخفيفتان في أثير اللامعني, ومن دون أن نغفل المفارقة التي تجعل حيوية الصورة تتغذي على موضوعها الميت.
3
كثيرا ما تخيلت صورة الواقع اليومي المصري منذ تاريخه وحتي اليوم وكأنه جنازة لاتنتهي تمضي في حارة لا تنتهي من غير أن تلوح في الأفق مقبرة أو حتى حفرة يتوقف عندها طقس الموت هذا, أو أن تحدث معجزة -كما في قصص الأولياء- يطير النعش في الهواء أو يتوقف رغما عن حامليه ويتجمد في الفراغ فنُقيم ضريحا ثم نعود بعدها إلى الإلتفات لإثراء الحياة بما يليق بالوجود فيها كبشر. وأتساءل هل يكون الحضيض الذي انتهينا اليه وما يحدث الآن من مهانة بداية نفض الجثة الجاثمة عن أعناقنا, وفضِ الجنازة التي نسير في غيبوبتها من ألاف السنين؟ ألن يلوح في الأفق قريبا شاهد قبر ندفن تحته الجثة, أم ترانا نبحث دون أن ندري عمن يدفننا نحن مع الجثة ومعها وجوهنا, وجوه الماضي والمستقبل؟؟
..............
يوسف ليمود
youssef_limoud@hotmail.com (youssef_limoud@hotmail.com)
*اكتُشف الجزء الأكبر من هذه الوجوه او البورتريهات في مقابر رومانية بمنطقة الفيوم ومنطقة سقارة ويزيد عدد ما اكتشف منها على الألف ويرجع تاريخها في الغالب من القرن الأول الي الثالث الميلادي ويذكر أن عالم النفس فرويد كان يمتلك اثنين منها حيث تم تهريب العديد من هذه الأيقونات من وقت اكتشافها سنة 1888. مزيدا من صور هذه الوجوه في هذا الموقع الرائع:
http://portraits.fayoum.free.fr