المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في قانا مذبحة ( الجزء الأول )



أديب قبلان
23/11/2006, 10:03 AM
رحلة الذهاب


1



لم أع ما كان يتكلم عنه في حينها ، كانت الدنيا مليئة بالضجة ، امرأة تركض هناك ورجل متمدد على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وأطفال يصرخون ، ونساء يبكون أبناءهم وأزواجهم .

لم نعرف ماذا يحصل تقريباً ، لكن نفسي كانت تضج بأفكار شتى متنوعة ، تتقاذفها الصور والذكريات ، ناداني أبي بصوت خافت من جانب الحائط المستند على الهواء

" محمد من هنا ... "

ولكن لم يكمل عبارته ، فقد قطعتها رصاصة أوقفته عن الكلام ، فقد أزحم فمه الغائر في وجهه بالدماء الوردية ، اتجهت دموعي تغسل وجنتاي حزناً عليه لكنني لم أكن سوى أحد الصبية الذين فقدوا أهاليهم في هذه المذبحة .

مر بجانبي أبو أحمد وأمسك يدي وانطلق بها إلى الجهة الشرقية من المدينة عبر الأزقة التي ازدحمت بالجثث فكانت كالطريق المغلف بالجثث ، سألته باكياً :

" إلى أين يا عمي ؟ "

فأجابني وهو يلقط ما يستطيع من أنفاس :

" إلى بر الأمان بإذن الله "

لم أستطع أن أجمع أفكاري التي بدت مشتتة الأركان ، لم أستطع أن أبني شيئاً على ما يحصل ، فقد كان كل ما يشغل عقلي مكان وجود أمي وأخواتي ، فهاهي يد أبي أحمد يبدو على أعصابها التلف والإرهاق فهو كبير طاعن في السن ، لكنه يغير وضعيتي فمرة على كتفه ومرة على ظهره ومرة في حضنه ، أدركت أنه قد تعب فطلبت منه إنزالي لكنه لم يرض قائلاً :

" أين ستذهب في هذه الضجة "

فأطرقت صامتاً إلا دموعي فقد كانت تحكي حزناً على أبي الذي استشهد أمامي .

كان هناك أحد الضباط الإسرائيلين يتكلم في بوق كبير ذي صوت مرتفع وينادي بأن نخلي القرية ، وقد كان في الرتل الذي كنت فيه مع أبي أحمد ستة شباب يافعين وقد اطمأنوا جميعاً أنهم سيبقون على قيد الحياة لأنهم تعدو منطقة الخطر ووصلوا إلى حدود " تبنين " وخففوا من سرعتهم وأنزلني أبو أحمد من على كتفه الذي انهار ، وأوعك نفسه قليلاً مظهراً أسنانه الصفراء الطاعنة في السن ثم اعتدل فأكملنا طريقنا إلى أن وصلنا الشارع العام وأوقفنا إحدى السيارات المارة لنستقلها ونصل إلى حدود مدينة " تبنين " .



2



أنزلنا السائق على مشارفها معتقداً بوجود اليهود فيها لكن أبا أحمد و من كان معه من الشباب متيقنون بعدم وجودهم فيها ، لكن .... بعد أن قطعنا الشارع باتجاه الأراضي الزراعية وجدنا علماً معلقاً على بيت يبدو خشبياً ... إنه علم الأوغاد علم اليهود ، انتابت أبا أحمد والشباب حيرة فلم يصلوا إلى هنا ، كيف وجد العلم إذاً ، بدأت أنظر إليهم راجياً أن يكون ما يفكرون به هو العودة من حيث أتينا ! .

بدأ العرق بالتصبب على خدود أبي أحمد والشباب ، نظروا في وجوه بعضهم متناقلين الحيرة ! ثم قال أحدهم :

" أنا .. أنا من كان صاحب الرأي في المجيء إلى هنا ... فإذاً أنا أتحمل مسؤولية ما حدث وأذهب إلى هذا المبنى البسيط لأتأكد من عدم وجود يهود فيه ! "

" ارتبك أبو أحمد بعض الشيء لكنه لم يبد أي اعتراض على الفكرة ، فانطلق هذا الشاب بأمر رباني وبشكل حذر و بطيء باتجاه هذا البناء الصغير ، يتحرك ... يتحرك ... يتحرك ، فإذا به يسقط ، ويصرخ أبو أحمد :

" هذا ما توقعته من هؤلاء الأوغاد ، هذا ما توقعته ! " فقد كان هذا البناء هو مرتكز لـ " قانص"

آلي يقنص من يأتيه من هذه الجهة .

ثم تبدو عبرات محتدمة بالسقوط على الأرض التي طالما شربت دماءً ولكن هذه المرة شربت دموعاً مالحة .

رأى الشباب أن يكون الابتعاد أفضل لكن أبا أحمد أصر على المضي في الطريق ولكن من مكان آخر ، وانطلقوا من الطريق العام بسيارة أجرة كانت قد مرت من هناك مصادفة ، فحملتهم رأفة بهم وقال لهم السائق أنه متجه إلى " تبنين " فأخبرناه بما حدث ، فحول طريقة إلى بيروت ، ونصحنا بالمضي معه .... وقد كان له بيت هناك



3



في بيروت استضافنا سائق الأجرة في منزله لأنه كان أعزباً ، وقد كنت تقريباً ناسياً أن لي أهل بقوا في قانا ، واستمرت الحياة مع هذا السائق الخلوق البسيط عدة أيام ، وأخبار قانا تصل إلينا عبر زوار هذا السائق ، منها ما كان يصدق ومنها ما كان لا يصدق :

" يقولون أن عدد أسكان قانا الذين بقوا على قيد الحياة هم مئة فقط ! "

" يقولون أن أولمرت وبوش عقدوا مؤتمرهم في قانا لقهر الشعوب العربية ! "



لا أدري مدى مصداقية هذه الأخبار ، لا أدري عن مدى حالة اليهود في قانا .

كان جميع سكان المنزل مهذبون ويحترمون صغر سني ويداعبونني على أنني أصغرهم سناً وأنني أفقرهم حالاً ، ولكن ما لبث أحدهم أن سألني عن سبب وجودي في هذا المكان قائلاً :

" صحيح ، أليس لك أهل ؟ أتعيش وحدك ؟"

هنا أحسست أن شيئاً في جوفي بدأ يتحرك ولكنني أخفيته لكن للأسف لم أستطع أن أطيل إخفاءه ، فأظهرته متمثلاً بقيام إلى الغرفة ودخول إليها وقفل للباب خلفي .

استغربت عدم مجيء أحد لمعرفة حالتي ولا حتى أبا أحمد ، لم يأت لمواساتي ، وهنا بدأت أتذكر عائلتي وبدأت أتهم نفسي بالغباء لمجيئي مع أبي أحمد وقررت أن أبداً رحلة العودة لأجد أمي وأخواتي وجثة أبي .....