المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وراء الســـر



نشيد الربيع
14/11/2006, 06:01 PM
وراء الســر


ممتد كالزمان . عميق كالحياة . زاخر كالبحر يتراءى كأنك تعرفه ثم لا تجدك مدركا طَرَفه .

حلو بلغ من زينته أن ادعيناه جميعنا . تمنيناه وبحثنا عنه وتوهمناه في كل شيء عداه . كالظامئ يتوهم السراب ماء . يدور في الفلاة يبحث عن الماء ولو بكى لرأى الماء رأي العين وما تمنى المحال .

قليلون ظفروا به . قليلون أدركوه . والكثير من هذا القليل أفسده . ما قيمة الكنز الوافر في حضرة مقطوع الأصابع . فهو يتحسسه بذراعه كلها وما جعلت الذراع لتحس إنما لتحمل اليد التي تحس .

ما قيمة المال بيد البخيل الذي يخشى زواله فهو ينظر إليه ولا يمد إليه يده . هل كان الموت القابع في آخر الحياة وهو حقيقتها المطلقة سببا لأن نتركها لا نحياها . أفيكون الفراق الذي هو حتمية الحب سببا لنخشاه .

لما سألتني هل أحب . أجبتها إن أصدق الحب ما نعجز أن نجيب معه هذا السؤال بالقطع . قالت : أتخفيه وصادق الحب ما يطرق باب النور بكلتا يديه . قلت : بل لا أدركه .
قالت : نحن لا نعيش الحب ، نحن نفلسفه . قلت : لأننا نخشاه .

كل الذين كتبوا في الحب كتبوا بعده أو قبله لكن أحدا لم يكتب حال تلبسه بحبه . أفيكتب النائم والمحزون والمتألم . أيترك الواصل لهفته التي انتظرها ليكتب . أيترك المقطوعُ دموعَه وحزنه ليكتب وهي لذته والكتابة سلواه . أويترك الألم في نفس صاحبه بابا لعقله يكتب به . أما بعد ذلك ، عند اليقظة وانقضاء الوصال و توقف النزف نركن إلى الكتابة لنستبقى حالة أحببناها .

ستصدق حديثي هذا في الوصال لكنك تتشكك في الألم . أنكتب في الألم لنستبقيه . أكاد اقسم لك إن لذتنا بآلامنا تعدل لذتنا بأفراحنا . ربما لأننا نحن البشر مولعون بامتداد الحياة . فاستبقاؤنا لكدرها وسعادتها استبقاء لها . لأننا آمنا بتلازمهما معا فليبقيا سويا لتبقى الحياة .

تساءلت مرة لماذا نتأوه عندما نتألم . هل تفيد الآه في ألم . هل تخففه . هل تمحوه . ربما ليصل لؤلئك المجاورين لنا مقدار ما نحسه من ألم . هل نستكثر عليهم راحة البال التي يعيشون فيها فنكدرها . لماذا يكتب المحبون . لماذا يبكون ويملؤن الدنيا نواحا إذا تألموا أو صياحا إذا ظفروا . ما دخل الدنيا بحبيب ظافر أو حبيب خاسر . إذا كانت الدنيا لم تعبأ بموت نبي أو فراق عظيم . لا تعبأ الدنيا ولو تهدمت جبالها . سؤال سنبحث عنه في بطون الكتب وأقوال الفلاسفة والأدباء والمحبين .

وإن كنت لا أومن بفيلسوف ولا أصدق أديبا فإني أشهد بما يقوله المحبون وحدهم .

السيدات والسادة :

سأرافقكم في البحث وراء السر . هذا السر الجميل فيما كتبه الكثيرون من الأدباء والفلاسفة والمحبين .


نشيد .

نشيد الربيع
22/11/2006, 06:26 PM
(1)

ربما كان من الطريف أن نبدأ بنشيد الإنشاد في التوراة . ومن الطريف ايضا أن نقول إن هذا النشيد ليس مما أوحى الله على موسى بل زعموا أنه من نظم نبي الله سليمان وهو كلام لا يؤيده دليل خاصة ما برع فيه اليهود في التقول على أنبيائهم . ومع ما في هذا الكلام من تقول لا نثبته على نبي الله سليمان إلا أن أمورا في الحكاية تجعلني أوردها .

هذا النشيد على لسان فتاة اسمها شولاميت تحب راعيا وتغني في عينيه وشعره وطعمه وحلاوته وتقول إنهم جميعهم مشهيات وتطلب من بنات أورشليم ألا يوقظن الحبيب النائم وتقول إنها تنام لكن قلبها لا ينام وتطلب المعذرة لأنها مريضة بالحب وتتمنى أن تكون خاتما في يد حبيبها حتى لا تفترق عنه وتقول إن الحب كالموت . أي أن الحب هو نهاية كل حي . وقالوا إن نبي الله سليمان أراد أن يتزوجها فرفضته وراحت تبكي على الحب .

لماذا اختار ناظم الحكاية أن يكون الطرف الآخر في هذا الحب هو سليمان . هذا الرجل الذي سير الرياح الخفية وحكم الجن وعاقب العاصي منهم . وحدث النمل والطير . هذه القوة البديعة التي شملت الحياة في كل عجيب فيها إن لم تملأ عين الرائي فهي توحي للسامع أن بمقدوره العبث بمكنون القلوب .

هل كان الحب في يوم مرتبط بالإبهار والقوة . إننا نستطيع أن نبهر العيون ونحوز إعجاب النفوس لكن من العسير أن نملأ القلوب التي شغلت بغيرنا .

القلب الذي يسكنه الحب مشغول ، لا الإبهار ولا الإعجاب ولا القوة تزيحه . لكن هناك قولا هنا . القلب ليس وعاء يسكنه حتى الماء الراكد . الماء وحده يزيح الماء ، يملأ ما تحته حتى يفيض عليه . الحب الحي وحده هو ما تعجز عنه القوة .

امرأة واحدة قالت لسليمان وهو ما هو ملكا ونبوة وسحرا وعظمة : لا . لأن قلبها مشغول لن تستطيع أن تهبه إياه .

أما في القرآن الكريم . ففكرت : أيكون في القرآن شيئا من هذا وهو الكتاب الذي أنزله الله . ويقيننا أن ما فيه لم يعبث به بشر . والقرآن كتاب شريعة ومعجزة نبي . قلت إن القرآن أتى ليبني الإنسان . أفليست عواطف الإنسان مما يبنى ؟ . هل هي من السوء بحيث يتجاوزها القرآن ؟
أقول أولا إن القرآن الذي ضمنه الله كل شيء هو في أصله كتاب عبادة لا كتاب حكاية لكنك لن تعرض عليه حاجة وتعود خائبا .

حضرني قول الله تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )

لما تذكرت هذه الآية تداعت في خاطري آيات أخر ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ) ( ومن آياته أنك ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ) ( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله )

كل الآيات التي وردت فيه ( آياته ) جاءت بأمر عظيم . أدركناه أو غاب عنا . لكنه عظيم . الليل والنهار والشمس والقمر . الجوار المنشآت . احياء الارض الميته . وخلق الانسان ذاته .

ثم هذه الخصوصية اللذيذة في ( لكم ) . أما ( من أنفسكم ) فوقفت عندها . لو قالوا إنها جاءت لأن المرأة خلقت من ضلع الرجل قلت إن الضلع من ( جسده ) لا من ( نفسه ) وهل يكفي أن يخلق الإنسان من بعض الإنسان لتكون المودة والرحمة . أهناك أقرب من كون الطفل بعض أبيه وبعض أمه ثم يكون منهم العاق والجاحد . ويؤمر بعد ذلك الابن ببر أبيه كأنها ليست الطبيعة التي فطر عليها . أما هنا فالله يقول إنه جعل بينهما المودة والرحمة . وما يجعله الله لا يزيله البشر .

و( أزواجا ) للزوجية وهي التثنية . ( ومودة ورحمة ) هي الحب .

لا أدري لماذا شعرت أن الكلام هنا إنما يعني أن لكل انسان أليف خلقه الله . إن أدركه تم له الأنس . وعلى هذا فليس للمتآلفين سوى الزواج . بعضنا يصيب ذلك وأكثرنا يأتيه الثاني ويغيب عنه الأول . لأجل ذلك جاء في الحديث " إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها " فلعلها هي هي التي خلقت من نفسه ولعله هو هو الذي خلق من نفسها .. ولعلهما غريبان يتمان الحياة معا لا أكثر .

كل ما سبق أنتم بريئون منه يا سادة لأنه ليس لدي دليل عليه . فهو رأي وفكرة دارت بخاطري ربما تصح وربما لا . وأنا أعوذ بالله أن أقول في القرآن بغير علم أو أتقول عليه .

ثم تأتينا أيضا قصة نبي الله سليمان الملك الرجل . لكن البطلة هنا هي بلقيس الملكة المرأة . هب قالت بلقيس لسليمان لا فبهرها بالصرح اللجي . وبعرشها الذي جاء به قبل أن تأتي هي ونكره . فلا هو وضع لها عرشا سواه ولا هو تركه على حاله . جاء بعرشها وغير فيه . ربما زينه . القصة في القرآن غرضها الدعوة قبل كل شيء . لكن انظر ألم يفرد لهذا الحديث مساحة من آيات تستحق النظر .

ثم حكاية امرأة العزيز ونبي الله يوسف . إن القرآن لا يهمل العواطف الإنسانية في سياق القصة وفي هذا أيضا حديث .

نشيد الربيع
22/11/2006, 06:27 PM
.


(2)

قال إنك استشهدت بقصة يوسف عليه السلام وأنا لا أرى فيها حبا إنما هو حب جسدي صرف .


لما اتفقنا على أن القرآن ليس كتاب حكاية . لزمنا أن نتفق أنه لا يورد الأحداث كاملة متتابعة . لكنه يكتفي بما تفهم منه أنت السياق . وانظر هل ترى امرأة في الدنيا مهما بلغت من سلطانها تراود فتى مباشرة . المرأة لا تعرض نفسها لهذا الموقف المهين لأنوثتها ولصفتها الملكية إلا إن استنفدت قبلها كل طريق .

هناك نوع من السعادة يملأ النفس حتى لا ترى العين إلا أمامها وكذلك في كل العواطف التي تملأ النفس ؛ تحجب الدنيا حتى لا يبدو منها إلا ما أفقه ضيق وهو ما كان هنا . أحبت امرأة العزيز يوسف . أحبته لأي علة تحب المرأة الرجل من أجلها ومن اليقين أنها تحايلت له . وانها ألمحت وأنها تعذبت فلما ملأها الحب وفاضت كأسها عميت حتى كان الموقف الذي اقتص القرآن ما يسبقه لأنه مدرك بالفطنة وأتي به . المرأة إن أحبت احتالت فإن يئست صرحت . والرجل إن أحب صرح فإن صد احتال .

في هذه القصة أمران : الأول هذه العلاقة الجسدية وماهيتها في الحب . أين تقع فيه ؟ ولماذا ارتبطت به ؟ ومكان الأخلاق من ذلك . والثاني هو هيئة العلاقة الثلاثية التي هي إحدى تيمات الحب التي كتب فيها .

يقول ابن الرومي :




أعانقها والنفس بعد مشوقة لها وهل بعد العناق تداني

وألثم فاها كي تزول صبابتي فيشتد ما بي من الهيمان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله سوى أن يرى الروحان تمتزجان

ليس من حد فاصل بين مكونات الإنسان الثلاث ؛ الجسد والنفس والعقل . ألم في أحدهما مأتم في الباقين . هزيمة لأحدهما جناية على الباقين . من هنا كانت ذروة الحب في هذا الجسد . الأداة التي استعاض الإنسان بها عن امتزاج الروح ليحقق كونها روح من روح .

يقول أوفيد إن الحب ذروة لا ينبغي تعجلها . فتمام المتعة في الحب في طريقه الذي تسلكه لا في غايته التي تصل إليها . إن صح أن يكون الحب رغبة وامتناع ؛ و هو طلب ثم طلب ، كان انعدام الامتناع زوال الحب .

ثم يبرز صوت الدين والأخلاق . أذكر عبارة قرأتها من فترة في رواية وكان البطل عربيا سافر لأوروبا وأحب فتاة هناك . وتعجبت أنه مع كل ما يحمله لها من حب لم يقبلها مرة . كانت تدخن فظنت أنه ربما عاف التدخين فأقلعت عنه . ثم لما يئست سألته ، فحدثها أن دينه لا يبيح له ذلك . فقالت : أيّ رب هذا الذي يتدخل بين محب وحبيبته !

ربما كان للسؤال منطق . وهناك قول فيه : حيث كانت مصلحة الناس كان الدين . والصحيح حيث كان الدين كانت مصلحة الناس . ولعل كليهما صحيح إن أدركت المصلحة الحقيقة . لا المصلحة التي تتوهمها أنت . وحتى لا يخرج الموضوع مما هو فيه نجد أن مالا يورث من طباع البشر الحميدة نزلت به تشاريع توجبه . فالله يعلم أن الاستعصام وكف النفس عن الإباحة ليس مما يفعله البشر من تلقاء أنفسهم وأنه يضعف من جيل إلى جيل فلزمهم التشريع . ويعلم ايضا أن العلاقة بين الرجل والمرأة لا تقف عند حد . كان الرجل من كان وكانت المرأة من كانت . ويعلم أيضا أن الحياة للإنسان وان احتلت عاطفته منها جزءا فهي غير ذلك . إنما جعله الله للإعمار والعبادة . ثم هو فوق ذلك يبتليه لأنه أعد له وراء حياته جنة ليست رخيصة .

سأتجاوز هذا الحديث الآن لأذهب لبعض الأعمال الأدبية التي تناولت هذه التيمة الثلاثية التي جاءت في قصة امرأة العزيز .

بين يدي الحديث هنا مسرحية يوريبيدس ( هيبوليت ) ومسرحية راسن ( فيدرا ) و ( رغبة تحت أوراق الدردار ) وهي من ثلاث عصور بثلاث ثقافات . إغريقية وفرنسية وأمريكية . ثم عملان عربيان هما مسرحية علي أحمد باكثير ( الفرعون الموعود ) و ( اللص ) لتوفيق الحكيم .

طارق شفيق حقي
22/11/2006, 09:00 PM
تساءلت مرة لماذا نتأوه عندما نتألم . هل تفيد الآه في ألم . هل تخففه . هل تمحوه . ربما ليصل لؤلئك المجاورين لنا مقدار ما نحسه من ألم . هل نستكثر عليهم راحة البال التي يعيشون فيها فنكدرها . لماذا يكتب المحبون . لماذا يبكون ويملؤن الدنيا نواحا إذا تألموا أو صياحا إذا ظفروا . ما دخل الدنيا بحبيب ظافر أو حبيب خاسر . إذا كانت الدنيا لم تعبأ بموت نبي أو فراق عظيم . لا تعبأ الدنيا ولو تهدمت جبالها . سؤال سنبحث عنه في بطون الكتب وأقوال الفلاسفة والأدباء والمحبين .

وإن كنت لا أومن بفيلسوف ولا أصدق أديبا فإني أشهد بما يقوله المحبون وحدهم .

السيدات والسادة :

سأرافقكم في البحث وراء السر . هذا السر الجميل فيما كتبه الكثيرون من الأدباء والفلاسفة والمحبين .




سلام الله عليك

أتابعك مع هذه الدرر والفلسفة الذاتية