المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البابا في الجامعة .. تفكير أم تبشير؟



طارق شفيق حقي
29/10/2006, 02:47 PM
بعد أن هدأت أزمة بندكت.. أبويعرب المرزوقي يحلل:
البابا في الجامعة .. تفكير أم تبشير؟
http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/694/images/tert.jpg
أبو يعرب المرزوقي

خص المفكر التونسي الرصين أبويعرب المرزوقي 'أخبار الأدب' بهذه الدراسة التحليلية لمحاضرة البابا بندكت السادس في إحدي الجامعات الألمانية وما ورد بها من إساءة إلي الإسلام
.
يكتب أبويعرب بمنطق ومنهج الباحث بعد ان هدأت الأزمة مفندا محاضرة الحبر الكاثوليكي الأعظم من حيث خطة المحاضرة ومنطقها، والأخطاء الشكلية، والأخطاء المضمونية التي وقع فيها أعلي مرجع روحي لدي المسيحيين الكاثوليك، الذي لم يستبعد فقط المسلمين من

اطار العقلانية بل استبعد ايضا المذاهب المسيحية الأخري، فضلا عن اغفال كل من سواهم من الآدميين فكرا وذكرا، فبلسان من كان البابا يتحدث وبأية صفة: مرجع ديني؟ رئيس دولة؟ أم ماذا؟



http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/694/images/uou.jpgلما قرأت عنوان المحاضرة التي ألقاها البابا في إحدي جامعات مسقط رأسه اشتد عندي حب الإطلاع. كنت أنتظر خطابا يجمع بين حميمية السيرة الذاتية وجدية المفكر الجامعي الذي وصل إلي ذروة السلطة جمعا بين رئاسة المؤسسة الروحية والمؤسسة السياسية الغربيتين التقليديتين. أربع صفات اجتمعت في رجل فرح بتجديد العهد مع الجامعة (أستاذ جامعي) والفكر (مفكر يتأمل الشأن الإنساني) مع كونه حبرا أكبرا (البابا) ورئيس دولة (دولة الفاتيكان) كان ينبغي أن يأتين بالعجائب. كان من المفروض أن يقدم لنا صاحبها درسا نموذجيا في الموضوع الذي اختاره فيقول في جوهر الإيمان والعقل ما يعالج أزمة الإنسانية خاصة إذا زعم المتكلم أنه جاعل منهما مادة للعلم بمعناه الأكاديمي الراقي والمتحرر بمنظور الواجب من المذهبية والانحياز اللاهوتي المقيت.
لكن ما قرأته لم يكن سيرة ذاتية تطل علي الإنسانية من أبعاد المسألة الروحية بل هي سيرة ذاتية مقصورة علي مدخل للكلام علي أزمة التعليم اللاهوتي الكاثوليكي في النظام الجامعي الأوروبي. لم تكن مدخلا لخطاب يوجه إلي الإنسانية لعلاج


أزمتها الروحية كما قد يوحي حدا العنوان آن الأولان (الإيمان والعقل) بل هي مخاطبة الإنسان الأوروبي الذي حصر في تاريخ الأديان عنده تاريخ العالم كله وذلك من منطلق أزمة العلاقة بين حد لم يرد ذكره في العنوان (اللاهوت الكاثوليكي) وحد العنوان الثالث (الجامعة). إنها تعليل لما طرأ في تاريخ هذه العلاقة أساسه تصور مجتزأ يحكمه حصر العقلانية في ما أنتجه العقل اليوناني وحصر الإيمان في الكاثوليكية الأوروبية واستثناء كل ما لا يحقق التطابق بين هذين التصورين المشوهين من الديانة السوية لاستثنائهما عقل جميع البشر الآخرين وإيمانهم منهما بدءا بالمسلمين وختما بكل المسيحيين غير الكاثوليكيين الأوروبيين فضلا عن إغفال كل من سواهم من الآدميين في الفكر فضلا عن الذكر.

ولما كان المسلمون اليوم وبعد جهد دام قرنين قد تخلصوا من موقف المنفعل الذي يقتصر علي رد الفعل فإني سأحاول مناقشة هذا الكلام ناسبا إياه إلي صفتي صاحبه اللتين اختارهما من بين صفاته الأربع لينسبه إليهما عندما ادعي أنه يقدم درسا علميا وتأملات لا قداسا أو خطابا سياسيا. وإذن فسنحاور الأستاذ والمفكر ونهمل الجدل مع البابا ورئيس الدولة. لكننا لن نغفل الصفة الخامسة التي بقيت ضمير الدرس والتأمل. فكلام المحاضر لا تصح عليه صفتي الأكاديمي والمفكر إلا في الظاهر بل إن صفاته الأربع سواء أخذناها فرادي أو مجتمعة لا تمكن من فهم قوله. وحتي كلامه من منظور المدافع عن المذهب الكاثوليكي في صورته التي حققت التوفيق بين المشائية ومسيحية طوما الإكويني فإنه لا يكفي للفهم.


لا بد من النظر إليه بصفة خامسة يقتضيها حلم يراود كل من يجمع بين صفتيه الأوليين (رئيس كنيسة ورئيس دولة). إنها: صفة زعيم الغرب الأدني الروحي (الولايات المتحدة الأوروبية) زعيمه الذي يتصدي للخوض في علاقات العالم الزمانية طمعا في خدمة زعيم الغرب الأقصي الزماني (الولايات المتحدة الأمريكية) زعيمه الذي يتصدي للخوض في علاقات العالم الروحية. إنه بهذه الخدمة يطمح إلي تحقيق التلاقي الفعال بين المسيحية الكاثوليكية التي قادت حروب الصليب الوسيطة والتي يعتبرها المحاضر جوهر المسيحية الأوروبية ومن ثم فعلي العالم أن يسلم بمركزيتها والمسيحية الصهيونية التي تقود حروب الصليب الحديثة والتي يعتبرها صاحبه بوش جوهر الديموقراطية الغربية ومن ثم فعلي العالم أن يسلم بمركزيتها. وكل ذلك غني عن الدليل: تكفي القرينة الزمانية ومماهاة البابا بين أوروبا

والمسيحية العقلانية واعتباره دور هذه المماهاة ليس حدثا حاسما في تاريخ الغرب وحده بل هي حدث حاسم في تاريخ العالم كله ومماهاة بوش بين الغرب والحضارة العقلانية المماهاة التي هي شعاره الأساسي في حربه علي المسلمين. ويجمع بين الرجلين اعتبار الإسلام النقيض التام للمسيحية العقلانية التي تحددت في العصر الوسيط وللحضارة العقلانية التي تحددت في العصر الحديث.


وباختيارنا تقديم صفتي الأستاذ والمفكر نريد لتعليقنا أن يكون تعليقا خاضعا في المقام الأول للمعايير الأكاديمية من حيث الشكل العلمي والمعايير الخلقية من حيث الموقف الفكري مقتصرين عليهما قدر المستطاع رغم أن صفة المحاضر الخامسة البينة من كلامه تحول دون عدم الخروج عن طور الأكاديميات والخلقيات: صفة داعية التبرير الإعلاني للموقف العدواني. فلا بد من إبراز دلالة بعض المفردات العنصرية التي وردت في النص بوعي أو بغير من وعي من صاحب المحاضرة. ذلك أن كلامه علي المسيحية غير الكاثوليكية وعلي الأديان الأخري يكاد يعيدنا إلي الموقف العنصري الذي سيطر علي الفكر الإستشراقي مقابلة بين الآرية ومن سواها مقابلة تزعم العقل الآري بفرعيه اليوناني والأوروبي عاقلا وقادرا علي التفلسف ومن عداه من الشعوب ذات الثقافات الدنيا بدائيين لا عقل لهم ولا قدرة علي التفكير. فتكون خطة النقاش علي النحو التالي:


المسألة الأولي: خطة المحاضرة ومنطقها.
المسألة الثانية: ملاحظات حول أخطاء المحاضر الشكلية
المسألة الثالثة: ملاحظات حول أخطاء المحاضر المضمونية.
الخاتمة.





المسألة الأولي
خطة المحاضرة الصريحة
ولنبدأ بأيسر الأمور فنحدد الخطة التي اتبعها المحاضر في علاج مشكلة العلاقة بين الإيمان والعقل والجامعة بمنظور وصفه صاحب المحاضرة في شبه عنوان بكونه تذكرا وتأملا . فقسم المحاضرة المتعلق بالسيرة الذاتية كما يشير إليها وصف التذكر يقابل بين وضعيتين مر بها عمل المدرسين وتآنسهم في المؤسسة الجامعية ثم بين منزلتين مرت بهما دراسة اللاهوت في الجامعات الغربية مقابلة بين التعددية الفكرية التي عاشها المحاضر لما كان مدرسا وانتفائها حاليا بسبب سواد الموقف العلماني والعلموي من دراسة الدين بديلا من دراسته اللاهوتية في الجامعات .
والقسم المتعلق بالتأمل انبني هو بدوره علي مقابلتين. فأما أولاهما فهي مقابلة في الدين المسيحي نفسه بين العقلانية اليونانية التي تطابقه والعقلانية الوضعية التي تستثنيه. وبمقتضاها صارت العقلانية الميتافيزيقية محددة للموقف المسيحي الأصيل والعقلانية العلمية محددة لما آل إليه الفكر المسيحي في العصر الحديث حصرا للتطابق التام بين العقل والإيمان الحقيقيين في الكاثوليكية الوسيطة كما صورها طوما الإكويني. وأما الثانية فتقابل بين الدين المسيحي والدين الإسلامي من منظور عقلانية الإيمان في المنظور الكاثوليكي ولاعقلانيته في المنظور الإسلامي. وبمقتضي هذه المقابلة يسلم المحاضر بصحة الصورة المشوهة التي قدمها من الإسلام ثيودور الخوري تأويلا لموقف الإمبراطور من لاعقلانية الإسلام العملية بالاعتماد علي رواية أرنلداز حول موقف ابن حزم الممثل للاعقلانية الإسلام النظرية .
ويأتي تسليم المحاضر باعترافه من منطلق المركزية الأوروبية. ذلك أن علاجه مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل في الجامعة قد استند صراحة إلي اعتبار مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل كما تعينت في هذه المقابلة بين العقلانية الكاثوليكية واللاعقلانية الإسلامية ليست حدثا فاصلا في تاريخ الفكر الديني الأوروبي فحسب بل هي حدث فاصل في تاريخ العالم. فهو يري أن الكاثوليكية في صورتها الأوروبية الوسيطة هي التي حددت السمة الجوهرية للمسيحية من حيث هي تطابق تام بين العقل والإيمان. وكل ما عداها ما لم يحذ حذواها ليس إلا دينا منتسبا إلي الثقافات الدنيا الموصوفة بالبلاهة لفقدان حجاها.
تلك هي العلاقة التي جعلت المحاضر يتخذ المناظرة التي رواها الخوري منطلق تأملاته . فآراء ثيودور الخوري أراؤه التي يزعم بفضلها تفسير موقف الإمبراطور المحاصر من رسول الإسلام لا تميز بين منطق سياسة العثمانيين وفلسفة الإسلام العقدية. ذلك أن الهدف ليس فهم الموقف بأسبابه الحقيقية بل تبرير الصورة التي تشوه مفهوم الجهاد ورسول الإسلام وتسفيره بعاملي تربتيه الفلسفية التي تجعل تصوره الذات الإلهية النابع من الفلسفة اليونانية يقابل تصورها الصادر عن الكلام الإسلامي. ولما يفسر الخوري رأي الإمبراطور بالمقابلة بين موقف من ربي علي تقاليد الفلسفة اليونانية في تصور الله عقلا ومن ربي علي تقاليد الإسلام التي تجعل تصور الله في حل من العقل فإنه هو الذي يحاول أن يبين أن لاعقلانية الإسلام مبدئية وأنها من جوهر عقيدته أو تصوره للذات الإلهية. اللاعقلانية التي استنتجها الأمبراطور من حصار العثمانيين له ليست مجرد عرض من أعراض سياستهم غلط الإمبراطور المهزوم فاتهم محمدا بدل اتهام الخليفة العثماني الذي هزمه بل هي حقيقة الدين الإسلامي بدليل تصور الذات الإلهية في منظور ابن حزم ! بهذا المنطق السليم والعقلاني يستدل مرجع البابا فيتبني البابا رأيه في محاضرته الأكاديمة وتأميلاته الفلسفية !
يكتفي المحاضر بتبني هذا الرأي دون حاجة إلي الشك المنهجي. فكان بمفعول التوارد منطلق تأملاته في علاقة العقل والعقيدة علاقتهما التي استبدت بلبه ثم هو اتخذ هذا الرأي في لاعقلانية الإسلام مدخلا لمحاضرته مؤيدا إياه بما يزعمه حكم العارفين الذين أرشدوه إلي أن آية حرية المعتقد القرآنية زامنت لحظة كان فيها محمد عديم الحول وتحت التهديد فكان سبب نزولها عجز محمد وخوفه. والمهم في كل ذلك أنه يلمح إلي ما يوحي لمستمعيه بأمر يوهم بأنه مفروغ منه: يوجد في القرآن آيات أخري نزلت لما صار محمد قويا جعلت الجهاد وسيلة لنفي حرية المعتقد ولفرض الدخول في الإسلام قاصدا ما ولاها من الآيات التي حددت مفهوم الجهاد !.
أصبح تعليل الخوري مناسبة ليسأل المحاضر عن كلية العلاقة بين الإيمان والعقل. لا يكفي تفسير مرقف الإمبراطور سلبا بالمقابلة مع الإسلام وإيجابا بالمطابقة بين تصور الله والعقل بعامل وحيد هو تربيته اليونانية. لا بد للمحاضر أن يثبت أن موقف الإمبراطور علته التطابق بين المسيحية والعقلانية اليونانية رغم إيهام سؤاله بأن المطلوب هو بيان كلية القاعدة التي تعتبر الله يفعل بمقتضي العقل . لذلك فموقف الإمبراطور من الرسول بحجة نشر الدين بالقوة وتأويل الخوري بحجة تعالي أفعال الله علي العقل يقبلان أن يكونا منطلقا لمحاولة المحاضر. فهما يقدمان له فرصة ذهبية يعلل بها موقف الإمبراطور وموقفه الشخصي في الدعوة للحوار من نفس منطلق الإمبراطور ليحرر البشرية من التقابل الجوهري بين عقلانية المسيحية (التطابق بالتوحيد بين في البدء كانت الكلمة وبين اللوغوس اليوناني) ولاعقلانية الإسلام (نظرية ابن حزم في رواية أرنلداز). وهل يوجد أفضل من طريقة الاستدلال الجدلي بالقاعدة القائلة بأضدادها تعرف الأشياء ؟
وإذن فالمحاضر يبدو بريئا من صنع الصورة المشوهة. أكتفي باستعمال الموجود ليثبت التضاد بين الإيمان والعقل في الإسلام كما يصوره الإمبراطور من خلال مفهوم الجهاد وكما يصوره الخوري من خلال مفهوم الله عند المسلمين. لذلك فهو قد أتخذها بداية وغاية لمحاضرته كما أسلفنا. أليست طريقة جيدة لمن يمارس التبشير بدل التفكير ما دامت تمده بتعريف ملموس لضدي التصور المسيحي العقلاني علي الأقل في أحكام مستمعيه المسبقة حول الإسلام والمسلمين: عدم القول بالجهاد (والكلام عليه هو ضمير المحاضرة وهدفها الأساسي عند الربط بالمناسبة وبالظرف الدولي) والقول بعقلانية الفعل الإلهي للتطابق بين النظرية الكاثوليكية والعقلانية اليونانية (والكلام عليه هو مضمون المحاضرة) ؟
***
وعندئذ يأتي ما يقدمه المحاضر علي أنه بيت القصيد في تأملاته: دراسة العلاقة بين الإيمان والعقل في المسيحية كما يتصورها وليصلح منزلة اللاهوت في الجامعة الغربية. لكن الاقتصار في العلاج الصريح علي المقابلة في المفهوم الثاني (الله) لا يخفي علي أحد أن العلاج المضمر في المحاضرة يدور حول المقابلة في المفهوم الأول (الجهاد) التي ضربها الإمبراطور المحاصر للتدليل علي لا معقولية العمل الإسلامي في غاية العصر الوسيط ويضربها البابا المحاضر مثالا علي تدني الثقافة الإسلامية في نهاية العصر الحديث. فمفاد هذا الضمير أن المسيحية هي دين المحبة والسلام. وأنها علي نقيض الإسلام انتشرت بالكلمة الطيبة. وطبعا فليس منا من يستطيع أن ينكر أن هذا الكلام من الحقائق التاريخية التي لا غبار عليها. أليس الكل يسلم بأن المسلمين هم الذين أفنوا الهنود الحمر ؟ وأنهم وهم الذي أبادوا سكان استراليا؟ وأنهم هم الذين هجروا سكان الأندلس من المسلمين واليهود؟ وأنهم هم الذين نصروا سكان الفلبيين بالعنف والسيف ؟ ومن غيرهم كاد أن يفني أجيال الحركات الإصلاحية الأوروبية الأولي في الحروب الدينية التي دام بعضها مئات السنين؟ ثم من ينكر أن المسلمين منذ بداية الاستعمار تصاحب جيوشهم الغازية في إفريقيا وآسيا حملات التبشير التي تمهد بسياسات التجويع والإمراض والإفقار إلي ما يسمي رسميا مساعدة وهو فعليا تبشير بعنف الابتزاز علي الحياة النباتية عنف ليس أمامه عنف السيف إلا لعب أطفال؟ ثم أليست اللاعقلانية الإسلامية هي التي أفنت مئات الملايين في الحربين العالميتين ثم ختمتها برمي قنبلتين بريئتين علي مدينتين مجرم أهلها ؟
http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/694/images/tret.jpgلذلك حق للمحاضر أن يعتبر المقابلة بين نفي الإسلام لعلاقة الإيمان بالعقل وإثبات الكاثوليكية لها حق له أن يعتبرها مفترق طرق Ein Scheideweg في مصير العالم. فالمقابلة بين الموقف الإسلامي والموقف الكاثوليكي من هذه العلاقة تستأهل أن تكون منطلق المحاضرة Ausgangspunkt حول المفهومين وحول دور العلاقة بينهما في التعليم اللاهوتي الجامعي وتستحق أن تكون غايتها إذ هي تعد عنده من أهم نتائج المحاضرة الختامية Schlussforgerungen . بذلك وبذلك فقط نفهم أن يدور تدبير المحاضرة كله علي نسبة مقابلات ما نجفي في الإسلام بخصوص هذه العلاقة إلي المسيحية الكاثوليكية نسبتها إليها بصورة تجعل الدين الكاثوليكي الأوروبي ممثلا للإنساني إلي حد بات فيه حدث المطابقة بين العقيدة الكاثوليكية الأوروبية والعقل اليوناني حدثا حاسما ليس في تاريخ الدين الأوروبي فحسب بل هو حدث حاسم في تاريخ العالم لأنه حدث حاسم في تاريخ الغرب الذي تتعين فيه المعقولية الفلسفية والدينية : ف ما تحقق من تطابق تام بين الإيمان في العهدين والأسئلة الفلسفية اليونانية ليس هو مجرد حدث حاسم في تاريخ الدين فحسب بل هو حدث حاسم في تاريخ العالم حدث لا يزال علينا اليوم أن نبقي خاضعين لنداء واجبه. وعندما ينظر المرء إلي هذا اللقاء (بين الإيمان المسيحي والفلسفة اليونانية) فإنه لن يعجب من أن تكون المسيحية رغم كون منبعها ومراحلها الأساسية من الشرق فإن طابعها الحاسم تاريخيا قد تحقق في أوروبا. ويمكن بعكس العلاقة أن نقول إن هذا اللقاء­الذي يندمج فيه إرث روما­ هو الذي صنع أوروبا وهو يبقي الأمر الذي يحقق للمرء أن يقول عنه بحق إنه أصل أوروبا .
وهكذا تتوالي مسائل المحاضرة بصورة شبه منطقية. فتعليل بداية المحاضرة وغايتها هو الذي يفسر توالي قضاياها ويعلل علاقتها بالإسلام وبنكوص حوار الأديان عند المحاضر إلي حوار الثقافات وكذلك في سياسة الفاتيكان منذ أن تولي طيب المنطق السادس عشر. فكل الأديان الأخري ليست عند المحاضر أديانا إنما هي مجرد ثقافات بل هي من مجال الثقافات الدنيا Bereich der Subkulturen. منطق المحاضرة يقتضي أن يثبت المحاضر لاعقلانية الإسلام في مستوييها العملي والنظري حتي يبرز المقصود بعقلانية الكاثوليكية. فالإسلام لم يأت عمليا إلا بالشرور وأهمها فرض العقيدة بالقوة (نظرية الجهاد في مقابل عرض الخد الثاني الصليبي الوسيط والحديث وأهم صفاته المحبة والسلام النووي !) كما حكم الإمبراطور. والإسلام لم يأت نظريا إلا بتبرير الشرور لاعتباره إرادة الله تحكما مطلقا لا يكتفي بمخالفة العقل فحسب بل هو يخالف ذاته كذلك إذ يمكنه ألا يحترم وعده إلي حد القدرة علي جعل الإنسان يشرك به لو أراد كما فهم أرنلداز من فكر ابن حزم واستدل بعرضه ثيودور الخوري لإفهامنا الفرق بين الإمبراطور العقلاني ومحاوره المسلم التحكماني،
ولا بد من إثبات العقلانية الكاثوليكية بحجج نصية (انجيل يوحنا) وتحليلات تأويلية للأحلام والقصص (حلم بولس) ونظريات كلامية (اغسطينوس وطوما الإكويني) حتي يتبين المستمعون للمحاضرة تمام هذا التطابق المزعوم بين الإيمان الكاثوليكي الأوروبي والعقل اليوناني الأوروبي. وبذلك تكتمل هوية الكاثوليكية وهوية أوروبا هويتاهما ذاتا التحديد المتبادل: فلا مسيحية إلا الكاثوليكية الأوربية ما دامت خاصيتها الحاسمة أوروبية رغم أصلها الشرقي ولا أوروبا إلا أروبا الكاثوليكية ما دامت أوروبا صنيعة هذه الكاثوليكية حتي وإن لم ينس المحاضر دور روما الجاهلية. ولا يظنن أحد أنه أغفل البربرية الجرمانية في صنع أوروبا: فأوروبا ليست شيئا آخر في مفهومها الحضاري والعرقي إلا اليونان والجرمان كما يقول حكماء الألمان !
لكن التنقية العرقية والحضارية تقتضي أن يخلص المحاضر تاريخ الفكر الديني الأوروبي من ظاهرتين حددتا تاريخ اللاهوت المسيحي بعد اكتمال صورة التطابق المزعوم هذه بين اللاهوت الكاثوليكي والفلسفة اليونانية. والظاهرة الأولي يعتبرها المحاضر انحرافا قرب المسيحية من الإسلام في تصور ابن حزم لذات الله وصفاته تصوره الذي أطلقه الخوري وأيده المحاضر في إطلاقه لاحتكامه إليها في المقابلة . وأما الظاهرة الثانية فهي ما وصفه بالأمواج الثلاث المتواليات التي سعت إلي تخليص المسيحية من هذا التطابق بين العقلانية والدين المسيحي فآلت بالتدريج وربما بتأثير الشر الإسلامي إلي الموقف الوضعي والثقافوي من الدين مآلا قلص دور العقل اليوناني فأخرج اللاهوت الكاثوليكي من الجامعة.
وبذلك يصل المحاضر إلي النتائج الختامية وأهمها العودة إلي دليل بضدها تعرف الأشياء أعني ما يزعمه تنافيا بين العقلانية والإسلام ودليل التردي التاريخي للعقلانية اليونانية التي ينسبها إلي موجات تخليص المسيحية من الفكر اليوناني وما أدي إليه من استثناء اللاهوت من الجامعة استثناء انتهي إلي تقليص مفهوم العقل. ضمرت العقلانية واختفت المعقولية فاندحر الدين العقلاني ولم يبق الدين موجودا إلا في الثقافات المتدنية ومثالها المذكور في المحاضرة ليس إلا الإسلام تضمينا لا تصريحا واللبيب بالإشارة يفهم. ولا نجاة للبشرية إلا بعودة اللاهوت الكاثوليكي إلي الجامعة حتي يتوسع مفهوم العقل شرطا في الحوار مع الثقافات حتي وإن كانت دنيا. وهو حوار ثقافات لا حوار أديان إذ لا دين إلا الكاثوليكية !
تلك هي خطة المحاضرة ومراحلها فكيف يمكن النفاذ إلي عمارتها لاستنباط تدبيرها المنطقي؟ مطلوبنا بالقصد الأول هو تقويمها أكاديميا وفكريا وهو بالقصد الثاني التعليق علي المسكوت عنه من ضمائرها رغم كونه بين الملامح من خلال القرائن المستمدة من مكان تقديم المحاضرة وزمانه ومناسبته ومناخه العالميين وطبيعة المراجع المستعملة في حججه النصية.

المسألة الثانية
تعليقات علي أخطاء الخلل الشكلي

قبل الشروع في مناقشة مضمون المحاضرة مضمونها الذي حاولنا عرض حبكته الداخلية عرضا همه الأول تجاوز الخطه الظاهرة إلي الاستراتيجية الباطنة لا بد من تقويم العمل من حيث شكله لنري هل هو كما يزعم صاحبه عمل أكاديمي فيكون علاج مفكر حر أم هو تعبير عن موقف منحاز لعقيدة دينية محددة فيكون خطاب مبشر غر يركب موجة الإيديولوجيا العدوانية السائدة في السياسة الدولية والتي علينا أن نفهم دوافعها الدفينة علنا نفهم موقف صاحبها. وسنسأل المحاضر في إطار التقويم الشكلي سؤالين بسيطين ثم نجمعهما في سؤال مركب هو حصيلتهما. والأسئلة ثلاثتها تتعلق بما يعتبر من أبجديات البحث العلمي الذي يبقي المعيار الأول والأخير في تقويم المحاضرات الجامعية.
1­ فهل المحاضر يقرأ القرآن في لغته فيفهم الآية التي ظنها تأمر بحرية المعتقد وحد من مدلولها بسبب نزولها أو ظرفه أعني ضعف محمد ضعفه الذي أكده له ثقاة العلماء ؟
2­ وهل هو متأكد من العنعنة عندما استشهد بثيودور الخوري الذي استشهد بأرنلداز في تحديد نظرية الله الإسلامية فيطمئن لعلمهما وينبني عليه دليل بضدها تعرف الأشياء الصريح في محاضرته لتعليله أخذ دلالة عبارة الإمبراطور المحاصر بداية وغاية لبحثه؟
3­ وأخيرا كيف له أن يزعم أنه لم يقصد إهانة الإسلام والمسلمين لمجرد أن ما استشهد به ليس رأيه الخاص بل هو رأي من أشار إليه من مراجعه في حين أنه يعلل الحد من دلالة الآية 256 بسبب نزولها ناسبا إلي نفسه استشارة ثقاة العلماء ومضمرا أن القرآن فيه آيات أخريات تفيد عكس هذه الآية بعد أن أصبح محمد ذا حول وطول ؟
السؤال الأول:
لست أشك في أن المحاضر يجهل العربية. فهو قد تصور الآية 256 من البقرة إنشائية فحسب وظنها تأمر بحرية المعتقد نهيا عن الإكراه في الدين بشروط أرجعها إلي سبب النزول: ضعف الرسول وشعوره بالتهديد كما أثبت له العارفون الذين استشارهم فيها. لم ير منها بعدها الخبري فلم يفهم أنها تنفي كل إمكانية لفرض المعتقد كما نبين في المسألة الموالية. ثم هو تصورها خالية من الكلام في الجهاد الذي يظنه أداة فرض المعتقد في حين أنها تشير إليه إشارة مباشرة وصريحة بحقيقته التي يمثلها أفضل تمثيل مفهوم الكفر بالطاغوت . فالآية تقدم الكفر بالطاغوت علي الإيمان بالله لأنه هو الدال عليه للدلالة علي صدقه والموصل إليه بداية والحاصل منه غاية. وسنشرح ذلك لاحقا عند التعليق المضموني حتي يعلم المحاضر ومن اعتمد عليهم من العارفين أن الجهل يؤدي بأصحابه أحيانا إلي وضع مخز لا يليق بمحاضر عادي فضلا عن أن يكون حبرا أكبر ورئيس دولة.
فلا معني للكلام علي سبب نزول الآية للتقليل من دلالتها الكلية كما يزعم المحاضر استنادا إلي من يصفهم بكونهم من العارفين . فلو كانت الآية خالية من الكلام علي الجهاد لكان يمكن لمثل هذه الدعوي أن تقبل لكنها جعلت الجهاد ركن الدين الأول الدين الصادق الذي لا يقبل الإكراه فيه فعلا ولا انفعالا. لا يمكن تفسير الآية بسبب نزول ظرفي. فهي لا تنهي عن الجهاد بالنهي عن الإكراه فيه فحسب بل هي تشترط للإيمان بالله الجهاد في سبيله ضد الطاغوت. وكل من قرأ القرآن يعلم أنه خال من كل ما يمكن أن يتضمن معني الإكراه في الدين نزل علي الرسول سواء كان ذلك قبل تمكن المسلمين أو بعده رغم تعريض المحاضر بمثل هذا الزعم. والمعلوم أن الطاغوت الذي تشترط الآية الكفر به ليكون الإيمان إيمانا صادقا نوعان:
أحدهما تمثله السلطة الروحية الوسيطة بين الإنسان ورزقه الروحي. وذلك هو الطغيان الروحي الذي يستمد سلطانه غير الشرعي بما يزعمه من وساطة بين الله وعبيده باحتكار قوتهم الروحي (ونموذجه الكنسية الكونية أو الكاثوليكية). وتلك من العلل الرئيسية لمناصبة الكنائس العداء للإسلام في كل العصور.
والثاني تمثله السلطة الزمانية الوسيطة بين الإنسان ورزقه المادي. وذلك هو الطغيان المادي الذي يستمد سلطانه غير الشرعي بما يزعمه من وساطة بين الله وعبيده باحتكار قوتهم المادي (ونموذجه الدولة الكونية أو الإمبراطورية الأمريكية). وتلك من العلل الرئيسية لمناصبة الإمبراطوريات العداء للإسلام في كل العصور.
***
وليس من شك في أن ذروة الطاغوت المطلق هو التحالف بين الطاغوتين وعلامته التي لا تكذب هي لما يتبادلان الأدوار فيصبح صاحب الطاغوت الروحي خائضا في شؤون العالم الدنيوية كما في الحروب الصليبية الوسيطة التي قادها بابوات روما ويصبح صاحب الطاغوت الزماني خائضا في شؤون العالم الروحية كما في الحروب الصليبية الحالية التي يقودها بابوات واشنطن ! والحنين إلي التوحيد بين الدورين ليس مستبعدا !
لذلك فآية حرية المعتقد لم تختم بصفتين من صفات الله مناسبتين لمضمون الآية الجهادي بالصدفة. فالله كما نؤمن سميع لدعاء الكافرين بالطاغوت لأنهم لا معبود لهم سواه ومن ثم فهم المؤمنون به حقا: والدعاء هو المرحلة الوسطي من الجهاد فبعد القلب يأتي اللسان وبعده يجب القتال وتلك هي مراحل المقاومة ضد الطاغوتين في كل عصر. والله كما نؤمن عليم بمؤامرات الطغاة المستبدين بالرزق الروحي والرزق المادي وخاصة في عولمة التغريب الذي تبشر بإطلاقه هذه المحاضرة. ونحن واثقون بأن الله يسمع ويعلم ما بدأنا نشتمة من رائحة الحلف اللعين بين طاغوتي عصرنا اللذين يجهران بذم الإسلام والقرآن والجدال في الحق بغير علم: والحلف بين الطاغوتين قاعدة عامة حددت عللها سورة آل عمران فليقرأها محاضرنا عله يفهم العقلانية كيف تكون.

http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/694/images/oioio.jpgالسؤال الثاني:
أعتمد محاضرنا الأكاديمي علي عنعنه لم تعد في عصرنا مقبولة بل هي كانت دائما مرذولة بالنص الصريح حتي في مدارس عصور الانحطاط إلا بشروط التعديل والتجريح: فعن الخوري عن أرنلداز (رضي الله عنهما !) أن ابن حزم قال لتعليل ما قال الإمبراطور بنظرية الله في الإسلام . أي علم هذا ينتهي بصاحبه المعتمد علي دليل العنعنة إلي حشر كل فرق الإسلام من حيث تصورهم للذات الإلهية في تصور ابن حزم الذي لا تكاد فرقته تذكر بين فرق الكلام الإسلامي تسليما بأن ما فهمه ارنلداز في عرضه من عقيدة ابن حزم صحيح ؟ هل يقبل مثل هذا الكلام من طالب مبتدأ فضلا عن أستاذ يستمتع بذكريات حياته الأكاديمية التي مر عليها أكثر من نصف قرن فيكون منتسبا إلي المدرسة التقليدية التي عرفت بجدية التقصي وصرامة البحث ؟
وكم هو مضحك أن يتكلم المحاضر علي ما أوجبته عليه النزاهة الفكرية Redlichkeit halber حينما أشار إلي ما اعتبره انحرافا وقع فيه لاهوت العصر الوسيط المتأخر عند بعض ممثلي العقيدة الكاثوليكية العقلانية مثل القديس اللطيف دانس سكوت من أصحاب الإرادوية في مقابل العقلانوية. زعم أن الإنحراف كاد يفقد اللاهوت الكاثوليكي عقلانيته باسقاطه في لاعقلانية المسلمين لفرط اقترابه من ابن حزم ! لماذا لم يكلمنا عن الحركة الجانسينية وعن ديكارت وباسكال وكل الذين كانوا يرون أن قدرة الله وإرادته صفتيه الأسمي؟ لماذا لا يهم أن المؤمن الصادق لا ينفي العقل عن الله عندما يؤمن بتعاليه عن مقولات العقل الإنساني بل يميز بين علمه المطلق وعلمنا النسبي فيري قدرته وإرادته فوق معقوليتنا التي نتصور قوانينها قوانين الوجود؟ لماذا لا يفهم أن الإيمان الصادق ليس هو إلا التسليم بأن قوانين الوجود من اختيار الله الحر رغم قابلية التعامل معها لمنطق الرياضيات المضطر ؟ ولا يعني هذا التسليم أن هؤلاء المفكرين المؤمنين يقصدون أن عقل الله دون قدرته وإرادته بل يقصدون أن أفعاله لا يقاس بمعقوليتنا حصرا فيها حتي لا يؤلهوا الإنسان فيصبحون ببنوة المسيح لله قائلين وعلي الإكراه في الدين مدمنين تبشيرا وتدميرا. أم تراه يري أن كل هؤلاء قد نزلوا إلي الدرك الأسفل فأقتربوا هم أيضا من ابن حزم ومن ثم من لا عقلانية الإسلام ؟
لن نسأل المحاضر إفهامنا بعقلانيته اليونانية الصارمة أسرار الكاثوليكية وحاجتها إلي تأليه كلمة الله والوحي الأسرار التي تبني عليها كنيسته سلطانها المزعوم معصوما. فذلك من معضلات الكلام التي لا يتسع لها محل هذا البحث. سنكتفي بسؤاله عن مدي عقلانية الشناعة التي تلغي الفطرة الإنسانية في الظاهر فتؤدي في الباطن إلي العودة بها إلي الحيوانية المحض الحيوانية التي تجعلها تقدم علي كل الموبقات مهما حاول بعض الكهنة إخفاءها كما تفعل عند التستر عن جرائم اغتصاب الأطفال ؟
كيف لمحاضر ومفكر أن يعتمد علي العنعنة من دون العودة إلي المصادر نفسها؟ ما الذي حال دونه والسؤال­ في اعتماده علي هذه العنعنة التي تلتقي بمصدريها (الامبراطور في نظرية الجهاد وارنلداز في نظرية الله الإسلاميتين) عند الخوري­ عن مدي صحة تصورات مرجعه ومدي علمه بما يتكلم عليه ؟ هل يمكن لأحد له أدني معرفة بالكلام الإسلامي أن يعتبر المدرسة الظاهرية ممثلة لعقائد المسلمين حتي لو سلمنا بأن عرض انلداز لفكر ابن حزم أمين ؟
***
وأعجب ما أعجب له تصديق المحاضر لتصديق ثيودور الخوري رأي الإمبراطور في تعليل موقف محاصريه العنيف. لم اعتبره ناتجا كما ظن الإمبراطور عن نظرية نشر الدين الإسلامي الجهادية واستثني السؤال عن دور الدوافع السياسية والاقتصادية في الصراع بين إمبراطوريتين (العثمانية والرومية) متجاورتين الدوافع التي قد لا يكون للإسلام بها صلة حتي وإن صادف فاستعمل غطاء دعائيا في سياسة الخلفاء العثمانيين ؟ لم وافقه علي إرجاعها إلي مواقف محمد الشريرة صاحب نظرية الجهاد الذي تصوره وسيلة لنشر العقيدة بالسيف فانتقل مباشرة إلي تعليل هذا التأويل الإمبراطوري بعقلانيته اليونانية ولم استدرك المحاضر عليه بإضافة المصدر المسيحي لتفسير موقفه العقلاني ؟ أليس لأن ذلك وجد هوي في نفسيهما وكلاهما كاثوليكي لم تمت في ذهنه الذكريات الصليبية الوسيطة ونمت في نفسه أماني الصليبية الحديثة ؟
وهبنا سلمنا بأن كل دعاوي ثيودور الخوري ومصدريه صحيحة فهل كانت الإمبراطوريات المسيحية نظيفة اليدين من دم الشعوب أم إن الحكم بمعيار السلوك التاريخي يصح علي المسلمين ويبطل عند الكلام علي المسيحيين ؟ هل كان دينها في ذاته أو كما استعملته عريا عن استعمال العنف لفرض العقيدة أو لتبرير الحروب الاستعمارية بالعقيدة حتي تثبت لها العقلانية وتنفي عن نظيراتها المسلمة ؟ أفلا يكون سلوك الدول في كل الحالات معلولا بالسياسة الدنيوية بدلا من العقيدة الدينية التي قد تستعمل للدعاية والتجييش لا غير فيكون ذلك صحيحا في كلتا الحضارتين رغم كون الدينين المسيحي والإسلامي من ذلك السلوك براء ؟
وفي الجملة هل يصح لمحاضر يزعم أنه يحاضر بصفته أستاذا ومفكرا أن يكون بهذا الحيف المنهجي فيقارن نصا دينيا مسيحيا­ مجرد دعوي في البدء كانت الكلمة ­ حول العقلانية بواقعات مستمدة من التاريخ السياسي الإسلامي حول ما يعتبر منافيا لها ؟ أما كان عليه أن يقارن بين التاريخين أو بين النصين لا أن يتحيل فيقارن بين النص المقدس المسيحي والتاريخ الإسلامي السياسي؟ وهل لو قارن القرآن بالكتاب المقدس بعهديه اللذين استمد منهما دليله الأول حول التطابق بين الكلمة واللوغوس أو التاريخين السياسيين المسيحي والإسلامي هل كان يحكم حكما نزيها أي الكفتين سترجح في مجال العقلانية بمعيار العنف والقتل بلا حد ؟
السؤال الثالث:
ولنأت إلي السؤال الجامع. فنص المحاضرة لم يعان من هذه الهنات الشكلية بسبب جهل المحاضر بجهله عقيدة الإسلام أو تاريخ الإسلام بل بسبب علمه بهذا الجهل وتجاهل شروط المنهج في الكلام علي الإسلام. فالجهل بالمضمون لا يعفي أي أكاديمي من العلم بشروط المنهج الأكاديمي في أي عمل علمي. لا يمكن أن يجهل المحاضر أن الجهل بلغة النص مثلا يلغي حق التفسر فضلا عن حق التأويل بل ويحرمه عليه. ولا يمكن للمحاضر أن يجهل أن الإحالات مشروطة بالعودة إلي المصدر المحال عليه وأن الوسائط والعنعنة في العمل العملي لا تكفي حتي في المستوي الدراسي الأول من العمل الجامعي.
وأخيرا فالمحاضر لا يمكن أن يجهل أن الضمائر في العلاج والاستدلال العلميين أمر خطابي يجردهما من قوة الحجة عامة فضلا عن قوة البرهان. فلا يكفي مثلا أن يقول المحاضر إن العارفين أعلموه أن آية حرية المعتقد نزلت لما كان محمد بلا حول وتحت التهديد ليضمر بشيء من المكر أن القرآن فيه كما يزعم أقوال أخري في الجهاد نزلت لما أصبح محمدا ذا قوة تجعله وسيلة لمنع حرية المعتقد أو لفرض المعتقد بالقوة: لكن القيصر كان يعلم بالطبع أن في القرآن تحديدات حول الحرب المقدسة ولت هذه الآية في النزول .
فهذا الكلام يضمر بشيء من المكر أن هذه التحديدات تتضمن فرض العقيدة بالقوة لتعلل بها موقفه من الرسول محمد رغم وجود آية حرية العقد. فليس القيصر وحده هو الذي يعلم أن الكلام في تحديدات الجهاد لم يتوقف في القرآن النازل بعد هذه الآية. لكن العارفين يعلمون أن هذه التحديدات كانت لحصره في الدفاع عن حرية العقيدة أو عن المستضعفين في الأرض ضد المفسدين فيها. لذلك فإضمار المحاضر وسكوته عن طبيعة التحديدات يثبت أنه ليس حسن النية بل وأنه سيئها. فسكوته عن طبيعة التحديدات التي ولت في النزول آية حرية العقيدة يبين أنه يضمر بقصد وروية أنها من طبيعة مقابلة للآية التي تقول بحرية العقيدة ومن ثم من طبيعة تمنع حريتها وتفرض تغييرها بالقوة. فأني له بها ومن هم العارفون الذين أعلموه بذلك ولماذا لم يشر إلي أي منها ولا منهم ؟
***
كل هذه القرائن المستمدة مما يبدو أخطاء شكلية تبين أنها لم تكن أخطاء علي جهل بل هي كانت المدخل الوحيد لإيجاد حجج واهية يعتمد عليها في اتهام الإسلام بما استمده مرجعه ثيودور الخوري من مرجعيه الإمبراطوري والمستشرق. وما هذه المداورة المرجعية إلا لأن المحاضر عديم الشجاعة. فهو لم ينسب التهم إلي نفسه بل اكتفي بتبني رأي مراجعه الواهية كما بينا. ليس المحاضر جاهلا بالشكليات الأكاديمية التي كانت تفرض عليه ألا يتكلم في ما لا يعلم علما مباشرا لسانا ومضمونا. لذلك فتعديه علي الشكليات دليل علي أنه قصد الكلام في ما يجهل حتي يقول ما يؤيد به حربه المقدسة علي الإسلام.
فليس جديدا أن المحاضر يعتبر الإسلام خطرا يهدد أوروبا. وليس سرا أن المحاضر يسعي إلي التقرب من الإمبراطور الحالي بالإحالة إلي الإمبراطور السابق. لكن بوش لعله له بعض من الفهم سيجعله يتطير من هذه المقاربة والمقارنة الضمنية بين الإمبراطورين ومصير الإمبراطوريتين. فالإمبراطور الذي هو بصدد الغرق في حربه علي أمة الإسلام لا بد وأن يخاف من الفأل السيء لأن ما عبر له به المحاضر عن سنده هو رأي الإمبراطور الذي غرق في القسطنطينية. فالإشتراك في الحط من الإسلام والحرب الصليبية عليه لن يكون إلا وبالا علي الإمبراطور الثاني كما كان علي الإمبراطور الأول وعلي بابوات عصريهما.
المسألة الثالثة
تعليقات علي أخطاء نتجت عن الخلل المضموني
بينا أخطاء الشكل ما هي. وبينا أنها لم تكن شكلية إلا في الظاهر. إنما هي كانت المدخل الوحيد لمن يريد أن يختلق صورة من الإسلام مشوهة. لكن تجميل المسيحية الذي سعي إليه المحاضر انتهي في الحقيقة إلي صورة منها أكثر تشويها من الصورة التي اختلقها للإسلام. ذلك أن التجميل المستهدف أصبح تشويها للعقل والدين معا فضلا عن تشويه العلاقة بينهما بحصرها في التصور الكاثوليكي. وذلك ما نبينه خلال فحص الخلل المضموني في هذه المحاضرة التي لم أر أكثر منها هزالا في الأعمال الأكاديمية. فزي العرفان مهما استبدلت به عباءة الرهبان لا يحجب علامات العدوان علي كل بني الإنسان. ذلك أن خطابه يقضي بأن علي سكان العالم من غير الكاثوليكيين الأوروبيين أن يحققوا شرطين ليكونوا مسيحيين بحق ومن ثم ليكونوا بشرا أهلا لسكن العالم:
1­ فعليهم أن يتبعوا الكاثوليكية الأوروبية التي هي عنده ليست حدثا حاسما في تاريخ الدين المسيحي فحسب بل هي حدث حاسم في تاريخ العالم لأنها وحدها حددت التطابق بين العقل والإيمان في حين أن الأديان الأخري مجرد ثقافات دنيا.
2­ وعليهم أن يقبلوا ما ينسب إليها من تطابق مع العقلانية اليونانية كما يصفهما في مدخله الغريب إليهما بالمقابلة مع اللاعقلانية الإسلامية المتمثلة عمليا في الجهاد ونظريا في تعالي الذات الإلهية عن العقلانية اليونانية الميتافيزيقية قيسا للعقل الإلهي بالعقل الإنساني .
فالحبر الأكبر ذو الكلام الأكاديمي المزعوم لا يكتفي في هذه المحاضرة العجيبة باستثناء المسلمين من الإيمان الكاثوليكي المطابق للعقلانية اليونانية ومعهم كل أصحاب الأديان الأخري وصفا لهم جميعا في غاية المحاضرة بالثقافات المتدنية ولا حتي باستثناء أغلب المسيحيين من غير الكاثوليك الأوروبيين بالحصر بل هو يذهب في الغلو إلي حد تكون فيه هذه الكاثوليكية الأوروبية التي تستفرد بالحقيقة غير قادرة علي محاورتهم ما لم يعودوا إلي رؤاها الدينية والفلسفية بفضل إعادة تدريس اللاهوت الكاثوليكي في الجامعات الأوروبية: لا يزال محاضرنا يحلم بالمركزية الكاثوليكية في أوروبا والأوروبية في العالم. وشرط هذه العودة هو عودة تدريس اللاهوت الكاثوليكي الأوروبي في الجامعات لاستعادة لتطابق المفقود بين العقل والإيمان ومن ثم لمحاورة الثقافات الدنيا في بقية العالم من أجل هدايتهم .
وتبين قراءة المحاضرة قراءة دقيقة أن البابا قد صنف البشر بمعيار أديانهم بين حدين أسمي (الكاثوليك الأوروبيون) وأدني (المسلمون) معينا بينهما منزلتين أخريين صريحتي الذكر بالوصف وإن لم تكوناه بالتسمية. فدون الذروة ممثلة باللاهوت الكاثوليكي الأوروبي حيث يتحقق التطابق بين العقلانية اليونانية والإيمان البصير وفوق الحضيض ممثلا بالكلام الظاهري الذي حصر فيه كلام المسلمين حيث يتحقق التطابق بين اللاعقلانية والإيمان الأعمي نجد منزلتين أخريين:
1­ منزلة من هم أقرب إلي الكاثوليكية أعني كل من انحرف من المسيحيين فسعي إلي التخلص من العقلانية اليونانية بموجاته الثلاث . وهم جميعا دون الكاثوليك درجة.
2­ ومنزلة من هم أقرب إلي المسلمين من باقي البشرية ذوي الثقافات الدنيا الذين ستحاورهم الكنيسة. وهم جميعا فوق المسلمين درجة.
بهذا التصنيف وبه وحده يمكن للبابا عملا بقاعدة بأضدادها تعرف الأشياء أن يبرر انطلاقه من تأويل ثيودور الخوري لموقف الإمبراطور الوارد في نصه ليقابل بين عقلانية تصور الرب عند الكاثوليك وتصوره عند المسلمين مقابلة مطلقة تجعل المسلمين في الدرك الأسفل والكاثوليكيين الأوروبيين الذين ينطق البابا باسمهم في عليين. والضديد في حالة تعريف البابا للتطابق بين الإيمان الكاثوليكي والعقلانية اليونانية هو التنافي بين الإيمان والعقل عند المسلمين في مستويين عملي ونظري. ويتمثل التنافي العملي بينهما في فرض العقيدة بالسيف فرضها الذي يطابق بينه وبين الجهاد (نص الإمبراطور) أما التنافي النظري بينهما فيمثله تصور ابن حزم للذات الإلهية أفعالها فوق العقل بل وقابلة لأن تكون منافية له .
فهل في هذا المضمون شيء واحد يطابق حقيقة العلاقة بين العقل والإيمان حقيقتها التاريخية أولا وحقيقة العقل التاريخية ثانيا وحقيقة الإيمان التاريخية أخيرا بعد أن تبين لكل ذي عقل أن الحقائق التصورية إذا لم تطابق التاريخية ليس شيئا آخر غير الأوهام الميتافيزيقية التي يتصورها المحاضر ذروة العقلانية من جنس في البدء كانت الكلمة ابن الله أو اللغوس عقل الله ؟ إليك ما يقول المحاضر الذي حصر تاريخ العلاقة بين العقل والإيمان في صيغتها الأوروبية اليونانية والأوروبية الكاثوليكية بسبب قوله الصريح بالمركزية الأوروبية: فقبالة الأطروحة القائلة إن الإرث اليوناني المطهر نقديا ينتسب جوهريا إلي العقيدة المسيحية يوجد السعي طلبا لتخليص المسيحية من الإرث اليوناني السعي الذي تتعاظم سيطرته علي الدوائر اللاهوتية منذ بداية العصرالحديث .
فهذا النص يتضمن فرعي الفصام الأبدي بمثنويته المرضية ذات الوجهين المتناظرين بالتعاكس واللذين عاش عليهما الفكر الغربي القائل بالمركزية الأوروبية والمتردد بين مصدري قيامه الحضاري المزعومين والملغيين لما عداهما من المؤثرات التي نحتت تاريخ أوروبا ومن أهمها الإسلام قصدت المصدر اليوناني والمصدر المسيحي فصلا ثم وصلا التوالي والتعاكس بحسب المراحل التاريخية في الموقف الرسمي للكنيسة الكاثوليكية التي يدافع عنها المحاضر أو وصلا ثم فصلا بالتوالي والتعاكس كذلك خلال نفس المراحل التاريخية في علم التجربة الدينية الحية التي يهاجمها المحاضر.
فأما الفرع الأول فهو موقف الكنيسة الرسمي الذي يدافع عنه المحاضر هنا مع أن الكنيسة قالت بعكسه في جل مراحل تاريخها. وهو موقف يحصر العقلانية في التطابق بين العقيدة الكاثوليكية الأوربية والفلسفة اليونانية الأوروبية وما عمله عليها الفكر الأوروبي الوسيط والحديث لتنظيفها مما شابها من الحضارات الأخري التي لا يعد فكرها فكرا جديرا بالاعتبار في تاريخ العقل. والمقصود بالتطهير النقدي للإرث اليوناني ليس تخليصه من اللاهوت تناظرا مع تخليص اللاهوت من الإرث اليوناني كما قد يفهم القارئ وإلا لكانت النسبة إلي الحضارة لا إلي العقيدة بل القصد بيان التطابق بين الحقيقة المسيحية كما تعلمها الكنيسة الكاثوليكية في المرحلة التي يدافع عنها وهذا الفكر عندما يخلص من المواريث الأخري غير الأوروبية المواريث التي لا تعد فكرا عقليا بل مجرد أساطير أو ممارسة خبروية لا ترقي إلي رتبة النظرية العلمية والفلسفية.

http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/694/images/uioui.jpg
وأما الفرع الثاني في هذه المرحلة التي فضل فيها المحاضر الموقف السابق فهو موقف الثائرين علي الكنسية الكاثوليكية التي تخلط بين العقلانية والدغمائية المدرسية موقفهم الذي يحصر تاريخ الإيمان في فهوم النص المقدس والتجارب المسيحية وما عمله عليها الفكر الغربي المؤمن منذ الإصلاح لتنظيف الدين مما شابه من مؤثرات فلسفية وعلمية تخليصا له من انحرافات مؤسسية وميتافيزيقية وأسطورية تتمعش من أسرارها الكنيسة الكاثوليكية للعودة به إلي الأصل ومن ثم للوصول إلي التجارب الدينية الحية.
لكن العلاقة بين الإيمان والعقل لا يمكن أن تكون مقصورة علي هذا الشكل الفصامي الذي عرفته الحضارة الأوروبية في بعض مراحل تاريخها. فبعض الحضارات وأهمها الإسلام لها تجارب مغايرة وأكثر ثراء لتحررها من اللاهوت والميتافيزيقا. فالإسلام مثلا ألغي سبب هذا الفصام من الأصل بما ألغي علته المؤسسية. ألغي السلطة الكنسية الدينية المعصومة وألغي معها السلطة الكنسية العقلية المعصومة. فليس لأحد أن يحدد الحقيقة الدينية ولا أن يحدد الحقيقة العقلية للآخرين إلا تحديد المشارك في الاجتهاد من حيث هو تواص بالحق ممارسة فعلية لمعاني التجربة الدينية نفسها كما تحددت في المفطور سواء كان من المسطور أو من المنشور.
ومن ثم فلا معني للتنظيف النقدي الذي يتكلم عليه المحاضر إلا ما تحقق منه في التجارب الروحية الإنسانية المختلفة والتي لا يخلو منها دين وليست حكرا علي العقيدة الكاثوليكية الأوروبية كما يزعم المحاضر. كل الاجتهادات البشرية في التجربتين العقلية والوجدانية اجتهادات تاريخية بالجوهر تتدبر النص وتتفكر الكون وتطلب الحقيقة طلبا لا يتوقف طلبا يحرر الإنسان من مركزية الإنسان فيكون حرا في عبادة الرحمن وذلك هو مفهوم الفطرة كما حدده القرآن.
كيف يمكن للعقل أن يكون لا تاريخيا فتكون صورته اليونانية التي هي بداية غجفلة مغنية عن صورته التي هي غاية بالقياس إليها تحققت عند من ولاهم من العالمين فتكون التجربة اليونانية الوجودية والمعرفية والقيمية غاية التجارب الإنسانية التي لا يمكن أن يتجاوزها التاريخ البشري رغم كونها مجرد بداية ساذجة ؟ كيف يمكن أن يعد ما ولي صيغة المطابقة بين هذه الصورة من العقل اليوناني المزعوم ومن العقيدة المسيحية الموهومة الصورة المثلي للعقلانية والإيمان بإطلاق ولا تكون تجارب البشر الأخري ذات معني فترد إلي اللامعقول واللاإيمان؟ هل يعني البابا أن الناس لن يصبحوا بشرا إلا إذا تأوننوا وتكثلكوا وإلا فإنهم معدودون من ذوي الثقافات الدنيا ؟ هل يمكن أن يقول بذلك من لم يكن حبيس المركزية الكاثوليكية أوروبيا والأوروبية عالميا ؟ كن يونانيا تكن عاقلا ! وكن مسيحيا تكن مؤمنا ! وكن كاثوليكيا تجمع بينهما فتكون إنسانا كاملا يحل فيه المسيح ببركة المعصوم وارثه في كرسي البابوية ! هكذا قال طيب الذكر المعصوم في خامسة ذكريات حادي عشر أيلول المشؤوم عله ينال رضا الإمبراطور المأزوم بشهادة الإمبراطور المكلوم.
ولنضرب مثالا يبين للمحاضر ولمراجعه مدي الجهل بالتجارب الأخري التي تصوروها من اللامعقول. فمضمون التجربة الإسلامية في علاقتها بالعقلانية إذا قيست بمعيار الحرية العقدية من منطلق الآية التي ظنها نزلت بسبب الضعف والخوف تفتح للبشرية أفقا يصعب أن يفهمه شر الناطقين المتخرصين والخائضين خوض الجاهلين. فالتجربة الإسلامية لم تغير القبلة بالصدقة بل حررت البشرية من نظرية الشعب المختار وتأليه الإنسان لتؤسس للأخوة الآدمية بالرسالة الموجهة لكل البشرية بل ولكل الكائنات بمبدأي : أينما تولوا فثم وجه الله رمزا للكونية وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا رمزا للاخوة.
لذلك فسعي المحاضر للحد من آية حرية المعتقد بسبب نزولها وظرفه من سوء طالعه لأنه يبين جهله وجهل مراجعه العارفين الذين أرشدوه. ولست أنفي أن للآية 256 من البقرة بعدا إنشائيا كما تبادر إلي ذهن من حصرها فيه إذ فيها ما يشبه الأمر بعدم الإكراه في الدين. فنصها: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها. والله سميع عليم. . لكن قصد الآية لا يمكن فهمه إنشائيا بمعني الإنشاء من عدم كالأمر بالممكن أو بالمستحيل حتي تكون ظرفية تعبيرا عن الضعف والخوف ؟ ألم يأت النهي عن الإكراه فيها نتيجة لتقرير حقيقة خبرية مفادها امتناع الإكراه في الدين لمن كان مؤمنا حقا حقيقة تقال لتذكير من لا يعلمها إذا أقدم علي أكراه المؤمنين كما يفعل الطغاة؟ إن عبارة لا إكراه في الدين ليست أمرا غفلا بل هي لمن يعرف أساليب القرآن الكريم نتيجة استدلال صارم نتيجة تقرر ثمرة الإيمان الحقيقي إذ هي تقوم علي دليلين يثبتان استحالة الإكراه في الدين ولا تقتصر علي النهي عن الإكراه فيه:
فأما الدليل الأول فصورته البلاغية مبنية علي الإيجاز القرآني المعجز. لم يبق نص الآية منه إلا تحقق الشرط والنتيجة بترتيب عبارته تقدم النتيجة علي تحقق الشرط مع إضمار العلاقة الشرطية بمقدمها (الشرط) وتاليها (المشروط). وكل ذلك من بلاغة القرآن التي لا يدركها من يجهل منه اللسان. ف لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي هي في الحقيقة نتيجة لشرطية متصلة موجبة المضمر منها هو نص العلاقة الشرطية الكامل (إذا تبين الرشد من الغي امتنع الإكراه في الدين) والمعلن هو النتيجة (لا إكراه في الدين) وتحقق الشرط (قد تبين الرشد من الغي). وكل ذلك في القسم الأول من الآية القسم الذي يمكن تحليل صورته علي النحو التالي:
العلاقة الشرطية (مضمرة): إذا تبين الرشد من الغي (مقدم) امتنع الإكراه في الدين (تال).
ملاحظة تحقق الشرط (مضمرة): تبين الرشد من الغي بنزول القرآن الكريم وتعريف الذات الإلهية في آية الكرسي المتقدمة علي هذه الآية.
النتيجة: لا إكراه في الدين ومعناه امتنع الإكراه في الدين.
ولو حلل المحاضر العلاقة بين قسمي العبارة لا إكراه في الدين و قد تبين الرشد من الغي لتجلي له أنها تضمر فاء التعليل قبل قد لأن مفاد القول هو: لا إكراه في الدين (ف)قد تبين الرشد من الغي . فيكون التلو للتعليل لا إكراه لأنه تبين وليس لمجرد التوالي الزماني لا إكراه بعد أن تبين : نزول القرآن والرسالة الخاتمة يجعلان الإنسان يتبين الرشد من الغي فيدرك إدراكا ضروربا امتناع الإكراه في الدين. وإذن فالأمر بعدم الإكراه مبني علي تقرير حقيقة حصلت فعلا حدوث الفعل التاريخي بنزول القرآن الذي يبين الرشد من الغي فكانت سببا في حقيقة معرفية تحصل دائما في وعي الإنسان كلما توفرت شروطها. وإذن فالأمر هنا ليس مجرد إنشاء يمكن أن يعبر عن ضعف وخوف وسرعان ما يزول بزوالهما.
وبذلك نفهم لم يتكلم القرآن الكريم دائما عن التعدد الديني بوصفه سنة من سنن الله التي لن تجد لها تبديلا أو تحويلا واعتبر كل محاولة لمنعه خروجا عن هذه السنة. فالله لو أراد وحدة الأديان في التاريخ لجعل الناس أمة واحدة رغم الإخبار بأنهم أمة واحدة في المثال المصحوب بالنهي عن السعي لجعلهم أمة واحدة في الواقع: لأن الدين عند الله الإسلام في الواجب وهو متعدد في الواقع حتي يسلم من يسلم وهو مختار ويكفر من يكفر وهو مختار. ذلك أن المسافة بين الحاصل في التاريخ والواجب في المثال هي فسحة الفعل الحر في الاعتقاد الذي يكتمل عندما يقترب التاريخ من المثال فيحصل الإدراك الجازم بامتناع الإكراه في الدين: من دون ذلك لن يكون تبين الرشد من الغي ثمرة للاجتهاد وحماية حرية المعتقد ثمرة للجهاد.
لذلك فقد فرض القرآن علي المسلمين حماية حرية المعتقد في كل الأديان بالجهاد وكلف الدولة الإسلامية بحماية أصحاب ديانات ثلاث يعترف بها حمايتهم في ممارسة طقوسهم إثنان منها لهما رسالة منزلة حتي وإن كنا نعتقد أنهم حرفوها (أهل الكتاب من اليهود والنصاري) والثالث دين طبيعي (الصابئة). كما وعد القرآن أصحاب هذه الأديان بعدم الخوف والحزن مثلهم مثل المسلمين إذا آمنوا وعملوا صالحا. وباقي الأديان غير المعترف بها أعني المجوسية وكل أصناف الشرك وقف القرآن من أصحابها موقف الإرجاء في ما يختلفون فيه مع المسلمين. ومن ثم فهو لم يأمر بمنعها حتي وإن لم يأمر بحمايتها كما فعل مع الأديان الثلاثة المعترف بها. وكل هذه الحقائق لا تحتاج إلي دليل أو إحالة لأن الآيات التي تنص عليها يعلمها كل من قرأ القرآن الكريم حتي مترجما.
أما الدليل الثاني الوارد في الآية فدوره أن يحدد طبيعة من يتبين الرشد من الغي فلا يكون قابلا للإكراه في الدين بفعلين أساسيين يبرزان الوجه السالب والوجه الموجب من الحقيقة الواحدة للدين المطلق الذي دعت إليه الرسالة الخاتمة وهما: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وهو كذلك علي صورة الشرطية المتصلة مثل الدليل الأول دون قلب بين المقدم والتالي في عبارة النتيجة. فقد جاءت صورته البلاغية علي الترتيب المنطقي العادي بين النتيجة وشرطها رغم ازدواج مقدمته بسبب ازدواج نتيجته. ولن نهتم بتحليل الصورة المنطقية إذ ليس فيها قلب كما في الحالة الأولي فتستغني عن تحليل الصورة. لذلك فسنكتفي بإبراز العلاقات الثورية بين مقومي الدين السلبي والإيجابي الدالين علي الإيمان التام العلاقة بينهما وبين عنصري الدليل الأول عنصريه السلبي والإيجابي: علاقة الإكراه في الدين بالكفر بالطاغوت (العلاقة بين العنصرين السلبيين) وعلاقة تبين الرشد من الغي بالإيمان بالله (العلاقة بين العنصرين الإيجابيين).
فالإكراه في الدين في الدليل الأول يناظره الكفر بالطاغوت في الدليل الثاني. والكفر بالطاغوت يحرر المؤمن الصادق من الإكراه في الدين: من يكفر بالطاغوت يتحرر من الإكراه في الدين ومن يتحرر من الإكراه في الدين يكفر بالطاغوت. وكلاهما يكون في وضع الانفعال (لا يقبل أن يكرهه أحد في دينه) وفي وضع الفعل (لا يريد أن يكره أحدا في دينه). فيكون عدم قابلية الإكراه ثمرة الكفر بالطاغوت فعلا وانفعالا: وذلك لا يكون إلا بالجهاد ضد من يمنع حرية العبادة والتصدي لمنع حرية العبادة هو أحد العلتين اللتين تشرعان الجهاد في الإسلام حصرا فيهما لكونهما فرعي الفساد في الأرض الروحي (منع حرية العبادة) والمادي (العدوان علي المستضعفين) . وهذا هو الجهاد الأصغر الذي يكون فيه رد الفعل (سلب) محررا من العدوان (سلب): فيكون الجهاد الأصغر تصديا للعدوان أو محو سلب. وتبين الرشد من الغي في الدليل الأول يناظره الإيمان بالله في الدليل الثاني. وكلاهما يحقق الآخر ويتحقق به: من يؤمن بالله يتبين الرشد من الغي ومن يتبين الرشد من الغي يؤمن بالله. فيكون تبين الرشد من الغي ثمرة الإيمان بالله والسبيل إليه: وذلك لا يكون إلا بالاجتهاد في التفكر والتدبر لتبين الرشد من الغي والوصول إلي الإيمان بالله أعني نظام الدعوة القرآنية التي لا تعتمد سبيلا أخري لإنارة العقل والوحدان. وهذا هو الاجتهاد وهو ليس هو شيئا آخر غير الجهاد الأكبر. فتبن الرشد فعل (إيجاب) والإيمان بالله فعل (إيجاب): فيكون الجهاد الأكبر تعميقا للسلام أو تثبيت إيجاب.
***
والجمع بين الأمرين أعني الجهاد ضد الطاغوت والاجتهاد من اجل الإيمان هو الذي استعار له القرآن الكريم اسم الاستمساك بالعروة الوثقي (التي) لا انفصام لها. والعروة الوثقي التي لا انفصام لها هي الدين السوي الذي لا إكراه فيه أي الذي لا يمكن الإكراه فيه سواء كان له أو عليه: فمن يكفر بالطاغوت أي من يجاهد الطاغوت ومن يؤمن بالله أي من يجتهد للإيمان به علي علم لا يمكن أن يجبره أحد علي الكفر بالدين الحق أو علي الإيمان بالدين الزيف وهو لا يسعي إلي إجبار أحد عليهما وإن كان من واجبه أن يسعي بالتي هي أحسن لتبليغ الدعوة إليهما.
وكان يمكن لو كان المقام يسمح أن نتجاوز تحليل النصوص أن نقارن تاريخا بتاريخ علاقة أصحاب الدين المسيحي بأصحاب الأديان الأخري وتاريخ أصحاب الدين الإسلامي بأصحاب الأديان الأخري خلال تاريخهما بمجرده أو تاريخهما المشترك ! فليت الإشارة تغني المحاضر عن العبارة في تقويم تاريخ الأديان وتقويم تاريخ الوجدان وتقويم تاريخ العمران لندرك إيهما أقرب لحقيقة الإنسان حيث يتطابق الفرقان والإيمان ! وليت المحاضر يجيد تحليل أغوار الأمارة فيتجنب بهرج الاستعارة لئلا يستند إلي حجج فاقد الإمارة (إمبراطور بيزنطة) وكاسد التجارة (ثيودور الخوري) من أجل أن يساند صاحب الشطارة (البابا) فاقد المهارة (بوش الصغير). فالإمبراطور المتجاسر علي الرسول بداية (إمبراطور بيزنظة) والمستشرق المتياسر في ميزان العقول سعاية (ثيودور الخوري) والإمبراطور المدمن علي البترول غاية (إمبراطور أمريكا) كل ذلك حكاية ترمي في عماية. فليس لها أدني وزن في التاريخ الكوني بعد ختم النزول: لا شيء يمكن أن يطفئ نور الله الذي سيعم المشرقين والمغربين رغم أنف الساعي علي الوصل بين الحربين الصليبيتين.
الخاتمة
نختم القول في التعليق علي هذه المحاضرة الهزيلة بالسؤال عن ثمرة تخليص المسيحية من الإرث الهليني ­ وهو في الحقيقة إرث هلنستي وليس هلنيا­ ما هي؟ نزعم أنها العودة بالمسيحية إلي ما يقرب من حقيقتها كما وصفها عليه الإسلام ومن ثم فما أوصل إليه العلم الحديث من تجريد للمسيحية من الأساطير والتحريفات هي حقيقتها أو قريب منها كما يعرفها الإسلام. فما اعتبره المحاضر انحرافا أولا (دانس سكوت) وما سماه موجات ثلاث متوالية من تخليص المسيحية من العقلانية (الإصلاح واللاهوت الليبرالي وأثر ما بعد الحداثة) ليس هو إلا شفاء البعض من مفكري أوروبا من مرض المركزية الأوروبية. انتبهوا إلي وجوه التحريف أعراض هذا المرض فأدركوا التحريفات الأربعة التي تعاني منها المسيحية عامة والكاثوليكية علي وجه الخصوص كما حددها الإسلام: 1­ تأليه عيسي عليه السلام رمزا للإنسان 2­ والكنسية 3­ والخرافات حول عيسي 4­ والخلط بين الدين الفطري والممارسات الثقافية.
فما ظنه المحاضر انحرافا في اللاهوت المسيحي خلال العصور الوسطي المتأخرة أعني خلال بداية ظهور أثر الحضارة الإسلامية في الفكر الأوروبي كما هي الحال عند دانس سكوت هو بداية فهم التعالي الإلهي بمعناه الحقيقي أعني التعالي الذي هو من جنس ما يؤمن به المسلمون بشرط ألا يفهم منه ما تأوله المحاضر. فالقصد بهذا التعالي ليس هو نفي العقل عن الله بل هو التمييز بين عقل الله وعقل الإنسان ومن ثم جعل العقل الإنساني عقلا اجتهاديا لا عقلا ميتافزيقيا. وذلك هو شرط تعميق الإيمان وتقديم العلم: فلا حاجة للإيمان لو كان عقل الإنسان مطلقا مثل عقل الله ولا وجود لتاريخ العلم والمعرفة لو كنا نعلم بإطلاق ولسنا نجتهد قدر المستطاع.
ثم إن التمييز بين عقل الله وعقل الإنسان هو الشرط الضروري والكافي للتخلص من الخلط بين الناسوت واللاهوت تمهيدا للتحرر من عقيدة بنوة المسيح للرب: فالله لم يتأنس في المسيح والإنسان لن يتأله في المسيح. لذلك فإن ما يبقي من المسيحية بعد الموجات الثلاث كما وصفها المحاضر هو عينه ما يعتبره المسلمون قريبا من المسيحية غير المحرفة كما وصفها القرآن خاصة إذا ضممنا إلي الموجات ما وصفه بتحريف الإرادوية: وليقرأ المحاضر آل عمران إن كان يبحث عن الحقيقة حقا. ليس الله خاضعا للمعقولية البشرية (القول بالتعالي الذي ظنه انحرافا ورفض الحلول) وليس الدين بحاجة إلي كنيسة ذات سلطة معصومة (الموجة الأولي أو الإصلاح). وليس الرسول نوعا والمسيح عددا ربا أو ابن رب بل بشر نبي: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله بل كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (آل عمران 79).
وفي الجملة فلا أحد من ذوي العقول يمكن أن يقول بالتثليث وهو صاح. وكل من يقول به يضطر عند الصحو إلي التأويل الرمزي فيعقلن بالتلفيق ما لا يقبل التوفيق. إنما الإنسان السوي يقول بالوحدانية التي دعي نصاري نجران للإيمان بها لئلا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا (الموجة الثانية أو اللاهوب التحرري): قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون (آل عمران 64).
وكل هذه التحريفات التي تخلصت مشنها المسيحية ركبت علي المسيح عليه الصلاة والسلام من الأسرار التي ابتدعها الكهنوت الأسرار التي من دونها تفقد الكنيسة سلطتها المزعومة معصومة فلا تستطيع الإستبداد بالأمر. وتلك تقاليد وجد الناس عليها أباءهم أرجعت الدين الفطري أو الإسلام الكلي إلي ممارسات صار الإنسان وثنها الأكبر (المرحلة الأخيرة من التخليص). لكن المسلمين لا يسلمون بأن الدين السوي مجرد شكل ثقافي ينبغي التخلص منه. فليس الدين عند المسلمين من التراث الثقافي كما يتصور أصحاب الموجة الأخيرة من تخليص المسيحية من الفكر اليوناني في فكر ما بعد الحداثة والثقافوية كما يشير المحاضر بل هو الإيمان الخالص المتحرر مما شابه من الممارسات الثقافية والتوظيفات السلطوية التي أفسدت بها الكاثوليكيةج المسيحيةّ الأصلية المطابقة للإسلام الحنيف والمتحررة من العقلانية الميتافيزيقية التي هي بدورها شكل ثقافي تجاوزه التاريخ