المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحـَلـَتْ



إيلي سويد
23/10/2006, 10:27 PM
رحـَلَـتْ



رحلَتْ ... ولؤلؤ عينيها يشتكي ألم الفراق ... خطوة أرادت بها أن تعود إلى الوراء .... إلى حبيبٍ لم يخن يوماً لها ودَّ الوفاء ... ولكنها ذهبَتْ رغماً ... دون وداع ...

حينها ... غفا قلبُ الحبيب وراحَ في سبات ... مغلقاً عينيه على دمعة توقفت ولم تنساب ... ليبقى عشقه المغادر صورة ملائكية ترافق يومه الآتي ... ذهَبَتْ به الذكرى إلى ماضيه البعيد ... حين كان فتياً دون حبيب ... وكيف مرَّت به الدنيا والسنون دون رقيب ... سارَتْ أيامه رتيبة مملة لا حركة فيها ولا تشويق ... ومضت كما الثواني سريعة إلى خريف عمره ...

دقات قلبه بدت له متسارعة على غير عادته ... حين رآها لأول مرة تبادله ابتسامته ... وشعرها الأسود المجنون يتكأ على ملعب أكتافها المخملية .. يناديه لأن يعبث بأنامله الرقيقة بين خصلاتٍ تعلمت منذ الجديلة الأولى كيف تعشق الحرية ... فتحولها نسمات الليل إلى ثريات تتلألأ انعكاساً بفعل ضوء القمر في أجمل لياليه ...

وتلك العينين (( آهٍ من تلك العينين )) يقولها ألماً وهو في غيبوبة ساحاتها الخضراء ... يذهبُ بعيداً إلى أمسيات حلقَ فيها بسماء المقلتين دون جناح ... نظرة واحدة ... جعلت منه إنساناً آخر غير الإنسان ... لوحة سماوية ابتدعتها يدُ الفنان ... أصبحت شعاراً لحياته ... وضعها في إطارٍ ذهبي لا يصدئ ... لـُيبقي عليها مصونةً من تآكل السنين ... نظرةٌ لا تفنىَ ...

ذاكَ الجسد ..!! إنه خلاصةٌ للإبداع الإلهي ... لوحة سريالية أخرى تذهب بالناظر نحو الخيال ... يسرح في دنيا أنوثتها الطاغي على كل ذرة من عقل الحبيب ... وقلبه الـُمدمى ... تذهبُ به إلى أفق بعيد ... إلى أفق الحلم الباقي المتكرر في لياليه الناعمة ... كشريط سينمائي لا يمل من حضوره في كل يوم جديد ...

قبل أن تغادر حاولتْ أن تنظر إليه للمرة الأخيرة ( نظرة وداع ) غير عابئة بما سوف ينتظرها في مسيرة حياتها الضبابية ... إلا أنه لم يكن يعي تماماً بما يدور حوله ... حتى نظرتها الوداعية تلك , لم ينبته إلى معانيها الواضحة كما هي الشمسُ في كبد السماء ... بسبب غرقه في بحور ماضيه القريب البعيد ... فذهبَتْ دون وداع .

ذهبت ودمع الفراق يحفر أخدوده اللئيم على وجنتيها المخملية ينساب بعمق الأيام والليالي الملتهبة بنار الشوق والحنين ... أنه لم يفهم ... قالت وهي تغيب ... حقاً أنه لم يفهم ... ركضت مسرعة الخطىَ تترنح ثملة من الألم فتغيب رويداً ... رويداً ... في ضباب اليوم الآتي من المجهول ... وصلت وفؤادها المتعب كما الطير المنحور يرقص ألماً من الذبح ... تركت جسدها المنهك يرتمي بثقله وهمه فوق أقرب أريكة من باب دارها ... وأطلقت لنفسها العنان في صيحة عتب ( ربي وإلهي لماذا أنا ... لماذا أنا ..؟؟؟ )), فتهاوت من جديد في حضن أمها الدافئ واستسلمت لحنان لا يعرف النهاية ويَدين ملائكية الهوى تمسح عن وجنتيها الصفراويين دمعها الغالي وقالت لأمها الوصية..؟؟ رسالة تريدها أن تصل إلى الحبيب الغالي ... في يومٍ يحدده الزمن الآتي.....

أما الحبيب لم يفهم فكان مصابه كبيراً ... أبعَدَ كل هذا الحب والعمقُ فيه أصلُ إلى اللا شيء ...؟؟ لِمَا كل هذا الحقد من الأيام ..؟؟ أتراها سعيدة لما جرى ..؟؟ لستُ أدري ...؟؟ أصَّر على الهروب من اللا منطق ومن الحقد ... ولملم جراحه الكئيبة مهزوماً ... ممسكاً حقيبة سفره ... مغادراً حباً كان له يوماً كل شيء ... وكل الحياة ..!! ترك وغادر على أن لا يعود بعد أن ألقى نظرته الأخيرة إلى شجرة كانت رمزاً لحبهما معاً ... وذهب إلى حياة أخرى يرى فيها مستقبلاً لأيامه الآتية واضعاً نصب عينيه نجاحاً يصبه في عمله علَّه ينسىَ مهانة الحب الذي كان ( ولكن عبثاً وهيهات أن ينسىَ ), تزوج شريكةً له في عمله بالرغم من مسحة الحزن التي بقيت تلازم سنين أيامه, وهي على علم بمصابه وبقيت وفية له بالرغم من شروده الدائم اللا نهائي وبالرغم من أنها تعلم علم اليقين بأن جسده معها أما الروح فهي هناك في المكان البعيد الذي تركَ فيه حبه الكبير ... بقيت من العمر معه الكثير وأنجبت له ولداً وبنتاً أحبهما بصدق الأب وحنانه شاكراً لها تحمله ومصابه وشروده إلى أن تعبت من الأيام وحياة الخوف والحزن على زوجها الطيب فأودعت روحها الطيبة بيد الخالق عزَّ جلاله مودعةً ذاك الحبيب الحاضر الغائب بقبلة أخيرة تطبعها على جبين الفرح لحزنٍ دام طويلاً .

بعدها ... بلغ من عمره الكثير لتحمله السنين إلى معاقل الانزواء والتقاعد في غربته القصّْرية ... فتَملـََّكه الشوق والحنين إلى أيامٍ مضت لم تتوه في ثنايا ذاكرته يوماً, فعبرت من خلال الذاكرة كلمات أسّْرَت بها إليه وقد أمست حنين أيامه ( إذا فقدتني يوماً وتيقنت بأنني بعيدة عن عينيك, أغلقهما ... وتذكر أياماً عشناها معاً ... وبلحظة حب ستبصر عيناك طيفي ... وكن أكيداً بأنني لن أنسى حباً قد مضىَ بي إلى البعيد... إلى الأبد ).

وهنا أغلق عينيه فرأى طيفها الملائكي يناديه إلى مكانه البعيد إلى زمن الفرح الذي كان, فحمل حقيبة سفره من جديد ليعود برفقة ولديه إلى مكان لقائه الأول وشجرته الطيبة ... فطلب منهما أن يتركاه لساعة زمنية يهربُ بها إليها دون رقيب ... هناك عند زمن الفرح تحت شجرةٍ لن تموت بقيت شاهداً لحبه الكبير, هناك رأى قبرها المرمري وشباب طيفها يزين الشاهد يحميه سور بسيط كـُتب عليه :





( حبيبي : جسدي يرقد هنا ... ولكن روحي ترقد معك ... وستبقى إلى الأبد ) .



لمسَ وجه القبر بحنوٍ وشعورٍ بذنبٍ أخذ مداه وكأنه يلمس وجه الحبيب طالباً مغفرة لم ينلها في حياتها, فانساب الدمع من مقلتيه بعد أن توقف حائراً يوم الوداع , وجملة واحدة ترددت على لسانه وفي عقله وقلبه :





(( كيف لم أفهم ... كيف لم أفهم ...؟؟ )) .




أتى ولديه بعد ساعة الزمن ليراه جسداً مـُسجى على قبرها المرمري ويده تمتد باتجاه صورة الحبيب وكأنه يمسك باليد التي طال افتراقه عنها ... ودمعة لؤلؤية الهوى تغدو في مقلتيه ... وابتسامة وردية تزين شفتيه بقبول رحيلٍ انتظره طويلاً . سياج القبر ضمهما معاً , فأصبح المكان مزاراً لكل العاشقين .




حبيب العمر [ إيلي سويد ]