د. حسين علي محمد
11/09/2006, 06:51 AM
حزن لا يموت!
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.....................................
(1)
لأيام حنينك .. التي فارقتْها الشمسُ اللاهبةُ سأودعُ ساعات الدعة، وسأكتبُ أحرفي المجنونةَ على بابك .. وأسألُك: لِمَ لمْ تسمعي صدى نداءاتي الأخيرة .. ودعائي أن يجعلك اللهُ تعالى من نصيبي؟
كم بدت النجومُ قصية حينما صممتِ على الرحيل ..
هل أقول: وتحطّمت آمالي؟
لا أجرؤ على قول ذلك، فأنا ـ للأسفِ ـ مازلتُ أعيشُ، وأُهاتف أمي وشقيقتي مرتين أسبوعيا، وأسألُ عن أحوالِ أقاربي وقريتي؟!
هاهي أشرعتُك تبحرُ متعجلةً نحو البعيدِ .. المجهول، وبقسوةٍ لم أتخيلها ..
لماذا رحلت يا نبوية وتركت أشلاء فارس تبحث عنك كيْ تعيدي إليها الحياة كما فعلت جدتك «إيزيس» ذات يوم!
لماذا رحلتِ ولم تسمعي قصائدي المرهقة بالحنين، الحالمة ـ كقلبي ـ دواماً بكلمة منك .. تعيدُ الحياةَ لهذه الجثةِ الساكنة؟!!
أطفأتِ ـ بيديْكِ ـ شمعتي الساهرة!
(2)
أخذتُ أرضي وصفصافتي وعصافيري .. تحت جلدي، وقبعْتُ مقنَّعاً بالفضاء الأبيض الفاتر في هذه المدينة الجميلة التي تستلقي في حضن البحر هاربةً من أضلاع الصحراء!
أجلسُ خلف الكرسي الوثير .. وأمامي حاسوب أدون عليه أرقام الصادر والوارد، وأُحصِّل المبالغ المستحقة لهذه المؤسسة التجارية ذات المسؤولية المحدودة التي أعملُ بها، والتي يمتلكها شيخٌ نقي ضرير، ويُشرفُ عليها أخوه الأستاذُ الجامعي، الذي يثق بي كثيرا.. وأرجو أن تكون ثقته في محلها!
لم تعد لديَّ أجنحة كي أحلق بها، ولم أعد أستظل بصفصافةٍ أو أشع في بهاء، ولم أعد أكتب شعراً، منذ تركت «نبوية»، وغادرتني أحصنة شعري التي لا تصهل!
أتركتُها أنا .. أمْ هي التي تركتْني؟
استقرَّ والدها التاجر الكبير في الإسكندرية التي ضاعت فيها، فلم أستطع أن أراها أو أجلس إليها!
لعلها رحبت بهذا الانتقال؛ فلم تكن أختي فريال تحبها.. وظنت نبوية أنها ستقف في طريق زواجي منها!
أصبحتُ ـ بعد رحيلها ـ أوقنُ أن الجفافَ يسودُ الأرض، وأن السماء لم تعد تمطر.. والخراب ينشر أجنحته السوداء في كل مكان من أرض الله!
لم أعد أشعر بنبض ما أكتبُه من خواطر، فما أكتبه هو هوامش ـ لا أكثر ولا أقل ـ على كتاب رحيل نبوية .. أو كتاب الغياب!
...
لكني ـ مع ذلك ـ ظللتُ أكتبُ .. حتى لا أنسى صبوات النرجس، وموسيقا حياة الروح!
(3)
قلتِ لي ذات مساءٍ، والشمسُ الغاربةُ تدفع شعاعاً قانياً من خلفِ الغيوم ليسكبَ في قلبي الفزعَ على مشهدِ مأتمِ الجمال الوحشيِّ:
ـ في مقلتيِّ ضياء طفوليٌّ قديمٌ ينبئُ عن حرماني!
وأنتِ وردةٌ حمراءُ أعلقها في «شم النسيم» على عروةِ قلبي، المُباغَتِ دائماً بحرابِ الفقْدِ والثكل!!
لماذا اختفتْ ملامحُ وجهك الطفولي اللامع .. خلف شرفةِ الغيابِ .. فما لي أبصرهاَ ـ على الرغم من ذلك ـ حقل أنجم خرساءَ في سمائي المعتمة؟
أتذكرين ريشتي التي رسمتك ذات مساءٍ صافٍ على قبةِ السماء، وحثت خطاها القصيرة، نحو مروجك السماوية .. يا ذات العينين العسليتيْنِ المثقلتين بالوجوم؟!
وأنتِ تقولين: رسمك أحسنُ من شعرك.
ـ كان جبران رساماً أيضاً.
تضحكين:
ـ أيهما أسبق عندك .. الرسم أم الكتابة؟
ـ رسم الإنسانُ الأول على جدر الكهوف قبل أن يخط قصيدة أو حكمةً!
رحلتِ ..
منذ كمْ تركتني؟ .. عشرة أعوام؟
قابلتُك وأنت في السنة النهائية من دراستك الجامعية في ملتقى صيفي للطلاب، وكنتُ قد تخرّجتُ من عاميْن!
ذهبتُ لزيارة صديق في معسكر أبي بكر الصديق، فوجدتك هناك!
وأنا أُطالعُ الآنَ خطابك الوحيد .. يحدثني عن نزوة حنانك الساخر، وعن عينيك الحالمتين. ويحدثني بصيف بديعٍ قريبٍ نزق .. نقضيه في غفوة من زماننا المخاتل .. وتغنين فيه أغنيات الحب لطفلكِ (هلْ مازلْتُ طفلاً؟) الذي لا يكبر أبداً.
وأتساءل:
أهجرتِني إذنْ، وأنا في الرابعة والعشرين.. فمن سيؤنس وحدتي ـ في أيام العمر القادم المملة ـ بعد فراقك المباغت؟!.. ومتى سيدخل طيفُكِ حجرتي أعلا السطوح؟ .. طيفك الذي يرجُّ أضلعي، ويطوي أيام الغربة بحنينٍ دافق .. إلى قريتنا (التي لم تعد قريتك) البعيدة .. البعيدةِ .. البعيدة؟
ومن الذي سيُفاجئ طريقي .. بخطوات غير مُراقَبة .. ويمدُّ يده البيضاء لألثمها وأنا مُغيَّبٌ، بين حلمي .. وواقعي؟!
(4)
لماذا ذهبتُ إلى البحرِ ـ بحر الدمام ـ في اليومِ الثالثِ من أيام عيد الفطر؟
أكان لا بد أن أذهب إلى البحر .. وأنا الذي لا أغادر الشركة إلا للنوم، وقبل النوم أقرأ رواية أو أشاهد بعض برامج الفضائيات؟ .. أو أكتب سطوراً مما أظنه شعراً؟
رأيتُ «نبوية» على البحر، تضحك بقلبٍ ممتلئ بالبهجة (أم هكذا صوّرتْ لي هواجسي؟) وأولادها، ينطقون لهجة الخليج في تمكن، ويلعبون ويجرون في حبور وضوضاء.
كانت تجلس بجواري على الشاطئ، في هذه الحديقة المترامية، وكنت أنا والمهندس النوبي سعيد ـ جاري في السكن ـ نلعب الدومينو، ويحاول كل منا أن يكسب الدور، وضحكاتنا العالية ترج المكان!
تشاغلتُ برهةً بتأمُّل خطواتها، وهي تتحرك لتجلس على السور الواطئ الذي يفصل الحديقة عن البحر!
...
وسعيد يضحك:
ـ لن أتركك تهزمني، لو اضطررتُ أن ألعب حتى الفجر .. فسألعب.
وأضاف:
ـ غداً الخميس .. إجازة في البلدية.
أضفتُ وأنا ابتسمُ، مشجعاً له:
ـ عليَّ أن أفتح مكتب المؤسسة في السابعة والنصف.
(5)
اتركي لي في القلبِ جذوةً صغيرةً .. صغيرةً .. من نار العشق .. تضئُ طريقي الدّامسَ، وتعاليْ معي .. نجلس على العشبِ في قصْرِ مسحور، نقرأُ أشعار طاغورَ .. وتغنين لي أغنية فايزة أحمد الأخيرة!.. ونلقي الصحف الكاذبةَ بعيداً، بكلِّ ما تقدرُ أيدينا .. حتى لا تلوث أصابعنا (التي تكادُ تنْدى) بحبرها الأسودِ الخبيثِ.
تضحكين:
ـ الصحفُ لم تعد تلوثُ الأيدي، فقد مات العرَّابُ الكاذبُ ربُّ الجنود .. بعدَ رحلتِهِ الأخيرةِ / غيْرِ المقدَّسةَ!!، وتركنا للفجيعةِ، وللحقيقة الوحيدةِ ..
ـ ماذا تقولين؟
لا تردين على سؤالي، وتُكملين:
ـ تركنا كالفئران، أو قل أسرى في أيدي الغربان!!!
(6)
هاهي أخيراً «نبوية»، يا الله!
لم أجدها للمرة الثانية على شاطئ الإسكندرية، ووجدتُها على شاطئ الدمّام!
تزوجتْ من خليجي، وتركتني!
كسبتُ الدورَ من سعيد، وتأكدت خسارتي في «نبوية»!! ..
زوجها فتى .. في نحو الأربعين، خفيض الصوت، له لحية خفيفة، ويداعب أطفاله في حنو بالغ، ويتكلم كثيراً في هاتفه الجوال .. يبدو من منظره وكلامه أن صاحب مؤسسة تجارية، كالمؤسسة التي أعملُ بها.
لماذا جئتُ الليلةَ إلى البحر؟
(7)
لا أذكرُ خطواتي الأولى معها!
لا أدري كيف تعرّفتُ عليها.. أو كيف اكتشفتُ أنها جارتي، وأنا في الرابعة عشرة؟!
كنتُ صبياً، لي الأمسياتُ التي أنطلقُ فيها كالفراشة أغني، تُدغدغُ الأغنياتُ مشاعري فأطير بعيداً عن قيدي الزمان والمكان، وكانت جميلةً جميلةً .. وكان فمُها عصافيرَ تغردُ، وكانت وردةً حمراءَ في العيون، مُبهجة!
تمنيتُ لو تصمت الأغنية الكسول التي تتردد بجانب شجرة الصفصاف، في مذياعٍ خشبي كبير ـ حينما مرّت ـ وأنا مستلق على تل صغير بالفضاء، أُذاكرُ ما قاله أبو ماضي، عن الحجر الصغير، والأستاذ يُهددنا بأننا سنرسب في امتحانات الثانوية العامة ـ التي لا ترحم ـ إذا لم نحفظ النصوصَ جيداً ..، كنتُ في الصفِّ الثالثِ الثانوي، وكانتْ تصغُرني بعامين. وأختي فريال التي لم تتعلّم تراها قطةً لها أنياب!!
قطة لها أنياب؟!
.. ماذا تقولين يا فريال؟ .. أنت لا تعرفين القطط، ولا تحبين الفراشات أو الورود!
كان الضوءُ البعيدُ للعصفورة الملونة .. يتجلى في هالةٍ شبه رماديةٍ صغيرةٍ كافيةٍ أن تحيطَ بالرأس والعنق، وتُحدد ملامح الصدر الصغير المكتنز .. فتبدو كأميرة منحدرةٍ من سلالةِ ملوكٍ من قرونٍ سالفة أراهم في الصور الملونة في الروايات المترجمة!
لماذا ترك أبوها ـ تاجر الألبان ـ القرية، وهاجر لبعض الوقت إلى المنصورة فدمياط ثم إلى الإسكندرية؟
أكان متعثرا في تجارته ولا يريد من البلاد أن تفرح في فشله؟ .. أمْ كان ناجحاً وينتقل من نجاح إلى نجاح؟
أصغرت القرية عن أن تحتوي آماله ونشاطه؟ وهو الرجل الذي له زوجة ثرية .. وبنت ولد؟!
على شاطئ الترعة المتخم بالزرقةِ .. بين النوم واليقظة، وحيثُ لا يُطالع أبي دفاتري .. كتبتُ قصيدتي الأولى، وكان صوتُ العصفورةِ الوحيدة هو القوةُ الحقيقية التي يمُكنها أن تجعلني أحلم وأغني .. خلف الجدران الطينية هناك .. حيثُ تزهرُ أشجارُ القطن، وتجري مياه الينابيع، وتجلسُ أمام صنبور بجانب باب الدار الكبيرة، وترشني بقطر الندى كلما مررتُ!
كنا يوم أربعاء في قرية منسية من قرى الشرقية!
وها نحن في يوم أربعاء بعد سبع عشرة سنة في الدمّام .. وفي ثالث أيام عيد الفطر .. في أرض بعيدة!
ما أسرع ما يمر الزمان!
...
(8)
لماذا تحوطك الغمامات وأنتِ ـ في جلستك البهيجة ـ محاصرةٌ بأحاديثِ العابراتِ عن حزنكِ، وعن جمالِك البهيج الذي يُدير الرؤوس!
لتنتش أرضٌ أنت تجلسين عليها، ولينتش كرسيٌّ أنيق، ومقابضُ ذهبية ولأنتش أنا المأخوذُ ببهائك ولأسرف في الفخر، لأنني كان لديَّ فسحةٌ من الوقْتِ لأراكِ وأنتِ جالسةٌ تطالعين مجلةً ملوّنةً لا تتحدّثُ بالطبعِ، عن إسرائيلَ، وحرب الاستنزافِ، والقائد الكهل، الذي يريد أن يبسط سلطته المتآكلة على ثلة أصحابه الكهول بفعلِ الوقتِ، والهزيمة!
قبل آخر لقاء في معسكر أبي بكر الصديق .. كان يُرافقني ابنُ خالتي العائدَ منهزماًَ من حرب الساعاتِ الست، وكانت ضاربةُ الرملِ تُغريه بزواج ابنتها القبيحةِ (الغولة)، وكانتْ طيورٌ متوحشة تقرعُ الكؤوسَ في صباحٍ معتمٍ!، تركني أمام المعسكر وأنا أثرثرٌِ:
تعاليْ أيتُها الطواويسُ المهزومةُ، تعالَ يا إوزٌّ، يا بطُُّ، لنحتف ٍجميعاً بالهزيمةِ .. برجالِ الهزيمةِ، ولندحرج مآتمنا في رمالِ الشرقِ، ونأخذ أقمارَ البراري في أحضاننا.. ولنكتب قصائد الهجاء في كلِّ نجمٍ محاربٍ، لم يصُن مفارق سيناء، أو «شرم الشيخ» و«دير سانت كاترين».. حتى لو استمطر سحائب النصر الغائب بهمهةِ العرَّابِ الكاذبِ..، وحاول أن يُطلع في سمائنا أقمارَه العجيبةَ السوداءْ!!
أيها الشعرُ .. يا جناحَ الطائر البحريِّ المسافر إلى البعيد ..
خذ شوقي إلى سريرها الغافي في مروج النور ..
ورش أطيافاً من نورٍ، وصلاةٍ
على هدبها الغافي ..
وتعال .. صف لي ضجعتها الأخيرة!
...
أيتُها الفرسةُ الصاهلةُ! كمْ يعذبني صمتك
وأنتِ كم صهلتِ .. وصهلْتِ .. بين مروج ربيعي الأجرد، قبل أن يُقدمَ الغربانُ بنجمتهم السداسية وسوالفهم الطويلةِ السوداءِ القبيحة!
تتكدّرين؟
سأذكرك دائماً
...
لأجلسْ على الصخورْ
ولأتِهْ بحبك .. الذي كان ملاذي
في الشارع المهجور
بين أقراني!!
وعلى أطيافِ سهدي
وسأحاولُ ـ أنا مالكُ بن الريب ـ أن أكتب المرثية الأخيرة
لقلبك المفطور!!
(9)
«نبوية» تخرجت، وتزوجت، وأنجبت ..
وأنا وحيد، بلا أب!!
فقد رحل أبي قبل أن أتزوج!!
.. ولي أم عطوف، تحنو عليَّ، وتدعو لي، وتقول لي دائماً إن «نبوية» ليست آخر الدنيا!
.. ولي أخت عانس (هل قلتُ من قبل إن اسمها «فريال»؟) في الأربعين لم تتزوج، وتهوى اصطياد اليمام والعصافير، وتحب قتل الفراشات واغتيال الورود!
يا لدورات الزمن!!
لم أكن أدري عن «أربعاء الرماد» هذا ـ بالدمام ـ الذي فتق جراحي!.
وكأن المُغني الكهل الضرير ـ الجالسَ في طرفِ الحديقةِ ـ يجلد إحساس الشاعر القديم بقوله:
«إن الزمان هو الزمان دائماً
وإن المكان هو المكان الدائم والوحيد
وإن ما هو فعلي هو فعلي لمرة واحدة فقط
ولمكان واحد فقط» !!
ديرب نجم 24/8/2005م
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.....................................
(1)
لأيام حنينك .. التي فارقتْها الشمسُ اللاهبةُ سأودعُ ساعات الدعة، وسأكتبُ أحرفي المجنونةَ على بابك .. وأسألُك: لِمَ لمْ تسمعي صدى نداءاتي الأخيرة .. ودعائي أن يجعلك اللهُ تعالى من نصيبي؟
كم بدت النجومُ قصية حينما صممتِ على الرحيل ..
هل أقول: وتحطّمت آمالي؟
لا أجرؤ على قول ذلك، فأنا ـ للأسفِ ـ مازلتُ أعيشُ، وأُهاتف أمي وشقيقتي مرتين أسبوعيا، وأسألُ عن أحوالِ أقاربي وقريتي؟!
هاهي أشرعتُك تبحرُ متعجلةً نحو البعيدِ .. المجهول، وبقسوةٍ لم أتخيلها ..
لماذا رحلت يا نبوية وتركت أشلاء فارس تبحث عنك كيْ تعيدي إليها الحياة كما فعلت جدتك «إيزيس» ذات يوم!
لماذا رحلتِ ولم تسمعي قصائدي المرهقة بالحنين، الحالمة ـ كقلبي ـ دواماً بكلمة منك .. تعيدُ الحياةَ لهذه الجثةِ الساكنة؟!!
أطفأتِ ـ بيديْكِ ـ شمعتي الساهرة!
(2)
أخذتُ أرضي وصفصافتي وعصافيري .. تحت جلدي، وقبعْتُ مقنَّعاً بالفضاء الأبيض الفاتر في هذه المدينة الجميلة التي تستلقي في حضن البحر هاربةً من أضلاع الصحراء!
أجلسُ خلف الكرسي الوثير .. وأمامي حاسوب أدون عليه أرقام الصادر والوارد، وأُحصِّل المبالغ المستحقة لهذه المؤسسة التجارية ذات المسؤولية المحدودة التي أعملُ بها، والتي يمتلكها شيخٌ نقي ضرير، ويُشرفُ عليها أخوه الأستاذُ الجامعي، الذي يثق بي كثيرا.. وأرجو أن تكون ثقته في محلها!
لم تعد لديَّ أجنحة كي أحلق بها، ولم أعد أستظل بصفصافةٍ أو أشع في بهاء، ولم أعد أكتب شعراً، منذ تركت «نبوية»، وغادرتني أحصنة شعري التي لا تصهل!
أتركتُها أنا .. أمْ هي التي تركتْني؟
استقرَّ والدها التاجر الكبير في الإسكندرية التي ضاعت فيها، فلم أستطع أن أراها أو أجلس إليها!
لعلها رحبت بهذا الانتقال؛ فلم تكن أختي فريال تحبها.. وظنت نبوية أنها ستقف في طريق زواجي منها!
أصبحتُ ـ بعد رحيلها ـ أوقنُ أن الجفافَ يسودُ الأرض، وأن السماء لم تعد تمطر.. والخراب ينشر أجنحته السوداء في كل مكان من أرض الله!
لم أعد أشعر بنبض ما أكتبُه من خواطر، فما أكتبه هو هوامش ـ لا أكثر ولا أقل ـ على كتاب رحيل نبوية .. أو كتاب الغياب!
...
لكني ـ مع ذلك ـ ظللتُ أكتبُ .. حتى لا أنسى صبوات النرجس، وموسيقا حياة الروح!
(3)
قلتِ لي ذات مساءٍ، والشمسُ الغاربةُ تدفع شعاعاً قانياً من خلفِ الغيوم ليسكبَ في قلبي الفزعَ على مشهدِ مأتمِ الجمال الوحشيِّ:
ـ في مقلتيِّ ضياء طفوليٌّ قديمٌ ينبئُ عن حرماني!
وأنتِ وردةٌ حمراءُ أعلقها في «شم النسيم» على عروةِ قلبي، المُباغَتِ دائماً بحرابِ الفقْدِ والثكل!!
لماذا اختفتْ ملامحُ وجهك الطفولي اللامع .. خلف شرفةِ الغيابِ .. فما لي أبصرهاَ ـ على الرغم من ذلك ـ حقل أنجم خرساءَ في سمائي المعتمة؟
أتذكرين ريشتي التي رسمتك ذات مساءٍ صافٍ على قبةِ السماء، وحثت خطاها القصيرة، نحو مروجك السماوية .. يا ذات العينين العسليتيْنِ المثقلتين بالوجوم؟!
وأنتِ تقولين: رسمك أحسنُ من شعرك.
ـ كان جبران رساماً أيضاً.
تضحكين:
ـ أيهما أسبق عندك .. الرسم أم الكتابة؟
ـ رسم الإنسانُ الأول على جدر الكهوف قبل أن يخط قصيدة أو حكمةً!
رحلتِ ..
منذ كمْ تركتني؟ .. عشرة أعوام؟
قابلتُك وأنت في السنة النهائية من دراستك الجامعية في ملتقى صيفي للطلاب، وكنتُ قد تخرّجتُ من عاميْن!
ذهبتُ لزيارة صديق في معسكر أبي بكر الصديق، فوجدتك هناك!
وأنا أُطالعُ الآنَ خطابك الوحيد .. يحدثني عن نزوة حنانك الساخر، وعن عينيك الحالمتين. ويحدثني بصيف بديعٍ قريبٍ نزق .. نقضيه في غفوة من زماننا المخاتل .. وتغنين فيه أغنيات الحب لطفلكِ (هلْ مازلْتُ طفلاً؟) الذي لا يكبر أبداً.
وأتساءل:
أهجرتِني إذنْ، وأنا في الرابعة والعشرين.. فمن سيؤنس وحدتي ـ في أيام العمر القادم المملة ـ بعد فراقك المباغت؟!.. ومتى سيدخل طيفُكِ حجرتي أعلا السطوح؟ .. طيفك الذي يرجُّ أضلعي، ويطوي أيام الغربة بحنينٍ دافق .. إلى قريتنا (التي لم تعد قريتك) البعيدة .. البعيدةِ .. البعيدة؟
ومن الذي سيُفاجئ طريقي .. بخطوات غير مُراقَبة .. ويمدُّ يده البيضاء لألثمها وأنا مُغيَّبٌ، بين حلمي .. وواقعي؟!
(4)
لماذا ذهبتُ إلى البحرِ ـ بحر الدمام ـ في اليومِ الثالثِ من أيام عيد الفطر؟
أكان لا بد أن أذهب إلى البحر .. وأنا الذي لا أغادر الشركة إلا للنوم، وقبل النوم أقرأ رواية أو أشاهد بعض برامج الفضائيات؟ .. أو أكتب سطوراً مما أظنه شعراً؟
رأيتُ «نبوية» على البحر، تضحك بقلبٍ ممتلئ بالبهجة (أم هكذا صوّرتْ لي هواجسي؟) وأولادها، ينطقون لهجة الخليج في تمكن، ويلعبون ويجرون في حبور وضوضاء.
كانت تجلس بجواري على الشاطئ، في هذه الحديقة المترامية، وكنت أنا والمهندس النوبي سعيد ـ جاري في السكن ـ نلعب الدومينو، ويحاول كل منا أن يكسب الدور، وضحكاتنا العالية ترج المكان!
تشاغلتُ برهةً بتأمُّل خطواتها، وهي تتحرك لتجلس على السور الواطئ الذي يفصل الحديقة عن البحر!
...
وسعيد يضحك:
ـ لن أتركك تهزمني، لو اضطررتُ أن ألعب حتى الفجر .. فسألعب.
وأضاف:
ـ غداً الخميس .. إجازة في البلدية.
أضفتُ وأنا ابتسمُ، مشجعاً له:
ـ عليَّ أن أفتح مكتب المؤسسة في السابعة والنصف.
(5)
اتركي لي في القلبِ جذوةً صغيرةً .. صغيرةً .. من نار العشق .. تضئُ طريقي الدّامسَ، وتعاليْ معي .. نجلس على العشبِ في قصْرِ مسحور، نقرأُ أشعار طاغورَ .. وتغنين لي أغنية فايزة أحمد الأخيرة!.. ونلقي الصحف الكاذبةَ بعيداً، بكلِّ ما تقدرُ أيدينا .. حتى لا تلوث أصابعنا (التي تكادُ تنْدى) بحبرها الأسودِ الخبيثِ.
تضحكين:
ـ الصحفُ لم تعد تلوثُ الأيدي، فقد مات العرَّابُ الكاذبُ ربُّ الجنود .. بعدَ رحلتِهِ الأخيرةِ / غيْرِ المقدَّسةَ!!، وتركنا للفجيعةِ، وللحقيقة الوحيدةِ ..
ـ ماذا تقولين؟
لا تردين على سؤالي، وتُكملين:
ـ تركنا كالفئران، أو قل أسرى في أيدي الغربان!!!
(6)
هاهي أخيراً «نبوية»، يا الله!
لم أجدها للمرة الثانية على شاطئ الإسكندرية، ووجدتُها على شاطئ الدمّام!
تزوجتْ من خليجي، وتركتني!
كسبتُ الدورَ من سعيد، وتأكدت خسارتي في «نبوية»!! ..
زوجها فتى .. في نحو الأربعين، خفيض الصوت، له لحية خفيفة، ويداعب أطفاله في حنو بالغ، ويتكلم كثيراً في هاتفه الجوال .. يبدو من منظره وكلامه أن صاحب مؤسسة تجارية، كالمؤسسة التي أعملُ بها.
لماذا جئتُ الليلةَ إلى البحر؟
(7)
لا أذكرُ خطواتي الأولى معها!
لا أدري كيف تعرّفتُ عليها.. أو كيف اكتشفتُ أنها جارتي، وأنا في الرابعة عشرة؟!
كنتُ صبياً، لي الأمسياتُ التي أنطلقُ فيها كالفراشة أغني، تُدغدغُ الأغنياتُ مشاعري فأطير بعيداً عن قيدي الزمان والمكان، وكانت جميلةً جميلةً .. وكان فمُها عصافيرَ تغردُ، وكانت وردةً حمراءَ في العيون، مُبهجة!
تمنيتُ لو تصمت الأغنية الكسول التي تتردد بجانب شجرة الصفصاف، في مذياعٍ خشبي كبير ـ حينما مرّت ـ وأنا مستلق على تل صغير بالفضاء، أُذاكرُ ما قاله أبو ماضي، عن الحجر الصغير، والأستاذ يُهددنا بأننا سنرسب في امتحانات الثانوية العامة ـ التي لا ترحم ـ إذا لم نحفظ النصوصَ جيداً ..، كنتُ في الصفِّ الثالثِ الثانوي، وكانتْ تصغُرني بعامين. وأختي فريال التي لم تتعلّم تراها قطةً لها أنياب!!
قطة لها أنياب؟!
.. ماذا تقولين يا فريال؟ .. أنت لا تعرفين القطط، ولا تحبين الفراشات أو الورود!
كان الضوءُ البعيدُ للعصفورة الملونة .. يتجلى في هالةٍ شبه رماديةٍ صغيرةٍ كافيةٍ أن تحيطَ بالرأس والعنق، وتُحدد ملامح الصدر الصغير المكتنز .. فتبدو كأميرة منحدرةٍ من سلالةِ ملوكٍ من قرونٍ سالفة أراهم في الصور الملونة في الروايات المترجمة!
لماذا ترك أبوها ـ تاجر الألبان ـ القرية، وهاجر لبعض الوقت إلى المنصورة فدمياط ثم إلى الإسكندرية؟
أكان متعثرا في تجارته ولا يريد من البلاد أن تفرح في فشله؟ .. أمْ كان ناجحاً وينتقل من نجاح إلى نجاح؟
أصغرت القرية عن أن تحتوي آماله ونشاطه؟ وهو الرجل الذي له زوجة ثرية .. وبنت ولد؟!
على شاطئ الترعة المتخم بالزرقةِ .. بين النوم واليقظة، وحيثُ لا يُطالع أبي دفاتري .. كتبتُ قصيدتي الأولى، وكان صوتُ العصفورةِ الوحيدة هو القوةُ الحقيقية التي يمُكنها أن تجعلني أحلم وأغني .. خلف الجدران الطينية هناك .. حيثُ تزهرُ أشجارُ القطن، وتجري مياه الينابيع، وتجلسُ أمام صنبور بجانب باب الدار الكبيرة، وترشني بقطر الندى كلما مررتُ!
كنا يوم أربعاء في قرية منسية من قرى الشرقية!
وها نحن في يوم أربعاء بعد سبع عشرة سنة في الدمّام .. وفي ثالث أيام عيد الفطر .. في أرض بعيدة!
ما أسرع ما يمر الزمان!
...
(8)
لماذا تحوطك الغمامات وأنتِ ـ في جلستك البهيجة ـ محاصرةٌ بأحاديثِ العابراتِ عن حزنكِ، وعن جمالِك البهيج الذي يُدير الرؤوس!
لتنتش أرضٌ أنت تجلسين عليها، ولينتش كرسيٌّ أنيق، ومقابضُ ذهبية ولأنتش أنا المأخوذُ ببهائك ولأسرف في الفخر، لأنني كان لديَّ فسحةٌ من الوقْتِ لأراكِ وأنتِ جالسةٌ تطالعين مجلةً ملوّنةً لا تتحدّثُ بالطبعِ، عن إسرائيلَ، وحرب الاستنزافِ، والقائد الكهل، الذي يريد أن يبسط سلطته المتآكلة على ثلة أصحابه الكهول بفعلِ الوقتِ، والهزيمة!
قبل آخر لقاء في معسكر أبي بكر الصديق .. كان يُرافقني ابنُ خالتي العائدَ منهزماًَ من حرب الساعاتِ الست، وكانت ضاربةُ الرملِ تُغريه بزواج ابنتها القبيحةِ (الغولة)، وكانتْ طيورٌ متوحشة تقرعُ الكؤوسَ في صباحٍ معتمٍ!، تركني أمام المعسكر وأنا أثرثرٌِ:
تعاليْ أيتُها الطواويسُ المهزومةُ، تعالَ يا إوزٌّ، يا بطُُّ، لنحتف ٍجميعاً بالهزيمةِ .. برجالِ الهزيمةِ، ولندحرج مآتمنا في رمالِ الشرقِ، ونأخذ أقمارَ البراري في أحضاننا.. ولنكتب قصائد الهجاء في كلِّ نجمٍ محاربٍ، لم يصُن مفارق سيناء، أو «شرم الشيخ» و«دير سانت كاترين».. حتى لو استمطر سحائب النصر الغائب بهمهةِ العرَّابِ الكاذبِ..، وحاول أن يُطلع في سمائنا أقمارَه العجيبةَ السوداءْ!!
أيها الشعرُ .. يا جناحَ الطائر البحريِّ المسافر إلى البعيد ..
خذ شوقي إلى سريرها الغافي في مروج النور ..
ورش أطيافاً من نورٍ، وصلاةٍ
على هدبها الغافي ..
وتعال .. صف لي ضجعتها الأخيرة!
...
أيتُها الفرسةُ الصاهلةُ! كمْ يعذبني صمتك
وأنتِ كم صهلتِ .. وصهلْتِ .. بين مروج ربيعي الأجرد، قبل أن يُقدمَ الغربانُ بنجمتهم السداسية وسوالفهم الطويلةِ السوداءِ القبيحة!
تتكدّرين؟
سأذكرك دائماً
...
لأجلسْ على الصخورْ
ولأتِهْ بحبك .. الذي كان ملاذي
في الشارع المهجور
بين أقراني!!
وعلى أطيافِ سهدي
وسأحاولُ ـ أنا مالكُ بن الريب ـ أن أكتب المرثية الأخيرة
لقلبك المفطور!!
(9)
«نبوية» تخرجت، وتزوجت، وأنجبت ..
وأنا وحيد، بلا أب!!
فقد رحل أبي قبل أن أتزوج!!
.. ولي أم عطوف، تحنو عليَّ، وتدعو لي، وتقول لي دائماً إن «نبوية» ليست آخر الدنيا!
.. ولي أخت عانس (هل قلتُ من قبل إن اسمها «فريال»؟) في الأربعين لم تتزوج، وتهوى اصطياد اليمام والعصافير، وتحب قتل الفراشات واغتيال الورود!
يا لدورات الزمن!!
لم أكن أدري عن «أربعاء الرماد» هذا ـ بالدمام ـ الذي فتق جراحي!.
وكأن المُغني الكهل الضرير ـ الجالسَ في طرفِ الحديقةِ ـ يجلد إحساس الشاعر القديم بقوله:
«إن الزمان هو الزمان دائماً
وإن المكان هو المكان الدائم والوحيد
وإن ما هو فعلي هو فعلي لمرة واحدة فقط
ولمكان واحد فقط» !!
ديرب نجم 24/8/2005م