المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رباب



د. حسين علي محمد
11/09/2006, 06:50 AM
رباب

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد


(1)

قطعةُ السكرِ التي تذوبُ سريعاً ـ ولا تترك بعدها إلا الحرقة والمرارة ـ تجربةٌ أولى تُشعلُ الجمرَ في ذاكرةِ المؤرَّقِ بغيابٍ وعذاباتٍ:

أنا العشرينيُّ وربابُ أبناءُ قريةٍ نائيةٍ واحدةٍ.

يدثِّرُنا الفقرُ بعباءتهِ المثقوبة، ويُغطينا الحلمُ بخيمتِه المزركشة الفضفاضة.

هانحن في بداية العام الثالث من دراستنا الجامعية في كلية الهندسة.

نلتقي بين حين وآخر..

نقطعُ جسْر الفقْر بتشابكاتِ الأصابعِ.

ونحلمُ ببناء مساكن آدمية بعد أن تختفي عشوائيات «عُلب الصفيح» التي خرجنا منها!

حاولْتُ أن أحذرَ نفسي من أطرافِها المسكونةِ بالحبِّ والعذابِ والتمرُّدِ الجميل، أوْ أتجنبها؛ لكنها أقنعتْني أن الليْلَ للحلم، ولأطيافِ البحْرِ وعرائسِهِ المسكونة بالترقبِ لطفولةٍ ثانية، وبدايةٍ جديدةٍ، نحن ـ وأبناء جيلنا ـ قادرون على صنعها.

أتذكَّرُ الدقائقَ الفارة، وهي تلفظ الأنفاسَ.

وحدي ورباب ـ هل قلتُ عبلةَ؟ ـ في كتب التاريخِ، والشعر، والعشق!

لم تمنعنا الدراسةُ العلمية من أن نكون فارسيْن مُبحريْن في قراءة الشعر والفلسفة والحلم بالغد الجميل.

صرختْ ذات مرة، وكنّا واقفيْن في محطة مصر ننتظر القطار الذي سيحملنا إلى الزقازيق في نهاية أسبوع:

ـ رباب .. لا تناسب مساكن علب الصفيح!

ضحكتُ:

ـ اقترحي اسماً آخر.

قالت وعيناها تبرقان بوميض غريب:

ـ عبلة!

ضحكتُ من كلِّ قلبي، وأنا أردد مستغرباً:

ـ عبلة؟!!

ـ أجل!

قلتُ مبتسماً:

ـ امسحي إذن عبد الستار.

وهي تجاريني:

ـ بم أناديك؟

ـ عنترة!

...

نجترحُ الحلمَ، ونصنعُ سفائنه!

في كتبِ هذا الليلِ أستنطقُ تذكارات طفولتي، والسكرُ في الفمِ النّائمِ، وأمي تحكي لي ما فعله السلطان فيمن اقتحم خلوة حريمه!

قلتُ وأنا أعاني من زحامِ الحافلة:

ـ مسي جبهتي بيسارك، التي بجانبي.

ـ .. أنت محموم!


(2)

أفقتُ من نوْمٍ طويلٍ في عيادةِ طبيبٍ جارٍ لنا، لأكتشف موتَ رباب، بعد أن ضربتْنا سيارةٌ مجنونة، ونحنُ نسيرُ مُتشابكي الأيدي في ظهيرةٍ يومٍ صائفٍ مجنون.

قالت أمي في ثبات أحسدها عليه:

ـ رباب ماتتْ .. لمْ تتحمّل الصدمة.

صرخْتُ:

ـ ربابُ لم تمتْ!

هلْ كانتْ أمك تُحبها أم تكرهها؟

سؤال لا يؤرقك!

لكن الذي سيؤرقك طويلاً .. هو غياب رباب!


(3)

في حكاياتي المُقبلة، سأتكئ على التاريخ، لأثبتَ أن الفقير يُمكنه أن يُقابل السلطان، ويقول له ما لا يُحب سماعه؟

فعنترةُ يحتوي عبلة في أضلعه!

وعبدُ الستار ماتَ يوم أن ماتتْ رباب!

...

رأيتُ فيما يرى النائم أنهم قادوني إلى سراي النيابة: قلتُ لهم إن هذا النص .. (الذي أكتبه عن تجليات فمِ المُغنِّيةِ رباب وعجائب شدوه) أكثرُ منْ معجزةٍ، لأنه يجعل القرية النائيةَ المُغَيَّبةَ تولد من جديد، فوقَ الكراسي العالية، التي لا يصلُ إليها أحد! وأن الأولاد الحفاةُ العراةُ يُمكنهم أن يكونوا اللاعب الأول ـ الذي يملك كل أوراق اللعبة! ـ في منطقة المساجلة!

ـ ماذا تعرف عن رباب؟

ـ شاعرة من قريتي!

ـ ماذا تحفظ من أشعارها؟

ـ أحفظها، وأعرف خرائطها، لكني لا أحفظ أشعارها.

ـ أغانيها مسجلة عندنا، فلماذا تنفي معرفتك بأغانيها؟

ـ لماذا تسألونني إذن؟

ـ إنها تُهاجم الجميع في أغانٍ ثوريةٍ بذيئة.

ـ إنها تُغني للحياة وللمستقبل .. ولم أسمعها تُهاجمْ أحداً.

ـ من الذي قتلها؟

ـ لم يقتلها أحد .. لأن الجميع يحبها .. حتى الأشجار والعصافير.


(4)

سأخبركم ـ بلا فخرٍ!! ـ أنني أحكم الطوق حول رقاب الذين يريدون غياب رباب!

ولن أجعل الحمى تدخل بيتي، أو الوهم يخترقُ جدرانَ حبي للجميلة، ولنْ يحتويَها الغيابُ!

رغم الثقل الذي أشعر به في جسدي وفي أطرافي!

...

وإذا كان الفجر مظلماً في الدروبِ

فبإمكان غنائها أن يضيء طرقاتكم!

ولا مانع ـ في فعلِ الغناءِ الجميلِ ـ من أن تجعل الفيلم الصامتَ فصيحاً، مُفجِّراً طاقاتِ شعوركمْ، محققاً أمانيكم ومكبوتَ ضمائركم!

ألا يكفيكم أن تروْا بسمة رباب؟!!

ألا يكفيكم أن تسمعوا غناءَ رباب؟!!


(5)

فتحتُ الكراسةَ التي أكتبُ فيها خواطري فصرخت أمي:

ـ هل مازلت تقرأ شعر رباب؟! ..

أجبتُ ضاحكاً:

ـ ربابُ لا تكتبُ شعراً .. هذا شعري.

وقرأت:

ربـاب

يا من تقفين في آخر الطريق، وتُنادين

ـ لست وحدك هناك أيتها الحبيبة القديمةُ!

...

أنا أوقن أن بجانبي ألف نخلة

ترتفع فوق وجع السنين الطويلة!

وتناجيني من خلال حزنها

لغيابك

...

الشطآن المراوغة تتراجع تحت قدميَّ

وألف وردة تشتعلُ نارها في شراييني

فالرباب ما مات لحنها!

...

(قلَّبتُ صفحات الكراسة، وفزعت أمي:

ـ كأنه لا يكتب إلا لها!.


(6)

تلك الحياةُ الصامتةُ.

تلك البهجةُ المكبوتةُ في عيونكم.

لا تنبئُ عن حبِّ رباب!

أخبرتني أختي الصغيرةُ (سُها ) أنها رأتها في شاشة الأخبار ـ قبلَ عرضِ الفيلم، وكانتْ واقفةً مع فارسٍ، لا يُشبهُ أحداً من الناس!

كأنَّه رجلٌ سماوي.

وأن النخاس أخذ يقلبها، ويُعري أطرافاً من ثوبها!

و...

لا تُكملي فريتَكَ يا سُها، فلن أُصدِّقكَ!

فربابُ ..

لا تُباعُ ـ أو تُعرضُ ـ في سوقٍ للرقيق،

فلماذا .. أيُّها المتقولون .. تتربصون بسيدةِ نصوصي التي تقولون عنها إنها ماتتْ غيلةً؟

وأنا ..؟

لا أبصرُ القضبان

حول خطواتي..

أو في رحابةِ أفقي،

أو عائقةً عنْ قدومِ فجري بعودة «رباب»؟!!




ديرب نجم 26/8/2003م