المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وداعاً نجيب محفوظ .. راوي مصر وقمة الرواية العربية



طارق شفيق حقي
31/08/2006, 01:55 PM
وداعاً نجيب محفوظ .. راوي مصر وقمة الرواية العربية

عباس بيضون







http://www.assafir.com/iso/today/front/L_3565a.JPEG


طال عمر نجيب محفوظ واذا كان عمر المرء يقاس بما أثمره، فإن عمر نجيب محفوظ أطول من ذلك بكثير. لقد أنجز مكتبة كاملة وظل يكتب إلى أن شحّ بصره فاستبدل الكتابة بالإملاء وكان من روائع ما أملأ سيرته الذاتية وأحلامه. واذا كان نجيب محفوظ حاضرا في شيء فهو كتبه، الأرجح أنه آثر ان يعيش على هامشها، وان يكون في نهاية الأمر كائنا من حبر وورق وحروف. ليست حياة محفوظ دهليزا ولا سرا غائرا. ظل يقول انها حياة موظف لا حياة كاتب، انها دوام ونظام واجتماعات عائلية واصدقاء طفولة وكتابة. قد تكون حياته اغنى من ذلك كما يلمح آخرون لكن الرجل شاء ان يبعدها عن العيون، وان لا يكون بين القارئ وبين كتابه اي واسطة، وحسنا فعل فإن التشخيص والتجسس على المؤلف والنمذجة البطولية هي ما يتواطأ عليه القارئ والكاتب عندنا. نجيب محفوظ، إذن هو كتابه، وهذا الكتاب يطل عليه ويصفه لنا. يتطوع كثيرون للحديث عن لاعب الكرة القديم ولاعب <القافية> وابن الحارة المصرية وذي الحياة السرية والوفدي والمتفلسف، لكن كل هذا لا يساوي الصورة التي تستنتجها من كتبه. يتراءى ان حياة محفوظ الاغنى والأكثر صدامية موجودة فيها. في هذه الروايات نجد فلسفة وسياسة وتجربة ومواقف نجيب محفوظ. ليس لنجيب محفوظ فلسفة متكاملة ولا تبني الروايات نظما فلسفية على كل حال لكن له مزاجا فلسفيا ومقاربة فلسفية. فالأرجح ان روايات محفوظ، اذا اخذنا ثلاثيته مثلا، تصور التكون الصعب وشبه المأسوي للفرد العربي، كما تصور البحث المضني عن المكان المفقود التاريخي والأنطولوجي والسياسي للعربي المعاصر، كما تصور البناء التأسيسي وشبه العبثي احيانا للمدينة والتاريخ والمجتمع. رواية محفوظ هي رواية هذا التأسيس وهي بالتأكيد ملحمته ولوحة احتدامه وغلياناته التي تنتهي غالبا بأن تأكل نفسها او تتطاحن بلا نتيجة.




لم يقدم نجيب محفوظ نفسه كمناضل من اي نوع، غير انه لم ينحن كفرد لأي نظام وإن يكن تجنب العاصفة. روايات نجيب محفوظ ليست في احتياط نجيب محفوظ وربما حماها بسكوته الشخصي. ما تقوله هذه الروايات بلغة روائية، لا تتساهل في هذه الناحية، نقد عميق وداخلي لخيانة النظم العسكرية التي هي ايضا خيانة طبقية وايديولوجية قدر ما هي افتضاح ثقافة فوقية طنانة. يذهب دارسو محفوظ الى التشديد على تاريخانيته، أي ايمانه بالتاريخ واتكاله عليه ورده العالم والاشياء اليه. والحق ان روايات نجيب محفوظ، عدا عن انها روايات افراد في صراعهم مع شروطهم التاريخية، فإن التاريخ عند محفوظ خال من اي مهدوية او خلاصية. انه مليء بالعكس بالسخرية التي يتقنها محفوظ وبقدرية تشارف العبث او اليأس. طالما عثرنا في روايات محفوظ على الدرويش او الصوفي الذي يتكلم بلغة إشارية احتمالية ناظرة للمستقبل، لنقل ان دراويش محفوظ كانوا غالبا صورة لليأس من اي مهدوية ووقوع التاريخ في عجز نفسه. بدا في وقت بأن رواية نجيب محفوظ هي رواية التأسيس المديني وان الزمن تجاوزها بقدر ما تجاوز هذا التأسيس. اشتبه نقاده وروائيو ما بعد جيله في ان أفراده لا يقولون كلمتهم الخاصة وانهم في حربهم مع ظروفهم يتركون الكلمة الأخيرة لها. لا نشك ان نجيب محفوظ ما كان ليترك للنفس الانسانية ان تنطلق في اغنية غير محدودة، ما كان ليؤمن بعجائب اللاوعي ولا طوفان الشعر الداخلي. رؤيته مليئة بالسخرية والنقد واليأس الصلب. واقعيته اذا جازت التسمية هي واقعية التحولات المسخية والتشوهات التدريجية والخيانة الاصلية (على غرار الخطيئة الاصلية) وكل هذا لا يقال الا بوضوح كامل وعصابي ايضا وبفم مليء بالشكوك وبمحاكمة شبه منطقية. كانت صورة العالم الواضحة المليئة بالزوايا الحادة وبالكتل الصريحة اكثر معاصرة لدى نجيب محفوظ منها لدى كثيرين من منتقديه الروائيين الذين مال بعضهم من حيث يدري ولا يدري الى ريفية كامنة والى نوستالجيا أثرية والى غناء هوية والى تاريخانية خلاصية ومهدوية. والآن وقد اكتمل الاثر المحفوظي وبعد ان زالت ثورات لم يترك بعضها الا الزبد فإن الاثر المحفوظي اكثر ما يكون شبها بنا. واذا جاز للمثقفين مثلا ان يبحثوا عن عارهم الخاص وتاريخهم الفعلي الذي تنكبوا عن ان يكتبوه فعلا فسيرونه في <ثرثرة فوق النيل> و<اللص والكلاب> اكثر مما يجدونه في روايات اكثر شبابا.

نجيب محفوظ مؤسس. ليس قطعا فحسب في الرواية العربية، بل هو الاول في ما ندعوه الرواية العربية المعاصرة. ليس مؤسسا فحسب بل هو صانع هذه الرواية وواضع هذا النوع الذي نسميه الرواية العربية، انها في الواقع لحظة تأسيس تاريخية اجتماعية ايضا. رواية محفوظ تحمل لحظة تبلور المدينة المصرية المعاصرة، صنع محفوظ المقابل الروائي لهذه اللحظة المركبة. لقد وجد النص الروائي، اعطاه اولوية وجعله نهاية في ذاته. لقد خلص النص الروائي من شوائب مراحل وزيادات لاحقة واختلاطات لسواه. خلصه من الشعر الكاذب والتفنن البلاغي والانشاء والنوستالجيا الريفية والمسخ العاطفي والافكار المسبقة والمثالات الضمنية والانحيازات اللاحقة. بدا النص الروائي لذلك صارما حديديا محايدا وشبه لا شخصي، واذا اضفنا قلنا قاسياً وواضحاً. لقد جعل محفوظ الأفكار والمشاعر والشطحات والفيوضات الداخلية لعبة النص الروائي. انها في الغالب ادوار سرعان ما تنتهي الى غايتها وتستهلك نفسها فيه. وُجد الكاتب الذي لا يسلم نصه لأي رهان، الرواية تستنفد كل شيء وتحيله ركاما. الرواية اي اللعبة، اي البناء، اي الميزان والحركة هي الغاية وكل ما فيها تابع لها وليس شيئا سوى مادتها وجبلتها. اخترع نجيب محفوظ الرواية العربية وكان من الدهاء بحيث أمّن لها ان لا يطيح بها حاجز

ايديولوجي او نفسي او أدبي. مع ذلك فإن لنجيب محفوظ رؤية القاع. التهافت والتخلع والانحطاط والخيانة هي الواقع بالنسبة لنجيب محفوظ. انه واقع يتفاعل نزولا وفي تكشف تدريجي لقاعه. من هنا رتابة العالم المحفوظي. انه لا يجد باهرا ولا قفزة حقيقية ولا ابتكارا فعليا في هذا التحول. من هنا فانتازياه الضمنية. من هنا تشاؤم عقلي يجعل محفوظ شبيها من بعيد بسويفت ورابليه، تشاؤم لا يملؤه سوى ذكاء لمّاح لم يعوز نجيب محفوظ وسخرية لاذعة كانت سلاحه الخفي.

بدا نجيب محفوظ وكأنه بين أدبائنا الوحيد الذي يملك نموذجا، لم يكن خاصا لكنه كان متكاملا. كان يمكن ان نقارن نجيب محفوظ ببلزاك، والقول أنه لم يمر بالتأكيد بجويس وفوكز وبروست. لقد تأخر هنا لكنها كانت المسافة ذاتها التي يبدأ منها كل تحديث عربي. مع ذلك فإن المسألة لا تقاس هكذا. لم يكن نجيب محفوظ مستخفا بالشكل الروائي، في الواقع لحق بداريل من دون افراط في ميرامار ولحق بتيار الوعي في <الشحاذ> وغيره. هذه المحاكاة لم تخدم الاثر الروائي المحفوظي ولم تبد لازمة له وان دلت على ديناميته. الآن وقد غدت المغامرة الشكلية هذه في تاريخ الرواية وانطوت في العملية الروائية من دون ان تكون شرطا، الآن يبدو البناء الكلاسيكي المحفوظي اقل قدما. بل يبدو ان العالم الذي يقدمه هو الذي يميز شكله. عالم مقابل بالتأكيد للارتطامات العمياء والدورانية للتاريخ المصري المعاصر ولتاريخنا الحديث كله. عالم اللامكان واللا إسم واللا هوية واللا موقع، عالم البحث عن مكان مفقود والخوض في صراعات زائفة والعودة القدرية الى بدء مستأنف. هذا العالم هو الذي يحدد الشكل المحفوظي الصارم الذي أقام بناء الرواية العربية وكان ثقيلا أحيانا، لدرجة ان أساليب واشكالات عدة خرجت من تصدعاته.

يبدو الأثر المحفوظي متسلسلاً متداخلاً كدوائر الماء وحارات الملك. إنه يكسب في تواتره هندسة مدينية. بل هو نوع من قاهرة مكتوبة فإذا أخذنا الأثر في مجموعة بدا في تواتره ذا مسحة شرقية. بل بدا رغم بنائه الكلاسيكي متصلاً اتصال ألف ليلة وليلة، ألف ليلة وليلة سوداء، تحولاتها بطيئة لكن ماسخة ومهلكة وذات طابع انحداري.

حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل له شخصيا وللثقافة العربية وللظروف التي أحاطت بالعالم العربي يومذاك، هكذا يحدث كل مرة لدى منح نوبل. بعض مواقف محفوظ من الصراع العربي الاسرائيلي اعجبت ولم تعجب، لكنها كانت في سياق موقف علماني تحديثي، استحق عليه سكينا في رقبته. لم يسافر لاستلام الجائزة وأوكل ابنته بذلك بدلا عنه. لم يسافر محفوظ الا مرة واحدة مرغما الى اليمن بتكليف من عبد الناصر. لقد نجح وفرض نفسه قمة للأدب العربي بأدبه وحده. من دون سلطة ولا علاقات عامة اعطى نجيب المثل بأن احترام الأدب هو ايضا احترام للذات والتزام بالحرية. بهذا الأدب كان معارضا وناقدا صلبا وواعيا للغاية، وبهذا الأدب كان ايضا قويا بحيث تجنبته شرطة الأدب وحادت عنه. لقد جعل من أدبه سلطة فعلية واليوم نرى موته وكأن امبراطورية هوت والفراغ، الذي يتركه لا يتركه سوى قلائل.

نيرفانا
01/09/2006, 02:55 PM
رحمــة الله عليه


كتب علي أن أبدأ أولاد حارتنــا بغيابه!