المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في مجموعة «لعبة يُباركها الشيطان» لعنتر مخيمر



د. حسين علي محمد
22/08/2006, 11:36 PM
قراءة في مجموعة «لعبة يُباركها الشيطان» لعنتر مخيمر

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
..............................

عنتر مخيمر واحد من قصاصي الجيل الذين استطاعوا أن يؤصلوا ويُرسخوا تجربتهم القصصية، وأن يؤكدوا ذواتهم الخاصة في الإبداع القصصي.
وقد نشر عنتر مخيمر إبداعاته القصصية منذ مطلع الستينيات في «الأدب» و«الأديب» و«الرسالة» و«الثقافة» و«سنابل» و«صوت الشرقية» … وغيرها من المجلات الأدبية المصرية والعربية، وقد أصدر على نفقته منذ إحدى عشرة سنة مجموعة قصصية بعنوان «الناس والعيب»، وهاهي مجموعته الثانية «لعبة يباركها الشيطان» تقدمها مجلة «صوت الشرقية» كحلقة أولى في سلسلة «مطبوعات صوت الشرقية»، التي نرجو لها أن تستمر في إثراء الحياة الأدبية، وتقديم الموهوبين في مجالات الإبداع الأدبي المختلفة.
تضم المجموعة ثماني قصص نشرت في «الثقافة» و«الكاتب» و«صوت الشرقية» و«روز اليوسف » و«الإخاء».
وسنتوقف أما ثلاث قصص في المجموعة، لنلاحظ من خلالها سمات الفن القصصي عند عنتر مخيمر.
أولى هذه القصص هي «الأبناء عندما يفهمون الآباء جيداً»( )، والملاحظة الأولية على العنوان أنه تقريري ومباشر كعناوين المقالات. وتبدأ القصة هكذا:
«ـ يا أبي انظر ..
أرسل الأب بصره إلى المحل التجاري الذي أشار طفله إليه، على حين استطرد الطفل قائلاً:
ـ أريد هذه اللعبة.
أمعن الأب النظر في الواجهة الزجاجية للمحل حتى وقعت عيناه على اللعبة. راقه منظرها.
لعبة جميلة فعلاً، ولكن عيبها فيما يبدو أنها غالية».
بهذه الجمل القصيرة أفصح عنتر مخيمر عما يريد أن يقدمه في هذه القصة:
الطفل تعجبه لعبة.
اللعبة تروق الأب أيضاً.
لكنها غالية.
موقف إنساني بسيط، يمكن أن يتكرر مع كل أب له أطفال يحبون أن يقتنوا اللعب!
في الذروة نرى هذا الموقف:
«هتفت الأم على الفور:
ـ تريد أن تشتريها له .. أليس كذلك؟
ـ بلى( ).
ـ ألم أقل لك أنت الذي ستفسده؟».
ويشتري الأب اللعبة لابنه، ويُراقبه في حنان:
«ما أجمله حين يبتسم .. وهذه اللمعة الحلوة التي تشع من عينيه ما أروعها .. لقد أشرق وجهه بفرحة جعلته يبدو ملائكيا حقا، الأبناء زينة الحياة الدنيا. أبناؤنا ثمار قلوبنا .. رياحينها».
ويدور الحوار بين الطفل والأم:
« ـ مسرور يا حبيبي؟
ـ جدا يا أبي
ـ إذن قبلة لأبيك.
قبله الطفل بحرارة.
ـ وقبلة لأمك حبيبتك.
ارتمى الطفل على صدر أمه، مرّغ شفتيه على صفحة وجهها فاحتضنته في حنان جارف، وغمرته بقبلات تلتهب حبا.
همس الأب في سمع الأم:
ـ ما رأيك؟ كم تُساوي فرحته الآن؟
ارتسمت في عينها نظرة تفيض حبا
ـ تساوي الكثير .. لا تُقدَّر بمال.
ثم بعد أن تنهّدت بحرقة:
ـ ولكن .. ما العمل الآن؟ ليس معنا غير قروش!
قاطعها الأب قائلاً:
ـ ربنا كريم .. لا تحملي هما».
(وتنتهي القصة).
ومن الملاحظ عليها:
أن الجمل قصيرة مركزة، واللغة بسيطة تقترب من روح لغة الحوار المحكية رغم صياغتها الفصيحة، وهذا شيء يحسب لعنتر مخيمر، حيث إن لغته غير مقعرة.
لكن القصة كلها ماذا أرادت أن تقول: هل أرادت أن تقول ما قالته كلمات الأب «ما رأيك؟ كم تُساوي فرحته الآن؟». وهل هي دعوة لأن نُدخل السرور على أبنائنا حتى لو أُرهِقت ميزانياتنا. هل هي دعوة لصرف ما في الجيب على فلذات أكبادنا، وسيأتينا ما في الغيب؟!
وهذه القصة ـ في نظري ـ تبعد كثيراً عن فن القصة القصيرة بقدر ما تقترب من المقالة؛ إن فيها مناقشةً وتحليلاً وتقريرية لا تحتملها القصة القصيرة، ثم إن هذا الروح الشفاف (الفن) لا تراه يسري في أوصالها، وإن كشفت عن نفس رقيقة مرهفة في براءة، تحب الأطفال، وتُنفق كل شيء من أجلهم.
***
القصة الثانية: قصة «طائر مكسور الجناح» (ص ص43 ـ 48)، وهي قصة جيدة، تحدِّثنا عن شاب مشلول، وكرسيه المتحرك هو وسيلته التي يطل من خلالها على العالم. القصة لقطة. هذا الشاب يُحاول أن يُقيم علاقة حب من خلال النافذة. ومن الافتئات والظلم لعنتر مخيمر هنا أن ننقل جزءاً دون جزء، لأن القصة كل متكامل، وصياغتها شفافة تقترب من الشعر المنثور. انظر هذا المقطع:
«أخذ ينهل بعينه من نبع جمالها.
لم تمهله الحسناء، والتفتت ناحيته فجأة فيا للسحر.
ليصمد لإشعاعات عينيها هذه المرة!
أمن العيب أن يهرب من عيني عذراء؟».
والقصة بناؤها محكم، وتبدأ هكذا:
«منذ أسابيع .. ومع بدء أيام الربيع درج على أن يقضي وقت ما قبل الغروب خلف نافذة حجرته (وهذه النافذة شيء هام في حياته، فعن طريقها يُعايش الحياة والناس).
ولا نعرف أن الشاب مشلول إلا في آخر سطرين من القصة:
«ودفع الشاب مقعده المتحرك ومضى به إلى مكان كل يوم خلف نافذة حجرته».
ونرجع إلى بداية القصة، لنعرف أن النافذة شيء هام في حياته، لأنه عن طريقها يُعايش الحياة والناس.
وكل كلمة في هذه القصة بحساب، وهكذا يكون العمل الفني جسماً حيا، لا يُمكنك أن تبتر شيئاً منه.
***
القصة الثالثة التي نلتقي معها هي «الأمل وأحزان القلب» وهي أولى قصص المجموعة (ص ص5 ـ 16)، وهي من أعلى القصص فنية، وهي في خمسة مقاطع، وتحكي قصة رجل ماتت طفلته، ويسرد رحلة الأب معها إلى المقابر. إن هناك أملاً جديداً، إن امرأته حامل، والجنين هذه المرة أكثر حركة من الجنين السابق:
ـ يبدو أن الجنين سيكون ولداً هذه المرة.
ـ ولد .. بنت .. المهم أن يعيش!
***
ومن القصص الثلاث التي عرضنا لها في المجموعة (والقصص الخمس الأخرى التي لم نعرض لها لضيق الحيز) نستطيع أن نؤكد:
1-أن هذه المجموعة خطوة متقدمة على طريق عنتر مخيمر القصصي، باستثناء قصته «الأبناء عندما يفهمون الآباء جيداً».
2-ولع عنتر مخيمر بالحديث عن الإنسان البسيط ورغباته البسيطة في الحب والدفء وحقه أن يحلم.
3-الجمل عند عنتر مخيمر قصيرة مركزة، لكنه في تجاربه القصصية مازال واقعاً في إسار الحكي عن (وليس الحكي بـ). نفهم هذا من طغيان الفعل الماضي على جمله القصيرة. يقول في قصة «الأمل وأحزان القلب»:
«ظلت في غيبوبتها. ترقرقت عيناه بالدموع، حول عينيه عنها سريعاً خشية أن تستيقظ فتبصر دموعه، فوقعت نظرتها على المولودة الميتة. تسمّرت عيناه للحظات. تلاحقت في عنف دقات قلبه. تخبطت أنفاسه. لقد أثار المنظر في نفسه هولاً ورعباً، بل عرته رعشة شديدة. منظر أبشع من أن يُحتمل. خرج من الحجرة مذعوراً. أسرع في الحال إلى الحجرة الأخرى. ووقف ينظر عبر النافذة المفتوحة إلى لا شيء».
نجد في الفقرة الماضية اثني عشر فعلاً ماضياً مقابل أربعة أفعال مضارعة، وهذا يُظهر لنا أن عنتر مخيمر مازال واقعاً في أسر الماضي (الحكي عن)، ونرجو أن نجد في مجموعته القادمة الفعلَ المضارعَ وقد أخذ دوره في قصصه القصيرة.
4-الفاعل في هذه القصص: الغائب في سبع قصص، والمتكلم في قصة واحدة (هل يعني هذا أن القاص غير منحاز إلى قضية يتبناها؟ وأنه في هذه القصص يُراقب من الخارج ويكتب كتابة السارد العليم بكل شيء.. الذي لا يُشارك في أحداث القصة .. هل يخاف هول التجربة؟ .. أكاد أشك في ذلك؛ حيث إن القصة الوحيدة التي فيها الفاعل هو المتكلم أو السارد فيها جرأة في استعمال ضمير الأنا؛ حيث إن الراوي يتحدث عن تجربة له مع زوجة البواب (قصة «في الوحل» ص ص57 ـ 66).
5-الحوار في المجموعة فيه دقة، وفيه حس ساخر (انظر قصة «اللعبة القذرة» ص ص 75 ـ 80) مما يجعلنا نطلب من القاص أن يجرب إمكاناته في كتابة المسرحية. فهل يجرب الآن بعد أن استحصدت مواهبه؟
إن مجموعة «لعبة يُباركها الشيطان» لعنتر مخيمر مجموعة قصصية جيدة، تجعلنا نأمل خيراً في عطائه الوارف، وفي انتظار مجموعته القصصية القادمة.
..................
(*) د. حسين علي محمد: جماليات القصة القصيرة، ط1: الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م، ص ص97 ـ 102.
(كتبت المقالة عام 1980م، ونشرت في مجلة «الثقافة»).