زاهر جميل قط
20/08/2006, 02:44 PM
مقدّمة:
كوّنتِ اللسانياتُ الحديثةُ مادّةً خاماً تشكّلتْ منها و تطوّرت عنها مناهجُ جديدةٌ نظر كلٌّ منها إلى النّصّ الأدبيّ من جهة، إلاّ أنّها جميعاً تعتمدُ اللغةَ أساساً لها في قراءتها النصَّ الأدبيّ، فمن البنيوية بفروعها إلى التفكيكية و من الأسلوبيّة و التداوليّة إلى الشّعرية إلى السّيميائية.
و هذا التعدّدُ في المدارس اللسانية ما كان إلا إغناءً لتعدّدِ قراءاتِ النصّ الأدبيّ، إذ يمكنُ أن نتناولَ النصَّ من عدّة مناحٍ تبعاً للمنهج المُختار للقراءة، فبات النصُّ نصوصاً أخرى لم نكنْ لنراها إلا بعدسة تلك المدارسِ المتنوّعة.
و قد وقع اختيارُنا على الأسلوبيّة لما لها من رؤيةٍ عميقةٍ للنّصّ الأدبيّ إذ تتناولُه بلاغيّاً و جماليّاً و دلاليّاً، و بذلك تغدو مكوّناتُ الجملة تحملُ معانيَ مسطَّحةً، و أخرى عميقةً تصل إليها الدّراسةُ الجادّة.
فعمدْنا في بحثنا إلى قسمين، الأوّل نظريّ قُسّم أيضاً على قسمين: الأوّل تناولْنا فيه الأسلوبيةَ في نشأتها و مفهومها و كيفيّة تعاملها مع النّصّ الأدبيّ و كلّ ذلك حاولْنا فيه الاختصارَ لتكونَ المعلوماتُ مُوجزةً مفيدةً تحاولُ قدْرَ الإمكان تقديمَ مفهوم الأسلوبيّة بشكلٍ قريب. و القسمُ الثّاني تكلَّمْنا فيه على آلياتِ التحليل الأسلوبيّ، و أوضحْنا مصطلحاتِ ( الاختيار، التركيب، الانزياح ) حادينا فيه الإيجازُ و الدّخولُ إلى الفكرة مباشرةً و عدمُ الدّوران حولَها.
أمّا القسمُ الثاني من البحث فهو القسمُ الإجرائيّ، و قد طبَّقْنا فيه بعضَ آلياتِ التحليل الأسلوبيّ على نصٍّ للشّاعر المصري أمل دنقل، و قد وقعَ اختيارُنا على هذا النّصّ و هذا الشّاعر تحديداً لما عُرِفَ عنه من شُغْلٍ على اللغة، فتتداخلُ في نصّه العلاقاتُ بين الجمل و التراكيب لتشكِّلَ بنىً عميقةً تخدمُ المعنى العامَّ للنّصّ، و قد وقفْنا على بعض الخصائصِ الأسلوبيّة في النصّ مُحاولين دراسةَ الدّلالة المترتّبة على استخدامِها من مثل ( التقديم و التأخير، و استخدام الأفعال بأنواعها، و الضّمائر، و الألوان ... إلخ ).
و ختمْنا بحثَنا بخاتمةٍ حملتِ النتائجَ التي توصّلْنا إليها، ثمّ ثبتاً بالمصادرِ و المراجع التي أفدْنا منها في البحث.
و قد واجهْنا بعضَ العقبات في بحثنا، و لعلّ أهمَّها عدمُ الحصول على تطبيقاتٍ أسلوبيّة على نصوص أدبيّة، فكلُّ ما استطعْنا الاطّلاعَ عليه إنّما كان تنظيراتٍ أسلوبيّة. لذلك جهدْنا في فهم تلك التنظيرات و الخروج منها بفهمٍ متواضعٍ طبّقناه على نصّ الشّاعر أمل دنقل.
و بعد، فإنّ المرءَ ليكتبُ عملَه و يتعبُ عليه، و ما إن يمرّ عليه أيامٌ قلائلُ حتى تهاجمه جنودُ الرّغبة في تطوير عمله و الإضافة عليه و حذف شيءٍ منه، و هذا شأوُ الإنسان السّاعي أبداً – دونَ وعي – إلى الكمال الذي لا يُبلَغ.
و إنّا إذْ نستمتعُ بعناء البحث نتوجّهُ بالشّكر الجزيل إلى أستاذِنا الدكتور محمّد بصل الذي قدّم لنا كلَّ المساعدة الممكنة و التسهيلات في الحصول على الكتب، فجزاه اللهُ عنّا أحسنَ الجزاء.
و اللهُ من وراء القصد
زاهر جميل قط
اللاذقية 17 تموز 2005
أولاً : القسم النظري :
1- الأسلوبية بوصفها منهجاً :
إذا كان لكلّ إنسان بصمةٌ يختلف بها عن الآخر ( و إن تقاربت ملامحُ بعضها ) فإنّ الأسلوبَ بصمةٌ لصاحبه نستطيع أن نعرفَه من خلاله.
فالأديب و الكاتبُ عموماً يتخذ لنفسه طريقةً في الكتابة هي حصيلةُ ثقافته و فكره و معتقداته و ذائقته الجمالية، تأخذ شكلَها تباعاً بين أوراقه، فالأسلوب ( طريقةُ الكتابة أو الإنشاء أو طريقةُ اختيار الألفاظ و تأليفها للتعبير بها عن المعاني قصْدَ الإيضاح و التأثير ). (1)
من هنا اهتمّتِ اللسانياتُ الحديثة بدراسة هذا الأمر، فنشأ ما سُمِّيَ علمَ الأسلوب أو الأسلوبية، و عُدّتِ الأسلوبيةُ ابناً شرعياً للبلاغة ( 2 )، إلا أنّ البلاغة علمٌ معياريٌ يرسل الأحكام التقييمية و يرمي إلى تعليم مادته، بينما تنفي الأسلوبيةُ عن نفسها كلَّ معيارية و تعزف عن إرسال الأحكام التقييمية ( 3 )، كما يمكننا أن نلحظَ أنّ البلاغة تحددّ كيف يكونُ الكلامُ جميلاً ذا أثرٍ فنيٍّ فهي تعليمية، على حين أنّ الأسلوبية تتجه إلى النص بعد إنجازه لدراسة ميّزاته الأسلوبية فهي تنحو نحوَ التوصيف و تبتعد عن التقييم كشأن المناهج اللسانية الأخرى. و إذا كانت البلاغةُ ( علماً فيما نتلقّاه بالإحاطة و التعلّم و الإتقان من بحوثها و أبوابها و فروع ذلك – و هي فنٌّ في حسن استعمال هذه الوجوه لرفع قدرة الأداء على الإشراف و العمق و الإغناء و التأثير ) ( 4 ) فإنّ الأسلوبيةَ بوصفها منهجاً له ضوابطُه و آلياتُه كما يقول رومان جاكبسون ( بحثٌ عمّا يتميّز به الكلامُ الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، و عن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً ) ( 5 ) فهي تُعْنى بطريقة القول، و ما يعتريها من مجازٍ و تقديمٍ و تأخيرٍ و انزياح ... إلخ
إذاً نميّز هنا بين الأسلوب بوصفه طريقةً في التعبير، و الأسلوبية بوصفها منهجاً في قراءة النّصوص.
إنّ مقولةَ الأديب الفرنسي بيفون ( 1 ) : ( الرّجل هو الأسلوب ) تدلّ على أنّ اللغة في صياغتها و نظام الأفكار التي تحملها إنما تكشفُ عن شخصية صاحبها ( 2 ).
فالأسلوبُ هو ربطُ الألفاظ إلى بعضها لتشكّل نسيجاً يتسم بمميّزاتٍ تميّزه عن أسلوبٍ آخر، فهو حدَثٌ يمكن ملاحظتُه، ( إنّه لسانيٌّ لأنّ اللغةَ أداةُ بيانه، و هو نفسيٌّ لأنّ الأثرَ غايةُ حدوثه، و هو اجتماعيٌّ لأنّ الآخرَ ضرورةُ وجوده ) ( 3 ).
و قد تناول اللسانيون الأسلوبَ و الأسلوبية تحليلاً و تعريفاً، ولعلّ معظمَها يتفق على أنّ الأسلوبَ طريقةٌ في التعبير و استخدام اللغة، و الأسلوبية منهجٌ وصفيّ للنصوص يتكِئ على البلاغة و لا يقف عند حدودها بل يتخطّاها ليتخذ طابعاً علمياً له أسسه و قوانينه. و قد تأسست قواعدُ الأسلوبية على يد أحد تلاميذ دي سوسير هو ( شارل بالي ) ( 4 ) الذي يرى أنّ اللغة ( تتكون من نظامٍ لأدوات التعبير التي تتكفّل بإبراز الجانب الفكري من الإنسان، و ليست مهمة اللغة مقصورةً على الناحية الفكرية وحدها، بل إنّها تعمل أيضاً على نقل الإحساس و العاطفة ) ( 5 ). فدورُ الأسلوب يكون في إيصال أمرين اثنين: الفكرة و الإحساس، و غاية الأسلوبية هنا الكشف عن الخصائص الفنية المميّزة للنّص، و ربط هذه الخصائص و المميّزات بالدلالات المترتّبة عليها.
إنّ التعامل مع اللغة بتقنية معيّنة تقوم على إخراج المفردة عن معناها المعجمي إلى معنى جديدٍ ذي دلالة يشكّل جزءاً من الأسلوب الذي يتّسم به كاتبٌ ما، ( فالذي يقرأ الأدبَ و منه الشعرُ يدرك بسهولة أنه لعبٌ لغويٌ سواءٌ أكان لعباً ضرورياً تحتّمه إمكاناتُ اللغة المحدودةُ أم كان لعباً اختيارياً ) ( 6 ).
و هذا يعني أنّ المجاز يساعد على إيضاح القصد و التأثير، لذلك يلجأ الكاتب إمّا مضطرّاً إلى هذا لأنّ اللغة العادية لا تكفي لإيضاح ما يجول في نفسه، أو يتخذ هذا المجاز شكلَ التزيين الموظّف و هو ما أطلق عليه الدكتور محمد مفتاح ( لعباً اختيارياً ).
إنّ طريقة استخدام اللغة التي تقف الأسلوبيةُ على خصائصها تعطيها نفسَاً شعرياً، فالكاتب عندما يلجأ إلى أسلوب ٍما قاصداً منه التوضيحَ والتأثير إنّما يستعملُ الانزياحاتِ والاستعاراتِ وأشكالاً أسلوبيةً أخرى كالتكرار والتقديم والتأخير والرمز وغيرها، وهذا ما يجعل اللغةَ تنحو نحوَ الشعرية، يقول أدونيس: ( إنَّ الفرقَ بين لغة الشعر والنثر ليس في الوزن بل في طريقةِ استخدام اللغة، النثرُ يستخدم النظامَ العاديَّ للغة أي يستخدم الكلمةَ لما وُضعت له أصلاً، أمّا الشعرُ فيغتصب أو يفجّر هذا النظام، أي يحيد بالكلمات عما وُضعت له أصلاً )( 1 ). واضحٌ أنَّ أدونيس لا يقصد كلَّ النثر هنا، لأنَّ هناك نثراً يقومُ على اللغة الشعرية، وإنّما المقصودُ بالنثر هنا الذي يستخدم اللغةَ دون انزياح أو استعمال لأساليب البلاغة لأنّه لا يرمي إلى التأثير بل إلى الإيضاح وتبيان المقصود فقط. ومن جانب آخر نجد أنَّ هناك علاقةً قائمةً بين الأسلوبية والشعرية، فشعريةُ جاكبسون مثلاً تدرس ضمنَ نطاقٍ منحى أسلوبيّاً معيّناً يتمثّل هذا المنحى بالأسلوبية التي تقرّر أنّ ماهيّة الأسلوب تتحدّد بنسيجِ الرّوابط بين الطّائفتين التعبيريّتين في الخطاب الأدبي: طاقة الأخبار * وطاقة التضمين ( 2 ).
فالأسلوب الذي هو النسيج الجامع للمفردات يخبر ويضمِّن مقصدَه في إطارٍ من التأثير الذي يساهم في الارتقاء بعملية التفاعل بين المرسل والمتلقي.
2- آليات التحليل الأسلوبي :
إذا كان علمُ اللغة يدرس ما يقال فإنّ الأسلوبية تدرس كيفيةَ ما يقال مستخدمةً الوصفَ و التحليل ( 1 )، و على هذا الأساس يكون توجّهُ الأسلوبية نحو تحليل النص لاستكشاف العنصر التأثيري للأدوات البلاغية التي يوظّفها الكاتبُ في نصّه.
و المهمُّ الإشارةُ إلى أنّ التناول الأسلوبيّ إنّما ينصبّ على اللغة الأدبية لأنها تمثّلُ التنوّعَ الفرديّ المتميّزَ في الأداء بما فيه من وعيٍٍٍ و اختيارٍ، و بما فيه من انحرافٍٍٍ عن المستوى العاديّ المألوف بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية و التي يتبادلها الأفراد بشكل دائم و غير متميّز ( 2 ) .
تستند الأسلوبية إلى ازدواجية الخطاب حيث نجد مجموعةً من الألفاظ يمكن للمتكلّم أن يأتيَ بواحدٍ منها في كلّ جملة من جمل الكلام ( 3 )، و يمكن أن تقومَ واحدةٌ مكان الأخرى ،فاختيارُ المتكلّم و الكاتب ( المرسل ) هذه المفردةَ دون الأخرى يخضع لخصوصية أسلوبه، فتدرس الأسلوبية هذا الاختيارَ و تبيّن دلالتَه و أثرَه الفنيَّ في المرسَل إليه، فمجالُ الأسلوبية يكون مقتصراً على مكوِّنات النص الداخلية فلا يتعدّاها إلى ما هو خارجيّ من العوامل المؤثرة.
و ينطلق البحثُ الأسلوبيّ في مقاربته النصَّ الأدبيّ من المقولات الآتية:
الاختيار - التركيب - الانزياح
ً1- الاختيار :
يقصد به انتقاءُ المنشئ لسماتٍ لغويةٍ معيّنة بغرض التعبير عن موقفٍ معيّن ( 4 )، و هذا الانتقاء يجعل من الأسلوب عملاً واعياً لأنّ اختيارَ المبدع هذا اللفظَ أو التركيب دون غيره إنّما لأنّه أقدرُ على حمل مراده إلى حيّز الورق حسبَ تقدير هذا المبدع.
و للاختيار صورٌ متعدِّدةٌ ،فمنها ما يُختار على مستوى اللفظ أو المعجم و منها على مستوى التركيب ( النحو ) فيغدو الأسلوبُ بذلك استثماراً و توظيفاً للطاقات الكامنة في اللغة ( 5 ) .
و من صور الاختيار ما ينشأ من التعبيرات المجازية و هذا يتجاوز المفردة لينظر إلى التركيب مجملاً، فمن أمثلته قول بشارة الخوري:
انشروا الهولَ و صبُّوا نارَكمْكيفما شئْتُمْ فلن تلقَوْا جبَانا
يمكن أن نجدَ على محور الاختيار فيما يتعلّق بالتركيب ( صبّوا نارَكم ) بدائلَ كثيرةً مثل: أطلقوا، ارموا، اقذفوا، صبّوا ... إلخ، لكنّ الشاعرَ آثر( صبّوا) ظنّاً منه أنّ الفعلَ (صبّ) الذي يوحي بالغزارة يمكن أن يؤدّيَ المرادَ أكثرَ ممّا تؤدّيه بقيةُ الأفعال المنتظرة على جدول الاختيار.
2ً- التركيب :
يقوم التركيب بنظم الكلمات المختارة في الخطاب الأدبي متوسّلاً في ذلك بعمليتي الحضور و الغياب، الحضور للكلمات المختارة و الغياب للكلمات الأخرى المصفوفة في جدول الاختيار، و الدخول في علاقة جدلية أو استبدالية، فالكلمات الأخرى تتوّزع غيابياً في شكل تداعيات للكلمات المنتمية لنفس الجدول الدلالي ( 1 ).
( إنّ صورة الغياب هذه تعطي للأفعال معانٍ* إضافيةً لأنها بالنصّ دائماً حافّةٌ، كما تعطيها أيضاً قيمةَ الشهادة على أسلوبية الجملة ) ( 2 ).
فالتحليل هو دراسة الانسجام الحاصل بين المفردات و الأثر الجمالي و الفني الذي يتركه في ذهن المتلقّي، و على هذا يكون الأسلوبُ عند ( جاكبسون ) تطابقاً لجدول الاختيار على جدول التأليف أو التركيب ( 3 ).
إنّ الدّرسَ الأسلوبيّ لا يقف عند توصيف بنية التركيب في الخطاب الأدبي بل يستقصي من خلال ما يتفرّع عنها من أشكالٍ تعبيرية كالتقديم و التأخير و الحذف و الذكر و التعريف و التنكير ... إلخ فكلّ شكلٍٍ من هذه الأشكال هو خاصيةٌ أسلوبية ذاتُ دلالة خاصّة بتركيبها ضمن النّسق اللغوي.
3ً- الانزياح :
ورد مصطلحُ الانزياح كثيراً في الدراسات القديمة و الحديثة و اتخذ أكثر من تسمية منها الانحراف و العدول و الإبداع و التغيير و الخروج ... إلخ ( 1 ). و هو يُعدُّ مؤشّراً على أدبيّة النصّ و شهرته لأنّ الخروج عن النسيج اللغوي العادي في أيّ مستوى من مستوياته ( الصّوتي، التركيبي، الأسلوبي، البلاغي ) يمثّل بحدّ ذاته حدثاً أسلوبياً ( 2 ).
و الانزياحُ هو الرّكن الذي بني عليه جان كوهن كتابَه ( بنية اللغة الشعرية ) إذ عدّ الانزياح مبدأ الشعرية، و الانزياحُ لا يكون شعريّاً إلا إذا كان محكوماً بقانون يجعله مختلفاً عن غير المعقول ( 3 )، و هذا ما يتجلّى في علاقةٍ مفردةٍ ما مع المفردات الأخرى ضمن السّياق، فكلمة ( السّماء ) لا تشكّل انزياحاً إلا إذا أُسند إليها فعلٌ لم يعتدْ أن يُسندَ إليها مثل ( بكت ) ليتشكّل انزياحٌ يُسمّى في البلاغة استعارةً ،فعلاقة( السّماء) مع (بكت) يمكن دراستُها ضمن مجال الدّرس الأسلوبي، فوظيفتُه أي ( علم الأسلوب ) تبيانُ الوظيفة التأثيرية و الجمالية و الدّلالية لهذا الانزياح.
ثانياً: القسم الإجرائي :
نتناول في هذا القسم نصّ ( كلمات سبارتكوس الأخيرة ) لأمل دنقل، و سنحاول الوقوف على أبرز الخصائص الأسلوبية لتحليلها و دراستها، و سنعمد في دراستنا هذه إلى الوصف اللغوي المجرّد للمثيرات اللغوية ذات القيمة الأسلوبية، ثمّ وصف التأثيرات الفنية و الجمالية و الدلالية لتلك المثيرات، فالوصف الموضوعي ( يحددّ السمات المميزة للتراكيب النحوية عند كاتبٍ ما، ثمّ يعمل على اكتشاف ما إذا كانت هذه المميزات التركيبية النحوية – أو بعضها – ترتبط بالتنظيم الدّلالي للنتاج الأدبيّ ) ( 1 )، و استعنّا بالإحصاء الذي يقوم به الباحثُ الأسلوبيّ لرصد عدد المثيرات الأسلوبية و دلالتِها المترتّبة على ذلك التكرار.
1- الفعل و قيمته الدلالية * :
تنوّع استخدامُ الشاعر للجملة الفعلية، فقد جاء النصّ متحرّكاً بين الفعل الماضي و الأمر و المضارع.
لقد تكرّر استخدامُ الفعل الماضي سبعاً و ثلاثين مرّةً، على حين وردَ المضارعُ اثنتين و أربعين مرّةً، و جاء فعل الأمر ( بما فيه المضارع المسبوق بطلب ) اثنتين و عشرين مرّة. إنّ الإكثار من استخدام الفعل الماضي عموماً فيه دلالةٌ على الحاضر المَعيش، فالذي نراه متذمّراً من واقعه يلجأ إلى الماضي و مطيّتُه الفعلُ الماضي الذي يحمله إلى ذلك الزمن الجميل بالنسبة له. و تأتي صيغ الأمر بعددها المحصى – و هي الأقل – لأنّ القائل – و هو سبارتكوس – ليس واثقاً بالناس الذي رضُوا بحياة الاستعباد، و هو شبهُ يائسٍ لأنّ الفعل المضارع الذي تكرّر اثنتين و أربعين مرّةً يمكن تقسيمُه على فترتين، فترة الحاضر و حصّتُها خمسٌ و ثلاثون مرّة، و فترة المستقبل و حصّتها سبعُ مرّات، إنّ الفعلَ الحاضر يدلّ على الحركة ( يبتسم، يحملها، ينسج، يرثون ... ) و لعلّ المقام يحتاج إلى هذه الحركة وسطَ سكون الخائفين من القيصر، أمّا المستقبل فأفعاله الدّالة عليه قليلةٌ لأنّ وجودَه مهدّدٌ بالزّوال حسبَ رؤية سبارتكوس، لأنّ الاستبداد لن يشنقَ سبارتكوس وحدَه، و إنّما سيشنق كلَّ الثائرين، و بذلك يغدو المستقبلُ للموت و ليس للحياة، و لعلّ هذا يفسّر لنا كثرةَ استخدام الماضي و إلى جانبه المضارع الحاضر.
و يلفت نظرَنا هنا التوالي الكيفي للأفعال و ليس التوالي الكمّي، فالحركة الناتجة عن الأفعال و حدوثها تطبع مشاهد النص بالطابع الدرامي، فلا تعبّر الأفعال عن مقامها منفصلةً، و إنّما يشكّل كلُّ فعلٍ إلى جانب الأفعال الأخرى دراميةً عاليةَ الأداء في النصّ :
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ، إنّي أعترفْ
دعْني على مشنقتي ألثمْ يدَكْ
ها أنذا أقبّلُ الحبلَ الذي في عنقي يلتفّ ( ص 150 )
فالأفعال الواردة سابقاً فيها حركةٌ و صراع ،فمن الخطأ إلى الاعتراف إلى لثم اليد و التقبيل و التفاف الحبل ... إلخ. كما يمكن أن نجدَ المقابلةَ بين الماضي و المضارع ظاهرةً في أكثرَ من مكانٍ في النصّ :
قد أخطأتُ إنّي أعترف
إذا التقتْ عيونُكم ... يبتسمُ الفناء ..
سيزيفُ لم تعدْ على أكتافه الصّخرةْ
يحملُها الذين يُولدون في مخادعِ الرّقيقْ ( ص 148 )
و لعلّ هذه المقابلةَ مقارنةٌ يائسةٌ بين ماضٍ مطلوب و حاضرٍ ميئوسٍ منه، و العلائقُُ بين الأفعال هنا منطقيّةٌ، فالخطأُ في الماضي يقتضي الاعترافَ في الحاضر، و الالتقاءُ ( بما فيه من دلالاتٍ تحيل إلى الفرح غالباً ) قد يؤدّي إلى الابتسام.
و يبرز دورُ الفعل في استخدامِه على المستوى المجازي في تصوير المجرّدِ وتبيان هيئتِه ، كما في قوله (يبتسم الفناء- ينسج الرّدى) إذ يصبحُ الشّيءُ قابلاً للإبصار ، ومن اللافت للنظر هنا التخصيص في دلالة بعض الأفعال كما في قوله:
و جبهتي بالموتِ محنيّةْ
لأنّني لم أحنِها حيّه ْ ( ص 147 )
فالفعل (يحني) يُستخدم عادةً مع القامة، و الجبهةُ جزءٌ من القامة، فالتخصيص هنا حصر الانحناء لهذا الجزء المقدس في الإنسان. و قد اختار الشّاعرُ من محور الاختيار هذه المفردةَ لما للجبهة من شرفٍ و سموٍّ بالنسبة لجسم الإنسان، كما نجد بعضَ الأفعال عند أمل دنقل في هذا النصّ ممنوعةً من التعدّي إلى مفعولها مباشرةً، إذ يأتي بحرف جرّ لغايةٍ بلاغية:
( يعبرون في الميدانِ مُطرقين )
فاللغةُ تسمح له أن يقول ( يعبرون الميدانَ ) دون الحاجة إلى حرف الجرّ، و لكنّ ( في ) هذه و هي للاحتواء الظّرفي المكانيّ جعلتِ العبورَ صعباً لم ينتهِ، فلو قال ( عبَرَ الميدان ) عنى تحقُّقَ العبور، و لكنّ العبورَ مستمرٌ و غيرُ مُنتهٍ و هو عبورٌ يائسٌ لأولئك المسحوقين بين قطبيْ رحى القيصر.
نجدُ الاتساعَ أيضاً في استخدام الفعل ( ترفعون ) في قوله ( و لترفعوا عيونَكم إليّ ) فالأصلُ ( لترفعوا رؤوسَكم ) و العين جزءٌ من الرّأس، و رفعُها يقتضي رفعَ الرأس، و هو موقفٌ يبحثُ عنه سبارتكوس للوقوف ضدّ استعباد القيصر للنّاس.
كما نجدُ حضوراً لأفعال الحواسّ كما في :
فلنْ تشمَّ في الفروعِ نكهةَ الثّمرْ
فتقطعُ الصّحراءَ باحثاً عنِ الظّلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ و الرّمالْ
فمشاركةُ أكثرَ من حاسّةٍ يساهمُ في الإحاطة بالموضوع، فلدينا ( تشمّ، ترى ،الهجير الذي يحرّك حاسّة اللمس )، و الحواسّ – كما نعلم – وسائلُ العقل لإدراك العالم الخارجيّ، و استحضارُ هذه الحواسّ الثلاث يساعدُ في بناء موقفٍ أوعى، لمنع القيصر من قطعِ الشّجر و نصبِها مشانقَ.
كوّنتِ اللسانياتُ الحديثةُ مادّةً خاماً تشكّلتْ منها و تطوّرت عنها مناهجُ جديدةٌ نظر كلٌّ منها إلى النّصّ الأدبيّ من جهة، إلاّ أنّها جميعاً تعتمدُ اللغةَ أساساً لها في قراءتها النصَّ الأدبيّ، فمن البنيوية بفروعها إلى التفكيكية و من الأسلوبيّة و التداوليّة إلى الشّعرية إلى السّيميائية.
و هذا التعدّدُ في المدارس اللسانية ما كان إلا إغناءً لتعدّدِ قراءاتِ النصّ الأدبيّ، إذ يمكنُ أن نتناولَ النصَّ من عدّة مناحٍ تبعاً للمنهج المُختار للقراءة، فبات النصُّ نصوصاً أخرى لم نكنْ لنراها إلا بعدسة تلك المدارسِ المتنوّعة.
و قد وقع اختيارُنا على الأسلوبيّة لما لها من رؤيةٍ عميقةٍ للنّصّ الأدبيّ إذ تتناولُه بلاغيّاً و جماليّاً و دلاليّاً، و بذلك تغدو مكوّناتُ الجملة تحملُ معانيَ مسطَّحةً، و أخرى عميقةً تصل إليها الدّراسةُ الجادّة.
فعمدْنا في بحثنا إلى قسمين، الأوّل نظريّ قُسّم أيضاً على قسمين: الأوّل تناولْنا فيه الأسلوبيةَ في نشأتها و مفهومها و كيفيّة تعاملها مع النّصّ الأدبيّ و كلّ ذلك حاولْنا فيه الاختصارَ لتكونَ المعلوماتُ مُوجزةً مفيدةً تحاولُ قدْرَ الإمكان تقديمَ مفهوم الأسلوبيّة بشكلٍ قريب. و القسمُ الثّاني تكلَّمْنا فيه على آلياتِ التحليل الأسلوبيّ، و أوضحْنا مصطلحاتِ ( الاختيار، التركيب، الانزياح ) حادينا فيه الإيجازُ و الدّخولُ إلى الفكرة مباشرةً و عدمُ الدّوران حولَها.
أمّا القسمُ الثاني من البحث فهو القسمُ الإجرائيّ، و قد طبَّقْنا فيه بعضَ آلياتِ التحليل الأسلوبيّ على نصٍّ للشّاعر المصري أمل دنقل، و قد وقعَ اختيارُنا على هذا النّصّ و هذا الشّاعر تحديداً لما عُرِفَ عنه من شُغْلٍ على اللغة، فتتداخلُ في نصّه العلاقاتُ بين الجمل و التراكيب لتشكِّلَ بنىً عميقةً تخدمُ المعنى العامَّ للنّصّ، و قد وقفْنا على بعض الخصائصِ الأسلوبيّة في النصّ مُحاولين دراسةَ الدّلالة المترتّبة على استخدامِها من مثل ( التقديم و التأخير، و استخدام الأفعال بأنواعها، و الضّمائر، و الألوان ... إلخ ).
و ختمْنا بحثَنا بخاتمةٍ حملتِ النتائجَ التي توصّلْنا إليها، ثمّ ثبتاً بالمصادرِ و المراجع التي أفدْنا منها في البحث.
و قد واجهْنا بعضَ العقبات في بحثنا، و لعلّ أهمَّها عدمُ الحصول على تطبيقاتٍ أسلوبيّة على نصوص أدبيّة، فكلُّ ما استطعْنا الاطّلاعَ عليه إنّما كان تنظيراتٍ أسلوبيّة. لذلك جهدْنا في فهم تلك التنظيرات و الخروج منها بفهمٍ متواضعٍ طبّقناه على نصّ الشّاعر أمل دنقل.
و بعد، فإنّ المرءَ ليكتبُ عملَه و يتعبُ عليه، و ما إن يمرّ عليه أيامٌ قلائلُ حتى تهاجمه جنودُ الرّغبة في تطوير عمله و الإضافة عليه و حذف شيءٍ منه، و هذا شأوُ الإنسان السّاعي أبداً – دونَ وعي – إلى الكمال الذي لا يُبلَغ.
و إنّا إذْ نستمتعُ بعناء البحث نتوجّهُ بالشّكر الجزيل إلى أستاذِنا الدكتور محمّد بصل الذي قدّم لنا كلَّ المساعدة الممكنة و التسهيلات في الحصول على الكتب، فجزاه اللهُ عنّا أحسنَ الجزاء.
و اللهُ من وراء القصد
زاهر جميل قط
اللاذقية 17 تموز 2005
أولاً : القسم النظري :
1- الأسلوبية بوصفها منهجاً :
إذا كان لكلّ إنسان بصمةٌ يختلف بها عن الآخر ( و إن تقاربت ملامحُ بعضها ) فإنّ الأسلوبَ بصمةٌ لصاحبه نستطيع أن نعرفَه من خلاله.
فالأديب و الكاتبُ عموماً يتخذ لنفسه طريقةً في الكتابة هي حصيلةُ ثقافته و فكره و معتقداته و ذائقته الجمالية، تأخذ شكلَها تباعاً بين أوراقه، فالأسلوب ( طريقةُ الكتابة أو الإنشاء أو طريقةُ اختيار الألفاظ و تأليفها للتعبير بها عن المعاني قصْدَ الإيضاح و التأثير ). (1)
من هنا اهتمّتِ اللسانياتُ الحديثة بدراسة هذا الأمر، فنشأ ما سُمِّيَ علمَ الأسلوب أو الأسلوبية، و عُدّتِ الأسلوبيةُ ابناً شرعياً للبلاغة ( 2 )، إلا أنّ البلاغة علمٌ معياريٌ يرسل الأحكام التقييمية و يرمي إلى تعليم مادته، بينما تنفي الأسلوبيةُ عن نفسها كلَّ معيارية و تعزف عن إرسال الأحكام التقييمية ( 3 )، كما يمكننا أن نلحظَ أنّ البلاغة تحددّ كيف يكونُ الكلامُ جميلاً ذا أثرٍ فنيٍّ فهي تعليمية، على حين أنّ الأسلوبية تتجه إلى النص بعد إنجازه لدراسة ميّزاته الأسلوبية فهي تنحو نحوَ التوصيف و تبتعد عن التقييم كشأن المناهج اللسانية الأخرى. و إذا كانت البلاغةُ ( علماً فيما نتلقّاه بالإحاطة و التعلّم و الإتقان من بحوثها و أبوابها و فروع ذلك – و هي فنٌّ في حسن استعمال هذه الوجوه لرفع قدرة الأداء على الإشراف و العمق و الإغناء و التأثير ) ( 4 ) فإنّ الأسلوبيةَ بوصفها منهجاً له ضوابطُه و آلياتُه كما يقول رومان جاكبسون ( بحثٌ عمّا يتميّز به الكلامُ الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، و عن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً ) ( 5 ) فهي تُعْنى بطريقة القول، و ما يعتريها من مجازٍ و تقديمٍ و تأخيرٍ و انزياح ... إلخ
إذاً نميّز هنا بين الأسلوب بوصفه طريقةً في التعبير، و الأسلوبية بوصفها منهجاً في قراءة النّصوص.
إنّ مقولةَ الأديب الفرنسي بيفون ( 1 ) : ( الرّجل هو الأسلوب ) تدلّ على أنّ اللغة في صياغتها و نظام الأفكار التي تحملها إنما تكشفُ عن شخصية صاحبها ( 2 ).
فالأسلوبُ هو ربطُ الألفاظ إلى بعضها لتشكّل نسيجاً يتسم بمميّزاتٍ تميّزه عن أسلوبٍ آخر، فهو حدَثٌ يمكن ملاحظتُه، ( إنّه لسانيٌّ لأنّ اللغةَ أداةُ بيانه، و هو نفسيٌّ لأنّ الأثرَ غايةُ حدوثه، و هو اجتماعيٌّ لأنّ الآخرَ ضرورةُ وجوده ) ( 3 ).
و قد تناول اللسانيون الأسلوبَ و الأسلوبية تحليلاً و تعريفاً، ولعلّ معظمَها يتفق على أنّ الأسلوبَ طريقةٌ في التعبير و استخدام اللغة، و الأسلوبية منهجٌ وصفيّ للنصوص يتكِئ على البلاغة و لا يقف عند حدودها بل يتخطّاها ليتخذ طابعاً علمياً له أسسه و قوانينه. و قد تأسست قواعدُ الأسلوبية على يد أحد تلاميذ دي سوسير هو ( شارل بالي ) ( 4 ) الذي يرى أنّ اللغة ( تتكون من نظامٍ لأدوات التعبير التي تتكفّل بإبراز الجانب الفكري من الإنسان، و ليست مهمة اللغة مقصورةً على الناحية الفكرية وحدها، بل إنّها تعمل أيضاً على نقل الإحساس و العاطفة ) ( 5 ). فدورُ الأسلوب يكون في إيصال أمرين اثنين: الفكرة و الإحساس، و غاية الأسلوبية هنا الكشف عن الخصائص الفنية المميّزة للنّص، و ربط هذه الخصائص و المميّزات بالدلالات المترتّبة عليها.
إنّ التعامل مع اللغة بتقنية معيّنة تقوم على إخراج المفردة عن معناها المعجمي إلى معنى جديدٍ ذي دلالة يشكّل جزءاً من الأسلوب الذي يتّسم به كاتبٌ ما، ( فالذي يقرأ الأدبَ و منه الشعرُ يدرك بسهولة أنه لعبٌ لغويٌ سواءٌ أكان لعباً ضرورياً تحتّمه إمكاناتُ اللغة المحدودةُ أم كان لعباً اختيارياً ) ( 6 ).
و هذا يعني أنّ المجاز يساعد على إيضاح القصد و التأثير، لذلك يلجأ الكاتب إمّا مضطرّاً إلى هذا لأنّ اللغة العادية لا تكفي لإيضاح ما يجول في نفسه، أو يتخذ هذا المجاز شكلَ التزيين الموظّف و هو ما أطلق عليه الدكتور محمد مفتاح ( لعباً اختيارياً ).
إنّ طريقة استخدام اللغة التي تقف الأسلوبيةُ على خصائصها تعطيها نفسَاً شعرياً، فالكاتب عندما يلجأ إلى أسلوب ٍما قاصداً منه التوضيحَ والتأثير إنّما يستعملُ الانزياحاتِ والاستعاراتِ وأشكالاً أسلوبيةً أخرى كالتكرار والتقديم والتأخير والرمز وغيرها، وهذا ما يجعل اللغةَ تنحو نحوَ الشعرية، يقول أدونيس: ( إنَّ الفرقَ بين لغة الشعر والنثر ليس في الوزن بل في طريقةِ استخدام اللغة، النثرُ يستخدم النظامَ العاديَّ للغة أي يستخدم الكلمةَ لما وُضعت له أصلاً، أمّا الشعرُ فيغتصب أو يفجّر هذا النظام، أي يحيد بالكلمات عما وُضعت له أصلاً )( 1 ). واضحٌ أنَّ أدونيس لا يقصد كلَّ النثر هنا، لأنَّ هناك نثراً يقومُ على اللغة الشعرية، وإنّما المقصودُ بالنثر هنا الذي يستخدم اللغةَ دون انزياح أو استعمال لأساليب البلاغة لأنّه لا يرمي إلى التأثير بل إلى الإيضاح وتبيان المقصود فقط. ومن جانب آخر نجد أنَّ هناك علاقةً قائمةً بين الأسلوبية والشعرية، فشعريةُ جاكبسون مثلاً تدرس ضمنَ نطاقٍ منحى أسلوبيّاً معيّناً يتمثّل هذا المنحى بالأسلوبية التي تقرّر أنّ ماهيّة الأسلوب تتحدّد بنسيجِ الرّوابط بين الطّائفتين التعبيريّتين في الخطاب الأدبي: طاقة الأخبار * وطاقة التضمين ( 2 ).
فالأسلوب الذي هو النسيج الجامع للمفردات يخبر ويضمِّن مقصدَه في إطارٍ من التأثير الذي يساهم في الارتقاء بعملية التفاعل بين المرسل والمتلقي.
2- آليات التحليل الأسلوبي :
إذا كان علمُ اللغة يدرس ما يقال فإنّ الأسلوبية تدرس كيفيةَ ما يقال مستخدمةً الوصفَ و التحليل ( 1 )، و على هذا الأساس يكون توجّهُ الأسلوبية نحو تحليل النص لاستكشاف العنصر التأثيري للأدوات البلاغية التي يوظّفها الكاتبُ في نصّه.
و المهمُّ الإشارةُ إلى أنّ التناول الأسلوبيّ إنّما ينصبّ على اللغة الأدبية لأنها تمثّلُ التنوّعَ الفرديّ المتميّزَ في الأداء بما فيه من وعيٍٍٍ و اختيارٍ، و بما فيه من انحرافٍٍٍ عن المستوى العاديّ المألوف بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية و التي يتبادلها الأفراد بشكل دائم و غير متميّز ( 2 ) .
تستند الأسلوبية إلى ازدواجية الخطاب حيث نجد مجموعةً من الألفاظ يمكن للمتكلّم أن يأتيَ بواحدٍ منها في كلّ جملة من جمل الكلام ( 3 )، و يمكن أن تقومَ واحدةٌ مكان الأخرى ،فاختيارُ المتكلّم و الكاتب ( المرسل ) هذه المفردةَ دون الأخرى يخضع لخصوصية أسلوبه، فتدرس الأسلوبية هذا الاختيارَ و تبيّن دلالتَه و أثرَه الفنيَّ في المرسَل إليه، فمجالُ الأسلوبية يكون مقتصراً على مكوِّنات النص الداخلية فلا يتعدّاها إلى ما هو خارجيّ من العوامل المؤثرة.
و ينطلق البحثُ الأسلوبيّ في مقاربته النصَّ الأدبيّ من المقولات الآتية:
الاختيار - التركيب - الانزياح
ً1- الاختيار :
يقصد به انتقاءُ المنشئ لسماتٍ لغويةٍ معيّنة بغرض التعبير عن موقفٍ معيّن ( 4 )، و هذا الانتقاء يجعل من الأسلوب عملاً واعياً لأنّ اختيارَ المبدع هذا اللفظَ أو التركيب دون غيره إنّما لأنّه أقدرُ على حمل مراده إلى حيّز الورق حسبَ تقدير هذا المبدع.
و للاختيار صورٌ متعدِّدةٌ ،فمنها ما يُختار على مستوى اللفظ أو المعجم و منها على مستوى التركيب ( النحو ) فيغدو الأسلوبُ بذلك استثماراً و توظيفاً للطاقات الكامنة في اللغة ( 5 ) .
و من صور الاختيار ما ينشأ من التعبيرات المجازية و هذا يتجاوز المفردة لينظر إلى التركيب مجملاً، فمن أمثلته قول بشارة الخوري:
انشروا الهولَ و صبُّوا نارَكمْكيفما شئْتُمْ فلن تلقَوْا جبَانا
يمكن أن نجدَ على محور الاختيار فيما يتعلّق بالتركيب ( صبّوا نارَكم ) بدائلَ كثيرةً مثل: أطلقوا، ارموا، اقذفوا، صبّوا ... إلخ، لكنّ الشاعرَ آثر( صبّوا) ظنّاً منه أنّ الفعلَ (صبّ) الذي يوحي بالغزارة يمكن أن يؤدّيَ المرادَ أكثرَ ممّا تؤدّيه بقيةُ الأفعال المنتظرة على جدول الاختيار.
2ً- التركيب :
يقوم التركيب بنظم الكلمات المختارة في الخطاب الأدبي متوسّلاً في ذلك بعمليتي الحضور و الغياب، الحضور للكلمات المختارة و الغياب للكلمات الأخرى المصفوفة في جدول الاختيار، و الدخول في علاقة جدلية أو استبدالية، فالكلمات الأخرى تتوّزع غيابياً في شكل تداعيات للكلمات المنتمية لنفس الجدول الدلالي ( 1 ).
( إنّ صورة الغياب هذه تعطي للأفعال معانٍ* إضافيةً لأنها بالنصّ دائماً حافّةٌ، كما تعطيها أيضاً قيمةَ الشهادة على أسلوبية الجملة ) ( 2 ).
فالتحليل هو دراسة الانسجام الحاصل بين المفردات و الأثر الجمالي و الفني الذي يتركه في ذهن المتلقّي، و على هذا يكون الأسلوبُ عند ( جاكبسون ) تطابقاً لجدول الاختيار على جدول التأليف أو التركيب ( 3 ).
إنّ الدّرسَ الأسلوبيّ لا يقف عند توصيف بنية التركيب في الخطاب الأدبي بل يستقصي من خلال ما يتفرّع عنها من أشكالٍ تعبيرية كالتقديم و التأخير و الحذف و الذكر و التعريف و التنكير ... إلخ فكلّ شكلٍٍ من هذه الأشكال هو خاصيةٌ أسلوبية ذاتُ دلالة خاصّة بتركيبها ضمن النّسق اللغوي.
3ً- الانزياح :
ورد مصطلحُ الانزياح كثيراً في الدراسات القديمة و الحديثة و اتخذ أكثر من تسمية منها الانحراف و العدول و الإبداع و التغيير و الخروج ... إلخ ( 1 ). و هو يُعدُّ مؤشّراً على أدبيّة النصّ و شهرته لأنّ الخروج عن النسيج اللغوي العادي في أيّ مستوى من مستوياته ( الصّوتي، التركيبي، الأسلوبي، البلاغي ) يمثّل بحدّ ذاته حدثاً أسلوبياً ( 2 ).
و الانزياحُ هو الرّكن الذي بني عليه جان كوهن كتابَه ( بنية اللغة الشعرية ) إذ عدّ الانزياح مبدأ الشعرية، و الانزياحُ لا يكون شعريّاً إلا إذا كان محكوماً بقانون يجعله مختلفاً عن غير المعقول ( 3 )، و هذا ما يتجلّى في علاقةٍ مفردةٍ ما مع المفردات الأخرى ضمن السّياق، فكلمة ( السّماء ) لا تشكّل انزياحاً إلا إذا أُسند إليها فعلٌ لم يعتدْ أن يُسندَ إليها مثل ( بكت ) ليتشكّل انزياحٌ يُسمّى في البلاغة استعارةً ،فعلاقة( السّماء) مع (بكت) يمكن دراستُها ضمن مجال الدّرس الأسلوبي، فوظيفتُه أي ( علم الأسلوب ) تبيانُ الوظيفة التأثيرية و الجمالية و الدّلالية لهذا الانزياح.
ثانياً: القسم الإجرائي :
نتناول في هذا القسم نصّ ( كلمات سبارتكوس الأخيرة ) لأمل دنقل، و سنحاول الوقوف على أبرز الخصائص الأسلوبية لتحليلها و دراستها، و سنعمد في دراستنا هذه إلى الوصف اللغوي المجرّد للمثيرات اللغوية ذات القيمة الأسلوبية، ثمّ وصف التأثيرات الفنية و الجمالية و الدلالية لتلك المثيرات، فالوصف الموضوعي ( يحددّ السمات المميزة للتراكيب النحوية عند كاتبٍ ما، ثمّ يعمل على اكتشاف ما إذا كانت هذه المميزات التركيبية النحوية – أو بعضها – ترتبط بالتنظيم الدّلالي للنتاج الأدبيّ ) ( 1 )، و استعنّا بالإحصاء الذي يقوم به الباحثُ الأسلوبيّ لرصد عدد المثيرات الأسلوبية و دلالتِها المترتّبة على ذلك التكرار.
1- الفعل و قيمته الدلالية * :
تنوّع استخدامُ الشاعر للجملة الفعلية، فقد جاء النصّ متحرّكاً بين الفعل الماضي و الأمر و المضارع.
لقد تكرّر استخدامُ الفعل الماضي سبعاً و ثلاثين مرّةً، على حين وردَ المضارعُ اثنتين و أربعين مرّةً، و جاء فعل الأمر ( بما فيه المضارع المسبوق بطلب ) اثنتين و عشرين مرّة. إنّ الإكثار من استخدام الفعل الماضي عموماً فيه دلالةٌ على الحاضر المَعيش، فالذي نراه متذمّراً من واقعه يلجأ إلى الماضي و مطيّتُه الفعلُ الماضي الذي يحمله إلى ذلك الزمن الجميل بالنسبة له. و تأتي صيغ الأمر بعددها المحصى – و هي الأقل – لأنّ القائل – و هو سبارتكوس – ليس واثقاً بالناس الذي رضُوا بحياة الاستعباد، و هو شبهُ يائسٍ لأنّ الفعل المضارع الذي تكرّر اثنتين و أربعين مرّةً يمكن تقسيمُه على فترتين، فترة الحاضر و حصّتُها خمسٌ و ثلاثون مرّة، و فترة المستقبل و حصّتها سبعُ مرّات، إنّ الفعلَ الحاضر يدلّ على الحركة ( يبتسم، يحملها، ينسج، يرثون ... ) و لعلّ المقام يحتاج إلى هذه الحركة وسطَ سكون الخائفين من القيصر، أمّا المستقبل فأفعاله الدّالة عليه قليلةٌ لأنّ وجودَه مهدّدٌ بالزّوال حسبَ رؤية سبارتكوس، لأنّ الاستبداد لن يشنقَ سبارتكوس وحدَه، و إنّما سيشنق كلَّ الثائرين، و بذلك يغدو المستقبلُ للموت و ليس للحياة، و لعلّ هذا يفسّر لنا كثرةَ استخدام الماضي و إلى جانبه المضارع الحاضر.
و يلفت نظرَنا هنا التوالي الكيفي للأفعال و ليس التوالي الكمّي، فالحركة الناتجة عن الأفعال و حدوثها تطبع مشاهد النص بالطابع الدرامي، فلا تعبّر الأفعال عن مقامها منفصلةً، و إنّما يشكّل كلُّ فعلٍ إلى جانب الأفعال الأخرى دراميةً عاليةَ الأداء في النصّ :
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ، إنّي أعترفْ
دعْني على مشنقتي ألثمْ يدَكْ
ها أنذا أقبّلُ الحبلَ الذي في عنقي يلتفّ ( ص 150 )
فالأفعال الواردة سابقاً فيها حركةٌ و صراع ،فمن الخطأ إلى الاعتراف إلى لثم اليد و التقبيل و التفاف الحبل ... إلخ. كما يمكن أن نجدَ المقابلةَ بين الماضي و المضارع ظاهرةً في أكثرَ من مكانٍ في النصّ :
قد أخطأتُ إنّي أعترف
إذا التقتْ عيونُكم ... يبتسمُ الفناء ..
سيزيفُ لم تعدْ على أكتافه الصّخرةْ
يحملُها الذين يُولدون في مخادعِ الرّقيقْ ( ص 148 )
و لعلّ هذه المقابلةَ مقارنةٌ يائسةٌ بين ماضٍ مطلوب و حاضرٍ ميئوسٍ منه، و العلائقُُ بين الأفعال هنا منطقيّةٌ، فالخطأُ في الماضي يقتضي الاعترافَ في الحاضر، و الالتقاءُ ( بما فيه من دلالاتٍ تحيل إلى الفرح غالباً ) قد يؤدّي إلى الابتسام.
و يبرز دورُ الفعل في استخدامِه على المستوى المجازي في تصوير المجرّدِ وتبيان هيئتِه ، كما في قوله (يبتسم الفناء- ينسج الرّدى) إذ يصبحُ الشّيءُ قابلاً للإبصار ، ومن اللافت للنظر هنا التخصيص في دلالة بعض الأفعال كما في قوله:
و جبهتي بالموتِ محنيّةْ
لأنّني لم أحنِها حيّه ْ ( ص 147 )
فالفعل (يحني) يُستخدم عادةً مع القامة، و الجبهةُ جزءٌ من القامة، فالتخصيص هنا حصر الانحناء لهذا الجزء المقدس في الإنسان. و قد اختار الشّاعرُ من محور الاختيار هذه المفردةَ لما للجبهة من شرفٍ و سموٍّ بالنسبة لجسم الإنسان، كما نجد بعضَ الأفعال عند أمل دنقل في هذا النصّ ممنوعةً من التعدّي إلى مفعولها مباشرةً، إذ يأتي بحرف جرّ لغايةٍ بلاغية:
( يعبرون في الميدانِ مُطرقين )
فاللغةُ تسمح له أن يقول ( يعبرون الميدانَ ) دون الحاجة إلى حرف الجرّ، و لكنّ ( في ) هذه و هي للاحتواء الظّرفي المكانيّ جعلتِ العبورَ صعباً لم ينتهِ، فلو قال ( عبَرَ الميدان ) عنى تحقُّقَ العبور، و لكنّ العبورَ مستمرٌ و غيرُ مُنتهٍ و هو عبورٌ يائسٌ لأولئك المسحوقين بين قطبيْ رحى القيصر.
نجدُ الاتساعَ أيضاً في استخدام الفعل ( ترفعون ) في قوله ( و لترفعوا عيونَكم إليّ ) فالأصلُ ( لترفعوا رؤوسَكم ) و العين جزءٌ من الرّأس، و رفعُها يقتضي رفعَ الرأس، و هو موقفٌ يبحثُ عنه سبارتكوس للوقوف ضدّ استعباد القيصر للنّاس.
كما نجدُ حضوراً لأفعال الحواسّ كما في :
فلنْ تشمَّ في الفروعِ نكهةَ الثّمرْ
فتقطعُ الصّحراءَ باحثاً عنِ الظّلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ و الرّمالْ
فمشاركةُ أكثرَ من حاسّةٍ يساهمُ في الإحاطة بالموضوع، فلدينا ( تشمّ، ترى ،الهجير الذي يحرّك حاسّة اللمس )، و الحواسّ – كما نعلم – وسائلُ العقل لإدراك العالم الخارجيّ، و استحضارُ هذه الحواسّ الثلاث يساعدُ في بناء موقفٍ أوعى، لمنع القيصر من قطعِ الشّجر و نصبِها مشانقَ.