د. حسين علي محمد
24/06/2006, 01:45 PM
خطاب السيرة الذاتية فى نوار عين الصقر
بقلم: زينب العسال
..........................
أعترف لوجون فى أحد حواراته أن كتابة السيرة الذاتية لم تعد تقتصر على الكتاب وحدهم ، بل هى ممارسة فردية واجتماعية, وهو بذلك يوسع من مفهوم السيرة الذاتية , وقد لمسنا ذلك الانفجار الإبداعى لهذا اللون من الأدب ، والحقيقة التى لا يمكن إغفالها أن السيرة الذاتية تتماس وتتقاطع مع غيرها من ألوان الإبداع الأخرى عير كتابية , لقد احتوت على أجناس أخرى إضافة لليوميات والرسائل والمذكرات , ومن ثم صارت السيرة الذاتية لوناً إبداعياً مرناً للغاية بقدرته على احتوائه أجناس أخرى (1)
و السيرة الذاتية غالباً ما تحمل وظيفة , فهى اعتراف مدروس أو اعتراف للنشر لنقل " إنها التاريخ الشخصى المعترف به من صاحبه ولا يعنى ذلك أبداً الحقيقة "(2)
تضعنا هذه العبارة أمام إشكالية تثيرها السيرة الذاتية ،وهى مدى الحرية التى يتمتع بها الكاتب فى اختيار الوقائع والأحداث التى مرت به , فلا يعقل أن يتحدث الإنسان عن حياته أو حتى عن أن يروى ما وقع له من أحداث خلال عام واحد . لكن يبقى كاتب السيرة فى كل الأحوال شاهداً على العصر ، فلا يمكن أن ينفصل صاحب السيرة عما يقع فى محيطه الأسرى مثلاً , قد يأتى الحديث صراحة , كاشفاً عما يتعرض له المجتمع من أحداث .
نوار عين الصقر هى سيرة ذاتية اختار صاحبها فترة بعينها . فقد اجتزأ فترة من شبابه , أهداها إلى شباب مصر .
إننا أمام سيرة مجند مصرى , وهذا هو الجديد فى الأمر ,فقد قرأنا عدداً كبيراً من سير القادة والمفكرين و الساسة . السيرة " أحمد نوار " سيرة شفاهية ، فقد أملاها على كاتب آخر , فصاحب السيرة أصبح راوياً ضمنياً , لكن ذلك لم يحل دون من سماع صوته وخلجات نفسه ؛وإن ظلت السيرة تنتمى إلى مرحلة الشفاهية الأمر الذى يؤدى إلى إشكالية البناء والتقنيات السردية إلى من تنتمى ؟.،
لماذا كتب نوار سيرته , أقول سيرته وليس ذكرياته ؟
قسمت السيرة إلى عدة فصول أخذت العناوين التالية : مولد البطل , القدس , 5يونيو 1967 , المفاجأة , أيام "الهايكستب" , الخيال , الجبهة , أول القنص قطر , القنص الثانى ,الصيد الثالث , لعبة القط والفار , أزهار الملك , مسابقة قنص , القنص والتطعيم , إفطار القنص , رمضان وذكريات أخرى , العبور , بروفات مبكرة لثغرة 1973 , وكانت الثغرة , خاتمة ألف ليلة وليلة .
يحيلنا عنوان الفصل الأول إلى السيرة الشعبية حيث يمهد لمولد البطل الشعبى بمجموعة من الأحداث الخارقة والمرهصة بمولده . هذه الحوادث الخارقة والأسطورية تتحول فى سيرة نوار إلى أحداث إنسانية بسيطة مرتبطة بالأرض والناس والأهل , فالبطل ابن قرية مصرية صغيرة ,ومولده جاء عقب انتهاء الحرب العالية الثانية , يبدو أن الحرب ستلعب دورها فى حياة صاحب السيرة .
تستعير السيرة من رواية الأيام لطه حسين عبارة : اختار فتانا نوار طريق التعليم ، و يشكل السرد ملامح فتانا , عبر حادثة مرهصة نما سيكون عليه صاحبنا ؛ إنها حادثة ثار ! " ربط الثأر إلى يسير فى دائرة مفرغة بين الأسر والقرى بالخط " إن الفنان يبحث عن تلك البذور التى أينعت بعد ذلك وتفتحت وصارت ذ لك المجند القناص " عين الصقر" .
لا يتوقف الحكى كثيراً أمام مرحلة الطفولة , لكن هذا التكثيف وقف أمام أحداث متفرقة أدت إلى تقديم بوتريه نفسى لهذا الفتى ؛فهو المقدام المغامر الحب للاكتشاف .
كل شيء موظف لظهور لهذا البطل .
فى مرحلة الشباب نتعرف على أحمد نوار الرحالة الذى يجوب المدن يتنقل بين بعض البلدان العربية والأوروبية ؛ فالكشاف لا يهدأ ,ويتوقف السرد لصالح الوصف والتحليل ,فيروى عن البطل انطباعاته عن زيارته لمدينة القدس كانت تجربة زيارتى للقدس حاسمة فى حياتى , لقد ظل المصريون ـ وأن منهم ـ يحاربون إسرائيل دون أن يروها أو يروا إسرائيلياً واحداً فقط ،يقترب البطل من معاناة المدينة العربية من الاحتلال ، كما يعانى الشعب من القهر والاغتراب
تلعب المفارقة دوراً ف البناء السردى للسيرة . نلتقى بأول هذه المفارقات فى الفصل الرابع" المفاجأة " وهو كذلك وسوف يشارك المتلقى الراوى فى قلقه , فقد تخرج صاحبنا فى كلية الفنون الجميلة ,ها هو يفوز بإحدى الجوائز العالمية , وبدلاً من أن يتسلم الفنان الجائزة عليه الأنا ن يلتحق ـفوراًـ بالجيش , يعيد لراوى تقديم المشهد , وتتجسد المفارقة فى ردود الفعل التى يتلقاها من الضابط المسئول !.
" لقد كانت المفاجأة صدمة عصبية ونفسية ملأت جوانب نفسى بالألم العميق , ولم يكن ذلك بالطبع لأننى سوف ألتحق فوراً بالجيش , وإنما لأسلوب إدارة الأمور من ناحية وللتحول العجيب فى نفسى من فرحة الحصول لمصر على جائزة عالمية وتمثيلها فى الاحتفال باستلامها إلى حزن منعى من السفر وغيبة مصر عن هذا الاحتفال دون مبرر واضح " وستعلو درجة المفارقة حينما يتلقى صاحبنا خطابا ًمن إسبانيا .
التكوين
" وصار القنص لى حرفة "فى هذا الجزء يقف القارئ على المراحل التى مر بها " نوار"من تدريب والاستعداد النفسى والعلاقة بين التفكير العلمى وملكة التخيل وأثر ذلك على صاحبنا , فى ذلك يقول فى ذلك : " لقد التصقت بسلاحى و اندمجت فى قضية المواجهة مع إسرائيل , وصار القنص لى حرفة مقدسة , هنا يقدم نوار للقارئ نفسه بعض هواجسه , وخوفه من الإخفاق , ها هو الفنان يتحول إلى قناص , وكيف أفاد القناص من الإنسان ثم الفنان .
إن القناص يقف على شفير بين الحياة والموت ، وفى اللحظة التى يصوب فيها بندقيته عليه أن يعى أن خطأ واحد اًً قد يفقده حياته !
يبدأ الإعداد بهدوء الأعصاب واتزانها وتحديد الهدف والشجاعة يتم التدريب عليها طوال الوقت , وليس الشجاعة يقوم فيها الإنسان بلم جماع نفسه والإمساك بها فى لحظات الخطر .
لاشك أن الراوى كان قاسياً على نفسه مندفعاً فى سبيل تحيق هدفه النبيل , والذى سوف يعرضه لخطر الموت " الاستشهاد " , هنا ينقلنا السرد إلى الحياة خارج الجبهة فى لقطة إنسانية ، تصور مشاعر الإنسان المحب , هذه اللحظة الدافئة يعبرها السد سريعاً لقد أهدرت السيرة تلك اللحظات العاطفية لصالح هدف يراه صاحب السيرة أسمى ، وهو الحديث عن تضحيات الأبطال حكايات جنود عاديين ضحوا بحياتهم .فى سبيل تحرير أرض الوطن .
كانت حرب الاستنزاف هى بالفعل حرب , ولم تكن كما أشيع نوعاً من الإعداد فى تلك الفترة , سيهتم صاحب السيرة بسرد وقائع وأحداث , فهو شاهد على هذا , وسيكون موقع الأحداث هو الدفرسوار , والفردان وعلى طول شط القناة ـ الخط الأمامى لمواجهة العدو ، سنقترب من حياة القناص سعادته لحصوله على جائزة "برتقالة " , نشاركه الحزن على استشهاد أحد الجنود ,نضحك من ذلك الوضع المعكوس الذى أتخذه نوار للنوم فى الملجأ , ونتعرف روح الأبوة التى يتمتع بها قائد المجموعة , فيصفه صاحبنا بأنه يشبه الظل الذى يعطى الأمان لجنوده فهو يتقدمهم فى مواجهة القصف ، وليس من قواد الكمون فى المخابئ وطاعة الأوامر
وبدأت اللعبة .
كان على القناص أن يكتشف ويستطلع نقاط الاستطلاع. يحدد الهدف ، يرقب التحركات , ويحسب المسافة بينه وبين الهدف , يفكر فى اللحظة الحاسمة ، يكشف المونولوج الداخلى عما يعتمل فى نفس الفنان , كيف يتأتى له أن يقتل إنساناً ؟.
ثمة تحول داخلى لم يكشف عنه الراوى , ولكن أعلن عنه عندما توجه الراوى للمتلقى قائلاً : " هكذا يا سادتى يا كرام بعد أسبوع من التمويه خرجت بنية ممارسة أول عملية قنص " ترى هل تغلب القناص على الفنان ؟.
مع كل عملية قنص ثمة ما هو جديد , الأمر الذى يجعلنا لا نشعر بالرتابة أو الملل , ففى كل مرة هناك تغير فى التمويه من جانب العدو , يقابلها وضع خطة محكمة تعتمد على معارف متعددة إضافة إلى خيال الفنان , ووضع كل الاحتمالات , والمدهش ـ حقاً ـ أن صاحبنا لا يقلل من قدر العدو ولا كفاءته , , وقدرة الجندى الإسرائيلى على التعامل مع المواقف الحرجة واستخدام استراتيجية متطورة , وتطوير طرق الدفاع والهجوم , الأمر الذى زاد من يقظة الجندى المصرى الذى عاملها بالمثل , إنها مباراة سيكون النصر فيها للأكثر جدارة واستيعاباً للدروس المستفادة . وتأتى المفارقة عندما يعلن نوار أن الثغرة كانت من الأمور المعروفة لكل من شارك فى حرب الاستنزاف , وكان على قادتنا العسكريين فى حرب أكتوبر أن يعوا ذلك , فالأمر لم يكن مفاجأة، ويعلق الراوى قائلاً :" فلم يكن لإسرائيل الفضل فيه .. لكن كان اعتمادهم على قدرتنا الرائعة على النسيان " .
كل ذلك لا تغفل المشاعر الإنسانية , التى قد يتعرض القناص بسببها للمخاطر فالإقدام قد يصل حد التهور , " لقد كانت مجازفة قائد الدبابة الإسرائيلية محسوبة , أما مجازفتى فكانت تهوراً, أو قل مجازفة انتحارية " .
لعل من التقنيات الهامة التى استخدمت فى النص , التقطيع السينمائى,للمشاهد وهو يرتبط فى الغالب بمشاهد القنص , واختيار اللحظة المناسبة لإنهاء عملية القنص , فالقطع هنا جاء ليزيد من توتر المتلقى وتلهفه على معرفة ماذا حدث ومصير صاحب السيرة , فنجاح عملية القنص لا تتم إلا بعد عودة القناص إلى موقعه سالماً , والمتلقى فى هذا الأمر يتساوى مع رفاق القناص فى القلق الذى ينتابهم ، بعد أن يعلن العدو عن خسارته بهجوم عنيف بكل أسلحته على موقع القناص !
عنوان " ألف ليلة وليلة " يدعنا نتساءل ماذا يعنى هذا العنوان؟, ما علاقته بسيرة حقيقية لواحد من جنودنا فى حرب الاستنزاف؟
هل نحن أمام حكايات , يمتزج فيها الخيالى مع الواقعى ؟ الحقيقة الثابتة من السرد تنفى ذلك , لكن ما جاء بعد هذا العنوان يدل أننا أمام حكايات واقعية أغرب من الخيال , لعل مرجع ذلك أن نهاية هذه الحكايات على غير المتوقع !
،تهيمن نزعة إنسانية تؤكد على دور المجتمع تجاه أبنائه الجنود , ثمة نبرة لوم أسيانة , لما يعانيه الجندى فى الحياة المدنية ! لكن ما يلبث السرد أن يسترد تلك النغمة المرحة التى تصل لحد المفارقة اللذعة , فنعرف أن البطل لا يجيد السباحة و بالتعبير العامى " يغرق فى شبر ميه !" فهو يدوب يبلبط فماذا يفعل صاحبنا وعليه أن يشارك زملائه عبور القناة لمهمة استطلاعيه ! إنه تحد له وعليه أن يجتازه , لكن نوار يدفع ثمن هذه المجازفة والجرأة نزلة شعبية , ترى ماذا يخبىء له القدر ؟!.
هذا ما تجيب عنه الفصول التالية يطالعنا أحمد نوار الإنسان الذى يعانى الألم النفسى , وبكل صدق يروى الراوى مشاعره وهواجسه وخوفه , أينما رحل كان الخوف ! .
ينهى فترة التجنيد و يستأنف نوار حياته العلمية فيسافر إلى أسبانيا ليحصل على الدكتوراه ، لكن المفارقة تظهر بصورة أكثر قسوة , فالبطل مصاب بمرض نتيجة مضاعفات النزلة الشعبية , هاهو يعانى المرض والغربة والبيروقراطية والمماطلة , وتتفاقم الحالة وتتسارع الأحداث , ويكتشف ونكتشف معه إنه أصيب بداء الدرن ! .
ترتبط السيرة الذاتية الخاصة بالحياة العامة ، يستغيث نوار وتنجح الحملة الإعلامية , وتكلل جهود سفيرنا فى أسبانيا والملحق الثقافى , ويعالج نوار على نفقة الدولة ويبرأ من المرض , لكن نوار يوجه لنا ـ جميعاً ـ سؤالاً صعباً ماذا عن الإنسان البسيط ؟ ويظل صدى السؤال يتردد فى أسماعنا.
لا نملك إلا أن نقول تحية إلى الذين دافعوا عن تراب هذا الوطن .
..................
الهوامش:
1_ حاتم الصكر , السيرة الذاتية النسوية , البوح والترميز مجلة نزوى .
2_ مصطفى سويف , نحن والمستقبل , كتاب الهلال العدد 523, يوليو ص 39
بقلم: زينب العسال
..........................
أعترف لوجون فى أحد حواراته أن كتابة السيرة الذاتية لم تعد تقتصر على الكتاب وحدهم ، بل هى ممارسة فردية واجتماعية, وهو بذلك يوسع من مفهوم السيرة الذاتية , وقد لمسنا ذلك الانفجار الإبداعى لهذا اللون من الأدب ، والحقيقة التى لا يمكن إغفالها أن السيرة الذاتية تتماس وتتقاطع مع غيرها من ألوان الإبداع الأخرى عير كتابية , لقد احتوت على أجناس أخرى إضافة لليوميات والرسائل والمذكرات , ومن ثم صارت السيرة الذاتية لوناً إبداعياً مرناً للغاية بقدرته على احتوائه أجناس أخرى (1)
و السيرة الذاتية غالباً ما تحمل وظيفة , فهى اعتراف مدروس أو اعتراف للنشر لنقل " إنها التاريخ الشخصى المعترف به من صاحبه ولا يعنى ذلك أبداً الحقيقة "(2)
تضعنا هذه العبارة أمام إشكالية تثيرها السيرة الذاتية ،وهى مدى الحرية التى يتمتع بها الكاتب فى اختيار الوقائع والأحداث التى مرت به , فلا يعقل أن يتحدث الإنسان عن حياته أو حتى عن أن يروى ما وقع له من أحداث خلال عام واحد . لكن يبقى كاتب السيرة فى كل الأحوال شاهداً على العصر ، فلا يمكن أن ينفصل صاحب السيرة عما يقع فى محيطه الأسرى مثلاً , قد يأتى الحديث صراحة , كاشفاً عما يتعرض له المجتمع من أحداث .
نوار عين الصقر هى سيرة ذاتية اختار صاحبها فترة بعينها . فقد اجتزأ فترة من شبابه , أهداها إلى شباب مصر .
إننا أمام سيرة مجند مصرى , وهذا هو الجديد فى الأمر ,فقد قرأنا عدداً كبيراً من سير القادة والمفكرين و الساسة . السيرة " أحمد نوار " سيرة شفاهية ، فقد أملاها على كاتب آخر , فصاحب السيرة أصبح راوياً ضمنياً , لكن ذلك لم يحل دون من سماع صوته وخلجات نفسه ؛وإن ظلت السيرة تنتمى إلى مرحلة الشفاهية الأمر الذى يؤدى إلى إشكالية البناء والتقنيات السردية إلى من تنتمى ؟.،
لماذا كتب نوار سيرته , أقول سيرته وليس ذكرياته ؟
قسمت السيرة إلى عدة فصول أخذت العناوين التالية : مولد البطل , القدس , 5يونيو 1967 , المفاجأة , أيام "الهايكستب" , الخيال , الجبهة , أول القنص قطر , القنص الثانى ,الصيد الثالث , لعبة القط والفار , أزهار الملك , مسابقة قنص , القنص والتطعيم , إفطار القنص , رمضان وذكريات أخرى , العبور , بروفات مبكرة لثغرة 1973 , وكانت الثغرة , خاتمة ألف ليلة وليلة .
يحيلنا عنوان الفصل الأول إلى السيرة الشعبية حيث يمهد لمولد البطل الشعبى بمجموعة من الأحداث الخارقة والمرهصة بمولده . هذه الحوادث الخارقة والأسطورية تتحول فى سيرة نوار إلى أحداث إنسانية بسيطة مرتبطة بالأرض والناس والأهل , فالبطل ابن قرية مصرية صغيرة ,ومولده جاء عقب انتهاء الحرب العالية الثانية , يبدو أن الحرب ستلعب دورها فى حياة صاحب السيرة .
تستعير السيرة من رواية الأيام لطه حسين عبارة : اختار فتانا نوار طريق التعليم ، و يشكل السرد ملامح فتانا , عبر حادثة مرهصة نما سيكون عليه صاحبنا ؛ إنها حادثة ثار ! " ربط الثأر إلى يسير فى دائرة مفرغة بين الأسر والقرى بالخط " إن الفنان يبحث عن تلك البذور التى أينعت بعد ذلك وتفتحت وصارت ذ لك المجند القناص " عين الصقر" .
لا يتوقف الحكى كثيراً أمام مرحلة الطفولة , لكن هذا التكثيف وقف أمام أحداث متفرقة أدت إلى تقديم بوتريه نفسى لهذا الفتى ؛فهو المقدام المغامر الحب للاكتشاف .
كل شيء موظف لظهور لهذا البطل .
فى مرحلة الشباب نتعرف على أحمد نوار الرحالة الذى يجوب المدن يتنقل بين بعض البلدان العربية والأوروبية ؛ فالكشاف لا يهدأ ,ويتوقف السرد لصالح الوصف والتحليل ,فيروى عن البطل انطباعاته عن زيارته لمدينة القدس كانت تجربة زيارتى للقدس حاسمة فى حياتى , لقد ظل المصريون ـ وأن منهم ـ يحاربون إسرائيل دون أن يروها أو يروا إسرائيلياً واحداً فقط ،يقترب البطل من معاناة المدينة العربية من الاحتلال ، كما يعانى الشعب من القهر والاغتراب
تلعب المفارقة دوراً ف البناء السردى للسيرة . نلتقى بأول هذه المفارقات فى الفصل الرابع" المفاجأة " وهو كذلك وسوف يشارك المتلقى الراوى فى قلقه , فقد تخرج صاحبنا فى كلية الفنون الجميلة ,ها هو يفوز بإحدى الجوائز العالمية , وبدلاً من أن يتسلم الفنان الجائزة عليه الأنا ن يلتحق ـفوراًـ بالجيش , يعيد لراوى تقديم المشهد , وتتجسد المفارقة فى ردود الفعل التى يتلقاها من الضابط المسئول !.
" لقد كانت المفاجأة صدمة عصبية ونفسية ملأت جوانب نفسى بالألم العميق , ولم يكن ذلك بالطبع لأننى سوف ألتحق فوراً بالجيش , وإنما لأسلوب إدارة الأمور من ناحية وللتحول العجيب فى نفسى من فرحة الحصول لمصر على جائزة عالمية وتمثيلها فى الاحتفال باستلامها إلى حزن منعى من السفر وغيبة مصر عن هذا الاحتفال دون مبرر واضح " وستعلو درجة المفارقة حينما يتلقى صاحبنا خطابا ًمن إسبانيا .
التكوين
" وصار القنص لى حرفة "فى هذا الجزء يقف القارئ على المراحل التى مر بها " نوار"من تدريب والاستعداد النفسى والعلاقة بين التفكير العلمى وملكة التخيل وأثر ذلك على صاحبنا , فى ذلك يقول فى ذلك : " لقد التصقت بسلاحى و اندمجت فى قضية المواجهة مع إسرائيل , وصار القنص لى حرفة مقدسة , هنا يقدم نوار للقارئ نفسه بعض هواجسه , وخوفه من الإخفاق , ها هو الفنان يتحول إلى قناص , وكيف أفاد القناص من الإنسان ثم الفنان .
إن القناص يقف على شفير بين الحياة والموت ، وفى اللحظة التى يصوب فيها بندقيته عليه أن يعى أن خطأ واحد اًً قد يفقده حياته !
يبدأ الإعداد بهدوء الأعصاب واتزانها وتحديد الهدف والشجاعة يتم التدريب عليها طوال الوقت , وليس الشجاعة يقوم فيها الإنسان بلم جماع نفسه والإمساك بها فى لحظات الخطر .
لاشك أن الراوى كان قاسياً على نفسه مندفعاً فى سبيل تحيق هدفه النبيل , والذى سوف يعرضه لخطر الموت " الاستشهاد " , هنا ينقلنا السرد إلى الحياة خارج الجبهة فى لقطة إنسانية ، تصور مشاعر الإنسان المحب , هذه اللحظة الدافئة يعبرها السد سريعاً لقد أهدرت السيرة تلك اللحظات العاطفية لصالح هدف يراه صاحب السيرة أسمى ، وهو الحديث عن تضحيات الأبطال حكايات جنود عاديين ضحوا بحياتهم .فى سبيل تحرير أرض الوطن .
كانت حرب الاستنزاف هى بالفعل حرب , ولم تكن كما أشيع نوعاً من الإعداد فى تلك الفترة , سيهتم صاحب السيرة بسرد وقائع وأحداث , فهو شاهد على هذا , وسيكون موقع الأحداث هو الدفرسوار , والفردان وعلى طول شط القناة ـ الخط الأمامى لمواجهة العدو ، سنقترب من حياة القناص سعادته لحصوله على جائزة "برتقالة " , نشاركه الحزن على استشهاد أحد الجنود ,نضحك من ذلك الوضع المعكوس الذى أتخذه نوار للنوم فى الملجأ , ونتعرف روح الأبوة التى يتمتع بها قائد المجموعة , فيصفه صاحبنا بأنه يشبه الظل الذى يعطى الأمان لجنوده فهو يتقدمهم فى مواجهة القصف ، وليس من قواد الكمون فى المخابئ وطاعة الأوامر
وبدأت اللعبة .
كان على القناص أن يكتشف ويستطلع نقاط الاستطلاع. يحدد الهدف ، يرقب التحركات , ويحسب المسافة بينه وبين الهدف , يفكر فى اللحظة الحاسمة ، يكشف المونولوج الداخلى عما يعتمل فى نفس الفنان , كيف يتأتى له أن يقتل إنساناً ؟.
ثمة تحول داخلى لم يكشف عنه الراوى , ولكن أعلن عنه عندما توجه الراوى للمتلقى قائلاً : " هكذا يا سادتى يا كرام بعد أسبوع من التمويه خرجت بنية ممارسة أول عملية قنص " ترى هل تغلب القناص على الفنان ؟.
مع كل عملية قنص ثمة ما هو جديد , الأمر الذى يجعلنا لا نشعر بالرتابة أو الملل , ففى كل مرة هناك تغير فى التمويه من جانب العدو , يقابلها وضع خطة محكمة تعتمد على معارف متعددة إضافة إلى خيال الفنان , ووضع كل الاحتمالات , والمدهش ـ حقاً ـ أن صاحبنا لا يقلل من قدر العدو ولا كفاءته , , وقدرة الجندى الإسرائيلى على التعامل مع المواقف الحرجة واستخدام استراتيجية متطورة , وتطوير طرق الدفاع والهجوم , الأمر الذى زاد من يقظة الجندى المصرى الذى عاملها بالمثل , إنها مباراة سيكون النصر فيها للأكثر جدارة واستيعاباً للدروس المستفادة . وتأتى المفارقة عندما يعلن نوار أن الثغرة كانت من الأمور المعروفة لكل من شارك فى حرب الاستنزاف , وكان على قادتنا العسكريين فى حرب أكتوبر أن يعوا ذلك , فالأمر لم يكن مفاجأة، ويعلق الراوى قائلاً :" فلم يكن لإسرائيل الفضل فيه .. لكن كان اعتمادهم على قدرتنا الرائعة على النسيان " .
كل ذلك لا تغفل المشاعر الإنسانية , التى قد يتعرض القناص بسببها للمخاطر فالإقدام قد يصل حد التهور , " لقد كانت مجازفة قائد الدبابة الإسرائيلية محسوبة , أما مجازفتى فكانت تهوراً, أو قل مجازفة انتحارية " .
لعل من التقنيات الهامة التى استخدمت فى النص , التقطيع السينمائى,للمشاهد وهو يرتبط فى الغالب بمشاهد القنص , واختيار اللحظة المناسبة لإنهاء عملية القنص , فالقطع هنا جاء ليزيد من توتر المتلقى وتلهفه على معرفة ماذا حدث ومصير صاحب السيرة , فنجاح عملية القنص لا تتم إلا بعد عودة القناص إلى موقعه سالماً , والمتلقى فى هذا الأمر يتساوى مع رفاق القناص فى القلق الذى ينتابهم ، بعد أن يعلن العدو عن خسارته بهجوم عنيف بكل أسلحته على موقع القناص !
عنوان " ألف ليلة وليلة " يدعنا نتساءل ماذا يعنى هذا العنوان؟, ما علاقته بسيرة حقيقية لواحد من جنودنا فى حرب الاستنزاف؟
هل نحن أمام حكايات , يمتزج فيها الخيالى مع الواقعى ؟ الحقيقة الثابتة من السرد تنفى ذلك , لكن ما جاء بعد هذا العنوان يدل أننا أمام حكايات واقعية أغرب من الخيال , لعل مرجع ذلك أن نهاية هذه الحكايات على غير المتوقع !
،تهيمن نزعة إنسانية تؤكد على دور المجتمع تجاه أبنائه الجنود , ثمة نبرة لوم أسيانة , لما يعانيه الجندى فى الحياة المدنية ! لكن ما يلبث السرد أن يسترد تلك النغمة المرحة التى تصل لحد المفارقة اللذعة , فنعرف أن البطل لا يجيد السباحة و بالتعبير العامى " يغرق فى شبر ميه !" فهو يدوب يبلبط فماذا يفعل صاحبنا وعليه أن يشارك زملائه عبور القناة لمهمة استطلاعيه ! إنه تحد له وعليه أن يجتازه , لكن نوار يدفع ثمن هذه المجازفة والجرأة نزلة شعبية , ترى ماذا يخبىء له القدر ؟!.
هذا ما تجيب عنه الفصول التالية يطالعنا أحمد نوار الإنسان الذى يعانى الألم النفسى , وبكل صدق يروى الراوى مشاعره وهواجسه وخوفه , أينما رحل كان الخوف ! .
ينهى فترة التجنيد و يستأنف نوار حياته العلمية فيسافر إلى أسبانيا ليحصل على الدكتوراه ، لكن المفارقة تظهر بصورة أكثر قسوة , فالبطل مصاب بمرض نتيجة مضاعفات النزلة الشعبية , هاهو يعانى المرض والغربة والبيروقراطية والمماطلة , وتتفاقم الحالة وتتسارع الأحداث , ويكتشف ونكتشف معه إنه أصيب بداء الدرن ! .
ترتبط السيرة الذاتية الخاصة بالحياة العامة ، يستغيث نوار وتنجح الحملة الإعلامية , وتكلل جهود سفيرنا فى أسبانيا والملحق الثقافى , ويعالج نوار على نفقة الدولة ويبرأ من المرض , لكن نوار يوجه لنا ـ جميعاً ـ سؤالاً صعباً ماذا عن الإنسان البسيط ؟ ويظل صدى السؤال يتردد فى أسماعنا.
لا نملك إلا أن نقول تحية إلى الذين دافعوا عن تراب هذا الوطن .
..................
الهوامش:
1_ حاتم الصكر , السيرة الذاتية النسوية , البوح والترميز مجلة نزوى .
2_ مصطفى سويف , نحن والمستقبل , كتاب الهلال العدد 523, يوليو ص 39