PDA

View Full Version : مع الروائي محمد جبريل



د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:10 AM
الروائي محمد جبريل: نبذة عن حياته

إعداد: شوقي بدر يوسف
.............................

* ولد بحى بحرى بمدينة الإسكندرية فى 17 فبراير عام 1938
* كان أبوه محاسبا ومترجما فى نفس الوقت وله مكتبته الخاصة وقد أفاد جبريل من مكتبة أبيه فى قراءاته الأولى ويعتبرها سببا أساسيا فى حبه للأدب .
* بدأ حياته العملية عام 1959 محررا بجريدة الجمهورية مع الراحل رشدى صالح ثم عمل بعد ذلك بجريدة المساء .
* عمل فى الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديرا لتحرير مجلة " الأصلاح الأجتماعى " الشهرية وكانت تعنى بالقضايا الثقافية
* عمل خبيرا بالمركز العربى للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير .
* عمل رئيسا لتحرير جريدة الوطن بسلطنة عمان ( تسع سنوات ) .
* يعمل الآن رئيسا للقسم الثقافى بجريدة المساء .
* حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عن كتابه "مصر فى قصص كتابها المعاصرين".
* حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1976 .
* درست أعماله فى جامعات السربون ولبنان والجزائر
* متزوج من الكاتبة والناقدة زينب العسال وله ابنان أمل ووليد
مؤلفاته
* الأسوار ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1973
* أمام آخر الزمان ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1984
* من أوراق ابى الطيب المتنبى ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1988
* قاضى البهار ينزل إلى البحر ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
* تلك اللحظة من حياة العالم ( قصص ) ،
* الصهبة ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1990
* قلعة الجبل ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 1991
* النظر إلى أسفل ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1991
* أعترافات سيد القرية ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ،
* الصباح ( رواية ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1995
* الشاطئ الآخر ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1996 وقد ترجمت هذه الرواية إلى الأنجليزية .
* حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1996
* سوق العيد ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997
* إنفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1997
* أبو العباس ( رواية .. الجزء الأول من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1997
* ياقوت العرش ( الجزء الثانى من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1997
* البوصيرى ( الجزء الثالث من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1998
* على تمراز ( الجزء الرابع من رباعية بحرى ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 1998
* مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1998
* زهرة الصباح ( رواية ) ،
* حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1998
* الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1999
* حارة اليهود ( مجموعة قصصية ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1999
* المينا الشرقية ( رواية ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2000
* رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2000
* بوح الأسرار ( رواية ) ، روايات الهلال ، القاهرة ، 2000
* مد الموج ( تبقيعات نثرية مستمدة من سيرة ذاتية ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2000
* نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2001
* زمان الوصل ( رواية ) ، مكتبة مصر بالفجالة ، القاهرة ، 2002
* ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بآمر الله ( رواية ) ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 2003
**حكايات الفصول الأربعة (رواية)، دار البستانى للنشر والتوزيع 2004
***
عنوان القصة مكان النشر العدد تاريخ النشر
الرائحة الهلال يناير 1983
الطوفان إبداع 2 س 4 فبراير1986
حكايات وهوامش إبداع 6 س 4 يونيو 1986
المستحيل إبداع 8 س 4 أغسطس 1986
انتظار الموقف العربى 77 سبتمبر 1986
فلما صحونا إبداع 6 س 5 يونيو 1987
الرفاعى والثعبان إبداع 5/6 س 7 مايو/يونيو1989
مكان من الزمن القديم إبداع 11 س 7 نوفمبر 1989
فى الشتاء نصف الدنيا 8 8/4/1990
حالة أدب ونقد 58 يونيو 1990
النبؤة الشاهد 59/60 يوليو/أغسطس 1990
تشابكات نصف الدنيا 83 15/9/1991
النبى عمران أدب ونقد 85 سبتمبر 1992
الفندق الهلال مارس 1993
الوقف القصة 85 يوليو/اغسطس/سبتمبر95
الشجرة الأهرام العربى 74 22/8/1998
مدينة الأسرار الأهرام 27/11/1998
مد الموج الرافد 40 ديسمبر 2000
البيرق الرافد 66 فبراير 2003
الكتب التى صدرت عنه
* الفن القصصي عند محمد جبريل ، مجموعة من الباحثين ، مكتبة منيرفا ، الزقازيق ، 1984
* دراسات فى أدب محمد جبريل ، مجموعة من الباحثين ، مكتبة منيرفا ، الزقازيق ، 1986
* صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل، د . حسين على محمد ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الأسكندرية ، 1999
* فسيفساء نقدية : تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل ، د . ماهر شفيق فريد ، دار الوفاء لدنيا الطباعة ، الإسكندرية ، 1999
* محمد جبريل .. موال سكندرى ، فريد معوض وآخرون ، كتاب سمول ، 1999
* استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ، د . سعيد الطواب ، دار السندباد للنشر ، 1999
* تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل، د. حسين على محمد، كلية اللغة العربية، المنصورة ، 2001
* فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ، نعيمة فرطاس ، أصوات معاصرة ، 2001
* روائى من بحرى ، حسنى سيد لبيب ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2001
الدراسات التى نشرت عن ابداعه فى فصول من الكتب
* ( محمد جبريل ) ، أحاديث حول الأدب والفن والثقافة ، عبد العال الحمامصى ، دار المعارف ، القاهرة ، 1978
* ( قراءة فى قصص محمد جبريل ) ، قراءة فى القصة القصيرة ، محمد قطب ، المكتبة الثقافية .. الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1981
* ( ملامح البيئة المصرية فى " إنعكاسات الأيام العصيبة " ) ، مقالات وبحوث فى الأدب العربى المعاصر ، د . صابر عبد الدايم ، دار المعارف ، القاهرة ، 1983
* ( البناء الفنى فى رواية " آخر الزمان " ) ، در اسات نقدية فى الأدبين العربى والأسبانى ، د . حامد يوسف أبو أحمد ، الفكر العربى ، القاهرة ، 1987
* ( قاضى البهار ينزل إلى البحر وأسلوب التقرير البوليسى فى بناء الرواية ) ، رواية قاضى البهار ينزل إلى البحر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
* ( استلهام الأحداث والشخصيات التاريخية فى قصص محمد جبريل ) ، الظواهر الفنية فى القصة القصيرة المعاصرة فى مصر 1967 – 1984 ، د . مراد عبد الرحمن مبروك ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989
* ( الأسوار .. لحظات مصرية ) ، إنطباعات غير نقدية ، عبد العال الحمامصى ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، د . ت
* ( تعدد مستويات الخطاب الروائى : د . ماهر شفيق فريد ) ، رواية قلعة الجبل ، روايات الهلال .. دار الهلال ، القاهرة ، 1991
* ( رواية محمد جبريل " من أوراق أبى الطيب المتنبى .. العلاقة الجدلية بين الأدب والتاريخ ) ، دراسات نقدية فى الأدب المعاصر ، د . أحمد زلط ، دار المعارف ، القاهرة ، القاهرة ، 1991
* ( " إمام آخر الزمان " و " الأسوار " و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ) ، العناصر التراثية فى الرواية العربية فى مصر .. دراسة نقدية 1914 – 1986 ، د . مراد عبد الرحمن مبروك ، دار المعارف ، القاهرة ، 1991
* ( محمد جبريل والبحث عن الحلم الضائع ) ، الرواية التاريخية فى أدبنا الحديث ، د . حلمى محمد قاعود ، دار الإعتصام ، القاهرة ، 1990
* ( محمد جبريل قصاصا ) ، فى القصة العربية ، د . يوسف نوفل ، كتابات نقدية .. الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1992
* ( تأملات فى روايتى " هنرى الرابع " لهانريش مان و " قلعة الجبل " لمحمد جبريل : د . عبد الله محمد أبو هشة ) ، المؤتمر الدولى للدراسات الجرمانية ج 6 ، القاهرة ، 1991
* ( العنف السياسى فى رواية " الأسوار " ) ، الرؤية السياسية فى الرواية الواقعية فى مصر 1965 – 1975 ، د . حمدى حسين ، مكتبة الآداب بالجماميز ، القاهرة، 1994
* ( " الأسوار " و " النظر إلى أسفل " ) ، الرؤى والأحلام .. قراءة فى نصوص روائية ، محمد قطب ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1995م
(يتبع)

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:12 AM
* ( محمد جبريل روائيا .. أزمة جيل من الوعى الأيديولوجى والوعى الفنى ) ، الرواية السياسية ، د . طه وادى ، دار النشر للجامعات المصرية ، القاهرة ، 1996 ص 165
* ( محاور التجربة القصصية فى مجموعة " هل " لمحمد جبريل ) ، جماليات القصة القصيرة .. دراسة نصية ، د . حسين على محمد ، الشركة العربية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1996
* ( " زهرة الصباح " البحث عن الأمل والحلم بالنجاة ) ، حوار الرواية المعاصرة فى مصر وسورية ، د . حلمى محمد القاعود ، دار إشبيلية ، دمشق ، 1998
* ( المقاومة أو الوطن إلى الجنون " حول قصص محمد جبريل " ) ، اجيال من الإبداع ، زينب العسال ، جماعة التأصيل الأدبى والفكرى ، القاهرة ، 1998 ص 78
* ( محمد جبريل .. " قاضى البهار ينزل إلى البحر " إستخدام اسلوب التقرير البوليسى فى بناء الرواية : النظر إلى أسفل والبطل المأزوم والتعبير عن أزمة المجتمع ) ، مسيرة الرواية فى مصر .. قراءة لنماذج مختارة ، د . حامد أبو احمد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2000 ص 55 ص 73
* ( غرباء على الخليج .. الخليج ) ، تقاسيم نقدية ، زينب العسال ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، 2001 ص 49
* ( قصدية المقاومة فى مجموعة حارة اليهود ) ، المقاومة والأدب ، د . السيد نجم ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2001 ص 62
* ( رباعية بحرى ) ، الحياة فى الرواية .. قراءة فى الرواية العربية والمترجمة ، أحمد فضل شبلول ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ، 2001 ص 30
* ( فضاء " المكان الحلم " فى مجموعة " حكايات وهوامش من حياة المبتلى " لمحمد جبريل ، بناء " فضاء المكان " فى القصة العربية القصيرة .. نقد ، محمد السيد اسماعيل ، دائرة الثقافة والأعلام ، الشارقة ، 2002 ص 151
* ( كل إلى بيته يعود .. أو إلى " الشاطئ الآخر " ) ، اللغة والتراث فى القصة والرواية ، ربيع الصبروت ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2003
الدراسات التي نشرت عن إبداعه فى الدوريات
* قراءة فى أدب كاتب شاب .. حول محمد جبريل ، محمد قطب ، المجلة ، القاهرة ، ع 178 ، أكتوبر 1971 صص 84
* أى فن يبتعد عن الإنسان يجعل الحياة تفقد قيمتها ( حوار ) ، يوسف مظلوم ، الميساجية ، القاهرة ، 17/10/1971
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، محمد صدقى ، الجمهورية ، القاهرة ، 13/4/1972
* دراسة أكاديمية أم رواية أدبية .. حول رواية " الأسوار " ، فتحى الإبيارى ، الأخبار ، القاهرة ، 14/4/1972
* لقاء مع محمد جبريل ( حوار ) ، يوسف مظلوم ، الميساجية ، القاهرة ، 30/4/1972
* الشعب والحرب والحياة ، كمال النجمى ، المصور ، القاهرة ، 23/6/1972
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، د . نبيل راغب ، المساء ، القاهرة ، 9/8/1973
* مصر بين جمود المؤرخ وتسطيح الأديب ، د . رفعت السعيد ، الطليعة ، القاهرة ، اكتوبر 1973
* عرض لرواية " الأسوار " ، عبد العال الحمامصى ، الزهور ، القاهرة ، أبريل 1974
* الأسوار ( رواية ) ، د . نبيل راغب ، الثقافة ، القاهرة ، أبريل 1974
* محمد جبريل فى الأسوار .. الفنان من خلال عمله، محمد الراوي، الثقافة ، القاهرة ، ع 45 ، 30/8/1974
* الناس فوق الأزمنة الممتدة .. قراءة فى رواية الأسوار ، الداخلى طه ، الزهور ، القاهرة ، ديسمبر 1974
* محمد جبريل الزمان والمكان ( حوار ) ، د . نبيل راغب ، ج الجزيرة ، الرياض ، ع 1937 ، جمادى الآخر 1394
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، طه محمد كسبه ، الثقافة ، القاهرة ، 15/3/1974
* قطر الندى .. عن كتاب مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، عبد المنعم الصاوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 29/12/1975
* الإنسان وإيقاع العصر الراكض .. حول مجموع " تلك اللحظة من حياة العالم " ، حسن الجوخ ، الثقافة العربية ، طرابلس ، ع 1 س 4 ، يناير 1977 ص 40
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( تأليف محمد جبريل ) ، نبيل راغب ، الجديد ، القاهرة ، ع 135 ، 1/1/1978 ص 35
* رواية " الأسوار " محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، ج الراية ، الدوحة ، 25/2/1981
* رواية " الأسوار " محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، ج الوطن ، عمان ، 30/3/1981
* الفارس فوق ساحة الأزمنة .. قراءة فى رواية " الأسوار"، الداخلي طه، ج الوطن ، مسقط ، 1/6/1981
* جبريل يواصل العطاء ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، ع 254 ، 6/9/1981
* الأسوار ( رواية محمد جبريل ) محاولة ناضجة للتعامل مع التراث ، محمد السيد عيد ، القصة ، القاهرة ، أكتوبر 1981
* النظر إلى اسفل ، د . حسن فتح الباب ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 5/1/1983
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، د . نبيل راغب ، المساء ، القاهرة ، 9/8/1983
* محمد جبريل والعودة إلى النصف الآخر ، العقد ، 14/6/1984
* من هو " إمام آخر الزمان " ؟ ، شفيق أحمد على ، روز اليوسف ، القاهرة ، 12/11/1984
* إمام آخر الزمان .. جبرة الأنسان بين الدونية الممقوتة والكمال المطلق ، الداخلى طه ، إبداع ، القاهرة ، ع 3 س 3 ، مارس 1985
* محمد جبريل يتحدث إلى صوت الشرقية، زينب العسال، صوت الشرقية، الزقازيق، مارس 1985
* الروائى المصرى محمد جبريل ، المحرر ، مرآة الأمة ، الكويت ، 27/7/1985
* انعكاسات الأيام العصيبة .. مجموعة قصصية ، عبد الوهاب الأسوانى ، الأذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 2639 ، 12/10/1985 ص 37
* إمام آخر الزمان ( رواية محمد جبريل ) ، المحرر ، الحياة ، لندن ، 20/10/1985
* إمام آخر الزمان ، المحرر ، إبداع ، القاهرة ، يناير 1986
* مصر فى قصص كتابها المعاصرين، حسن محسب، الإذاعة والتليفزيون، القاهرة، 10/1/1986
* البناء الفنى فى رواية " إمام آخر الزمان " ، د . حامد أبو احمد ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 782 / 784 ،
* قراءة نقدية فى رواية " الأسوار " ، على عبد الفتاح ، مرآة الأمة ، الكويت ، 30/4/1986
* مغامرة الشكل الروائى .. المزج بين الحوار المسرحى والفلاش باك ، على عبد الفتاح ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 743 ، 7/5/1986
* الكاتب الروائى محمد جبريل ( حوار ) ، محمد يوسف ، مرآة الأمة ، الكويت ، ع 745 ، 21/5/1986
* هل عادت الرواية إلى الرومانسية .. " حول روايات محمد جبريل " ، فتحى سلامة ، الأهرام ، القاهرة ، 29/6/1986
* هوامش محمد جبريل .. حول رواية " إمام آخر الزمان " ، جمال نجيب التلاوى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 2685 ، 30/8/1986
* جبريل : تجربة الغربة انعكست على كثير من كتاباتى .. " إمام آخر الزمان " تناقش هما عربيا موحدا ، على عبد الفتاح ، 7/9/1986
* هل يعترف ادباؤنا بالزممن مقارنة بين " يوم قتل الزعيم " و " النظر إلى أسفل " محمود المنسى ، م النصر ، القاهرة ، فبراير 1987
* رواية " إمام آخر الزمان"، د . حلمى محمد القاعود ، عالم الكتاب ، القاهرة ، ع 13 ، يناير/فبراير/مارس 1987
* من اوراق أبى المتنبى ، أحمد هريدى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، 5/3/1987
* السؤال الحائر فى مجموعة " هل " لمحمد جبريل ، جمال بركات ، القاهرة ، القاهرة ، ع 97 ، 15/7/1989 ص 104
* الأديب محمد جبريل وعالمه الإبداعى ( حوار ) ، على عبد الفتاح ، البيان ، الكويت ، أغسطس 1987
* من أوراق ابى الطيب ، أحمد زكى عبد الحليم ، حواء ، القاهرة ، 5/2/1988
* محمد جبريل و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 21/2/1988
* محمد جبريل والتعبير ، أيمن حسن محمد ، الرافعى ، طنطا ، ع 8 ، 1988
* من أوراق أبى الطيب المتنبى ، أحمد زكى عبد الحليم ، حواء ، القاهرة ، 5/3/1988
* من أوراق أبى الطيب المتنبى ، أحمد هريدى ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، 5/3/1988
* الروائى محمد جبريل ( حوار ) ، شرف الدين عبد الحميد ، صوت سوهاج ، سوهاج ، يوليو 1988
* الرغبة والتحقيق فى أوراق أبى الطيب المتنبى ، د . محمد نجيب التلاوى ، الجنوبى ، المنيا ، اكتوبر 1988
* الرغبة والتحقيق فى " أوراق أبى الطيب المتنبى " ، جمال نجيب التلاوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 4/10/1988
* من أوراق أبى الطيب المتنبى ، الدخلى طه ، القاهرة ، القاهرة ، ع 88 ، 15/10/1988
* النقاد يناقشون رواية " أوراق أبى الطيب المتنبى " ، المحرر ، الصناعة والأقتصاد ، القاهرة ، 1/1/1989
* ندوة حول محمد جبريل وروايته " اوراق أبى الطيب المتنبى " ، على عبد الفتاح ، الرأى العام ، الكويت ، 16/1/1989
* محمد جبريل صاحب " أوراق المتنبى " ( حوار ) ، شادى صلاح الدين ، ج الوطن ، عمان ، 26/1/1989
* الروائى المصرى محمد جبريل: أهاجر إلى التاريخ لأكتب من الواقع ، المحرر ، الشرق الأوسط ، لندن ، 27/1/1989
* البناء الفنى فى رواية "إمام آخر الزمان"، د . حامد ابو احمد ، إبداع ، القاهرة ، فبراير 1989
* هذه الرواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، المحرر ، م أكتوبر ، القاهرة ، 26/3/1989
* الواقعية الرمزية فى رواية محمد جبريل الجديدة " قاضى البهار ينزل البحر " ، المحرر ، ج الرياض ، الرياض ، 6/4/1989
* محمد جبريل لكى نتساجل لا بد من إثارة قضية أولا ، المحرر ، ج الشرق الأوسط ، لندن ، 23/4/1989
* قاضى البهار ينزل البحر ، فتحى الأبيارى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 2/7/1989
* محمد جبريل بين شد الصحافة وجذب الأدب ( حوار ) ، هبة الله يوسف ، م العرب ، 10/7/1989
* رواية " قاضى البهار ينزل إلى البحر " ، د . حامد أبو أحمد ، ج الرأى العام ، الكويت ، 17/8/1989
* محمد جبريل : لجنة نوبل لا تقرأ الأعمال واتجاهاتها سياسية (حوار)، د . محمد نجيب التلاوى ، صوت المنيا ، المنيا ، 14/9/1989
* العناصر التراثية فى الرواية المصرية .. حول روايات محمد نجيب ، د . جمال التلاوى ، القاهرة ، القاهرة ، نوفمبر 1989
* حوار مع الأديب محمد جبريل ، الفيروز ، يناير 1990
* قاضى البهار ينزل إلى البحار ، فتحى هاشم ، الكواكب ، القاهرة ، 20/2/1990
* صهبة محمد جبريل ، د . ماهر شفيق فريد ، م أكتوبر ، القاهرة ، 11/4/1990
* محمد جبريل ينزل إلى البحر، د. محمد زكريا عنانى ، الأيام ، القاهرة ، 8 – 15/4/1990
* صهبة محمد جبريل ، المحرر ، م أكتوبر ، القاهرة ، ع 703 ، 15/4/1990
* نقطة فوق حرف ساخن .. حول رواية " الصهبة " ، رأفت الخياط ، المساء ، القاهرة ، 11/5/1990
* بنيات السرد الموضوعى .. حول رواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، د . جمال نجيب التلاوى ، إبداع ، القاهرة ، مايو/يونيو 1990
* حوار مع الروائي محمد جبريل ، د. حسين على محمد ، القصة ، القاهرة ، يوليو 1990
* الأيام تحاور الأديب محمد جبريل ، مجدى عبد النبى ، الأيام ، القاهرة ، 22/7/1990
* رواية " الصهبة " لمحمد جبريل وصورة الإنسان متمردا مقدسا وهائما محسوسا ، شمس الدين موسى ، القدس العربى ، لندن ، 31/7/1990
* حالة الصهبة التى يغشى فيها ، د. مصطفى عبد الغنى ، الأهرام ، القاهرة ، 12/8/1990
* محمد جبريل الأسطورة والأنسان ، خير سليم ، م قنا الأدبية ، قنا ، ع 1 .
* الشخصيات الروائية فى " قاضى البهار ينزل البحر " ، جمال بركات ، القاهرة ، القاهرة ، ع 107 ، 15/8/1990
* حركة النص التراثى فى القصة المصرية .. حول محمد جبريل ، د . مراد مبروك ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، مارس 1991
* عائشة فى مواجهة سلطان القلعة، عبد الفتاح رزق، روز اليوسف ، القاهرة ، 11/3/1991
* قلعة الجبل بين القناع التاريخ والرواية السياسية ، د . طه وادى ، الحياة ، لندن ، 16/8/1991
* البطل المأزوم بين عجز الذات والخلاص المرير .. قراءة فى رواية " الصهبة " ، سمير الفيل ، إبداع ، القاهرة ، سبتمبر/اكتوبر 1990
* الصهبة لمحمد جبريل .. قصة طويلة يسعى البطل بنفسه إلى أن يكون ضحية الأستبداد ، محسن خضر ، الحياة ، لندن ، 22/10/1990
* عندما اختلف النقاد الأربعة حول رواية " الصهبة " ، المحرر ، نصف الدنيا ، القاهرة ، ع 42 س 1 ، 2/12/1990 ص 50
* الروائى محمد جبريل ، محمد الفقى ، الأنباء ، الكويت ، 23/1/1991
* مدن النسيان .. حول رواية " قلعة الجبل " ، محمد على فرحات ، الحياة ، لندن ، 5/3/1991
* قلعة الجبل بالفرنسية ، ثناء أبو الحمد ، الأخبار ، القاهرة ، 22/5/1991
* الإطار والصورة فى " الصهبة " ، د . عبد البديع عبد الله ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 27/2/1991
* محمد جبريل وقلعة الجبل ، عبد العال الحمامصى ، م أكتوبر ، القاهرة ، 7/4/1991
* صهبة محمد جبريل لحظة صدق شفافة ومتجردة ، سعيد سالم ، الشاهد ، نيقوسيا ، ع 69 ، مايو 1991
* " قلعة الجبل " استلهام التايخ .. إسقاط على الحاضر ، سعد القرش ، الأنباء ، الكويت ، 17/5/1991
* تجليات المكان وتطور الوعى .. دراسة فى رواية " قلعة الجبل " لمحمد جبريل ، محمد أحمد الحمامصى ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، يونيو 1991
* قلعة الجبل ( رواية ) ، عماد الغزالى ، الوفد ، القاهرة ، 6/6/1991
* قلعة الجبل الضلع الرابع فى الرواية التاريخية ، د . ماهر شفيق فريد ، حريتى ، القاهرة ، 7/7/1991
* إبداع الدلالة عند محمد جبريل .. قراءة فى رواية " الصهبة " ، عبد الله السمطى ، ج الرياض ، الرياض ، 30/7/1991
* قلعة الجبل لمحمد جبريل .. الرواية بين القناع التاريخ والرؤيا السياسية ، د . طه وادى ، الحياة ، لندن ، اغسطس 1991
* إبداع للدلالة فى رواية " الصهبة " ، المحرر ، الشرق الأوسط ، لندن ، 19/9/1991
* الإبداع هو الأصل والفنان يولد ولا يصنع ( حوار ) ، المحرر ، الأهرام المسائى ، القاهرة ، 25/9/1991
* ندوة حول " الصهبة " لمحمد جبريل ، نبيل خالد ، الرأى العام ، عمّان ، 12/11/1991
* الإخوة المواطنون والنظر إلى أسفل، د . ماهر شفيق فريد ، حريتى ، القاهرة ، 12/1/1992
* النظر إلى اسفل والصعود إلى الهاوية ، جمال بركات ، الشرق الأوسط ، لندن ، 22/1/1992
* ندوة نقدية حول رواية " النظر إلى اسفل " لمحمد جبريل ، المحرر ، الرأى العام ، عمّان ، 23/2/1992
* محمد جبريل والنظر إلى اسفل ، شمس الدين موسى ، الحياة ، لندن ، مارس 1992
* أربعة وجوه فى الرواية التاريخية فى مصر ، د . ماهر شفيق فريد ، صوت الكويت الدولى ، الكويت ، 9/3/1992
* روائى يؤرخ لحياتنا المعاصرة ، يسرى حسان ، الدولية ، باريس ، 27/4/1992 ص 40
* الروائى محمد جبريل يتحدث (حوار)، د . حسين على محمد ، المسائية ، الرياض ، 11/5/1992
* الأديب محمد جبريل ليس هناك أزمة إبداع بل صعوبة فى النشر ، المحرر ، ج الرأى العام ، الكويت ، 2/6/1992
* النظر إلى أسفل ، محمد قطب ، الأهرام ، القاهرة ، 14/6/1992
* التاريخ ملهى الإمام ومدينته الفاضلة، سعد القرش، الأهرام المسائى، القاهرة، 23/6/1992
* قراءة نقدية فى رواية " النظر إلى اسفل " لمحمد جبريل ، د . حامد أبو احمد ، العربى ، الكويت ، ع 405 ، أغسطس 1992
* المعنى فى بطن الشاعر .. حول أدب محمد جبريل ، عبد الله باجبير ، الشرق الأوسط ، لندن ، 2/8/1992
* ( ملف خاص عن محمد جبريل ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 49 ، أكتوبر 1992 )
* محمد جبريل روائيا .. قضية جيل بين الوعى الأيديولوجى والوعى الفنى ، د .طه وادى
* انشطار الذات فى رواية " النظر إلى اسفل " ، محمد قطب .
* رواية .. " إمام آخر الزمان " عبد الله محمد أبو هشة .
* قاضى البهار ينزل إلى البحر ، مصطفى كامل .
* قضيرة المصير العربى شاغلى الأساسى ( حوار ) ، محمد أحمد الحمامصى .
* التداعى والنظام فى رواية " النظر إلى اسفل " ، مجدى أحمد توفيق .
* قلعة الجبل رواية محمد جبريل ، محمد عبد الله عبد الهادى ، القصة ، القاهرة ، يوليو/أكتوبر 1992
* تاريخنا السياسى والنظر إلى اسفل ، أحمد حسين الطماوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 1/10/1992
* لغز عائشة فى " قلعة الجبل " ، محمد عبد الحافظ ناصف ، الحياة ، القاهرة ، 11/10/1992
* محمد جبريل : مبدعو الستينيات أكثر الأجيال تحملا لهموم المجتمع ( حوار ) ، المحرر ، صوت الكويت ، الكويت ، ع 14/10/1992
* السراب المنشود فى " إمام آخر الزمان " ، ناصر سلطان ، الصناعة والأقتصاد ، القاهرة ، 8/12/1992
* هل يشهد عقد التسعينيات ازدهار الفن الروائى فى مصر ، د . حامد أبو احمد ، ج الرياض ، الرياض ، 10/12/1992
* نجيب محفوظ وأحدث جيلين ، أحمد الحوتى ، ج الأنباء ، الكويت ، 12/5/1993
* المقاومة أو الطريق إلى الوطن .. حول قصص محمد جبريل ، زينب العسال ، القاهرة ، القاهرة ، مارس 1994
* " اعترافات سيد القرية " ، أحمد حسين الطماوى ، الجمهورية ، القاهرة ، 3/6/1994
* محمد جبريل الزمان والمكان ، د . نبيل راغب ، ج الجزيرة ، الرياض ، ع 937 ، 1/6/1994
* كلام عن الحرية ( شهادة ) ، فصول ، القاهرة ، ع 4 م 12 ، شتاء 1994 ص 335
* سردية الرواية بين حواف الذاكرة وحواف المخيلة .. ( تحقيق ) ، عبد الله السمطى ، الحرس الوطنى ، الرياض ، ع 161 س 17 ، يناير 1996
* من تجاربهم .. ماذا يريد الكاتب ( شهادة ) ، الفيصل ، الرياض ، ع 233 س 20 ، مارس/إبريل 1996 ص 76
* القاهرة .. الأيام الأولى ( شهادة ) ، الإذاعة والتليفزيون ، القاهرة ، ع 3192 ، 18/5/1996
* الشاطئ الآخر بين جبريل وكفافيس .. حول رواية الشاطئ الآخر ، د . جمال عبد الناصر ، الأهرام ، القاهرة ، 25/8/1996
* الهروب نحو الشاطئ الآخر ، المحرر ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، أكتوبر 1996 ص 12
* محمد جبريل فى " الشاطئ الآخر " رواية الاتزان الجميل ، المحرر ، الأهرام ، القاهرة ، 1/12/1996 ص 22
* قراءة فى رواية " الشاطئ الآخر " للروائى محمد جبريل ، صلاح عطية ، أخبار الأدب ، القاهرة ، ع 192 ، 16/3/1997 ص 15
* قراءة نقدية فى رواية " زهرة الصباح " ، يوسف الشارونى ، العربى ، الكويت ، ع 462 ، مايو 1997 ص 51
* زهرة الصباح وعبيرها السياسى ، د. عبد الحميد القط، القاهرة، القاهرة ، ع 173/174/175 ، ابريل/مايو/يونيو 1997 ص 147
* حكايات وهوامش من حياة المبتلى .. عفاف عبد المعطى ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 109 ، أكتوبر 1997 ص 18
* الشاطئ الآخر .. رواية محمد جبريل ، نجلاء علام ، القصة ، القاهرة ، ع 92 ، ابريل/مايو/يونيو 1998 ص 62
* كتبت ما تريده الرواية ( شهادة ) ، فصول ، القاهرة ، ع 1 م 17 ، صيف 1998 ص 330
* عن رباعية بحرى لمحمد جبريل ، محمد رجب ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 129 ، يونيو 1999 ص 32
* رباعية بحرى ، د . ماهر شفيق فريد ، القصة ، القاهرة ، ع 96 ، أبريل/مايو/يونيو 1999 ص 36
* ماهر شفيق فريد يتأمل العالم الروائى لمحمد جبريل .. فسيفساء نقدية ، المحرر ، نصف الدنيا ، القاهرة ، ع 512 ، 5/12/1999 ص 73
* حارة اليهود ( مجموعة محمد جبريل ) ، مديحة أبو زيد ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 143 ، أغسطس 2000 ص 107
* المينا الشرقية ( رواية محمد جبريل ) ، أحمد حسين الطماوى ، القصة ، القاهرة ، ع 102 ، أكتوبر/نوفمبر/ديسمبر 2000 ص 71
* آلية التعبير فى أدب محمد جبريل .. حول مجموعة " رسالة السهم الذى لا يخطئ " ، د . حسن البندارى ، الأهرام ، القاهرة ، 2/2/2001 ص 36
* البحث عن المكان المراوغ فى " رباعية بحرى " ، مهدى بندق ، الكلمة المعاصرة ، الإسكندرية ، ع 19 ، مايو 2001
* " نجم وحيد فى الأفق " رواية جديدة لمحمد جبريل ، المحرر ، الحياة ، لندن ، ع 14174 ، 8/1/2002 ص 16
* الرمز فى " حارة اليهود " لمحمد جبريل، د . حسين على محمد، الرافد ، الشارقة ، ع 57 ، مايو 2002 ص 67
* القراءة الراهنية للتاريخ .. " قلعة الجبل نموذجا " ، د . عبد الله أبو هيف ، الرافد ، الشارقة ، ع 66 ، فبراير 2003 ص 45
* نجم وحيد فى الأفق .. رواية محمد جبريل ، حسنى لبيب ، الهلال ، القاهرة ، مارس 2003 ص 169
* سيرة الموت فى " ما ذكره رواة الأخبار"، محمد عبد الحافظ ناصف ، أخبار الأدب ، القاهرة ، ع 542 ، 30/11/2003 ص 32
* الدلالات السردية فى رواية " الحياة ثانية"، د . صبيحة عودة ، الثقافة الجديدة ، القاهرة ، ع 163 ، ديسمبر 2003 ص 33
* ( محمد جبريل .. ملامح شخصية " ملف خاص " ، الرافد ، الشارقة ، ع 76 ، ديسمبر 2003 )
* محمد جبريل ملامح شخصية وسيرة إبداعية ، حسنى سيد لبيب ص 34
* محمد جبريل: نهر الجنون لتوفيق الحكيم يستطيع أن يكتبها طالب ثانوي ( حوار ) ، عبد الفتاح صبري ص 36
* الرؤية والتشكيل فى حارة اليهود، د . خليل أبو ذياب ص 42
* أسئلة الرواية فى " زمان الوصل" ، شوقي بدر يوسف ص 49
* قراءة فى رواية " نجم فى أفق جديد " ، حسنى سيد لبيب ص 55

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:17 AM
محمد جبريل.. ومعنى الحرية

بقلم: د. زينب العسال
..........................

فى شهادته المنشورة فى مجلة "فصول" يقول محمد جبريل: "أنا مبدع مهموم سياسيا.. إنها سدى اهتماماتى الشخصية والإبداعية فى الوقت نفسه."
جبريل المهموم سياسيا والمعنى بتحقيق الحرية السياسية التى هى حق المواطنين فى المساهمة فى حكم الدولة.. يوسع من مفهوم الحرية، فالأهم عنده من الكتابة عن الحرية.. هو "أن أكتب فى حرية، وأن يغيب ذلك الرقيب الخارجى الذى يحذف ويصادر ويعتقل، إن لاحظ أن الكاتب قد شط فى رأيه، أو أعلن المعاداة، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلى الكامن فى أعماقى..
هذا الهم السياسى يبين عن نفسه فى غالبية كتابات جبريل الإبداعية منذ كتابه الأول "الملاك" والذى نشره ولم يتجاوز سن الكاتب آنذاك خمسة عشر عاما بعبارة.. "أشياء ثلاثة كرست حياتى للدفاع عنها: الحق والخير والحرية.. وأرى أن التمتع بالحرية كفيل بأن يحقق الخير والحق.. هل يمكن للإنسان أن يشعر بإنسانيته إلا إذا كان حرا!.. وهل يمكن للإنسان أن يتمتع بالحرية إذا لم يتمتع بها الآخرون؟! إن مبدأ الحرية يلازمه بالضرورة علاقة الفرد الإنسان بالسلطة أيا كانت هذه السلطة.. سواء أكانت سلطة الحاكم أو سلطة الجماعة/المجتمع أو السلطة الأبوية.. البعض لا يرى وجود تعريف محدد للسلطة فإعطاء مفهوم للسلطة سيكون الأمر أكثر سلطوية.. فالسلطة متعددة الوجوه خافية وظاهرة.. من الممكن أن تكون سلطة مركبة.. متعددة.. ومتغيرة الوجوه.. "يمكن أن تعرف نفسها بكونها ذات أسماء عديدة، وتوجد فى كل الأمكنة والخطابات من الأسرة إلى الدولة، من التابو إلى الليبيدو، من العلم إلى الإيديولوجيا، من المستشفى إلى السجن، من العقل إلى الجنون، ومن المدرسة إلى الكنيسة.(1)
السلطة إجمالا قائمة فى كل خطاب نقوم به حتى ولو كان يصدر من موقع خارج السلطة وهى لها آلياتها المتعددة.
كان الحديث عن السلطة فى عصور ماضية لا يتم إلا عن طريق الرمز.. فيكون الخطاب على لسان الطير أو الحيوان أو يلجأ الكاتب إلى استخدام البلاغة. إن السلطة هنا تتعلق بالسياسة، لا تتعلق بمن يحكم بقدر تعلقها بكيف يحكم؟ (2)0
هذا المفهوم تشير إليه روايات "الأسوار" و"إمام آخر الزمان" و"من أوراق أبى الطيب المتنبى" و"قاضى البهار ينزل البحر" و"الصهبة" و"قلعة الجبل" و"الخليج" و"المينا الشرقية".
من الخطأ البالغ أن نقول إن العلاقة بين المصرى والسلطة سارت دائما فى خط واحد ثابت.. القهر من جانب السلطة والخنوع المطلق من جانب المصرى.. فقد حدثت على مدار التاريخ عدة ثورات شعبية فى مواجهة السلطة الغاشمة..
أعلن الإمام فى "إمام آخر الزمان" أن الإمامة منصب إلهى كالنبوة، فالأئمة عليهم نفس مسئوليات الأنبياء، وإن كان لا يوحى إليهم.. محمد جبريل يرصد بذكاء فكر الإمام الطاغية، فهو يصادر كل صوت سيعلو بالرفض لسياسته بأن هذه السياسة هى إلهام من عند الله فلا يحق للمسلم رفضه أو حتى مناقشته!.. تطلع الشعب إلى ظهور الإمام الحق "المهدى المنتظر" فكان أول ما فعله هو القضاء على المباذل "أغلقت دور السينما والملاهى الليلية أبوابها.. اقتصرت مواد الإذاعة والتليفزيون على البرامج الدينية والجادة وتلاوات القرآن الكريم.. أوقفت البنوك معاملاتها بالفائدة، ألغيت المدارس المختلطة، شجع على إنشاء الأسبلة والكتاتيب والمساجد.. خصص للعده يومين كل أسبوع فى مجلس عام.." هكذا كانت البداية وهى فى الغالب هكذا.. فإذا أمعنا النظر وجدنا أن بذور السلطة والتفرد بالحكم بادية لكل لبيب.. فهو الذي يقرر بالإغلاق وتحويل مسار البرامج.. التوجه للدعاية الدينية للنظام.. أى اصطباغ النظام بصيغة دينية واضحة. إعادة نظام قديم للتعليم أمام غلق المدارس المختلطة إيذانا بأن على المرأة أن تختفى ويتراجع دورها فى صنع المجتمع، ومن ثم لم نفاجأ بأنه يعيد النساء إلى بيوتهن وإلزامهن بالتزيى بالزى الإسلامى.. وفى خطوة أخرى للتفرد بالسلطة وإحكام قبضة النظام على مقاليد الأمور "اتخذ رجال أمن الإمام أماكنهم بين المصلين، فلا يصلون ولا يغادرون المسجد إلا وهو يغلق أبوابه.." فقد صار الوطن سجنا كبيرا للجميع. سلطة كهذه نجدها تهمل شئون الناس وأمور حياتهم.. يتفاقم الوضع على قسوة الحاكم الذى يهدد شعبه بالتنكيل والقتل لكل من يفكر فى المقاومة.. ورغم ذلك ترددت الألسنة وتساءل الناس: لماذا لا نقاوم؟!
يدين محمد جبريل أصحاب الرأى الذين يكتفون بالمناقشة ومتابعة أفعال الإمام بالاستهجان والاستنكار.. ولكن لا يتحول الموقف إلى فعل إيجابى ممثلا فى الثورة.. فهم ينتظرون أن يأتى إمام جديد بالحل.. ثم ترجع ريما لعادتها القديمة.. فيعم الفساد والمظالم.
ظهرت فكرة جماعية القيادة التى طالب بها صفوة العلماء والفقهاء المفكرين.. لم تحظ بقبول..
-أية جماعية وأية قيادة؟ النبوة ليست بالشورى.. فلماذا نطلب ذلك فى الإمامة، لقد أعطونى طاعتهم حين أعطونى إيمانهم بى.
انتقل الإمام من خلوته إلى قهوة السيالة.. مكانا شعبيا يلتقى فيه بعامة الناس.. لا يتحدث عن الدين والآخرة –فقط- بل يتحدث عن حياة الناس ومعاشهم.
ولكن هذا الرجل الذى أمل الناس فى إمامته يقتل ذات يوم.. ليظل السؤال قائما. هل لابد من الفرد الذى يقود الجماعة؟! ولماذا لا يحكم الناس أنفسهم؟!
يظل الشعب يعانى وتبدأ الثورة بالهمس.. ثم تعلو النبرة، ليعلو صوت الثورة هادرا فى كافة العواصم العربية والإسلامية، لقد دفع الحفناوى حياته ثمنا لتحرك الناس نحو حريتهم، كان موته هو المحرك الأول لتأخذ الجماعة المبادرة وتتحرك لاختيار من يقودها بينهم.
فى رواية قلعة الجبل تأخذ الجماعة دورها فى الوقوف ضد بطش وقهر السلطان خليل الحاج أحمد.. فالسلطان الذى اختلف النص فى الحديث عنه.. وتعددت الأصوات، وإن ظل الكاتب متعاطفا مع عائشة القفاص، متحدثا عن قضيتها بنوع من التعاطف الذى جمع أهل حدرة الحنة والمناطق المحيطة بها لتقف فى ثورة عارمة أمام بطش السلطان.. ما الحكاية إذن؟
-تعجب السلطان من امرأة مصرية من عامة الشعب.. يشرد زوجها أو يتخلص منه ومن والدها وخالها وكل من يتعاطف مع عائشة.. تبدو المسألة أنها خلافات بين الرواة فيما ذكروه فى شأن السلطان وحكايته مع عائشة.
"فاعلم أن السلطان خليل بن الحاج أحمد كان متدينا وعالما وفاضلا، عنى برفع التهارج، ورد الثوابت، وقمع المظالم ونصرة المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. وكان له فى عقاب المفسدين اختراعات مهلكات وإن استمد أحكامه من مصادر التشريع الإسلامى..

هل يختلف السلطان خليل عن أى إمام ورع صالح.. غير أن حقيقة الأمر تضعنا أمام صورة أخرى رسمها الكاتب لهذا الرجل.. فقهره لم يعلن عنه مباشرة.. فقد استخدم سلطته فى اجتذاب عائشة للصعود إلى القلعة.. ثم التأثير على زوجها خالد عمار.. ووالدها.. فشلت المحاولة.. فكان البطش.. والتخلص من الخصوم بتلفيق التهم.. والتفنن فى العقاب الرادع!
لم يقف الأمر عند أهل عائشة بل امتد إلى كل شخص حاول أن يقف بجوارها أو لجأت إليه.. بدأ القمع بأناس عاديين واتجه إلى رموز فى السلطة ذاتها.. الخليفة لفقت له تهمة الخيانة، تحدث السلطان عن رسائل بعث بها الخليفة إلى أمراء البلاد يدعوهم فيها إلى مخالفة السلطان.. ثم تخلص من زوجته الأولى.. خرج الناس فى الأسواق والشوارع والعطوف ومضوا إلى قلعة الجبل، تجمعوا حول القلعة يدعون ويطالبون بعودة عائشة ونزولها من القلعة..
استجاب السلطان لثورة الشعب، عادت عائشة إلى منزلها فى حدرة الحنة، وفتح التجار حوانيتهم، وفتحت أبواب جامع الأزهر.. سكنت الفتنة..
إن المهادنة هى الطريق الذى سلكه السلطان خليل أمام ثورة الشعب.. لقد أوهم الرعية بأنه يستجيب لطلبهم.. تقرب إليهم.. خرج إليهم حيث كانوا.. يسأل عن أحوالهم ومعاشهم.. يتفقد المساجد ودور العلم ويتأمل بعناية تسوية الشوارع ونظافتها.
أختلف مع د.ماهر شفيق فريد فيما وصل إليه من أن هناك صوتين متجاورين فى رسم شخصية السلطان.. وقد أدى هذا إلى التباس القارئ.. والحقيقة أن القارئ مع مضيه فى قراءة الرواية سوف يكتشف بل يرسم صورة صادقة للسلطان خليل، وهى الصورة التى أرادها محمد جبريل وبث ملامحها، وهى صورة الحاكم الطاغية، فما صوت الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا تأكيدا على تلك الملامح التى رسمها جبريل لهذا الحاكم الطاغية. فيقول الراوى "أشفقت على سيرته من تشويه الموتورين لها، ومؤاخذتهم المعيبة عليها، وإلباسها ثوب الفجاجة.. فبدا الكذب حقيقة" فسيرة الرجل بداية مليئة بالمظالم والأخطاء، وما كان على الراوى أو المؤرخ الرسمى إلا أن ينفى هذه الصورة. إن وظيفته تشير إلى وظيفة وسائل الإعلام التى تقوم بتجميل صور الحكام الطغاة.. فتقدمهم فى صورة مخالفة لما يعرفه الناس عنهم.
يصف إريك نبتلى الكاتب –أى كاتب- بأنه "متسائل، منشق، خارجى،متحرر، صانع للمشكلات فى حرب على زمنه، مأخوذ بذلك دائما، يقف إلى جانب الأفضل فى عصره، مساعدا إياه على فهم ذاته.
ويقول جبريل: "إن لى موقفا –أتصوره واضحا- من القضايا الإنسانية والاجتماعية، وهذا الموقف يبين ن نفسه فى أكثر من عمل قصصى وروائى، ثمة وشيجة تربط روايتى "الأسوار" مثلا بقضية التحقيق برواية "قاضى البهار ينزل البحر"، ربما تناولت الفكرة نفسها، الموضوع ذاته فى أكثر من عمل."
يحمل إبداع محمد جبريل ملامح المفكر القلق الذى يبحث دوما عن كل ما هو حقيقى وإنسانى فى هذا العالم، وهذه التيمة التى تفرض نفسها فرضا، فالأدب مهما اختلف النقاد فى تعريفه، هو إفراز فنى للأفكار التى تعتمل داخل أحشاء المجتمع المعاصر"! (3)
فى روايته "الأسوار".. يفتدى البطل الملقب بالأستاذ هؤلاء المعتقلين والذين نسيتهم السلطة، أو تناستهم التعبير الأدق. فالأسوار من بعيد –مدينة أسطورية.. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجى، أبراج الحراسة من الأركان الأربعة، الممنوعات –ما عدا التقاط الأنفاس، تشمل كل شئ: الأفلام، والأوراق والصحف والراديو والمناقشات. فهى بقعة فى جزيرة رملية يحدها.. الأفق.. لا خطوط تليفون ولا قضبان قطارات ولا طرق رملية.
الأستاذ هو رجل انغمس بالتطورات السياسية فى بلده.. وهو يتمتع بذات مناضلة تحيا واقع الجماعة وتخلص لقضاياها.. أحبه الجميع على اختلاف مشاربهم السياسية فمنهم الوفدى والسعدى والإخوانى والشيوعى، والنشال والقواد وطالب الثأر والقاتل وبائع المخدرات".(4)
فى المعتقل ثمة مواجهة مباشرة للسلطة وآليات قهرها يتعرض لها كل المعتقلين.. قامت الثورة وأسفرت عن إرسال تلغرافين للحكومة لم يرض الأستاذ ولا الجماعة بتحسن الأوضاع، فالحرية لا تتجزأ (5)
شعرت إدارة المعتقل/ السلطة بأن هناك عقلا مدبراً يقود المعتقلين، عملت على التخلص منه، جندت العملاء من ذوى النفوس الضعيفة.. وجدوا فى حلمى عزت ضالتهم المنشودة، هددوه بافتضاح أمره.. نقل حلمى عزت الفكرة إلى الجماعة "بدت الفكرة اقتراحا مجنونا فى بادئ الأمر، لكن الليل البارد والأسوار والصحراء التى لا يحدها الأفق ولدغات العقارب والعذاب والغربة والحراس والوحشة والشوق والملل، ذلك كله جعل من الاقتراح المجنون –فى أقل من يوم- حلا مقبولا".(6)
إن القائد هنا هو واحد من الجماعة.. قدم نفسه فداء لأفكاره ومعتقداته، إنه يعلم بالمؤامرة منذ البداية، فقد دبر أمر الأوراق التى طويت على اسم واحد هو اسمه.. كان على الأستاذ منذ البداية أن يبث الوعى فى نفوس المعتقلين بأهمية الثورة.. والإعلان عن رفض واقعهم المهين داخل المعتقل.. ضحى الأستاذ بنفسه فى سبيل تحقيق مبادئه بالدفاع عن المظلومين حتى لو كانوا من القتلة والقوادين وتجار المخدرات.
إن المواجهة مع السلطة كانت شرسة وعنيدة دفع ثمنها المعتقلون، فإحرق الأستاذ المحرك الفعلى لهم فى مناهضة الظلم والقهر، وكان دافعا لهم لمواصلة النضال ورفضهم الاستسلام لإدارة المعتقل.. سمع صوتهم لأول مرة فكان انتصارهم وهزيمة السلطة أمام عزمهم.. إن الإشارات الدالة التى بثها محمد جبريل فى نسيج روايته وعلى لسان أبطاله، وعبر اقتباسات متعددة تؤكد على قيمة الفداء والتضحية وهى صلب علاقة المثقف بجماعته ومجتمعه.. "ألا تعلمون أنه خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" (يوحنا 11/50).
كانت العلاقة بين السلطة والمثقف علاقة يشوبها –دائما- التوتر، بدأت السلطة تعى مع العقد الثالث من القرن العشرين دور المثقف فى المجتمع، يكفى أن نشير إلى ترسانة هائلة من التشريعات المقيدة للحريات مثل قوانين المطبوعات، التشريعات المقيدة لحقوق الاجتماع والتجمهر والتظاهر، بل وتقييد التقاضى أحيانا واستحداث أنواع من القضاء الاستثنائى، بالإضافة إلى اللجوء –بصفة شبه مستمرة- إلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية".(7)
إذا كان الحال هكذا مع المثقف، هل ينتمى محمد إبراهيم مصطفى العطار إلى "قافلة المثقفين الذين عانوا من صلف السلطة، أمثال: على عبد الرازق وبيرم التونسى وسيد قطب وشهدى عطية.. ومجموعة المثقفين التى تم اعتقالها فى خريف1980.. بالطبع لا.. "فقاضى البهار" إنسان بسيط يعمل فى إدارة التخليص الجمركى لا يتعاطى السياسة وليس له أى نشاطات سياسية من أى نوع!.. فلماذا تطارده السلطة؟ وتوجه إليه التهم وحين تفشل فى إثبات تلك التهم تدس عليه "بقلوظة" الراقصة لتلفق له التهم وتراقب جيرانه وأصدقاءه وتسأل عن جميع من يحيطون به فى هجمة شرسة لتبحث عما يشينه ويدينه".(http://www.aresalah.com/vb/images/smiles/icon_cool.gif
تتكدس التقارير ونتائج الملاحقات، وتقوم أجهزة الشرطة بمطاردة كل من له صلة بقاضى البهار سواء فى الماضى أم الحاضر، فهل وجدت السلطة فى صمت أو لنقل تجاهل الإنسان المصرى العادى حيال آليات قهرها وملاحقتها للفرد فى صور شتى من العنف والاضطهاد نوعا من المقاومة؟ هل انتهت السلطة من ملاحقة كل من له نشاط سياسى وقهره بزجه داخل السجون والمعتقلات فلم تجد أمامها إلا الإنسان البسيط المهموم بلقمة عيشه تكيل له كل الاتهامات وتوقع به فى حبائلها..
كان لقاضى البهار سمعة طيبة بين جيرانه وأهله، هل حنق أجهزة الأمن ضده جاء من حرصه على اقتناء الكتب السياسية والدينية والتاريخية، فقد تحسبت أن يقوم بدور ما.. أليس فى نظرها مثقفاً؟!
الحقيقة أن سيرة محمد قاضى البهار لا تشى بالمرة بوجود ما يعكر صفو العلاقة بينه وبين السلطة التى بطشت به وبأسرته ومعارفه وجيرانه.. تحولت حياة قاضى البهار بسبب ملاحقة أجهزة الأمن له إلى جحيم لا يطاق!
تنتهى الرواية بلغز اختفاء قاضى البهار.. لا يعنى الاختفاء الموت.. هل اختفاء محمد قاضى البهار يساوى اختفاء الإمام المنتظر إلى حين ظهوره؟ هل كان اختفاء قاضى البهار احتجاجا على كل هذا العنت ممثلا فى المطاردات وإدانة أجهزة الأمن للأبرياء أو المعارضين لها؟
إذا كان قاضى البهار لم يشعر بالدهشة لما يعانيه من مضايقات أجهزة الأمن له ولكل المقربين إليه.. فإن عادل مهدى يفاجأ باعتراف مساعد فى مباحث أمن الدولة أنه راقب الندوة لمدة ثلاث سنوات.. هذا ما حدث الضبط فى رواية "المينا الشرقية" التى تتناول خفايا الحياة الثقافية عبر الحديث عن ندوة أدبية يعانى من يتردد عليها من مشكلات متعددة، حيث تتشابك العلاقات وتتعقد فيما بينهم وبين أفراد المجتمع.
كان السؤال الهاجس الذى ظل يردده عادل مهدى.. ما دخل الندوة بالمباحث؟ وماذا فيها لتراقب؟ عانى عادل مهدى من الإحساس بالخوف، ظل يبحث عن هوية هذا المجهول الذى ظل سنوات ينقل التقارير عما يدور فى الندوة، وهل كانت التقارير صادقة، أم أضاف إليها.. من هذا "الشبح الذى ظل يرصد الكلمات والأفعال والإيماءات، لقد زرع الشك داخل نفس الرجل، فشرع فى تمزيق أوراقه وصوره.. وأجندة التليفونات!
لم تبطش السلطة/المباحث بالندوة، وإن ظل الهاجس قائما، من يكون المدسوس عليها؟
-إن ما قاله الرجل عمل روتينى.. فهذه مهمة المباحث أنها تراقب الكلمة والنص، فعلاقة السلطة بالكلام وثيقة جدا، ولذلك كانت السلطة تسعى دوما إلى حماية الكلمة بشتى الطرق، وفرض السكوت إما بالقمع المادى الذى يكشف عن عجز هذا الخطاب على التلاؤم مع النص.. ومن ثم تأتى المراقبة والعرقلة والمصادرة، والحبس وترديد مفهومات مضادة لخطاب النص تقوم بعملية التشويش والتضليل!(9)
هل كان ما تعرض له محمد الأبيض من معاناة سببا فى تعاونه مع أجهزة الأمن؟
-"تقدم الرجلان، ثنيا ذراعيه وراء ظهره، وسدد الثالث الواقف أمامه لكمات متوالية فى بطنه.. علق قدميه فى حبل مبروم متدل من السقف ورأسه فى أسفل.. توالت الضربات على القدمين المعلقتين. لم يشعر محمد الأبيض باليأس ولم يعن بتلك الممارسات وألوان التعذيب كى يعترف على جريمة لم يرتكبها..
-أعترف محمد الأبيض لعادل بأن القراءة وراء عدم شعوره باليأس حتى عندما منعوه من القراءة.. "كنت أستعيد ما أحفظه من قصائد وكنت أغنى أحيانا"!
ظل محمد الأبيض مطاردا.. يشعر بهذه المطاردة.. فكل تصرف مرصود.. هل يرصد تحركات كل من يعرفه.. هل كان محمد الأبيض الشخص الذى جاءوا بسببه إلى الندوة؟
اعترف محمد الأبيض أن الحادثة القديمة تشكل جثة هامدة يجرها.. "عاد محمد الأبيض إلى المينا الشرقية، والندوة والعمل والبيت، لكنه لم يعد إلى الحياة، حياته"!(10)
تظل للسلطة هيمنتها على حياة من اصطدم بها.. وعانى من آلياتها المتفننة فى الاستجواب والتحقيق والتعذيب.. فالإنسان قبل الملاحقة ومواجهة السلطة وقهرها يختلف حتى بعد مواجهتها.. يظل هناك شئ ما انكسر فى نفس هذا الإنسان الذى يحاول جاهدا لملمة شتات نفسه وخاصة إذا كان بريئا لا يعرف ما ارتكب من تهم أو جرائم.. لكن السلطة أبدا لا تعترف بخطئها وعجزها.. تظل تلاحقه إلى أن يعترف بما تريد له أن يعترف به.
فى نهاية رواية "المينا الشرقية" يوصى عادل مهدى أمه بنفسها.. ثم ينزل إلى هؤلاء الذين سألوا عنه منذ ساعتين! عادل هو واحد ممن تعرضوا لاضطهاد السلطة أيا كانت هذه السلطة، فهو يقف بجوار الأستاذ وبكر رضوان فى "الأسوار" ومحمد الأبيض فى "المينا الشرقية" وعائشة القفاص وخالد عمار زوجها فى "قلعة الجبل"، وقاضى البهار فى "قاضى البهار ينزل البحر".
هوامش:
1- راجع بارت
2- راجع عمر أوكان.. مدخل لدراسة النص والسلطة.. الناشر أفريقيا الشرق
3- د.نبيل راغب، مصر فى قصص كتابها المعاصرين، كتاب أصوات العدد24 إعداد د.حسين على محمد
4- رواية الأسوار
5- من حديث إذاعى أجرى مع الكاتب 15/1/1974
6- رواية الأسوار
7- راجع على فهمى، المصرى والسلطة، مجلة فكر فبراير 1985
8- د.حسين على محمد، صورة البطل المطارد فى روايات محمد جبريل، دار الوفاء ـ 1999.
9- راجع جولد شيلفر، نحو سيمياء الخطاب السلطوى، ترجمة مصطفى كمال، العدد الخامس، السنة الثانية، دار البيضاء 1987
10- رواية المينا الشرقية.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:20 AM
حوار مع روائي الإسكندرية محمد جبريل
حاوره: د. احمد زياد محبك - سورية
.....................................


محمد جبريل روائي وقاص إسكندراني, عاشق للإسكندرية, منها يستمد معظم مواد رواياته, وعنها يكتب, كأنه نذر لها قلمه وحياته. هي في رواياته بريئة شفافة جميلة, أبطالها فيها يتحركون, وعبق بحرها ينتشر في كل الأنحاء. وهو كاتب صحفي, يشرف على القسم الأدبي في جريدة المساء, وله فيها زاوية يحررها كل يوم. وهو أخ كبير يلتقي مساء كل خميس مع ثلة من الأدباء الشباب في ركن جميل من مبنى نقابة الصحفيين بشارع عبد الخالق ثروة في قلب القاهرة, يستمع إليهم ويرعاهم ويشجعهم, وفي بيته العامر يستقبل الصحب والأصدقاء. وهو في كل آن وفي كل مكان سمح وكريم وطيب وبريء, يمزح كطفل, ويتكلم عن خبرة وثقافة وسعة اطلاع, ويتحدث بذكاء وبحس نقدي حصيف, تحس وأنت معه أنك أمام إنسان تعرفه منذ ألف عام, وأنه يعرفك ويحبك.
كنت التقيت الروائي محمد جبريل في ندوة عن الرواية عقدت في طرابلس بليبيا قبل ستة أعوام, ولم يكن لقاء عابراً, وأول قدومي إلى القاهرة صيف عام 2002 اتصلت به فأسرع إلى زيارتي في شقتي المستأجرة بالقاهرة هو وزوجته الأديبة الناقدة السيدة زينب العسال.
وفي صيف القاهرة الجميل كان هذا اللقاء...
* في السؤال الأول صدمة وإدهاش, وسيتقبله مني الأستاذ محمد جبريل بحب, والسؤال: أنت متهم بغزارة الإنتاج, فهل هذا صحيح, وما معنى الغزارة عندك? وكيف تحققت? وهل فيها تنوع في المواقف والرؤى والأساليب والأنواع?
- الغريب أن الذين يوجهون هذا الاتهام هم من أبناء جيلي. وجه الغرابة أن ما أصدرته المطابع لهم يفوق - من حيث الكم - كل ما أصدرته لي. والحق أني اعتبر القيمة الفنية والموضوعية هي المقياس الوحيد للعمل الإبداعي, بصرف النظر عن غزارته أم قلته. فقد صدر للصديق صنع الله إبراهيم من الروايات - على سبيل المثال - ما لا يجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. بينما صدر لأستاذنا نجيب محفوظ ما يزيد على الأربعين رواية.. لكن إبداع كل من صنع الله ومحفوظ يلتقي في القيمة الفنية المؤكدة. ولا أريد أن اضرب أمثلة أخرى حتى لا اتهم بالمجاملة أو بالتجني, وان سهل علينا التعرف على عشرات الأمثلة.
إن محاسبة أي مبدع يجب أن تتجه لقيمة ما يكتبه وليس لكم ما يكتبه. وأصارحك بأن ما يشغلني من إبداعات أتوق لكتابتها يفوق كل ما صدر لي حتى الآن, فضلاً عن أن جهاز الحاسوب عندي - وليواصل أصحاب الاتهام عجبهم! - يضم تسع روايات أنهيتها وتنتظر الموعد المناسب لنشرها, إلى جانب الكثير من القصص القصيرة والمقالات التي يسميها البعض نقداً, واسميها قراءة إيجابية.
وبالنسبة لبقية السؤال فإني أكتفي بالإشارة إلى بعض ملامح مشروعي الإبداعي مثل عفوية الكتابة الإبداعية, ووجوب أن يعبر مجموع المبدع عن رؤية شاملة, أو فلسفة حياتية, تتضمن مواقفه في المجتمع والسياسة والميتافيزيقا وعلم الجمال, وكل ما يستند إلى موهبة الأديب, وثقافته وخبراته وتجاربه.
ولعله يجدر بي أن أشير إلى عامل مهم, لا يفطن إليه رواد مقاهي وسط البلد وهواة الثرثرة ودعاة قتل الوقت, في حين أن الوقت هو الذي يقتلنا...
إني أؤمن بجدوى النظام. انه يكفل مضاعفة الوقت, وإنجاز ما يصعب إنجازه في الفوضى والتكاسل, وإرجاء ما ينبغي التوفر على إتمامه.
*أنت صحفي, عملت في الصحافة طوال عمرك, وقد أخذت منك ثماني سنوات ونصف من التفرغ لها في عُمان, حيث أشرفت على صحيفة «الوطن», فكيف وفقت بين الصحافة والإبداع? وما أثر الصحافة في كتابتك وحياتك?
- سئل ارسكين كالدويل: هل العمل في الصحافة يساعد أو يعوق كتابة القصة القصيرة?... أجاب: لا أعرف شخصاً واحداً اضرّ به التمرين على الكتابة من أي نوع. إن الصحافة, فضلاً على أنها تفيد في التمرين الدائب على الكتابة, فإنها تساعد أيضاً على تكوين عادة الكتابة كل يوم. إن انتظار الوحي عذر قلّما تجده لدى المؤلفين الذين تمرسوا بالصحافة. وحتى الآن, فإن جارثيا ماركيث يحرص على العمل في الصحافة, ذلك لأن الصحافة - في تقديره - تحميه, وتحرسه, وتجعله متصلاً بالعالم الحقيقي. كانت الخبرات الصحفية - باعتراف ماركيث - وراء العديد من أعماله الروائية, مثل قصة غريق, حكاية موت معلن, نبأ اختطاف. بل إن رائعته «خريف البطريرك» استلهمها من تغطيته لوقائع محاكمة شعبية لجنرال أمريكي لاتيني اتهم في جرائم حرب...
لقد تبلورت خططي القريبة في ضرورة أن أظل في عملي بالصحافة, باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية, وان احصل منها على مورد يتيح لي تلبية احتياجات العيش, فلا أنشغل بأعمال أخرى تنتسب إلى الكتابة, لكنها قد تصرفني عن القراءة والكتابة, وأن ألزم نفسي بنظام - مثلي فيه أستاذنا نجيب محفوظ - يحرص على الجهد والوقت. وأخيراً, أن يكون لي بيت زوجية, فلا تواجه مشاعري العاطفية ولا الحسية ما يمكن أن اسميه بالتسيب.
أذكر أني مارست في العمل الصحفي جميع أنواع الكتابة, كتبت الخبر والتحقيق والمقال والدراسة. أهب كل نوع ما يحتاجه من مفردات لغوية وصياغة وتقنية, باعتبار القارئ الذي أتجه إليه في ما أكتب. وبالتأكيد, فإن كاتب التحقيق الصحفي يختلف عن كاتب المقال الأدبي, واللغة القصصية تختلف عن لغة الصحافة. يسرت لي الصحافة سبل اقتناء الكتب التي تعجز مواردي عن شرائها جميعاً. فأنا اكتب في صفحة أدبية. في هذه الصفحة باب للكتب, فأنا اكتب عن كل كتاب يهديه صاحبه - أو ناشره - للجريدة, ثم أحتفظ به لنفسي, وأتاحت لي الصحافة مجالات ربما لم اكن أستطيع أن اقترب منها في الوظيفة العادية. سافرت إلى مدن وقرى داخل مصر وخارجها, والتقيت بشخصيات تمتد من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى قمته, وبثقافات متباينة, وان لم يتح لي عملي في الصحافة امتيازاً من أي نوع. كانت جيرتي للشيخ بيصار شيخ الأزهر الأسبق, ولوزير سابق لا اذكر اسمه, مبعث اعتزازي بأني أجاور ناساً مهمين في غياب أصدقاء من السلطة. وحتى لا أبدو في موضع سيئ الحظ, فإني اعترف بحرصي على الوقوف في الطابور, فضلاً عن عدم ميلي إلى مصادقة السلطة, حتى لو تمثلت في اكتفائي باجترار صداقات أتيح لطرفها المقابل بلوغ مراكز متفوقة في السلطة. وكان عملي الصحفي, الحياة في الصحافة, الأحداث والشخصيات التي تعرفت - بواسطتها - إليها, وراء العديد من أعمالي الروائية, بداية من الأسوار - روايتي الأولى - وانتهاء بأحدث ما كتبت شمس مسقط الباردة, مروراً بالنظر إلى أسفل، وبوح الأسرار، والخليج ... وغيرها. بل إن الصحفي هو الشخصية الرئيسة في هذه الأعمال.
ولكن من المهم أن أشير إلى أن الصحافة قد ترضى بالكاتب قاصاً أو روائياً أو شاعراً في بعض الأحيان, لكنها تريده صحفياً في كل الأحيان. إنها تريده كاتب مقال أو تحقيق أو خبر الخ.. مما يتفق وطبيعة العمل الصحفي الذي يعد الأدب - في تقدير القيادات الصحفية - جزءاً هامشياً فيه. أُصارحك بأني نشرت روايتي "قلعة الجبل" في الجريدة التي أعمل بها. نقلت المسودات على الآلة الكاتبة, وصورتها, ونشرتها في جريدتي, فلم أتقاض في ذلك كله مليماً واحداً, في حين أن الزميل الذي يسبق الآخرين بخبر في بضعة اسطر, يتقاضى مكافأة تبلغ عشرات الجنيهات!.. وهذا كله يعد انعكاساً واضحاً, ومفزعاً, للنظرة إلى العمل الأدبي, وقيمته ضمن مواد العمل الصحفي.
الفن - الرواية والقصة على وجه التحديد - عالمي الذي أوثره بكل الود. أتمنى أن اخلص لهما - تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع - دون أن تشغلني اهتمامات مغايرة. لكن الإبداع في بلادنا لا يؤكل عيشاً. ربما أتاحت رواية وحيدة في الغرب لكاتبها أن يقضي بقية حياته "مستوراً", أن يسافر ويعايش ويتأمل ويقرأ ويخلو إلى قلمه وأوراقه دون خشية من الغد, وما يضمره من احتمالات, لكن المقابل المحدد والمحدود الذي يتقاضاه المبدع في بلادنا ثمنا لعمله الأدبي يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة!!.. من هنا كان اختياري - الأدق: لجوئي - إلى الصحافة, فهي الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته, وهمومه أيضاً.
ولعلي اذكر قول المازني لأحد الأدباء الذين عابوا عليه وفرة كتاباته: "ستقول إن المازني كان بالأمس خيراً منه اليوم, وانه ترك زمرة الأدباء, وانضم إلى زمرة الصحفيين, وانه يكتب في كل مكان, ويكتب في كل شيء, حتى اصبح تاجر مقالات, تهمّه ملاحقة السوق اكثر مما تهمّه جودة البضاعة.. أليس كذلك? ولكن لا تنس أن الأديب في بلدكم جبر على أن يسلك هذا السبيل ليكسب عيشه وعيش أولاده, وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه إنسان".
لذلك منيت النفس وأنا ارحب - متحسراً - بالسفر إلى سلطنة عُمان للإشراف على إصدار جريدة أسبوعية - تحولت إلى يومية فيما بعد - بأن أدّخر في الغربة ما يعينني على الإخلاص للفن وحده, لكن الأمنية ظلت في إطارها, لا تجاوزه. وكان لا بد أن اكتب في موضوعات تقترب من الفن أو تبعد عنه. وحتى لا افقد ذاتي في سراديب مجهولة النهاية, فقد فضلت أن تكون محاولاتي أقرب إلى ما يشغلني في الفن, وفي الحياة عموماً. وبصوت هامس ما أمكن فإن مصر - الموطن واللحظة والماضي والمستقبل - هي الشخصية الأهم في كل محاولاتي الإبداعية. ذلك ما احرص عليه, وما لاحظه حتى القارئ العادي. تعمدت أن تكون مصر: تاريخها, وطبيعتها, وناسها, ومعاناتها, وطموحاتها, نبض كتاباتي جميعاً. ما اتصل منها بالصحافة, وما لم يتصل, ما اقترب من الأدب وما لم يقترب. وكانت حصيلة ذلك كله - كما تعرف - عشرات الدراسات والمقالات التي تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية بدءاً من كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" مروراً بـ"مصر من يريدها بسوء" و"قراءة في شخصيات مصرية" و"مصر المكان" إلخ... وانتهاء بما قد يسعفني العمر بإنجازه.
* أنت مثقف واسع الاطلاع, تشهد على ذلك مؤلفاتك النقدية, فقد كتبت عن مصر في قصص كتابها المعاصرين, ونلت عن هذا المؤلف جائزة الدولة التشجيعية عام 1975 كما وضعت كتاباً عن نجيب محفوظ, فما دافعك إلى الكتابة النقدية? وما جدواها بالنسبة إليك وأنت الكاتب الروائي? وما أثرها في إبداعك الروائي?
- ثمة حقيقة يجب أن نتفق عليها, هي أن النقد الذي يقيس الزوايا والأبعاد, ثم يصدر أحكاماً, ويدلل عليها, ليس محتوى كتاباتي التي تختلف عن إبداعاتي في الرواية والقصة القصيرة ولا غايتها. أنا لا اتخذ موقف الناقد الذي وصفه تشيكوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها في أثناء حرثها للأرض. إن الآراء التي أتوصل إليها, هي من قبيل الاجتهادات الشخصية التي ربما كانت أخطاء محضة.
القراءة حرفتي وهوايتي. وأنا اعتمد في قراءتي للكتاب أن أثبت أهم المعلومات التي يشتمل عليها, وآرائي في موضوعاته, وأضيف إليها حصيلة مناقشات مع صاحب الكتاب نفسه, سواء في موضوع الكتاب, أم في موضوعات يطرحها النقاش, ويتكون من ذلك بطاقات تكفي لإعداد كتاب, أقبل على تأليفه بروح المبدع وليس الناقد. ومنذ سنوات بعيدة, تحدد عالمي في جدران مكتبي. افرغ للقراءة بامتداد ساعات الصحو, والكتابة الإبداعية يصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن تكون نبض عمل أيام متتالية. إنها تهد الحيل, تجعلك في لحظات الإبداع, وربما قبلها أو بعدها, كأنك لست أنت, كأنك أثقلت بما لا تقوى على حمله.
* ما رؤيتك للرواية? وما مشروعك الروائي? هل ثمة تصور لديك عن العالم? أو فلسفة ما تدافع عنها أو تدعو إليها? وما صلة ذلك بحياتك الشخصية?
- ما يغيب عن معظم إبداعنا العربي, وأتصور أنه لا بد أن يكون بعداً أساسياً في أي عمل روائي أو قصصي, هو فلسفة الحياة. والفلسفة التي أعنيها هي الرؤية الشاملة وليست الميتافيزيقيا وحدها. الميتافيزيقا بعد مهم, لكنها جزء من أبعاد الحياة الإنسانية جميعاً. تقول سيمون دي بوفوار "إن الرواية الفلسفية إذا ما قرئت بشرف, وكتبت بشرف, أتت بكشف للوجود لا يمكن لأي نمط آخر في التعبير أن يكون معادلاً له. إنها هي وحدها التي تنجح في إحياء ذلك المصير الذي هو مصيرنا والمدون في الزمن والأبدية في آن واحد, بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهري" ومع ذلك فإن الرواية التي أعنيها هي التي تعبر عن فلسفة الحياة, وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقي.
إن الأدب غير الفلسفة, لكنه - في الوقت نفسه - تصور للعالم, يرتكز إلى درجة من الوعي وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس.. طريقة الفيلسوف هي التنظير والتحليل والإقناع والصدور عن العقل, والاتجاه كذلك إلى العقل. أما طريقة الأديب فهي العاطفة والخيال والحواس, والصدور عن ذلك كله إلى المقابل في الآخرين من خلال أدوات يمتلكها الأديب, وتتعدد مسمياتها, كالتكنيك والتنامي الدرامي والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال, إلخ...
والحق انه ما من إبداع حقيقي يمكن أن يخلو - بدرجة ما - من فلسفة ما, وإن عاد الأمر - في الدرجة الأولى - إلى مدى قدرة المبدع في بث الحياة عبر شرايين الفكرة الفلسفية المجردة. وكما يقول شكسبير فليس المهم هو الأشياء, المهم وجهة نظرنا عن الأشياء. وأذكر بقول تين في كتابة الأشهر "تاريخ الأدب الإنجليزي": «إن وراء كل أدب فلسفة».
وطبيعي أن نظرة الكاتب إلى الهموم التي تشغله, موقفه الكامل منها, يصعب أن تعبر عنه قصة واحدة أو قصتان, لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان في مجموع أعماله, وفي كتاباته وحواراته التي تناقش تلك الأعمال. أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة, لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تبين عن ملامحها في ثنايا أعماله. التجربة الإبداعية - على تنوعها - تخضع لوجهة نظر شاملة, لفلسفة حياة تحاول التكامل, وإن استخدمت في كل عمل ما يناسبه من تقنية, والقارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع, في مجموع ما كتب.
إن الأدب هو الأسبق دائماً في النظرة, في محاولة استشراف آفاق المستقبل. إنه يسبق في ذلك حتى العلم نفسه. وكما يقول كافكا: "فإن رسالة الكاتب هي أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية. ان يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق مع القانون العام. إن رسالة الكاتب نبوية". كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوي هي الترديد المستمر للأفكار العامة, للنظرة الشاملة, لفلسفة الحياة, في مجموع تلك الأعمال. وكان ذلك هو الذي أعطى أعمال تولستوي - كما يقول ادينكوف - تكاملاً وتماسكاً داخلياً. وكما يقول تولستوي, فإن الكاتب الذي لا يمتلك نظرة واضحة, محددة وجديدة للعالم, ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة, لن يستطيع تقديم عمل فني حقيقي. أما همنجواي فقد تمحورت رؤيته الحياتية في أن العالم قادر على تحطيم أي إنسان, لكن كثيرين يستعيدون قواهم, وينهضون. والإنسان - في فلسفة كامي الحياتية - يكتشف عبثية الحياة, لا معقوليتها, وليس بوسعه إلا أن يتحدى كل شيء في هذا العالم. وباختصار, فإنه لكي يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقي على شعور العبث في داخله كي يستمد منه طاقة التحدي اللازمة. والأمثلة كثيرة.
* للإسكندرية مكانة في نفسك وفي رواياتك, فما سر هذا العشق للمكان والإنسان في الإسكندرية? ما رأيك بالإسكندرية نفسها ماضياً وحاضراً? هل هي لديك ماض أو حاضر أو مستقبل.
- حي بحري بالإسكندرية - السيالة والانفوشي ورأس التين - هو الموطن الذي شهد طفولتي ونشأتي, وهو المكان الذي تمنيت أن اكتب عنه, بكل ما يشتمل عليه من تمايز في خصائص الحياة وسلوكياتها.
إن صورة الحياة في الأحياء الشعبية في الإسكندرية لا تختلف كثيراً عن صورة الحياة في الأحياء الشعبية في القاهرة والمدن المصرية الأخرى .. لكن السمة الأهم لصورة الحياة في بحري هي الصلة بين اليابسة والبحر.. البحر بكل ما يمثله من حكايات البحر والصيادين والنوات والسفر إلى الموانئ القريبة والبعيدة.. واليابسة بكل ما تمثله من اعتماد على الحياة في البحر, بداية من حلقة السمك, وتواصلاً مع غلبة الروحانية, والإيمان ببركات الأولياء, والحياة من رزق البحر سواء ببيع السمك, أو العمل على السفن الصغيرة والبواخر الضخمة.
على اليابسة مجتمع بحر بكل ما تعنيه الكلمة. ثمة صيادون وعمال في الميناء وبحارة وموظفون وشركات للملاحة والتصدير والاستيراد.
حي بحري هو اصل الإسكندرية. هو راقودة, وفاروس, والمساحة من الأرض التي تشكلت منها - قبل التاريخ المكتوب - مدينة الإسكندرية الحالية.
وإذا كان الاسكندر المقدوني قد أطلق اسمه على المدينة القديمة, فإن ذلك لا يعني غياب الحياة عن المدينة قبل أن يصل إليها, ويأمر مهندسه دينوقراطيس بالقول: أريد أن ابني عاصمة ملكي هنا! أراد أن يبني عاصمة ملكه في موقع مدينة كانت قائمة بالفعل, وإن أتاح لها التخطيط أن تتسع, وتتطور, وتصبح عاصمة العالم القديم.
أزور بحري بين كل فترة قصيرة وأخرى: المرسي أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري وحلقة السمك وورش المراكب ومرسى الميناء الشرقية وقلعة قايتباي والميادين والشوارع والأزقة التي تصنع جواً يفيض بالروحانية, من خلال الجوامع الكثيرة, ومظاهر الحياة الدينية بعامة.. ويفيض كذلك بالحس الشعبي الذي ظل على تماسكه, وعلى معتقداته وتقاليده, وبالذات في العقود التي دانت فيها المدينة لسطوة الأجانب, فتحولت إلى مدينة كوزموبوليتية بمئات الألوف من الأجانب, بينما افتقد العنصر الوطني انتماءه إلى مدينته.
* لك موقعك المتميز في خريطة الرواية العربية, وأنت تعرفه من غير شك, فما رؤيتك للواقع الروائي في مصر وفي الوطن العربي? وما تصورك لمستقبل الرواية? وكيف يمكن أن تتجه وإلى أين يمكن أن تسير? ولا سيما في ضوء الروايات الجديدة كالرواية التاريخية ورواية الحداثة وما بعد الحداثة?
-أشكرك على رأيك في شخصي الضعيف, ورأيي أن الرواية تشهد الآن ازدهاراً ملحوظاً على مستوى العالم العربي. ولا أكون مغالياً لو قلت إن المكانة التي تحتلها الآن رواية أمريكا اللاتينية تستحقها الرواية العربية كذلك. إنها إبداع متفوق بكل المقاييس. وحين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل فهو لم يكن - كما ادعت مستشرقة إسبانية - واحة في صحراء مجدبة, إنما هو مبدع كبير ضمن حركة إبداعية خصبة ومثمرة, متصلة الحلقات والأجيال, تجد بدايتها في قصة الأخوين الفرعونية - أول قصة في التاريخ - تتواصل مع عشرات المعطيات في التراث العربي, وحتى زمننا الحالي الذي يطلق عليه البعض تسمية زمن الرواية. وظني أن هذا الازدهار الذي تحياه الرواية سيظل صورة المستقبل. دليلي أن الرواية هي الجنس الأوفر حظاً في إبداعات الأجيال الحالية المختلفة. وقد طالعتنا - في الأعوام الأخيرة - أعمال روائية كتبها شعراء ونقاد وفنانون تشكيليون.
أكرر: إن إبداعنا الحديث يتوازى في القيمة مع إبداعات أمريكا اللاتينية, وهي الإبداعات التي تحتل الآن موضع الصدارة في الأدب العالمي. المشكلة ليست في القيمة, لكنها في الثقة بالذات, وفي الاستراتيجية التي تحرص على تصدير - ومعذرة لرداءة التعبير - الأفضل والأصلح, وليس إبداع التربيطات والمجاملات والشللية.
* لقد حققت الرواية العربية حضوراً واضحاً, في معظم أقطار الوطن العربي, وقدمت تقنيات فنية متطورة, كما واكبت تطور الواقع العربي, فهل يمكن أن تصل الرواية العربية إلى مستوى العالمية? وأين يمكن أن تضع الرواية العربية في خريطة الرواية العالمية?
- بالمناسبة: متى, وكيف, يكون للإنتاج الثقافي العربي موقعه المتميز على خريطة الإنتاج الثقافي العالمي? للأسف, نحن نقصر الإبداع العالمي على ما تنتجه أوروبا والولايات المتحدة. والصورة الحقيقية تختلف عن ذلك تماماً. إن الإبداع العالمي في أعلى مستوياته نتابعه في إبداعات أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا, وفي شرقنا العربي.. لكننا - كما أشرت - ندين بأحادية النظرة. ما يأتي من الغرب وحده هو الذي يسر القلب. وقد استطاعت أمريكا اللاتينية أن تتخلص من طغيان المنتج الثقافي الأمريكي, ليس في الرواية والقصة القصيرة فحسب, وإنما في السينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها من الأجناس الأدبية.
البعض يؤثر الاتكال على منجزات الثقافة الغربية باعتبارها التعبير الصحيح عن الثقافة العالمية بعامة. في إهمال - عفوي أو متعمد - لثقافات أكثر تفوقاً, وأكثر تعبيراً عن الهم الإنساني في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا, فضلاً عن ثقافة المنطقة العربية بل ما يميزها من خصائص, وهي تؤثر في الثقافات الأخرى وتتأثر بها, ليشكل مجموع الثقافات ما يمكن تسميته بالثقافة العالمية. واعتبار الثقافة الغربية هي الثقافة العالمية خطأ معيب, نملك تصويبه بالترجمة عن آداب العالم دون لغة وسيطة, والتعرف على فنون العالم وفكره وإبداعاته, فلا يقتصر ذلك على لغة بالذات, ولا مناطق في العالم بعينها. وفي المقابل, فإن منتجنا الثقافي يجب أن يتجه إلى كل العالم باعتباره تعبيراً عن ثقافة مميزة, هي جزء من الثقافة العالمية ككل.
الثقة بالذات, والإبداع الذي يصدر عن الذات والذي يستند إلى التراث, ويفيد من تيارات العصر, هو تجربتنا المطلوبة, الوحيدة.
وان يكون للإنتاج الثقافي العربي موقع متميز على خريطة الإنتاج الثقافي العالمي, فهذا هو ما يطمح إليه كل المبدعين والمثقفين العرب. وهو طموح ينطلق من مشروعية مؤكدة.
والحق أن موضع الإبداعات العربية على خريطة الثقافة العالمية لا يجاوز بالنسبة للمبدعين العرب - حتى الآن - الطموح أو الأمنية. أما الموضع الفعلي, المكانة التي يستحقها بالفعل, فذلك ما يخضع لاعتبارات عديدة, في مقدمتها الاعتبارات السياسية, بحيث يمكن القول - ببساطة - أن الخريطة الإبداعية العالمية تحتاج إلى مراجعة شديدة, تحرص على التأمل والمناقشة, ومحاولة التوصل إلى الصورة الصادقة.
* الرواية العربية هي بشكل ما تعبير عن الواقع العربي, وهو واقع مؤلم, يعاني من إحباطات كبيرة وكثيرة, ومن توقعات إجهاض حضاري ومعرفي, فما رؤيتك للواقع العربي وللمستقبل العربي, وأنت من مثقفي العصر وشاهد عليه? هل تحلم مثلاً بكتابة رواية تعبر عن هذه الرؤية المستقبلية?
- من الأعمال التي أتممت كتابتها رواية عن أعوام الوحدة بين مصر وسورية من خلال بنسيون يسكن فيه طلبة من أقطار عربية مختلفة. لقد حاولت فيها أن أُعبِّـر عن رؤيتي لأحوال امتنا العربية, من خلال رؤية لا تنظر إلى الكوب نصف الممتلئ, ولا الكوب نصف الفارغ, إنما هي رؤية تستند إلى معايشة حقيقية ومتابعة. والمقولة التي ربما تعبر عنها هذه الرواية أن مشكلة الوطن العربي هي عدم المشاركة السياسية من مواطنيه, ومثقفيه بخاصة, مما يفضي إلى غياب الانتماء والمثل الأعلى والمشاركة, وغلبة الإحساس الفردي أو الإحساس القبلي الذي لا يطمئن إلى القومية, وتحول الديمقراطية إلى أمنية نتحدث عن تطلعنا إليها, لكن الطريق الحقيقية إليها مسدودة بالعديد من العوائق, وجميعها من صنع الحكام, ولا أزيد حتى لا يدفع السائل ثمن صراحتي.
إن مشاركة المواطن في صياغة واقع وطنه ومستقبله, سيبدل الصورة تماماً, بحيث يصبح المواطن مواطناً وليس رعية!
* ما رأيك في المعوقات التي يواجهها الكتاب العربي, ووسائل انتقاله بين أقطار الوطن العربي المختلفة?
- المعوقات كثيرة, أهمها غياب الديمقراطية والحرية وغيرها من الأبعاد التي تعد ضرورة للإبداع. ثم الخلط بين الثقافة والإعلام, وربما الإعلان, والنظرة المتدنية إلى الكلمة قياساً إلى الوسائل الأدائية الأخرى. ولعلي أشير إلى اللا مقابل الذي يتقاضاه المثقف المتحدث في وسائل الإعلام, يتقاضى هو هذا المقابل. فضلاً عن وجوب تحرير قوانين النشر والاستيراد والتصدير من كل المعوقات التي تواجهها صناعة الثقافة, بينما يتقاضى معلق كرة القدم في مباراة واحدة بضعة آلاف من الجنيهات. كذلك فإن النظرة إلى الكتّاب يجب أن تتبدل تماماً, بحيث تنعكس تلك النظرة على قوانين النشر والتصدير, فلا يدفع المبدع مقابلاً لنشر كتبه, بدلاً من أن يتقاضى ثمن الكتاب.
* للمرأة مكانة متميزة في رواياتك, وفي حياتك, ونخص بالذكر الزوجة الوفية السيدة زينب العسال, وهي أديبة وناقدة وباحثة, لها حضورها في الساحة الأدبية, فما دور السيدة زينب العسال في حياتك وفي أدبك? وما دورك أيضاً في أدبها وحياتها?
- لزينب العسال في حياتي أدوار متعددة, فهي صديقة وزوجة وناقدة لأعمالي قبل أن ادفع بها إلى المطبعة, ولأنها أخذت نفسها بصرامة من حيث الدراسة والممارسة, فنالت العديد من الدبلومات, كما حصلت على درجة الماجستير, وتعد الآن رسالة الدكتوراه, ونشرت العديد من الدراسات في الصحف والدوريات. لذلك كله فإني لم أعد أتابع زينب في المؤتمرات والندوات التي تشارك فيها. غاب قلق الأعوام الأولى, وتحريضي لها على أن تصبح واحدة من أهم ناقداتنا, فذلك ما حدث بالفعل.
إن دوري في حياة زينب العسال الآن يقتصر على قراءة ما تكتبه, وإبداء الملاحظات التي لا ألح في أن تعمل بها, فمن المهم أن تكون لها وجهة نظر, وأن تعبر عنها, وأن تحتمل - في الوقت نفسه - نتائج ما تكتب!
* في نهاية هذا الحوار أود أن أسألك: وماذا تقول للشباب? جل المستقبل وحاملي الأمانة, والأمل?
- ماذا أقول للشباب? أترك لك الرد على هذا السؤال, فقد رأيت ندوتي الأسبوعية في مقر نقابة الصحفيين, وشاركت فيها, ولك فيها رأي.
(يسعدني أن أقدم شهادتي في ندوتك, فقد رأيتك ترعى الأدباء الشباب وتشجعهم وتصغي إليهم باهتمام كبير, وتترك لهم حرية التعبير والنقد, ضمن معايير الاحترام والتهذيب والتقدير, ورأيت لديهم حساً نقدياً متطوراً فهم يدركون مسؤولية الأديب عن التجديد ومواكبة العصر في التقنية والبناء وفي الهموم والمشكلات, ويرفضون الاجترار والتقليد, وأنت تشجعهم وتؤديهم, ولا تصادر آراءهم, ولمست لديهم عطاء إبداعياً يرقى في كثير من الحالات إلى مستوى رفيع جدير بالاهتمام, ومما لا شك فيه أن أسماء لامعة لأدباء سوف تظهر من خلال ندوتك, إن لم يكن بعضها قد ظهر فعلاً وحقق حضوره الأدبي المتميز, ولا شك في أنك تقول للشباب أهلاً بكم وأنا معكم والمستقبل لكم, ولكنك أذهلتني, فقد حولتني في النهاية من سائل إلى مجيب, ومن محاور إلى متحدث).
عناوين فرعية
القيمة الفنية والموضوعية هي المقياس الوحيد للعمل الإبداعي بصرف النظر عن غزارته أو قلته
لقد تبلورت خططي القريبة في ضرورة أن أظل في عملي بالصحافة باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية
أنا لا اتخذ موقف الناقد الذي وصفه تشيكوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها أثناء حرثها للأرض
الرواية العربية تشهد الآن ازدهاراً ملحوظاً على مستوى العالم العربي.. إنها إبداع متفوق بكل المقاييس

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:23 AM
غوايــــــة

قصة قصيرة، بقلم: محمد جبريل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حين صعد الشبان الخمسة إلى عربة المترو ، كان يقرأ جريدة وهو واقف فى الزاوية بين ظهر المقعد والباب المغلق من الناحية المقابلة . كانت المقاعد ممتلئة ، وتناثر الوقوف فى المساحات الخالية . استأنف الشبان كلامهم فى وقفتهم بالقرب منه . تشاغل بقراءة الجريدة ، وإن عكست تعبيرات وجهه ما يبين أنه يتابع نقاشهم ..
التقط ملاحظة الشاب المنمش البشرة عن انتصاف النهار دون أن يتناولوا طعاماً . أخرج من جيب الجاكت قطعة شيكولاتة . همس بلهجة مشفقة :
ـ تصبيرة !
تنبه الشبان إليه ..
أطالوا التحديق في ملامحه وهيئته . في حوالى الخامسة والأربعين . يرتدى بدلة رمادية ، ورباط عنق من اللون نفسه . عيناه قلقتان لا تستقران بين أجفانه الضيقة ، فهو يطبق جفنيه ، ويفتحهما ، فى حركة عفوية ، سريعة ، ويكثر من رفع إصبعه ليعيد النظارة المنزلقة على الأنف إلى موضعها ، ويمسك فى يده منديلاً لتنشيف العرق المتصبب في وجهه ..
قال الشاب الطويل القامة :
ـ وأنا .. أليس لى قطعة شيكولاتة ؟
رسم على وجهه ابتسامة واسعة ، وأشار إلى الشاب المنمش البشرة :
ـ أعطيته قطعة كنت أحتفظ بها لنفسى ..
التقط الشاب ارتجافة فى عينيه ، فقال :
ـ لا شأن لى .. أريد شيكولاتة ..
غلبه ارتباك . بدا منطوياً على نفسه ، ومتخاذلاً . رفع الجريدة بيده كمن يحاول الدفاع عن نفسه . تشجع الشاب الطويل فاختطف الجريدة . علت ضحكات الشبان . امتدت يد الشاب المنمش البشرة إلى الجيب العلوى . أخذ القلم ، وقذف به فى الهواء . التقطه . أعاد ما فعله مرات ، ثم قذف به من النافذة ..
صرخ :
ـ القلم !
انعكست نظراتهم ارتجافة فى عينيه . وشى تلفته أنه يريد الابتعاد . تقدموا نحوه فى نصف دائرة . عاد بظهره إلى الوراء حتى التصق بالجدار . ظلوا يرمقونه بنظرات قاسية ، ويكورون قبضاتهم ، ويقتربون ، ويقتربون ..
كان الشاب الممتلئ الجسد أقربهم إليه . صفعه بظهر كفه . تبعه الشاب الطويل ذو النظارة الطبية بلكمة . شجعهم تكوره على نفسه ، وملامحه الخائفة ، على معاودة ضربه . انهالت قبضاتهم وركلاتهم على جسده ، لا تتخير الموضع الذى تصيبه ..

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:23 AM
وهذا حوار مع الروائي محمد جبريل، من كتابي "من وحي المساء":
***
أرفض الخيال المحض في مضامين أعمالي:

حاوره: د. حسين علي محمد

***
غاب محمد جبريل عن الوطن ثماني سنوات (1976-1984) في سلطنة عمان، حيث كان في مهمة جادة لإصدار جريدة "الوطن" التي جعل منها واحدة من الجرائد القوية في منطقة الخليج، كما أصدر ملحقها الأدبي المتميز الذي يجعلنا نتمنى أن تُصدر الصحف الأدبية المصرية مُلحقا مثله.
وبعد عودته من عمان كان هذا اللقاء معه:
*ثماني سنوات من التجربة وأنت بعيد عن وطنك مصر الأثير إلى نفسك، ماذا قدمت لك التجربة؟ وكيف تنظر إليها الآن؟
-حين اتصل بي المرحوم الشيخ سليمان الطائي وألحَّ في أن أُنقذ جريدة "الوطن" من مأزق حقيقي تبدّى في عدم انتظام صدورها، وانقطاعها ـ أحياناً ـ لفترات تمتد إلى الأشهر، وافتقادها للمقومات الأساسية للعمل الصحفي، إلى حد مُصارحة الزميل حسين أحمد مرسي ـ الذي كان يتولى مسؤولية الإعلان والتوزيع ـ إليَّ أن محررها الأوحد ـ قبلي ـ كان العمل الذي يُجيده هو الطباعة على الآلة الكاتبة! يكتفي بتسجيل الأنباء المحلية من إذاعة عمان، ويبعث بها إلى المطبعة التي تتولى طباعة الوطن في بيروت أو القاهرة أو الكويت، فتستكملها بمواد أخرى منقولة بتصوير الأوفست من الصحف المختلفة. وهكذا كانت تصدر "الوطن"، بل وهكذا كانت تصدر كل الصحف العمانية، فيما عدا "عُمان" بالطبع، التي حاولت أن تعتمد على جهود العاملين فيها، وإن لجأت آنذاك ـ كثيراً كثيراُ ـ إلى أسلوب القص واللصق الذي يُعد الوجه الآخر ـ السلبي ـ لطريقة الطباعة بالأوفست.
أقول: حين عرض عليَّ الشيخ سليمان الطائي مسؤولية إنقاذ "الوطن" من مصير واضح كان يتهددها ترددتُ كثيراً، وألحّ دون يأس. فلم أوافق إلا بضغط مباشر من أستاذي عبد المنعم الصاوي الذي وسّطه الشيخ الطائي حتى يُحاول إقناعي .. ذلك لأن عام 1975 الذي قدّم فيه الشيخ الطائي عرضه كان هو عام فوزي بجائزة الدولة في الأدب، وكذلك كان عام سفري إلى العديد من الأقطار العربية لإلقاء محاضرات في فنية العمل الصحفي بتكليف من المركز العربي للدراسات الإعلامية في السكان والتعمير، بالإضافة إلى أني كنت مشغولاً في كتابة روايتي "حكايات عن جزيرة فاروس"، وكتابي "ملامح مصرية" والجزءين الثاني والثالث من كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين". وكان التخلي عن ذلك كله صعباً وقاسياً. لكنني ـ في النهاية ـ لملمت أوراقي، واحتفظت بها في الأدراج ثماني سنوات كاملة، كنت خلالها مشغولاً بتحقيق المعجزة ـ وليس في التعبير أدنى مبالغة ـ أن تُصدر جريدة أسبوعية بمجهود فردي .. ثم أن أُصدر هذه الجريدة ـ فيما بعد ـ يومية بمجهود شبه فردي.
لكن الجانب الإيجابي المقابل في هذه التجربة، تمثل في استفادتي المؤكدة من الممارسة التطبيقية في كل مجالات العمل الصحفي بدءاً من إدارة التحرير وانتهاءً بالسكرتارية التنفيذية، مروراً بالكتابة الصحفية: كتابة العمود السياسي، والخاطرة اليومية، والتحقيق، والدراسة، والخبر. حتى التصحيح كان من بين مهام المحرر الوحيد الذي كنته! وثمة تعرفي إلى اهتمامات، وأسماء ومناطق أخرى ربما لم أكن أتعرف عليها لولا سفري إلى السلطنة .. بالإضافة إلى أن إقامتي في السلطنة كانت هي الباعث لأن أكتب روايتي "إمام آخر الزمان".
*هل كنت تُواكب أدباء جيلك وأنت بعيد عنهم؟
-لم أكن بعيداً على الإطلاق عن أدباء كل الأجيال السابقة؛ فالسلطنة تأذن بدخول كل المطبوعات، بل لقد أُتيح لي في السلطنة أن أتعرّف إلى أدباء في الوطن العربي لم يُسمع صوتهم في القاهرة بعد. ومن بين كتاباتي الحالية دراسة مطولة عن الأديب عز الدين المدني ـ الغائب تماماً عن اهتمامات المثقفين المصريين ـ ومحاولاته التجريبية التي أجد أنها تتفق تماماً مع نظرتي إلى معنى التجريب.
أما بالنسبة لغيابي الجسدي عن القاهرة، فلم يكن حقيقيا، ذلك لأني كنتُ حريصاً على العودة إلى مصر بين فترة قصيرة وأخرى، وجواز سفري مزدحم بعشرات الأختام التي تبين عن أسفاري المتواصلة بين مسقط والقاهرة.
لم أكن بعيداً عن أدباء جيلي إذن، بل ولم أكن بعيداً عن الحياة الثقافية إطلاقاً! ولعل "الملحق الثقافي" لجريدة "الوطن" ـ وهو خير الإسهامات التي أعتز بها في تجربتي الصحفية بالسلطنة ـ يكشف عن مدى علاقاتي المتصلة بالمثقفين المصريين من كافة الأجيال. ولقد تعرّف القارئ العماني ـ من خلاله ـ إلى نبض الواقع في الحياة الثقافية المصرية، وإلى معظم الأسماء التي تُشكِّل هوية الثقافة المصرية، وإني إعتز بأن الوطن حظيت بكتابات نخبة ممتازة من الأقلام المصرية، كان بوسعهم أن ينشروا ما يكتبونه في صحف عربية أخرى بمقابل مادي حقيقي، وليس بالمقابل الرمزي الذي كانت تدفعه "الوطن" لهم.
*نعود إلى عالمك الفني الأثير لديك: كيف ترى إبداعاتك بين أبناء جيلك؟
-يصعب على أي كاتب أن يتصوّر موضع مؤلفاته بين الإسهامات الأخرى التي قدّمها أبناء جيله. مع ذلك فإن تأملي لقائمة مؤلفاتي التي تضمنتها الصفحة الأخيرة من آخر رواياتي يُبيِّن عن اهتمام ملح بقضايا بلدي (مصر)، سواء بالإبداع أو بالدراسة الأدبية.
أما أولى مجموعاتي "تلك اللحظة من حياة العالم" فإني أعترف بالخطأ لعدم قبول نصيحة أستاذنا نجيب محفوظ بالاكتفاء بعبارة "تلك اللحظة" دون بقية الكلمات، فضلاً عن أنها تبدو لي ـ بعد أعوام طويلة من إصدارها ـ أشبه باسكتشات قصصية تُعبِّر عن الرغبة في التجريب أكثر من تعبيرها عن اكتمال مقوِّمات هذا التجريب. بعكس روايتي "الأسوار" التي تبدو لي خطوة أكثر تفوقاً في تحقيق ما أراه من وجوب استفادة القصة بالأدوات الفنية الأخرى مثلما تستفيد تلك الأدوات من فن القصة. فثمة الفلاش باك، والهارموني، والتبقيع، والحوار الدرامي … إلخ. ولقد سعدت ـ في الحقيقة ـ بحفاوة النفاد بهذه الرواية، وحرصهم على مناقشتها وإبراز دلالتها الفنية والمضمونية في آن معاً.
أما كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" فهو ـ كما أشرت في المقدمة ـ محاولة فنان لقراءة تاريخ بلاده، وتسجيل هذه المحاولة فيما يمكن تسميته بالقراءة الإيجابية. ولقد أسعدني ـ بالطبع ـ أن يفوز هذا الكتاب بجائزة الدولة في النقد الأدبي، وإن كانت سعادتي ستتضاعف لو أني نلت الجائزة في المجال الذي أوثره وهو القصة.
*بدأت محاولاتك مع الفن من خلال القصة القصيرة، هل تحدثنا عن تجربتها معك؟ وهل أثَّرت قراءاتك وتجاربك الشخصية في بداياتك؟ أم أنك بدأت مُغامراً من خلال ما يُمكن أن نسميه قصص الخيال المحض؟
-لعلي أزعم أني لم أبدأ في كتابة قصتي القصيرة الأولى، إلا بعد أن كان في حوزتي حصيلة لا بأس بها من القراءات والتجارب الشخصية وتلك التي عاشها الآخرون. وأضيف: أني رفضت الخيال المحض في مضامين أعمالي الفنية. لقد عملت في مهن متعددة، وقرأت في ثقافات مرتفعة وهابطة، وعايشت أجواء متناقضة، وقضيت أعواماً مقيماً وزائراً في بلاد شتى.
لقد حاولت ـ ولعل ذلك ما أحرص عليه حتى الآن ـ أن أستفيد من كل لحظة قراءة، وكل لحظة تجربة، وكل لحظة تعرُّف ومشاهدة، بحيث يتناثر ذلك كله في محاولاتي دون أن يبين عن مصدره.
*هذا يدفعنا إلى السؤال عن موقفك من "نقل الواقع أو النسخ الحرفي للحياة" من خلال الفن، وهل هذا أمر ممكن؟
-لعلي أوافق أرنولد بينيت على أن النسخ الحرفي أمر مستحيل"، فالرواية ـ بدرجة ما قد تتفوق أو تتأخر ـ لوحة فنية تنبض بالتفصيلات ، وتداخلات الألوان والظلال ، والفكرة والشكل والتلوين .. تلك هي الأشياء التي لابد أن تتوافر في العمل الروائي حتى يستحق هذه التسمية. وكما قلت فإن التصوير في حد ذاته يُعدُّ فنا من حيث اختيار الزوايا والإضاءة والمساحات. ولكن حين يُصبح هو الاختيار الوحيد في رواية ما، فإنها بالقطع لن تكون كذلك.
*إذن ما رأيك في التفسيرات التي يطرحها النقاد على الأعمال الفنية خاصة القصة من منظور الرمز أو المعادلات؟
-المعادلات في معالجة الأعمال الفنية قضية غاية في الخطورة. ذلك لأن القصة ـ كعمل فني ـ يجب أن تحقق المتعة بذاتها. وقد صارحني نجيب محفوظ ـ يوماً ـ أنه يعتبر القصة الفلسفية غاية الفن، ولكنه رفض البحث عن الرمز المقابل لكل شيء، فسيحتاج الأمر إلى لوغاريتمات، وليس إلى فن حقيقي. ساعتها ربما يحتاج القارئ إلى جدول يُطابق من خلاله الواقع على ما يُقابله من رمز. الفنان عندما يبدأ كتابة عمل ما، فإنه لا يعرف كيف أو ماذا يكتب. الفكرة العامة تحيا في ذهنه، لكنها تخضع عند الكتابة لاعتبارات أخرى عديدة، الفنان يكتشف نفسه أثناء الكتابة.
*كخطوة نحو القصة الفلسفية التي يريدها نجيب محفوظ: هل ترى أن الرواية المعاصرة تُقدِّم "فلسفة" للحياة من خلال نظرة مبدعيها؟
-إن الرواية المعاصرة يجب أن تقدِّم فلسفة الحياة الواضحة المتكاملة التي تُعبِّر عن نظرة الأديب الخاصة ومواقفه، لا أعني أن تُقحَم الأفكار الفلسفية المجرّدة داخل إطار العمل الفني. إنها في هذه الحالة تُشكِّل نتوءاً واضحاً في العمل الفني، يقلل من قيمته، إن لم يُبدِّد تلك القيمة تماماً. إن الفنان الذي يصدر عن رؤية فلسفية متكاملة هو الذي يتمكّن من تذويب أفكاره في أحداث عمله الفني، بحيث لا تبدو نشازاً ولا مُقحمة.
وكما يقول "ميرلو بونتي" فإن الفلسفة ليست انعكاساً لبعض الحقائق الجاهزة الموجودة من قبل، ولكنها مثل الفن تمثل التجسيم المباشر للحقيقة. إن الفلسفة الصادقة هي التي تُعلِّمُنا من جديد كيف ننظر إلى العالم. وإن رواية ما ممتازة، يُمكن أن تُصوِّر لنا "بانوراما" العالم، ربما بأدق وأشمل مما تصوّرها الرسالة الفلسفية.
*شاعت في العقد الأخير بعض موجات الحداثة التي تُغفل دور الحدث أو "الحدوتة"، فهل تتعاطف مع هذه الموجات؟
-بالعكس، فإني أرى "الحدوتة" هي النطفة التي يتخلّق منها العمل الفني، وبرغم اختلافي مع "أرنولد بينيت" بأن أساس الرواية الجيدة هو "خلق الشخصيات ولا شيء سوى ذلك"، فلعلي أتفق تماماً على أن خلق الشخصيات دعامة أساسية في بناء الرواية الذي يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى، أقواها ـ أو هذا هو المفروض ـ الحدوتة، وإن تصور بعض الذين اقتحموا عالم الرواية الجديدة ـ نقاداً أو أدباء ـ أن الرواية ليست في حاجة إليها، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات تضع الحدوتة في مرتبة تالية، أو أنه يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً. ولقد كانت الحدوتة (الحكاية، الفكرة، سمِّها ما شئت) هي الباعث الحقيقي لأن تتحوّل روايتي "الأسوار" في ذهني ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث ومواقف وشخصيات، ثم تخلّقت في أشكال هلامية عدة، قبل أن تأخذ ـ في طريقها إلى المطبعة ـ سماتها النهائية.
*هل يعني هذا عندك أن الحدوتة هي الدعامة الأولى في الفن الروائي؟
-نعم، الحدوتة هي الدعامة الأولى في بناء أي عمل فني. ثم تأتي بقية الدعامات الأخرى، وهي ـ في الرواية الجديدة ـ محاولاتها للاستفادة من العناصر والمقومات في وسائل الفنون الأخرى، كالفلاش باك في السينما، والتقطيع في السينما أيضا، والتبقيع في الفن التشكيلي، والهارموني في الموسيقا، والحوار في المسرحية .. إلخ.
*المتابع لإبداعاتك القصصية والروائية يجدك تُلح فنيا على ضرورة استفادتهما من معطيات وتكنيكات الوسائل الفنية الأخرى التي أشرت إليها الآن مثل القصيدة والمسرحية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية ـ فما هي بواعث هذه الرؤية؟
-لماذا لا يُثري الفنان قصته أو روايته بإسهامات الفنون الأخرى وبما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتكنيكية، فتتحقق للفن الروائي أبعاد جديدة، وتتحقق أبعاد جديدة للفنون الأخرى، مما يجعل رأي "أدوين موير" بأن بعض الفنون ـ مثل النحت والرسم والموسيقا ـ تتحقق في بُعد واحد فقط، أقرب إلى تسمية الشمس بأنها تقوم كل يوم بدورة من الشرق إلى الغرب، وإغفال "أبعادها" الهامة الأخرى! ولعلي بذلك أُناقض دعوى بعض الروائيين الجدد ـ ناتالي ساروت مثلا ـ بأن المقولة في الفن خطأ يجب تجنبه، وأن الالتزام الوحيد في الفن هو الفن نفسه. برغم أن إبداعات هؤلاء الروائيين ـ وأيديولوجياتهم أيضا ـ ترفض تلك الدعوى، فمهمة الروائي ـ في تقديرهم ـ هي إعادة العلاقة بين الإنسان والعالم.
*في قصصك زخم الواقع والحياة ـ وإن كانت مُغايرة للواقع ـ كيف ترى إمكانية تحقق التغايُر والتماثل في آن مع رفضك للنسخ الحرفي للحياة من خلال الفن؟
-الواقعية ليست هي الواقع، والفن ليس هو الحياة بحذافيرها، الواقع مُصادفة وفوضى والفن اختيار. الفنان يُضيف إلى العمل الفني مهما بلغت درجة اقترابه من الحياة، من قراءاته وخبراته ورؤاه .. إلخ، ومن هنا فإن "ابن نفيسة" (بطل روايتي "متتابعات لا تعرف الانسجام") في الحياة ليس هو "ابن نفيسة" في الرواية، برغم أن الرواية تستند إلى الواقع، وأيضاً شخصيات رواياتي وقصص قصيرة كثيرة مما كتبت.
*ألا ترى أن الصحافة تؤثر تأثيراً سلبيا على الأديب المبدع؟
-لقد أدرك أرنست همنجواي أنه من الصعب أن يكون صحفيا وأديباً في آن معاً، وبالتالي فقد رفض كل العروض الصحفية التي كان يمكن أن تُجنبه المآزق المادية التي واجهها في بداية حياته الأدبية. وفضلاً عن القيمة السامقة لإبداعات همنجواي بالقياس إلى مُحاولاتي، فإن الحقيقة التي تذهب في بلادنا مذهب المثل: أن الأدب لا يُؤكِّل صاحبه عيشاً، ومن ثم فإن الوظيفة مطلب حتمي، ولأن الصحافة هي الأقرب إلى الأدب، فقد كان من البديهي أن أتجه إليها. وحتى ذلك لم يكن مُتاحاً في البداية. واجهتُ صِعاباً قاسية حتى أُتيح لي أن أجلس وراء مكتب في صحيفة "المساء" وألتقي بالآخرين بصفتي مُحرراً، وإن كان الأدب هو شاغلي الأول.
*بعد غيبة ثماني سنوات ونيف بعيداً عن مصر، مُتابعاً لما يدور في تربتها من تخلُّق وتحولات، كيف ترى مصر ـ حبك المقيم وهاجسك الدائم ـ؟ وما هي طموحاتك الأدبية؟
-مع أن "روبرت فروس" يقول في قصيدة له: "إن الوطن هو المكان الذي يكون مستعدا لاستقبالك عندما تذهب إليه" فإن مصر كانت هي وطني الوحيد والدائم برغم الضغوط الاقتصادية والنفسية التي ألجأتني إلى قبول المنفى الاختياري. ثم إن ثماني سنوات من العمل في "الوطن" وتحويلها من صحيفة مُتعثرة تصدر بين الحين والآخر إلى صحيفة يومية جادة أشعرني ببعض الراحة وجعلني أتخذ قرار العودة.
وما فعلته ببساطة ليلة عودتي إلى القاهرة ـ نعم، ليلة العودة تحديداً ـ أني فتحت الأدراج، وبدأت في مواجهة ما كنت قد أرجأته قبل ثماني سنوات.
والحق أن إصراري على تقديم استقالتي من «الوطن» بعد أن حققت أحد أهم أحلامي بإصدارها يومية، كان العودة إلى عالمي الذي أوثره عن كل ما عداه وهو الأدب.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:33 AM
الموروث الشعبى فى كتاباتى الروائية

بقلم: محمد جبريل

****

نشأت فى بيئة تحض على عشق الموروث الشعبى . حى بحرى شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . إلى اليمين الميناء الشرقى ، أو المينا الشرقية فى تسمية السكندريين . وإلى اليسار الميناء الغربى ، أو المينا الغربية ، وفى المواجهة خليج الأنفوشى ، ما بين انحناءة الطريق من نقطة الأنفوشى إلى سراى رأس التين ..
هذه البيئة تتميز بخصوصية مؤكدة ، فالبنية السكانية تتألف من العاملين فى مهنة الصيد وما يتصل بها ، ومن العاملين فى الميناء وصغار الموظفين وأعداد من الحرفيين والمترددين على الجوامع والزوايا والأضرحة ، فضلاً عن الآلاف من طلبة المعهد الدينى بالمسافرخانة ..
وإذا كان لبيئة البحر وما يتصل بها ، انعكاسها فى العديد من أعمالى الإبداعية ، فإن البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك فى تلك الأعمال ..
ثمة جوامع أبو العباس وياقوت العرش والبوصيرى ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلى تمراز ، وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع أولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم وأضرحتهم . وثمة الموالد وليالى الذكر والأهازيج والأسحار والتواشيح ، وليالى رمضان وتياترو فوزى منيب وسرادق أحمد المسيرى وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح فى سراى رأس التين والتواحيش ، واحتفالات الأعياد : سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والأراجوز والساحر والمرأة الكهربائية وألعاب النشان والقوة وركوب البنز والحنطور من ميدان المنشية إلى مدرسة إبراهيم الأول ، وتلاقى الأذان من المآذن المتقاربة ، والبخور والمجاذيب والمساليب ، والباحثين عن النصفة والبرء من العلل والمدد ، بالإضافة إلى المعتقدات والعادات والتقاليد التى تمثل ـ فى مجموعها ـ موروثاً يحفل بالخصوصية والتميز ..
حين أراجع أعمالى الإبداعية بدءاً من قصتى القصيرة الأولى [ إلى الآن حوالى 90 قصة قصيرة و18 رواية ] فإن تأثير ذلك كله يبين فى العديد من المواقف والشخصيات ، وفى تنامى الأحداث ..
***
رباعية بحرى ، عمل روائى من أربعة أجزاء : أبو العباس ، ياقوت العرش ، البوصيرى ، على تمراز . تعرض للحياة فى بحرى ، منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلى مطالع ثورة يوليو 1952 . لوحات منفصلة من حيث تكامل اللحظة القصصية ، ومتصلة من حيث اتصال الأحداث ، وتناغم المواقف ، وتكرار الشخصيات ..
أنسية التى طالعتنا فى بداية الجزء الأول من الرباعية ، هى أنسية التى انتهت بها أحداث الجزء الرابع والأخير . وما بين البداية والنهاية نتعرف إلى دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وإنجاب وشيخوخة ووفاة ، فضلاَ عن الحياة فى المعهد الدينى بالمسافرخانة ، وحلقة السمك ، وحياة الفتوات ، والعوالم ، وما يتسم به ذلك كله من اختلاف وتميز ، بقدر اختلاف البيئة وتميزها ..
على سبيل المثال ، فإن الحياة فى البحر ، وصلة البحر واليابسة ، والمؤمنين بطهارة الماء ، وقدرة البحر على أعمال السحر ، والحكايات والمعتقدات عن عرائس البحر والعوالم الغريبة وكنوز الأعماق ، والخرافة ، والأسطورة ، والزى التقليدى ، والمواويل ، والأغنيات ، والأمثال ، والحكايات ، وخاتم سليمان ، والمهن المتصلة بمهنة الصيد كالصيد بالسنارة والطراحة والجرافة ، وأسرار الغوص فى أعماق البحر ، وغزل الشباك ، وصناعة البلانسات والفلايك والدناجل وغيرها ، وركوب البحر ، وبيع الجملة فى حلقة السمك ، وبائعى الشروات .. ذلك كله يتوضح فى الشخصيات التى كانت الحياة فى البحر مورد الرزق الأهم ـ أو الوحيد ـ لها ..
أما الروحية التى تمثل بعداً مهما فى حى بحرى ، فهى تبين عن ملامحها فى كثرة الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة ، ورفع أولياء الله عن الغلابة والمنكسرين ما يحيق بهم من ظلم ، وكرامات الأولياء من اطلاع على الكائنات ، وطى الأرض ، والسير على الماء ، والطيران فى الهواء ، وإتيان بالثمار فى غير أوانها ، وتحويل ماء البحر إلى ماء عذب ، وتواصل الكرامات حتى بعد أن يرحل الولى ، والمكاشفة التى تحققت على يد أبى الدرداء حين أنقذ الإسكندرية من طوربيد ألمانى فى غارات الحرب العالمية الثانية ، والخضر الذى يظهر للمراكب حين يهددها خطر النوات ، فينقذها ، وتجليات الصوفية فى الإشارات والأسرار والرموز ، وارتقاء الدرجات من المريد إلى المقدم فالنقيب فالخليفة خاتمة الدرجات الروحية ، ودروس المغرب ، وتصورات مشاهد الجنة والنار ، والخوف من الجن والمردة والعفاريت ، وإيقاد الشموع على أضرحة الأولياء ، وتقديم النذور ، وكنس النساء للأرض بالملاءات ، أو التمرغ عليها ، يطلبن الخلفة والمصلحة والشفاعة والمدد ، والوصفات الشعبية ، وأعمال السحر ، والتربيط ، والأعمال السفلية ، والوسائل التى بلا حصر لعلاج الإجهاض ، أى سقوط الجنين قبل أن يكتمل نموه : وَصْفات غريبة ، وقاسية ، وتجارب لابد أن تخوضها المرأة الحامل لتحتفظ بالجنين ، ودلالات ظواهر الطبيعة من شمس وقمر ونجوم وكواكب ورياح وعواصف ونوات ومناطق وفرة ـ وجدب ـ السمك . الشمس تجاوز صفتها الظاهرة ، فتتحول إلى صديق للجد السخاوى ، يعرض عليها مشكلاته ، ويأخذ منها ويعطى ، وحين يحس بدنو الأجل فإنه يتطلع إليها ويخاطبها بما لم يتبينه أحد ..
***
روايتى القصيرة الصهبة تتناول طقساً شعبياً ، تغلب عليه الأسطورة . المرأة المنقبة التى تخضع لمزاد وهمى ، من يرسو عليه ، يرفع عن وجهها النقاب ، فيتجدد أملها فى الإنجاب . ويختلط الواقع بالحلم فى أحداث الرواية ، فتغيب الملامح . لا يدرى إن زارته فى الصحو أو فى المنام ، ولا يبين ناس الصهبة عن هويتهم حتى يهمس صوت الأم وهى ترى ابنها ينزل درجات البيت إلى حيث يتجمعون : هل انجذب ؟!
***
أما روايتى زهرة الصباح فهى محاولة لتوظيف حكايات ألف ليلة وليلة فى عمل أدبى حديث . زهرة الصباح هى الفتاة التى تلى شهرزاد فى قائمة الفتيات اللائى ينتظرهن سيف " مسرور " . كانت تحيا فى ظل الخوف من أن يمل شهريار ، أو تخفق شهرزاد فى الحكى ، فيحل دورها . وحاول أبوها ـ وهو من المقربين إلى شهريار ـ أن يفيد من تلك الفترة فى رواية الكثير من الحكايات والطرائف والنوادر والأخبار والعبر والنوادر والسير والمواويل ، تنصت إليها زهرة الصباح ، وتحفظها . تحيلها مخزوناً حكائياً ليعينها على مواصلة الحكى ..
كانت قدرة شهرزاد على استدعاء الحكايات ، أو اختراعها ، وروايتها ، هى وسيلتها للإبقاء على حياتها ، فهى إما أن تصل الحكايات ، كل حكاية بأخرى ، أو تموت . فإذا نفد ما بحوزتها من الحكايات ، أو فقدت القدرة على الإدهاش ، وفقد شهريار بالتالى فعل المتابعة والدهشة ، واصل السياف مسرور حلقات سلسلة الإعدام .. ذلك كله كان يعلمه عبد النبى المتبولى ، فشغل معظم وقته بتحويل ذاكرة زهرة الصباح إلى خزانة تستوعب كل ما استطاع حفظه فيها من الحكايات والحواديت والعظات والعبر ..
تضمن السرد الروائى الكثير من جوانب الموروث الإبداعى العربى . ضُفّر فى نسيج العمل الروائى ، لا لانتساب الرواية إلى عالم ألف ليلة وليلة باعتبارها تراثاً إبداعياً فحسب ، وإنما لأن أحداث الرواية تدور فى أجواء شعبية ، ففيما عدا الشخصيات الرئيسة القليلة ، فإن غالبية الشخصيات من الطبقات الأدنى والمهمشين ..
***
ونحن نستطيع التعرف إلى البدايات الأولى للموروث الشعبى فى حياتنا الآنية ، من خلال توالى الإجابة عن الأسئلة الاثنين والأربعين التى أعادت تقديم سيرة حياة المواطن زاو مخو فى صورتها الصحيحة ، فى روايتى اعترافات سيد القرية . الإيمان بالخلود ، تقديم النذور والقرابين ، الأدعية والرقى والتعاويذ ، العلاقات الأسرية ، السيرة ، الأسطورة ، الخرافة ، الحكاية الشعبية ، الخطابة ، الطرفة ، الطب التقليدى ، التيقن من القدرات العلاجية لشجرة الجميز ، الصفات الشعبية التى تشعل الشبق فى جسد الرجل ، وتسرى بالخصوبة فى جسد المرأة ، الموسيقا الوطنية ، إلخ ..
***
روايتى بوح الأسرار تحاول ـ من خلال معالجة فنية ـ أن تجيب عن السؤال : لماذا اختار الوجدان الشعبى هذه الشخصية أو تلك ، ليضفى عليها من هالات القداسة والعظمة ما يجعل منها أحد أبطاله الشعبيين ؟
حاولت أن أجيب عن هذا السؤال ـ بصورة مطولة ، تقترب من العلمية ما أمكن ـ فى كتاب لى صدر مؤخراً بعنوان " البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ، ناقشت فيه جوانب البطولة فى عدد من الشخصيات التى وضعها الوجدان الشعبى فى ذلك الإطار : لماذا اختار عنترة من بين مئات الشعراء فى الجاهلية ؟ ولماذا اختار الظاهر بيبرس من بين حكام المماليك ؟ ولماذا اختار السيد البدوى من بين الكثير من أولياء الصوفية الذين نسبت إليهم مساجد وأضرحة ؟ ولماذا اختار على الزيبق وابن عروس وياسين ومتولى وأدهم الشرقاوى وغيرهم ؟..
التقيت بالمجرم محمد أبو عبده ، أو ابن بمبة فى قرية السمارة الواقعة على حدود الشرقية والدقهلية . بدا فى أحاديث الجميع شخصية أسطورية . كان أبناء القرية يتحدثون عنه بتوقير وحب ، فى حين حذرنى مأمور مركز السنبلاوين وعمدة القرية من محاولة التعرف إلى الرجل ، وأظهروا خشيتهم من أن يرفض لقائى ، أو لا يحسن استقبالى . لكن الرجل استقبلنى بحميمية مصرية ، ودعانى إلى تناول الغداء . وتأملت توسطه لحل مشكلات أبناء القرية ، ومساعدته لهم فى كل ما يطرأ على حياتهم . حتى الحريق الذى أشعلته شرارة حطب ظهر يوم الصيف الذى تصادف أنى زرته فيه ، أذهلنى تصدّيه لإطفائه رغم أعوام عمره المتقدمة ..
بدا لى الرجل وأنا أغادر القرية ، تجسيداً للبطل فى الوجدان الشعبى ـ فى بالى الكثير مما استمعت إليه من الحكايات فى أعوام النشأة ـ : كيف يكتسب صفاته ، فيصبح ـ فى توالى الروايات والحكايات والمواويل والسير ـ ذلك البطل الذى تنسب إليه الأفعال الخارقة والمعجزات [ روى الصديق رفعت السعيد فى ذكرياته ـ فيما بعد ـ عن تعرفه إلى ابن بمبة فى رحلة الاعتقال والسجن . بدا معجباً بالرجل ، وأشار إلى أنه ـ الرجل ـ قتل تسعة أشخاص ، لكن الرجل أكد لى أنه لم يجاوز التخويف ، ولم يقتل أحداً ] . تصورت ابن بمبة ذلك البطل فى عملية التحول داخل الوجدان الشعبى . ولجأت إلى تقنية تعدد الأصوات التى اختلفت رواياتها فى تصاعد درامى ، تتحول فيه شخصية فرج عبده زهران ، أو ابن شفيقة ، من شاب يحترف الإجرام إلى ولى له بركاته وكراماته ومكاشفاته ، وضريحه الذى يقصده الناس لالتماس المدد ، والمولد السنوى ، وحفلات الذكر .. ما بواعث التحول ؟ وكيف ؟ وما نتائجه ؟..
تباينت الروايات فى طفولة ابن شفيقة ، ونشأته ، والظروف التى أفضت إلى تحوله إلى بطل شعبى . بالتحديد إلى ولى صوفى . لكن الروايات لم تختلف فى أن فرج خليل قد أصبح له ضريح ومقام وخليفة وتلامذة ومريدون ، يؤمنون بكراماته ، ويذكرون الله تعالى ..
وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى فى دراسته لبوح الأسرار ، إنه إذا كانت أسطورة فرج قد مرت بمراحل ثلاث : مرحلة المظلوم ، ومرحلة الدافع للظلم الواقع على الناس ، إلى مرحلة المقدس ، فإنه ـ فى المراحل الثلاث ـ كان مطارداً . مطارداً من عمدة ظالم ، ثم من قوة الإدارة المتحكمة فى الجماعة ، ثم محاولة هذه القوة مطاردة أسطورته ، وحتى بعد موته ، فإن استخدام تعدد الأصوات جعل الأصوات المطاردة خافتة ، لترتفع الأصوات الواقفة مع فرج ساعة تكوّن أسطورته . إن الأسطورة هنا تمثل الواقع الاجتماعى للجماعة " .
***
وفى قصصى القصار ، تتناثر لمحات من الموروث الشعبى ، متمثلة فى العديد من سلوكيات الحياة ، والمفردات ، والتعبيرات ، وغيرها مما يعبّر عن التميز الذى تتسم به منطقة بحرى فى حدودها الجغرافية ، المحددة ، والمحدودة : الزى الوطنى ، الطب الشعبى ، ألعاب الأطفال وأغنياتهم ، نداءات الباعة ، الكناية ، النكتة ، المعايرة ، القَسَم ، الطرفة ، المثل ، الحلم ، وغيرها ..
***
والحق أنى حين أراجع إبداعاتى التى وظفت ـ أو استلهمت ـ الموروث الشعبى ، أجد أنها وليدة العفوية ومحاولة التعبير عن الواقع . هذا هو ما أفرزته تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرف إلى الخبرات . لم أتعمد الإفادة من الموروث الشعبى ، بل هو الذى فرض معطياته فى مجموع ما كتبت .

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:36 AM
وهذا حوار أجرته الأستاذة فاطمة يوسف العلي في مجلة "العربي" الكويتية، العدد (542)، يونيو 2004م:
النظرة للإبداع يجب أن تتغير لأن مبدعينا ينحدرون للهاوية
حوار: فاطمة يوسف العلي
لم يكن بمقدوري الكتابة إلا عن البحر
حتى نجيب محفوظ توزيع رواياته انخفض إلى حد كبير
يضطر الكاتب لدفع مايزيد على القيمة الفعلية لطباعة كتابه
***
رغم أن الكاتب محمد جبريل متنوع في كتاباته, يوزع قلمه بين الصحافة والتأليف والنقد الأدبي, فإن الشهادة الحقيقية على ما قام به من جهد تكمن في إبداعه الروائي. ولا يعني التركيز على هذا الجانب ترك بقية ملامح الصورة. ولكن هذا الجانب, الذي يعتز به كثيرا,ً يبقى الجانب الأكبر والأكثر حميمية من ذاته. إنه كاتب غزير الإنتاج. فله أكثر من عشرين رواية أشهرها (رباعية بحرى) التي تتألف من أربع روايات متصلة منفصلة هي (أبو العباس) و(ياقوت العرش) و(البوصيري) (وعلي تمراز). وهي الرباعية التي يحلو للنقاد عقد مقارنة بينها وبين رباعية داريل الشهيرة عن الإسكندرية. كما أن إسهام محمد جبريل في القصة القصيرة كبير أيضا فله حوالي عشر مجموعات قصصية, أولها (تلك اللحظة) وآخرها (رسالة السهم الذي لا يخطئ) وله في مجال النقد أكثر من كتاب. وقد نال جائزة الدولة التشجيعية عن كتاب (مصر في عيون كتابها المعاصرين) عام 1975.

ولد محمد جبريل في مدينة الإسكندرية عام 1938, وتقلد أكثر من منصب صحفي مهم في مصر والعالم العربي.

وقد أجرى الحوار معه القاصة الكويتية فاطمة يوسف العلي وهي من الأديبات النشيطات على مستوى العمل العام ولها ثمانية كتب تتوزع بين القصة القصيرة والرواية والبحث الأدبي وأشهرها: (وجوه في الزحام) 1971, (وجهها وطن) 1995, و(تاء مربوطة) 2001 وهي مجموعة قصصية صدرت من القاهرة.

يبدو البحر شخصية رئيسة في معظم إبداعاتك, وهو أشد ما يكون تجسيداً في روايتك الضخمة (رباعية بحري)... ما تفسير ذلك?
- بداية, أنا لم أكتب عن البحر, ولا عن الصلة بين البحر واليابسة, وهو ما يبين في الكثير من إبداعاتي الروائية والقصصية, لم أكتب لطرافة الموضوع, وإنما لأنه لم يكن بمقدوري سوى الكتابة عن البحر. البحر يحضن الإسكندرية من معظم جوانبها, ويحيط بحى بحري من ثلاث جهات, كان هو المكان الذي تطل عليه شرفة بيتنا, ويطل السطح على امتداد آفاقه. كنت أسير على شاطئه, وأتابع التعامل اليومي معه في صيد الصنارة والطراحة والجرافة, وعمليات الشحن في الميناء الغربية, وركوب البحر نفسه في قوارب صغيرة تعبر المسافة من باب واحد إلى باب رقم ستة, أو في لانشات تمضي إلى قرب البوغاز, حتى في الظلام, كنت أستمع إلى البحر, وإن كنت لا أراه. أتذكر قول رامبو: (إنه البحر وقد رحل مع الشمس). البحر ليس موضعاً طارئاً في حياتي. إنه الحياة نفسها. وعلى الرغم من انقضاء عشرات الأعوام على ابتعادي - بصورة عملية - عن الإسكندرية, فإني أفضل - حتى الآن - أن تدور أحداث أعمالي في بحري, لأني أشعر أن الحي تحت تصرفي, أعرف تاريخه وأسواقه وشوارعه ومساجده وبناياته وسلوكيات حياته اليومية, أعرف المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد, حتى مسميات الأشياء واللهجة هي وسيلة التعبير عندي, حتى مستطيلات البازلت التي تتفق فيها مع المدن الساحلية الأخرى.

حي بحري بالإسكندرية هو الأرضية لمعظم ما كتبت من إبداعات. وقد أردت في رباعية بحري بأجزائها: أبو العباس - ياقوت العرش - البوصيري - على تمراز, أن أكتب فصولاً مستقلة, تتكامل في تصوير حي بحري الذي أحببته, وامتداده الطبيعي إلى المكس, أو إلى الرمل.

صورة الإسكندرية

ما أوجه الاتفاق - والاختلاف - بين رباعية الإسكندرية ورباعية بحري?
- ليست هذه هي المرة الأولى التي يوجه لي فيها هذا السؤال. وقد صدمني السؤال في البداية, وربما تضايقت منه, ثم ألفته بالمعاودة. أصارحك أني تعمدت ألاّ أقرأ رباعية الإسكندرية حتى لا أقع في شبهة تأثر, قراري بكتابة رباعية بحري يعود إلى مطالع حياتي الأدبية, وبالذات في ضوء الحفاوة النقدية الواضحة, والتي اعتبرت رباعية داريل من أعظم إبداعات القرن العشرين.

ثم حاولت - بعد أن صدرت رباعية بحري - أن أفتش عن جوانب الاتفاق والاختلاف, لا كناقد, فقد مللت تأكيد أنه حتى فوزي بجائزة الدولة في النقد لا يلغي تفهّمي لقدراتي النقدية, وأني سأظل دوماً خارج أسوار النقد!

رأيي أنه إذا كانت صلة شخصيات ميرامار نجيب محفوظ بالإسكندرية هي صلة هامشية, حيث اختاروا الإقامة في الإسكندرية كمنفى, لا تشغلهم حياة ناسها اليومية, ولا مشكلاتهم, فإنه من الصعب إهمال التأثيرات الأجنبية في حياة الإسكندرية. وعلى سبيل المثال, فإن يوم الأحد في الإسكندرية يختلف عن اليوم نفسه في بقية المدن المصرية. الشوارع خالية نسبياً, والكثير من المتاجر يغلق أبوابه, ذلك لأن التأثيرات الأجنبية التي تحققت من خلال (مواطنة) أعداد هائلة من الجاليات الأوربية لم تندثر من المدينة بصورة كاملة بعد. لكن الصورة التي رسمها داريل في رباعية الإسكندرية - على حد تعبير صلاح عبدالصبور - تنتمي إلى داريل أكثر مما تنتمي إلى الإسكندرية.

والحق أنه من الصعب أن أجري شخصيا مقارنة بين ما كتبته وما كتبه مبدعون آخرون, لكن الذي أستطيع تأكيده أن الكتابة عن الإسكندرية - وبحري تحديداً - حلمي القديم, الجميل, الذي يرافق محاولاتي الإبداعية منذ بداياتها. السؤال: لماذا, لم أناقشه - بيني وبين نفسي - على الإطلاق? فقد كانت الكتابة عن حي الطفولة والنشأة والسمات المميزة والبيئة التي تختلف عن مثيلاتها في أحياء الإسكندرية الأخرى, كانت شيئا أشبه بالقدر... لكنني أملك - فيما أقدّر - طرح بعض الآراء التي تناولت رباعية داريل, ثم أترك للقارئ - قارئ أجزاء الرباعية وقارئ هذه المواجهة - أن يتعرف إلى ما ينشده من أوجه الاتفاق والاختلاف.

الذاكرة أفضل

هل تختلف صورة بحري الذي عبرت عنه في أعمالك عن صورته الحالية?
- أصارحك بأن الحزن يلفني عندما أزور الإسكندرية, حي بحري بالذات, هذه الأيام, لقد تغيرت الصورة تماما, فأنا أفضل أن أعتمد على صور الذاكرة.

حي الجمالية بعمارته الإسلامية وشوارعه الضيقة وأقبيته ومساجده وزواياه وحرفييه, هو التعبير عن القاهرة المعزية بكل زخمها التاريخي والمعماري والإنساني. ذلك ما يصدق - إلى حد كبير - على حي بحري, وإن انتسب الكثير من أبنائه إلى المهن المتصلة بركوب البحر.

أفلح الانفتاح في أن ينفذ - بمظاهره السيئة - إلى الموطن الذي نشأت فيه, وأحببته. بحري الذي عشت فيه يختلف عن ذلك المبنى الخرساني الهائل الذي احتل ميدان أبي العباس, فذوت الروحانية وحميمية البشر. افتقد الحديقة الهائلة أمام سراي رأس التين تتاح خضرتها للجميع, ويتلى فيها القرآن في ليالي رمضان. شاطئ الأنفوشي احتلته الكبائن وورش المراكب, فضاعت فرص أبناء الحي الشعبي في الإفادة من البحر الذي ولدوا على شاطئه.

غياب المرأة

بعض الآراء تجد في رحيل الأم في سن باكرة سبباً في غياب المرأة عن معظم إبداعاتك... ما رأيك?
- أوافقك على أن المرأة كانت غائبة, أو أنها عانت شحوباً في أعمالي الأولى, لكن الملامح تغيرت تماماً في الأعمال التالية. ثمة نادية حمدي في (النظر إلى أسفل) التي تمثل شرياناً رئيساً في جسد الرواية, والزوجة في (اعترافات سيد القرية) تهبنا مواقف إيجابية مناقضة لما كان يمثله الرجل, وأنسية في (رباعية بحري) تحملت ما لا يحتمله بشر في محاولة تخطى ظروفها القاسية. وثمة ياسمين في (الشاطئ الآخر), وعائشة عبدالرحمن القفاص في (قلعة الجبل), وزهرة الصباح في الرواية المسماة بالاسم نفسه, وبهية الحلواني في (بوح الأسرار) وغيرها من الشخصيات التي تقدم المرأة في أبعاد مختلفة. قد تواجه ما يدفعها إلى اتخاذ مواقف سلبية, لكنها واصلت السعي في اتجاه رفض الظروف المعاكسة, والإصرار على تخطيها.كان لغياب أمي عن حياتي في سن باكرة تأثيره بالنسبة لي على المستويين الشخصي والإبداعي, وقد اتسعت مساحة ذلك التأثير - فيما بعد - في مجموع أعمالي, بحيث تبين المرأة - كما أتصور - عن ملامح يصعب إهمالها.

ما رأيك في مقولة إننا نحيا زمن الرواية?
- مع افتتاننا بالتعبيرات التي تختزل ظاهرة أدبية, فإن أحد النقاد أعلن - ذات يوم - وفاة القصة القصيرة, وأعلن نقاد آخرون أن الزمن ليس زمن الشعر, وأكد البعض أن المستقبل للكتابة الدرامية, وأنها هي رواية المستقبل. ويصدم أسماعنا وأعيننا - بين فترة قصيرة وأخرى - تعبير ينعى وفاة جنس أدبي, أو يؤكد سيادته على بقية الأجناس.

وإذا كان تعبير زمن الرواية هو ما تلوكه أفواهنا وأقلامنا في الأعوام الأخيرة, فإن المأزق الذي يواجهه هذا التعبير, وربما أفقده مصداقيته, ما يحرص الناشرون - على تأكيده بأن زمن النشر الروائي انتهى!... بمعنى حفاوة الناشرين بالروايات, والإقدام على نشرها, دخل - منذ سنوات - في دائرة المستحيل.

قراء الرواية يتناقصون, مقابلاً لزيادة قراء السياسة والمذكرات والدين والمشكلات العاطفية والحسية, بالإضافة إلى الأزمة التي يعانيها الكتاب الورقي بتأثير الوسائل الطباعية المستحدثة, وأهمها - بالطبع - الكتاب الإلكتروني.ثمة وسيلتان لنشر الأعمال الروائية, أولاهما هيئات وزارة الثقافة: هيئة قصور الثقافة, وهيئة الكتاب, والمجلس الأعلى للثقافة. أما الوسيلة الثانية فهي اللجوء لدور النشر الخاصة التي تحصل من مؤلف الرواية على أكثر مما تتكلفه طباعة العمل, فتضمن الربح مسبقا, بينما يحصل المؤلف على نسخ قليلة... هدايا للأصدقاء!

أما الناشرون الذين يعرفون لعملية النشر قدرها واحترامها, فإنهم يرفضون الكتابات الروائية باعتبارها بضاعة كاسدة. وتقتصر اختياراتهم على البضاعة المضمونة الرواج, وبالذات الكتاب الجامعي الذي يمثل - كما نعلم - بضاعة مفروضة من الأساتذة على الطلاب!...

الحديث عن زمن الرواية يبدو بلا معنى أو مستغربا أمام إحجام الناشرين عن قبول الأعمال الروائية.

وإذا كان الزمن هو بالفعل زمن الرواية, فلماذا لا يزدهر سوق الرواية? لماذا يرفض الناشرون قبولها? ولماذا تتدنى أرقام التوزيع?

المثل الأشد غرابة أن نجيب محفوظ بكل ما حققه من مكانة في حياتنا الثقافية, وفي الثقافة العالمية بعامة, هبطت أرقام توزيع رواياته من عشرة آلاف نسخة في العام, إلى ثلاثة آلاف نسخة كل بضعة أعوام.

مَن يعيننا على حل اللغز?!

سوق النشر

كنت نائباً لرئيس اتحاد كتاب مصر, كيف تنظر إلى مشكلة النشر التي تحولت إلى ظاهرة سلبية لم تفلح في علاجها كل المحاولات سواء على المستويات الإقليمية أو القومية?
- المتأمل لأحوال النشر في بلادنا, يستطيع أن يقسم الناشرين إلى ثلاثة أنواع: ناشر يعطى المؤلف مكافأة على ما يكتبه بضع مئات من الجنيهات. وناشر يكتفي بتقديم نسخ قليلة للأديب مقابلا لنشر إبداعه, من قبيل التشجيع, أو المجاملة! أما النوع الثالث فهو يحصّل من المؤلف ما يزيد على تكاليف طباعة كتابه, أي أن الأديب يعطي ولا يأخذ, كل ما يأخذه بضعة آحاد أو عشرات من النسخ!

والحق أن المقابل المتواضع الذي يتلقاه بعض الكتاب, والاكتفاء بمجرد النشر لكتّاب آخرين, واضطرار كتاب لدفع ما يزيد على التكاليف الفعلية لطباعة كتبهم, ذلك كله يعكس نظرة دور النشر بعامة إلى مهنة الكتابة, وأن الهدف في كل الأحوال هو مجرد تشجيع الأديب على توثيق إبداعه, وليس تسويقه, فبعض الكتب لا يصدر منها أكثر من مائتي نسخة أو ثلاثمائة على, وبالذات إصدارات دور النشر التي تقوم بعملية احتيال معلنة حين تحصل على ما يتراوح بين ألف وثلاثة آلاف جنيه مقابلاً لطباعة بضع عشرات من النسخ, مجرد توثيق فلا يجد الكتاب سبيله إلى أرفف المكتبات, ولا عند باعة الصحف.

إن النظرة إلى قيمة الإبداع يجب أن تتغير. ما يكتبه الأديب في معظم بلاد العالم يدر عليه دخلا يتيح له التفرغ لإبداعه. أما النظرة إلى مبدعينا فهي تتحدد في دائرة الهواية. حتى المقابل الذي ربما تقاضاه لا يصل - بالقطع - إلى قيمة الكتب التي قرأها, ولا الوقت الذي أنفقه, ولا أجر الكمبيوتر, وبالمناسبة, فإن دور النشر تشترط الآن أن يسلم الأديب أصول كتابه مطبوعة على الكمبيوتر!

إن تخلفنا - في كل المجالات - سيظل حقيقة يصعب إغفالها, ما لم تحصل الكلمة ومبدعها على المكانة اللائقة, والقيمة المستحقة!

ثقافة العناوين

في تقديرك, ما أخطر السلبيات التي تعانيها الثقافة العربية?
- سأحدثك عن ثقافة العناوين, أو السندوتش, أو التيك أواي. سمها ما شئت, لكنها تحولت في حياتنا إلى ما يشبه الظاهرة.

ثمة من يجلسون إلى المثقفين, يستمعون إلى آرائهم فيما قرأوا, ويلتقطون عناوين كتب, وأسماء أعلام, وملخصات أفلام ومسرحيات ونظريات فلسفية, ثم ينقلون ذلك كله - أو بعضه - إلى مجالس أخرى. يتحدث أحدهم عن ديستويفسكي بما ينقل إلى محدثيه شعورا أنه قد قرأ كل أعماله, ويتحدث آخر عن المذاهب الفلسفية والفنية بلهجة الدارس الذي أجهد نفسه في المتابعة والمناقشة والتحليل, وتتناثر في كلمات آخرين أسماء أعلام وكتب واتجاهات, بما يعكس ثقافة واسعة.

ظني أنه قد ساعد هذه الظاهرة أسلوب الملخصات الذي تصدر من خلاله بعض دور النشر أعمالاً عالمية مهمة. ولعلي أشير إلى سلاسل تقدم عشرة كتب عالمية في كتيب محدود الصفحات, أو تختصر التراث الإنساني بكامله في بضعة مجلدات... والهدف المرجو - أو المعلن - أن تكون مؤشرا للأعمال الأصلية, لكن القارئ يكتفي بما قرأ, ويعتبره غاية المراد من رب العباد, ويتحدث عما قرأ من ملخصات وكأنه قرأ الأعمال الكاملة!

وقد أخذت الظاهرة بعداً آخر, غريباً, في اعتبار البعض ما شاهده من أفلام أو مسرحيات مأخوذة من أعمال أدبية, نقلا جيدا عن تلك الأعمال يغني عن قراءتها, ويسمح بالتحدث فيها, توهما أنهم قد عرفوا عنها بما يكفي!.... وكم أذهلني تناول كاتب كبير لرواية أستاذنا نجيب محفوظ (خان الخليلي). ناقش الرجل فنية الرواية, وحلل الأحداث والشخصيات, ثم أنهى ما كتبه بالإشارة إلى أنه لم يقرأ الرواية, وإنما اكتفى بمشاهدة المسرحية المأخوذة منها!

وتبلغ الظاهرة حد المأساة عندما يلجأ ناقد إلى تلخيص للعمل الأدبي كتبه ناقد آخر, فيبني عليه مناقشته للعمل, وهو ما نطالعه - مع الأسف - في العديد من الكتب النقدية المعاصرة. يفلح ناقد في إخفاء سطوه على جهد الآخرين, بينما لا يجد ناقد آخر ما يدعو إلى إخفاء ما فعل. ولعل المثل الذي يحضرني, ذلك الكتاب الضخم عن توفيق الحكيم. ناقش مؤلفه - فيما ناقش - رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل, ثم ذكر في الهامش أنه قد اعتمد في كل ما كتب على كتاب علي الراعي (دراسات في الرواية المصرية), أي أنه - ببساطة - لم يقرأ الرواية التي قتلها نقداً!

المبدع قائد ثقافي

ثمة مؤاخذات على أن الكثير من المبدعين لا يعنون في إبداعاتهم بأخطر قضايا عالمنا العربي, وهي قضية الصراع العربي - الصهيوني, فما رأيك?
- نظرة بعض المثقفين إلى الأديب أو الشاعر أنه لا يعنى بغير الإبداع. فلا شأن له بقضايا المجتمع ولا السياسة. حتى الرياضة لا يتصورون أنها تعنيه في شيء.إنه يؤثر الحياة في جزيرة صنعها لنفسه, يكتفي فيها بقراءة ما يتصل بإبداعه, أو ينصرف إلى تأملات في فضاء هذا الإبداع, أو ينشغل بالكتابة الإبداعية.. هذا هو عالمه المحدد والمحدود, أشبه بسياج البيت في أيام طه حسين الذي كان الصبي يتصوره نهاية العالم.

تلك - بالتأكيد - نظرة خاطئة.. فالأديب له اهتمامات كل المثقفين, فضلاً عن هؤلاء الذين قد لا تعنيهم قضايا الثقافة, وإنما انشغالهم بواقع حياتهم وظروفهم المعيشية. ربما يجاوزونها إلى اهتمامات ثقافية أو ترويحية مثل التردد على المسارح ودور السينما, أو متابعة برامج التلفزيون, أو مجرد الجلوس على المقاهي.

يتابع المبدع - على سبيل المثال - مناقشة حول مباراة في كرة القدم. يحاول المشاركة برأي.. لكن الدهشة المستغربة تواجهه: مالك وكرة القدم!

الأقسى عندما يبدي المبدع رأيه في بعض قضايا السياسة. تعلو الملاحظة المشفقة: السياسة بحر قد لا تحسن السباحة فيه!

والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.أثق أن النضال المقاوم الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد العنصرية الصهيونية هو الشاغل الأهم لكل المبدعين, انطلاقاً من الوعي بالقضية, بواعثها وظروفها وواقعها ونتائجها المحتملة.

الصراع العربي - الصهيوني في فلسطين يعني المواجهة بين الحضارة العربية والهمجية الصهيونية, بين إرادة الحياة على هذه الأرض مقابلاً لإرادة الغزو والاحتلال والاستيطان, التعامل مع تطورات الأحداث بمنطق نكون أو يكونون, والقيام بدور المحفز والمحضر, ومحاولة التوصل إلى آراء إيجابية ربما أسهمت في توضيح ما يفيد منه أصحاب القرار. والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.

ذلك هو موقف كل المبدعين. المبدع قائد ثقافي في مجتمعه, وهذه القيادة لا تبين في التغزل بالقمر, ولا التغني بقطر الندى. لا قيمة لأي إبداع يغيب عنه الوعي في مواجهة الخطر. والخطر الذي نحياه - كما قلت - لا يقتصر على قطر بذاته, لكنه يشمل كل المنطقة العربية. إنهم يصرون على اجتثاث الوجود العربي من أرض فلسطين, بداية لتحقيق استراتيجية دامية, تمتد إلى بقية الأقطار العربية.

إعلام الذات

ما ملاحظاتك على الاستراتيجية التي يعمل الإعلام العربي في ضوئها?
- تتنقل متابعتي بين أكثر من قناة فضائية عربية. القضية الأهم ما يجري الآن في فلسطين المحتلة, صور تعكس بشاعة الممارسات الصهيونية وإدانات معلنة وبرامج ومناقشات وتحليلات موضوعية ومتحمسة, وإن التقت جميعها في وجوب استعادة الشعب الفلسطيني أرضه وإرادته وحريته, مقابلاً لإدانة جرائم عصابة شارون وشركائه!

أنتقل إلى قناة أوربية, نشرتها الإخبارية تقدم فقرات عن أحداث الأرض المحتلة.. لكن الصور والتعليقات تختلف تماماً عن تلك التي أجمعت القنوات العربية على تقديمها, ثمة العشرات من اليهود يشاركون في دفن جندي إسرائيلي قتله الفلسطينيون رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكررة.

انتظرت بقية الفقرات, ربما تقدم الجانب الآخر من الصورة, وهو الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.. لكن الأيدي الصهيونية بدت واضحة من وراء تتابع الصور والتعليقات.

المشكلة - باختصار وبساطة - أننا نتوجه بإعلامنا إلى أنفسنا, إلى نحن. نعرّف أصحاب القضية بعدالة قضيتهم! أما الإعلام الصهيوني فهو ينطلق بالأكاذيب والدعاوى الأسطورية إلى الرأي العام العالمي من خلال سيطرة إعلامية مؤكدة, تشمل الكتاب والصحيفة والفيلم والمسرحية والبرنامج الإذاعي والتلفزيوني. يضع نفسه دوماً في موضع البريء, الجزيرة المسالمة المحاطة بالأعداء.. ولأنه بلا تاريخ حقيقي ولا تراث ولا هوية, فهو يسطو على تاريخ شعب المنطقة وينسبه إلى نفسه. فإن لم يفلح نسب ما عجز عن سرقته إلى غير حضارته, فزعم أنه تراث شرق أوسطي!

والأمثلة كثيرة, تطالعنا بها - صباح مساء - وسائل الإعلام الأجنبية, والعربية أحياناً..

الرأي العام العالمي بعد مهم في أي قضية دولية, ومخاطبته تحتاج إلى استراتيجية تحسن العرض والمناقشة والتحليل, وتدحض الأكاذيب بالحقائق الموضوعية. لا يكفي شعورنا بأننا على حق وعدونا على باطل. المهم أن نؤكد حقنا - أمام الرأي العالمي - ونعري محاولات العدو.

حكومة المافيا الإسرائيلية جعلت قتل الفلسطيني روتيناً يومياً, لكنها تخاطب العالم عن العنف الفلسطيني.. والصورة في الغرب - باعتراف البعثات الدبلوماسية العربية - ليست هي الحقيقة, بل إنها النقيض تماماً.المسألة ليست في مجرد إجادة مخاطبة الرأي العام العالمي, لكن ما يتمخض عن ذلك من تأثيرات إيجابية بالنسبة للحق العربي, وسلبية بالنسبة للأكاذيب الصهيونية. أذكّر بإقدام العشرات من دول العالم - من بينها دول أوربية - على إدانة إسرائيل وقطع العلاقات معها عقب عدوان 1967. لم يفلح الإعلام الصهيوني - رغم هزيمة العرب حينذاك - في تغيير الحقائق.

ماذا عن المستقبل?
- أتمى أن أظل أكتب, وأكتب, بينما نظراتي تتجه إلى البحر.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:40 AM
لحظــــــــة

قصة قصيرة جدا، بقلم: محمد جبريل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ

أعادت تأمل الشعرة البيضاء . لم تكن رأتها من قبل . تنظر إلى المرآة إذا وضعت المساحيق ، أو مشطت شعرها ، أو وهى ترتدى الملابس . ربما تأملت وجهها ، أو جسمها كله ، بلا مناسبة . هذه هى المرة الأولى التى تكتشف فيها الشعرة قافزة فى الغابة السوداء خلف الأذن ..
غالبت مشاعر متباينة ، وإن غاب معناها الحقيقي . دارت بإصبعين كدوامة ، حتى اطمأنت إلى اختفاء الشعرة تماماً . تأكدت من البسمة التى لم تكن تغادر شفتيها ..
غادرت الشقة بخطوات بطيئة ..
ثم بخطوات أسرع ..

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:41 AM
الغربة فى الوطن والوطن فى الغربة

بقلم: د.عبد المجيد زراقط
***

يثير عنوان رواية "زمان الوصل" فى ذهن القارئ ثنائية الحضور/ الغياب، ففى حضور "زمان الوصل" يستدعى الذهن غيابا تمثله موشحة "جادك الغيث.." و"زمان الوصل" فى الأندلس الذى تغنى هذه الموشحة حكايته يمثل تجربة فى التاريخ الإنسانى، ففيها تم الاتصال بالآخر لآونة من عمر التاريخ الإنسانى بدت كأنها حلم مر فى البال، أو أيام وصل اختلست ولم تعد، ولذا فكل من عاشها، كما لسان الدين بن الخطيب، أو عرفها، يرجو أن يسقيها الغيث لتتجدد.. وبخاصة فى هذا الزمن الذى تحكمه "أباتشى" الديمقراطية و"تيماهوكها"!
وإذ يستحضر الغياب، ويمثل، يسأل القارئ: هل من زمان وصل متجدد؟ هل نقرأ فى هذه الرواية قصته؟ أين تجدد؟ وكيف؟ ومتى؟ وفى هذا المناخ من الرغبة فى المعرفة تقلب الصفحات الأولى من هذه الرواية، وتبدأ القراءة..
تصدر الرواية بدعاء للفرعونى "سنوحى" تبرز فيه ثنائية طرفها الأول مكان الهرب –الغربة، وطرفها الثانى المكان الذى يسكن فيه القلب.. وإن يكن المكان الأول قد وفر الحماية، فقد بقى مكان الغربة، وإن يكن المكان الثانى قد دفع إلى الخروج منه هربا، فإن يبقى لاحيما ويعيده ثانية إليه ليدفن جثته فى الأرض التى ولد فيها وبقرب من أحب.
وإذ تبدو ثنائية هذين المكانين يطرح السؤال: فى أيهما كان زمان الوصل؟ فى مكان تم الخروج إليه هربا، فوفر الحماية، لكنه بقى غربة؟ أم فى مكان فقدت فيه الحماية، فتم الخروج منه هربا، لكنه بقى الوطن الذى يسكنه القلب، والذى ترجى العودة إليه ليكون أرض الموت كما كان أرض الولادة؟
يثير هذا السؤال إشكالية الغربة/الوطن التى يعيشها الإنسان العربى فى هذا الزمن، فهو يخرج هربا من مكان لا يتيح له فرص التحقق إلى مكان تتوافر فيه هذه الفرص، وفى هذا المكان يحيا تجربة اللقاء بالآخر والاتصال به والعيش وإياه.. ويحاول إقامة جسور بين مكانيه: شرق وغرب، شمال وجنوب، وتواجهه أسئلة كثيرة: إلى أيهما ينتمى؟ وفى أيهما يريد أن يبقى؟ وهل كانت نتيجة تجربته الوصل أو القطع؟
فى دعاء سنوحى إجابة تتحدث عن غربة حتمية فى المكان الآخر، وإن وفر الحماية، واختيار نص فرعونى دال على تاريخية الإجابة وليس على جغرافيتها فحسب.
وإن تكن هذه هى إجابة التصدير/القول التاريخى-الجغرافى، فماذا تقول الرواية التى نقرأ؟
تقول الرواية إن هاشم عاد من غربته فى اليونان بعد أن أمضى هناك ثمانية عشر عاما، فأمضى عشرة أيام فى مدينته الإسكندرية التى خرج منها هاربا من قسوة أبيه ومن عدم توافر مكان له يحقق فيه وجوده الفاعل.
فى هذه الأيام العشرة تدور أحداث الرواية، لكن مسار هذه الأحداث لا يمضى خطيا، بل يتخذ منحى متكسرا متقطعا يبطئه الاسترجاع من الماضيين القريب والبعيد، والاستباق، والتعرف إلى المكان من جديد بلغة مركزة دالة تخلق المعنى، فنعرف من هذا المعنى الذى توحيه، وعلى سبيل المثال، ما فقده هاشم، وسعى إلى تحقيقه.
يقول هاشم فى بداية الرواية:"الشارع أتذكره، أميل إليه من صفر باشا، أمضى فى الأرض الترابية، على اليمين دكانان، أحدهما مغلق، والثانى ترزى، عرض بذلة وحيدة فى الفاترينة الزجاجية.." فهذا السرد التصويرى المؤدى بجمل قصيرة يدل على فقر هذا المكان، وعلى عدم وجود فرص عمل، علاوة على دلالات أخرى تتبدى إن أكملنا القراءة، منها علامات تشكل خصوصية الفضاء الروائى، فالأرض ترابية فيها دكانان أحدهما مغلق والثانى ترزى علق بذلة واحدة فى "فاترينته"، ويضيف هاشم فى وصف البيت مستخدما السرد التصويرى الناطق بالمعنى:"..الجدران أكلها ملح البحر، والجدران المشققة تنز بالرطوبة، وقضبان النوافذ الحديدية علاها الصدأ.." نلمس فى هذه الجمل الفقر والبؤس والإهمال، ونلمس فى جمل أخرى التقاطا لتفاصيل ناطقة بالدلالة عندما نقرأ:"..على المكتب الصغير أوراق جريدة قديمة، حال لونها، وتقصفت حوافها: الحاكم العسكرى يفرض حظر التجول.. جنود الأمن المركزى دمروا المنشآت فى شارع الهرم.." والدلالة هنا واضحة، ففى الوطن قمع وقهر وسلطان ظالم مدمر.
وهكذا يتبين لنا من قراءة السرد التصويرى، ومن دون قول مباشر "الفقد" الذى أدركه وعاشه هاشم، ووهو الفقر وعدم وجود فرص عمل والتسيب والإهمال والقمع، والذى خرج ليعوضه فى مكان آخر من هذا العالم، لكن اللافت أن هاشم نفسه يعود إلى هذا المكان ليبقى فيه، وإن كان قد ازداد ترديا.
يعود هاشم إلى بيت الأسرة القديمة، وإلى شقة غاب عنها آخر ساكنيها منذ أربع سنوات أو خمس، بعد أن مات الأبوان والأخ المعوق، وذهب الأخوة الآخرون كل فى دربه. تطالعه رائحة التراب، يشمها ويسأل: هل هى رائحة الزمن؟
فى مناخ تسهم هذه الرائحة فى تشكيله، يمضى القص، ويلاحظ فيه، أولاً، تداخل الأزمنة: الحاضر، الماضى القريب، الماضى البعيد، المستقبل، فتمضى الأحداث فى الحاضر، وتسترجع أحداث من الماضيين، ويستشرف المستقبل، فيشعر القارئ كأن ديمومة زمنية تمضى أمام عينيه. وثانياً، أن هاشم يتعرف، وهو يحيا هذه الديمومة، إلى المكان الذى غادره ثم عاد إليه، بعينين جديدتين، كأنه يرى الأمكنة والأشياء للمرة الأولى، ويدرك أن الغربة فصلته عن زمن مختلف. وثالثاً، تغير زتوية الرؤية ووجهة النظر الرئيسية فى الرواية: هاشم بضمير المتكلم، ثم لا يلبث أن يخلى موقعه إلى الراوى بضمير الغائب، وهذا التبدل واضح الدلالة، وفى ما يأتى نقدم أنموذجا يوضح ذلك.
تروى الشخصية المشاركة الوحدات: العودة، البيت: تذكره، ما هو عليه الآن، ما كان عليه، الشقة.. وتقدمها من منظورها، بوصفها العنصر الروائى الأكثر قدرة على أداء هذا الدور: أداء السرد التصويرى الدال على إدراك الفقد المفضى إلى اتخاذ قرار الخروج من نحو أول، والتعرف إلى ما أحدثه الزمن من تغير إبان غيابه، واتخاذ قرار البقاء على الرغم من أن الواقع غدا أكثر ترديا من نحو ثان، وتشكل هذه الثنائية يطرح سؤالا عن أسباب العودة والبقاء، وهذا ما يوكل أداؤه إلى راو أكثر معرفة، وهو الراوى العليم، بوصفه العنصر الروائى الأكثر قدرة على القيام بهذا الدور، لأنه يعرف كل شئ، ويؤديه بموضوعية، من نحو أول وقادر على استخدام التقنيات ووسائط المعرفة من نحو ثان، لذا فهو يدير حوارا بين هاشم وأخيه محمود، فنتبين منه وجهة نظر كل منهما وعنف الأب، ثم يقص ويصف ويسترجع، وبقدم معلومات فى نهاية اليوم الأول، فى صيغة استفهامية تثير رغبة القارئ فى متابعة القراءة وشدته إلى معرفة ما حدث لهاشم الذى غادر راكبا البحر إلى دنيا جديدة يحبها، يسأل الراوى فى نهاية اليوم الأول: وهل انتهت حياة البحر بالعمل فى دكان ميخاليدس والزواج من كريستينا؟ فيسأل القارئ وهو يقلب الصفحة بعجل: من هو ميخاليدس؟ من هى كريستينا؟ أين وكيف ومتى عرفهما؟
وهكذا يمضى القص فى تناوب بين تتبع لاكتشاف الحاضر واسترجاع الماضى واستشراف المستقبل، وفى تناوب بين راويين، زاويتى رؤيا، يؤدى كل منهما دوره.
تنطق لغة القص التى يؤديها هاشم بخياره من دون أن يقول ذلك مباشرة، نقرأ على سبيل المثال قوله:"أعانى لحظات اختلاط الإحساس بالحياة فى بيريه والعودة إلى البيت" فالمكان الذى خرج إليه وعاد منه هو "بيريه" فحسب، أما المكان الذى خرج منه وعاد إليه فهو "البيت"، وهذه الثنائية: بيريه/البيت تدل على أن الطرف الأول مكان عام، أما الطرف الثانى فهو مكانه هو الذى يأوى إليه، ويحميه، إلى ما هنالك، مما يرمز إليه البيت.
والسؤال الذى يطرح هنا هو: لم اتخذ هاشم هذا الخيار؟ ماذا جرى فى الدنيا الجديدة التى رغب فى الخروج إليها والعيش فيها؟
رحل هاشم، وغدت الباخرة بيته إلى أن حط الرحال فى الميناء اليونانى بيريه، فعمل فى مقهى ميخاليدس، وهو يونانى ولد فى حى العطارين فى الإسكندرية فى ايام سعد باشا، وتركها فى أيام عبد الناصر، ثم تزوج حفيدته كريستينا التى يحبها وتحبه.
وتمضى الأيام "زمان وصل" لكن عوامل القطع تظل حاضرة فيه، فثنائية أنا/أنت أو هو تبقى قائمة بوصفها ثنائية اختلاف، تقول كريستينا عن حى العطارين فى الإسكندرية: أتصور من وصف جدى أنه أجمل أحياء الدنيا، لكن الجد تركه وعاد إلى بيريه، وتسأل زوجها: وأنت هل تحب بحرى؟ وهو الحى الذى عاش فيه فى الإسكندرية، فيجيب: طبعا، فتقول: وأنا أحب بيريه..
فى هذه النماذج نلمس ثنائية: أنا/ أنت، أحب/ تحب.. لكن الخصوصية تبقى داخل النفس، أما فى خارجها فيطمس حبه لكريستينا ذكريات كثيرة، ويهبه الزواج منها الحق فى أن يقيم بلا خوف، ويقرب له إمكانية الحصول على الجنسية اليونانية، ويغيب إحساسه بالغربة، فيقول لزوجته فى اليوم الثالث لانتقاله إلى بيت ميخاليدس: "مصر وطن عنيت فيه الغربة، واليونان غربة وجدت فيها الوطن" تقول: "هذا شعر" يقول:"ما أقوله هو الحقيقة.. بيريه الآن وطنى وسكنى.. وهى بك حبى أيضا" ويعمل ويطمئن ويخالط الناس، ويجلس على المقاهى، ويقنعه توالى الأعوام بأن بيريه هى الحاضر والمستقبل.
لكن عندما ذهبت كريستينا للصلاة فى الكنيسة غلبه الضيق، ولما طلبت منه أن يرافقها توتر، وترك البيت إلى قلب المدينة، ولم يدر كيف يتصرف عندما اكتفى أبواها منه بنظرة محايدة، وأعفياه من الجلوس إليهما، ما يعنى قطعا معه إن لم يكن رفضا..
وإن كان لم يعد يعانى تأثيرات الغربة: اللغة، سحب الإقامة، مداهمات الشرطة، النظرات الرافضة أو المستريبة، علاوة على التشابه الجغرافى الذى يكاد يكون تاما بين ميناءى بيريه والإسكندرية، فإن حواراته مع اليونانيين كانت تنتهى ب"القطع" وليس ب"الوصل"، ومنها حوار مع رجل يونانى جعله يكتشف أن اختلاطه بالمجتمع الذى وفد إليه هو اختلاط الزيت بالماء، ويتبين أن هجرته التى طالت لم تزحزحه عن موضعه فى الهامش، قال الرجل: مصيبة لو أن القرعة ألزمتنا باللعب مع تركيا، قال هو:أرى أن نبتعد بالرياضة عن القضايا السياسية. قال الرجل: هذه مسألة نعرفها نحن أبناء اليونان. أجاب: أنا الآن يونانى. قال الرجل: نحن يونانيون، وأنت تستوطن اليونان.
واقتحمه شعور بأن كل ما حوله يعاديه، وأن عليه أن يبادله العداء نفسه، وبدأ يؤرقه السؤال: هل يظل أجنبيا إلى الممات؟ ولعل هذا السؤال نفسه هو الذى أرق ميخاليدس من قبل فى الإسكندرية. قال العجوز: كانت الإسكندرية مدينتى لولا أن الظروف تغيرت. والظروف تغيرت فى أيام عبد الناصر، أى فى أيام نهوض الشعور/المشروع القومى الذى واجه الآخر/المستعمر الغربى، فادار صراعا حادا على مختلف المستويات، هدفه القضاء عليه، ما جعل ميخاليدس، وهو غربى، يشعر بتغير أدى إلى اتخاذه قرار العودة إلى بيريه.
وإذ يقرر هاشم العودة إلى الإسكندرية يقول لكريستينا عندما تسأله عن السبب: "الطير يتجه نحو الجنوب وراء علامات لا يراها غيره" فقالت: "لا أتصور أنى أبتعد عن بيريه.. سأنتظرك حتى تعود. قال: قد لا أعود. وفى بساطة حاسمة قالت: وأنا لن أغادر بيريه".
وهكذا حسم الخيار، وعاد هاشم ليفتح باب شقة تجاور مقام سيدى منصور، أغلق منذ خمس سنوات، ذهب الأهل، وبقى هو يحاول أن يرتب الكلمات المتشابكة، المتقاطعة.. وتتصاعد من المقام زغرودة طويلة يحدس أنها لامرأة أوفت نذرها، فهل هذه العلامة هى إحدى العلامات التى لا يعرفها سوى الطير العائد إلى الجنوب؟ وهل حدسه هذا يجعله يشعر بأنه ينتمى إلى المكان وليس أجنبيا؟
وإذ تنتهى من قراءة الرواية يخطر لك غير سؤال، فهل من الحتمى أن يكون اختلاط أنا وأنت أو هو اختلاط الزيت بالماء؟ وهل أن شعور الأنا الممض بأنه أجنبى فى بلاد الأنت يدفعه إلى الخروج منه والعودة إلى حيث يشعر بالانتماء؟
فى الرواية ما يشير إلى أن الإجابة عن هذه الأسئلة هى نعم، لكن فى الرواية ما يقول: إن الأنا حين يعانى الغربة فى الوطن، أى عندما يشعر بالفقد، يخرج ليعوضه، ويسعى ليبحث عن الوطن فى الغربة، وقد يجده، وعندما يجده يشعر بفقد آخر، فيعود ليعوضه، وهكذا فى حلقة تدور، وليس فيها من زمان وصل دائم، ما يطرح سؤالا حضاريا كبيرا: لم لا يكون فى هذا العالم مكان يدوم فيه زمان الوصل؟ أى لم لا يكون فى هذه الدنيا وطن لا يشعر فيه الإنسان أيا يكن بالغربة؟ وان استحضرنا الغياب الذى بدأنا الكلام به نسأل: هل جاد التاريخ، ذات عصر، بهذا المكان فى أندلس، حيث أزهر زمان غنى الشاعر حكايته التى مرت كما حلم فى كرى أو خلسة المختلس، فطلب للغيث أن يجود ويسقى.. فلعل هذا الزمان يعود يوما؟ ولكن أليس هذا حلم آخر فى زمن "زيوس" العالم الجديد؟

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:42 AM
«الشاطئ الآخر»

بقلم الدكتور: أحمد زياد محبك
أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة حلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ

_ 1 _
رواية رقيقة رشيقة ، لطيفة ناعمة ، شديدة التكثيف ، مثل مروحة صينية صغيرة ، مطوية في يد سيدة رشيقة ، تبدو صغيرة ذات بعد واحد ، تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد ، تحمل رسوماً وألواناً جميلة للحب والشباب والتاريخ والسياسة ، تلك هي رواية الشاطئ الآخر للكاتب الروائي والقاص محمد جبريل ، وقد صدرت عام 1995 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، في القاهرة ، وتقع في 126 صفحة من القطع المتوسط ، ولا تزيد عدد كلماتها على 24 ألف كلمة ، تنثال في ليونة من غير أن تقسم إلى مقاطع أو فقرات أو وحدات .
والرواية تقدم خبرة شاب يطرده أخوه من البيت بعد وفاة الأب ، فيلجأ إلى الأجنبي ، ليتفتح وعيه في "الشاطئ الآخر" ، ويعرف الحب ، ويمتلك المعرفة ، ثم يعود إلى بيت الأب ولقاء الأخ ، بعد أن عرف العالم ، ويرتبط ذلك كله بالواقع الخارجى ، بما فيه من متغيرات ، بخيوط حريرية ناعمة ، فيمكن عندئذ قراءة الرواية قراءة أخرى ، لتغدو بشكل ما تعبيراً عن حياة أمة ، لا مجرد حياة فرد .
والرواية تحكي عن شاب جامعي ، يدعى حاتم ، يعمل نادلاً في مطعم ، يموت أبوه رضوان ، وقبل ثلاث سنوات كانت أمه قد ماتت ، ويفجؤه أخوه طارق ، وهو ضابط في الجيش ، بطرده من شقة الوالد ، ليستأثر بها ، بدعوى الزواج ، حتى إنه ليستأثر بالأثاث ، ولا يعطيه شيئاً منه ، ويلجأ حاتم إلى سمسار ، فيؤجره غرفة في شقة لدى سيدة يونانية ، ترحب به ، في الوقت الذي لا يرحب به بيروس زوج ابنتها فيرجينيا ، وكان حاتم من قبل قد تعرف إلى شاب يوناني ، يدعى ديمتريوس ، ويعرفه هذا الشاب إلى عالم واسع من الثقافة الغربية ، كما يعرفه إلى أخته لأبيه ياسمين ، وسرعان ما يقع حاتم في حبها .
ويرافق ذلك كله كما تذكر الرواية إقالة محمد نجيب في نوفمبر 1954 وميل عبد الناصر في سياسته الخارجية إلى الكتلة الشرقية بشرائه السلاح من تشيكوسلوفاكيا, ثم امتناع الولايات المتحدة عن تمويل بناء السد العالي وتمويل الاتحاد السوفيتي له, وما تلا من تأميم عبد الناصر لشركة قناة السويس, وما أعقبها من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956وزيادة التقارب بين مصر و الاتحاد السوفيتي.
_ 2 _
ويبدو الحب في الرواية العنصر الأكثر بروزاً, فهو حاجه أساسية, ولا سيما بالنسبة إلى حاتم بطل الرواية, ويظهر الحب متأثراً بقوى الواقع وظروفه, ولا يظهر قوة فاعلة مؤثرة, ويرجع ذلك إلى شخصية حاتم, فهو بحاجة إلى الحب, ولكنه لا يعرف المنفذ إليه أو السبيل, أو لعله يعرف ولكنه لا يستطيع أن يبادر- بحكم تكوينه- فهو شاب مثقف, يميل إلى المطالعة والقراءة (ص23) ولعله يشبه هاملت الذي يطيل التأمل والتفكير, بخلاف روميو الذي يميل إلى المبادرة والفعل.
وللحب في حياة حاتم جانبان اثنان, الأول ذهني ثقافي مجرد, والثاني عملي واقعي تجريبي, وفي الجانب الأول, وهو الطاغي يتعرف حاتم إلى الحب من خلال كتب التراث, من كتابات ابن الجوزي (ص61) والمفضل بن سلمة (ص64) وابن حزم (ص68) و(ص73) والماوردي (ص 70) وابن قيم الجوزية (103) وداود الأنطاكي (ص112), فهو يقرأ فيها, ويختار مقبوسات منها, تتعلق بأوصاف الحب والحبيب, وحالات الحب وأشكاله ودرجاته, وهي مقبوسات كثيرة, تدل على ثقافة حاتم وتمسكه بالتراث ولجوئه إليه بعد موت أمه وأبيه وطرد أخيه له من الشقة كما تدل على شعوره بالخلاص من الغربة التي يعانيها في حياته مع ديمتريوس وفي شقة السيدة اليونانية, كما تدل تلك المقبوسات على شخصية مثالية ذهنية تتعلق بما هو كلي مجرد, وبما هو نظري, وهي شخصية تنطلق من الأخلاق والفكر والثقافة إلى الواقع لتتعرف إليه, وتبدو المقبوسات على كثرتها رشيقة, لا تخلو من ذكاء, وحسن انتقاء, وهي تسد فراغاً كبيراً في حياة حاتم, وتدل على شخصيته دلالة قوية, ولا غنى عنها, كما تبدو ملتحمة بالبناء الكلي للرواية, وقد جاء كل منها في موقعه من الرواية وفي الجانب الثاني, وهو الواقع, تبدو تجربة الحب لدى حاتم محدودة جداً, قوامها الحياء والخجل, لذلك كانت عفيفة, بعيدة كلياً عن الممارسة الجسدية, ولم تتجاوز في أقصى أبعادها قبلة واحدة, جاءت عفواً على سبيل المصادفة, وإن كانت تجربة الحب قد مرت لدى حاتم بمراحل وحالات قاربت فيها المحظور, ولكنها ابتعدت عنه بقدرة غريبة كأنما كتب لحاتم أن يحافظ على عفته وبراءته, وهذا ينسجم في الواقع مع شخصيته, فهو مثقف مهذب, تلقى تربية صارمة, ونشأ في أسرة محافظة متماسكة.
وتبدأ تجربة الحب لدى حاتم في الواقع بعشقه الطفولي البريء لابنه الجيران مديحة, وكتابة قصة عنها ثم تمزيقها وهو في الثانية عشرة (ص53-54) وتنمو معرفته عن الحب بما يسمعه من زميل له في الصف عن علاقاته بالبنات ويحاول أن يرسم صورة لها في ذهنه فلا يفلح (ص54) وقد حاول مرة ممارسة الجنس مع باغية ولكنه اضطرب وعف وخرج من غير أن يفعل شيئاً، مما يدل على حشمة فيه وحياء (ص56-57).
لقد احتفظت الرواية لحاتم ببراءته وطهره ونقائه ليكون تفتح الحب لديه في أرض طهور لا يعرف فيها قبل الحب شيئاً, وليكون استقباله له عذباً بريئاً (ص57).
ويعلل حاتم عدم معرفته الحب في الواقع بعدم مصادفته له, أو انتظاره أن تبادر الفتاة (ص55) ولكن ذلك وحده غير كاف, فقد أتيحت له أكثر من فرصة, ولكنه عف, وتردد, ومرجع ذلك في الواقع إلى تكوينه, فهو شاب مثقف متأمل يميل إلى المطالعة والبعد عن الواقع, لقد كانت صفاء ابنة عمه تغلق عليه باب الحجرة, وتحدثه عن الحديقة والأشجار ولقاء الشباب والصبايا, وتقعد قبالته في وسط السرير, وتزيح روبها الوردي عن جسدها, وتسأله إن كانت له صديقة, وهو لا يستجيب لها, فتمل منه (ص85-88)ويحدث أن تنطلق صفارة الإنذار معلنة عن غارة, وتفزع إليه السيدة اليونانية, فتلجأ إليه, وتتمسك بيديه, وتثور في نفسه رغبة غامضة, وينتظر أن تبادر هي, ولكن سرعان ما تنطفئ تلك الرغبة, عندما تنطلق الصفارة الثانية معلنة عن الأمان (ص107-108), ولا ينظر حاتم إلى فرجينيا نظرة اشتهاء البتة, على الرغم من أنه يلتقيها كثيراً في منزل السيدة اليونانية, بل إنه لا ينظر إليها إلا على أنها زوجة لبيروس وأم لوليدها الذي تعني به كثيراً, ولا يفكر في التعرف إلى جسد المرأة من خلالها.
هذه العفة لدى حاتم هي التي جعلت مشاعره تتجه نحو ياسمين أخت ديمتريوس, وهي من أم يونانية وأب مصري, وقد تفتح حبه لها وفق إضاءات مشرقة من قراءاته في كتب التراث عن الحب, مما يؤكد سمو مشاعره ورقيها ، ومما يدل على استناد هذا الحب إلى جذر معرفي تراثي ، ليؤكد البعد الحضاري والإنساني للحب . إن حب حاتم لياسمين هو حب عذري بريء يستند إلى العفة والطهر والنقاء ، ويقوم على الخجل والحياء ، ويرجع إلى ثقافة حاتم وتفكيره وسمو روحه ، وذات يوم تعرض عليه ياسمين ألبوم صورها ، وتغطي بيدها صورة لها وهي بالمايوه ، ويفكر في أن يدفع يدها ليرى الصورة (ص 69 ) ولكنه يكتفي بالتفكير ولا يفعل شيئاً ، ولعل هذه العفة هي التي جعلت مشاعره تنمو وتنضج ، وتسير بهدوء مع حركة الواقع ووفق إرادة الحياة ، لا إرادته هو ، إلى أن كان يوم زار فيه حاتم صديقه ديمتريوس ، فاستقبلته ياسمين وأخوها غائب ، وحدث أن أطلقت صفارة الإنذار معلنة عن غارة على الإسكندرية ، فتفزع إليه ياسمين ، ويضمها إلى صدره ويقبلها ( ص 101 ) وهي القبلة الوحيدة ، وقد جاءت تتويجاً لنضج المشاعر، كما جاءت نتاج المصادفة ، وبدافع من الواقع .
إن هم حاتم هو البراءة والنقاء والطهر ، وبما أن قبلته لها هي أول قبلة في حياته ، دليل طهره وبراءته ، لذلك يسأل نفسه : " هل كان ما حدث أول قبلة لرجل في حياتها ؟ مثلما هي أول قبلة في حياتي ؟ " ( ص 101 ) بل إنه لا يتردد في سؤالها : " هل أحببت إنساناً آخر قبلي ؟ " ( ص 110 ) والسؤال فيه من السذاجة والعفوية بقدر ما فيه من دليل على البراءة والطهر ، ويؤكد ذلك تصوره لياسمين زوجة له في المستقبل ( ص 111 _ 112 ) دليل صدقه أيضاً وبراءته .
ولكن ، إلام سينتهي هذا الحب العذري الصادق الجميل ؟ إن الأسباب التي قادت إلى هذا الحب ، هي التي نفسها ستقود إلى نهايته ، وهذا هو الطبيعي ، إن حاتم لم يملك في الواقع حرية الحب ، ولم يملك في يوم إرادة الفعل، أو القدرة على المبادرة ، هو لطيف ، رقيق ناعم وهو مثقف وقارئ جيد ، وهو نبيل وصادق ، وهو عاطفي وسريع الاستجابة وقوي التأثر ، ولعله يعي ذلك كله ( ص 120 ) ، ولكنه لا يملك القدرة على المبادرة .
إن طرد أخيه له من الشقة ، وتعرفه إلى ديمتريوس ، وزيارته له في منزله ، وحرب السويس ، والغارات على الإسكندرية ، وفزع ياسمين ، ومعانقتها له ، هي جميعاً الظروف التي كونت حبه وصاغته ، وعندما تتغير هذه الظروف سينتهي حبه ، فلقد انتهت الحرب ، وطرد عبد الناصر الإنكليز والفرنسيين ، وتحمس اليونانيون لمغادرة مصر ، بمن فيهم ديمتريوس وأمه ، وطارق الذي طرد أخاه من شقة أبيه يدعوه إلى العودة إليها .
وهكذا تغيرت الظروف التي قادت إلى الحب ، فينتهي الحب ، لذلك يظن حاتم أن العالم كله متآمر عليه، وقد نسي أن هذا العالم هو نفسه الذي وضع ياسمين بين يديه ، يقول حاتم : " لماذا يتآمر العالم على سعادتي؟ ما صلة ياسمين وصلتي بالسد العالي وتأميم القناة والحرب وخروج الأجانب ؟ " ( ص 123 ) .
_ 3 _
وبمقابل حب حاتم لياسمين ، يظهر حب آخر ، شاذ ، غير سليم ، هو حب ديمتريوس لحاتم . لقد ظهر ديمتريوس الملاذ لحاتم ، فهو الصديق الذي استضافه في منزله ، واتخذ منه صديقاً ، ومنحه شعور الصداقة، وعرفه إلى أخته ياسمين ، كما عرفه إلى الثقافة الغربية ، فكان يقرأ له عيون الأدب العالمي ، من هوميروس إلى كافافيس ، مروراً باسخيلوس ودانتي وشكسبير وكازنتزاكي وغيرهم كثير ، وكان حاتم بأشد الحاجة إليه ، في الوقت الذي خذله فيه أخوه وطرده من شقة الوالد ، وحرمه من الأثاث والتراث .
ولكن ، ذات يوم اقتحم ديمتريوس عالم حاتم ، وقبله في فمه ، فصفعه حاتم عدة صفعات ، ووضع حداً لاندفاعاته ( ص 83 ) فأكد له ديمتريوس أنه لا يزوره إلا لغاية في نفسه ، فزجره وكاد يلكمه ، فاعترف بأن الخياط الأرمني في أسفل البناء المقابل قد نال منه ( ص 84 ) . وكان حرياً بديمتريوس أن ينقاد إلى الحب كالحب الذي انقاد إليه حاتم ، فهو مثقف مثله ، فما الذي قاده إلى هذا الشذوذ ؟ لقد دخل ديمتريوس ذات يوم على حاتم ، ليقرأ له صفحات من رواية لكافافيس عن صديقين تقودهما الصداقة إلى ممارسة علاقة شاذة ( ص 81 ) ثم يسأله إن كان قد قرأ " صورة دوريان غراي " لأوسكار وايلد ، فيرد عليه حاتم :
" لا أحب الأصدقاء غير الأسوياء " ( ص 81 ) ويرد عليه ديمتريوس : " أن يكون المرء قاتلاً فذلك لا يدعو لإدانة ما يكتبه ، كما أن الفضائل العائلية ليست أساساً حقيقياً للفن " ( ص 81 ) وهذا الكلام لأوسكار وايلد نفسه ، وهكذا تقف الثقافة الغربية بما فيها من شذوذ وراء شذوذ ديمتريوس ، كما تقف الثقافة العربية بما فيها من حب عذري عفيف وراء عفة حاتم وطهره .
ولكن ، مما لا شك فيه ، أن الثقافة وحدها ليست العامل الوحيد المؤثر في كل من حاتم وديمتريوس ، ولابد من وجود أسباب أخرى . ويمكن أن نرى ذلك واضحاً في أسرة كل منهما، فحاتم نشأ في أسرة متماسكة ، والده رصين متوازن ، له حياة هادئة مستقرة ، لا يغادر المنزل إلا إلى المقهى المجاور ، وهو يحافظ على الصلاة في المسجد ، وعندما ماتت زوجته حزن عليها أشد الحزن ، ولزم بيته ، وطرد عدة خادمات ترددن على المنزل وفاء منه لزوجته ، ثم " دخل في شرنقة من الهدوء السادر " ( ص 13 ) وفقد ذاكرته ، ولم ينطق بعد ذلك بغير كلمة واحدة : " البكاء لن يعيدها " ( ص 13 ) مما يدل على وفائه لزوجته وحبه لها حباً قوياً صادقاً ، وقد توفي بعدها بثلاث سنوات ، وكان قارئاً نهماً ، وقد حول النملية إلى مكتبة كدست فيها الكتب والمجلات وعلى الجدار سبحة كبيرة الحبات ( ص 23 ) ، وكانت الأم حريصة على تأمين حياة هادئة آمنة لولديها حاتم وطارق ، وكانت تريدهما أن ينصرفا إلى الدراسة ولا يشغلا عنها بشيء.
وبالمقابل نشأ ديمتريوس في أسرة تحوي كل التناقضات ، فهو يحيا مع أمه اليونانية وزوجها المصري ، ومعهما ياسمين أخته من أمه ( ص 20 ) وهو يعد نفسه أوروبياً يحيا في مصر ، فهو يعيش في أوربة من خلال الأفلام والكتب والإذاعات والأغاني ( ص 27 ) ويرى الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومرسيليا ونابولي ( ص 27 ) ، وهو يعيش مع أمه المسيحية وزوجها المسلم ويدرك أن الدين لا وجود له في البيت ( ص 59 ) .
وتنتهي الصداقة بين حاتم وديمتريوس بانتهاء حرب السويس ، وعودة ديمتريوس مع أمه إلى اليونان ، وينتهي الحب أيضاً بين حاتم وياسمين ، كما تنتهي إقامة حاتم في منزل السيدة اليونانية ، إذ تقرر هذه الرحيل أيضاً إلى اليونان ، ويرجع حاتم إلى بيت والده بدعوة صادقة من أخيه طارق .
_ 4 _
ولقد عنيت الرواية بتقديم صور دقيقة وواضحة للشخصيات ، ولاسيما للوجوه والملامح والقامات سواء في ذلك الشخصيات الرئيسية أم الثانوية , وهي مرسومة من زاوية حاتم , الراوي والبطل , ومنها صورة لوجه ديمتريوس ( ص 17 ) وصاحب الوكالة ( ص 18 ) والعم شقيق رضوان ( ص29 ) وسمسار العقارات (ص31 ) والسيدة اليونانية ( ص34 ) وابنتها فيرجينيا ( ص 38 ) وزوجها بيروس ( ص 38 ) وياسمين (ص 48 ) .
يقول حاتم في تصوير ياسمين : " كانت في حوالي الخامسة عشرة , امتزجت في وجهها الملامح الأوربية والعربية , بما لا تخطئه العين , الشعر أسود ينسدل إلى الظهر ، و الوجه مستدير ، تعلوه عينان واسعتان بنيتان ،تسكن إليهما ، تحيا فيهما ، تتوق لأن تظلا تنظران إليك ، ولا تخفض عينيك عنهما ، تظللها أهداب طويلة ، والأنف صغير ، والشفتان ممتلئتان ، والبشرة بيضاء مشربة بحمرة خفيفة ، ارتدت جلابية من " الفوال " المنقط ، تحتها قميص أبيض ، وانتعلت حذاء مفتوحاً ، تطل منه أصابع مطلية بالمانيكير " (ص48).
والوصف يشمل الوجه والقوام ، والحركة والسكون ، ولا يخلو من تدقيق في بعض التفاصيل الدالة والمعبرة ، ولعل أجمل ما فيه الجمل الأربع الدالة على أثر نظرتها في النفس.
وربما بدا وصف سمسار العقارات أكثر تميّزاً ، وحاتم يصفه على النحو التالي " كان الرجل وراء المكتب الخشبي الصغير مشغولاً بشد أنفاس شيشته ، في حوالي الخمسين ، له أنف ضخم ، وشارب رفيع كالخط المتداخل البياض والسواد ، فوق شفتين زاد من امتلائهما بروز في السنتين الأماميتين ، يركز نظرته على عيني محدثه ، كمن يريد أن ينفذ إلى داخله ويحرص على تحريك يده ، وهو يتكلم ، ليرى محدثه الساعة الذهبية في يده ، وكان يرتدي جلباباً صوفياً ، ويضع على رأسه طاقية من الصوف ، ويغطي عنقه بتلفيعة تدلت حتى الصدر " ( ص 31 ) .
والوصف لا يخلو من بطء وهدوء ، وهو يستغرق في تفاصيل دقيقة ، ولكنها ذات دلالات نفسية واجتماعية واضحة ، ومثل هذا الوصف للوجوه والملامح والقامات أضفى على الرواية تميزاً وخصوصية ، ومنحها قدراً غير قليل من ملامح البيئة .
_ 5 _
وتدور حوادث الرواية كلها في الإسكندرية ، ولا تكاد تستغرق أكثر من عامين ، وغالباً ما تدور في ثلاثة أماكن رئيسية ، هي بيت الأب رضوان ، وبيت السيدة اليونانية ، وبيت ديمتريوس ، والرواية تصور البيوت الثلاثة وهي تمور بالحياة والحركة ، وتصور الحياة من حولها ، وما تطل عليه من بيوت وأزقة ، وحارات وأسواق ، ومساجد وكنائس .
والرواية تصف كل بيت من البيوت الثلاثة من الداخل والخارج ومن ذلك وصف بيت ديمتريوس من الخارج كما يراه حاتم حيث يقول : " البيت في شارع الكنيسة الأمريكانية ، ملاصق للكنيسة الإنجيلية ، وبالقرب من نقطة شريف ، من ثلاثة طوابق ، يطل في الجانبين على شارع سيدي المتولي وشارع توفيق، الوجوه التي تطل من النوافذ والشرفات معظمها لأجانب ، يتطلعون إلى الطريق ويقرؤون الصحف ، ويتبادلون الأحاديث ، وكانت البالوعات على جانبي الشارع قد ابتلعت مياه الأمطار ، لم يعد إلا التماعات متناثرة " ( ص 19 ) .
وتصف الرواية غرفة ديمتريوس كما يراها حاتم . حيث يقول : "في مواجهة الباب بوفيه ذو مرآة بيضاوية مطوية في بعض جوانبها ، وعليه قطعة رخام تكسرت حوافها ، تتوسطها فازة زرقاء يتصاعد منها ثلاث ريشات طاووس ، إلى اليمين فوتيل بامتداد معظم الحائط ، يقابله كرسيان ، تغطت جميعها بكرتيون أبيض ، فصل عليها ، وفي المنتصف ترابيزة خشبية مستطيلة ، عليها مفرش من الدانتيل الأبيض، وتدلت من السقف نجفة عنقودية الشكل ، انطفأ معظم لمباتها ، وعلقت على الجدار _ أعلى الفوتيل _ لوحة زيتية لبنات بملابس شفافة " ( ص 20 )
والوصف لبيت ديمتريوس من الداخل والخارج لا يخلو من التتبع للجزئيات والتفاصيل ، والغاية من أكثرها الدلالة على نمط من الحياة فيه قليل من الغنى وكثير من الاختلاف عن البيت المصري ، أي أن الغاية من هذا الوصف هي القول إنه بيت أجنبي من الداخل والخارج ، وفي نمط الحياة ، ويبدو الوصف هادئاً فيه قدر غير قليل من البطء ، بسبب تتبع التفاصيل ، وربما كان أكثر منه إغراقاً في التفاصيل وصف منزل السيدة اليونانية كما يراه حاتم ، حيث يقول : " على يسار المدخل كونصول قديم ، مشغول بالأرابسك ، تعلوه مرآة بيضاوية الشكل ، ومن أعلى الطرقة تتدلى نجفة ذات أربعة أذرع ، يفضي المدخل إلى صالة واسعة ، يشغلها أنتريه أسيوطي ، وترابيزة سفرة مستطيلة ، عليها منفضة خالية من أعقاب السجاير ، وحولها ستة كراسي ، وتتوسطها علبة من الصدف مغلقة ، وعلى الجدران صور عائلية ، ولوحات مقلدة لأعمال فنانين عالميين ، ومشاهد خمنت أنها لمدن يونانية تطل على الساحل ، وأعلى باب الشقة من الداخل علق صليب خشبي ، عليه نحت للمسيح وهو يضع إكليل الشوك ، وعلى يمين الباب ممر ضيق نسبياً ، توقعت أنه يفضي إلى المطبخ والحمام وغرفة النوم " ( ص 34 ) .
والتدقيق في الوصف واضح ، والغاية منه تأكيد بعض الصفات منها هدوء الحياة في البيت وسكونها ، وقدم الأثاث ، وطابعه الأجنبي ، مما يؤكد محافظة أهله على حياتهم الأجنبية بالإضافة إلى دلالته على ديانة سكانه ، وهي المسيحية .
وعلى الرغم من غنى الدلالات وأهميتها ، يظل الوصف هادئاً ساكناً ، لا يخلو من بطء ، يضعف من إيقاع السرد ، بسبب الاعتماد على الوصف المحض ، بعيداً عن ربطه بحياة الناس وحركتهم داخل المكان وعيشهم فيه .
وتصور الرواية الحياة الموارة داخل بيت الأب رضوان ، من غير أن تصف أي ركن فيه أو جزء أو مكوّن من مكوناته ، ويأتي التصوير دالاً موحياً ، وحافلاً بالحياة ، على نحو ما يروي حاتم حيث يقول : "أبي يعود عقب صلاة العشاء ، يجلس في الصالة أو الشرفة المطلة على شارع الميدان ، يستمع إلى الأغنيات في فونوغراف القهوة ، أسفل البيت ، إلى موعد نشرة الأخبار ، يدير الراديو حتى يسمع السلام الوطني ، فيغلق الراديو ويدخل حجرة نومه المطلة على الشارع الخلفي " ( ص 9 ) .
وواضح أن قيمة المكان لا تكمن في وصف جزئياته وتتبع تفصيلاته ، إنما تكمن في تصوير الناس وهم يملئون المكان بالحياة .
وبصورة عامة تبدو الإسكندرية في الرواية جميلة متألقة ، تمور بحياة الناس البسطاء العاديين ، حيث تنتشر فيها المساجد والمآذن والمقاهي والمطاعم ، وتتخللها بيوت اليونانيين ، لتزيد من بهائها وجمالها . ولكن حاتم يراها في النهاية وقد فقد حبه ، سوداء معتمة ، ملوثة كريهة ، وقد أسقط عليها كل خيبته ومرارته حيث يقول : " فسدت الحياة ، أفرغت ناقلات البترول ما بجوفها ، فتحول سطح البحر الذي أحبه إلى بحيرة واسعة من السواد الميت المتعفن ، تلاحقت سنوات واكتسح المد الضاري كل الأماني والأحلام والتصورات المنطلقة, علت الأمواج السوداء, فابتلعت ما بداخل البحر, وما على الشاطئ, انتزعت الصخور الأسمنتية, قذفت بها إلى آخر المدى, حتى ناس الطريق, كانوا شائهي الملامح, تطفح أعينهم توجساً وكراهية وحقداً" (ص125).
-6-
ويبدو الناس على "الشاطئ الآخر" على قدر غير قليل من العدائية والنفور والشذوذ, فكلهم يقررون مغادرة أرض مصر, لدى ظهور بوادر التغيير, إذ تقرر فجأة السيدة اليونانية مغادرة القاهرة, بعد انتهاء العدوان الثلاثي, من غير وجود أي مبرر لذلك, فقد أمر عبد الناصر الفرنسيين والإنكليز بالمغادرة, لأن إنكلترة وفرنسا شاركتا في العدوان الثلاثي على مصر, ولم يمس أحد اليونانين بسوء, وكذلك تقرر ابنتها المغادرة مع زوجها, كما يغادر ديمتريوس مع أمه.
وقرار المغادرة ليس غريباً, لأنهم كانوا يعيشون على أرض مصر بأجسادهم, في حين كانوا يعيشون في أوربة بأرواحهم, فهم يعيشون في الغرب بثقافتهم وقراءاتهم ومشاعرهم وأفكارهم وعاداتهم وأغانيهم ونمط حياتهم, ولا يرون في الإسكندرية إلا واحدة من موانئ المتوسط يقول ديمتريوس لحاتم: " الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومارسليا ونابولي " (ص27), بل إنه يقول لحاتم: " هل تعرف أن اليونانين هم الذين أنشئوا الإسكندرية " (ص24) ثم يصرخ قائلاً: " أنا أوربي يحيا في مصر " (ص25).
وكانت فرجينيا وزوجها بيروس أكثر عدائية لحاتم, إذ لم يقرّا السيدة اليونانية على تأجيرها غرفة له في شقتها, وكانا طوال إقامته عندها صامتين تجاهه, لا يبادلانه الفكر ولا الشعور ولا الحوار, بل ينظران إليه بنفور شديد, وكانا على عداء واضح لعبد الناصر وثورة يوليو 1952 وكانا أول المتحمسين لمغادرة مصر.
إن نظرة الناس على الشاطئ الآخر إلى مصر والمصريين هي على الأقل نظرة نفور, ولا تكاد تخلو من نظرة عرقية, إذ ينكر ديمتريوس على حاتم أن يكون أشقر الشعر فهو يتصور أن كل المصريين سود الشعر (ص51) .
-7-
ومن هنا تبدو الصداقة بين حاتم وديمتريوس اليوناني صداقة عابرة كما يبدو لجوء حاتم إلى منزل السيدة اليونانية مجرد لجوء مؤقت, لم يوفر لحاتم الاستقرار، حتى حب حاتم لياسمين يبدو أشبه بمرح الأطفال، هو تفتح القلب على أول حب, اكتسب منه حاتم بعض الخبرة, ونضجت مشاعره, واكتوى ببعض الألم، ولكن الأجمل من ذلك كله أنه ظل محافظاً على نقائه وطهره وصفائه وبراءته, مستنداً إلى تراث عريق وأسرة متماسكة, ربته فأحسنت تربيته.
إن غربة حاتم خارج منزل أبيه لمدة عامين تقريباً من أواخر 1954 تاريخ إقالة محمد نجيب إلى انتهاء حرب السويس أواخر عام 1956, غربة أنضجت شخصية حاتم, وأفادته خبرة, ولكنها لم تلغ شخصيته, ولم تشوهها, بدليل حفظه على طهره وبراءته ونقائه, ولقد عاد إلى منزل الأب ولقاء الأخ.
إن غربة البطل, ولاسيما الشاب القليل الخبرة و خارج وطنه, ثم عودته إليه بعد كثير من المغامرات, فكرة رئيسية عالجتها كثير من الحكايات الشعبية و الروايات .
ومن هنا يبدو العنوان : " الشاطئ الآخر" واضحاً و شفافاً و دالاً ، وقد جاء معرفاً بأل وموصوفاً، فهو ليس الشاطئ الذي يقف عليه المرء ، إنما هو الشاطئ الآخر، وغالباً ما يبدو الشاطئ الآخر أجمل و أكثر إغراء، وهذا ما ينطق به المثل القائل: "الضفة الأخرى من النهر أجمل"، وهذا بعض ما يوحي به العنوان، وبعض ما تحققه الرواية أيضاً، فقد وجد حاتم فى الشاطئ الآخر المأوى و الصداقة والحب، في حين طرده أخوه من الشاطئ الذي هو واقف عليه .
ولكن بقدر ما يبدو الشاطئ الآخر سوياً وجميلاً ودافئاً بقدر ما يتبين أنه غريب وعابر ومؤقت , مما يترك في النفس شجناً وحزناً و أسى ، وهو حقيقة شاطئ غريب ولكن ما يطمئن النفس ويريحها ، هو العودة إلى البيت ، وهي عودة سليمة ، سلم فيها الجسد وسلمت فيها الروح .
ولذلك كله يبدو العنوان أليفاً ولطيفاً وشفيفاً ، لا غموض فيه ولا إبهام ، كذلك لا ابتذال فيه ولا مجانية ، وقد أبت الرواية ألا أن تشير إلى دلالة العنوان قبل النهاية, حيث يقول حاتم:" نقلني ديمتريوس إلى الشاطئ الآخر, أسماء لم أكن أعرف غالبيتها, ولا قرأت لها, وإن ظللت أجذف بقاربي في بحر الكتب العربية " (ص122), ويبدو توضيح حاتم أقل مما توحي به الرواية في بنائها الكلي, ولذلك تبدو الرواية بغنى عن توضيح حاتم.
ولحاتم نفسه من اسمه نصيب كبير من الدلالات والإيحاءات فهو بثقافته وشهامته وعفة نفسه وطهره وحبه, يذكر بحاتم الطائي بما امتاز به من كرم وجود وشهامة، وربما كان لأخيه طارق نصيب من اسمه أيضاً, فهو ضابط عسكري, وهو على قدر غير قليل من الغموض, والتفرد بالرأي والتسلط, وهو يذكر بطارق بن زياد القائد العسكري الذي لا يعرف المرء سوى الخطبة المنسوبة إليه, مع إنه كان بربرياً لا يجيد العربية, وربما في كون طارق ضابطاً عسكرياً ما يوحي بالمرحلة التاريخية التي تشير إليها الرواية إشارات متناثرة هنا وهناك, ولعلها توحي بما شهدته مصر بعد ثورة يوليو من معاناة المثقفين من سلطة رجال الثورة العسكريين.

- 8 -
وتتجاور الحوادث داخل الرواية وتتوازى مع الحوادث خارجها ، وفى بعض الحالات تتعانق ، بقدر كبير من إغراء المقارنة والبحث عن رمز ما أو كناية أو إشارة ، فالضابط طارق يطرد أخاه حاتم من المنزل بعد وفاة الأب، في الوقت نفسه الذي يقيل فيه رجال الثورة الرئيس محمد نجيب في 14 نوفمبر 1954، ويلجأ عبد الناصر إلى الكتلة الشرقية فيشترى السلاح من تشيكوسلوفاكيا ، ويأخذ قرضا من الاتحاد السوفيتي لبناء السد العالي، في الوقت الذي يلجأ حاتم إلي منزل السيدة اليونانية ليستأجر غرفة لديها ، وفي الوقت نفسه يقيم صداقه مع ديمتريوس و يحب أخته ياسمين، ومثلما قادت الغارات الجوية على الإسكندرية إلي العناق بين حاتم وياسمين ، كذلك قاد العدوان الثلاثي الذي شنته انكلترة وفرنسا وإسرائيل على مصر إلى تقارب شديد مع الاتحاد السوفيتي الذي أرسل إنذاراً إلى الدول الثلاث يطلب فيه إنهاء العدوان ، وإذا كانت علاقة الحب بين ياسمين وحاتم قد انتهت ، مثلما انتهت علاقة الصداقة بين حاتم و ديمتريوس مع انتهاء الحرب ، فإن علاقة الود بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتى قد ضعفت كثيرا بعد انتهاء الحرب ، ومال عبد الناصر إلى أمريكا .
حوادث ومواقف كثيرة ،متوازية ومتجاورة ، داخل الرواية وخارجها ، بإشارات ذكية من الرواية نفسها ، ولكن ربما كان من الأجمل قراءة الرواية بمستوييها الداخلي والخارجي ، ومنح كل من الزمنين حريته، وشخصيته الاعتبارية ،وقد حققت الرواية لهما ذلك ، بعيداً عن القول بالرمز أو التأويل .
-9-
والرواية مسرودة بضمير المتكلم على لسان البطل حاتم ، وضمير المتكلم لا يتيح بصورة عامة للرواية من الحرية ما يتيحها له ضمير الغائب إذ يضطر الراوي إلى السرد من زاوية واحدة ، ولكن هذا يجنبه مزالق الراوي العالم بكل شيء ، ويمنحه بالمقابل بدائل منها وعى الذات ، وصدق الخبر ، ومعاينته الشخصية والتأمل ، وتحليل المواقف ، وحرارة اللغة وشاعريتها .
ومع أن الراوي واحد هو حاتم ، فقد جاءت لغته ذات مستويات متعددة ، فيها الوصف الهادئ المدقق ، وفيها التصوير الحي ، وتمتاز دائماً بالإيجاز والتكثيف، وقصر الجملة ، كما تظهر فيها حرارة الانفعال، والقدرة على التعبير عن أدق الخلجات والمشاعر .
ففي كثير من الحالات يعي حاتم ذاته ، ويعلل مواقفه ، ويفسر نفسيته ، ويتحدث عن نفسه عن ماضيه ، وعن أحلام المستقبل. يذكر حاتم غياب خبرته في عالم المرأة ، ويرد هذا الغياب إلى سبب خارجي يحدده بقوله : " كنت أنتظر وأتوقع البنت التي توارب أمامي الباب فتساعدني الجرأة على اقتحامه ، وأبوح بمشاعري " ( ص 55 ).
وهذا السبب الذي يعيه هو سبب واضح مباشر، يخفى في الحقيقة وراءه أسباباً أخرى قد لا يعيها حاتم ، منها تربيته وثقافته .
ويصف حاتم نفسيته، فيصور ما هو عليه من عاطفية وقوة تخيل واستحضار ، فيقول: "عاطفتي قوية ، أتابع مواكب الجنازات في طريقها إلى جامع الشيخ ، فتدمع عيناي لصوات النساء ، أبكى للمشاهد المؤثرة في الأفلام ...أهتز لبكاء طفل.. حتى التسابيح التي تسبق أذان الفجر من جامع الشوربجي تحرك في داخلي مشاعر حزينة " (ص 120 ) .
ويعبر حاتم عن حبه لياسمين وشوقه إلى لقائها ، فتأتى اللغة حارة رشيقة، حيث يقول:
" ياسمين ! الصورة تملأ خيالي ،لا تفارقني ، وأنا أصحو ، وأنا أنام ، وأنا أقعد ، وأنا أفكر وأنا أعمل ، وأنا أجالس الآخرين، تطايرت السدادة من القمقم في وقت لم أكن أعددت نفسي له ، انبعثت الحمم من البركان ، فاكتسحت حتى التصورات " ( ص 89 ).
ويعبر حاتم عن أدق الخلجات والمشاعر والحالات ، حيث يقول: " أدركت أن حياتي قد ارتبطت بهذه الفتاه الجالسة أمامي ، لا أتصور عالماً يخلو منها ، كان حبي لها يختلف عن حبي لأبى ولأمي، من قبل كنت أحب أبي دون أن أتدبر بواعث ذلك الحب ولا حالاته, لا يشغلني حبي لأبي فهو قائم ومستقر وملتصق بلحمي ويخالط ترددات أنفاسي, أنا لا أعنى بمتابعة دقات قلبي, ولا قياس ضغطي, ولا التأكد من قوة إبصاري, فهي حالات قديمة وممتدة, حالات من صميم حياتي, نشأت معها وترافقني, أما حبي لياسمين فهو حالة استثنائية, تبدل من حياتي, ينتشر نورها فيغمر نفسي " (ص69).
ويظهر التصوير في صنع معادل موضوعي خارجي لعالم داخلي, فلقد أدرك حاتم أن حبه انتهى, فعبر عن هذا الشعور بمقطع قوامه صورة شعرية متكاملة يقول فيها: " جاءت بلا توقع لحظة الفراق, كنت أسير في النهار المتألق بالضياء, عندما أظلمت الدنيا فجأة, ظلمة كثيفة متراكمة, لا تريك حتى داخلك, لا ترى شيئاً على الإطلاق, بدا لي الكون ضيقاً وموحشاً وقاسياً انزاحت في داخلي موجات متتالية من القهر والإحباط والعجز, تحسست لزوجة الدم في أنفي, والسن المكسورة في فمي, والشج في أوسط رأسي, وتخاذلت للضربات الموجعة, تاه قاربي, ولم يكن معي ما أطمئن به إلى الطريق الصحيحة, لا خريطة, ولا بوصلة, ولا مرئيات في الأفق, والسماء من فوقي ملبدة بالغيوم, فلا نجم أهتدي به, أعاني الظلام والغربة والضياء, اختلط طريقي, وفقدت الاتجاه" (ص124-125) .
إن السرد بضمير المتكلم من زاوية حاتم ساعد على إغناء الرواية بمقاطع من التحليل والتصوير بلغة لا تخلو من شاعرية, تناسب الحالة والموقف والانفعال , وتنقل ذلك كله بحرارة , من غير أن تفسد متعة السرد أو بناء الرواية .

-10-
ولم يكن حاتم بطل الرواية والراوي فيها فحسب , بل كان العنصر الأساسي المكون لها , والمحور الذي تنشد إليه عناصرها كافة , تتحد به , ويتحد بها وهذا ما يمنح الرواية وحدتها وتماسكها .
ولعل أبرز ما يميز حاتم هو طابع الثنائية , فحاتم يعيش الحب على مستويين , الثقافة والواقع , وحاتم يعاني من الغربة وهو في الوطن , فلديه بيت الأب ولكنه مطرود منه ولذلك يلجأ الي بيت السيدة اليونانية , وحاتم يصادق ديمتريوس ويحب أخته ياسمين , وحاتم يهرب من الواقع , والواقع يؤثر فيه .
ويظهر طابع الثنائية في عناصر الرواية كافة , فطارق يطرد أخاه من منزل الأب ثم يدعوه إلى العودة إليه , والأول ضابط عسكرية والثاني جامعي مثقف , وديمتريوس مسيحي وأخته ياسمين مسلمة , وهما يعيشان معاً في منزل واحد , الأب فيه مسلم والأم مسيحية , والسيدة اليونانية تعطف على حاتم , وينفر منه بيروس وزوجته فيرجينيا , وعلى أرض مصر في الإسكندرية يعيش ديمتريوس والسيدة اليونانية وابنتها وزوجها ولكن أرواحهم جميعا معلقة بأوربة , ولا ينسى المرء ثنائية الثقافة العربية التراثية والثقافة الغربية الأوربية من هوميروس إلى كافافيس ومن ابن حزم إلى داود الأنطاكي , وكذلك ثنائية الشاطىء والشاطىء الآخر .
والثنائية المشتركة بين عناصر الرواية هي ثنائية اختلاف ولقاء واتفاق , لا ثنائية صراع وصدام وخصام , والحركة تسير وسط هذه الثنائيات هادئة لينة رخيّة , من خروج حاتم من منزل الأب مطرودا مفارقا لأخيه , ليجري مع ديمتريوس وياسمين والسيدة اليونانية وليسير هؤلاء معه جميعاً في وفاق , ثم لينفضوا عنه , ويرجع ثانية إلى منزل الأب بدعوة من الأخ , وليس في هذه المسيرة صدام أو صراع أو خصام , إنما ثمة الوفاق والوئام .
وتبدو الحركة سائرة من اليمين حيث الأخ إلى الشمال حيث ديمتريوس اليوناني وأخته ياسمين والسيدة اليونانية , وفي هذا الاتجاه الذي هو نحو الغرب في الحقيقة يسير حاتم بصحبة ديمتريوس وأخته , ثم تنقلب الحركة في آخر الرواية , حيث يتخلى ديمتريوس والسيدة اليونانية عن حاتم بسفرهم إلى اليونان ويرجع حاتم وحده إلى منزل الأب بدعوة من أخيه فينقلب اتجاه الحركة ليصبح من الشمال إلى اليمين .
يقول حاتم في نهاية الرواية : "مسحت الميدان بعينين قلقتين ..مبنى الاتحاد القومي , وتمثال محمد علي, والكنيسة الإنجيلية وبقايا عصر إسماعيل في البنايات ذات الطراز الأوربي ..غالبت الحيرة والتردد , ثم لزمت الرصيف الأيمن , في طريقي إلي شارع الميدان " . ( ص 126 ).
وبمثل هذه الحركة داخل الرواية كانت الحركة تسير خارجها , إذ مال عبد الناصر إلى المعسكر الاشتراكي فاشترى منه السلاح وأخذ القرض لبناء السد العالي , وبعد العدوان الثلاثي علي مصر عاد فمال إلى الغرب الأمريكي .
وهنا تظهر ثنائية الذهاب والإياب, وثنائية الداخل والخارج, وثنائية اليمين والشمال , وهذا ما يؤكد طبيعة الثنائية التي تحكم بناء الرواية , وتمنحها التماسك والوحدة .
*
وتظل رواية " الشاطئ الآخر " لمحمد جبريل قابلة لقدر كبير من المقارنة والدرس والبحث ، وليس من الغريب تشبيهها بمروحة صينية صغيرة، مطوية في يد سيدة أنيقة ، تبدو المروحة في البدء صغيرة ناعمة ذات بعد واحد ، وهي مغلقة ، ولكن تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد وطبقات تمتد وتمتد لترسم ألواناً وصوراً كثيرة .

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:46 AM
رواية "النظر إلى أسفل" لمحمد جبريل

بقلم: أ.د. حامد أبو أحمد
........................


"النظر إلى أسفل "، ليس مجرد اسم لرواية بل هو هنا ملمح في شخصية، ومع ثبات الملمح يتجاوز هذا السلوك دوره كمجرد تعريف بالشخصية ليصبح رمزاً لمعنى متجدد في الواقع كما في الأدب وهذا ما يتطرق إليه هذا المقال.
هذه ثاني رواية يصدرها الكاتب الروائي محمد جبريل خلال عام 1991، حيث صدرت له رواية "قلعة الجبل" عن دار الهلال بالقاهرة في بداية العام المذكور. وبذلك تضاف هاتان الروايتان إلى أعماله الروائية الأخرى التي نشرت خلال عقد الثمانينيات ومن أهمها "إمام آخر الزمان" و "من أوراق أبي الطيب المتنبي" و "قاضي البهار ينزل البحر". ويحاول محمد جبريل في بعض رواياته أن يستلهم التراث، لكنه في بعضها الآخر يركز على الهموم الخاصة والعامة للإنسان المعاصر بكل ما تحمل من آمال وآلام وإحباطات.
وهذه الرواية الأخيرة محاولة للكشف عن مسيرة الإنسان في مصر في فترة زمنية تبدأ من قيام ثورة يوليو 1952 تقريبيا وتنتهي بمقتل الرئيس السابق أنور السادات. ومن ثم تبدو هذه الرواية وكأنها سيرة ذاتية لبطلها شاكر المغربي. ولذلك تمضي هذه السيرة الروائية في خطين متوازيين: أولهما خط أحداث الحياة العادية لشاكر المغربي، وهي شخصية مأزومة كما سوف نرى فيما بعد، وثانيهما خط التعليق على الأحداث الجارية من قيام ثورة يوليو إلى الوحدة مع سوريا إلى نكسة 1967، إلى حرب 1973.. إلخ، فضلاء عن التحولات والأحداث التي تمت على امتداد ثلاثين عاما من عمر الثورة المصرية. وهذا الخط الثاني يلتزم فيه الكاتب عادة بالوقائع التاريخية على نحو ما نقرأ- مثلا- عن المؤتمر الذي عقده الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر قبل حرب 1967، يقول شاكر المغربي (ص 72): "عقد عبد الناصر مؤتمرا قال فيه: لدينا أعظم قوة ضاربة في الشرق، وفي قدرتنا محاربة إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل. أعجبني رده على سؤال: صحتي جيدة، ولست "خرعا" كزعيمكم... ".
شاكر المغربي البطل المأزوم
هذه هي الشخصية المحورية في الرواية، وهي في الواقع الشخصية التي ركز عليها الكاتب تركيزا شديدا، حتى غدت كل الشخصيات الأخرى مجرد استكمال للأبعاد الدلالية لهذه الشخصية المحورية نفسها. فعماد عبدالحميد، وحسونه النقراشي، وعبدالباقي خليل، ومنصور السخيلي، وكلهم من أصدقاء شاكر المغربي، ماهم إلا شخصيات تدور في فلك الشخصية المحورية، حيث ترد للمناقشة أو للتعليق على الأحداث أو لتوضيح بعد من أبعاد شخصية شاكر المغربي، لكنها لا تدخل في بؤرة الصراع، ومن ثم فإنها تعد شخصيات هامشية. وينطبق هذا الكلام نفسه على الشخصيات النسائية. ولهذا سوف ينصب تحليلنا بالأساس على شخصية شاكر المغربي.
والحق أن محمد جبريل استطاع في هذه الرواية أن يبدع الشخصية المحورية التي تنطوي على الكثير من الأبعاد والدلالات، التي يمكن أن نوجز بعضها الآن في كلمات ثم نتوقف بعد ذلك عند عدد منها: فشاكر المغربي بطل مأزوم نفسيا وجنسيا، وهو شخص معزول ومحروم، وقد عانى من الفقر الشديد في بداية حياته ثم تحول إلى الثراء الفاحش، لكنه صعد ماليا ولم يصعد إنسانيا، وهذا بعد من أهم الأبعاد في شخصية شاكر المغربي لأنه ينطوي على مفارقة حادة، ثم إنه شخص منغمس في ذاته إلى أقصى حد، وفضلا عن ذلك فإن كل مواقفه تدل على السلبية واللامبالاة التي تميز بها قطاع عريض من المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة.
وتعود أزمة شاكر المغربي النفسية إلى نشأته في محيط أسري قلق ومتوتر وصل بأبويه إلى نهاية مأساوية يصفها لنا في بداية الرواية على النحو التالي: "غاب الاثنان عن حياتي في ظهر لا أنساه. كان الجو شديد الحرارة، وأمي تعتب على أبي أشياء لم أتبينها. علا صوتها فعلا صوته، وانهال عليها بفتاحة كتب في يده، حتى هدأت، وهدأ". وبالطبع كان مصير الوالد السجن، فعاش شاكر المغربي طفولته وحيدا ومعزولأ ليس له من الأقارب إلا خالته، التي رأت أن تنقله ليقيم مع أسرتها، لكنه قرر أن يظل بمفرده في شقة والديه في الإسكندرية.
ومن هذه اللحظة تبدأ حياة طفل يصارع أمواج الحياة العاتية بمفرده. ساعدته خالته ماليا حتى شب عن الطوق ثم قالت له: "لقد كبرت ياشاكر.. فحاول أن تعتمد على نفسك" (ص 7). فكان أول شيء فكر في بيعه هو مكتبة أبيه بعد أن كان قد قرأ معظم ما ضمته من كتب. ثم بدأت معرفته بصديقه عماد عبدالحميد الذي كان يأتي إليه من شقتهم في الطابق الأعلى بوجبة الغداء. وتمضي الحياة بشاكر المغربي حتى التحق بمعهد ليلي يطل على ميدان سانت كاترين، وفي الوقت نفسه أخذ يعمل في ثلاثة أماكن: مخازن البنداري في السكة الجديدة، المعلم سيد الزنكلوني تاجر المانيفاتورة، مركز الشباب بمدرسة ابراهيم الأول الثانوية (ص 12). وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه أ يكن شخصا خاملا، وأنه استطاع أن يتغلب على الكثير من الصعوبات والمعوقات حتى صار من كبار الأثرياء، لكنه بالرغم من كل ذلك ظل في أزمة نفسية أوصلته كذلك إلى أزمة جنسية جعلته يدمن الاستمناء. وهذا أيضا شيء مفارق ويتناقض مع شخصيته: ذلك لأنه لم يكن عاجزا عن إقامة أية علاقة مع المرأة، ونلحظ ذلك من سرعة تعرفه على سوزان النجار في المعهد الليلي، ثم علاقاته النسائية الكثيرة فيما بعد.
النظر إلى أسفل وعنصر المفارقة
في رأى أن هذا الجانب يعد من أكثر جوانب الرواية تعبيرا عما يريد الكاتب أن ينقله إلينا. فشاكر المغربي على الرغم من نشأته المعدمة يحلم بالثراء، ويجتهد من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وحين يتحقق له الثراء فعلا يظل ينظر إلى أسفل. وهذا النظر إلى أسفل (وهو عنوان الرواية) له مستويات متعددة منها المستوى الواقعي حيث تظل أفعاله وتصرفاته كما هي لم تتغير قيد أنملة: يندفع في الحوار والمناوشة مع زوجته نادية حمدي لأقل إثارة على النحو الذي كان يفعله أبوه مع أمه، يمارس عادته القبيحة "الاستمناء"، تظل علاقاته وصداقاته القديمة كما هي، على الرغم من أن تحولات الثروة تحدث في العادة تحولات في العلاقات البشرية، أما على المستوى الرمزي فإن شاكر المغربي يظل على عادته القديمة في النظر إلى قدمي المرأة وهي عادة تأصلت عنده لأسباب واقعية يذكرها على النحو التالي: "حرص أمي على نظافة قدمي. تطالبني- عقب كل مشوار- بضرورة غسلهما. أم جابر الغسالة، يلذ لها أن تداعب بطني وأنا نائم بقدمها. مدرسي في العطارين الإبتدائية كان يأمر التلاميذ أن يخلعوا أحذيتهم وجواربهم ويضعوا أقدامهم على الأدراج. وبقطعة خشب منتزعة من أرضية الحجرة ينهال على أقدامنا. يتعالى الصراخ والبكاء وعبارات الاسترحام. وكان شعوري يختلف تماما. الضرب على قدمي يؤلمني. مع ذلك يشوب الألم لذة، يرتجف لها جسدي وأحبسها" (ص 23). وعلى الرغم من هذا الأصل الواقعي هذه العادة إلا أنها ظلت تتنامى حتى أخذت في الرواية بعدا رمزيا له أيضا دلالاته النفسية المفارقة، كذلك فإن هذه اللذة التي كان يحس بها في طفولته عمد ضرب قدميه سوف تصبح واقعا نفسيا يعيشه باستمرار تجاه المرأة. من هنا تتلاقى الأبعاد الواقعية والرمزية والنفسية كي تشكل في النهاية مجموعة من الدلالات الغنية المليئة بالإيحاءات: فالنظر إلى أسفل هو رمز السقوط المتواصل، وهو رمز الإحباط النفسي على الرغم من النجاح المادي، وهذا الرمز يمكن أن ينتقل كذلك من الخاص إلى العام ليشكل رمزا لإحباط المسيرة بشكل عام منذ بداية الثورة في يوليه 1952 حتى الآن. ثم هناك في هذا الجانب ما يمكن أن نسميه بالأمثولة Alegoria وهو لجوء الكاتب إلى عنصر تمثيلي لإبراز فكرته: فالقدمان والنظر إليهما تمثيل واقعي لفكرة الهبوط أو النظر إلى أسفل بصورة مستمرة. والتوازي بين الشخصية والأحداث العامة يصنع أيضا توازيا على مستوى الدلالة: فلا يحدث للشخصية يتوازى مع ما يحدث في الحياة العامة. ومن ثم نقرأ في الرواية تعليقات محددة على أوضاع بعينها جرت خلال المرحلة التي تعلق عليها الرواية أولها امتدادات حالية. يقول شاكر المغربي عن طبيعة العمل في شركات القطاع العام: "شركة القطاع العام تتنازل عن عملياتها لشركات الأفراد، الهدايا والعمولات الشخصية تضاف إلى العمولات الرسمية التي تتقاضاها الشركة، متعهد الأنفار يأخذ الفارق دون عناء، واستخدام مقدم المقاولة في مشروعات أخرى، في مناطق غير التي تعاقدت على التنفيذ فيها" (ص 41).
مواجهة.. أم هروب دموي؟
وتصل درجة المفارقة إلى ذروتها في المشهد الأخير من الرواية وهو إقدام شاكر المغربي على قتل زوجته نادية حمدي في لحظة تشبه إلى حد كبير اللحظة التي قتل فيها أبوه أمه. وهي لحظة ذكرتني بمشاهد القتل المجانية التي نجدها في رواية "عائلة باسكوال دوارتي" للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا (نوبل في الآداب 1989) حيث كان يبدو القتل في كثير من الأحيان وكأنه غير مبرر أو كأنه نوع من التحقق الموضوعي للأزمات النفسية والإحباطات على مستوى الواقع. وهذا ما أميل إليه أكثر خاصة في هذا المشهد الأخير بين شاكر المغربي ونادية حمدي: فالحوار بينهما الذي أنتهى بقتل الأخيرة لم يزد على كلمات ندت عنها بدت فيها تعيره بعجزه الجنسي (بسبب عاداته التي لم يكف عنها حتى بعد الزواج) وقلة أصله فما كان منه إلا أن تناول المسدس وأطلق عليها رصاصة ثم أغمض عينيه وتنهد مرتاحا، ثم كانت نهايته في السجن مثل نهاية والده. إن هذا المشهد يذكرني أيضا بالتراجيديا اليونانية التي يكون فيها الموت قتلا بمثابة قدر محتوم يمتد من الآباء إلى الأبناء. وأرى أننا لكي نفهم هذا المشهد جيدا لابد أن نعود إلى السطور الأولى في الرواية؟ لأنها تقدم لنا المبرر الصريح لما حدث. تقول: "وقف كلانا في نقطة الصفر، وطرح القرار نفسه: أن يغيب أحدنا من مواجهة صاحبه.. لم تكن نادية حمدي ممن يتنحون عن الطريق بسهولة. البراءة الظاهرة تضمر عنادا، بوسعك أن تتعرف إليه إذا حدقت في وحشية عينيها. كان الجنون نهاية أتوقعها، وأخشاها، إذا لم تصل الأمور إلى ما انتهت إليه. لم أكن بلا أصل- الصفة التي أطلقتها نادية حمدي- فحدث ما حدث".
كان مقتل نادية حمدي إذن بسبب جملتين: جملة تعيره فيها بعجزه الجنسي، وجملة أخرى تعد. فيها بأصله. وكما هو واضح فإن الدلالات المبثوثة على امتداد الرواية تتركز وتتكثف في هذا المشهد وكلها تقوم على المفارقة الشديدة: فالمفروض أن شاكر المغربي الآن في حالة استقرار مادي يحسد عليه، الكن بداياته مازالت تطارده وأزماته النفسية والجنسية والحياة القاسية التي مرت به، كل هذه الأشياء تقف حجر عثرة أمام تحقيق سعادتها. إنه لم يصعد إلا في الجانب المادي فقط أما الجوانب الأخرى فقد ظلت على حالها بلى تحولت إلى أشباح تطارده وتقض مضجعه. وقد نجح محمد جبريل نجاحا كبيراً في تجسيد كل هذه الجوانب وقدم لنا نموذجا للشخصية المتأزمة المحبطة الناظرة دائما إلى أسفل على الرغم من مظهرها الخارجي الذي ينم عن العافية والثراء والفتوة. فهل يريد محمد جبريل أن يقول إن كل مظاهر الثراء غير العادي التي نشهدها الآن مجرد مظاهر خادعة لا تدل على تقدم ولا تصنع تقدما؟ ربما، فالرواية في الواقع تحتمل الكثير من القراءات والتأويلات.
شخصيات ودلالات فنية
وإذا كانت شخصية شاكر المغربي تمثل الشخصية المحورية- كما ذكرنا- فإن الشخصيات الأخرى بالرغم من هامشيتها تأخذ حيزا معقولا فنادية حمدي، على نحو ما رأينا، هي الشاهد الذي يذكره دائما بعجزه وتدنيه وإحباطه، وعماد عبدالحميد، وحسونة النقراشي، ومنصور السخيلي وآخرون يعيشون في عالمه، ويشاركونه أتراحه وأفراحه ويقدمون رؤاهم للأحداث المحيطة بهم جميعا. ولكني أرى أن شخصة عبدالباقي خليل هي أكثر هذه الشخصيات جميعا خصوصية وتميزاً فإذا كانت كل الشخصيات، بمن فيها شاكر المغربي، غارقة في همومها الخاصة، وبعضها، على نحو ما رأينا في الشخصية المحورية، يعاني من أمراض نفسية وجنسية، فإن عبدالباقي خليل هو الشخصية الوحيدة ذات الملامح الواضحة، التي تسعى إلى هدف واضح. فقد تعرف عليه شاكر المغربي في مسجد العطارين ووحد منه تشجيعا له على أداء الصلوات ومذاكرة آيات القرآن الكريم والأحاديث وتعاليم الدين. وهو- أي عبدالباقي- يرتدي جلابية بيضاء، ويغطي رأسه بطاقية، ويدس قدميه في بلغة. ويعجب بحسن البنا، والهضيبي، وعودة، وسيد سابق . . إلخ (ص 91). إنه نموذج للشخصية الأصولية التي عرفتها مصر والمنطقة العربية طوال العقدين الماضيين ومازالت أحلام أفرادهم وطموحاتهم تتجاوز الواقع الخاص وتنزع إلى إقامة الدولة الإسلامية على طول المناطق العربية والإسلامية. ويلاحظ كذلك أن هذه الشخصية، بالرغم من أهميتها، لا تدخل في حياة شاكر المغربي إلا بمقدار ما تكون توضيحا لجانب من جوانبه، وإلقاء للضوء على بعد من أبعاد شخصيته الغنية بالدلالات.
جوانب تقنية
إن محمد جبريل روائي متمرس، وهو يعلم أن الفن الروائي الآن لم يعد يعتمد على السرد الزمني المتلاحق للأحداث، بل يميل إلى ضرب من التعقيد والتشابك وتوظيف مجموعة من الوسائل التي تساعد في إبراز الحدث وتطويره بصورة تتواءم مع ما شهده هذا الفن من تطور منذ نهايات القرن التاسع عشر (في أوربا) حتى الآن. ومن ثم نجد محمد جبريل يلجأ إلى تقطيع الزمن وتفتيته ونقله نقلات سريعة. وليس أدل على ذلك مما ذكرناه من أنك لكي تفهم المشهد الأخير حق الفهم لابد أن تعود إلى قراءة الصفحة الأولى من الرواية. لقد لجأ الكاتب إلى بناء دائري، وربما زمن دائري للرواية، يبدأ من نقطة الذروة أو الخاتمة ثم يمضيى في خطين متعاكسين يعود كل منهما من جديد إلى النقطة الأولى.
كذلك فإن الكاتب استخدم تقنية الاسترجاع بشكل موسع، ووضعها في غالب الأحيان، في خط أكبر من الخط (أو البنط) الذي كتبت به الرواية. وإن كان هذا الجانب الشكلي لم يضبط بالصورة المطلوبة ومن ثم حدث فيه بعض الخلل.
ولعل أهم نجاح أصابه المؤلف في هذا الجانب هو أنه استطاع أن يحافظ على هذا الخط الشكلي في تقطيع الزمن ونقله نقلات سريعة والعودة مرة أخرى إلى الوراء على الرغم من أن الرواية تمضي أيضا في خط تاريخي، يبدأ- كما أسلفنا- من ثورة 23 يوليو وينتهي بموت الرئيس السادات. فهذا الخط التاريخي ربما كان يفرض على المؤلف أن يلتزم تسلسلا زمنيا صاعدا يبدأ من نقطة معينة وينتهي عند نقطة معينة، لكنه، والحق يقال، استطاع أن يتغلب على هذه المشكلة، وقدم رواية تتحدد نقاط السرد فيها بحدود وظيفية تتجاوز أهداف السرد التقليدي للأحداث.
وفي النهاية ينبغي أن نتوقف وقفة قصيرة عند لغة محمد جبريل التي لا تختلف كثيرا عما ألفناه في رواياته السابقة: فهي لغة موجزة، مكثفة، تحاول أن تصل إلى المعنى من أقرب الطرق، تتجنب التفاصيل والهوامش المخلة، توحي بأكثر مما تعين. وكان من نتيجة ذلك أننا لم نعثر على مشهد جنسي واحد يمكن أن يوصف بالإثارة أو المباشرة على الرغم من كثرة المشاهد الجنسية في الرواية. وكما أسلفنا فإن البطل مأزوم جنسيا، وربما يكون الجنس هو الدافع الأول في قتله لزوجته، لكن محمد جبريل عرف كيف يجعلنا نلمس الأثر ولا نلمس المؤثر. إنه يضع أيدينا بلغة مرهفة إيحائية على الآثار التي أحدثتها الأزمة الجنسية في شخصية البطل حتى جعلته ينظر إلى أسفل بصورة مستمرة. وربما يكون هذا الجانب أيضا من أهم الجوانب في عدم استمتاعه بحياته الثرية المترفة.
إن شخصية شاكر المغربي غنية بالإيحاءات والدلالات، وهي وإن كانت تعد تعبيراً عن أزمة خاصة فإنها كذلك تعبر عن الأزمة العامة التي تترصد المجتمع كله. ونحن نعتقد أن الكاتب مطالب الآن، أكثر من أي وقت مضى، بأن يتتبع مسار هذه الشخصية في حقبة الثمانينيات وحتى الآن، ومن المؤكد أنه سوف يقف عند أبعاد ودلالات أخرى كثيرة.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:47 AM
هذه اللحظات العادية

بقلم: محمد جبريل
ــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا كانت القصة القصيرة الجيدة -فى تقدير يحيى حقى- هى ذات البداية المحذوفة، فإن القصة القصيرة -فى تقدير تشيكوف- هى التى تحذف منها البداية والنهاية، فلا يبقى إلا الوسط، الذى ينبغى تركه باعتباره قصة قصيرة..
ولعل السمة الأهم فى هذه المجموعة القصصية -الثالثة- لوائل وجدى، هى الإيجاز والتكثيف، فصفحاتها تتراوح بين أقل من صفحة إلى ثلاث صفحات، وتبين عن العديد من الملامح والقسمات التى تشكل -فى مجموعها- عاملاً إبداعياً يشغله التخلّق فى صورته الصحيحة. الفنان يلتقط اللحظة العادية جداً، البسيطة جداً، يعبرها القارئ فلا تستوقفه. هى لحظات من حياتنا اليومية، لكنه يجيد التقاطها، فتصبح فى قلمه كالمقتطع فى ريشة الفنان التشكيلى، أو الزوم فى عدسة المصور الفوتوغرافى، يهب لنا كل ما تشتمل عليه من ملامح وتفصيلات دقيقة، فتسرى فيها حياة جديدة، متجددة.
صورة نراها، فنعبرها، لا تستوقفنا، ولا تثير فينا التأمل، لكنها تختلف -فى تناول الفنان- عن تلك الصورة التى اعتدناها فى حياتنا العادية. إنها ليست مجرد لحظة استاتيكية، لحظة متكررة، لكنها تختلف -من خلال التناول- عن بقية اللحظات فى حياة ضخصياتها، وفى حياتنا بعامة.
***
لعلى أوافق جوته على أن كل كاتب يصور بعضاً من سيرته الذاتية فى أعماله، حتى ولو لم يكن يقصد ذلك. وغالبية قصـص هـذه المجموعـة تبدو كأنها تجربة شخصية للفنان -وربما لا تكون كذلك- فهى تتناول تلك المرحلة من العمر التى تتحدد فيها النظرة إلى الأمور بين الطموح والتطلع والتجاوز، ثم يفرض الإحباط نفسه عندما يبين الواقع عن ملامحه القاسية. الظروف المادية والاجتماعية التى تئد ما تحمله النفس من آمال. عناء الوظيفة يبين عن نفسه فى بحث المحامى عن المحكمة التأديبية، ليفاجأ بعد دخوله أن موعد قضيته فى "الرول" المسائى. ويتجول المحامى/ الراوى حول المكان، ويمتد الوقت دون أن يحل موعد نظر القضية..
ولعلنا ننسب إلى حياة الوظيفة قصة "الدوائر المستحيلة".. الدوامات المتلاحقة، المتمثلة فى طلبات الزوجة والأولاد وأعباء الحياة، وقيود الوظيفة، دوائر مستحيلة لا تنتهى.
وثمة مشكلة البطالة التى تتناولها قصة "بصيص" من خلال معاناة شاب حديث التخرج، أعد مسوغات تعيينه، وحشر جسده فى زحام ركاب الأتوبيس، حتى وصل إلى موقع الشركة التى طلبت موظفين. وراعه مئات الشباب يقفون أمام الباب، وعلى السلم. ثم فاجأه قول الرجل: أخذنا طلبات كثيرة، تزيد على الثلاثمائة، سنختار منها أربعة فقط !.. وبعفوية أخرج مسوغات التعيين من الحقيبة ومزقها. ورغم النهاية الاحتجاجية للقصة، فإنه مما يحسب للكاتب أنه اكتفى بتصوير الفعل دون أن يقرنه بتعليق، أو بفرض صوت الكاتب.
***
وإذا كان الانشغال بقضايانا السياسية ملمح واضح فى إبداعات الشباب، فإن وائل وجدى يعبر عن هذا الانشغال فى مجموعته. قصة "تباشير" التى يهديها الفنان إلى الانتفاضة الفلسطينية، تبين عن وعى سياسى، يبشر بصرخة الوليد فى لحظة الشهادة، وأصابعه قابضة على الجمر، فالانتفاضة هى الرد على العدوان، والأمل، وصياغة المستقبل. والانتفاضة هى محور قصة "طفل". الطفل الذى ظل يضرب جنود الصهاينة بالحجارة، فلا يهدأ إلا بعد أن يسكن جسده بتأثير رصاصة قاتلة. الرصاصة مقابلاً لقطعة الحجر. وقصة "فداء" عن الفتاة الصغيرة التى أرادت أن تنتقم لاستشهاد أعزائها، فتعلمت فنون القتال حتى أتقنتها، ثم أقدمت على عملية انتحارية صدمت فيها بسيارة محملة بالمتفجرات سيارة عسكرية للعدو، وتناثرت أشلاء الجسد الصغير على أرض الوطن إعلاناً للثأر، وللشهادة.
والحق أن الوعى بالقضية الفلسطينية، بالصراع العربى الصهيونى، سمة تلف الكثير من إبداعات الشباب. وهى ظاهرة لافتة ومهمة، فالإبداع -فى المحصلة النهائية- تعبير عن بشر ومجتمع وقضية، ليس الإبداع تجديفاً فى المطلق، لكنه يلتحم ببيئته بصدق، بالقضايا التى تحاصره ويعانيها، ويعبر عن ذلك بالصدق نفسه، شريطة أن يدرك الفنان مقومات الإبداع الفنى إطلاقاً، وأن تكون الهموم التى يتناولها -على نحو أو آخر- هى هموم الإنسان فى كل مكان. وكما يقول تشومسكى فإن الأدب سيظل قادراً إلى النهاية على تقديم معطيات تهبنا -بعمق- ما نسميه الشخصية الإنسانية بكل تناقضاتها، ربما بصورة أفضل مما يسمح العلم المجرد بتقديمه..
***
الحلم بالمجاوزة، والتخلص من قسوة الواقع، وملامسة الدفء الإنسانى، أبعاد واضحة فى العديد من قصص المجموعة..
قصة "انفجار" تذكرنا بقصة نجيب محفوظ "المسطول والقنبلة" -الأمر نفسه طالعنا فى قصة لكاتب آخر سبق لى تقديمها فى هذه السلسلة-. الراوى الذى يستغرقه الإحساس بأنه قد ثأر لكرامته ممن يحاول أذيته. ثم يكتشف -عند الصحو- أن ما عاشه لم يكن سوى حلم، هو الحلم نفسه -وإن اختلفت الظروف- مع رجل نجيب محفوظ الذى فوجئ بأن الشرطة بدّلت معاملتها له. ثم افاق على صفعة تنبه بها إلى أن الأمر لم يكن سوى حلم يقظة، أو لحظات استغراق فى غيبوبة المخدرات..
أما قصة "الهدية" فتنبض بلحظات إنسانية، تبين فيها المشاعر عن الود والحميمية.
وأما "النجم المسافر" فهى مرثية سردية للشاعر عبد الله السيد شرف الذى كان وائل وجدى من أخلص تلاميذه وأصدقائه.. وهو ما ينبض به كذلك ما كتبه الفنان باسم "رحيل"..
ونحن نتعرف فى قصة "دبيب الروح مرة أخرى" إلى معاناة من نوع آخر: رحلة الأديب الشاب بين وسائل النشر المختلفة، بحثاً عن كوة ينفذ منها إبداعه. وحين يحاصره اليأس يطبع ما كتب على نفقته، ويجد العزاء فى تصرف طفولى، لكنه يدين المأساة التى تحياها أجيال المبدعين الشباب، وربما الكبار أيضاً، فهى أزمة يعانى تأثيراتها الجميع..
وقصة "لقاء" تدين بعض الكبار فى حياتنا الثقافية حين يكتفون بإبداء النصيحة دون أن يعنوا بالقراءة. يتحدثون عن خصائص فن القصة، وصعوبة كتابتها، دون أن تشى آراؤهم أنها صدرت عن قراءة متأملة، بل إن الأديب الكبير يقرر فى بساطة: لم أستطع أن أقرأ أعمالك القصصية !..
***
والحنين سمة واضحة فى العديد من قصص المجموعة، حنين إلى الزمان والمكان والطفولة ومواطن النشأة..
الطفولة فى "رائحة الأيام" استرجاعية، بمعنى أنها تعتمد على الحنين والتذكر. ترفض الظلال والمناطق الداكنة، وتحرص على ألوان الطيف. فى لحظات مكثفة كضربات الفرشاة، يصور الفنان الحنين إلى الموطن والطفولة والنشأة. يبحث عن الأمس، عن الزمان الذى مهما كان مراً -على حد تعبير يحيى حقى- فهو حلو. الخضرة المفروشة فى امتداد الأفق، والترعة، وجنى القطن، ولعب السيجا، والكوخ الصغير، والكوبرى الخشبى الواصل بين المركز والقرية.. ذلك كله تغيّر، أو تغيّر الإحساس به، غابت عنه بكارة -أو طزاجة- الزمن الجميل. ولعلنى أجد نهاية القصة فى قول الراوى:"أحرك رأسى يمنة ويسرة، لعلى أجد المفقود". السطر التالية زيادة لا مبرر لها..
وفى قصة "تحد" نتعرف إلى لاعب الكرة الذى يحن إلى اللعبة التى أجادها، وحقق فيها مكانته. فلما أصيب فى ساقيه اكتفى بالجلوس على الكرسى المتحرك، واستعادة الذكريات..
ويعلو إيقاع الحنين فى وقفة الراوى أمام مدرسته الابتدائية: البوابة الخضراء، والفناء الذى امتلأ بالبنايات الخرسانية، والنخلة السامقة، والبواب ذى البسمة الودود (قصة: ساعات).
أما قصة "النجم المسافر"، فيهديها الكاتب إلى روح الشاعر الراحل عبد الله السيد شرف. تحكى عن مراسلات الأيام الأخيرة بينه وبين عبد الله شرف. كان ينتظر آخر قصائده، لكن الجريدة طالعته بنبأ رحيله، وعاد من سرادق العزاء إلى بيته ليجد الرسالة التى ينتظرها وبها القصيدة. ولعل الكلمات المسماة "رحيل" تتمة رثائية لذلك الحدث، فهى أقرب إلى الرثاء السردى للشاعر الذى رحل..
***
أما الجزء الثالث من قصص هذه المجموعة، فهو ومضات فلاشية، أو تبقيعات نثرية، كما فى لوحات الفن التشكيلى، أو مد الموج، كما اخترت التسمية عنواناً لرواية لى..
ثمة -على سبيل المثال- لحظات الطفولة. لا يحول المدى دون رؤية العصافير فوق الجميزة الهائلة، لا ينشغل الولد بالطين الذى يغرق ثيابه فى نزوله إلى الترعة بحثاً عن السمكة. وثمة لحظات الخطر التى تتخلق فيها اللحظات الإيمانية التى تحمل الخلاص لكل ما قد يواجهه المرء من أخطار. بضعة أسطر تومئ، وتثير التأمل. ربما يكتفى القارئ بالدفقة الشعورية التى لا تهب معنى محدداً، وربما أجهده البحث عن دلالة، مع ملاحظة أن البحث عن تفسير للعمل الإبداعى يختلف عن البحث عن دلالة. الفن إضمار، لكنه أبعد ما يكون عن المعادلات التى تطلب تفسيراً رياضياً يغيب فى أفقه إضمار الفن، ودلالاته بالتالى..
***
اللافت أن الفنان قد أفاد فى قصصه من الوسائط الأدبية المختلفة، مثل التداعى والاسترجاع والتقطيع والكولاج والمونولوج إلخ..
قصة "رؤى" تثير قضية الفرق بين الإضمار الذى ينبغى أن يكون سمة للفن وبين الغموض الذى ربما حوّل العمل الفنى إلى لغز، معادلة تطلب الحل: ما يفكر فيها الرجل، تعمر بها البلد. وهو يسأل زوجه: ألم تشاهدينها ؟.. تجيب بالسؤال: أمازلت تذكرها ؟.. ويصحو من نوم القيلولة على جلبة، ويطل من خصاص النافذة. يرى الناس يشاهدونها، والجنود يمنعونهم من الاقتراب منها. وينهى الفنان قصته فى الصبح حين يمد الرجل رأسه، يرقبها -ما هى ؟!- فيراها تتسع وتتسع. وأكرر السؤال: ما هى؟.. وأكرر طرح قضية الإضمار فى العمل الفنى. إن المواربة هى الفن. ينبغى ألا يتسلم القارئ بضاعته جاهزة تماماً، إنما عليه أن يشارك فى تصور ماذا ستكون عليه النهاية. كذلك فإنه لابد من هامش يفصل بين الحقيقة والرمز. الوضوح الحاسم يسم العمل الفنى بالتقريرية والمباشرة. الفن ليس هو الواقع، لكنه الإيهام بالواقع. إذا وضع الفنان قارئه فى اعتباره مطلقاً، واجتهد فى التفسير والشرح، فهو يلغى ذكاءه. قيل إن الرمز هو "كل ما يحل محل شئ آخر فى الدلالة عليه، لا بطريق المطابقة التامة، وإنمابالإيحاء، أو بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها". والرمز يستمد قيمته أو معناه من الناس الذين يستخدمونه، أى أن المجتمع هو الذى يضفى على الرمز معناه. بل إن الرمز يختلف عن التجريد فى أنه يحتفظ للإنسان بإنسانيته. يظل جسداً من لحم ودم وأعصاب، فضلاً عما يمور داخل ذلك الجسد من مشاعر متباينة وذكريات وتطلعات وأمانى وأحلام، وإن كان من البدهى ألا نذهب بعيداً فى الرمز. فالرمز -كما يقول كاتب ياسين بحق- سريع العطب، ويجب ألا نجعله حقيقة نهائية مطلقة، لأنه عند ذلك ينتفى وجود الرمز..
وكنت أرجو أن يحذف وائل وجدى السطر الأخير فى قصته "تحد" فهو أقرب إلى سيناريو فيلم عربى تغلف بالميلودرامية. أذكرك بما نقلته عن حقى وتشيكوف فى بداية هذه الكلمات. التراث القصصى العربى -والعالمى- يفرض على الكاتب أن يحترم ذكاء المتلقى، فلا يضيف من عندياته ما يتصور أنه يضع نهاية -مطلوبة- للعمل الإبداعى.
ومن الواضح أن وائل وجدى يعى خصائص القصة القصيرة جيداً. غنها تقدم مشهداً، أو موقفاً إنسانياً، ينقل من خلاله فكرة أو عاطفة مكثفة، تحتل حيزاً ضيقاً، وتستغرق فترة زمنية محدودة. وإذا كان من المطلوب للروائى أن يحذف الحشو والاستطراد والإطناب، فإنه يجب على كاتب القصة أن يفعل ذلك. القصة الجيدة هى التى إذا حذفت كلمة منها، فإن موضعها فى الجملة يظل شاغراً أمام المتلقى، فضلاً عن أنه من التخلف المطلق -والكلام لبريخت- "أن يزعم احد أنه ليس هناك أهمية للشكل، أو لتطور الشكل فى مجال الفن. فبغير إدخال تجديدات شكلية لا يمكن للأدب أن يقدم موضوعات جديدة، أو وجهة نظر جديدة إلى الفئات الجديدة من الجمهور. لكن الإسراف فى الاجتهاد ربما يعطى نتائج مغايرة. وقد أسرف الفنان -أحياناً- فى صياغة عباراته الحوارية، فتكلف، وتبدت الصنعة بما لا يحتمله حوار فنى. كما وضع الكاتب على ألسنة الشخصيات -أحياناً- ما لا يتصور أنه يصدر عنها، فى مرحلتها السنية، أو فى مستواها الثقافى أو الاجتماعى. إن الحوار المحمل بالصدق الفنى هو الذى يتكلم بالأصوات الداخلية للشخصيات، وليس بصوت الفنان. وهو -فى كل الأحوال صوت واحد، يعبّر عن ثقافة محددة، ومزاج نفسى خاص. وإذا كان السرد هو التعبير عن الراوى العليم، أو الراوى الشخصية، فإن الحوار هو التعبير عن اختلاف بيئات الشخصيات وثقافتها ونزعاتها..
حين نهتم بالكتابة، فلابد من وجود شئ ما نكتبه، فضلاً عن ضرورة أن نمتلك حصيلة لغوية تعيننا على التعبير. وكما يقول ميشيل بوتور فإن "الذى يحسن فن الكتابة هو من يحسن استخدام لغته، فيعطى للكلمات قيمتها الحقيقة، وهو الذى يمتلك ناصية اللغة، فيحيى بأفكاره كل كلمة من كلماته، وكل مجموعة من عباراته" (ت:فريد أنطونيوس). وعلى الرغم من المحاولة المخلصة للفنان فى أن يهب قصصه عفوية فى السرد، فإن تلك العفوية تصطدم -فى بعض المواقف- بما يشبه عازلاً غير مرئى، يفصل بينها وبين التلقى والاستجابة وتوقد الحميمية، ربما لأن الفنان يعى مقولته جيداً، يعى البداية والنهاية والتكنيك والألوان والظلال والإيماءات والمعانى. بدا -أحياناً- كمن يقبض على عنق قصته، لا يتيح له أن تغنى بصوتها. وكلما كان العمل الفنى صوت نفسه، انبثاقاً من داخله وليس وليداً قسرياً بيد كاتبه، كان أقرب إلى العفوية، والوصول -بالعفوية نفسها- إلى وجدان المتلقى. أظلم وائل وجدى لو قلت إن هذه الملاحظة تشمل قصص المجموعة، لكنها تطالعنا فى العديد من الفقرات. ولعلى أصارحك بأنى أفضل أن تبين القصة عن ذاتها فى أثناء عملية الكتابة، تتشكل ملامحها وقسماتها، وآراء شخصياتها، وموقفهم من الحياة. أما الشكل فهو يصدر عن التجربة نفسها. وكما يقول مادوكس، فإن الشكل لا يجسد التجربة، ويضفى عليها الطابع الموضوعى فحسب، بل يقوم أيضاً بوظيفة أخرى أكثر أهمية، وهى وظيفة تقييم التجربة التى يعرض لها الكاتب تقييماً صحيحاً، وإسباغ مستويات من المعنى عليها (ت:لطيفة الزيات). ومن هنا يأتى معنى القول إن المضمون والشكل أشبه بالخيط والإبرة!
***
هذه الملاحظات القليلة لا تقلل من تقديرى لهذه المجموعة. وفى الوقت نفسه، فإنه إذا كان الفهم والتفهم ومحاولة التجاوز سهلاً فى البداية، فإن "التقويم" -فى مراحل تالية- قد يكرر مأساة الشجرة التى حاول صاحبها أن يقومها، بعد ان فقدت ليونة التنشئة، ورسخت جذورها.
" محمد جبريل "

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:48 AM
عنترة.. حكاية قديمة!

قصة للأطفال، بقلم: محمد جبريل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ

ارتدى الراوى الشعبى ثيابه ، وتهيأ للانصراف إلى المقهى .
قرر أن يحور فى سيرة عنترة ، ليجتذب انتباه رواد المقهى . لاحظ ـ فى الليلة الأخيرة ـ أن الرواد انشغلوا عنه بلعب الطاولة ، وشرب الشاى ، والمناقشات ، وتبادل الدعابات .
أدرك أنه لابد أن يضيف ويحذف إلى الحكاية التى يكررها منذ سنوات طويلة ، فلم تعد تجتذب انتباه أحد .
وهو يمد يده ليأخذ الربابة ، لحقه صوت من خارج النافذة المغلقة :
ـ أرجو أن تحسن رواية سيرتى .
أتجه الراوى بنظرة دهشة ناحية النافذة :
ـ من أنت ؟
ـ أنا عنترة .. بطل السيرة التى ترويها منذ سنوات طويلة .
تمالك الراوى نفسه ، وقال :
ـ ماذا تريد ؟
ـ أريد أن تروى حكايتى كما هى .. كما يحكيها الرواة منذ مئات السنين .
قال الراوى :
ـ لكن الدنيا تغيرت ، وما كان يتقبله الناس فى الماضى يصعب تصديقه الآن !
أضاف فى لهجة تأكيد :
ـ هذه حكاية تروى للناس . كل حكاية تحتاج إلى الإضافة والحذف ، حتى تناسب الوقت الذى تقال فيه . حتى الرواة القدامى أطالوا فى عمر عنترة ، ونسبوا إليه ما لم يحدث فى التاريخ .. لكن ذلك ما كان يحتاج الناس إلى سماعه حينذاك .
قال عنترة :
ـ إذن دعنى أختفى من ذاكرتك . سأتردد بنفسى على الأسواق والمقاهى ، أروى قصتى الحقيقية : معاركى ، وبطولاتى ، وحبى لابنة عمى عبلة .
قبل أن يرد الراوى على عنترة ، فوجئ أنه قد اختفى من ذاكرته بالفعل . لم يعد يتذكر من كان يخاطبه ، ولا السيرة التى كان يعد نفسه للخروج إلى المقهى كى يرويها .
ظهر عنترة فى هيئة فارس . حمل سيفه ، وامتطى جواده المسمى الأبجر ، واتجه ـ عبر الصحراء ـ إلى مدن قريبة ، وبعيدة ، ليروى حكاياته .
فى طريقه ، التقى عنترة برجل يحمل عصا ، فى نهايتها ماسورة من الحديد .
صوب الرجل عصاته ـ من بعيد ـ نحو أرنب برى ، فسقط الأرنب .
اقترب عنترة من الرجل . أبدى دهشته لسقوط الأرنب البرى دون أن تصيبه عصا الرجل.
قال الرجل :
ـ أنا صياد ، وهذه ليست مجرد عصا . إنها بندقية .
ـ ما هى البندقية ؟
ـ ألا تعرف البندقية ؟
وزوى ما بين حاجبيه متسائلاً :
ـ من أين أنت ؟
ـ أنا فارس الصحراء عنترة .
وأشار إلى جواده :
ـ هذا جوادى الأبجر الذى لا يخذلنى فى كل معاركى ..
ثم رفع سيفه :
ـ وهذا سيفى الذى أطرت به رءوس الأعداء .
أظهر الصياد دهشته :
ـ أنت إذن لم تسمع عن البندقية ، ولا عن الدبابة والصاروخ والطائرة . جعلت كل تلك المخترعات موضع الجواد فى النقل ، وفى السباق ، وجعلت السيف للزينة ، أو للعرض فى المتاحف!
صوب الصياد بندقيته إلى أرنب برى آخر ، فسقط ..
قال الصياد لعنترة :
ـ هل تشاركنى طعامى ؟
***
عاد عنترة من الصحراء . وقف فى هيئة التواضع أمام الراوى الشعبى ، وقال :
ـ لقد أعدت نفسى إلى ذاكرتك ، تستطيع أن تروى حكاياتى للناس بتعديلات بسيطة ، أو أن تروى لهم السيرة باعتبارها من سير التراث القديم .http://www.aresalah.com/vb/templates/mxSilver/images/lang_english/icon_profile.gif (http://www.aresalah.com/vb/profile.php?mode=viewprofile&u=24) http://www.aresalah.com/vb/templates/mxSilver/images/lang_english/icon_pm.gif (http://www.aresalah.com/vb/privmsg.php?mode=post&u=24) http://www.aresalah.com/vb/templates/mxSilver/images/lang_english/icon_email.gif (http://www.aresalah.com/vb/profile.php?mode=email&u=24)

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:54 AM
اليهود بين الأنفوشي والجماليَّة
في قصص محمد جبريل

بقلم : أحمد فضل شبلول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يدعونا محمد جبريل في مجموعته القصصية "حارة اليهود" الصادرة عن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة في سبتمبر 1999، إلى التسلح بالوعي واليقظة والحذر، وإلى المقاومة وعدم الاستسلام، فاليهود يتربصون بنا، يتسللون من بين سكوتنا وخلافاتنا، ينتظرون اللحظة الحاسمة للانقضاض على الوطن والتهامه.
وفي سبيل ذلك يتوسل الكاتب بوسائل فنية عدة، من أهمها استخدام الرمز الشفيف، مثل السمانة في قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي". وهذه القصة على الرغم من قصرها فإنها تحمل معظم خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل، والتي من أهمها: 1 ـ الجملة التلغرافية أو الجملة القصيرة السريعة الموحية. 2 ـ الوصف، وخاصة وصف البيئة السكندرية، واستخدام مفرداتها الحياتية، ومفردات الطبيعة فيها. 3 ـ التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي. 4 ـ توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة.
ولنتأمل هاتين الجملتين على سبيل المثال: الصاري المرتفع الخالي من العلم، اكتفت (مجموعات السمان) بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها.
إن الصاري الخالي من العلم يدل دلالة أكيدة على ضياع الهوية. لقد وجدت السمانة أناسا بلا هوية، وبلا زمان محدد أيضا، فوجود العلم فوق سراي رأس التين، ربما كان يسهم في تحديد الفترة الزمنية، وهل هي قبل قيام ثورة 1952 حيث العلم المصري الأخضر يتوسطه الهلال الأبيض أيام الملكية، أم بعد قيام الثورة حيث تغير شكل العلم إلى ثلاثة ألوان: الأحمر والأبيض والأسود.
ويبدو أن الزمن لا يشكل أهمية كبرى بالنسبة للسمانة التي جاءت تستطلع المكان، ونفوس البشر، وتختبر عنصر المقاومة لديهم. وقد وجدت السمانة الفرصة مهيأة تماما لاستيطان قومها هذا المكان. فالمباني تآكلت ـ أي لم يعد لديها القدرة على المقاومة، إنها ستنهار مع أول صرخة ريح. والقوارب الصغيرة تناثرت فوق الرمال، دلالة إما على تعطل أصحابها عن العمل، أو انتهائهم من عملهم وانصرافهم إلى لهوهم ومتعهم. والوقت خريف حيث يخلو الشاطئ أو طريق الكورنيش ـ عادة ـ من المارة بعد انقضاء فصل الصيف وعودة المصطافين ـ والمستفيدين من وجودهم ـ إلى سابق أعمالهم، وتصبح المدينة خالية إلا من أهلها.
إن المكان السكندري، وهو رمز للمكان المصري بعامة ـ له وجوده الحي الملائم لهذه السمانة الرمز أيضا. فمحمد جبريل يحمل في وعيه هذا المكان ليس باعتباره الإسكندرية التي يحبها ويوظفها في معظم أعماله الإبداعية، ولكن يوظف المكان ـ الرمز ـ هنا باعتباره المكان الذي دلف منه الرومان إلى مصر بعد انتصار أوكتافيوس أغسطس على أنطونيوس وكليوباترا في موقعة أكتيوم البحرية سنة 31 ق.م، فكان احتلال الإسكندرية ثم مصر عام 30 ق.م، وهو المكان الذي دخل منه الفرنسيون في حملتهم على مصر في أول يوليه عام 1798، وهو أيضا المكان الذي دخل منه الإنجليز عام 1882.
لم يغب هذا التاريخ عن وعي السمانة، ولا عن وعي الكاتب التاريخي، لذا اختاره ليكون موقع الهجوم القادم لأسراب السمان التي جاءت من أوربا ـ مثلها مثل الغزاة السابقين ـ والتي غطت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت، والشقق والدكاكين، حتى الكبائن المغلقة.
إن هذا الهجوم والاستيطان سيكون نقطة انطلاق الكاتب إلى قصة أخرى هي "حارة اليهود" التي حملت المجموعة اسمها، حيث نجمة داود المتداخلة في الأبواب والشرفات، مما يدل على دقة التنظيم والانتشار والنظام وحب العمل والكسب التي أشار إليها المؤلف في القصة الأولى. وكأن القصة الثانية التي دارت أحداثها في القاهرة، تأتي مكملة للقصة الأولى، وكأن محمد جعلص بطل القصة الثانية "حارة اليهود" يحقق رغبات الناس ـ في القصة الأولى ـ الذين تبين لهم أن السكوت عن المقاومة طريق إلى الجنون، فمحمد جعلص اكتوى بنار القروض والشيكات المؤجلة وبضائع الأمانة التي أغرقه فيها اليهود، ثم فجأة هطلوا عليه كالسيل دفعة واحدة يطالبون بأموالهم، فأفلسوه في يوم وليلة. لقد انتهز محمد جعلص فرصة ضرب أطفال اليهود لعلي الصغير، وطاح ـ هو ومن معه ـ في سكان حارة اليهود بالشوم والعصي والنبابيت والسكاكين والخناجر. ويأتي سؤال عبد العظيم هريدي في هذه القصة ذا مغزى ودلالة عميقة. فعندما يقول محمد جعلص بعد انتهاء المعركة: "علقة .. لن يعودوا بعدها إلى أذية الناس". يعلق هريدي بقوله: "هل تظن ذلك ؟". إن هذا التعليق أو التساؤل لم يزل في حاجة إلى إجابة، مثله في ذلك التساؤل الذي ورد في القصة الأولى: هل يعد السمان نفسه لإقامة طويلة؟. وهنا تبرز خصيصة من خصائص فن القصة القصيرة عند محمد جبريل تتمثل ـ كما سبق القول ـ في: التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة لمن أراد التأمل في واقعنا العربي.
ولعل المدقق في القصتين سيجد موقفا غريبا، أشرنا إليه إشارة سريعة في السطور السابقة، ولكن تؤكده قصة "حارة اليهود" تأكيدا باهرا وهو موقف رجال الشرطة من الأحداث. فمن خلال محتوى رمزي يشير المؤلف في القصة الأولى إلى أن أسراب السمان المهاجرة إلى الإسكندرية اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها. ولم يشر المؤلف إلى أنه كانت هناك مقاومة من أي نوع، من جانب مأمور النقطة أو معاونيه، بل أنها أفرزت ـ من بين أسرابها ـ كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين وموظفين. وبالتأكيد كل هذا كان يتم تحت أعين رجال الشرطة في المنطقة. أما في القصة الثانية وبعد نجاح أسراب السمان في بناء حياتهم، وانتقال أحداث القص إلى القاهرة، فإن مأمور قسم الجمالية ـ صبحي أفندي منصور ـ لا يستطيع أن يفعل شيئا تجاههم، بل أنه أسرَّ إلى جعلص بأنهم يلقون عليه الوسخ من النوافذ وهو في بدلته الميري. ولنقتطع جزءا من الحوار الذي دار بين محمد جعلص والمأمور عندما ذهب جعلص يشكو للرجل ما حدث بين صغار اليهود وابنه علي:
(أذهله صبحي أفندي منصور، مأمور قسم الجمالية، عندما كلمه فيما حدث. أشار الرجل إلى كتفه، وقال في أسى واضح:
ـ ماذا تقول في إلقائهم الوسخ من نافذة، على مأمور القسم؟
غالب الدهشة: ـ كيف ؟
قال المأمور: كنت أختصر الطريق من الموسكي إلى القسم ..
(جعلص) في عدم تصديق: ربما لم يعرفوا من أنت؟
قال المأمور: والبدلة الميري ؟
ـ لعل الوسخ ألقي عفوا أو خطأ ؟
ـ والضحكات التالية لما حدث من المطلين في النوافذ والجالسين أمام الدكاكين ؟
(جعلص) وهو يضرب جبهته بقبضة يده: هذه مصيبة !
دلك المأمور بإصبعيه تحت أنفه: تكررت المصائب كثيرا في الفترة الأخيرة.
ـ هل تأذن لي في التصرف؟
قال الرجل وهو يعاني: أنا موظف رسمي .. أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات .. أما أنت .. وعلا صوته: تصرف يا جعلص.
ترى لو تنبه رجال نقطة الأنفوشي إلى وجود السمانة الأولى، وإلى خلو الصاري المرتفع بسراي رأس التين من العلم، هل كان الأمر يصل في الجمالية إلى ما وصل إليه، وأوردناه منذ قليل.
إن فشل مقاومة الحملة الفرنسية في الإسكندرية، أدى إلى دخول نابليون الأزهر بخيوله، وفشل مقاومة الإنجليز في الإسكندرية، أدى إلى احتلال البلاد لمدة 72 عاما. وعدم طرد أول سمانة ألقت نظرتها المتأملة على مباني سراي رأس التين، شر طردة، أدى إلى إفلاس محمد جعلص (رمز المواطنين) ، وإهانة صبحي أفندي منصور مأمور قسم الجمالية (رمز السلطة المصرية) على هذا النحو الذي صوره محمد جبريل ببراعة في قصة "حارة اليهود".
وربما يعود السبب في عدم طرد أول سمانة ظهرت في الآفاق وحطت على الصاري المرتفع، إلى ما عرف علميا عن السمان، فهو ـ حسبما جاء بموسوعة الحيوان الإلكترونية / قسم الطيور ـ طائر نادرا ما يراه الناس، وتشبه الأنثى الذكر في الحجم، ويفضل عند الفرار أن يجري وسط المزارع أكثر من الطيران، ويطير لمسافات طويلة جدا أثناء الهجرة، ويعيش في أوربا وآسيا، ويهاجر شتاءً إلى منطقة البحر المتوسط وأفريقيا، ويوجد غالبا في المناطق العشبية والحقول.
هنا تبرز خصيصة أخرى من خصائص فن القص عند محمد جبريل، سبق أن ألمحنا إليها، وهي: توظيف المعرفة العلمية توظيفا مناسبا لمحتوى القصة. ومن خلال المعلومات العلمية السابقة عن طائر السمان، نجد أن جبريل يبدأ قصته "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" بقوله: "بعد أن استقرت السمانة فوق الصاري"، وهنا يتحدث عن طائر السمان بأسلوب المؤنث، حيث لا يوجد فرق كبير بين الأنثى والذكر، وخاصة في الحجم، ولأن الصاري مرتفع فلم يبن على وجه اليقين أهو ذكر أم أنثى، وهو من خلال هذا العلو الشاهق لم يتبين منطقة الحنجرة التي تكون في الأنثى وردية اللون، ولعل استخدام الأنثى كمستطلعة في بداية القصة ثم مرشدة، يشير إلى أسلوب من أشهر أساليب اليهود في استخدام أو استعمال الأنثى أو المرأة في تعاملاتهم الحياتية (ومنها الدعارة على سبيل المثال). ثم إن هذه السمانة ألقت نظرة على الحديقة الواسعة برأس التين، وهو ما يتفق علميا مع أماكن وجود السمان في المناطق العشبية والحقول. ثم تفضيله لمنطقة البحر المتوسط في الشتاء، وها نحن الآن ـ أي في زمن القصة ـ في فصل الخريف، والشتاء على الأبواب.
لقد نجح محمد جبريل في هاتين القصتين في تضفير الواقعي بالرمزي، وفي الانطلاق من الرمزي إلى الواقعي، أو العكس، وهو كذلك في معظم أعماله الإبداعية بحيث يكسب القصة العربية القصيرة طعما مميزا، ووعيا متجذرا بالذات والموضوع. فتتحول الذات المنفعلة (محمد جعلص على سبيل المثال) إلى موضوع يكسبه دلالة واقعية وتاريخية على مر العصور.
أحمد فضل شبلول
الإسكندرية 15/6/2000م

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:57 AM
رسام الضوء

شعر: د.حسن فتح الباب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(إلى الصديق الكاتب الروائي الكبير محمد جبريل)

هذا الملاح الجواب الآفاق
لا يرسو فى مرفأ
ليس يقر على جبل
أو يسبح فى فلك واحد
يمضى العمر جموحا
كجواد أسطورى
أو طير مبهور بالضوء
فوق ضفاف الكلمة
الحرف لديه ينبوع لا ينضب
نغم من يتوهج
قلب يتهدج
يبحث عن سر مكنون
فى أعماق الكون.. النفس
الزمن الدوار
مسكونا بالحب الأول
عشق الأم
أول ما فتح العينين عليها
أم الدنيا
هى عالمه المفعم بالعشق وبالثورة
بالبهجة والحزن
بالحلم وبالمأساة
يكونها وتكونه
يتكتم حينا أوجاع القلب
وحينا ينثرها
فوق الأمكنة.. الأزمنة
يوزعها بين الأوجه والأسماء
أتراه لا يدرى
منذ تلظى بلهيب الوجد
أن الإمساك بغصن الوطن متاهة
ضرب فى المجهول ؟
أم يدرى أن الغصن شعاع
مخبوء فى ظلمات الأرض..
البحر.. الآفاق
وعليه أن يطلعه
لتكون الشمس.. تكون الشجرة
(من أوراق المتنبى)
و(رباعية بحرى)
حدث فى (أيام الأنفوشى)
حيث السمان يعشش سربا سربا
كالغربان السوداء
وملايين الأعين والأنفاس تراقبه
يحتل الدور ويغشى الشرفات
وعلى حين فجاءة
ينبثق الوعى الغائب:
أن الصمت عن الطير الواغل
يحفر درب الموت
ومقاومة الشبح الجاثم فوق الأنفاس
خير طريق للإنسان الصاعد
فى معراج الغد
أن يهوذا الأفاق
يتربص بالآتين
من أطفال النيل
من أبناء العرب الأحرار
أن الصمت عن الوحش الشبح جنون
ينسج جبريل (الطوفان)
بأنامل فنان ورعه
تلمس أعماق الجرح
عبر حكايات الأجداد
لتنير دروب العتمة
و(نبوءة عراف مجهول)
يرويها قصاص ملهم
(محفوظ) الستينيات
أو (ماركيز)
فى مصر المحروسة
قيثارة شعر من منثور الروح
يعزفها فتنة
ترياقا.. بوحا مشروعا
يعلن عن حاجته
أن يولد بين يديه
وأمام العينين
كى نتأمل.. بنصر ما يخفى
مرحى يا رسام الضوء
حرفك لون الفرحة
طعم الأيام الجهمه
والسنوات الخضر
شرف الإنسان المسكون
بالحب وبالثورة.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:58 AM
عن عالم محمد جبريل الروائي
قراءة في رواية "حكايات الفصول الأربعة"

بقلم: إدوار الخراط
ــــــــــــــــــــــــــ

من العلامات الفارقة للكاتب الحقيقى الموهوب أن يكون له عالمه الخاص، أن تكون له رؤاه المتفردة لهذا العالم.
محمد جبريل كاتب حقيقى موهوب.
عالمه يقع فى اسكندرية الشمال الغربى، اسكندرية بحرى والأنفوشى والسيالة وراس التين وحلقة السمك، اسكندرية الصيادين والمراكبية، ليسوا فقط صيادى السمك، أو مراكبية البحر، هم أيضاً وربما أساساً صيادوا الأقدار المتقلبة، مراكبية الرحلات المضطربة، ساجية أو جياشة، عبر شواطئ العمر وعبر سنوات الغربة والحنين.
نصوصه دائما نقلة متصلة إلى "الشاطئ الآخر" (وذلك عنوان إحدى روياته الجميلة). لكن الشاطئ الآخر -كما أصبحنا نتوقع- ليس "جغرافياً" فحسب، هو شاطئ روحى آخر، أو شاطئ رؤى أخرى، تصل إليه -أو لا تصل- مراكب الحياة على المدّ والجزر، على القربى العائلية أو قربى المشارب والمنازع والأهواء، وتخوض إليه غمرات الخصومات والخلافات، أو تطفو على مويجات التراحم والحب المترقرقة.
ومن ثم فإن التيمات -أو الموضوعات الأساسية فى عمله الروائى- تيمة الموت مرتبطا بالشغف بالحياة، وموصولا بمتعاتها، ترقب الموت، وترصده، أو اللامبالاة بانقضاضه، تيمة تسرى فى سردية محمد جبريل، أو تستبطن هذه السردية، سافرة حينا ومضمرة حينا، ولكنها ماثلة باستمرار، تستدعى تيمة لصيقة بها، بل تكاد تكون مترادفة معها، هى تيمة الشيخوخة والوهن وتقاعس البدن المتهاوى الذى تحركه شهوات قديمة مؤرقة.
يقول بطل "حكايات الفصول الأربعة" بعد أن كتم ضحكة قصيرة: أشعر أنى شاب لكن حركة جسدى لا تساعدنى على هذا الشعور.
لعل موضوعة الشيخوخة، الموت التدريجى للقدرات نتيجة صراع الجسد ضد الموت الذى يؤذيه بالمجئ، مما يشغل الكاتب فى مجمل عمله الروائى وخاصة فى هذه الرواية، لعل فى عنوانها وحده "حكايات الفصول الأربعة" ما يشير إلى هذه الموضوعة، ليست تلك فقط فصول السنة الأربعة، بل هى أساسا فصول العمر الأربعة. ليست فقط فصولا تمر بها سنوات بطل أو شخص واحد فى غمار الرواية، بل هى أيضاً موزعة على شخوص الرواية بحذق وذكاء سردى ملحوظ، من ربيع الصبا، وعنفوان صيف العمر، إلى خريف التهاوى والإيذان بالسقوط، ومنه إلى الشتاء الموحش القاحل.
تقلبات هذه الفصول تدور فى اسكندرية محمد جبريل النصية التى تخايل بواقعية تكاد تشفى على الطبوغرافية الدقيقة، لكنها تجيش بحياة تتجاوز مجرد محاكاة الواقع الظاهرى، ذلك أن للكاتب ولعا مشبوبا بالأماكن، وأوصافها، وتحديدها، وابتعاث أجوائها: القهوة التجارية، قهوة فرنسا، مقهى ايليت أو التريانون، اتينيوس، فضلا عن معالم اسكندرية الشمال الغربى، وهو ولع يضفى على هذه الأماكن حياة كأنها مستمدة من حياة أبطال أو شخوص العمل الروائى - ولعلها من وهج الكاتب الروحية نفسها، وليس ذلك بالغريب عند معظم الروائيين الحقيقيين إذ تتناوب عندهم وتكاد تندمج أماكن الروح بأماكن الواقع، وهو عند محمد جبريل شغف يكاد أن يكون فيتيثسياً بتسمية الشوارع والمقاهى والجوامع والزوايا، ويكاد يقتصر على اسكندريته تلك، هى اسكندرية قريبة إلى حد ما من اسكندرية الراحل صالح مرسى، على اختلاف الرؤى والموضوعات بينهما اختلافا جذريا، ومختلفة أيضا جد الاختلاف عن اسكندريتى مثلا، اسكندرية الجنوب وراغب باشا وغيط العنب بالقرب من الملاحة وترعة المحمودية التى لا تأتى سيرتها قط فى عمله كله إن لم يخطئنى الحصر والتقصى، حتى لو كان للبحر حضور ماثل بل مسيطر فى كتابتى، وهى أيضا تختلف بالتأكيد عن كاتبٍ أراه من أكثر كتاب الإسكندرية موهبة هو حافظ رجب، إذ تقع اسكندريته الفانتازية فى سرة المدينة، محطة الرمل حيث يجرى الترام فى رأس الرجل وحيث يشغل اليونانيون مكانا روائيا لا يكاد يعرفه يونانيو محمد جبريل الذين لعلهم ينتمون إلى حقبة زمانية أحدث من الحقبة "الكوزموبوليتانية الشعبية" التى عاش فيها "الاجريج" عند حافظ رجب، هم قريبون بشكل ما من جريج قسطنطين كافافى.
ولا أحتاج أن أقول إن اسكندرية محمد جبريل أوقع وأقرب إلى صورة الإسكندرية البحرية المثلى من اسكندرية كاتب مثل إبراهيم عبد المجيد، التى تكاد تقتصر -من حيث الموقع المكانى، ومن ثم الموقع الروائى، على صحرائها الغربية المفضية إلى خط سكة حديد العلمين ومرسى مطروح، وهو الجانب "الصحراوى" الأصيل من جوانب الإسكندرية، لم يهتم به -فى حدود علمى- إلا كاتب اسكندرانى آخر هو أونجاريتى الإيطالى الذى عاش فى محرم بك حتى العشرين من عمره (لعلنى أيضا قد عنيت بهذا الجانب الصحراوى من الإسكندرية). ولعل محمد جبريل لم يعن كثيرا -أو إطلاقا- بهذا الجانب، فهل ثم معنى لاختياره "البحر" أى الانفتاح على الآخر، وعلى الشاطئ الآخر؟ أم أن إضفاء دلالة إثنوجرافية، وربما أيديولوجية على البحر باعتباره الأفق الشمالى المفتوح على العالم الأوربى وعلى "الرمال الصحراوية" باعتبارها المعنى البدوى المنبثق من الخصوصية العربية المغلقة على ذاتها، ربما،.. من الشطح التأويلى ما لعله ينأى به عن المصداقية؟
هذه على أى حال أسئلة خصيبة (فيما أظن) تثيرها رواية "حكايات الفصول الأربعة" من بين ما تثيره من أسئلة.
تيمة الشيخوخة والموت لا تضفى على عمل محمد جبريل كروائى قتامة أو جهمة عابسة؛ فى مفرداته ورؤاه قدر من الرشاقة والسلاسة ينأى بها عن التشاؤم أو العدمية، على العكس، فإن اهتمام الكاتب بالقضايا ذات الشأن العام، من قبيل المسائل والأحداث والآراء السياسية، أو المشكلات والمجادلات الدينية، يكسب عمله الروائى حيوية ومعاصرة وراهنية مشغولة بالهموم والشئون العامة.
إن أحد أبطاله يأخذ على المصريين أنهم "يمتلكون موهبة صنع الطغاة. يحولون البشر العاديين إلى آلهة معصومة من الخطأ، ومحصنين ضد الحساب حتى لو كان إلهيا، يفدونهم بالروح والدم، ويحسنون التغنى بمآثرهم والتطبيل لإنجازاتهم، ويحرقون البخور لذكراهم".
(وبالمناسبة، فإن المصريين لا يجعلون من الساسة والزعماء وحدهم طغاة أو أشباه آلهة، بل هم يحولون من يسمونهم الرموز فى الحياة الثقافية والعلمية أيضا إلى أشباه آلهة معصومين لا يجوز المساس بذواتهم العلية).
اهتمام النص عند محمد جبريل بالشئون العامة لا يقتصر على المسائل السياسية بل ينصب كذلك على المسائل الدينية: "الإسلام لا يعرف رجال دين. من جعلوا الدين مهنتهم. إنه يعرف العلماء والمجتهدين". قد يبدو هذا الاهتمام جانبيا، أو هامشيا، تتناوله حوارات عابرة، وأقدر أنه اهتمام أساسى، يأتى بحذق ملحوظ على هيئة إشارات سريعة فى الحوار أو فى السرد الروائى سواءً، ضربات خفيفة ولكنها نافذة، موجزة ولكنها قاطعة، فهذه هى -فى تقديرى- تقنية رئيسية فى عمله الروائى.
من الموضوعات التى يتناولها محمد جبريل مرة بعد مرة فى عمله الروائى موضوعة الفجوة بين الأجيال.
النزعة نحو الرحيل، ليس فقط من شاطئ إلى شاطئ آخر، ليس فقط من عالم إلى عالم آخر (من الإسكندرية إلى اليونان مثلا) بل هى أيضا وربما أساسا نزعة إلى الرحيل من جيل إلى جيل، ومن هموم مرحلة معينة من العمر إلى هموم مرحلة أخرى -تلك من حكايات الفصول الأربعة- هذه النزعة لا تتحقق فقط بركوب البحر، بل هو ركوب موج السنوات المضطرب المتلاطم.
***
لعل محمد جبريل من أبرع روائي ما بعد نجيب محفوظ، مع فرادة لغته ونعومة انسياب صياغاته، والصياغة بداهة لا تنفصل عن الرؤية ولا عن الموضوعة. ذلك أن لغة محمد جبريل فى إيجازها واقتصادها ونفاذها تتساوق مع رؤيته لعالمه الإسكندرانى والنفسى أو الروحى على السواء، فهى رؤية ناصعة مضيئة ليس فيها تدفق هادر ولا صخب التزاحم، لا نكاد نقع عنده على محاولة للغوص فى أغوار -وأكدار- الحياة الحلمية أو اضطراب ما تحت الوعى، لغته ورؤاه معا صافية صحة سماء الإسكندرية عندما تصحو سماؤها، وهو ما يحدث فى أغلب الأحوال.
وعندى أن الإيقاع الموسيقى فى هذه اللغة -وهو إيقاع ملموس- ينبع من تناغم وتناسق (لعله تنغيم وتنسيق متدبر مقصود، أو لعله ملهم وعفوى، أو هما معا) فى تسلسل السرد وتبادل الحوار والنأى عن محسنات -أحيانا ضرورات- الاستعارة والكناية وكثافة اللغة، لغته -مثل موضوعاته- صافية واضحة وسائغة السلاسة، بقدر ما هى ممتعة وشائقة.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:59 AM
الروائي محمد جبريل يكتب عن ظاهرة شاذة في حياتنا الثقافية

بقلم: محمد جبريل
..........................

يغيظني من يبتزون فروسية الآخرين ، ليفرضوا بلطجتهم ومؤامراتهم .. يثقون أن الإهمال هو رد الفعل الذي يستقبل به " الفرسان " تصرفاتهم الشريرة .
وصفة أحد كبار نقادنا بأنه أقرب – في الطبيعة – إلى مسئول العلاقات العامة منه إلى الفنان ، فهو قد يكتب ساعة ، لينشغل بقية يومه بنسج العلاقات وتمزيقها ، وتدبير المؤامرات ، ومحاولات الإيقاع والتعتيم ، وهو ما عبر عنه واحد من ثلاثي العداء – معروفون بالاسم !
في زميلة أسبوعية : عدوك عدو كارك ! .. تحول الإبداع – في تقديرهم – إلى كار ، فروح العداء لا التنافس الجميل هي التي تملي عليهم أفكارهم وتصرفاتهم .
التقى بي – ذات يوم – في مؤتمر لهيئة قصور الثقافة بالسويس ، أبدى ملاحظة حول انصرافي عنه ، كنت قد عرفت طبيعته ، فآثرت الابتعاد قال في بساطة : العملية الجراحية التي أجريتها غيرتني تماماً .. هو إذن يدرك ما كان يفعل ، ويسعى لتغييره .. وتصورته صادقاً ، ولو للحفاظ على قلبه الذي خضع لعملية ، بعد أن أرهقه بتوالي المؤامرات ومحاولات النيل ، حتى من أقرب الأصدقاء لكن الطبع – كما يقول المثل – يغلب التطبع ، فهو قد تحدث عن التطبع ، لكن الطبع ظل غلاباً !
اتصل بي أقرب أصدقائه في مؤتمر الرواية الأول حدثني عن تفرد صديقه – من خلال شبكة علاقاته الواسعة – بمعظم أبحاث المؤتمر ، وحرصه أن يخلو المؤتمر من أي بحث عن صديق عمره كما يسميه !
وحدثني روائي معروف عن الجلسات التي يعقدها – ذلك الذي أجعله مجرد مثل فلا أسميه – مع عدد لا يزيد عن أصابع اليد من الذين ابتليت بهم حياتنا الثقافية .. يراجعون الأسماء ، يلاحظون خفوت اسم ما ، فيقترحون تسليط الضوء عليه ، ويلاحظون ذيوع اسم آخر ، فيلجأون إلى ما وسعهم من التعتيم حتى تظل كل الأصوات تحت سقف يحددونه !
وحين استقبل النقاد رواية علاء الديب " زهرة الليمون " بحفاوة تستحقها ، كتب صاحبنا وكاتب آخر – هو الآن في ذمة الله – عن رواية شحاته عزيز " الجبل الشرقي " واعتبراها رواية العام ، والتفت إلى ما كتب مثقفان كبيران هما رجاء النقاش وإبراهيم الورداني . قرا الرواية ووجدا فيها ما يستحق الإشادة بالفعل ، وكتب شحاته عزيز جزءاً ثانياً من الرواية ، وسعى لنشره في النشرة التي يتولى صاحبنا رئاسة تحريرها ، لكنه فوجئ بالرفض ، وجاءني الأديب الجنوبي يعرض ما حدث ، ولن الرواية كانت عملاً لافتاً ، فقد نشرت الجزء الثاني في " المساء " كعادة الجريدة مع كل المواهب الحقيقية .
أخطر ما في الأمر أن صاحبنا لا يكتفي بنفسه ، وإنما يحرص على أن ينقل فيروسات أمراضه إلى الآخرين ، بالتحديد من يعملون تحت إمرته من الشباب ، هو يحرض ويهدد ويفرض رأيه ، وربما كتب – كما عرفت من هؤلاء الشباب أنفسهم – ما يدفعهم إلى وضع توقيعاتهم عليه .
صارحت صديقاً مشتركاً بأنه كان يستطيع – بما حقق من مكانة – أن يحصل على المكانة نفسها في قلوب المثقفين ، قال الصديق : هل أبلغه ؟ قلت : ليتك تفعل .
أثق أن حياتنا الثقافية بخير ، والأعلون صوتاً ليسوا هم التعبير عنها ، لأنهم قلة ، وإن كان طنينهم يزعج المبدعين الحقيقيين في انشغالهم بالأجدى والمفيد .
م . ج
.................................................. ............................
* جريدة المساء العدد الأسبوعي – السبت 26من نوفمبر 2005م.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 05:59 AM
الفن القصصي عند محمد جبريل

بقلم: د.عبد الله أبو هيف
............................

بدأ محمد جبريل الكتابة السردية قاصاً بإصدار مجموعته الأولى "تلك اللحظة" (1970)، ورسخ إبداعه القصصي بمجموعاته "انعكاسات الأيام العصيبة" (1981)، و"هل" (1987)، و"حكايات وهوامش من حياة المبتلي" (1996)، و"سوق العيد" (1997)، و"انفراجة الباب" (1997)، و"موت قارع الأجراس" (2002)، واختار عدداً من قصصه التي تتناول تنازعات الذات القومية إزاء مخاطر الصهينة والعدوان الأجنبي على العرب، سماها "حارة اليهود" (1999). واقتصر في هذه المقالة بالحديث عن الفن القصصي عند محمد جبريل من خلال مجموعته الأخيرة، ومختاراته القصصية المشار إليها آنفاً.‏
بنى جبريل قصصه على التقانات السردية والمجازية والاتصالية الحديثة، ولا سيما المفارقة والرمزية والإيحاء المجازي لابتعاث المعاني والدلالات فيما وراء القصّ. وأفصحت قصص "موت قارع الأجراس" عن ثراء التشكلات السردية لدى العناية بالتحفيز التأليفي الذي يوائم بين الفعلية وأغراضها على نحو غير مباشر، وصورّت قصة "الوحدات" مدى حصار الفلسطيني في وطنه، إلماحاً إلى اغتراب الفلسطيني في الأقطار العربية، حتى أنه فكر مرة أن يركب سيارة يقتحم بها الحدود إلى فلسطين من إقامته المروعة في الأردن، و"إن قتلت فسأقتل في وطن.. وطني" (ص12).‏
وأبان ازدياد آلامه، وهو يعاني عسر تجديد الإقامة في موعدها، وصعوبة الحصول على بطاقة أو هوية، إذ لا يستطيع المواطن أن يحيا" بلا جواز سفر ولا أوراق تثبت شخصيتك" (ص15)، مما عذبته السخرية المرّة عبر المفارقة الموجعة.‏
"-سأصبح إذن مواطناً عالمياً، فليس معي تأشيرة دخول إلى أي بلد!" (ص15)، وهذا هو حال الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، الذي يقتله الإحباط والخوف، ما دام مربوطاً بمخيم الوحدات المفتقر إلى الثقة والأمان.‏
ووصفت قصة "موت قارع الأجراس" صلابة المقاومة في فلسطين، فقد لاذوا بمجمع الكنيسة ثم داهمهم المحتلون وقناصتهم في هذا المكان المقدس، وصوبوا إليهم رصاصهم، على الرغم من التضامن الديني بين المسيحيين والمسلمين، ونبههم الأب لوقا ألا يحاولوا التعرف على ما يجري خارج الكنيسة، ولو من النوافذ، لأنهم يطلقون الرصاص على كل شيء يتحرك، (ص29)، وبدا فعل المقاومة قوياً باستخدام الإيحاء المجازي النابض بالوعي الذاتي، إذ "ترد نواقيس الكنائس في امتداد المدن والقرى. يرتفع الآذان – كما حدث في مرات سابقة – من الجوامع وأسطح البيوت. يتنبه من تختفي أو تسحب، في أسماعهم، صيحات الاستغاثة، فينصرفون" (37).‏
وامتد ترميز الفعل المقاوم إلى البيرق علامة للضبط الداخلي والمتانة في مواجهة العدو، كلما تأذى المؤمنون في قصة "البيرق"، حرصاً على نصرة الإسلام والمسلمين في أيام الخطر، والبيرق هو الأمل المرتجى إن واجهت البلاد الخطر، و"على كل المسلمين الخروج إلى الجهاد وبيع الأرواح بيع السماح" (ص83).‏
وأفاد المنظور القصصي أن تعضيد فعل المقاومة يستند إلى مجاوزة الاختراقات الداخلية والضعف الداخلي من خلال المفارقة من اللفظ إلى المعنى، عندما "لامست أصابع في موضع البيرق خشونة تسوس العصا والفجوات الصغيرة، تشابك فيها العلم والحبل المهتريء" (ص85).‏
وأبانت قصة "الكسوف" المفارقة أيضاً من اللفظ إلى المعنى انتقالاً من الكسوف الطبيعي إلى الكسوف المعنوي في وعي الذات، وقامت القصة على النشاط الثقافي اليومي لمجموعة أدباء وكتاب من مصر وسورية بدمشق أثناء يوم بعينه تحدثوا فيه عن كسوف الشمس، وأضاءت الفعلية الكسوف الطبيعي الكلي عندما يقع القمر في دورته من الغرب إلى الشرق حول الأرض، ويقع بين الأرض والشمس، وتكون الأجرام الثلاثة على استقامة واحدة، وتصبح الأرض في مسقط ظل القمر تماماً، والكسوف الجزئي عندما تقع الأرض في منطقة الظل القمرية. وربط المنظور القصصي في الكسوف بحراك الحياة والتجربة الأدبية العربية ومدى تمثيلها المعرفي العميق بالحياة الإنسانية، ومدى وعي الصراع مع الأعداء عند الاعتراف بأن "إسرائيل واجهة لتقدم الغرب" (ص53)، وهذا هو حال المفارقة التي تنشر الوعي بأحوال الكسوف في الموقف من العدو كلما دعمت عمليات تصليب الذات، فثمة "كلمات تتخلق في أعماقك، تتشكل حروفها وملامحها، وإن بدت غامضة" (ص55).‏
وتعالى استخدام المفارقة في قصة "العنكبوت" التي تؤشر إلى عنكبوت الموت، حيث مرارة مرض الوالد وعذاب الروح تحت وطأة مؤثرات موت الحياة الكثيرة شأن السؤال المرير: ما معنى أن يستيقظ المرء – ذات صباح – ليجد نفسه ميتاً؟!" (ص67). وجادت ملفوظية العنكبوت في التحفيز التأليفي الجامع بين المادي والمعنوي بمداهمة الموت الذي يخترق الإنسان بصمت: "وثمة عنكبوت – لم تكن قد فطنت إلى وجودها – تغزل خيوطها، فتشكل ما يشبه الغيمة في أعلى السرير" (ص71).‏
ومال جبريل إلى تكثيف السرد مقاربة للعوالم الميتاقصية (ما وراء القص) في قصص قصيرة جداً، كما هو الحال في "الزيف" و"الخيمة" و"العرّاف" و"القنديل" و"الأميرة والراعي" و"الآذان" و"الرؤية" و"القاضي" و"الخواء" و"ومضات منسية"، وتقع القصة منها في حدود صفحة واحدة إثارة لمعانٍ عميقة استعمالاً للأنسنة، على سبيل المثال، ففي قصة "القنديل" تضفى على الحيوان صفات الإنسان للتأمل في أطروحة النسوية والذكورة، إذ استمرت في الحرص على أن تلدغ ما دامت متأكدة أن هذه الأقدام لرجال، وقد أثارها الاختلاط والتشتت من عناء الكينونة أنثى أو خنثى أو ذكراً، وهذا يغيظها كثيراً، و"لم تعد تشغلني القدم الواقفة على الشاطئ، أراها فألدغها، ألدغها بكلّ قوتي" (ص151).‏
واستغرقت الأنسنة في التكثيف السردي في القصة القصيرة جداً "الأميرة والراعي"، عند التداخل بين المواقف من حماية الذات إزاء تفاقم الأفعال الشريرة من آخرين، وأوجز الراوي المضمر القص أن الأميرة ستوافق على الزواج من الراعي الذي يقتل الذئب، لأن هذا الذئب قتل جدتها، بينما خاطب الراعي الذئب، إشارة إلى ذئبية بشرية، عند مجاهرة الذئب بأن "لحم الأميرة الشهي من نصيبي" (ص152)، مما دفع الراعي إلى الخلاص من هذه الذئبية البشرية، فهوى بالعصا الغليظة "على رأس الذئب، أثاره العواء وتناثر الدم" (ص153)، وهذا كله ضمانة للتواصل بين الراعي والأميرة عند مواجهة القتلة.‏
وبلغ التكثيف السردي مستوى الشذرة إيماء إلى مدلولات ما وراء القصّ، كما في القصة القصيرة جداً "الثأر" التي تقع في أسطر، وقام الإيماء على الإشارة إلى قصدية الثأر في مقدور الرجل على الثأر من ظالمه وجائره من خلال وصف "ظل الرجل" وسيرورة الثائر "فوق الظل" الساكن ومواجهة الظالم بحذائه عند "طرف الظل" (ص155).‏
لقد واءم جبريل بين المجازية والاتصالية في الكتابة القصصية لإثارة أسئلة الوجود وقضايا الحياة، وانغمرت قصصه في البنى الاستعارية منذ مجموعته الأولى اندغاماً في التحفيز التأليفي الذي يهتم بالأغراض القصصية كلّما ثّمر التقانات السردية لجلاء المعاني والدلالات الكامنة في القصّ، وأفصحت مجموعته "حارة اليهود" عن هذا المنجز الإبداعي العميق، عند جمع القصص المعنية برؤى المقاومة في مواجهة الصهيونية والتصهين تهديداً للوجود العربي وهدراً لطاقات الحياة عند العب.‏
تناولت قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" مواصلة رحلة الأسراب من السمان ومجاوزة فكرة العجز عن المقاومة، ليتبين لهم بعد حوار طويل أن السكوت عن المقاومة طريق إلى الجنون، وتبدى الإيماء إلى هذه الدلالة في رحابة القص المجازي، فقد "بدا للناس – من كثافة الأسراب، ودقة تنظيمها، وانتشارها في كلّ الأمكنة – عجزهم عن المقاومة. مالوا – مؤقتاً- إلى التريث، فرحلة السمان لا تعرف التوقف" (ص10)، وهذا هو حال المقاومة التي تحمي الوجود والمصائر القومية. ولاذ القص في قصة "الطوفان" بالمفارقة المعنوية انتقالاً من فكرة طوفان إلى غرق الحيوية عندما تضعف المقاومة، وتعجز المواطنة عن القضاء على المخلوق الغريب أو الكائنات المحتلة.‏
وتنابذت أصوات الشجار والمشاكسة في قصة "المستحيل" انتقاداً لدعاة الانعزالية والتجزئة القومية، على أن العزلة تبعدهم عن الخطر، بينما المستحيل نفسه في خروج فئة أو جماعة أو أقوام من مدارات المصائر القومية، والحل دائماً في المشاركة والاندماج مع الناس والانضمام إلى المقاومة.‏
وأفادت قصة "هل" أن المقاومة هي التي تصون الذات القومية، عند تعالق الذات الخاصة مع الذات العامة من خلال الترميز، وهذا هو الرجل الميت الذي دُفن، ثم جرده التربي من كفنه، والسؤال هو ضرورة المقاومة من المعلوم والمختفي في الوقت نفسه عند كشف العدوان، وعمّق جبريل الرؤية عندما ربط هذه المقاومة أثناء الحياة وبعد الموت. فلو حرّك الميت جسده لظل مستوراً، ولو تنامى الوعي بالدمار والاحتلال والفناء لتوقف العدوان، ولا سبيل لذلك إلا بالمقاومة.‏
واعتمد جبريل على الترميز في قصة "حكايات وهوامش من حياة المبتلي" تواصلاً مع الأسطرة عند تعالق شخصية صابر وزوجته سلسبيل، لنلاحظ دلالة الأسماء أيضاً، مع أيوب وناعسة في الأسطورة الشعبية، فهو حرص على الابتعاد عن قريته بحثاً عن الدواء، لأنه المرض هدده بالموت، بتأثير الفساد والمفسدين، وصار الأمل أن يمضي إلى الحج، ليشفيه رب العباد، ثم داهمه المجرمون والأشرار، ومنعوه من أداء فريضة الحج، وهذا هو البلاء المستشري ما لم تشتد المقاومة ضد الظلم والعدوان.‏
واستند إلى الترميز أيضاً في قصة "حكاية فات أوان روايتها" عن الطائر وفقس البيضة ومدى تلاقي الحوار مع وعي الذات وسبل مواجهة تغلغل النفوذ الأجنبي.‏
وترابطت قصة "حارة اليهود" مع عناصر التمثيل الثقافي في رؤى مقاومة الصهينة والتصهين التي تخترق الوجود العربي من خلال الإيماء إلى التهام الغرغرينا الجسد كلّه، مما يستدعي تعزيز فعل المقاومة. وقد بنى القصة على وقائع وأحداث في مطلع القرن العشرين، من خلال ما تعرض له محمد جعلص وأولاده من اليهود ساكني الحارة حتى تسبب لهم المرض وخلل الحياة الاجتماعية والاقتصادية.‏
محمد جبريل قاص متفرد بإبداعه لإنتاج فضاءات "ميتا قصية" شديدة الثراء في مجازية القصّ والإيحاء بالمعاني والدلالات العميقة لدى استخدام تقانات قصصية تعتمد على الاستعارة والترميز والأسطرة.‏
المصادر:‏
...........
1- حارة اليهود، مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة 38، القاهرة، سبتمبر 1999.‏
2- موت قارع الأجراس، مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، أصوات أدبية 329، القاهرة، توفمبر 2002.‏

*جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 06:00 AM
"الجودرية" النص التاريخي ورهانات التحويل الروائي
"ملاحظات عامة"

بقلم: د.وفيق سليطين
..........................

تثير رواية "الجودرية لمحمد جبريل أسئلة الاشتباك الروائي بالتاريخ, وتفرض علينا إعادة تأمل العلاقة بين الجانبين من داخل الحدود الخاصة بهذا العمل, الذي يستوي بكيفيات محددة تنهض بها المعالجة الروائية للتاريخ, بحيث يمكن النفاذ من خلالها إلى استخلاص التصورات النظرية والتجريدات الفكرية القانونية المتصلة بهذا المسعى.‏
أولى الملاحظات تطالعنا بها عبارة الغلاف المثبتة تحت العنوان الأساسي, وهي: "عن تاريخ الجبرتي بتصرف". مما يشير إلى ارتهان الرواية للمرجع, وخضوعها لمادته في إنشاء نفسها عليه. وتأتي كلمة "بتصرف" لتقيّد من حجم ذلك الارتهان, وتخرق منحى المطابقة, في إشارة إلى الجهد الذي ينحو بالعمل ليحقق صفته الروائية. لكنّ "التصرّف" المشار إليه يبقى ضمن الحدود العامة للوثيقة, مراعياً التسلسل الكرنولوجي, وناصّاً على الوقائع الأساسية والمفاصل التاريخية الكبرى لانبثاق الأحداث وتواليها, بما من شأنه أن يشدّ, على نحو لافت, إلى الزمن المرجعي. فالرواية تبدأ بنزول الفرنجة على الشواطىء الشمالية للبلاد في يوم الاثنين الثامن عشر من المحرّم سنة /1213/ من الهجرة النبوية الشريفة الموافق للثالث عشر من يوليو /1798/ من الميلاد, وهم من رجال الإنكليز الذين يترصدون الفرنسيين لقطع الطريق عليهم وإحباط مسعاهم. وانطلاقاً من هذا التحديد الزمني يتوالى السرد الإخباري في تقديم رحلة الجيش الفرنسي, التي بدأت من طولون, وفي طريقها إلى الإسكندرية تمّ الاستيلاء الفرنسي على جزيرة مالطة في الثاني عشر من يونيو /1798/, ثمّ ظهر الجيش الفرنسي أمام سواحل الإسكندرية في أول يوليو من العام نفسه.‏
وثاني هذه الملاحظات يتصل بشكل الرواية ونهجها في تشييد مبناها, وهو ما يجري اعتماداً على تقسيمها إلى أبواب وفصول, إذ تتم معالجة المادة وفق هذا التقطيع, الذي يوزّع المتن على أحد عشر باباً, يشتمل كلّ منها على عدة فصول, يتفاوت عددها بين باب وآخر, مستجيباً لكتلة الوقائع والأحداث التي تتفاعل وتتنامى وتصل إلى ذروة ما, بحيث تغدو مؤطرة في باب واجد يشتمل على عدد من الفصول. ويبدو الباب, في تقنية التقسيم هذه, علامة على الفصل والوصل في حدوده الزمنية والحديثة التي يُسيِّج بها المادة, ويؤذن بتحولها النوعي في الباب التالي, الذي يُمكن أن ينعطف بها جيئة وذهاباً على النحو الذي يؤمّن قدراً من الاستقلال, في الوقت الذي يؤدي به وظائف التنامي والحبك والتصعيد.‏
وفي ذلك ما يحيل على عمل المؤرخ في تعمله مع مادته تنظيماً وتقطعياً, وربطاً وتسلسلاً. وعلى هذا المستوى الهيكلي تتبدّى استجابة الرواية لتقنية المصادر القديمة في التأريخ, وللنهج الذي اختطّه المؤرخون القدماء في مدوّناتهم. وهذا الأثر الذي ينسرب إلى هنا, ويلقي بطابعه على جسم الرواية, لا يخلو من دلالة على ترشيح عناصر القوة المهيمنة في المعادلة التي نحن بصددها, وهي التي تأتي حصيلة للتفاعل, وخلاصة للتفاضل في النسب والكيفيات والمقادير من كلا الجانبين, على النحو الذي تترجّح معه الفاعلية النصيّة, التي تترجم حصيلة الاشتباك, وتكشف عن قوى الشدّ أو الاستجابة, وعن مدى المتابعة وإسلاس القياد, أو عن شدّة الأثر وقوة المخض وعمق التحويل.‏
وحسب هذا التوجّه تكون الملاحظة الثالثة متولّدة عما سبقت الإشارة إليه, ومعها نلمح قدراً من التمايز بين شطري الرواية. ففي القسم الأول منها تحضر المادة التاريخية, وتطفو القرائن المرجعية في نظام تأسيسي يتكفّل بإظهار الوقائع والأجواء والتواريخ والشرائح الطبقية ومظاهر الفسيفساء الاجتماعية في بنيتها المتراتبة وانقساماتها العميقة الحادّة في تلك المرحلة الخاصة من التاريخ الذي تنصبُّ عليه الرواية, وتتخذ منه موضوعاً لها, وهو القسم الذي يهيّئ لما بعده, ويشكّل المهاد الضروري لانطلاقة الفعل الروائي وتضافر عناصره وتفعيل أثره.‏
وعلى الرغم من أساليب المزاوجة التي تضخ أحد الجانبين في الآخر, وتسهم في تعديل مجراه وكسر حدَّة برزوه, يبقى القسم الأول مجلَّلاً بقوة حضور "التاريخي" وسيطرة مؤشرات المرجع, التي ستتراجع نسبياً في القسم الثاني, تحت الضغط المتصاعد لعناصر البنية الروائية, بخيوطها المتشابكة وحكاياتها الفرعية, التي تشكّل انفراجات سردية, تتنوّع, وتتباعد, وتعود لتندغم في مجرى السرد وإطاره العام. وهنا تتبدّى مقدرة الكاتب على النمذجة, والتمثيل الروائي, وضخّ مظاهر الحيوية في بناء متقن, يزخر بألوان الحياة, ويدفع بنا إلى خضّم المجتمع المصري في ظل الوجود العثماني المتردي, لمعايشة نبضه واحتداماته, ومواجهة صوره وتنوعاته وأجوائه المتوترة وتركيبته الآيلة إلى التحلل, وإلى تفسّخ بنيتها الرثة في ظلّ الحملة الفرنسية التي تنتهي عام /1801/.‏
وعلى الرغم من ذلك تبقى المساءلة واجبة, روائياً, عن مدى بروز الوثيقة في جوانب العمل على النحو الذي تعيق به إمكانات التحويل الروائي.‏
..............
*جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.

د. حسين علي محمد
19/06/2006, 06:01 AM
بيبليوجرافيا محمد جبريل‏
............................

* ولد في حي بحري بالإسكندرية في 17/2/1938‏
* كان أبوه مترجماً ومحاسباً. وقد أفاد من مكتبة أبيه في قراءاته الباكرة, ويعدها سبباً أساسياً في حبه للأدب..‏
* غالبية أعماله تتناول مظاهر الحياة في حي بحري بالإسكندرية, وحياة الصيادين والبحارة وغازلي الشباك وصانعي المراكب بصفة خاصة..‏
* أثرت نشأته في حي تغلب عليه النواحي الدينية في اتجاهه إلى القصة والرواية التي توظف التراث. وتناول موضوعات يغلب عليها الدين والفانتازيا والأسطورة..‏
* عمل بالصحافة منذ 1960. بدأ محرراً في القسم الأدبي بجريدة "الجمهورية" مع الراحل رشدي صالح. ثم انتقل إلى جريدة "المساء"..‏
* عمل في الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968 مديراً لتحرير مجلة "الإصلاح الاجتماعي" الشهرية, وكانت تعنى بالقضايا الثقافية..‏
* عمل ـ لفترة ـ خبيراً بالمركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير. وقد تولى مع زملائه تدريب الكوادر والإعداد لإصدار أول عدد من جريدة "الشعب" الموريتانية (1975).‏
* عضو اتحاد الكتاب المصريين‏
* عضو جمعية الأدباء‏
* عضو نادي القصة‏
* عضو نقابة الصحفيين المصريين‏
* حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1975 عن كتابه "مصر في قصص كتابها المعاصرين"..‏
* نال وسام العلوم والفنون والآداب من الطبقة الأولى عام 1976‏
* عمل مديراً لتحرير جريدة "الوطن" العمانية في الفترة من يناير 1976 إلى يونيو 1984‏
* عمل رئيساً لتحرير "كتاب الحرية" في الفترة من إبريل 1985 إلى يناير 1989.‏
*رواياته: الأسوار ـ إمام آخر الزمان. من أوراق أبي الطيب المتنبي, قاضي البهار ينزل البحر. الصهبة. قلعة الجبل. النظر إلى أسفل. الخليج. اعترافات سيد القرية. زهرة الصباح. الشاطىء الآخر. رباعية بحري: أبو العباس. ياقوت العرش. البوصيري. على تمراز. الحياة ثانية. بوح الأسرار. المينا الشرقية. مد الموج. نجم وحيد في الأفق, زمان الوصل. ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله. حكايات الفصول الأربعة. زوينة. صيد العصارى. غواية الإسكندر. الجودرية. رجال الظل.‏
* مجموعاته القصصية: تلك اللحظة. انعكاسات الأيام العصيبة. هل. حكايات وهوامش من حياة المبتلى. سوق العيد. انفراجة الباب. حارة اليهود. رسالة السهم الذي لا يخطئ. موت قارع الأجراس.‏
* كتبه الأخرى: مصر في قصص كتابها المعاصرين. مصر... من يريدها بسوء؟..‏ نجيب محفوظ.. صداقة جيلين. السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية. آباء الستينيات. قراءة في شخصيات مصرية. حكايات عن جزيرة فاروس. مصر المكان. البطل في الوجدان الشعبي..‏
* درّس الدكتور شارل فيال كتابه "مصر في قصص كتابها المعاصرين" على طلاّبه في جامعة السوربون. ويدرس د. عبد المجيد زراقط أعماله على طلابه بالجامعة اللبنانية, كما يدرس د. عبد الرحمن تبرامايسين على طلابه بجامعة بسكرة بالجزائر.‏
* ترجمت روايته "الشاطئ الآخر" إلى الإنجليزية. كما ترجم العديد من قصصه القصيرة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والماليزية. وكان الأب الدكتور جاك جومييه هو أول من قدمه إلى القارئ الفرنسي بدراسة في مجلة "ميديوى"..‏
* صدر عنه: "محمد جبريل وعالمه القصصي" و"دراسات في أدب محمد جبريل" بأقلام مجموعة من الأدباء والنقاد... و"البطل المطارد في روايات محمد جبريل للدكتور حسين علي محمد... "فسيفساء نقدية ـ تأملات في العالم الروائي لمحمد جبريل "للدكتور ماهر شفيق فريد..." محمد جبريل... موال سكندري "لفريد معوض وآخرين. استلهام التراث في روايات محمد جبريل للدكتور سعيد الطواب. محمد جبريل روائي من بحري لحسني سيد لبيب, محمد جبريل,مصر التي في خاطره لحسن حامد. التراث والبناء الفني في روايات محمد جبريل للدكتورة سمية الشوابكة.‏
* حصلت الباحثة الأردنية سمية الشوابكة على درجة الدكتوراه من الجامعة الأردنية عن رسالتها "التراث والبناء الفني في أعمال محمد جبريل الروائية".‏
* نوقشت أعماله في العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه, ومنها: شخصية المتنبي في الأعمال الروائية والمسرحية لفهمي عبد الحميد, العناصر التراثية في الرواية المصرية لمراد عبد الرحمن مبروك, السجن في الرواية المصرية لأحمد الحسيني, العناصر السردية في الرواية عند محمد جبريل لأحمد عوض, موازنة بين الأعمال التاريخية عند كل من نجيب محفوظ ومحمد جبريل لمديحة يوسف عامر (الإمارات). السرد الفني في روايات محمد جبريل (رسالة ماجستير) لمحمد محمود فرج.‏
* كتب مقدمات لأعمال كل من: مصطفى صادق الرافعي (تحت راية القرآن) (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية). نجيب محفوظ (صدى النسيان) (فتوة العطوف). أحمد زكي مخلوف (نفوس مضطربة). حسين علي محمد (عشان مهر الصبية). محمود الخصيبي (سلطنة عمان). عبد الله هادي سبيت (اليمن). فتحي عزت (الإغراء). محمد كمال محمد (دماء في الوادي الأخضر). سمير فوزي (من ديوان العشق). شحاتة عزيز (كفر الهلالي). عبد الفتاح مرسي (المسخوط من سيرة علي بلوط). أبو المجد شعبان (الطفل الذي يعدو). مهدي بندق (حتشبسوت بدرجة الصفر). أمجد صابر (عندما تبيض الديوك) علاء أبو زيد (فم النهر). فاطمة يوسف العلي (تاء مربوطة). محمود البدوي (قصص قصيرة) وغيرهم.‏
* وضع عن فترة إقامته بسلطنة عمان كتاباً بعنوان "تقرير عن إصدار جريدة يومية" نشر حلقاته الثلاث الأولى في مجلة "الدراسات الإعلامية". ثم أوقف نشر بقية الحلقات بعد تدخل مباشر من الحكومة العمانية بدعوى أن الكتاب يتناول سلبيات التجربة العمانية!‏
* له ندوة باسمه, قدمت الكثير من الأدباء الشباب, تعد من أهم الندوات في القاهرة..‏
* كتبت في أعماله قصائد للشعراء: محمد يوسف. حسين علي محمد, جميل محمود عبد الرحمن. يسري حسان. شفيق أحمد علي. فواز عبد الله الأنور. مؤمن أحمد..‏
* أقيمت له مهرجانات تكريم في المنيا. سوهاج. القاهرة. الإسكندرية..‏
* شارك في مؤتمر الرواية الذي أقامته جامعة القاهرة ـ قسم اللغة العربية, في 1995.‏
* شارك في مهرجان آفاق القصة والرواية في الثمانينات والتسعينيات بكلية دار العلوم في إبريل 1997.‏
*شارك في مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم ـ الدورة الثانية عشرة بالإسكندرية 1997.‏
* شارك في مؤتمر القاهرة للإبداع الروائي (شهادة ومشاركة بحثية) فبراير 1998.‏
* شارك في مؤتمر التنمية في شمال الصعيد ـ كلية الآداب بالمنيا 1998.‏
* انتخب في مارس 1999 نائباً لرئيس اتحاد كتاب مصر..‏
* ترأس المؤتمر الإقليمي لأدباء غرب ووسط الدلتا في إبريل 1999.‏
* مثل اتحاد كتاب مصر في ندوة الرواية العربية وقضايا الأمة التي أقيمت بطرابلس ليبيا في الفترة من 7 إلى 9 أغسطس 1999. كما مثل الاتحاد في اجتماعات المكتب الدائم لاتحاد الكتاب العرب...‏
* ألقى محاضرة عن تجربته الأدبية في مقر اتحاد كتاب سوريا بدمشق 10/8/1999.‏
* اختير عضواً في لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة من أول أكتوبر 1999.‏
* ترأس في سبتمبر 2000 وفد اتحاد كتاب مصر إلى تونس, ووقع اتفاقية للتعاون الثقافي. كما شارك في العديد من الندوات في المدن التونسية..‏
* شارك في مؤتمر عن الكاتب الراحل محمود البدوي في المجلس الأعلى للثقافة (1999)‏
* شارك في المؤتمر الدولي عن الترجمة الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة في عام 2000.‏
* شارك في الملتقى الثاني للفنون الشعبية الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 14 إلى 18 يناير 2001.‏
* شارك في مؤتمري القاهرة للرواية الأول والثاني اللذين أقامهما المجلس الأعلى للثقافة. قدم شهادة, وبحثاً عن الرواية التاريخية, وقدمت في أعماله أبحاث.‏
* ألقى محاضرة عن تجربته الأدبية في المكتبة الوطنية بالجزائر في يناير 2006.‏
* أقامت الفنانة التشكيلية مها رشدي معرضاً عن شخصياته في نادى الهلال الأحمر بسوهاج..‏
* زار معظم العواصم والمدن العربية, والكثير من دول العالم..‏
* متزوج من الناقدة زينب العسال. وله ابنان: أمل ووليد...‏
* يسكن في 18 شارع الدكتور سليمان عزمي شقة 4 مصر الجديدة ـ ت 6218500 ـ 2618399 ـ 103805251.‏

د. حسين علي محمد
30/04/2007, 04:16 PM
* أغنية للمهد *
قصة قصيرة جدا، بقلم: محمد جبريل
...................................

كان جدى يروى لنا الحواديت . لا أذكر أن أبى روى لنا حدوتة ، أو حكاية . إنما هى ملاحظات سريعة عن مشاهداته فى العمل ، أو فى الطريق . ننصت إليه ونحن جلوس حول مائدة الطعام . لم تكن أمى تتحدث إلينا بغير الشخط والنطر ، فلا حكايات ، ولا حواديت ، ولا ترنم بأغنيات . الزاد الذى كنا نلجأ إليه ـ فضلاً عن حواديت جدى ـ هو حكايات بابا صادق ، ثم بابا شارو ، فى برامج الأطفال بالإذاعة ..
المرة الوحيدة التى غنت فيها أمى لنا أذكرها جيداً . لامست الإسكندرية تأثيرات الحرب العالمية الثانية . وكنا نعانى الخوف من أصوات المدافع المضادة للطائرات . استعدت أمى وأختى للهبوط ـ ذات ليلة ـ إلى المخبأ القريب . أصر أبى ـ كالعادة ـ على أن نظل ـ أخى وأنا ـ فى الشقة ، فالرجال لا يلجأون إلى المخبأ . علا صوت المدافع ، فأجهشنا بالبكاء . تراجعت أمى عن النزول ، واندست فى الفراش بيننا . همس صوتها ، ثم علا ، بالأغنية :
خد البزة واسكت خد البزة ونام
أمــك السيـدة وأبوك الإمام
وأبوك سعد باشا طالع للأمام
ونمنا .

د. حسين علي محمد
30/04/2007, 05:32 PM
* الثأر *
قصة قصيرة، بقلم: محمد جبريل

حى بحرى هو هذه المنطقة التى تمثل شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . لا يزيد ـ طولاً أو عرضاً ـ عن كيلو متر واحد . مظهره الأهم غلبة الروحانية . ثمة الجوامع والمساجد والزوايا والصوفية وحلقات الذكر والموالد وغيرها مما يسم الحياة فى بحرى باختلاف مؤكد ، ليس عن بقية أحياء الإسكندرية فحسب ، وإنما عن بقية المناطق المصرية جميعاً . شهر رمضان ـ بالطبع ـ جزء من تلك الروحانية التى تدين لها طفولتى ـ ومحاولاتى الإبداعية فيما بعد ـ بالكثير . الصيام ، صلاة التراويح ، تلاوة القرآن ، المسحراتى ، الكنافة ، القطايف ، حالو ياحالو ، الياميش ، الأضواء ، الفوانيس ، الليل الصاحى ، النهار المتثائب ، السبح ، الأعصاب المنفلتة ، واللهم إنى صايم ، الطرشى ، الفول المدمس ، اللب ، الفول السودانى ، التسالى ، الإذن للأطفال بالسهر مدى شهر كامل ، تقييد الشياطين والجان ، اختفاء العفاريت ..
كنا نسهر إلى موعد السحور . نحمل فى أيدينا ـ عقب الإفطار ـ فوانيس زجاجها ملون ، مصنوعة من الصفيح ، وتضئ بالشمع . أفضل من فوانيس هذه الأيام التى تضئ بالبطارية ! . دعك من وفرة الأمان فى الفوانيس الحالية . ارتعاشة الشمعة قد تحمل الخطر ، لكنها تحمل الحميمية فى الوقت نفسه . نقف أمام دكاكين الحى ، نلوح بالفوانيس ونغنى :
الدكان ده كله عمار وصاحبه ربنا يغنيه
يهبنا صاحب الدكان من الملاليم ما يدخل السعادة إلى نفوسنا ، ربما أضعاف ما نشعر به ونحن نأخذ هبات فى المناسبة نفسها ..
قد يرفض صاحب الدكان ، ويطردنا ، فتعلو أصواتنا :
الدكان ده كله خراب وصاحبه ربنا يعميه
ونجرى ..
وكنا نسلى أنفسنا بما نسميه " شكل للبيع " . ألجأ إلى رشاقة جسدى ـ باعتبار ما كان ـ فأقفز على عنق أحد المارة ممن نتوسم فى ملامحه طيبة . يسقط الرجل ـ بتأثير المفاجأة ـ من طوله ، ويخرج الأولاد من مكامنهم ، وفى أيديهم العصى ، ينهالون عليه بضربات سريعة ، مؤلمة ، ويختفون قبل أن يفيق الرجل من الصدمة ..
تكررت اللعبة ، وطالت عصينا أجساد الكثيرين . مجرد شقاوة عيال يشغلها التسلية وغير المألوف ، وليس إحداث الأذى ..
ثم جاء اليوم الذى كان ينبغى فيه أن ندفع الثمن : قفزت على عنق شاب صعيدى ، ولحقته عصى الأولاد فى سقوطه على الأرض ، واختفينا ـ كالعادة ـ قبل أن يحاول رد ضرباتنا ..
نفض الشاب ثيابه ، ومضى .. وعدنا إلى شكل للبيع وغيرها من الألعاب : الاستغماية ، عنكب يا عنكب ، نطة الإنجليز ، أولها اسكندرانى إلخ ..
قبل السحور ، كان التعب قد هدّنا . جلسنا متجاورين على رصيف الشارع الخلفى لجامع سيدى على تمراز . يغنى أحدنا ، ونردد وراءه ونحن نهز الرءوس :
وحوى يا وحوى .. إيوحه .. وكمان وحوى .. إيوحه ..
فاجأت أولنا ركلة قدم قاسية طوحت به فى قلب الشارع . تزامنت صرخة الولد مع صرخاتنا ، ونحن نتلقى الركلات السريعة المفاجئة من قدم الشاب الصعيدى . أوهمنا أنه مضى بعيداً ، لكنه ظل ـ فى صبر ـ حتى جاءت اللحظة التى اختارها ، فثأر لنفسه !

نهي رجب محمد
06/11/2007, 07:00 AM
شكرا للدكتور حسين علي محمد علي هذا الفيض الغزير عن الروائي محمد جبريل
منذ سنوات قرأت للأستاذ محمد جبريل (اعترافات سيد القرية ) (وقلعة الجبل ) وأعجبت بطريقته في السرد شكرا جزيلا وأظن حديثك يستحق القراءة والإعادة حتي نستفيد منه
سهيلة6/11/2007

نهي رجب محمد
06/11/2007, 07:17 AM
* الثأر *
قصة قصيرة، بقلم: محمد جبريل

حى بحرى هو هذه المنطقة التى تمثل شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية . لا يزيد ـ طولاً أو عرضاً ـ عن كيلو متر واحد . مظهره الأهم غلبة الروحانية . ثمة الجوامع والمساجد والزوايا والصوفية وحلقات الذكر والموالد وغيرها مما يسم الحياة فى بحرى باختلاف مؤكد ، ليس عن بقية أحياء الإسكندرية فحسب ، وإنما عن بقية المناطق المصرية جميعاً . شهر رمضان ـ بالطبع ـ جزء من تلك الروحانية التى تدين لها طفولتى ـ ومحاولاتى الإبداعية فيما بعد ـ بالكثير . الصيام ، صلاة التراويح ، تلاوة القرآن ، المسحراتى ، الكنافة ، القطايف ، حالو ياحالو ، الياميش ، الأضواء ، الفوانيس ، الليل الصاحى ، النهار المتثائب ، السبح ، الأعصاب المنفلتة ، واللهم إنى صايم ، الطرشى ، الفول المدمس ، اللب ، الفول السودانى ، التسالى ، الإذن للأطفال بالسهر مدى شهر كامل ، تقييد الشياطين والجان ، اختفاء العفاريت ..
كنا نسهر إلى موعد السحور . نحمل فى أيدينا ـ عقب الإفطار ـ فوانيس زجاجها ملون ، مصنوعة من الصفيح ، وتضئ بالشمع . أفضل من فوانيس هذه الأيام التى تضئ بالبطارية ! . دعك من وفرة الأمان فى الفوانيس الحالية . ارتعاشة الشمعة قد تحمل الخطر ، لكنها تحمل الحميمية فى الوقت نفسه . نقف أمام دكاكين الحى ، نلوح بالفوانيس ونغنى :
الدكان ده كله عمار وصاحبه ربنا يغنيه
يهبنا صاحب الدكان من الملاليم ما يدخل السعادة إلى نفوسنا ، ربما أضعاف ما نشعر به ونحن نأخذ هبات فى المناسبة نفسها ..
قد يرفض صاحب الدكان ، ويطردنا ، فتعلو أصواتنا :
الدكان ده كله خراب وصاحبه ربنا يعميه
ونجرى ..
وكنا نسلى أنفسنا بما نسميه " شكل للبيع " . ألجأ إلى رشاقة جسدى ـ باعتبار ما كان ـ فأقفز على عنق أحد المارة ممن نتوسم فى ملامحه طيبة . يسقط الرجل ـ بتأثير المفاجأة ـ من طوله ، ويخرج الأولاد من مكامنهم ، وفى أيديهم العصى ، ينهالون عليه بضربات سريعة ، مؤلمة ، ويختفون قبل أن يفيق الرجل من الصدمة ..
تكررت اللعبة ، وطالت عصينا أجساد الكثيرين . مجرد شقاوة عيال يشغلها التسلية وغير المألوف ، وليس إحداث الأذى ..
ثم جاء اليوم الذى كان ينبغى فيه أن ندفع الثمن : قفزت على عنق شاب صعيدى ، ولحقته عصى الأولاد فى سقوطه على الأرض ، واختفينا ـ كالعادة ـ قبل أن يحاول رد ضرباتنا ..
نفض الشاب ثيابه ، ومضى .. وعدنا إلى شكل للبيع وغيرها من الألعاب : الاستغماية ، عنكب يا عنكب ، نطة الإنجليز ، أولها اسكندرانى إلخ ..
قبل السحور ، كان التعب قد هدّنا . جلسنا متجاورين على رصيف الشارع الخلفى لجامع سيدى على تمراز . يغنى أحدنا ، ونردد وراءه ونحن نهز الرءوس :
وحوى يا وحوى .. إيوحه .. وكمان وحوى .. إيوحه ..
فاجأت أولنا ركلة قدم قاسية طوحت به فى قلب الشارع . تزامنت صرخة الولد مع صرخاتنا ، ونحن نتلقى الركلات السريعة المفاجئة من قدم الشاب الصعيدى . أوهمنا أنه مضى بعيداً ، لكنه ظل ـ فى صبر ـ حتى جاءت اللحظة التى اختارها ، فثأر لنفسه !
قص روائي يتولي الراوي الطفل دفة الحكي والمشاركة في صناعة الأحداث بقوم الراوي بالنقل المشهدي للحظات حميمة في تاريخ الصبي الشقي ومغامراته البريئة النص يضعنا مباشرة أمام تراث شعبي مصري بالغ الخصوصية عن شهر مميز له طقوس خاصة خاصة محترمة
الراوي أجاد بذكاء الأحداث وأعادنا أطفالا نلهو الثأر في النهاية خاتمة جيدة ورد فعل تأديبي لهذا الولد المشاغب
تحياتي للقاص وشكرا علي هذا الجهد السردي المميز
سهيلة6/11/2007

نهي رجب محمد
08/11/2007, 08:46 AM
دمت مبدعا يا محمد جبريل ورزقك الله طول العمر لتكتب وتكتب وتنظر كيف شئت للبحر
سهيلة8/11/2007

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 09:57 PM
شكرا للدكتور حسين علي محمد علي هذا الفيض الغزير عن الروائي محمد جبريل
منذ سنوات قرأت للأستاذ محمد جبريل (اعترافات سيد القرية ) (وقلعة الجبل ) وأعجبت بطريقته في السرد شكرا جزيلا وأظن حديثك يستحق القراءة والإعادة حتي نستفيد منه
سهيلة6/11/2007
شُكراً للأديبة المبدعة نهى رجب محمد (سهيلة)
على التعليق، مع موداتي.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 09:58 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
...........................
mlg_38@hotmail.com

إذا كان المازني قد ترجم يوماً مواقف روائية من الأدب الأوروبي. وغزلها في النسيج الفني لبعض أعماله. دون أن يشير إلي ذلك في قريب أو بعيد. لولا إلحاح نقاد عصره وشطارتهم.. فإن مصطفي لطفي المنفلوطي لم يحاول أن ينسب إلي نفسه ما ليس له. بل كان الرجل غاية في الوضوح والصراحة لما اعترف وهو يدفع بأعماله إلي السوق أنه عرب بعض هذه الأعمال. ونقل بعضها الآخر عن لغات أوروبية. دون أن يكون قد تولي الترجمة بنفسه. لأنه لم يكن يحسن إلا العربية.
كان أصدقاء المنفلوطي يتولون الترجمة. في حين يلبس المنفلوطي الرواية. أو القصة. ثوباً عربياً. ويسمي أبطالها بأسماء عربية. وتجري الأحداث في بيئة عربية. ربما ينقل الرواية إلي العربية. بمعني أنه يكتبها بأسلوبه دون أن يبدل في جو القصة. ولا أسماء أبطالها. وإن أنطقهم بجمل لا ينطقها الأوروبيون عادة كآيات من القرآن الكريم. أو أحاديث للرسول. أو بعض الأمثال والحكم التراثية.
كما قلت فإن الرجل كان يمارس عمله الطريف والغريب دون أن يزعم لنفسه ما ليس له. وقدم بهذا الأسلوب "ماجدولين" و"في سبيل التاج" وبعض لوحات "النظرات" و"العبرات" وغيرها.
لكن البعض يتهم المنفلوطي بما أعلن هو نفسه أنه كان يفعله بل إن ناقدا لم يتردد في اتهام المنفلوطي بالسطو علي جبران. وأشار الناقد إلي أن المنفلوطي في نهاية احدي قصصه كتب الحاشية التالية. وضعت هذه القصة علي نسق قصة أمريكية اسمها "صراخ القبور". ولم يشر إلي أنها قصة لجبران!
فإذا عرفنا أن جبران كان آنذاك يقيم في الولايات المتحدة. وأن المنفلوطي لم يكن يحسن الانجليزية. فقد اكتفي طبعاً بالسؤال عن اسم القصة وجنسيتها. ثم أشار إلي ذلك دون أن يشغله ـ وهذا خطأ يصعب التغاضي عنه ـ إن كانت القصة لجبران. أو لسواه.
تصور الرجل أن القصة لكاتب أمريكي. وأعاد صياغتها علي هذا الأساس.. ولو أنه كان يقصد السرقة لبدّل. وغيّر. وأضاف. ثم أهمل الاشارة إلي انه قد حاكي في قصته قصة أمريكية!
أجهد الناقد نفسه وأجهدنا. ليخلص إلي نتيجة خطيرة. وهي أن المنفلوطي كان يعرب. أو ينقل إلي العربية بتصرف أعمالاً ترجمها له الآخرون.
هل كان المنفلوطي يدعي غير هذا؟! وهل ما هو معلن يحتاج إلي تقديمه باعتباره اكتشافاً مثيراً لم يسبق اليه أحد؟!
هامش:
يقول أوكتافيو باث: حين يفسد مجتمع ما. فإن اللغة هي أول ما يصاب بالغرغرينا. والغرغرينا كما تعلم تذكرنا بالبتر. وهو ما قد يلحق بالمجتمع في صميم هويته.
................................
*المساء ـ في 22/12/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 09:59 PM
من المحرر:
الرواية والسينما

بقلم: محمد جبريل
.......................

سألت نجيب محفوظ هل تكتب الرواية وعينك علي السينما؟
قال وهو يرنو إلي النيل من نافذة مكتبه بقصر عائشة فهمي: لو أن ذلك كذلك ما كتبت "الشحاذ"!
لم يكن نجيب محفوظ يتصور أن "الشحاذ" تصلح عملا سينمائيا. عبر عن الشخصيات والأحداث بفنية مضمرة. ولغة موحية. بعكس ما طالعناه في القاهرة الجديدة وخان الخليلي والثلاثية والسمان والخريف واللص والكلاب وغيرها.
لكن الشحاذ تحولت ببراعة كاتب سيناريو يجيد أصول فنه إلى إضافة مهمة للسينما المصرية.
لا صلة للرواية الجيدة بالسيناريو الجيد. والعكس صحيح. قد تتحول الرواية الجيدة إلى سيناريو رديء. وقد يحيل السيناريو الجيد قصة عادية إلى فيلم سينمائي جميل. وربما تتضافر الرواية الجيدة والسيناريو الجيد في تقديم عمل يذكره تاريخ السينما.
لا اعني افتقاد الصلة بين الرواية السردية والسيناريو السينمائي. فالأفلام الكبيرة تدين بنجاحها لأعمال روائية وقصصية، أبدعها مؤلفوها دون أن يضعوا حسابا إلا للقيمة الفنية السردية. ثم وجدت السينما في الرواية أو القصة من القيمة الدرامية ما يتيح تماهيا دراميا مطلوبا بين القصة والسيناريو.
ثمة من يجدون في الرواج الذي تحققه أفلام السينما. والعائد الذي تدره القصص المكتوبة دافعا لان يتجهوا بأعمالهم إلى مشاهد السينما بأكثر من أن تتجه إلى قارئ العمل الأدبي. فهم يذكروننا بمثل الغراب الذي أراد أن يقلد في سيره مشية الطاووس!
لا بأس أن يفيد العمل الأدبي من تقنية السيناريو السينمائي: الفلاش باك. التقطيع. المزج. وغيرها وبديهي أن تعتمد السينما علي قصة. أو حكاية تكون محورا لأحداثها. فلا نبتلي بأفلام يدخل فنانوها وفنيوها الأستديوهات كما يحدث الآن ليصنعوا أي شيء بلا فكرة ولا رابط مجرد صور متتالية تعاني السذاجة والسخف!
لكي تجاوز السينما المصرية مأزقا مستمرا. تعانيه منذ سنوات. فإنها لابد أن تنتج أفلاما في مستوي دعاء الكروان وبداية ونهاية وفي بيتنا رجل والبوسطجي والسقا مات والحرام واللص والكلاب والحفيد والطوق والإسورة وغيرها. وهي أفلام مأخوذة كما نعرف من أعمال أدبية وفي المقابل فان علي الروائيين وكتاب القصة أن يخلصوا للعمل الأدبي وحده. بعيدا عن مغريات السينما المادية والدعائية. وألا تكررت مأساة الغراب الذي لم يحسن مشيته الحقيقية. ولا أحسن التقليد!
هامش :
قول حكيم : عندما تبلغ البحر. فما حاجتك للحديث عن الروافد؟
.................................
*المساء ـ في 10/11/2007م

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:00 PM
كتابات الرواد. .. المجهولة
................................

بقلم: محمد جبريل:
.......................
mlg_38@hotmail.com

أثار الصديق الناقد نبيل فرج في جريدة "القاهرة" قضية المقالات التي لا يعني أصحابها من الأدباء الكبار -في حياتهم- بتجميعها في كتب. فلا تجد -بعد الرحيل- من يعني بعملية الجمع يقتصر مراجعوها علي الدارسين. علي الرغم من أهميتها في التعبير عن فترات تاريخية. أو قضايا فكرية وإبداعية.
أذكر أني وجدت في إشرافي علي كتب دوري فرصة لتجميع الكثير من المقالات التي أهمل أصحابها من كبار المفكرين والأدباء ضمها في كتاب جمعت ذكريات فتحي رضوان مع جمال عبدالناصر التي نشرها في مجلة خليجية. وحين استأذنت رضوان في إصدارها في كتاب بالاسم الذي اختاره لها وهو "72 شهرا مع عبدالناصر". صارحني الرجل أنه قد نسي هذه المقالات تماما. وأحدثت الذكريات -عند صدورها- ردود أفعال لافتة. وأصدر كتاب الهلال طبعة ثانية. أضفت إليها مقالة عن علاقة عبدالناصر بعمه خليل لم أكن فطنت إلي وجودها بين أوراقي.
الشيء نفسه حدث مع عبدالفتاح أبوالفضل نائب رئيس المخابرات الأسبق. من بين آلاف الأوراق التي وضعها أمامي. اخترت مادة كتابه "كنت نائبا لرئيس المخابرات" وعهدت إلي الأديب الراحل الداخلي طه بإعادة صياغة بعض خطب الجمعة التي ألقاها -شفاهة بالعامية- الإمام الشعراوي. وضمنتها كتابا بعنوان "هذا هو الإسلام".
اتصلت بأحمد بهاء الدين أطلب مقالاته في مجلة "المستقبل" الباريسية. رحب بالفكرة. لكنه فضل أن ينشر المقالات بواسطة ناشره.
وطلب يوسف إدريس أن اتصل به قبل أسبوعين من مكالمتنا الهاتفية. حتي ينتهي من إعداد كتاب -تنقصه بعض اللمسات- عن علاقته بثورة يوليو وبتحمسه المعروف روي لي إدريس -عبر الهاتف- ما تتضمنه فصول الكتاب الذي انتهي -كما قال- من وضعه وحين اتصلت به فاجأني بأنه نسي الأمر تماما وأدركت أنه لم يكن قد ألف الكتاب. وأنه اكتفي بالرواية الشفهية دليلي أنه لم يصدر للرجل -حتي الآن- ما يشي بهذا الكتاب!
زرت عبدالرحمن الشرقاوي في "الأهرام" أبدي تحمسه للفكرة. ووعد أن يضع في يدي ما صدر له من مقالات. لتصنيفها وإصدارها في أكثر من كتاب كان يعاني مرضا ألزمه مد قدمه -معتذرًا- علي كرسي مقابل واتصل بي الشرقاوي ذات مساء. يبلغني أنه يعد نفسه إلي الخارج. ووحددنا موعدًا يسلمني فيه -عقب العودة- مقالاته المنشورة في الصحف لكن الشرقاوي عاد إلي مصر دون أن تزايله تأثيرات المرض. ثم ماتت الفكرة بموت الشرقاوي.
ظني أن الاجتهادات الببليوجرافية يجب ألا تقتصر جدواها علي الدارسين. فلابد من إصدارها في كتب ولعلي أجد في مقالات المازني -له مقالات كثيرة لم تصدر في كتب- والزيات وشكري وأحمد عباس صالح ونعمان عاشور وغيرهم. كنوزًا ثقافية. من المهم أن تطالع القاريء في تعدد مستوياته الثقافية.
أعرف أن هيئاتنا الثقافية التابعة للدولة تعاني في اختيار ما تدير به مطابعها ومن المؤكد أن هذه الكتابات الريادية تمثل ملمحًا مهمًا في وجه ثقافتنا المعاصرة.
.................................................
*المساء ـ في 24/11/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:00 PM
مجلة ثقافية جديدة

بقلم: محمد جبريل
....................


أياً تكن التسمية ستطلق علي المجلة الثقافية الجديدة التي أعلن الدكتور أحمد نوار رئيس هيئة قصور الثقافة عن قرب صدورها. فإنها تلبي احتياجا حقيقيا للساحة الثقافية.
كانت "الكاتب المصري" هي المجلة التي قدم من خلاله طه حسين عشرات الأعمال الجادة. ما بين مؤلفة ومترجمة. وكانت "عالم الكتاب" هي المجلة التي تواصل صدورها أعواماً. وأسهمت في ملاحقة إصدارات المطابع. بما شكل "فاترينة" متجددة أمام الدارسين ومحبي القراءة. أما "الكاتب" فهي المجلة التنويرية المهمة التي تعاقب علي رئاسة تحريرها عدد من أبرز المثقفين المصريين: أحمد حمروش وأحمد عباس صالح وصلاح عبد الصبور. وحاولت أسرة تحريرها مقاومة القرار المتعسف بإغلاقها. لكن حجب الدعم المادي عجَّل بالنهاية القاسية.
المجلة المشروع اختير لها اسم من الأسماء الثلاثة التي أشرت إليها. وعلي الرغم مما يثيره كل اسم من دلالات مهمة. فان مجرد إصدار مجلة ثقافية جديدة هو حدث يستحق الاحتفاء.
كانت بعض القيادات السابقة لهيئة الكتاب مولعة بالإلغاء. لم يكن التطوير واردا إنما الحل الأسهل هو إغلاق الباب الذي قد تأتي منه الريح. وغابت عن حياتنا مجلات يصعب تعويضها. أذكرك بمجلة يحيي حقي. وفكر زكي نجيب المعاصر. وقاهرة إبراهيم حمادة وغالي شكري. وعالم كتاب سعد الهجرسي. ومجلات أخري مثلت نوافذ لكتابات الأدباء والشعراء والمفكرين.
وبصراحة. فإن أزمة النشر الحادة التي بلغت حد تقاضي ناشرين مبتزين حق الطباعة من الكتاب بدلا من أن يتقاضي الكتاب مقابلا لما يكتبون.. هذه الأزمة لن تمثل الكتب حلها الوحيد. فالكتاب في الأغلب يؤلفه كاتب واحد أما المجلة فإنها تستوعب الكثير من الكتابات في العدد الواحد. والأمر بالطبع لا يقتصر علي أزمة النشر. لكنه يتجاوزها بحيث تصبح هذه المجلات ملتقيات تطرح فيها الإبداعات الحديثة. والدراسات التي تعني بالتأصيل. وتقديم وجهات النظر الموضوعية وتحريك الراكد بعامة. وفي الموازاة. إعادة المعارك الفكرية إلي مسارها الصحيح.. القديم. بعيدا عن المتاجرة والابتزاز والشللية ومحاولات فرض الوصاية.
اسم المجلة يجب ألا يستوقفنا. المهم أن تبدأ خطوات إصدارها. لتلبي احتياجا فعليا للثقافة والمثقفين.
هامش:
تقول الكاتبة الإيرانية الراحلة فروغ فزخزاد: أؤمن بأني شاعرة في كل الأوقات. أن يكون المرء شاعرا يعني أن يكون إنسانا. أعرف بعض الشعراء الذين لا تمت تصرفاتهم اليومية إلي قصائدهم بصلة. بمعني آخر. هم فقط شعراء يكتبون الشعر. بعدئذ ينتهي الأمر. ويتحولون إلي أشخاص جشعين. منغمسين في اللذات قامعين قصيري البصيرة. يائسين وغيورين لا يمكنني أن أصدق قصائدهم أنا أقدر وقائع الحياة. وعندما أجد هؤلاء السادة يصرخون ويصيحون في قصائدهم ومقالاتهم ينتابني القرف. وأشك في نزاهتهم. أقول لنفسي: ربما يصيحون لصحن من الأرز فقط!
....................................
*المساء ـ في 1/12/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:04 PM
ماوراء الحكايات
محمد جبريل.. ابداع برائحة البحر

حوار - نعمة عز الدين
...........................

في عام 1938 شهدت مصر انتقال القوات البريطانية من القاهرة والاسكندرية الي القناة، واستعدت مصر لمواجهة الحرب العالمية التي بدت نذرها في الافق، وخرجت الي الشوارع مظاهرات تهتف بحياة زعيم الوفد وتتهم محمد محمود بمحاولة اغتياله، واعلن عن تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال المملكة المصرية، وارتفع فيضان النيل الي حد الخطر،
واصدر طه حسين كتابه العلامة »مستقبل الثقافة في مصر« واذاع عدد من الفنانين والكتاب الطليعيين المصريين - متأثرين بسريالية أندريه بريتون - مانفنستو »يحيا الفن المنحط« وفي خضم هذا الغليان السياسي والاجتماعي ولد الاديب الكبير »محمد جبريل« في حي بحري بالاسكندرية وبرغم انتقاله للعمل والاقامة في القاهرة فان رائحة الاسكندرية لا تغيب ابدا عن معظم اعماله، والتي نذكر منها »إمام آخر الزمان«، »من اوراق ابن الطيب المتنبي«، »رباعية بحري«، »قلعة الجبل«، »ماذكر من اخبار عن الحاكم بأمر الله«، »مصر المكان«، »مصر في قصص كتابها المعاصرين«، »قراءة في شخصيات مصرية« بالاضافة الي أكثر من 90 قصة قصيرة تجعل الولوج الي عالمه الانساني نوعا من الإبحار الممتع.
يقول »محمد جبريل«: حي بحري الذي ولد وعاش فيه طفولته نشأت في بيئة تحض عن عشق الموروث الشعبي، حي بحري شبه جزيرة في شبه جزيرة الاسكندرية الي اليمين الميناء الشرقي، او المينا الشرقية في تسمية السكندريين والي اليسار الميناء الغربي او المينا الغربية، وفي المواجهة خليج الانفوشي، ما بين انحناءة الطريق من نقطة الانفوش الي سراي رأس التين.
هذه البيئة تتميز بخصوصية مؤكدة فالبنية السكانية تتألف من العاملين في مهنة الصيد وما يتصل بها ومن العاملين في الميناء وصغار الموظفين واعداد من الحرفيين والمترددين علي الجوامع والزوايا والاضرحة، فضلاً عن الآلاف من طلبة المعهد الديني بالمسافرخانة.
واذا كان لبيئة البحر وما يتصل بها، انعكاسها في العديد من اعمالي الابداعية، فان البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك في تلك الاعمال، مثل جوامع ابو العباس وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلي تمراز وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع اولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم واضرحتهم، وثمة الموالد وليالي الذكر والاهازيج والاسحار والتواشيح، وليالي رمضان وتياترو فوزي منيب وسرادق احمد المسيري وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح في سراي رأس التين، والتواشيح واحتفالات الاعياد: سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والاراجوز والساحر والمرأة الكهربائية، وألعاب النشان والقوة وركوب الحنطور من ميدان المنشية الي مدرسة ابراهيم الاول وتلاقي الأذان من المآذن المتقاربة والبخور والمجاذيب والمساليب، والباحثين عن البرء من العلل والمدد، بالاضافة الي المعتقدات والعادات والتقاليد التي تمثل في مجموعها موروثا يحفل بالخصوصية والتميز حين اراجع اعمالي الابداعية بدءا من قصتي القصيرة الاولي (الي الآن حوالي 90 قصة قصيرة و18 رواية) فان تأثير ذلك كله يبين في العديد من المواقف والشخصيات وفي تنامي الاحداث.
في »رباعية بحري« يشعر الكاتب الكبير محمد جبريل أنه كتب كل ما في مخزونه الروحي ووصف طفولته وصباه متنقلا بين الجوامع الاربعة قائلا: رباعية بحري عملي روائي من اربعة اجزاء: أبو العباس، ياقوت العرش البوصيري، علي تمراز، تعرض للحياة في حي بحري منذ اواخر الحرب العالمية الثانية الي مطالع ثورة يوليو 1952 لوحات منفصلة حيث تكامل اللحظة القصصية، ومتصلة من حيث اتصال الاحداث، وتناغم المواقف وتكرار الشخصيات انسية التي طالعتنا في بداية الجزء الاول من الرباعية، هي انسية التي انتهت بها احداث الجزء الرابع والاخير، وما بين البداية والنهاية نتعرف الي دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وانجاب وشيخوخة ووفاة، فضلاً عن الحياة في المعهد الديني بالمسافر خانة، وحلقة السمك وحياة الفتوات والعوالم وما يتسم به ذلك كله من اختلاف وتميز، بقدر اختلاف البيئة وتميزها، علي سبيل المثال فإن الحياة في البحر وصلة البحر واليابسة، والمؤمنين بطهارة الماء وقدرة البحر علي اعمال السحر، والحكايات والمعتقدات عن عرائس البحر والعوالم الغريبة وكنوز الاعماق، والخرافة، والاسطورة والزي التقليدي، والمواويل، والاغنيات، والامثال، والحكايات، وخاتم سليمان، والمهن المتصلة بمهنة الصيد كالصيد بالسنارة والطراحة والجرافة، واسرار الغوص في اعماق البحر، وغزل الشباك وصناعة البلانسات والفلايك والدناجل وغيره وركوب البحر، وبيع الجملة في حلقة السمك وبائعي الشروات.. ذلك كله يتضح في الشخصيات التي كانت الحياة في البحر مورد الرزق الاهم - او الوحيد - لها.
وفي قصصي القصار تتناثر لمحات من الموروث الشعبي، متمثلة في العديد من سلوكيات الحياة والمفردات والتعبيرات، وغيرها مما يعبر عن التميز الذي تتسم به منطقة بحري في حدودها الجغرافية المحددة والمحدودة: الزي الوطني، الطب الشعبي، العاب الاطفال وأغنياتهم، نداءات الباعة، الكناية، التكية المعايره، القسم، الطرفة، المثل، الحلم، وغيرها..
والحق انني حين اراجع ابداعاتي التي وظفت - او استلهمت الموروث الشعبي اجد انها وليدة العفوية - ومحاولة التعبير عن الواقع، هذا هو ما افرزته تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرف الي الخبرات، لم أتعمد الافادة من الموروث الشعبي بل هو الذي فرض معطياته في مجموع ماكتبت مثل روايتي القصيرة: »الصهبة« وروايتي: »بوح الاسرار«، و»زهرة الصباح« وغيرها.
علي الرغم من نشأة الكاتب محمد جبريل يتيم الام - لقد ماتت والدته وهو دون العاشرة من عمره - الا انه يتحدث عن اثرها البالغ في تكوينه الابداعي قائلا: وعدت القارئ في سيرتي الذاتية »حكايات عن جزيرة فاروس« بأن يقتصر ما اذكره من الاعوام القليلة التي أمضتها امي في حياتنا علي بعض الصور او الومضات السريعة، رحلت امي قبل ان أبلغ العاشرة فتصورت ان ما اذكره لن يجاوز تلك الفترة الباكرة من حياتي فضلاً عن غياب الوعي بصورة كاملة او جزئية في الاعوام الاولي منها، لكن الذكريات التي كانت مطمورة مالبثت ان استردتها الكتابة وهو ما سجلته في »مد الموج« و»الحياة ثانية« و»اغنيات« في العديد من اعمالي الروائية والقصصية.
ولعل رصيد امي هو اول ما اذكره من أيامها بيننا، أشرت اليه في العديد من لوحات السيرة الذاتية، والقصص القصيرة وفي فصول سيرتي الذاتية، قالت الجدة في شقة الطابق الرابع انها كانت تجلس بجوار امي تعودها لما انتفضت امي - فجأة - واشارت الي مالم تتبينه العجوز وهتفت: ابعدوه من هنا! ثم سكت صوتها وجسدها امرني ابي بالنزول الي الطبيب الارمني في الطابق الاول، صعد الطبيب السلم بخطوات متباطئة وكان يقف في كل طابق، امام النافذة المطلة علي الشارع الخلفي، ربما ليأخذ انفاسه وكنت ادعوه - بيني وبين نفسي - الي الاسراع في الصعود كي ينقذ امي، أطال الطبيب تأمل الجسد الساكن، كانت العينان جاحظتين، والبطن منتفخا بصورة ملحوظة والجسد بكامله متصلبا، كأنه وضع في قالب، مال الرجل علي صدر امي وباعد بأصبعيه بين الجفنين، وضغط بقبضة يده علي البطن المنتفخة ثم هز رأسه في اسي: ماتت!
كانت امي مثلاً للحنان والقسوة في آن تثيب للفعل الطيب وتعاقب للخطأ التافه او الذي اتصوره تافها - كانت كما رويت في »مد الموج« تصر علي ان نذاكر حتي موعد النوم وترفض نزولنا للعب في الشارع الخلفي، لكنها كانت تحرص علي ان نجلس بحوار الراديو لسماع بابا صادق ثم بابا شارو في موعد برنامج الاطفال، ووافقت علي اقتراح اخي الاكبر بأن نشتري قطعة جاتوه بنقود العيدية التي اعطاها لنا خالي ووضعتها امي في درج الكومودينو وقالت امي: هل اذنت لكم قال اخي انها فلوسنا، ألقت علي الارض ماكانت تحمله، وسحبت من فوق الدولاب حبلا كانت تخصصه لعقابنا، لفته حول اقدامنا وتوالت ضرباتها بالشماعة حتي اجهدها التعب.
ماتت امي وكبرت انا وتزوجت وانجبت وكان من الطبيعي ان تعود الذكريات وتنشأ المقارنة وتتوضح معان كانت غائبة، من بينها اشفاق الابوين علي مستقبل ابنائهما والفارق بين التدليل والافساد والتعويد علي الحياة السهلة او تلك التي تحرص علي القيم كان الاشفاق والحنان والخشية من الانحراف هو الباعث وراء الايذاء المتواصل من امي.. ادركت ذلك متأخرا وبعد فوات الاوان.
يقول الكاتب الكبير محمد جبريل محدثا نفسه: قد تهبني هامشية من الخبرات اضعاف ما احصل عليه من شخصية اختزنت المعرفة فظلت ساكنة في داخل الذهن والوجدان دون تأثير حقيقي عليها، وعلي من يخالطونها وتعبير آخر فإن التأثير والتأثير، لا صلة لهما بمعرفة ولا ثقافة ولا مرحلة سنية وازعم انني افدت من رحلة امي القصيرة في حياتي ومن رفعة زوجتي زينب العسال الناصحة المشفقة المتدبرة ومن تمازج الطفولة والوعي في ابنتي امل لما لم تبدله الاعوام، ولعلني اذكر زواج خادمتنا »دهب« واستقلالها بحياتها لكنها ظلت علي صلتها الاسرية بنا، تزورنا وتسأل عن احوالنا - بالذات بعد ان رحلت امي - واضطر ابي - بتأثير المرض - الي لزوم البيت والاعتذار عن غالبية الاعمال التي عرضت عليه وكان مترجما! وعانينا ظروفا بالغة القسوة وصارحنا ابي - ذات يوم - ان »دهب« عرضت عليه مبلعا نجاوز به ظروفنا، وارفق ابي شكره باعتذار مؤدب فقد كان - كما قال لنا - يعرف ظروف دهب جيداً.
اذكر ايضا زوجة عم احمد الفكهاني في الشارع الخلفي الواصل بين بيتنا وجامع سيدي علي تمراز كانت اشد منا حرصا علي »الغديوه« التي نقيمها كل بضعة ايام، ابنها فتحي واخي وانا، نفسح لها اسفل عربة الفاكهة الصندوقية الشكل، تضيف الي ما نأتي به ثمار الفكاهة وطبق سلطة خضراء وخبز ساخن من الفرن القريب، تظل طيلة جلوسنا في ظل العربة توصينا بأنفسنا، وبالمذاكرة، وتدعو الله ان يفتح لنا ابواب المستقبل بشخصية الام المصرية في مثالها المكتمل!
................................
*الوفد ـ في 26/9/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:04 PM
ماوراء الحكايات
محمد جبريل.. ابداع برائحة البحر

حوار - نعمة عز الدين
...........................

في عام 1938 شهدت مصر انتقال القوات البريطانية من القاهرة والاسكندرية الي القناة، واستعدت مصر لمواجهة الحرب العالمية التي بدت نذرها في الافق، وخرجت الي الشوارع مظاهرات تهتف بحياة زعيم الوفد وتتهم محمد محمود بمحاولة اغتياله، واعلن عن تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال المملكة المصرية، وارتفع فيضان النيل الي حد الخطر،
واصدر طه حسين كتابه العلامة »مستقبل الثقافة في مصر« واذاع عدد من الفنانين والكتاب الطليعيين المصريين - متأثرين بسريالية أندريه بريتون - مانفنستو »يحيا الفن المنحط« وفي خضم هذا الغليان السياسي والاجتماعي ولد الاديب الكبير »محمد جبريل« في حي بحري بالاسكندرية وبرغم انتقاله للعمل والاقامة في القاهرة فان رائحة الاسكندرية لا تغيب ابدا عن معظم اعماله، والتي نذكر منها »إمام آخر الزمان«، »من اوراق ابن الطيب المتنبي«، »رباعية بحري«، »قلعة الجبل«، »ماذكر من اخبار عن الحاكم بأمر الله«، »مصر المكان«، »مصر في قصص كتابها المعاصرين«، »قراءة في شخصيات مصرية« بالاضافة الي أكثر من 90 قصة قصيرة تجعل الولوج الي عالمه الانساني نوعا من الإبحار الممتع.
يقول »محمد جبريل«: حي بحري الذي ولد وعاش فيه طفولته نشأت في بيئة تحض عن عشق الموروث الشعبي، حي بحري شبه جزيرة في شبه جزيرة الاسكندرية الي اليمين الميناء الشرقي، او المينا الشرقية في تسمية السكندريين والي اليسار الميناء الغربي او المينا الغربية، وفي المواجهة خليج الانفوشي، ما بين انحناءة الطريق من نقطة الانفوش الي سراي رأس التين.
هذه البيئة تتميز بخصوصية مؤكدة فالبنية السكانية تتألف من العاملين في مهنة الصيد وما يتصل بها ومن العاملين في الميناء وصغار الموظفين واعداد من الحرفيين والمترددين علي الجوامع والزوايا والاضرحة، فضلاً عن الآلاف من طلبة المعهد الديني بالمسافرخانة.
واذا كان لبيئة البحر وما يتصل بها، انعكاسها في العديد من اعمالي الابداعية، فان البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك في تلك الاعمال، مثل جوامع ابو العباس وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلي تمراز وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع اولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم واضرحتهم، وثمة الموالد وليالي الذكر والاهازيج والاسحار والتواشيح، وليالي رمضان وتياترو فوزي منيب وسرادق احمد المسيري وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح في سراي رأس التين، والتواشيح واحتفالات الاعياد: سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والاراجوز والساحر والمرأة الكهربائية، وألعاب النشان والقوة وركوب الحنطور من ميدان المنشية الي مدرسة ابراهيم الاول وتلاقي الأذان من المآذن المتقاربة والبخور والمجاذيب والمساليب، والباحثين عن البرء من العلل والمدد، بالاضافة الي المعتقدات والعادات والتقاليد التي تمثل في مجموعها موروثا يحفل بالخصوصية والتميز حين اراجع اعمالي الابداعية بدءا من قصتي القصيرة الاولي (الي الآن حوالي 90 قصة قصيرة و18 رواية) فان تأثير ذلك كله يبين في العديد من المواقف والشخصيات وفي تنامي الاحداث.
في »رباعية بحري« يشعر الكاتب الكبير محمد جبريل أنه كتب كل ما في مخزونه الروحي ووصف طفولته وصباه متنقلا بين الجوامع الاربعة قائلا: رباعية بحري عملي روائي من اربعة اجزاء: أبو العباس، ياقوت العرش البوصيري، علي تمراز، تعرض للحياة في حي بحري منذ اواخر الحرب العالمية الثانية الي مطالع ثورة يوليو 1952 لوحات منفصلة حيث تكامل اللحظة القصصية، ومتصلة من حيث اتصال الاحداث، وتناغم المواقف وتكرار الشخصيات انسية التي طالعتنا في بداية الجزء الاول من الرباعية، هي انسية التي انتهت بها احداث الجزء الرابع والاخير، وما بين البداية والنهاية نتعرف الي دورة الحياة من ميلاد وطفولة وختان وخطبة وزواج وانجاب وشيخوخة ووفاة، فضلاً عن الحياة في المعهد الديني بالمسافر خانة، وحلقة السمك وحياة الفتوات والعوالم وما يتسم به ذلك كله من اختلاف وتميز، بقدر اختلاف البيئة وتميزها، علي سبيل المثال فإن الحياة في البحر وصلة البحر واليابسة، والمؤمنين بطهارة الماء وقدرة البحر علي اعمال السحر، والحكايات والمعتقدات عن عرائس البحر والعوالم الغريبة وكنوز الاعماق، والخرافة، والاسطورة والزي التقليدي، والمواويل، والاغنيات، والامثال، والحكايات، وخاتم سليمان، والمهن المتصلة بمهنة الصيد كالصيد بالسنارة والطراحة والجرافة، واسرار الغوص في اعماق البحر، وغزل الشباك وصناعة البلانسات والفلايك والدناجل وغيره وركوب البحر، وبيع الجملة في حلقة السمك وبائعي الشروات.. ذلك كله يتضح في الشخصيات التي كانت الحياة في البحر مورد الرزق الاهم - او الوحيد - لها.
وفي قصصي القصار تتناثر لمحات من الموروث الشعبي، متمثلة في العديد من سلوكيات الحياة والمفردات والتعبيرات، وغيرها مما يعبر عن التميز الذي تتسم به منطقة بحري في حدودها الجغرافية المحددة والمحدودة: الزي الوطني، الطب الشعبي، العاب الاطفال وأغنياتهم، نداءات الباعة، الكناية، التكية المعايره، القسم، الطرفة، المثل، الحلم، وغيرها..
والحق انني حين اراجع ابداعاتي التي وظفت - او استلهمت الموروث الشعبي اجد انها وليدة العفوية - ومحاولة التعبير عن الواقع، هذا هو ما افرزته تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرف الي الخبرات، لم أتعمد الافادة من الموروث الشعبي بل هو الذي فرض معطياته في مجموع ماكتبت مثل روايتي القصيرة: »الصهبة« وروايتي: »بوح الاسرار«، و»زهرة الصباح« وغيرها.
علي الرغم من نشأة الكاتب محمد جبريل يتيم الام - لقد ماتت والدته وهو دون العاشرة من عمره - الا انه يتحدث عن اثرها البالغ في تكوينه الابداعي قائلا: وعدت القارئ في سيرتي الذاتية »حكايات عن جزيرة فاروس« بأن يقتصر ما اذكره من الاعوام القليلة التي أمضتها امي في حياتنا علي بعض الصور او الومضات السريعة، رحلت امي قبل ان أبلغ العاشرة فتصورت ان ما اذكره لن يجاوز تلك الفترة الباكرة من حياتي فضلاً عن غياب الوعي بصورة كاملة او جزئية في الاعوام الاولي منها، لكن الذكريات التي كانت مطمورة مالبثت ان استردتها الكتابة وهو ما سجلته في »مد الموج« و»الحياة ثانية« و»اغنيات« في العديد من اعمالي الروائية والقصصية.
ولعل رصيد امي هو اول ما اذكره من أيامها بيننا، أشرت اليه في العديد من لوحات السيرة الذاتية، والقصص القصيرة وفي فصول سيرتي الذاتية، قالت الجدة في شقة الطابق الرابع انها كانت تجلس بجوار امي تعودها لما انتفضت امي - فجأة - واشارت الي مالم تتبينه العجوز وهتفت: ابعدوه من هنا! ثم سكت صوتها وجسدها امرني ابي بالنزول الي الطبيب الارمني في الطابق الاول، صعد الطبيب السلم بخطوات متباطئة وكان يقف في كل طابق، امام النافذة المطلة علي الشارع الخلفي، ربما ليأخذ انفاسه وكنت ادعوه - بيني وبين نفسي - الي الاسراع في الصعود كي ينقذ امي، أطال الطبيب تأمل الجسد الساكن، كانت العينان جاحظتين، والبطن منتفخا بصورة ملحوظة والجسد بكامله متصلبا، كأنه وضع في قالب، مال الرجل علي صدر امي وباعد بأصبعيه بين الجفنين، وضغط بقبضة يده علي البطن المنتفخة ثم هز رأسه في اسي: ماتت!
كانت امي مثلاً للحنان والقسوة في آن تثيب للفعل الطيب وتعاقب للخطأ التافه او الذي اتصوره تافها - كانت كما رويت في »مد الموج« تصر علي ان نذاكر حتي موعد النوم وترفض نزولنا للعب في الشارع الخلفي، لكنها كانت تحرص علي ان نجلس بحوار الراديو لسماع بابا صادق ثم بابا شارو في موعد برنامج الاطفال، ووافقت علي اقتراح اخي الاكبر بأن نشتري قطعة جاتوه بنقود العيدية التي اعطاها لنا خالي ووضعتها امي في درج الكومودينو وقالت امي: هل اذنت لكم قال اخي انها فلوسنا، ألقت علي الارض ماكانت تحمله، وسحبت من فوق الدولاب حبلا كانت تخصصه لعقابنا، لفته حول اقدامنا وتوالت ضرباتها بالشماعة حتي اجهدها التعب.
ماتت امي وكبرت انا وتزوجت وانجبت وكان من الطبيعي ان تعود الذكريات وتنشأ المقارنة وتتوضح معان كانت غائبة، من بينها اشفاق الابوين علي مستقبل ابنائهما والفارق بين التدليل والافساد والتعويد علي الحياة السهلة او تلك التي تحرص علي القيم كان الاشفاق والحنان والخشية من الانحراف هو الباعث وراء الايذاء المتواصل من امي.. ادركت ذلك متأخرا وبعد فوات الاوان.
يقول الكاتب الكبير محمد جبريل محدثا نفسه: قد تهبني هامشية من الخبرات اضعاف ما احصل عليه من شخصية اختزنت المعرفة فظلت ساكنة في داخل الذهن والوجدان دون تأثير حقيقي عليها، وعلي من يخالطونها وتعبير آخر فإن التأثير والتأثير، لا صلة لهما بمعرفة ولا ثقافة ولا مرحلة سنية وازعم انني افدت من رحلة امي القصيرة في حياتي ومن رفعة زوجتي زينب العسال الناصحة المشفقة المتدبرة ومن تمازج الطفولة والوعي في ابنتي امل لما لم تبدله الاعوام، ولعلني اذكر زواج خادمتنا »دهب« واستقلالها بحياتها لكنها ظلت علي صلتها الاسرية بنا، تزورنا وتسأل عن احوالنا - بالذات بعد ان رحلت امي - واضطر ابي - بتأثير المرض - الي لزوم البيت والاعتذار عن غالبية الاعمال التي عرضت عليه وكان مترجما! وعانينا ظروفا بالغة القسوة وصارحنا ابي - ذات يوم - ان »دهب« عرضت عليه مبلعا نجاوز به ظروفنا، وارفق ابي شكره باعتذار مؤدب فقد كان - كما قال لنا - يعرف ظروف دهب جيداً.
اذكر ايضا زوجة عم احمد الفكهاني في الشارع الخلفي الواصل بين بيتنا وجامع سيدي علي تمراز كانت اشد منا حرصا علي »الغديوه« التي نقيمها كل بضعة ايام، ابنها فتحي واخي وانا، نفسح لها اسفل عربة الفاكهة الصندوقية الشكل، تضيف الي ما نأتي به ثمار الفكاهة وطبق سلطة خضراء وخبز ساخن من الفرن القريب، تظل طيلة جلوسنا في ظل العربة توصينا بأنفسنا، وبالمذاكرة، وتدعو الله ان يفتح لنا ابواب المستقبل بشخصية الام المصرية في مثالها المكتمل!
................................
*الوفد ـ في 26/9/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:05 PM
حوار مع د.ناصر الأنصاري رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب
.................................................. ................................

د.ناصر الأنصاري: ليس عندنا أزمة في النشر.. هناك بعض المشكلات
الكتاب المطبوع له قراؤه.. رغم التطور الاليكتروني
المركز القومي للترجمة.. لن يؤثر علينا بالسلب

حاوره: محمد جبريل
........................

علي الرغم من تعدد الحلول لمشكلة النشر فإن الأزمة لاتزال قائمة. سواء من خلال القوائم الطويلة في هيئات الدولة. والتي تمتد إلي أكثر من خمس سنوات. أو من خلال تقاضي دور النشر الخاصة مبالغ مرتفعة من المؤلفين مقابلاً لنشر كتبهم. وهو ما اضطر كتاباً مرموقين إلي التنازل عن حقوق نشر كتبهم دون مقابل. بل إن الأديب الكبير إدوار الخراط اتجه بأصبع الإدانة ضد هيئة الكتاب لأنها لم تصدر حتي الآن أعماله الكاملة.
ونسأل د.ناصر الأنصاري رئيس هيئة الكتاب: من وجهة نظرك كمثقف. ما الحلول الجذرية لأزمة النشر؟
قال: هناك فرق كبير بين أن تكون هناك أزمة. وأن النشر يعاني بعض المشكلات. أي أن هناك عملاً يجب أن يقيم. بحيث تحل المشكلات. ونحن كمسئولين يجب أن نضع تصورات موضوعية لحل هذه المشكلات. وإن كنت لا أوافق علي القول إن هناك أزمة.
هناك مشكلات في التوزيع. لدينا شركتان فقط تحتكران التوزيع. ومعظم دور النشر ليس لديها مكتبات. فهي تنتظر معرض الكتاب من العام إلي العام كي تعرض إصداراتها علي الجمهور. الشيء نفسه علي المستوي العربي. مع أن لدينا ميزة لا نحسن استغلالها. وهي أن 22 دولة تتكلم لغة واحدة هي اللغة العربية. بالإضافة طبعاً إلي الناطقين بلغتنا الجميلة وهم كثرة في أرجاء العالم. لكن كتب الوطن العربي لا تباع للأسف في مصر. والعكس صحيح. هذه واحدة من المشكلات التي يمكن أن نجد لها حلاً. وإن كان هذا لا يعني أن نطلق عليها تعبير أزمة.
قلنا: ما رأيك في دور النشر الخاصة التي تحصل علي ثمن النشر بدلا منا دفع مكافأة للمؤلف؟
قال: هذه ظاهرة فريدة. لكنها ليست منتشرة. وأنا لا أدري لماذا يلجأ الكاتب إلي ناشر كهذا؟!
قلنا: لأن منافذ النشر غير متاحة
قال: لدينا نظام عمل معروف للجميع. عند نشر العمل يوضع عقد. ويحصل المؤلف علي مكافأته. هل يوجد كاتب يحترم عمله ويرضي بالتنازل عن حقه؟!
حق المؤلف
قلنا: هناك الشباب.
قال: لا أعتقد. فلدينا سلاسل لإبداع الشباب. صحيح أن هناك ضغطاً في النشر. لكن الذي يستحق النشر هو الذي ينشر. قد يلجأ مؤلف رفض عمله إلي هذا الأسلوب. ولكن هناك دور نشر محترمة تعرف حق المؤلف. وتحرص علي أن ينال هذا الحق. وأحدثت بالفعل طفرة في نشر الكتب.
قلنا: سلسلة الجوائز من إنجازات الهيئة.. لكن أي جوائز.. ألا تري أن بعض ما نشر دون المستوي؟
قال: نحن نقصد الجوائز العربية والعالمية. بالإضافة إلي الجوائز المصرية. وفي مقدمة الضوابط أن يكون المطبوع حاصلاً علي جائزة كبري معروفة في مصر. وجوائز الدولة لا غبار عليها لأنها تصدر عن المجلس الأعلي للثقافة. كما أخذنا من جائزة أبها وجائزة سلطان العويس. لكن يبقي التركيز علي الجوائز العالمية. أخذنا من جائزة نوبل. ثم جوائز الدول مثل فرنسا وانجلترا والولايات المتحدة. وسوف نلجأ إلي دول أخري ذات ثقل ثقافي معروف.
مكتبة الأسرة
قلنا: ما الجديد في مشروع مكتبة الأسرة هذا العام؟
قال: لم تجتمع اللجنة التي تضع الأسس والخطوط الرئيسية. ثم يبدأ التنفيذ. وأذكر أننا قدمنا في العام الماضي شيئاً جديداً لم تلتفت إليه الصحافة. وهو أن جميع مطبوعات مكتبة الأسرة اعتمدت في أغلفتها علي أهم الأعمال الفنية لعدد كبير من الفنانين التشكيليين. من جميع الاتجاهات والأعمار. كما أننا قدمنا إلي جانب النص الأدبي تعريفاً بالفنان التشكيلي.
قلنا: ما أثير حول مجلة "إبداع" في الفترة الأخيرة يجعلنا نسأل: من الذي يشرف بصورة فعلية علي المجلات التي تصدرها الهيئة؟
قال: بالطبع أسرة التحرير. ولها حرية. لكنها حرية مقيدة. فالمجلة تصدر عن هيئة الكتاب المصرية المعنية بالنشر في مصر. هناك سياسة خاصة بالنشر داخل الهيئة. بالنسبة للمجلات والدوريات التي تصدرها. وأي دار نشر لها سياسة تخضع لها المطبوعات التي تصدرها. لابد من معايير لتحقيق أهداف بعينها. ولابد أن تترجم هذه الأهداف إلي سياسات. وكل ناشر يراجع دائماً سياساته. ومدي تحقيق أهدافه.
مجلات
قلنا: ألا تلحظ أن هناك توقفاً للكثير من مجلات الهيئة؟
قال: بالعكس. فصول تصدر بانتظام بعد أن توقفت في فترة سابقة. وعادت إبداع. ونعد للعدد الجديد من عالم الكتب. وهناك مجلة ترصد الكتب التي تصدر داخل مصر وخارجها. وأن أشرف عليها إلي الآن. هناك أيضاً مجلة العلم والحياة. أريد أن أعيدها بطريقة أفضل من خلال تعاون مشترك بينها وبين المجلات العلمية في العالم كله. وبالنسبة لمجلة الفنون الشعبية. فقد اتفقت مع د.أحمد مرسي علي أن يشرك جمعية الفنون الشعبية في التكلفة. كي نوفر علي القارئ عبء السعر.
قلنا: سمعنا كثيراً عن تعاون الهيئة مع هيئات ومؤسسات عالمية؟
قال: نحن نرحب بأي تعاون. ونسعي إليه. لكن لم يعرض علينا حتي الآن شيء جاد. أنا مع التعاون العربي بالكامل. وأفكر فيه دائماً. وقد بدأنا بالمعرض العربي بالإسكندرية في العام الماضي. وسنعيده هذا العام.
قلنا: هل سينشأ تعاون بين الهيئة ومركز الترجمة؟ وإلي أي مدي؟
قال: لا مانع بالطبع من قيام تعاون ما. سواء في مجال النشر أو الطبع أو التوزيع بالنسبة لمشروع الترجمة. هذا التعاون لابد أن يكون موجوداً. أما أن يتأثر دور الهيئة بالنسبة للترجمة. فإني أقولها صراحة: لن يحدث ذلك!
قلنا: هل تري أن الكتاب الورقي مهدد بالنشر الالكتروني في السنوات المقبلة؟
قال: الدول الأكثر تقدماً في النشر الالكتروني لم تشعر بأي تأثير أو خطر. وأشك في أن يحدث هذا التأثير بالنسبة للغة العربية في الوقت القريب. الكتاب سيظل الكتاب. فلا يقرأ علي الشاشة. وإذا طبعناه فهي طباعة رديئة إذا ما قورنت بالكتاب الورقي. الكتاب الورقي يقرأ في أي وقت. ونحن تربينا علي أن نلمس الورق. هناك صلة بين الكتاب والقارئ. ولا أعتقد أن الشاشة ستقوم بهذا الدور. بل إني أعتقد أن النشر الالكتروني سيروج للنشر العادي.
قلنا: بالمناسبة: أين الهيئة في مجال النشر الالكتروني؟
قال: لدي الهيئة موقع دائماً ما نطوره. وهناك عقود جديدة أعدتها الهيئة وضعت فيها بند النشر الالكتروني. وحق النشر الالكتروني.
أفضل كتاب
قلنا: لماذا لا تقدم الهيئة جائزة متميزة لأفضل كتاب نشر خلال العام. علي غرار ما يقدمه اتحاد الناشرين في انجلترا.
قال: هذه فكرة جيدة. وإن كانت فكرة الجوائز دائماً ما تقابل بالتشكيك والهجوم من جانب من يتقدم ولا يحصل عليها. متناسياً أن المتقدمين كثر. لكن واحداً فقط هو الذي يفوز!
قلنا: أخيراً. هل أفدت من سنوات عملك في الخارج؟
قال: الحقيقة أن الخارج هو الذي أفاد من سنوات عملي هنا. والخبرة التي اكتسبتها في مؤسستي الأوبرا وهيئة الوثائق. عند اختياري لمركز العالم العربي بباريس جعلتهم يدركون تماماً مدي خبرتي.
..........................................
*المساء ـ في 5/5/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:07 PM
من المجرر

بقلم: محمد جبريل
.......................

الأدب مجهود فردي.
حقيقة. وإن حاول كمال الملاخ واسماعيل ولي الدين في السبعينيات ان يجعلا من تأليف العمل الأدبي بروايتهما المشتركة "الاستاذ" عملا ثنائيا. كيف كانا يفكران؟ من الذي كان يكتب؟ من كان يراجع ويضيف اللمسات؟
أسئلة لا أجد حتي الآن أجوبة لها.
واذا كانت صورة العمل الفني : فنان يخلو الي فنه وقلمه واوراقه. يحيا في جزيرة تبعد به عن الذي يقاسمه حجرة مكتبه بالمناسبة: يعلن القلم عجزه عن الكتابة اذا تابعت عينان ما احاول كتابته. تثيرني النظرات. اتصور أنها تقتحم عالمي الفني بلا استئذان!
اقول : اذا كانت صورة الفردية هي قوام العمل الفني. فإن الحياة الادبية بكل ما تشغي به من آراء وافكار ومناقشات هي الارضية التي لابد اكرر : لابد ان يقف. ويتحرك عليها اي عمل فني. تناقشني في محاولاتي. تناقشك في محاولاتك. نعرض للقضايا الأدبية. نتفق ونختلف. نشارك في الندوات. نستمع الي المحاضرات. نشاهد فيلما جيدا. نتابع عملا اذاعيا متميزا. أو مسلسلا تليفزيونيا جعل مؤلفه من الفن هدفا أوليا.
الحياة الثقافية المتميزة تفضي بالضرورة الي فن متميز. مجرد الغيرة من ان زميلك يكتب. وأنك تكتفي بالحضور الشخصي. دافع لأن تحاول. وان تكتب. الادب الفرنسي مزدهر. والجيل الادبي يكتفي بخمس سنوات. ليظهر جيل آخر. له محاولاته المغايرة التي تضيف جديدا. في الرؤي والتقنيات.
أدبنا العربي المعاصر تتحيفه الامراض او هذا هو الاتهام الذي يواجهه لان اهله اغلقوا عليه الابواب والنوافذ. ومنعوا الزيارات الخاصة والعامة. يضع الكاتب عمله حتي يتاح له النشر في بوتقة السرية والتكتم يحدده بالمسطرة والمثلث والبرجل. يحرص علي المساحة المتاحة. فلا يجاوزها. يرفض والحكم مسبق محاولات الآخرين. يعتذر عن حضور الندوات والمحاضرات. وينهي كل المناقشات في الاغلب بما يعني: لا احب ذلك!
لكن الادب العربي في الحقيقة ابعد مايكون عن الظلال. وربما القتامة التي تصر اجتهادات مشبوهة ان تحيطه بها. وهي اجتهادات ليست وافدة من الغرب باعتبار ان ما يأتي من الغرب لايسر القلب. فهي قد تنتسب للاسف الي نحن. الي شعور بالدونية تغيب مبرراته وبواعثه.
لعل وضع أدبنا العربي في موضعه الصحيح. هو المسئولية الأولي لجابر عصفور في عمله الجديد أمينا عاما للمركز القومي للترجمة.
..........................................
*المساء ـ في 5/5/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:09 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
.........................

الثابت - تاريخيا - ان عنترة كان واحداً من الفرسان الذين يعتز بهم العرب في العصر الجاهلي. ثم أضاف الوجدان الشعبي إلي سيرة حياته. فهو ذلك البطل الذي دافع عن حبه. وعن حقه في الحرية والمساواة. ولم يكن الهلالية - علي حد تعبير عبدالحميد يونس - سوي أهل شغب. قليلا ما يهدون. يقطعون الطريق علي السفر حجاجا وتجاراً ويكرهون النظام أيا كان مصدره والسلب عندهم غنيمة مشروعة تقضي بها خلقيتهم ويقوم عليها مجتمعهم. بحيث صاروا خصوم الدولة النظامية الألداء. أما الظاهر بيبرس فإن بداية التحقق الفعلي لمكانته البطولية حين قتل قائده العظيم المظفر قطز. بعد أن دحر المغول في موقعة عين جالوت. وأما السيد البدوي. فثمة ظلال علي سيرة حياته. تخالف ما ألف الرواة الشعبيون ترديده عن تلك السيرة. ولعلي أذكرك بكتابات محمد فهمي عبداللطيف وسعيد عبدالفتاح عاشور وغيرهما وتقول سجلات الشرطة ان ابن عروس وأدهم الشرقاوي وياسين ومتولي وبهية وغيرهم من الذين وضعهم الوجدان الشعبي في مكانة متفوقة. قد ارتكبوا جرائم يعاقب عليها القانون الجنائي. كالقتل والسطو والخطف والزنا ومقاومة السلطة.. إلخ.
فلماذا أسقط الوجدان الشعبي ما يشكل - في حياة هؤلاء - نقاط ضعف - أو سلبيات وبتعبير آخر: كيف يصنع الوجدان الشعبي نموذجه البطولي؟
السيرة الشعبية والحكاية والرواية التاريخية الشعبية. ليست مجرد رواية ما حدث. وإنما رواية ما كان يجب أن يحدث. أو ما يتمني الوجدان الشعبي أن يحدث من رغبة في تغيير الواقع إلي اصطناع التاريخ الذي يريده. إن كل تلك الأجناس الأدبية والفنية تسجيل شعبي. شفاهي. لحياة الجماعة الشعبية. أضيف إليه. وحذف منه وخضع عموما لرؤية الناس المتجددة والمتغيرة لأحداث تاريخهم. لذلك جاء القول إن الموروث الشعبي نوع من القراءة الشعبية للتاريخ.
الواقعة التاريخية ليست مقدسة في رواية الوجدان الشعبي. لأن قداسة الواقعة تقتصر علي ما يشغل الوجدان الشعبي هو اثراء الصورة التي يبتدعها خياله. بصرف النظر عن الأحداث والشخصيات.
والحكاية الشعبية - أو الحدوتة - ينبغي أن تصل إلي النهاية التي يريدها المتلقي. لا يشغله مسار الأحداث. ولا تطوراتها. ولا الحبكة. أو ماذا تريد الحكاية - أو الحدوتة - أن تقول. المهم أن تعود الأمور إلي ما كانت عليه في بداياتها. والنهاية السعيدة مطلوبة في الحكاية الشعبية بعكس ما تقدمه السيرة - الموال كما في ياسين وبهية وأدهم الشرقاوي وشفيقة ومتولي.
وإذا كانت السيرة الشعبية تتناول - في الأغلب - بطلا تاريخيا حقيقيا. وأحداثا تاريخية حقيقية. فإن الوجدان الشعبي قد أضاف إلي الأبطال الحقيقيين. والأحداث التاريخية الحقيقية. بما أعاد تشكيل البطل. والحدث. علي الصورة التي يريدها. أو يتمناها. بل ان بعض الشخصيات التي قدمتها السير والحكايات الشعبية. يشك في وجودها مثل المهلهل وسيف بن ذي يزن. وذات الهمة وحمزة البهلوان.
السيرة الشعبية - شأنها شأن التراث الشعبي - يضاف إليها بتوالي الأعوام وتجري تعديلات. حذف واضافة. يساعد علي ذلك ان السيرة الشعبية شاعر أو محدث من جانب. ومتلقون من جانب آخر وعلي الشاعر أو المحدث أن يستجيب إلي رغبات المتلقين في الاطناب أو الايجاز "أو حتي علي الحذف والتبديل في نص القصة" ربما أضافت السيرة شخصيات غير حقيقية وأحداثا لم تقع بالفعل لتحقيق الدلالة التي يستهدفها الوجدان الشعبي من صياغة السيرة أضافتها في توالي العصور. ثمة من يشترط علي كاتب الرواية التاريخية ألا يتصرف في تغيير الحوادث أو الأزمنة التاريخية. لكنه لا يرفض ذلك في السيرة الشعبية. فقد يكون لها أساس تاريخي لكنها تتصرف في الحوادث التاريخية تصرفا واسعا يخضع لظروف رواية السيرة أو الحكاية أو الوقائع التاريخية. وبتعبير آخر فإن السيرة الشعبية. الحكاية. الوقائع التاريخية تمثل - في تقدير البعض - الكتابة الشعبية للتاريخ العربي.
..........................................
*المساء ـ في 12/5/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:10 PM
عن الأدب .. وعالم الفتوات

بقلم: محمد جبريل
.....................

روي لي أستاذنا نجيب محفوظ -يوما- أن نشأته في الأحياء الشعبية قد أتاحت له التعرف -بصورة مباشرة- إلي حياة القنوات وما كانت تزخر به من بطولات وخيانات ومعارك لا تنتهي وقد انعكس ذلك كله -بالطبع- في عالم كاتبنا الكبير الروائي منذ بداية ونهاية إلي الحرافيش وبقدر ما كان نجيب محفوظ الطفل يضمر إعجابا بالفتوات فإنه لم يكن يملك إلا الإشفاق علي هؤلاء الذين تجددت وظيفتهم في تلقي الضربات أثناء المعارك المتوالية وكانت قواهم الجسدية هي عنصر امتيازهم الوحيد.
ولأن الفتونة ليست قوة جسدية فحسب إنما هي إرادة وذكاء وقوة شخصية وحسن قيادة للآخرين فقد كان مساعدو الفتوات تكوينا أساسيا في ذلك العالم المثير بدونهم تزول سيطرة كل فتوة علي حي أو مجموعة أحياء وتتحول معاركه مع فتوات الأحياء الأخري إلي خناقات فردية. دون أن يجاوز تأثيرها الفتوات أنفسهم. أما المساعدون. فبالإضافة إلي أنهم كانوا يتلقون الضربات فقد كانوا -في الوقت نفسه- يبلغون الإنذارات ويتلقون الإتاوات. ويضعون أعينهم علي تحركات القنوات الآخرين. وعلي الشرطة في آن معا.
باختصار. فإن مساعدي كل فتوة كانوا هم العامل الأساسي في إبرازه وتقديمه وفرض سطوته. وإن ظلوا علي الهامش دوما في عالم الفتوات.
والحق أن ذلك العالم الاسطوري -كما رواه لي استاذنا نجيب محفوظ- يذكرني بواقعنا الأدبي والفني المعاصر. فما أكثر مساعدي الفتوات في دنيا فنان الشعب سيد درويش. وفي النقلة التي أحدثها الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب. وفي استاذية نجيب الريحاني. وفي أداء أم كلثوم. وفي لوحات محمود سعيد. وتماثيل محمود مختار. وما أكثر مساعدي الفتوات في عالم نجيب محفوظ نفسه بل إن جيل يوسف إدريس بكامله لم يزد دوره عما كان يفعله مساعدو الفتوات في مطالع القرن.. أبدعوا. ولقيت أعمالهم قبولا ورفضا. وذاعت أسماء واختفت. وأثيرت المعارك الفنية والنقدية. ونوقشت الرسائل الجامعية. وصدرت الدراسات وعقدت المؤتمرات والندوات. فلما انحسر المد بدا يوسف إدريس متفردا في الساحة.
لعل المشكلة التي تحياها أجيال ما بعد يوسف إدريس. أن رأيا عاما لم يتكون -بصورة حاسمة- حول اسم محدد فالأسماء تظهر في حياتنا الثقافية كالفلاشات التي تضيء جدا. ثم تختفي بالكيفية ذاتها!
أخشي أن يكون مبدعو هذه الأجيال قد تحولوا جميعا -والظواهر كثيرة- إلي مساعدين- وهنا الحسرة! -لفتوات الأجيال السابقة.
من فتوة هذا الجيل؟!
.........................................
*المساء ـ في 19/5/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:11 PM
د.سعد أبوالرضا:
لا تعارض بين الأدب الإسلامي وحرية الإبداع
الكتابة للطفل يجب أن تقتصر علي المتخصص
مشكلة الجامعات الإقليمية في قلة الإمكانيات

حاوره: محمد جبريل
.........................

الحوار مع الدكتور سعد أبوالرضا ينبغي أن يشمل -بالضرورة- ما يشغله من اهتمامات ثقافية وإبداعية. فهو كاتب للقصة القصيرة. ولأدب الأطفال. وأستاذ جامعي. وناقد. وله نظرياته في مجال الأدب الإسلامي التي لا تشترط الاجتهادات الدينية الفقهية. وإنما تعني بالقيم الإسلامية في عمومها. وقد تحدث عنها في مؤتمرات دولية في السعودية والمغرب العربي والأردن وفلسطين واليمن فضلا عن إنجلترا وفرنسا.
* قلنا: بداية هل هناك تعارض بين مفهوم الأدب الإسلامي وحرية الإبداع؟
** قال: لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الأدب الإسلامي وحرية الإبداع فالأديب المسلم يمكنه أن يتحدث في أي موضوع. ويكتب في أية قضية المهم أن تكون هناك مرجعية إسلامية ضابطة لهذه الحرية.. بمعني ألا يكون هناك -مثلا- خروج علي الأخلاق أو تجاوز غير مشروع في حقوق الآخرين. وهكذا.
* قلنا: بهذا المفهوم يمكن القول إن كل من يلتزم بهذه الضوابط هو كاتب إسلامي. حتي لو لم يكن مسلما؟
** قال: مثل هذا الأدب يسمي "أدب موافق" إذا وجدنا فيه خصائص وملامح للأدب الإسلامي.
* قلنا: إذن. من هو الكاتب الإسلامي في هذا المنظور؟
** قال: نجيب الكيلاني روائي متميز علي مستوي الوطن العربي. وثمة عماد الدين خليل وحسن الأمراني من المغرب. وكتاب في أرجاء العالم الإسلامي يلتزمون بما تدعو إليه اتجاهات الأدب الإسلامي.
* قلنا: هناك إذن -في رأيك- آداب تنتسب إلي الأديان؟
** قال: أنا لا اعترف بهذا. لكنه واقع. هناك أدب مسيحي وأدب يهودي. وهناك الكثير من الرسائل في كليات اللغات والترجمة عن هذه الإبداعات وهو أمر ليس جديدا فقد أكد الشاعر والناقد البريطاني الأشهر ت.إس.إليوت إن الحكم النقدي لابد أن تكون له مرجعية أخلاقية مردها الدين المسيحي. من حقنا إذن أن ندعو إلي فكرة الأدب الإسلامي دون تعصب أو اتهام أي شخص بالكفر أو غيره. هذه مسائل لله سبحانه فقط ولا تعني البشر!
* قلنا: ألا تري في كتابات كل من العقاد وطه حسين والحكيم ومحفوظ ما يصح نسبته إلي الأدب الإسلامي؟
*. قال: عبقريات العقاد تضعه في مقدمة الكتاب الإسلاميين. وطه حسين خرج عن بعض التوجهات الإسلامية في كتابه الأدب الجاهلي. لكنه من أكبر الدعاة إلي الاهتمام بالقرآن الكريم. والحفاظ علي اللغة العربية. وهو ما يتفق مع أهداف الأدب الإسلامي الحكيم أيضا له كتابات طيبة تدعو إلي الحرية والقانون والعدل ونجيب محفوظ في أسلوبه السردي متأثر تماما بالقرآن الكريم وإن كان لي ملاحظة تتصل بتعامله مع الجنس بإفراط هذا لا يعني أن الإسلام ضد تناول الجنس لكن بصورة لا تثير رغبات الشباب نحن في حاجة إلي أدب يرتقي بالناس وبعواطفهم ويبث في نفوسهم الأخلاق والسلوك القويم ويدعو إلي الخير وينبذ الشر.
* قلنا: ما رأيك في المشهد الثقافي في مصر الآن؟
** قال: هو عامر بالكثير من النماذج الأدبية في الشعر والقصة والرواية والمسرحية. لكن الملاحظ أن بعض جهات النشر ربما وضعت مواصفات لا تساعد الشباب الموهوب أخشي أن أقول إن الشللية تسيطر ولا تسمح بظهور الأدب الجيد لكل الأجيال فالمكتبات الخاصة حريصة علي المشهورين وفي المؤسسات الثقافية هناك قوائم انتظار وهنا يأتي دور النقد الأدبي في مواكبة الإنتاج المعروض وبالمناسبة فإني اقترح أن تصدر لجان المجلس الأعلي للثقافة نشرة شهرية عن أنشطتها لتحقيق المزيد من الفعالية بين المثقفين وكل من لديه موهبة أضيف أن كل المشاركين في هذه اللجان من القاهرة رغم إعلان جابر عصفور ان أعضاءها من المثقفين في القاهرة والأقاليم أنا أجد أن هذا غير متحقق!
* قلنا: أنت متعدد المواهب.. فأين تجد نفسك؟
** قال: كنت خارج مصر عشر سنوات وهذا أحدث قطيعة. أحاول الآن أن استعيد دوري وفي مؤتمر الشعر الأخير أرسلت بحثا إلي مسئولي المجلس الأعلي للثقافة لكنهم اعتذروا قبل موعد المؤتمر بيومين! لقد شارك في المؤتمر 35 شاعرا وناقدا منهم 12 من أعضاء المجلس وما لايزيد علي اثنين من خارج المجلس بينما قدم الآخرون من خارج مصر واتساءل: لماذا لا يتاح للمصريين القادرين علي الاسهام وإثبات الوجود كما يتاح لهم في أقطار الوطن العربي؟
نماذج جيدة
* قنا: ما رأيك فيما يكتب للأطفال الآن؟
*. قال: لا شك أن أدب الأطفال في الولايات المتحدة متقدم كما وكيفا وأذكر إحصائية في الثمانينيات تتحدث عن مائة ألف كتاب هناك وأربعة آلاف كتاب عندنا يجب أن يقدم أدب الطفل من قبل متخصصين والاهتمام بعلم النفس والعلوم الاجتماعية وغيرها من الاهتمامات المطلوبة لكاتب الأطفال هناك نماذج جيدة لكنها قليلة فثمة من هو غير مؤهل للكتابة للطفل وما يكتب للأطفال الآن غير مدرج عليه المرحلة السنية التي يتوجه إليها فكل مرحلة لها خصائصها ولها أسلوبها الذي يجب أن يعرفه الكاتب ويتبعه حتي تصل رسالته وكما قلت فإن لدينا بعض الكتاب المتميزين مثل عبدالتواب يوسف الذي أقدر موهبته وإنتاجه الوفير إلي جانب أن لدينا مؤسسات مهتمة بثقافة وأدب الطفل مثل كليات رياض الأطفال والدراسات العليا في الجامعات المختلفة وقد اسهمت جهود السيدة سوزان مبارك من خلال المسابقات المختلفة في تشجيع ومساعدة أجيال جديدة لاقتحام هذا المجال.
* قلنا: الأجناس الأدبية.. هل أصبحت من التراث بعد أن ظهر ما يسمي "النص"؟
** قال: تداخل الأجناس الأدبية أمر مفيد وفيه إثراء للأدب بشرط ألا يؤدي ذلك إلي اختفاء الحدود بين الأجناس الأدبية المختلفة نعم لتداخل الأجناس الأدبية شريطة أن تكون هناك حدود واضحة تدعم الأنواع الأدبية. وقد أصبح لدينا الآن درامية القصة وشعرية القصة وشعرية الرواية لكن من المهم ألا يقدم إلي مثل هذا التجريب غير المتمرسين بالمقياس العلمي والموضوعي للكلمة!
* قلنا: كأستاذ في جامعة بنها.. ما تعليقك علي ما يقال من أن الجامعات الإقليمية أقرب إلي المدارس الثانوية؟
** قال: المجاميع الآن مرتفعة لأن طريقة التعليم في الثانوي بالإضافة إلي الدروس الخصوصية وطريقة الامتحان.. ذلك كله رفع درجات المجموع ووجود الجامعات الإقليمية ضرورة قومية واجتماعية وإنسانية حتي ينتشر التعليم إضافة إلي أن هذه الجامعات توجد فيها أعضاء هيئات تدريس لا يقلون كفاءة أو مقدرة عن غيرهم في الجامعات الرئيسية لكن المشكلة تكمن في أن الجامعات الإقليمية قد تنقصها الإمكانيات مثل أن تكون معامل اللغات بكليات الآداب غير مكتملة.. الجامعات الإقليمية تؤدي دورها وهو ما ينعكس علي مستوي الخريجين في جامعة القاهرة أو عين شمس أو حلوان.. لكن ذلك لا ينفي وجود تميز في جامعة بنها كما هو الحال في الجامعات الأم مع ضرورة الإشارة إلي أن الإمكانيات التعليمية المكتبية والمعامل المختلفة في الجامعات الأم ذات مستوي مرتفع.
.................................................. ..
المساء ـ في 19/5/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:13 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
........................

الشخصية في التعريف النقدي هي مجموع مايقال عنها باللغة. الي جانب ما تقوله وتفعله. ومن الطبيعي ان الشخصية تختلف بدرجات متفاوتة باختلاف البيئة التي تنتسب اليها. بتأثير البيئة أولا. ثم بظروف المهنة والحياة الاجتماعية. فباختلاف الثقافة والاهتمامات. الفلاح نتيجة للظروف التي يحياها أكثر بساطة من العامل. الذي يتعامل مع الآلة. ومع الادارة. واسلوب التفكير يختلف عند الفلاح منه عند العامل. وهو ماتفرضه بالطبع طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يحياها كل منهما. والفلاح يعاني الامية بصورة ابشع مما يعانيها العامل. وشخصية الفلاح تميل الي الحذر والتوجس والشك. بعكس العامل الذي يحيا مع زملائه في المصنع بروح الجماعة المتضامنة. تميز الشخصية الفردية هو الذي يعطي للانسان طابعه الخاص آراءه. عاداته. سلوكياته. مواقفه.. لكن الفرد لابد ان يتأثر بدرجة أو بأخري بالجماعة التي ينتمي اليها. بالاسرة. بالعائلة. بالوطن. وينعكس ذلك بالتالي في تشابه الجماعات في بعض الخصائص العامة. ان لم يكن معظمها.
الفرد اذن يختلف بصورة جذرية واساسية عن الاخرين. لكنه في الوقت نفسه يتشابه في نواح كثيرة مع الافراد الذين يشكلون مجتمعه الخاص والعام. وهذا الاتفاق الذي يشمل ملامح كثيرة تبدو مغايرة واحيانا متفقة لملامح المجتمعات الاخري. هو مايمكن ان نتناوله باعتباره التعبير عن شخصية الجماعة. أو شخصية المجتمع.
التحديد العلمي للشخصية هو انها ذلك التنظيم المتكامل من الصفات والمميزات والتركيبات والملامح الجسمية والعقلية والانفعالية والظروف البيئية التي تبدو في العلاقات الاجتماعية للفرد. والتي تميزه عن غيره من الافراد تمييزا واضحا.
السؤال الذي يطرح نفسه : هل هناك مايمكن تسميته بالشخصية المصرية فعلا؟ وهل يمكن اطلاق تسمية "الشخصية" علي شعب ما؟
أستاذنا سيد عويس يرفض التسمية في اطلاقها.. رأيه الذي يستند الي العلمية ان الشخصية للافراد. وليست للجماعات. لان الجماعة تضم افرادا متوزعي الميول والنزعات والاهواء. متغيري البيئة والتربية والثقافة. ومن ثم فإن الحكم علي الجماعة من خلال الافراد يجانبه الصواب والدقة الي حد كبير. ولعلي اوافق بدرجة ما علي هذا الرأي من خلال احكام المصريين انفسهم علي مناطقهم المحلية . فأهل دمياط علي سبيل المثال مشهورون بالحرص. بينما اهل الشرقية مشهورون بالكرم الزائد. واهل الاسكندرية يعشقون الفتونة. وهكذا.. فهل يعني هذا ان كل دمياطي هو حريص . وان كل شرقاوي مسرف في كرمه. وان كل سكندري عاشق للفتونة؟
الحكم علي الجماعة من خلال الافراد. تجانبه الدقة الي حد بعيد. فإذا أضفنا ان الحكم علي الشخصية المصرية يعني الحكم علي مجموع الافراد المصريين. والمناطق المصرية من السلوم الي شلاتين. بكل ما يشتمل عليه هؤلاء جميعا من آراء ومواقف وميول وأهواء متباينة. بدت الصفات الشخصية للشعب المصري مما يصح اطلاقه علي الشعوب الاخري. مثل الكرم والبخل والعجلة والصبر والشجاعة والخوف. الي غير ذلك من التقابلات والمتناقضات.. ذلك لان كل الشعوب تتكون من افراد. والافراد كما قلنا ليسوا أنسجة متشابهة ان لكل منهم شخصيته التي تخلقت من عوامل بيئية وثقافية واجتماعية مختلفة.
من هنا تبدو أهمية "التاريخ" للتعرف الي شخصية شعب ما. الشخصية هنا تعني المواقف المتماثلة التي تعكس بتوالي حدوثها خصائص متماثلة في هذا الشعب أو ذاك.
.............................
*المساء ـ في 29/9/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:13 PM
الحكم بالإعدام على ديوان شعري*

بقلم: محمد جبريل
......................
mlg_38@hotmail.com

تلقيت هذه الرسالة من الصديق الشاعر عبدالعزيز موافي:
قال لوركا: بالأمس قتلوا واحدة من كلماتي فجلست مع قصائدي في مجلس عزائها واليوم ومن أجل الكلمة الشهيدة نفسها لبست كل الكلمات الجميلة والبريئة في العالم ربطة عنق سوداء حزنا عليها.
وأنا - علي العكس من لوركا - قتلوا كل كلماتي عندما حكموا بالاعدام علي ديوان كامل هو ديوان 1405 الذي يترجم التجربة الإنسانية في حرب أكتوبر والذي يتزامن اصداره مع ذكري تلك الحرب إلا أن بعض مسئولي الهيئة بدلا من احتفائهم بهذا الديوان الصادر في مكتبة الأسرة لم يقتلوه فقط وإنما مثلوا بقصائده فبعد أن انتهوا من طبعه فوجئت بأن الأسطر الأخيرة في قصيدتين قد سقطت عند الطبع بالاضافة إلي سقوط ثلاثة مقاطع كاملة هي بمثابة ثلاث صفحات وما زاد الطين بلة ان هناك قصيدتين متداخلتين معا.
حينما توجهت إلي مكتب رئيس الهيئة أحالوني إلي مكتب مسئول آخر عرضت عليه المشكلة وارتحت لأنه كان عليما بها لكنه فاجأني بطلب أن يبقي الديوان علي ما هو عليه مع اضافة استدراك في آخره أفهمته ان ذلك لم يحدث من قبل في دواوين الشعر وان الاستدراك خاص بالأخطاء الطباعية للمفردات فقط وهو ما لا يتفق والأخطاء الجسيمة الموجودة بالديوان. رد قائلا: الموضوع كدة حايطول. وحينما سألته: إلي متي؟ رفض الاجابة كما رفض الافصاح عن كيفية إصلاح الخطأ.
يبدو أن هذا المسئول تناسي ان الهيئة تتعامل مع المبدعين والمثقفين. الذين يمثلون ضمير ووجدان هذا الوطن ولو ان ذلك كذلك لبادر المسئول- ومن تسبب الحاق في الأذي بديواني وبشخص مؤلفه بالتالي - بالاعتذار عن هذا الخطأ الذي يبلغ حد الخطيئة ولا ستدركوا الخطأ فورا أنه من غير المنطقي أن يتحمل المبدعون وزر اخطاء الآخرين.
اذكر بعض مسئولي هيئة الكتاب - هؤلاء الذين لا يجدون في الخطأ ما يستحق المراجعة ولا التصحيح - بالقول الجميل: الرجوع إلي الحق فضيلة.
انتهت الرسالة.
*العنوان أنا الذي وضعته، والزاوية الأسبوعية بعنوان "من المحرر" (د. حسين علي محمد).
..........................
*المساء ـ في 6/10/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:14 PM
"الحدوتة" وأثرها في بناء الرواية

بقلم: محمد جبريل
.......................

علي الرغم من اختلافي مع أرنولد بنيت في رأيه. بأن أساس الرواية الجديدة هو "خلق الشخصيات. ولا شيء سوي ذلك". فلعلي أتفق تماما علي أن خلق الشخصيات دعامة أساسية في بناء الرواية. الذي يستند - بالضرورة - إلي دعامات أخري. أقواها - أو هذا هو المفروض - "الحدوتة". وإن تصور بعض الذين اقتحموا عالم الرواية الجديدة. نقاداً أو أدباء - أن الرواية ليست في حاجة إليها. وأن ما يستعين به الفنان من أدوات. يضع الحدوتة في مرتبة تالية. أو أنه يمكن الاستغناء عنها إطلاقا.
وفي تقديري أن الحدوتة هي "النطفة" التي يتخلق بها العمل الإبداعي. وأذكر أني حين عرضت - للمرة الأولي في القاهرة - مسرحية بيكيت "لعبة النهاية" أن إعجاب النقاد تركز علي خلوها من الحدوتة. وكان ذلك - في تقديرهم - هو "الجديد في الرواية الجديدة". كانت القاهرة تعاني - كعادتها - غربة حقيقية عن الواقع الثقافي المتجدد في الحياة الأوروبية. وكانت القلة تسافر وتشاهد وتقرأ. والكثرة تنتظر ما يفد - متأخراً - وتقف منه - في كل الأحوال - موقف الإعجاب. ولعلنا نذكر ما فعله الكاتب الساخر أحمد رجب. حين طلب آراء عدد من كبار مثقفينا في مسرحية من تأليفه علي أنها لدورينمات. وتباري مثقفونا في إبراز الجوانب المتفوقة في المسرحية المزعومة. وكتب الحكيم "يا طالع الشجرة" و"مصير صرصار" تأكيدا لريادته المتطورة.. وظواهر أخري كثيرة.
أقول: حين عرضت لعبة النهاية وتركز إعجاب النقاد علي خلوها من الحدوتة كان لأستاذنا نجيب محفوظ رأي آخر. ونشرت معه حوارا في جريدة "المساء" ملخصه أن العمل الفني بلا حكاية. بلا حدوتة. يصعب - مهما يتسم بالجدة - أن يسمي عملا فنيا. لأنه - حينئذ - يفتقد أهم مقوماته. واستطاع - في الحوار - أن يروي الحدوتة. الدعامة التي استند إليها بناء المسرحية.
الحكاية - كما يقول فورستر - هي العمود الفقري. ويقول هيربرت جولد: إن كاتب القصة يجب أن تكون له بالفعل قصة يحكيها. فلا يقتصر الأمر علي مجرد نثر جميل يكتبه. وقيل إن الرواية "فن درامي يقوم علي أساس الحدث". ولعلي أذكر قول تشيكوف: إن الكاتب لا يكتب قصة قصيرة إلا عندما يريد التعبير عن فكرة. حتي ألان روب جرييه يؤكد أن الروائي الحقيقي هو الذي يعرف كيف يقص الحكاية. وفي مقدمة "يا طالع الشجرة" - ذات الشكل السوريالي - كتب الحكيم: "المسرحية لابد ان تحمل معني. ولا يكفي فيها المعني الداخلي في ذات تشكيلها. ربما استطاع الشعر - خصوصا السوريالي والدادي - أن يحمل معني وجوده في ذات صياغته. ولكن المسرحية وكذلك القصة لابد أن تقول شيئا".
mlg_38@hotmail.com
..............................................
*المساء ـ في 20/10/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:15 PM
من المحرر
الدكتور حسين علي محمد
بقلم: محمــد جبريــل

حين حصل حسين علي محمد ـ الشاعر والناقد والأستاذ الجامعي ـ على درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث، كان يختتم رحلة قاسية بدأت في قريته العصايد، القريبة من ديرب نجم، وتواصلت في عمله الأكاديمي خارج مصر، حتى حصل على درجة الأستاذية، ودرس لآلاف الطلاب، وأشرف على العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه.
لم يجعل حسين علي محمد من تلك الطريق ـ وهي فردية كما ترى ـ طريقه الوحيدة.
اختار طريقا موازية، أو متداخلة، يتصل فيها بالجماعة، من خلال أنشطة قوامها الأجيال التالية من مبدعي ديرب نجم، المدينة والقرى المحيطة.
أنشأ حسين مع أحمد فضل شبلول وسعد بيومي وصابر عبد الدايم وأحمد زلط والراحل عبد الله السيد شرف سلسلة "أصوات معاصرة" تعنى بنشر كتابات أدباء مصريين وعرب، وإن كان حريصا ـ يومها ـ على نشر كتابات الأجيال الطالعة، من مبدعي الأقاليم المصرية.
أصدرت السلسلة الكثير من الكتب المهمة، ما بين رواية ومجموعة قصصية وديوان شعر ومسرحية ودراسة نقدية وسيرة ذاتية وغيرها. أصبحت ـ في مدى قصير نسبيا ـ من أهم السلاسل على مستوى الثقافة العربية.
ثم أضاف حسين إسهاما ـ على نفقته فيما أظن ـ بإنشاء موقع أصوات معاصرة على الإنترنت، يعنى بإبداعات الأجيال المختلفة، بنشر نماذج منها، يناقشها، يسلط الضوء على كتابها، يتصل بالمواقع المماثلة.
استطاع موقع أصوات معاصرة أن يحقق نجاحا لافتا على المستويين الكمي والكيفي، انعكس في أعداد المتعاملين معه.
جعل الخضري عبد الحميد من المدينة الصغيرة ملوي ـ ذات يوم ـ مدينة مبدعة، واحتلت المنصورة الموقع نفسه، بسلسلة فؤاد حجازي "أدب الجماهير". وثمة إسهامات أخرى في العديد من المدن المصرية، كالمحلة الكبرى والمنيا والسويس وسوهاج، جعلت من تلك المدن مساحات ضوء في حياتنا الثقافية.
لقد جعل حسين علي محمد ـ بإسهاماته المتعددة ـ من ديرب نجم، المدينة، المركز، منارة مهمة في حياتنا الثقافية.
هامش:
يقول فولتير: إن الطريقة الوحيدة التي تجعل الناس يتحدثون عنك بطريقة حسنة، هي أن تتصرف بطريقة طيبة.
............
*المساء ـ في 18/12/2004م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:17 PM
من المحرر

بقلم: محمد جبريل
......................

لعل غاية ما يأمله المرء في علاقته بالآخرين. أن تكون دائرة الاصدقاء أكثر اتساعاً من دائرة الأعداء..
وعندي أن الحصول علي حب معظم الناس سهل. إذا حرص المرء علي حب الآخرين. أما الحصول علي حب كل الناس. فهو العنقاء التي تتحدث عنها الأساطير!..
لقد واجه الأنبياء العداء.. فما بالنا بالبشر العاديين؟..
لا أحد يحصل علي الإجماع. ثمة ناس يحبونك. وناس يضمرون - أويعلنون - نقيض الحب. قد يضمرون - أو يعلنون - الغيرة والحسد والحقد. مهما بدت آراؤك أو تصرفاتك معقولة. فإنهم ينظرون إليها بعين المساوئ. إنهم يبحثون عن العيب فيها. ومن يريد العيب فلابد أن يجده..
هل تذكر حكاية جحا وابنه وحماره؟..
عاب الناس علي الرجل سوء تربيته للابن حين ترك له الحمار يركبه. واكتفي هو بالسير. ثم عابوا عليه أنانيته لما ركب الحمار. وترك الولد يسير إلي جانبه. وعابوا عليه القسوة لأنه شارك ابنه ركوب الحمار. ثم عابوا عليه الغفلة. بعد ان اختار السير خلف الحمار!
إن مجرد عمل المرء في وظيفة أو حرفة. يضعه في كفة ميزان البشر. ثمة المؤيد والرافض. لكل أسبابه التي قد تكون مقبولة. أو أنها وليدة الغرض..
قد يجتلب النجاح في ذاته عداوات الآخرين. يضيقون بالنجاح. فيفتشون عن بواعث تحقيقه. لا يهم إن كانت تلك البواعث صادقة أو كاذبة. المهم أن يسلبوا من النجاح قيمته ودلالاته..
وحين خضع ياجو لمشاعر الحقد في نفسه. مقابلاً لذلك الشئ النبيل في عطيل. انشغل ياجو بمحاولة تلطيخ اللوحة الجميلة!..
يقول فوكنر: "إذا أردت أن تعيش آمناً من الانتقاد. فلا تقل شيئاً. ولا تكن شيئاً.. وعندها لن ينتقدك أحد!.. وهو قول يحتاج إلي مراجعة. لأنك قد تأخذ موقفاً سلبياً من الحياة تكتفي بأن يكفي خيرك شرك - كما يقول المثل - لكنك لن تأمن ملاحظات الآخرين. واتهاماتهم لك. ومشاعرهم التي تبدأ بالدهشة. وتنتهي بالكراهية!..
هامش:
من كتابات يحيي حقي: "منذ تناولت القلم في سن باكرة. وأنا ممتلئ ثورة علي الأساليب الزخرفية. متحمس أشد التحمس لاصطناع أسلوب جديد. أسميه الأسلوب العلمي. الذي يهيم أشد الهيام بالدقة والعمق. وقد أرضي أن تغفل جميع قصصي. ولكن سيحزنني أشد الحزن ألا يلتفت لهذه الدعوة".
..................................
*المساء ـ في 27/10/2007م.

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:18 PM
«ذاكرة الأشجار»
رواية محمد جبريل الجديدة تنشرها «الوفد »
***

بدأت جريدة «الوفد» صباح الثلاثاء الماضي 18/12/2007م، في نشر رواية محمد جبريل الجديدة «ذاكرة الأشجار»، وسننشر الحلقات هنا بعد أن تنشرها «الوفد».

*ذاكرة الأشجار:
للأديب الكبير محمد جبريل أكثر من 40 عملاً إبداعياً ما بين مجموعات قصصية وروايات، تمثل في مجملها علامات فارقة في مسيرة الأدب المصري والعربي المعاصرين، منها روايات «الشاطئ الآخر»، و«قلعة الجبل»، و«زهرة الصباح»، و«رباعية بحري»، و«من أوراق أبوالطيب المتنبى»، و«أهل البحر» ... وغيرها. وإلي جانب حضور الإسكندرية ـ منشأه وسنوات صباه ـ في كثير من رواياته، ينسج جبريل من خيال حاذق، ما يكسو به شخوصاً عرفها في الواقع، أو أطياف عبرت في أزمنة خلت، أو ترانيم تسبح في مجالس الصوفية ومقامات أولياء الله الصالحين.
آثرنا الأديب الكبير بروايته تلك »ذاكرة الأشجار« التي ننشر فصولها تباعاً كل ثلاثاء.
(الوفد)
(1)
خمن أن نهاية الصداقة الطارئة، حين يهبط أحدهما ـ قبل الآخر ـ في المحطة التي يريدها. لكنهما نزلا في المحطة نفسها. سارا، وتكلما، ودعته لزيارتها.
اعتاد النزول من الأتوبيس في شارع سليم الأول. يخلف وراءه سوق الخضر والبنايات المتوسطة الارتفاع، ومحال بيع الأدوات الكهربائية والأقمشة والخردوات، ومبني كنيسة اللاتين. يميل إلي شارع نصوح الهندي. يخترق تقاطعه مع طومانباي. يستعيد ملاحظته عن الغبار الذي يضيع حرصه علي لمعة الحذاء. تبطئ خطواته أمام بناية حديثة البناء، أمامها بقايا حديد التسليح، وشقفات الطوب الأحمر، وخلطة الأسمنت والرمال والزلط.
علي اليسار، بالقرب من نهاية الشارع، تطالعه الحديقة الصغيرة، تحيط بالفيللا البيضاء ذات الطابق الواحد. تشابكت، وغطت معظم الواجهة، أشجار الجوافة والجهنمية والفل والياسمين والبانسيانا بزهورها الحمراء. يجلس الأب في الشرفة الحجرية المستطيلة، يعلو صوته بالأغنيات التي لا يعرف ماهر لغتها. يصعد الدرجات الرخامية إلي الشرفة. يكتفي الأب بابتسامة مجاملة، ثم يعاود الغناء، أو يتجه إلي الباب المتصل بالحديقة. يضغط علي الجرس. يتوقع ـ كما حدث في المرات السابقة ـ أن تفتح شقيقتها الباب. تفسح له الطريق وهي تنادي: سيلفي..
***
لم يقدر أن لقاء المصادفة سيكون انفراجة الباب لكل ما حدث.
زاحم المندفعين في أتوبيس 153 من ميدان التحرير.
اندفع نحو كرسي ناحية اليمين. طالعته استغاثتها الصامتة تحت النافذة، القامة المتناسقة، الشعر الحنطي المسدل إلي الكتفين، العينان الزرقاوان الباسمتان، الأنف الدقيق، الشفتان النديتان، الغمازتان اللتان تضفيان عذوبة علي وجهها.
بدت غريبة في وقفتها داخل محطة الأتوبيس. ليست غربة المكان، وإنما غربة الملامح والزي الذي ترتديه. فستان فوق الركبة، أزرق، قصير الكمين، وحذاء مكشوف، وبيدها مظروف ورقي.
أومأ لها برأسه، فصعدت لتجلس مكانه. السيدة البدينة ارتمت علي الكرسي بمجرد تخليه عنه، فأفسدت كل شيء. علا صوتها بنبرة توبيخ:
ـ حجز الكراسي في السينما..
اكتفيا بتبادل نظرات الارتباك.
خلا الأتوبيس من معظم ركابه قبل محطة كوبري القبة. وجدت مكاناً، وجلس إلي جانبها. فاجأته بالشكر، وبمؤاخذتها للسيدة البدينة. ودعته في محطة نصوح. تجدد ـ بعد أيام ـ لقاء المصادفة. ابتسما بما يعني تعرف كل منهما إلي الآخر. تشبثت بساعديه، وسبقها في اندفاعهما وسط الزحام حتي جلسا متجاورين.
قدم نفسه:
ـ ماهر فرغلي.. موظف بدار المعارف..
همست باسمها:
ـ صوفيا جوتييه.
لاحظت أنه لم يلتقط اسمها، وإن تظاهر بأنه عرفه.
قالت في نبرة متباطئة:
ـ صوفيا ميكيل جوتييه.. لكنهم في البيت ينادونني سيلفي.
ـ مصرية؟
أدرك ـ في اللحظة التالية ـ سخف السؤال..
قالت في همسها:
ـ طبعاً..
ورفت علي شفتيها ابتسامة:
ـ هل أبدو أجنبية؟
حدس أنها أجنبية. لم يتصور ـ في حدسه ـ البلد الذي تنتمي إليه، وإن بدت غريبة عن المكان، كأنها تنتمي إلي عالم آخر..
أزاحت خصلة متهدلة من شعرها جانباً، وهي ترفع رأسها:
ـ ربما لأن أبوي من أصل أجنبي..
تناثرت الكلمات، فعرف كل منهما عن الآخر ما لم يكن يعرفه. اجتذبه غياب التكلف عن كلماتها وهي تتحدث عن أسرتها المقيمة في الزيتون.
اكتفت بالتلميح في حديثها عن إخوتها. لم تذكر أسماءهم ولا إن كانوا أكبر أو أصغر منها.
قالت: إخوتي، وواصلت الكلام.
حدثته عن أبيها النمساوي الأصل، وعن أمها الإيطالية. كان أبوها رئىساً لبنك باركليز، فرع بورسعيد. قتله المصريون في أحداث 1956. الأم أميرة إيطالية سابقة، لا تعي سيلفي أنها رأتها تغادر البيت إلا لزيارات متباعدة إلي شقيقة لها في بولاق. لا تدري كيف التقيا في مصر، ولا ظروف زواجهما، لكنهما أنجبا أربعة أبناء: ولدين وابنتين.
قال:
ـ ترفضون تحديد النسل.. مثل المصريين.
كان يستنكر في نفسه سرعة الانفعال بما يدفعه إلي إبداء رأي قد لا يتدبره، كلمات تسبق تفكيره. يؤلمه الاستياء الذي تتقلص به الملامح، وربما العبارات الرافضة.
قالت دون أن تجاوز هدوءها:
ـ نحن مصريون..
حدثها عن عمله في قسم المراجعة بدار المعارف. يشغله منذ تخرجه في دار العلوم:
ـ ميزة عملي أن مكتبي يطل علي النيل.
وهي تئد ابتسامة رفت علي شفتيها:
ـ هل تجلس للفرجة؟
ـ لا بأس أن أطل ـ وأنا أعمل ـ علي منظر جميل..
أشارت إلي مبني هائل علي تقاطع سليم الأول وسنان:
ـ هذه مدرستي.. النوتردام دي زابوتر..
قال:
ـ هل هي قريبة من البيت؟
ـ مجرد أن أعبر الشارع..
ـ كانت دار العلوم قريبة من بيتي.
كلمها عن أعوام دراسته في دار العلوم، عن أساتذته: علي الجندي ومهدي علام وأحمد الحوفي وعمر الدسوقي وتمام حسن. قلد كلاً منهم في محاضراته: المفردات، طريقة الكلام، ردوده علي أسئلة الطلاب.
أصاخ سمعه لحديثها عن أيام الدراسة: الدخول إلي الكنيسة قبل الحصة الأولي، البنات المسلمات يقضين فترة ما قبل اليوم الدراسي في حوش المدرسة، الصلوات التي تستغرق وقتاً أطول من وقت تلقي الدروس، الملابس البيضاء ترتديها الطالبات في المناسبات الدينية، وفي الأعياء، يترنمن بالقداس، وبالألحان الدينية، زيارات الآباء من معهد الدومينيكان، والمطران من كنيسة البازيليك، استغناء مدرب الكرة الطائرة عن عضويتها لأنها أقصر مما يجب، ادعاؤها ضرورة العودة إلي البيت ـ في أوقات الدروس الصعبة ـ لرعاية أمها المريضة.
تهمس ضاحكة:
ـ أمي مريضة بالفعل منذ أشهر!
لم تشغله ـ في البداية ـ طبيعة العلاقة، ما إذا كانت الصداقة الطارئة ستثبت في علاقة دائمة. اطمأن إلي أن الصداقة ستشهد نهايتها حين يسبق أحدهما الآخر في النزول إلي المحطة التي يريدها، لكنهما تأهبا للنزول في المحطة نفسها.
سارا متجاورين، تكلما..
تعددت لقاءاتهما علي باب كنيسة اللاتين، في التقاء ناصيتي طومانباي ونصوح، أمام سراي البرنسيسة الملاصقة لمدرسة النوتردام.
يهبط من الأتوبيس علي ناصية السور الخلفي لسراي الطاهرة، يمضي بقية الطريق علي قدميه.
استمهلته ـ ذات عصر ـ قبل أن تميل إلي نصوح الهندي، ويواصل السير في شارع السلطان سليم ـ:
ـ قلت إنك خريج دار العلوم.
أومأ برأسه مؤمناً.
قالت:
ـ أحتاج إلي دروس في اللغة العربية، ستزورنا لهذه الدروس.
استطردت لارتباكه الصامت:
ـ مجرد حيلة لاستضافتك.

د. حسين علي محمد
03/01/2008, 11:51 AM
الواقعي والمتخيل فى رواية «كوب شاي بالحليب»

بقلم: شوقي بدر يوسف
....................................

مدخل :
تفصل بين الواقعى والمتخيل شعرة رفيعة ، غير مرئية ، لكنها محسوسة ، تصل الواقع بهواجس الذات وتوجهاتها ، وتفرض حقيقة الفعل الواقعى ورد الفعل التخييلى المصاحب له فى تعامل الإنسان مع ذاته ، ومع ما يدور حوله من ممارسات ، قد تكون هذه الممارسات غرائبية بالنسبة له ، وقد تكون غير مألوفة فى واقعه الذاتى ، إلا إنها تمثل مرحلة الوعى ، ومنطقة الإدراك ، وبؤرة التمييز بين ما هو حقيقى ، وبين ما يدور فى منطقة الهواجس من موضوعات يتمثلها المرء ، ويرسم لها حدود الاسترجاع ، والاجترار فى واقعه الآنى .
ولا شك أن القدرة التخييلية لاسترجاع الواقعى تجرنا فى بعض الأحيان إلى الإحساس بهذا الواقعى الذى ولى ، ومضى ، وكأنه حقيقة نراها الآن ، ونشعر بها ماثلة فى أذهاننا ، بينما هى فى الحقيقة منطقة موجودة فى اللاوعى تبدو وكأنها ذات قدرة على التشكل والتلون والظهور مرة أخرى بمظهر مغاير لما كان يدور فى المخيلة ، وأن محاولة استعادتها مرة أخرى ، ومعاودة استرجاع أحداثها التى مرت عليها سنوات طويلة ، تجعل التلاحم بين الواقعى والمتخيل مؤسساً لواقع جديد ، هو لا شك واقع إبداعى آنى له آليته الخاصة ، قد يختلف عن الواقع الواقعى فى أنه مشحون برؤية فردية أو جماعية خاضعة لقوانين المكان والزمان فى شكلها الذى ينتسب إلى التجربة الروائية فى كثير من الأحيان .
والروائى اليوم ينطلق فى أعماله بدافع التفاعل مع ما يدور فى عصره ، وبدافع التعامل مع المخيلة فى وظيفتها الإبتكارية فى سرد القضايا الدائرة فى حدود عالمه ، والتى قد تكون مختزلة ومختزنة فى بعض الأحيان فى منطقة اللاوعى ، وتلح فى الظهور من آن لآخر ، بحيث يصبح تشكيل مفردات هذا العالم بكل ما كان يحمله من تاريخ وقضايا وشخوص هو الحالة الآسرة لهاجس الكتابة ، وتكون تجليات هذا التشكيل هى المحور الأساس فى التعبير عن واقعه الذاتى والموضوعى من خلال المتخيل ، وما ينداح عنه من موضوعات تؤرّق الكاتب وتمس جوهر الممكن والمحتمل فى عالمه الخاص .
ولا شك أن رواية " كوب شاى بالحليب " للكاتب الروائى محمد جبريل تمتح من هذه الإشكالية ، إشكالية الواقعى والمتخيل ، كما أنها تعمل أيضا على استعادة واقع سردى شبه سيرى تتشكل هواجسه من محاولة تجسيد نسيج عام من ضروب الأحداث المعتمدة على نسيج آخر من التاريخ الواقعى ، يمتزج فى العديد من محاوره بالمتخيل السردى ، وما يصحبه من وجهات نظر خاصة تتمشى وتتوافق مع أحداث شبه مضمرة ، تأخذ من الواقع ملامح وجودها من خلال مجموعة من الشخصيات المتباينة فى الطبيعة ، وفى الاتجاهات ، جمعتها الظروف فى مكان له خصوصيته يرمز إلى واقع يمتد فضاؤه ليشمل هذه الذوات القادمة من أماكن لها أبعادها الخاصة ، من سوريا وفلسطين والبحرين والسودان وتونس ومن مصر أيضاً ، الجميع يجمعهم بنسيون قائم فى هذه المنطقة الشعبية من وسط القاهرة ، كما تجمعهم أيضاً طبائع إنسانية محددة ، ولكنهم يختلفون فى أنماط الممارسات ، وما يتحلق حولها من تسييس لرؤيتهم الذاتية تجاه بعض القضايا الماسة لذواتهم ، وبعض الممارسات الطبيعية التى يفرضها عليهم الواقع فى ظروف مثل ظروف معيشتهم داخل البنسيون ، كالأكل والجنس وممارسة الحياة بكافة تعقيداتها كيفما تكون ، لكل منهم سيرته الذاتية الخاصة ، ولكل منهم وضعيته ، وحياته النابعة من سلوكياته .
وتعد شخصية سمير دسوقى الشخصية المحورية داخل النص والراوى المشارك فى الأحداث ، حيث تمثل شخصيته فى بؤرة الحدث الرئيسى البعد الواقعى النابع والمعتمد على جانب سيرى يفرض نفسه على طبيعة النص ، وهو يحدد منذ البداية ، الواقعى ، السيرى المستمد من تاريخ الشخصية التى هى فى بعدها الرئيس تبدو وكأنها هى شخصية الكاتب بكل ما تحمل من مقدّرات ، وقدرات خاصة ، وبواكير فى ممارساتها الحياتية فى مطلع الشباب ، فمعظم الشخصيات تعيش واقعها المؤقت فى البنسيون فى بدايات الحياة العملية ، بعضهم طلبة من جنسيات مختلفة السودانى والسورى والفلسطينى والتونسى والبحرينى ، وبينهم تاجر من سوريا واثنان من الموظفين المصريين نقلا إلى القاهرة بحكم عملهما ، هذه الشخصيات يجمعهم مناخ الاغتراب فى تيار حياتى له سطوته الخاصة ، ويتفجر دائماً ، ويعكس طبيعة البيئة ، كما تتحلق حولهم " عنابر " وهى امرأة تقوم على خدمتهم داخل البنسيون ولهم فيها مآرب أخرى ، بعكس شخصيات بنسيون " ميرامار " لنجيب محفوظ فقد كانوا فى الجولة الأخيرة من حياتهم ، وكانوا يرزحون تحت واقع من المتناقضات ، والصراعات الدائرة من داخل الذات وخارجها .
السيرة الروائية :
فى الحالة الإبداعية للروائى محمد جبريل يصعب وضع حد فاصل بين النص الروائى فى عالمه وبين سيْرنة هذا النص ، إذ أن الحالتين ممتزجتان فى العديد من جوانبهما ، كما أن عنصر الالتباس يكاد يفرض نفسه على هذه الحالة الروائية المطروحة أمامنا بجميع مقوماتها . فنحن فى كتاباته السيرية فى " حكايات من جزيرة فاروس " ، و " الحياة ثانية " ، و " مد الموج " ، ثم فى " كوب شاى بالحليب " نكاد نستبين نصوصاً ملتبسة تتأرجح ما بين السيرة الذاتية والروائية ، ومع ذلك فهى لها ذائقتها الخاصة، لكننا أيضاً نجد واقع السيرة الذاتية كما حددها كل من فيليب لوجون وجورج ماى فى تنظيراتهما حول هذا الفن ، تمتزج فى بنية هذه النصوص ، كما أن أعماله الروائية الأخرى نجد فيها أيضا شخصيته الذاتية قد تكون مضمرة داخل بنية النص ، وأحياناً أخرى تكاد تفصح عن نفسها تماماً . وفى روايته " كوب شاى بالحليب " تظهر فى بنية النص علامات تدل على أن معمار هذا النص يأخذ من النص السيرى ليمتح فى الواقعى الآنى ، ويحدد وقائع رواية سيرية تمتزج فيها أبعاد الواقعى مع هواجس المتخّيل فى رؤية وتجربة ، مضافة إلى هذا العالم المجسد للتاريخ الاجتماعى لشخصيات الكاتب المستعادة فى معظم نصوصه تقريباً ، فالسرد قد جاء فى هذا النص بضمير المتكلم ، والشخصية واضح من تركيبتها الأساسية ، وبواكير ممارساتها داخل النص ، أنها تبحث لنفسها عن مكان فى هذا العالم منذ أن وعت أن عالم الصحافة هو عالمها الخاص ، وهى سمة تكاد تتطابق مع تجربة الكاتب الذاتية تماماً ، كما أن المكان الجديد الذى بدأ يبحث لنفسه عن موضع قدم فيه كان هو الآخر غير المكان الأصيل لعالمه وهو الإسكندرية ، أى أنه قد ترك الإسكندرية ليمهد لنفسه طريقاً إلى المختبر الجديد ، مختبر الصحافة ، وكانت القاهرة هى محط الأنظار بمركزيتها ، ومكانتها الإعلامية الكبيرة . كما أن وجود بعض الأسماء فى عالم الصحافة مثل سعد الدين وهبة ، وأحمد عباس صالح ، ونعمان عاشور ، وطوغان، والذين جاء ذكرهم فى سياق السرد قد أصل أيضاً هذا البعد السيرى ، وحدد من خلاله البعد الرئيس لهذا الجانب ، لارتباط هذه الشخصيات بالذاكرة الجمعية فى عالم الثقافة فى بواكيرها الأولى عند الكاتب . إضافة إلى أن الأحداث السياسية التى صاحبت تواجد الراوى فى القاهرة فى تلك الفترة المرتبطة بالوحدة بين سوريا ومصر هى الفترة نفسها التى بدأ فيها الكاتب حياته العملية ، وهى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى . لذا نجد أن الواقعى التاريخى فى حياة شخصية سمير دسوقى فى رواية " كوب شاى بالحليب " هو نفسه البعد السيرى الذى يرويه الكاتب على لسان الراوى – الذى يمثل الكاتب – وهو هاجسه الخاص وسط هذا الكرنفال السائد فى أرجاء البنسيون الذى أقام فيه بالقاهرة وسط لهجات مختلفة ، وأنماط متباينة من البشر ، ووجهات نظر متعددة تضطرب معها علاقات المعنى والقيمة : " فالجميع يتحدثون فى الفن والأدب والموسيقى والرياضة وأحوال الجو وزحام المواصلات ومباريات كرة القدم ، يخوضون فى مناقشات ودعابات ، يتبادلون قراءة المنفلوطى والحكيم ومحفوظ والسباعى وجوركى والشرقاوى وطه حسين وحقى وتشيخوف ومكاوى وباكثير وقصائد شوقى وحافظ ونازك الملائكة والسياب وكتابات فرويد وسارتر وكولن ولسن ومندور والعقاد وسلامة موسى " . بجانب هذا الزخم الثقافى والمعرفى يبدو الجنس وكأنه وجبة دائمة وميسّرة لسكان البنسيون " : اعتاد الطرقات على باب الشقة يفتحه ويتراجع ، وهو يخفض رأسه ، أو يتجه إلى الفراغ، تدخل المرأة باندفاعة – اندفاعة دائماً – كأنها تلوذ بالبنسيون من مطاردة " .
ولا شك أن البناء الذى أنتجه الكاتب تتبدى فيه التقنيات الروائية المعروفة ، ويلتقى فيه الواقع بالمتخيل ، والممكن بالمحتمل ، والرصد بالتنبؤ ، والتحليل بالتركيب ، كل هذا يخرج من دائرة البطل الذى يدفعه الحاضر ليسترجع ماضيه ، خاصة بواكير تجربته الأولى فى الحياة العملية بكل ما تحمل ، فى بنية سردية سيرية ولكن من منظور روائى ، وكما قال جابر عصفور عن العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتية " العلاقة وثيقة بين كتابة السيرة الذاتية وكتابة الرواية من هذا المنظور ، وسواء كنا نتحدث عن تقنيات السيرة الذاتية الأدبية ، أو عن " رواية السيرة الذاتية " أو " رواية الفنان " أو " رواية الروائى " أو ما شابه ذلك ، فإن تداخل الحدود لافت فى المجال السردى الذى يؤلف بين رغبة الاعتراف والبوح ورغبة السرد والقص، وكلتاهما رغبة ملازمة للأخرى فى دلالتهما على بعض ملامح الإنسان المعاصر الذى استبدل الاسترخاء على أريكة المحلل النفسى بالجلوس على مقعد الاعتراف فى الكنيسة ، وبعض ملامح الروائى المعاصر الذى استبدل الكتابة المباشرة عن ذاته اكتشاف هذه الذات وإعادة بنائها فى علاقات الرواية التى تصل الخيالى بالواقعى، والحقيقى بالمجازى ، عبر تعاقب أزمنتها المتداخلة " ( جابر عصفور : زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999 ص 57 ) .
وهذا هو ما احتفى به محمد جبريل فى روايته " كوب شاى بالحليب "، حين استخدم تفاعلات الواقعى بالمتخيل ، فى إقامة سرد سيرى حمل فيه من رواية السيرة الذاتية ، وتجربة الاعترافات ، ورواية الروائى ، إضافة إلى زخم من الشخوص لها تفاعلها الذاتى والكيميائى ، فالكاتب فى هذا النص يكتب عن الآخرين باستفاضة ملفتة ، ثم نكتشف أنه يكتب عن نفسه ، هو يؤرخ للآخرين ، ويستحضر تاريخاً سياسياً مرت به المنطقة ، وتفاعلت معه ، وعايشه معايشة كاملة ، وشارك فى الحديث عنه ، وفى تسييس وقائعه ، وفى الوقت نفسه نجد أن هواجسه المتخيّلة لها نفس الإشكالية .
الواقع المسّيس
لعب الواقع المسيّس دوراً أساسياً داخل النص فى بلورة قضايا وإشكاليات فرضت نفسها على هذا الواقع من خلال تنوع الشخصيات ، حيث يبدو الواقعى المسيّس فى حوار الشخصيات ومناقشاتهم حول ما يدور فى قضايا الساحة من صراعات سياسية وأيديولوجية ، خاصة ما طال منها موضوع الوحدة بين سوريا ومصر ، والحالة الرافضة هناك فى " الإقليم الشمالى " سوريا للقيود الجديدة المستمدة من واقع الحال فى " الإقليم الجنوبى " مصر ، والإفصاح عن أسماء الضباط السوريين الذين بادروا بالانفصال ، والآلية التى نوقشت بها هذه القضية . فالحوار الذى دار بينهم حول العديد من القضايا ، والتى من بينها القضايا السياسية الساخنة ، يضفى على بنية النص بعداً تمهيدياً لما سيسفر عنه الفعل الروائى بعد ذلك . ولعل المواقف الجنسية كانت هى الطرف الآخر من الخيط ، والمكمل للمواقف السياسية الدائرة على الساحة ، والتى تشغل بال سكان البنسيون ، خاصة فى أوقات المساء ، باعتبار أن الجميع طرف فى القضايا المطروحة من بعيد أو قريب . كما كان الجنس وتوابعه فى البنسيون يرمز إلى الطبيعة الإنسانية الباحثة عن المتعة الشبقية ، بجانب البحث عن متعة المناقشة والجدل حول القضايا السياسية الساخنة ، والقضايا التى تشغل بال العامة والخاصة فى ذلك الوقت .
ومن ثم كانت السياسة والجنس وتوابعهما فى البنسيون يرمزان إلى أنهما وجهان لعملة واحدة داخل هذا المكان ، وأن من يتعاطى السياسة ، ويدلى فيها بدلوه هو الذى يدلى بدلوه أيضاً فى دوامة الجنس ، وضبابيته المسيطرة على واقع المكان الرامز إلى الواقع العام . ولعل تسييس الواقع داخل النص وبلورة المتخيّل فى تأصيل واقع كل شخصية ، قد أعطى النص مواقف متشابكة ومتداخلة .
فالشخصيات المتحررة من قيود التركيب ، والباحثة فى نفس الوقت عن متعة الحياة ، والمتواجدة فى ساحة البنسيون ، ترمز إلى الرأى العام الذى كان يرزح آنذاك تحت وطأة وأثقال المغيبّات بأنواعها المختلفة ، وقد كان الجنس وجدل السياسة هما أهم أنواع هذه المغيبّات ، والوهم المستبد بالجميع .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
03/01/2008, 11:51 AM
زمن سادوم وعامورة
يحتل الجنس فى رواية " كوب شاى بالحليب " مساحة تبدو داخل البنسيون وكأنها مساحة الزمن كله ، فهو فى تنويعاته المختلفة يعبر عن واقع هذا الزمن ، ولعل الاهتمام الزائد بالجنس فى الرواية ، وما يمثله من بؤرة دالة تشغل مساحة كبيرة من النص ، يمثلها هذا المجتمع شبه المغلق ، بل إن المكان ذاته وهو يحاصر هذه الأجساد ويحتويها ويجعلها خاضعة للحاجة ، إنما يعبر عن طبيعة الزمن ، إضافة إلى طبيعة المكان ذاته ، وطبيعة المشاعر الحاصلة فيه ، ولعل الرغبات الجامحة أيضاً عند بعض شخصيات الرواية تعطينا دلالة على أن المتعة الشبقية العابرة كانت هى عقدة الجميع داخل هذا المكان ، وأن لكل رغبته الذاتية التى يعوّل عليها فى متعته مع الجنس ، وأن الجسد المباع كان هو الآخر يمثل بعداً تأويليا لمنطق هذا الزمن الحافل بالتهرؤ والزيف والفساد . فجميع النساء اللاتى وطئن أرض البنسيون بما فيهن " عنابر " التى تعمل لخدمة النزلاء ، كن من نسيج هذا الزمن ، بل إنهن من صنعه ، لكل حاجته الخاصة المادية والإشباعية ، فالعقدة الأوديبية عند الراوى دفعت به إلى امرأة تعدت الأربعين ، أعطاها عنوانه وهو يعرف فى عقله الباطن أنها ستحضر إلى البنسيون ، بعد أن كان كثيراً ما يغض الطرف عن رغبته وحاجته الخاصة للجنس ، وسط هذه الحالة العامة التى عايشها بين زملائه من نزلاء البنسيون، وكانت تلك هى المرة الأولى التى مارس فيها الجنس فى هذا المكان ، وإن كانت له محاولات لا تتعدى الملامسة والقبل . وإذا تتبعنا ملامح الأيروسية عند باقى النزلاء فسنجد أن المكان والزمان كليهما كانا يعبران عن هذه الأيروسية دون مغالاة ، بل ودون مبالاة أيضاً ، حتى أن صاحب البنسيون نفسه عندما حضر فى زيارة روتينية لم يعر مظاهر الجنس التى سمع عنها أى شيء ، إنما كان همه فقط أن الحديث عن السياسة من وجهة نظره هو الممنوع داخل البنسيون ، ذلك أن الجميع كانوا يعيشون الجنس من خلال الواقعى والمتخيل فى آن واحد ، بما فيهم " عنابر " المرأة التى تقوم على خدمتهم، هم يمارسون الجنس بواقعيته المعهودة ، لكنهم ينفذونه بمتخيلهم الخاص وطبيعتهم الذاتية ، فجلال ضيف الله يهمل المقدمات فى العلاقة الجنسية ، ويقتحم هذه العلاقة مباشرة ، ولا يشغله ما تريده المرأة ، أو ترفضه ، فهى إناء يفرغ فيه ما يلح عليه ، ثم إنه يترك لها النقود على السرير ويغادر الغرفة قبل مغادرة المرأة لها . كما أن له فلسفته الجنسية الخاصة " كان يشتهى الكاحلين بقوة ، يتطلع إلى لحظة – تبدو قاسية فيرجئها – يلامس فيها المساحة التى أحبها من ساق المرأة ، يتشممها، يلعقها، يدفس قضيبه – إن استطاع – فيها، يستغنى عن اللحظات التى يتحدث فيها ، ويتصورها ، من يعيشون فى البنسيون ، ويترددون عليه " . وقد أتى ذات مساء ببائعة فجل من ميدان باب اللوق ليمارس معها الجنس معللاً ذلك بأن رائحتها أثارته .
أما الفلسطينى غسان جبر زميله فى الحجرة فقد كان له وجهة نظر خاصة تجاه الجنس تنبع من مخيلة ذاتية ، فهو يتطلع إلى هذه العلاقة من خلال علاقة حسية وذاتية كاملة ، الجنس جزء منها ، والباقى علاقات تتواصل من خلال العاطفى والثقافى معا " كان يتطلع إلى علاقة الحب بين دماغين ، يصعب إهمال العلاقة الحسية ، لكنها تمثل علاقة فى ذاتها ، هى جزء من كل ، يقرأ وتنصت، تقرأ وينصت ، يتناقشان ، يتفقان ، يختلفان ، يشتد الميل فتتلامس الشفاه ، ربما استغرقهما العناق ثم يعودان إلى ما كانا يقرآنه " , ولما كانت أمه هى المرأة الوحيدة التى يعرفها معرفة كاملة ، إضافة إلى واقعه المادى والرومانسى ، فقد كانت التجربة الجنسية المفاجئة له فى البنسيون تكاد تنحصر فى علاقات قليلة من خلال أنه يريد أن تعطيه المرأة نفسها عن اقتناع ، وبمحض إرادتها هى لا برغبته الجنسية هو " يقرفه أنها تعرى أسفل جسدها ، وتنتظر رد الفعل دون أن تنظر فى عينيه " . أما شخصية السودانى جزرة الشفيع فقد كان على النقيض من الجميع فى عشقه للجنس لذاته ، لا يهمه شكل المرأة ولا ملامحها ، يمارس الجنس فى أى وقت ، وفى أى مكان داخل البنسيون ، ولا يشغله حتى وجود من يتابع الحدث ، هى بالنسبة له أمور ثانوية تافهة ، حتى أن سمير دسوقى كان يرى بنفسه ما يفعله جزرة ، وكانت تذهله هذه الجرأة التى كان عليها " أمام النافذة المغلقة المطلة على شارع منصور ، رأى جزرة يتبادل القبلات مع امرأة ، بدت الرغبة الحسية حياته . دافعاً إلى التفكير، وإقامة العلاقات . كان يقدم على فعل الجنس فى أى مكان ، فى الحجرات، فى الصالة ، فى الطرقة بين الحجرات . لم يكن فى حياته ما يفوق الجنس . اهتياج جسده يفاجئه فى لحظات لا يتوقعها ، قد يحركه تصرف أو عبارة ، ينتهز فرصة خلو البيت فترة الصباح ، يمارس الجنس مع عنابر فى حجرات البنسيون . الحجرة التى يقفان أمام بابها . يحرص على اللحظة ، يطيلها ، حتى الحمام كان يغلقه عليه ، ويمارس الحب ، يتفنن فى أوضاع العلاقة ، يحاول إطالة لحظات المتعة، ربما ترك للمرأة اختيار الوضع الذى تفضله . لم يكن يشغله وجود من يتابع الحدث " .
فى معرض لوحاته وتجسيده الواقعى وهواجس التخيل يبدو الجنس فى رواية " كوب شاى بالحليب " محمّل بالحالتين ، إلا أن الواقعى منه يتحرك تحت قشرة ذاتية ، تختبئ وراءها هواجس المتخيل الدافعة إلى تفاعل الرغبة بهذه الطريقة المفرطة . ولا شك أن للمكان دور فاعل فى إذكاء هذه الحالة حتى إنها تتحول ـ فى بعض الأحيان ـ إلى أسلوب حياة لا يمكن الاستغناء عنه . وهو ما وضح فى ممارسات معظم الشخصيات التى عاشت بطبيعتها الذاتية داخل البنسيون . والبنسيون ـ كمكان ـ يستمد سطوته من الحرية التى يشعر بها النزلاء ، خاصة فى غيبة الوعى والإدراك ، وتعتمل فيه سطوة الجنس لتشمل الجميع حتى ضعفاء الرغبة سرعان ما نجدهم يتحولون إلى النقيض . إلا أن الجانب المعتم من أعماق النفس كثيراً ما يجد بصيصاً من نور ، يتمثل فى محاولة الضمير رأب الصدع الذى يصيب أعماق النفس المظلمة والمعتمة ، يغذيه أحياناً الضغط النفسى وعذاب الضمير . لذا كانت قملة العانة التى أصابت سمير دسوقى فى إحدى ممارسته الجنسية ، والتى ـ ربما ـ أتت بها " مارى "، هى مرحلة التحوّل التى أصابت الجميع داخل البنسيون . ولعل ظهور هذه الحشرة فى نهاية النص ، مع الأخبار التى وردت بحركة الانفصال بين مصر وسوريا ، كان هو الكابوس الفظيع الذى خيم على مناخ الحالة العامة والحالة الخاصة ، وكأنه حشرة كافكا التى تلبسته فى صباح أحد الأيام بطريقة مفاجئة . لقد استحضرها الكاتب ليعبر من خلالها عن المتخيّل المستقر فى البنسيون ، وفى مصر كلها " : استغرقه صمت الليل والقراءة ، انتفض لرؤية حشرة تتحرك فى أعلى الصفحة ، قذف الكتاب دون أن يتدبر رد فعل الصرخة .
رمق رصات الكتب بنظرة متشككة . هل يحرقها ؟
أيقظته يد وردى المتقلصة على كتفه ، وهو يغالب الحشرة الهائلة ، استطالت ، تضخمت ، بدت جسما شائهاً له آلاف الأعين والأقدام والأرجل ، يملأ فراغ الحجرة إلى الجدران والسقف ، تهم بابتلاعه " . ملأت الحشرة المتخيل الواقعى عند سمير دسوقى بحيث أصبحت رفيقته فى صحوه وأحلامه ونومه ، أصبحت هى الواقعى فى حياته ، وفى هاجسه المتخيل ، تبدو وكأنها كابوس يختلط بكل شئ حوله ، ووسط هذا الكابوس الكبير فى حياتهم داخل البنسيون . وفى ذروة تعاملهم مع حشرة العانة يسمعون خبر الانقلاب السورى على الوحدة ، ويسمعون أسماء قادة الانفصال النحلاوى والكزبرى وغيرهم . آراء متعددة حول الوحدة وما حدث لها . أخبره الطبيب بأن الحشرة فى حياتهم ما هى إلا وهم ، ووهم كبير . بلغ الوهم عند سمير دسوقى قمته بحشرة العانة ، وبفشل الوحدة بين سوريا ومصر و لم يوقظه من هذا الوهم سوى العودة إلى الإسكندرية مسقط رأسه . ويترك الجميع البنسيون بناء على طلب الحاج كامل مهدى صاحب البنسيون . ويودع كل منهم صاحبه .
قال الزهراوى لسمير دسوقى وهو يودعه : " سأفتقد دعوتك على كوب الشاى بالحليب "
بهذا النص الملتبس ما بين الرواية والسيرة والمكدس تكديساً لا حد له بالوقائع والأحداث التفصيلية ، وبهذا الوهم الكبير الذى عاشه الجميع سواء على مستوى الحياة الكبيرة فى مصر وسوريا ، أو على المستوى الخاص داخل البنسيون ، وما واجهه الجميع فى الواقعى والمتخيل ، نجد أن النص يتخذ شكل التعبير التسجيلى والتقرير الشديد الدقة ، فى توقيتاته المحددة وتفاصيل أحداثها الظاهرة والباطنة ، الواقعية والمتوهمة ، لهذا كان هذا المناخ الكابوسى الذى ظللت الجميع خطوطه العريضة من الواقعى فى هذه الشخصيات ، ومن المتخيّل الحلم الجميع فى مصر وسوريا ، ومن بنسيون شارع فهمى أيضاً .

د. حسين علي محمد
03/01/2008, 11:52 AM
ذاكرة الأشجار رواية: محمد جبريل (2)
...............................................

عاني ـ لرؤية الرجل الجالس في الشرفة يغني ـ ارتباكاً لم يفلح، حتي أمام سيلفي ـ في مداراته. تأمل اللحن، اجتذبه، وإن لم يفهم الكلمات. ـ أبي. ما عدا الأرض الخلاء في ناصية تقاطع شارع نصوح، والشارع المتفرع منه ـ لم يعن بأن يسأل عن اسمه ـ فإن البنايات تلاصقت في الشارع الصغير.
الفيللا من طابق واحد، تحيط به حديقة، الدرجات الرخامية الخمس، تصعد إلي الشرفة العريضة، الممتدة بطول الواجهة، من خلال الباب الحديدي الخارجي، والعمودين بمساحة المتر، يعلو كل منهما مصباح زجاجي مكور.
الشرفة تطل ـ من الواجهة ـ علي الشارع الصغير، ومن الجانبين علي الحديقة المتكاثفة الأشجار، الأرضية علي هيئة مربعات الشطرنج. تتناثر فوقها كراسي من الخيرزان، تتوسطها منضدة ذات سطح زجاجي. السلم الجانبي، متآكل، يهبط إلي البدروم. الصالة في مواجهة باب المدخل المتداخل الحديد والزجاج. الأسبق عالية، والجدران يغطيها الورق ذو النقوش الملونة. في مساحة الجدار المواجه بوفيه من خشب الماهوجني الأسود، فوقه ثلاثة شمعدانات متجاورة من زجاج من زجاج المورانو، وتماثيل صغيرة من الزجاج الملون. يتوسط الصالة أنتريه مطعم بالصدف من أربعة كراسي وكنبة، تتوسطه طاولة من الخشب المنقوش. علق أعلي الجدار صليب فضي، إلي جانبه صور فوتوغرافية، ولوحات تآكلت حوافها. تتقابل الحجرات الأربع المغلقة، عدا واحدة مواربة. الطرقة ـ علي اليسار ـ تفضي إلي حجرة خامسة، خمن أنها حجرة المائدة، وإلي الحمام والمطبخ.
يتنبه لترامي سقوط الثمار من أشجار الحديقة وارتطامها بالأرض. تعيده إلي نفسه، وإلي حيث هو.
علا صوت بالسؤال من داخل الحجرة الأولي علي اليمين:
ـ أمنا مريضة وتصرين علي البقاء خارج البيت؟!
حدّس ـ من الصورة التي رسمتها في ذاكرته ـ أن الصوت لأنطوان، شقيقها الأكبر. اختلج صوتها بنبرة سخط:
ـ ابحث عن عمل.
ـ تستطيعين الانتظار.
ـ استدرك بنبرة متأثرة:
ـ أمنا تحتاج إلي رعايتك.
وهي تضغط براحتيها علي عنقها:
ـ أحاول إنقاذ نفسي قبل أن أختنق!
سبقت ماهر إلي الحجرة الثانية علي اليسار. الستارة القطيفة، الغامقة الزرقة، المسدلة علي النافذة، تعيق دخول أشعة الشمس، لكنها تهب من الضوء ما يعين علي الرؤية.
في الوسط منضدة صغيرة، عليها مجلات ومنفضة سجاير، وإلي الجانب مكتب صغير من خشب الأبنوس. وفي الزاوية دولاب بضلفة من الزجاج، تكسدت فيه كتب مجلدة.
بدت السيدة الراقدة علي السرير ـ أدرك أنها أمها ـ مريضة، فلا تقوي علي الحركة. العينان ساجيتان، والعروق خضراء تبين من وراء البشرة الأقرب إلي الصفرة، وهالة الشعر الفضي أضفت علي وجهها سكينة. حدس أنها كانت ـ في شبابها ـ ذات جمال رائق.
لم يستطع أن يخمن عمرها، وإن بدت متعبة للغاية.
مالت سيلفي عليها. مسدت شعرها الأبيض المهوش. همست:
ـ هذا ماهر.
قالت ـ بلغة لعلها الإيطالية ـ كلاماً كثيراً، قدمته به لأمها. فطن إلي أن الأم لا تعي كلماتها، ولا تعي شيئاً.
تبين الانفراجات بين الأشجار المتشابكة عن أجزاء من البيت المقابل. خلت واجهته إلا من الطوب الأحمر، وإن وشت بحداثة البناء، وخلت مما اتسمت به فيللا جوتييه، والفيلات والبيوت القديمة، المنجاورة من ميل إلي الارتفاع والنقوش والمقرنصات. امتلأت نوافذ الطوابق الثلاثة العلوية بخزين الطعام وبقايا الأثاث، وتدلت قطع الغسيل من المناشر الممتدة أمامها. نوافذ الطابق الأول مغلقة، وإن ترامي اختلاط ندادات وشتائم وأغنيات وصراخ أطفال.
عرف أن الأب خرج إلي المعاش بعد أن بدلت قوانين التأميم اسم البنك إلي بنك الإسكندرية. قدم من النمسا قبل الحرب العالمية الأولي. التحق ـ بالشهادة المتوسطة ـ موظفاً من بنك باركليز. تزوج ابنة رئيسه الإيطالي. ترقي في وظائف البنك حتي حصل علي حق التوقيع. ظل في فرع الموسكي منذ بداية تعيينه، حتي أحيل إلي المعاش.
ـ لو أن بنك باركليز لم يؤمم، ربما ظل أبي في عمله..
ـ وسن والمعاش؟
فكرت قليلاً:
ـ خبرته تعطيه الحق في تجاوزها.
هل نسيت ـ أو تناست ـ كلامها عن موته بأيدي المصريين في معارك 1956؟ ما حكاية قتل المصريين للرجل في أثناء عمله مديراً لفرع بنك باركليز ببورسعيد؟ ولماذا نسجت هذه الحكاية التي تبدو ـ من فتاة في سنها ـ حقيقية وصادقة؟ لماذا اخترعت ما لا يوجد سبب لاختراعه؟ هل كانت تتصور ابتعاده عن حياة أسرتها، فأرادت استمالته بالحكاية الغريبة؟
كان يستطيع أن يسألها، أو يسأل نفسه: كيف يعمل الأب في بورسعيد، ويقيم في القاهرة؟
خشي أن مجرد التلميح طريق النهاية التي لا يرجوها. بدت سيلفي تكويناً في صورة المستقبل. ربما تقوضت الصورة تماماً لو أنه جذب خيط السين والجيم. ربما قالت ما روته لاختبار مشاعره، أو لعلها أرادت ـ في البداية ـ أن تبعده عنها، ربما أي شيء سيتعرف عليه بتوالي الأيام.
وهو يمسد شعره بأصابعه:
ـ أظن أن تأميم الصحف أفادني.
شجعته ـ بإيماءة ـ تكملة كلامه.
قال:
ـ ضُمّت دار المعارف إلي الأهرام. وسط أبي رؤساءه في إدارة توزيع الأهرام. عينت بدار المعارف فور حصولي علي ليسانس دار العلوم.
تكررت زياراته للفيللا حتي اعتادوا رؤيته، لا يعرف إن سألوا سيلفي عنه، أم أن هذا هو أسلوب حياتهم؟
كلمته عن مشوارها اليومي إلي وسط البلد. تبحث عن عمل بالثانوية العامة. لم تجد في نفسها ميلاً لدخول الجامعة. اقتصر بحثها علي الفنادق وشركات الطيران والسياحة. لو لم أجد سوي العمل في الحكومة، فسأظل في البيت، ما أتقاضاه من أبي يوفر لي الحياة التي أريدها، وإن كنت لا أتصور أني سأظل مع أنطوان في بيت واحد (غالب الحرج في أن يسألها إذا كانت قد صدقت فيما قالته هذه المرة؟!).
وسمت العفوية كلماتها وهي تحكي مغامرتها الأولي في تدخين سيجارة. أطالت الوقوف داخل دورة مياه المدرسة، وتأكدت من زوال رائحة الدخان ـ تخشي أنطوان ـ في النعناع الذي مضغت أقراصاً منه.
لاحظ اهتمامها بما يرويه عن المواردي. تسأل وتجيب، تستوضح، تظهر التأثر والحزن والألم والإشفاق. تبتسم، وتضحك، يعلو صوتها بالتعليقات، المواردي لا يعرف الهدوء، اختلاط الصيحات والنداءات والضحكات، وضربات حجارة الطاولة علي طاولات المقهي، أول الشارع. نصوح يختلف، هو هادئ دائماً.
روي لها عن صحوه علي أذان الفجر في جامع السيدة زينب، عبارات أخته زينب المحتجة حول من يملأ القلة الموضوعية علي نافذة المنور، حرص أبيه علي أن يكشف أغطية الأواني، يتذوق ما فيها من طعام، صرخة أمه للمساحيق التي غطت بها شقيقته الصغري هناء وجهها. ضحكة هناء لتهديد الأم: إذا فعلت ذلك ثانية فسأضربك!.. كلمات أبيه عن تحسن صحته، بعد أن اختار الذهاب ـ سيراً علي القدمين ـ إلي عمله بإدارة التوزيع في »الأهرام«، بدلاً من ركوب المواصلات. مشوار لا بأس به من المنيرة إلي شارع مظلوم.
تحولت الابتسامة إلي ضحكة ـ لم يقو علي إسكاتها ـ حين استعاد ما قالته أمه: لن نستطع استضافة فتاتك، هي خواجاية من الزيتون، ونحن أولاد عرب من المواردي!
استيقظ ذات صباح. وجدها ترنو إليه من سقف الحجرة.
عرف أنه أحبها..
هل تحبه؟
***
يجيش في نفسه الشوق لرؤيتها: وهو في مكتبه المطل علي النيل، وهو يراجع بروفات الكتب، وهو يركب الأتوبيس في تنقله بين دار المعارف وبيوت المؤلفين، وهو يجلس إلي أسرته في حجرة القعاد.
مثلت في حياته ما لا تمثله زميلات دار المعارف، ولا بنات الجيران، ولا البنات القريبات، ولا حتي أخته زينب التي يعدها صديقة حقيقية.
لم تعد صورتها تفارق عينيه، ولا يفكر في غير الأوقات التي يقضيها إلي جنبها، في البيت، أو في الشارع، أو في »أسترا« علي ناصية ميدان التحرير وشارع محمود بسيوني، هو أنسب الأماكن للجلوس بعيداً عن الأعين، وإن حرصا علي الابتعاد عن حركة الطريق. يغيبان عن بعضهما يومين، أو ثلاثة، فلا يشعر أنهما قد افترقا لحظة.
اجتذبته بما يصعب عليه تحديده، آفاق لا حدود لها، ربطته بقيود خفية، لا يراها. لا بد أن هذا هو ما تشعر به.
هو يحبها، ويعرف أنها تحبه.
روت عن مشاهداتها المتباعدة لعروض الأوبرا الأجنبية. تنزل من الأتوبيس في ميدان العتبة. تخترق زحام شارع الموسكي، إلي مبني بنك باركليز، بالقرب من بداية الشارع. تنتظر أباها حتي موعد انصرافه، ساعة أو أقل. يصحبها في الطريق نفسه. يعبران الميدان: قسم شرطة الموسكي، ومبني المطافي، والبريد المركزي، إلي ميدان الأوبرا. تعرف أن تمثال إبراهيم باشا قبالة باب الأوبرا. شاهدت عروضاً إيطالية وفرنسية. رددت مع أبيها ـ في طريق العودة ـ ألحاناً مما استمعا إليه.
حدثته عن سيمفونيات سترافنسكي وبيتهوفن وموزار وباخ وواجنر. استعاد الأسماء، أو تظاهر بأنه يعرفها.
قال:
ـ أحب الغناء من أبيك، لكنني لا أحب عروض الأوبرا، لا أفهم الكلمات، وأجد في الألحان مجرد زعيق!
ورفع راحتيه كالمعتذر:
ـ أفضل أن أكون صادقاً فيما أتذوقه، ولا أنساق إلي ما لا أفهمه!
اتجهت بنظرها إلي الأرض تداري ابتسامة:
ـ ليس الأمر صعباً إلي هذا الحد!
وعدت بأصابعها:
ـ إنها ـ عادة ـ مجرد أربع حركات موسيقية، لو أنك أعطيتها اهتمامك فستجد فيها ما يستحق السماع.
وضغطت علي الكلمات:
ـ لو أنك أعطيت انتباهك، ربما تبدل رأيك.
ـ الموسيقي الشرقية هي التي تجتذبني، تطربني، لا تعادلها عند موسيقي أخري.
تمني لو أن فمه ظل مغلقاً. يؤلمه أنه ـ إذا تحدث ـ قال كلاماً سخيفاً، وبلا معني. لم يكن يحسن التعبير عما في نفسه، أو يخفيه.
روت حلماً استقرت به نفسها: وقفت ـ متحيرة ـ أمام طريقين تظللهما أشجار مشابهة لأشجار حديقة الفيللا.
عادت من أحد الطريقين، بعد أن تساقطت ـ بمجرد الخطو ـ أمطار طينية. اصطبغ بالسواد جسدها، وما عليها من ثياب. وضعت قدمها ـ بالخطوة الأولي ـ في الطريق الثانية. تشجعت ـ بالأوراق الخضراء المتساقطة ـ علي مواصلة السير.
رأت ـ في نهاية الطريق ـ شخصاً يشبهه. تأملته. هو نفسه من كان يقف تحت شجرة هائلة تماثل أشجار الحديقة.
مدت ذراعيها، تحاول التأكد مما رأته.
صحت علي لكزة دومينيك المترفقة في كتفيها:
ـ من تكلمين؟
شيء ما في نبرة صوتها دفعه ـ بينه وبين نفسه ـ إلي استعادة ما قالته: هل رأت حلماً، أو أنها تومئ بما تصورت أنه لا يشغله؟
***
ناوشه السؤال، وإن خنقه في داخله: هل عرفت شباناً قبله؟
فطن إلي أنه ليس أول من عرفته. وشت تصرفاتها بما حاولت إخفاءه. بدت الآفاق ـ بمجرد التلميح ـ غير واضحة، وقد تطالعه بما يبعدها عنه.
يضايقه الكثير من تصرفاتها، وما ترويه، لكن شيئاً غامضاً يربط بينه وبينها، ليس الحب وحده، لكنه شعور بالألفة والطمأنينة.
كان يمني نفسه ـ قبل أن يلتقي سيلفي ـ بعلاقة حب. لم يرسم للفتاة ملامح في ذهنه، ولا تصور كيف تبدأ العلاقة، ولا كيف تنتهي.
....................................
*الوفد ـ في 1/1/2008م.

احمد خميس
13/01/2008, 05:55 AM
http://img526.imageshack.us/img526/3631/378thanksmy8rn0.gif

د. حسين علي محمد
22/02/2008, 01:06 PM
http://img526.imageshack.us/img526/3631/378thanksmy8rn0.gif

شُكراً للأديب المبدع أحمد خميس.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:37 AM
شُكراً للأديب المبدع أحمد خميس.

شكراً للأديب الأستاذ أحمد خميس على التعليق،
مع موداتي.

د. حسين علي محمد
07/06/2008, 04:00 PM
من المحرر:
الواقعية الصوفية

بقلم: محمد جبريل
.................

في الحوار الذي أجرته هذه الصفحة مع الدكتور محمد شبل الكومي. أشار إلي الصلة بين الفن السوريالي والأدب الصوفي وبقدر تأكيد رأي الكومي علي وحدة الفنون. فإن معني الكلمات ينبهنا إلي الصلة بين الأدب الصوفي وما يسمي الواقعية السحرية. وجه العملة الآخر للفن السوريالي. والتيار الفني الذي حققت الرواية في أمريكا اللاتينية من خلاله تفوقا لافتا.
مكاشفات وبركات الصوفية تتماهي مع بنية الواقعية السحرية. وتوظيف الفن للبعد الصوفي ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات. لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآنية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها.
بعض دارسي الواقعية السحرية يرفضون أن تجد تماهيا. أو حتي مشابهة. مع الموروث الديني أو الشعبي. بعيدا عن الانثربولوجيا علي المستوي الإنساني في ذكرياتها.
بلدي المخترع تؤكد ايزابيل الليندي أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس. أدخلتها في الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمي بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير.. ويقول ماريو بينيدتي إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية ليس مرده الواقع العجائبي. وإنما الواقع المروع وقد عاب ماركيث علي واقعية الأجيال الحالية -والتعبير له- غياب البساط الذي يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال والعبد الذي يظل داخل الزجاجة مائتي عام قبل أن يتاح له الخروج إلي العالم.
حين اتحدث عن الخيال. فأنا لا أعني بالخيال ما يحتفي به السورياليون. إنما أعني الخيال الفني في كل مستوياته وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبدا إلي حدوده القصوي- علي حد تعبير جمال الدين بن الشيخ فإن الواقعية السحرية- والسوريالية كذلك- تفجر الخيال إلي أقصي مداه تأذن بتحرر اللاوعي إطلاقا من الرقابة التي قد يمارسها العقل وهذا ما يبين فيما يمكن تسميته بالواقعية الصوفية.
إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة في اللاوعي. بحيث تظهر عالما ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخري الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعي. تشكل جزءا في نسيجه.
أوافق علي الرأي بأن الواقعية السحرية مجرد مسمي لاتيني أمريكي لظاهرة عالمية قديمة الواقعية السحرية- أداتها قوة الخيال- تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش .
ظاهرة الواقعية السحرية موجودة في الأساطير والملاحم والحكايات العربية. منذ أسطورة ايزيس وقصة الأخوين. تواصلا مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية: الهلالية وعنترة وبيبرس وحي بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم. وإذا كان كل شيء في أمريكا اللاتينية -كما يقول ماركيث- ممكنا. وواقعيا فإن المعني نفسه يصدق علي الحياة في بلادنا الوجدان المصري- والعربي بعامة- يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية مهما مالت -موضوعيا- إلي الخرافة إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أمورا حقيقية ويجب تصديقها وممارسة سلوكيات حياتنا في ضوء ذلك الاعتبار الإنسان العربي يمارس ما قد يبدو خرافة دون أن يضعه في إطار معرفي محدد. بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب هم الذين يعرفون معني الواقعية السحرية. بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل. أو ما أميل إلي تسميته -أكرر- الواقعية الصوفية!
"م. ج"
mlg_38@hotmail.com
...........................................
*المساء ـ في 7/6/2008م.

د. حسين علي محمد
07/06/2008, 04:01 PM
من المحرر:
الترجمة

بقلم: محمد جبريل
..................

إذا كانت الخطة التالية التي نأملها من المركز القومي للترجمة. هي الترجمة من العربية إلي اللغات الأجنبية. فإن ذلك ما يعني به مستعربون. أخلصوا لقضية الترجمة من العربية إلي لغاتهم. والمثل الذي يصعب الاختلاف حوله هو الإيطالية إيزابيلا كامرا.
الشروط غير المعلنة التي يترجم بعض المستشرقين في ظلها إبداعات عربية. تشمل كل ما يسم العربي بالتخلف. ثمة الفقر والتخلف والأمية وختان البنات وانسحاق المرأة والعشوائيات والعدوانية وفقدان الوعي وغيرها من الظواهر التي قد تكون شاحبة. أو عارضة. لكنها تتحول -بقدرة الميديا الغربية- إلي ثوابت في الحياة العربية. قرأنا أعمالاً يصعب نسبتها إلي الإجادة في الأدب العربي. لكن أحداثها اقتصرت -للأسف- علي تلك الجوانب السلبية!
تجد ايزابيلا أن المنجز الإبداعي في مجال الرواية العربية يتيح لها مكانة لا تقل عما بلغته الرواية علي المستوي العالمي. بل إن الوشائج واضحة بين العربية ومثيلتها في أمريكا اللاتينية.
الأسباب السياسية -في تقدير إيزابيلا- هي التي تحول بين ما تترجمه والوصول إلي القارئ الأوروبي بعامة. والإيطالي بخاصة. هي تقرأ. وتختار ما يستحق الترجمة. وتستغرقها ترجمة العمل الواحد لأشهر أو لسنوات. حتي يصبح معداً للنشر. وكان ذلك متاحاً من خلال الدعم الذي تقدمه الحكومة الإيطالية. لكن الوضع تبدل بعد تولي اليمين حكم إيطاليا. فقد رفع الدعم المخصص للترجمة إلي العربية -وهو لا يمثل مجرد هامش في الميزانية- وبدأ ما تترجمه إيزابيلا يعاني الركنة في الأدراج.. إذا كنا نتحدث عن ضرورة فتح نوافذ للإبداعات العربية. تطل منها علي القارئ في كل الدنيا. فالبديهي أن تظل النوافذ المفتوحة علي حالها. فلا نغلقها بالصمت البليد واللامبالاة.. الدعم الذي منعه اليمين الإيطالي -يتصور في العرب والإسلام قوة مناوئة بعد الشيوعية الدولية!- لمنع إيزابيلا من خدمة الثقافة العربية. يجب أن تتلقاه المستعربة الإيطالية - ترفض تسمية مستشرقة - فتواصل دورها في خدمة الثقافة العربية؟
أتصور أن جابر عصفور -المشرف علي المركز القومي للترجمة- يستطيع أن يجاوز تسلط اليمين الإيطالي. فيوفر الدعم الذي تطلبه إيزابيلا. بأن يعهد إليها ببترجمة ما اقتنعت بقيمته من إبداعاتنا العربية.
لإيزابيلا مكانة لافتة بين المستشرقين. أو المستعربين. وعلينا أن نفيد من هذه المكانة بأن نعين إيزابيلا علي أداء دورها الذي أنشئ مركز الترجمة لتحقيقه.
..............................
*المساء في 31/5/2008م.

د. حسين علي محمد
07/06/2008, 04:05 PM
قراءة في كتاب «السحار: رحلة إلى السيرة النبوية»
لمحمد جبريل

بقلم: أ.د. حسين علي محمد
................................

يرى الروائي محمد جبريل أن عبد الحميد جودة السحار من أشد أدبائنا "تعبيراً عن البيئة المصرية كما أنه أكثرهم التزاماً بالمغزى الأخلاقي" بدءاً من قصته الأولى "رجل البيت".
يقول محمد جبريل:
"سألت السحار: هل تعبِّر أعمالك عن فلسفة حياة متكاملة؟
فقال: إنني دائما أحاول أن أصور لحظات الضعف البشري، لكنني لا أترك الأضواء مسلطة على الإنسان عند سقوطه، بل أترك الأضواء مسلطة على لحظات الإفاقة. السقوط عبارة عن الواقع الصغير. إنما الندم، والنظر إلى أعلى، إلى السمو، إلى الله .. هو الواقع الكبير … وأحاول أن أوضِّح دائماً أننا لسنا وحدنا المسيطرين على مصائرنا".
وقد اتجه السحار إلى كتابة السيرة الإسلامية، فكتب "أبو ذر الغفاري" و"بلال مؤذن الرسول" و"سعد بن أبي وقّاص" و"أبناء أبي بكر الصديق". وكان يرى أن تطوير الثقافة العربية مرهون بقدرتنا على محاورة تراثنا والاستضاءة به، يقول:
"لقد أحسست أن التراث الإسلامي والثقافة العربية يمثلان شيئا هاما وجوهريا داخل حلقات التطور الفكري لمصر عبر العصور، وإنه لا يُمكن تطوير الأدب، وتطوير الثقافة المصرية دون العودة إلى استلهام هذا التراث، وتحقيقه على المستويين الفكري والفني. لذلك كتبت العديد من الأعمال القصصية بعد محاولة هضم هذه الألوان من الثقافة الإنسانية بشكل عام".
***
أصدر عبد الحميد جودة السحار العديد من المجموعات القصصية والروايات التي تُغطي جواني مختلفة في حياتنا الاجتماعية، وتسلط الضوء على سلبياتها من زوايا أخلاقية، لكن العناية بالتاريخ الإسلامي كانت ـ في الحقيقة ـ شاغل السحار منذ بدايات حياته الأدبية سعياُ لكتابة أهم أعماله وأخطرها، وهو السيرة النبوية المعنونة بـ "محمد رسول الله والذين معه"؛ وفيها يتناول سير الأنبياء من عهد آدم أبي البشر ـ عبوراً بإبراهيم r أبي الأنبياء ـ حتى وفاة الرسول في عشرين جزءاً كبيراً يبلغ مجموع صفحاتها حوالي عشرة آلاف صفحة.
يقول المؤلف: "إن الإنجاز الأهم للسحار ـ باعترافه ـ هو السيرة النبوية، أعطاها معظم عمره. قرأ وقارن ووازن وثبّت آراءه، ورفض آراء مناقضة، وقدّم عملاً موسوعيا، أثق أنه هو ما سيبقى من أدب السحار"(ص41).
وقد يثور سؤال: "لماذا أطلق السحار على السيرة "محمد رسول الله والذين معه" إذا كان قد كتب في الكتاب عن تاريخ الأنبياء جميعا؟
"يؤكّد الكاتب أن الإسلام ـ منذ بدء الخليقة ـ هو دين الله، دعا إليه الرسل والأنبياء … وهو ما يؤيده قوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام" وقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه".
وبالإضافة إلى "محمد رسول الله والذين معه" فقد كتب السحار: القصص الديني للأطفال في (86) جزءاً، منها قصص الأنبياء في (18) جزءاً بالاشتراك مع الكاتب الراحل سيد قطب، وقصص السيرة في (24) جزءاً، وقصص الخلفاء في (20) جزءاً، وسلسلة "العرب في أوربا" في (24) جزءاً" (ص82).
لكن يُمكن القول إن السحار كان منذ صباه هاوياُ للسيرة النبوية، قارئا لها، متمنياً أن يوفقه الله لكتابتها كتابةً فنية.
يقول في مذكراته "هذه حياتي":
" كان تاريخ محمد r وما يدور حوله يستهويني، ويأخذ بلبي، ويستولي على كل انتباهي … وشببت وأنا معجب بمحمد رسول الله r ، فلما عرفت كيف أقرأ، عكفت على قراءة كتب السيرة، وما كُتب عن الرسول الكريم r ، فازداد إعجابي بشخصيته الفذة الفريدة. وهويت الكتابة، فكانت أمنيتي منذ حملت القلم أن يُوفقني الله إلى كتابة السيرة النبوية في أسلوب قصصي".
وقد أقبل العالم الإسلامي على قراءة السحار مبدعاً إسلاميا، ويكشف المؤلف عن ذلك في فقرة جديرة بالإشادة، تُثبت أن ذاكرة الأمة حية، وأنها تحمل في القلب من ينتمون لها، ويدينون بدينها، ويكتبون ـ بحماس وإخلاص ـ سيرة نبيهم.
يقول محمد جبريل:
"حين سافر السحار إلى الشرق الأقصى، في بعثة تجارية، أدهشه أنه معروف جيداً في أندونيسيا. أشارت الصحف إلى وصول الكاتب الإسلامي عبد الحميد جودة السحار، وتردد عليه في الفندق مئات العلماء والقراء العاديين. بادلوا دهشته بدهشة مماثلة. كان قد أصدر أعماله الإسلامية الأولى، فتصوّروا أنه شيخ معمْم، وليس شاباً في أوائل الأربعينيات" (ص90).
........................................
*من كتاب "من وحي المساء" للدكتور حسين علي محمد، ط1، الإسكنرية 1999م.

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 02:36 PM
زوينة وأدب الغربة في الرواية العربية
--------------------------------------

بقلم: د. محمد عبد الحليم غنيم
.....................................

يتميز الروائي المصري محمد جبريل بغزارة الإنتاج خاصة في السنوات العشر الأخيرة , فله كل عام تقريبا رواية أو مجموعة قصصية , بل إنه لينشر أحيانا أكثر من عمل في لسنة الواحدة , والواقع أن التميز عند محمد جبريل ليس قاصرا على غزارة الإنتاج , فثمة تميز في مستوى هذا الإنتاج الإبداعي , وأحدثه روايته القصيرة التي نتناولها الآن " زوينة " الصادرة منذ شهور قليلة عن نادي القصة بالقاهرة العام الماضي .
تنتمي رواية " زوينة " إلى ما يمكن تسميته برواية الغربة , وهي تختلف عما أطلق عليه من قبل رواية الصدام الحضاري بين الشرق والغرب , كعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم والحي اللاتيني لسهيل إدريس وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح , والساخن والبارد لفتحي غانم , وغيرها , إننا هنا مع ( زوينة ) أمام نوع آخر من الغربة ,إنه غربة العربي فى وسطه العربي أو الشرقي بين أهله الذين يتكلمون لغته, فالبطل فى رواية"زوينة" ليس طالب علم يسعى على شهادة أو كسب معرفة أو تجربة حياتية جديدة , فيصطدم أثناء ذلك بالأخر حضاريا, ولكننا مع بطل تعلم وتكون في وطنه الأول , جاء إلى وطنه الثاني ـ إذا جاز التعبير ـ ساعيا وراء لقمة العيش أو بحثا عن الريال على حد قول أحد شخوص الرواية .
وتمثل " الغربة " التيمة المركزية المهيمنة على معظم شخوص الرواية , غير أنها تتجسد بشكل مباشر وموسع في المروية الرئيسية المهيمنة على الفضاء السردي , أي مروية الراوي / المشارك وزوينة , فالأول شخصية مجهولة الاسم , بيد أنه معروف الهوية , فهو صحفي وروائي معا , ولعل المؤلف قصد من عدم ذكر اسم البطل تنشيط أفق التوقع لدى القارئ , إحداث نوع من الالتباس بين شخصية الراوي وشخصية المؤلف الحقيقية محمد جبريل الذي عمل لفترة طويلة في عمان صحفيا في جريدة الوطن , وكان يمارس كتابة القصة والرواية في ذات الوقت .
أما الشخصية الثانية " زوينة " فهي فتاة عمانية قدمت من زنجبار , تعمل مضيفة أرضية في شركة طيران الخليج , وكانت أول شخصية التقاها الراوي عند نزوله لأول مرة أرض عمان .
غربة الراوي واغتراب زوينة :
كان الراوي قبل حضوره عمان يعيش حياة شبه مستقرة , حيث يعمل صحفيا في جريدة كبرى , ويسكن قلب العاصمة في ميدان الدقى , إنه لا يعيش في غربة أو يشعر باغتراب , لقد كانت مشكلته الحقيقية في ضيق ذات اليد , هذا الضيق الذي يجعله يبطئ في إتمام الزواج من خطيبته مها , إن غربة البطل واغترابه يبدآن في الواقع من لحظة مغادرته القاهرة والانتقال بعيدا عنها إلى مكان مغاير ومختلف اختلافا قاسيا إنه انتقال من الصخب والحياة والحركة واعتدال الجو إلى الصمت والسكون والرطوبة والحر الشديد , صحيح أن إحساس الراوي بهذا الجو المغاير يتبدل تدريجيا مع تنامي علاقته بزوينة والشروع في بناء قصة حب أجهضها المؤلف , لكن يظل الإحساس بالغربة مسيطرا على الراوي .
ويبدو لي أن المؤلف كان واعيا وهو يجعل زوينة تتجلى فيها تيمة الغربة , لذلك جاءت هذه الشخصية أعمق و أكثر صدقا من شخصية الراوي ,وهكذا كان من التوفيق والذكاء أن يأخذ عنوان الرواية اسم هذه الشخصية"زوينة" , إنها الفتاة الزنجبارية التي تفقد وطنها " زنجبار " فتطرد منه لتعيش في مسقط وطنها الأول أو الثاني شكلا , ولكنه في الواقع ليس وطنها أبدا , إنها في الظاهر مواطنة عمانية , تحمل جواز سفر عماني , لكنها من داخلها لا تنتمي إلى ثقافة هذا الوطن وتقاليده , من هنا تجتمع الغربة والاغتراب معا داخل شخصية زوينة , ويصير الأمر أكثر تعقيدا عندما تنجذب أو تحب الراوي ( وإن كان المؤلف لم يطور هذا الحب ) وهو مصري أو وافد , في الوقت الذي يفرض عليها الأهل علاقة شرعية , مثل قيد الحديد , تتمثل في مشروع خطبتها من ابن عمها زاهر , الذي يعد أكثر اغترابا منها ومن الراوي , حيث يدخل عمان بتأشيرة دخول , لأنه وإن كان عمانيا زنجباريا ليس له حق الجنسية , وعليه لكي يحصل على الجنسية أن يستقر في عما ويعمل ويتزوج من ط زوينة " , وهو ما لم يحدث , بقطع النظر عن الأسباب , لذلك يستمر حبل الوصال ممدودا بين زوينة والراوي إلى انتهاء سنوات الإعارة , فيجبر على العودة إلى مصر , ومن ثم يترك زوينة , وهنا يزداد اغتراب زوينة , فقد تركها كل من زاهر والراوي .
وإذا كان الراوي وقد عاد إلى مصر يستطيع أن يداوي جراحه بالعودة إلى خطيبته مها , فإن زوينة لا تستطيع مداواة جراحها , بعد أن أجبر زاهر أيضا على عدم البقاء في مسقط والعودة إلى زنجبار , وإلا فقد عمله هناك , وهذه الرغبة في الحرص على العمل تؤكد أن المشكلة الحقيقية للشخصيات هي الفقر , فالفقر سبب رئيسي في الغربة , كما قيل الفقر في الوطن غربة .
وقد تجلت براعة المؤلف محمد جبريل الروائية في توزيع هذه التيمة , أقصد تيمة الغربة المسربلة بالفقر على معظم الشخصيات رئيسية كانت أم ثانوية , سواء كانت نازحة ( وافدة ) إلى عمان أم مقيمة فيها , فمن الشخصيات النازحة عبد العال الذي يتحدث عن الموت , وتتكشف لنا مأساته الحقيقية , حيث في الوقت الذي يشعر فيه بالغربة والوحدة ويحرص على العمل جمع المال يترك امرأة خائنة هناك في القاهرة هي زوجته , وشخصية الصحفي الذي يوزع راتبه بين شرب الخمر حتى التسمم , والحرص على إرسال المال إلى أهله في مصر , ومن الشخصيات المقيمة التي تستحق الوقوف , لأن اغترابها ليس سببه المباشر البعد المكاني أو الفقر , إن اغترابها اغتراب روحي ثقافي في المقام الأول , أقصد شخصية " ناصر التميمي " الصحفي العماني الذي يأتي به صاحب الجريدة إلى الراوي كي يدربه على العمل في الصحيفة , إن ناصر موزع الجهد والوقت والنفس بين قريته البعيدة وبين المدينة التي يعمل
بها , بين تقاليد القبيلة وانطلاق المدينة , فوالده يصر على بقاء ابنه ناصر بجواره في ( قريات ) ولذلك لا نعجب عندما يموت ناصر بسبب حادث سير , أثناء عودته إلى قريته , وإن كان هذا الحادث يمثل في الظاهر السبب المباشر في موت ناصر إلا أنه في الوقت ذاته يعد المعادل الموضوعي لاغتراب ناصر وغربته .
البناء الدائري في زوينة :
يعتمد محمد جبريل في هذه الرواية بناء دائريا في عرض الأحداث , إذ تبدأ الرواية من نقطة ليست هي البداية الحقيقة في المتن الحكائي , فنلتقي مع السطر الأول بالراوي وهو في الطائرة وهي تكاد تحط على أرض مطار السيب : " تنبهت إلى اقتراب الطائرة من مسقط , حيث أضيئت اللوحة في أعلى " ممنوع التدخين .. اربط الحزام " بدت ـ من نافذة الطائرة ـ أضواء الشوارع والدوارات وشعلات البترول , أعددت نفسي للجو الخانق , والرطوبة العالية والصهد اللافح , قال الشيخ حمود النبهاني : أنت تستطيع دخول البلد بأية كمية من النقود أو الذهب أو البضائع , لكنك لا تستطيع أن تدخل بالخمر ولا المخدرات ولا الأفكار المتقدمة . إذا علم الضابط على حقيبتك بالطباشير , فإن من حقك مغادرة المطار إلى داخل المدينة ..
علا السلم الآلي ثم انفتح الباب .." ( الرواية , ص 10 . )
إن هذه الفقرة الاستهلالية ليست هي البداية الحقيقية لمتن الأحداث , إن مضمون هذه الفقرة يشير إلى خبرة المتكلم بجو عمان , لقد أعد نفسه للجو الخانق والرطوبة العالية , والصهد اللافح , كما أنه تحدث مع صاحب الجريدة عن المحاذر , إنها ليست المرة الأولى لسفر الراوي , إنها على الأقل السفرية الثانية أو بعد العودة من أول إجازة , إن جمل مثل : التدخين ممنوع ـ اربط الحزام ـ لا تستطيع , تشير بمفرداتها " ممنوع , اربط , الحزام , حرف النهي لا " إلى روافد الغربة والاغتراب اللذين تعيشها الشخصيات الرئيسية والثانوية في الرواية . كما أن جملتي " علا السلم الآلي , ثم انفتح الباب " تشيران بشكل قوي إلى استلاب الراوي , فالسلم يعلو وحده ليجبره على النزول , كما أن الباب يفتح آليا أو يفتح ليبدأ الحكي أو الرواية , ثم تقفل الرواية أو تنتهي الأحداث بالفقرة الأخيرة .
والراوي معلق أيضا في الهواء , وقد قفل الباب هذه المرة , قفلا نهائيا ليترك جرحا لن يندمل في عمان هو قلب زوينة الموزع بين زنجبار ومسقط والقاهرة , لنقرأ فقرة النهاية :
" أقلعت الطائرة
فككت الحزام من حول وسطي , وتهيأت لأخذ نسخة من الصحف المصفوفة بالقرب من الباب الأمامي .. بدت مسقط في صعود الطائرة مناطق متناثرة بين الجبال والصحراء البحر والزراعات القليلة . ميناء قابوس , وكورنيش مطرح , وألق الأمواج , والجبال المتلاصقة , والقلاع , والطوابي ، ومساحات الخضرة المحدودة تضاءلت ـ بارتفاع الطائرة ـ وشحبت , ثم لم يعد إلا الفراغ المحيط وصوت المحركات والطائرة تخترق أفقا من السحاب الأبيض المتكاثف .." ( الرواية , ص 154 . )
إن جمل مثل : أقلعت الطائرة , فككت الحزام , تهيأت لأخذ نسخة من الصحف المصفوفة , تشير بوضوح إلى انطلاق الدائرة وعودة الراوي إلى وضعه الأساسي قبل الذهاب إلى مسقط , فالإقلاع يشير إلى الانطلاق , وفككت يوحي بالحرية , وتهيأت يوحي بالاستعداد والبدء من جديد , لقد ترك الراوي غربته واغترابه خلف ظهره في مسقط , ترك الغربة والاغتراب لتتجرع سمهما زوينة التي استحق أن يوضع اسمها بامتياز فوق غلاف الرواية .

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:02 PM
من المحرر:
«الرواية مرآة المجتمع»

بقلم: محمد جبريل
...........................

العمل الفني -في تقدير كورييه- وثيقة اجتماعية. والرواية- كما يصفها بيرسي لوبوك "صورة للحياة" وهي في تقدير ارنست بيكر "تفسير للحياة الإنسانية من خلال سرد قصصي نثري" وهي -كما يقول ستاندال- "مرآة تسير في الشوارع".
وهي -في بعض التعريفات- انعكاس مدرك وواع للواقع الموضوعي والروائي -في وصف الأرجنتيني ارنستو ساياتو" رجل سياسة فهو يعكس الوجدان العام وهذه هي السياسة" ويقول جراهام هو: "إن أي نقد للرواية يهمل روابطها بالواقع التاريخي هو نقد يزيف القيم الحقيقية للرواية. هو نقد يفرغ ما يجب أن يكون ملآن" بل إن ميشيل بوتور- وهو من رواد الرواية الجديدة- يري أن "الرواية هي أداة بحث". وهو رأي -كما تري- إلى جانب اجتماعية الرواية. وليس ضدها ومع أن ماريو فارجاس يوسا معجب بالإبداعات المحلقة في الفانتازيا لبورخيس فإنه لم يجد في عالم بورخيس انفصالا عن الحياة أو عن السلوكيات اليومية ويؤكد يوسا أنه ما من عمل قصصي أدار ظهره إلي الحياة. أو كان عاجزا عن إلقاء الضوء علي الحياة قد حقق البقاء مطلقا بل إن التجديد في التقنية والأسلوب لا يعني إهمال البعد الاجتماعي في الفن حتي الواقعية السحرية التي تزخر بالغرائبية. ليس فيها سطر واحد ـ علي حد تعبير جارثيا ماركيث ـ غير قائم علي أساس من الواقع إن إبداعات ماركيث ويوسا واراجيدس وفوينتيس وبورخيس وغيرهم تعري الواقع السياسي والاجتماعي الذي تحياه بلادهم بالإضافة إلي الأزمات التي يعانيها العالم جميعا أما القول بأن البعد الاجتماعي للأدب قد أصبح في ضوء النظريات النقدية الحديثة -علي هامش الفكر النقدي. وأن الرواية الاجتماعية الواقعية ـ تحديدا ـ فقدت ملامحها بسبب تيار الحداثة. ففقد الأدب قراءه بالتالي. فهو يحتاج إلي مراجعة وإذا كانت الرواية ـ في تقدير الكثير من المبدعين والنقاد المحدثين ـ بناء اختلاقيا. إبداعا. وليس مجرد مرآة تعكس صورة الواقع فإن ذلك لا يلغي أن الفترات- منذ ظهور الرواية كنوع أدبي. والقصة القصيرة كنوع آخر تال للرواية ـ ينطبق عليها- إلي حد بعيد- مقولة "الرواية مرآة المجتمع". نحن نجد تطبيقا لذلك في أعمال الواقعيين الطبيعيين. وكتاب الواقعية باختلاف مراحلها. والأمثلة لا تعوزنا وبتعبير محدد فإن القول بأن البناء الروائي ليس مجرد مرآة تعكس صورة الواقع لا ينسحب علي تاريخ الرواية في إطلاقه لا ينسحب علي تاريخ الرواية جميعا بل إنه علي الرغم من أن التيارات الأدبية والنقدية الحديثة تري أن غرض الرواية ليس وصف المجتمع فإن الأدب- كما تذهب تلك التيارات- "أصبح في بعض الحالات. التعبير الحقيقي الوحيد فعلا. إن لم يكن المباشر عن مشكلات المجتمع الملحة".
.....................................
*المساء ـ في 16/8/2008م.