المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عرض موجز لموت زرقاء اليمامة



د. حسين علي محمد
12/06/2006, 07:24 AM
عرض موجز لموت زرقاء اليمامة


قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
....................................

هل مازلت تذكر زميلتك حياة؟
اليوم يمر ثمانيةٌ وعشرون عاماً على رحيلها..

كان أبوها يلقننا مادة التاريخ في تجرد وإخلاص، وبصوته المبحوح يطلب منا ونحن وقوف في طابور الصباح في المدرسة الثانوية المشتركة أن نكون رجالاً، ولا ننظر إلى العناكب التي سدَّت عليْنا الأفق بعد هزيمة يونيو 67، وأن الانتصار قادمٌ .. قادمٌ!

يقول لنا ذلك في خطبته الأسبوعية التي يُلقيها صباح كل أحد، وقد اختار يوم الأحد لأنه يوم السوق الذي يُقام في مدينتنا الصغيرة، ويفد الفلاحون من قرى المركز للبيع والشراء لما يحتاجونه لمدة أسبوع .. اختار هذا اليوم ليُلقي خطبته في طابور الصباح من الإذاعة المدرسية لعل أحداً يسمعها خارج أسوار المدرسة فيفيد منها؛ فتكون الفائدة مزدوجة من الخطبة: داخل المدرسة، وخارجها!

كان يقول: إن المدرسة مركزُ إشعاع في البيئة.

وكان يدرِّس التاريخ وكأنه يدرس تلاميذه قصة عشقه!

...

رأى اليهود وهم يستحمون في القناة، فلم يأبه!، وقال: سنراهم قريباً يندحرون!

ورأى الأريكة المريحة وهي تتهاوى تحت مقعدة السلطان الكهل، فلم يحفل، وقال: مصر ولادة!

ورأى من يسرقون في بداية عهد الانفتاح السعيد «وكان حياة قد رحلت، وبدأ يفقد نور عينه اليمنى»، فقال: عابرون .. لكن عليْنا أن نتصدّى لهم .. ونقف في وجه شرههم.

...

ماذا فعلت بك الحياة يا أبا «حياة»؟.

حينما ماتت ابنته «حياة» .. في 15 مايو 1971م، يوم «ثورة التصحيح» المباركة التي قادها السادات، ونحن في نهاية السنة الثالثة من دراستنا الجامعية (وقد كانت زميلتي في المدرسة الثانوية المشتركة التي كان أبوها يُلقننا التاريخ!، كما كانت زميلتي في قسم التاريخ بجامعة القاهرة) ... هتف الأستاذ ونحن على رأس المقبرة نواريها التراب:

ـ أين ذهبتِ وتركتنا يا حياة؟

.. ورأى الآفاق مترامية كجراحه التي لا تبرأ!

قتلتها سيارة طائشة في ميدان رمسيس وهي في طريق العودة إلى القرية، بعد أن انتهت امتحاناتنا، وكانت أمها قد ماتت قبلها بعامين ونصف أثر دخولها الجامعة.

كنتُ بجوارها ساعة الوفاة!

حاولنا إنقاذها، ولكنها ماتت قبل أن تصل إلى مستشفى «الجلاء» المُجاور لميدان رمسيس.

لم يعد أستاذنا يتكلم، بعد موت «حياة»، وقد كان متحدثاً جميلاً ومشرقاً.

كان يردد دائما، أمامي:

ـ لا أدري لمَ لمْ تعطِ الحياةُ فرصتها لحياة؟! .. هل لأن القبح والدمامة صارت لهما الغلبة في الحياة؟ .. أم أن في اختفائها إشارة لاختفاء العقل والمنطق من حياتنا؟!

التحقنا أنا وهي بقسم التاريخ، لنكمل مسيرة والدها الذي انشغل بالتدريس ولم يؤلف إلا كتاباً واحداً عن «تاريخ العسكرية المصرية» من عهد مينا موحد القطرين إلى قيام ثورة 1952م.

...

كنتِ ـ يا حياةُ ـ قادرةً على الرؤية البصيرة .. مثل زرقاء اليمامة، لكنك لم تتنبهي في تلك الأيام لمقاطع الهزيمة التي يمتلئ بها كتاب راهننا!

هل كنتِ تخافين أن ترديك الكلماتُ الجاهلةُ الفاجرةُ في بركةٍ من الأسى الدائم ... فطال صمتُك وأنت المتحدثة .. واكتفيْتِ بصحف الحائط التي كنتِ تصدرينها في الجامعة؟ ..

لماذا توقفتِ بعد عدة أعداد .. وآثرتِ الصمت الدائم؟!

وكنتِ لا تتحدثين إلا في الجلسات الصغيرة التي تضمنا مع والدك، أو في قاعة الدرس.

كنتِ تبصرين النصر قادماً، وتبصرين بعده أثرياء الحرب (الذين أسميناهم بعد الانفتاح السعيد ـ بعد رحيلك ـ «القطط السمان»)، وكنت تُشيرين إلى اختفاء الطبقة الوسطى، بعد مجيء أثرياء الحرب الذين لا يملكون قيماً، أو إرادةً لنهضة البلد!

كنتِ الأولى عليْنا في السنوات الثلاث، التي عشتِ فيها معنا في دراستنا الجامعية .. بعد النكسة القاتلة.

وكنت تُحاولين أن تظهري أمام زملائك وزميلاتك مرحةً في ذلك الزمان (رغم الحزن البادي في ملامح وجهك) .. وكنتِ بين حين وآخر تلعبين كرة السلة مع فريق بنات الكلية، وتُدمنين قراءة المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله.

..

زرتُ أباكِ أمس .. عشية الذكري الثامنة والعشرين لصعود روحك الحرة إلى بارئها .. فلاحظتُ بعضَ التجاعيد حول عينيكِ في الصورة المعلقة على الحائط.

ربما من آثار التراب، فلا يد تمرُّ على الصورة لتجليها.

ورأيت عيني أستاذنا حجرين لا يُشعان، وفمه صامتاً لا ينطق!

وعلى الحائط صورتكِ أنت فقط، مع بعض صور زعماء مصر السابقين: أحمد عرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، وجمال عبد الناصر!

تكلمي يا حياة!

لماذا صمتُك مطبق، ونظراتُك ساهمة لا تغادر أفق الحجرة!

ولماذا يمنعني صمتي وحزني ـ بعد مرور ثماتيةٍ وعشرين عاماً ـ عن أفق التحديق والبوحِ، لتتكلمي ..

هلْ تسمعينَ كلمات زميلك القديم؟ .. الذي كان يعتز بك، لكنه لم يُعبر عن هذا الإعزاز خوفاً من صرامة أبيك!

وظل يؤجل إعلان الحب إلى ما بعد التخرج .. توطئة للخطبة والزواج .. فلم يقل لك أبداً الكلمة التي كنتِ تشعرين بها، وتعرفينها معرفتك به: أحبك!.

.. اتركي عبراتك إذنْ، واتركي كتب عبد الحليم عبد الله .. وافتحي أبوابك للريح، واسمعي النبض القديم في صدرِ زميلك، وهو يُدمدمُ، وغادري الإطار الخشبي المترب!

هاأنذا في التاسعة والأربعين .. لم أتزوج بعد!

وأظنُّ أن شوقَ أبيك يتوق إلى كلمة واحدة منك، تُضيء أيامه القادمة! ..

تكلمي، فكلام المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله لن يجيب على أسئلة الواقع الذي يُحاصرنا من كل جانب!

وزميلك (هل قلتُ حبيبك؟) الذي لم يكن يعبأ بالمنفلوطي وعبراته .. ومحمد عبد الحليم عبد الله وقصصه القصيرة ورواياته، أصبح مكترثاً بهما، مطيلاً النظر في آثارهما .. ويحفظ بعض الفقر والمقاطع من كلامهما! .. ألم تعجبي بهما أنت .. فكيف لا يحملهما في العينين؟

تكلمي، بمثل كلامَكِ القديم الذي يرن صداه في أذنيَّ، والذي لم يصدأ بعد!

...

تكلمي .. فزرقاء اليمامة صارت ـ بموتك ـ صامتة!!.. ولم تعد ترى الأشجار وهي تسير في طرقنا التي صارت معتمة!




الرياض 15/5/1997م

د. حسين علي محمد
22/12/2007, 10:37 PM
*تعليق على القصة*
عرض موجز لموت زرقاء اليمامة
بقلم: الأخضر العربي

القصص الهادف:
هذه كتابة أدبية رائعة من حيث الصياغة اللغوية والأسلوب, يتعرض فيها د. حسين علي محمد للقضية الوطنية العربية: دور التعليم، والهزيمة، وفجور طبقة (الهباشين)، واختفاء الطبقة الوسطى، وضياع القيم: «كنت تشيرين إلى اختفاء الطبقة الوسطى بعد مجيء أثرياء الحرب الذين لا يملكون قيما, أو إرادة لنهضة البلد».
وكم كان بليغا حين يقول مخاطبا حياة: «هل كنت تخافين أن ترديك الكلمات الجاهلة الفاجرة في بركة من الأسى الدائم...» لأنه يقصد بالكلمات أجهزة الإعلام التي أخذت تبرر لنا الانبطاح بوقاحة وفجور.
وأنا أقول: هكذا تكون القصة الجيدة.
...........................
دنيا الوطن ـ في 18/3/2006م

احمد خميس
25/02/2008, 08:25 PM
http://www.swahl.com/up/m120/swahlcom_22287.gif

د. حسين علي محمد
28/02/2008, 06:05 AM
شكراً للأستاذ أحمد خميس،
مع تحياتي.

احمد خميس
28/02/2008, 03:03 PM
دمت بكل خير
احمد خميس
مصر
مطروح

د. حسين علي محمد
29/02/2008, 03:03 PM
شكراً ـ مرةً أخرى ـ للأستاذ أحمد خميس،
مع تحياتي.